عبد الكريم قاسم (اسوة بمصدق)
بين المطرقة والسندان السوفيتي
بقلم : مرتضى الشيخ حسين
برلين ـ المانيا
لا يصح قياس الشجرة إلا بعد سقوطها على الأرض .
وقتل عبد الكريم قاسم شهيد إنسانيته ووطنيته . وأُطيح بحكم مصدّق في ايران ، وهو كذلك ضحية انسانيته ووطنيته . لقد تكالبت على كل منهما صراعات عنيفة شرسة من الداخل والخارج .
لقد أَسقط عبد الكريم قاسم حلف بغداد ، ذلك الحلف الذي أقامه الغرب ضد الاشتراكية ، أي ضد الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي وضد حركة التحرر الوطنية . واسقاط الحلف هذا يعارض مصالح الغرب تحت زعامة الولايات المتحدّة الامريكية وبريطانيا . وعبد الكريم قاسم رمز مهم او دعامة قوية لتحرر العراق واستقلاله اقتصادياً وسياسياً ، ولا سيما في تحرّره من قيود واحتكارات شركات النفط ، أي المصدر المهم لللأقتصاد العالمي ، ولاسيما الاقتصاد الامريكي الذي يستهلك اكبر الكميات الهائلة من النفط في إرساء وتطوير الصناعة الامريكية . هذا وتحرّر العراق يشكل دعامة خطرة ضد الكيان الاسرائيلي الذي اغتصب الاراضي العربية الفلسطينية وتلقّى كل الدعم من بريطانيا وامريكا لتثبيت وارساء دعائم هذا الكيان .
هذه الاسباب الرئيسية عوامل مهمة يحسب لها الغرب ولاسيما امريكا وبريطانيا كل حساب لإسقاط حكومة عبد الكريم قاسم الوطنية التحررية المعادية للاحلاف .
لهذا زجت المخابرات الامريكية بأعنف قواها ضد عبد الكريم قاسم ، ومن والاه وسانده ، واستخدمت بذلك المال والسلاح والإعلام وشراء الذمم والعملاء من كل جانب للاطاحة بنظام العراق الجديد وإرجاعه الى اقصى حدود التخلف والضعف .
بأسم الوحدةالعربية والقومية العربية ارتكب الزعيم الوطني المصري جمال عبد الناصر أفضع الأخطاء ضد الوحدة العربية وضد عبد الكريم قاسم . لقد كان عبد الناصر الطموح يعتمد على الارتجال العاطفي في سياسته . وقد أدى به هذا الارتجال الى اخطاء وسلبيّات ضد التحرر القومي والوحدوي سواء ما كان من هذه الاخطاء ما غامر به في جيشه باليمن أو ما ارتكبه بالوحدة الفورية الاندماجية مع سوريا او ما دبّره من مؤامرات بشعة ضد حكم عبد الكريم قاسم الوطني المعادية للامبريالية . كان عبد الكريم قاسم يريد وحدة عربية فدرالية تدريجية لا وحدة فورية ابتلاعية واندماجية كما يريدها جمال عبد الناصر وجميع المفكرين المحنكين يدركون التناقضات الواسعة من جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية والمالية وحتى ما هو قائم على التطور التاريخي في بعض التقاليد والسلوك والعادات وغيرها . ومن المفروض الغاء هذه التناقضات بالتدريج إذ لا يمكن الغاؤها بضربة واحدة . وعلى أقل الامكانات كان يجب أولاً الغاء جوازات السفر المتعددة وتوحيدها ، وإلغاء الحواجز والحدود الجمركية وقيود التجارة ، وتناسق الاهداف الدبلوماسية والسياسة بين الدول العربية أو بين دولتين عازمتين على الوحدة والبدء بتوحيد العملة النقدية مثلما تعمل الآن أهداف الوحدة الاوربية . هذه الاسس الرئيسية أهم الدعائم التي كان من المفروض ارساؤها قبل التفكير بوحدة عاجلة . فماذا كان يضر عبد الناصر والعناصر ذات الرؤوس الساخنة العاطفية المنادية بالوحدة الاندماجية الفورية ، ماذا كان يضرهم لو صبروا عدة سنوات لحل المشاكل والغاء الحواجز تدريجياً . وهل تاريخ الشعوب والبلدان يعتمد أو يتوقف على عدة سنوات أمام مئات من السنين من المعاناة والتخلف والرواسب السلبيّة التاريخية المتراكمة التي لا يمكن الغاؤها بقفزة واحدة ؟. وهل بالإمكان الصعود الى السطح الا بمراحل من تخطي الدرجات . اما كان لعبد الناصر أن يدرك هذه البديهية ؟ . أم أن عاطفته الجيّاشة وحماسه غير القائم على مستوى سياسي واستراتيجي علمي متكامل وجرّه بسطاء الناس من المتحمسين المصفقين لكل زعيم عاطفي والذين يُخدعون غالباً بالاقوال والشعارات غير المدروسة التي يلقيها ذوو المطامح السياسية من هواة السلطة ومحبّي المغامرات السياسية التي تطيح بالمجتمع جهلاً أو قصداً في الهاوية . سنوات عدة تكالبت بها اذاعة صوت العرب التي يديرها الجاسوس المصري الامريكي أحمد سعيد ( كما ثبت أخيرا وزجّه عبد الناصر في السجن ) موجهة ضد حكومة عبد الكريم قاسم الوطنية المؤيَّدة من قبل عموم الشعب العراقي . كما امد عبد الناصر جميع خصوم الحكومة العراقية الوطنية بالمال والسلاح فاقام هؤلاء الخصوم مجازر دموية راح ضحيتها مئات الناس من الشعب العراقي .
لقد زجّ عبد الناصر بكل قواه ضد الحكم الوطني القاسمي بدلاً من ان يتفرغ لحل مشاكل شعبه المصري الداخلية فاضاع جهوداً كبرى في هذا الافراط غير الواعي في السياسة . ويعني كل ذلك باختصار ان مواقف وسياسة جمال عبد الناصر بهذا الصدد خدمت مصالح المخابرات والمصالح الامريكية دون ان يعلم وان كان ذلك عن وعي منه لا سامح الله فتلك هي ام المآسي . وعلى كل حال لقد حلت المآسي بالعرب جراء هذه المواقف الناصرية المتعسفة وخاصة ضدّ العراق ، هذه المآسي التي استمرت واتسعت الى اقصى الحدود حتى اصبحت كلمة الوحدة العربية ويا للأسف أشبه بالجريمة من فرط ما أُسئ اليها وقيل فيها من اكاذيب وما حُملت فيها من شعارات خادعة وأوهاوم وما جعل منها ما يشبه المخدّرات والهلوسة شبيهةً بالأفيون ، والسبب في ذلك جهل الدعاة للوحدة والتعصب غير العلمي للقومية والتعالي والتطرف في القفز على الواقع ، فكانت النتيجة كما يدركها كل ذي بصر وبصيرة انهيارنا الحالي الكئيب . ان العنصر الرئيسي في الإطاحة بعبد الكريم قاسم وأعوانه مؤامرات المخابرات الامريكية وشرائها لمختلف العناصر ما بين مخدوعة عاطفياً أو جاهلة او متحمسة برعونة ، مثل رعونة عبد السلام عارف والشواف واحلام وأوهام عبد الناصر اللاعلمية وغير المحنكة .
جاء في بعض مؤلفات الكاتب الكبير والصحافي الشهير محمد حسنين هيكل مثل كتابه ( حرب الخليج ) وكما نشرته جريدة الأهرام في 27 أيلول 1963 : أن الملك حسين عاهل الأُردن حدثه في فندق في باريس قائلاً : " أن ما جرى في العراق في 8 شباط قد حظي بدعم الاستخبارات الامريكية ولا يعرف بعض الذين يحكمون في بغداد اليوم هذا الامر . لقد عُقدت اجتماعات عديدة بين حزب البعث والاستخبارات الامريكية . عُقد أهمها في الكويت . أتعرف ان محطة سرية تبثّ الى العراق كانت تزود رجال الانقلاب باسماء وعناوين الشيوعيين هناك للتمكن من اعتقالهم واعدامهم ؟
كما يقول محمد حسنين هيكل في كتابه حرب الخليج ص 230 ان هذه الاذاعة السرية كانت تعمل في الكويت . ويقول كذلك : " كانت الولايات المتحدة الامريكية متصلة بكل قوى المعارضة لعبد الكريم قاسم نفسه . وقد وصل الى لحظة توجس فيها من الشيوعيين وساورته الظنون بأنهم ربما سبقوا غيرهم من القوى في الانقلاب عليه . والذي حدث فعلاً انَّ غيرالشيوعيين سبقوا . أما الشيوعيين فقد تخلفّوا ".
ونقول نحن بهذا الصدد استناداً على ما ورد في بعض الادبيات التي أرّخت تلك الفترة المعقدة ان الشيوعيين في العراق كان يتلقّون الوحي والاوامر من السلطة السوفيتية ولم يتسلحوا بسياسة مستقلة . ففي اعترافات احد اعضاء اللجنة المركزية أمام أجهزة الأمن في محاكمته وهو عدنان جلميران أن عضو اللجنة المركزية جورج تلوّ سافر الى العلاج في موسكو وعاد الى العراق سريعاً دون أن يتم علاجه مشفوعاً برسالة من السوفييت يوصون بها الشيوعيين ان لا يرفعوا شعار مشاركة الجزب الشيوعي بالحكم ( كتاب ثورة 14 تموز لمؤلفه ليث عبد الحسين الزبيدي طبعة 1989 ص 45 ) فالعامل االرئيسي كما بينا في الاطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم مؤامرات المخابرات الامريكية ومناصرتها لخصومه بكل الوسائل المالية والدعاية والاتصالات السرّية وشراء العملاء وبمختلف الحجج والشعارات والتضليل . ومن المعروف الشهير ما صرّح به أحد اقطاب هذا التآمر وهو الامين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي بأن " البعث " جاء في قطار امريكي . والوقائع والاسانيد الموثوق بها تؤكد هذه المقولة بمختلف الاساليب التي اتبعتها الادارة الامريكية ومخابراتها في تدمير الحكم الوطني القاسمي ، أي تدمير العراق والشعب العراقي ، الركيزة المهمة لتحرر كافة الوطن العربي ، فقد ساعد على انهيار هذا الحكم طبعاً صراعات الداخل من حركة الشواف الىمؤامرات البعث ومواقفه وسياسته الدموية والاوهام تحت شعار القومية والوحدة العربية ، هذا الشعارالذي اعتمد على العواطف اللاواعية في أغلب الاحيان وعلى الانحراف عن الواقع العملي والعلمي الذي أدى في نهاية المطاف الى تمزّق آمال الوحدة والابتعاد عن الشعور القومي واحياناً الوطني جراء الظلم والقسوة ضد الجماهير التي اصبحت او تكاد تصبح كارهة لكل ثورة او حركة وطنية أو حتى لذكر اسم الوطن جراء ما قاساه به الفرد العراقي خاصة من قتل وتشريد وتجويع وتعذيب الخ .. وهذا ما تريده اسرائيل .
لقد زرتُ العراق في بداية 1961 وكنت آنذاك في المانيا الديمقراطية محرراً لمجلة " الصادرات الالمانية " وزرت كثيراً مما اريد زيارته لأطلع على ما يجري في العراق من غليان . زرت مثلاً منطقة الاشغال والمواصلات الجنوبية في البصرة فحدثني مديرها المهندس قائلاً انك قادم من بلد اشتراكي فهل فيه مثل هذه الفوضى في العراق ؟ ان عمال الطرق لا يريدون تصليح طرق مرور السيارات بين البصرة والعمارة وغيرها ، منادين بأنهم الطبقة العاملة والحكم بيدهم ، رغم أنهم ما يزالون بعيدين عن الحكم . وها ان الحفر في أغلب الشوارع تعرّض السيارات الى الخطر فماذا أعمل . إن دائرتي اصبحت مشلولة ، هذا ما كان مدير الدائرة يشكو منه جراء الفوضى والتصورات الوهمية بين العمال .
وقال لي الدكتور ابراهيم الشماع : " يأتي اليّ عمال فافحصهم ويطلبون مني وفق هواهم لا وفق نتائج الفحص ان اعطيهم بنسلين فاعطيهم فيقذفون البنسلين في وجهي صارخين ما هذا ؟ نريد بنسلين سوفيتي ، هذا البنسلين امبريالي من صنع لندن " .
وزرت اصدقائي فيصل السامر وصلاح خالص وابراهيم كبّة وكان وزيراً للاقتصاد ، والاديب مصطفى علي وكان وزيراً للعدل وصديقاً حميماً لعبد الكريم قاسم . وكلهم كان بين متذمر وآمل في خضّم ذلك الجيشان حيث اصبح الشارع وطرق السيارات ، مثلاً بين الحلة وبغداد ، تحت سيطرة شباب متحمسين للشيوعية يتعرضون للسيارات في كل مكان فيوقفونها ويحاسبون ركابها من شخصيات اجتماعية أو ادارية أو عسكرية ليتعرفوا عليها فيما اذا كان احدهم معادياً للثورة أو معها . و كثيراً ما يتلقى بعض هذه الشخصيات الإهانات من هؤلاء ااشباب . ومثل هذه الاجراءات مما يسبب تذمّر الناس من الوضع ونقمتهم عليه واتساع جبهة العداء لحكومة عبد الكريم قاسم . وقد خرج كل ذلك عن قدرة قيادة الحزب الشيوعي عن الامساك بزمام الامور وفرض النظام والطاعة كما ان الحزب الشيوعي ساهم في تأجيج فوضى واضطرابات ومذابح كركوك والموصل ومحاكمات لا قانونية بل كيفية للعناصر التي ساندت حركة الشواف واعدامها وكأن السلطة اصبحت بيد تلك العناصر الشيوعية . وكثيراً ما خطب عبد الكريم قاسم مهدداً الذين يخالفون القانون والنظام ويصدرون تعاليم وقوانين كيفيّة . أو يقومون بحركات لا نظامية بمحض ارادتهم وكأن لا وجود لحكومة بينهم . ولكن " لقد أسمعت لوناديت حياً ـ ولكن لاحياة لمن تنادي" ان من كان يسمع هذا التهديد والنداء اصبح أسير عواطفه العمياء وحماسه الجنوني دون التفكير بالعواقب .
قال الاستاذ مصطفى علي وزير العدل آنذاك حول وضع عبد الكريم قاسم " ان عبد الكريم قاسم مخلص وطني ولكنه جلب معه عامل فناء وتدمير ثورته وهو عبد السلام عارف " .
وحقاً كان هذا الضابط الأرعن اللاعارف من اقذر العناصر الجاهلة المدفوعة بالتهوّر والحماس السخيف للاوهام الوحدوية الفوريّة والتطرف الطائفي والعنصري . ومع الأسف ان مثل هذا الضابط الأرعن أعتمد عليه جمال عبد الناصر ضد حكومة قاسم . ذكر كتاب ثورة 14 تموز لمؤلفه ليث الزبيدي في مقابلة مع هديب الحاج حمود : ان عبد السلام عارف ذكر لأحد الضباط الاحرار الموجودين معه ليلة 14 تموز 958 بانهم سينفذّون الثورة وهناك ثلاث جماعات يجب استئصالها وهم الاكراد والمسيحيون والشيعة .
وحدثني الصحافي عبد العزيز بركات أنه سأل عبد السلام عارف عندما تولّى زمام السلطة بعد الاطاحة بعبد الكريم قاسم مستفسراً منه الى متى ستستمر هذه المعارك بين الحكومة العراقية والاكراد؟ فاجابه عبد السلام عارف : : وماذا يهمنا من هذه الحرب ان كاكا وعبد الزهرة يتقاتلان " ويقصد بذلك ان الجندي الشيعي والمواطن الكردي هما وقود هذه المعارك . لقد كان عبد السلام عارف موضع سخرية وأضحوكة على ألسنة ابسط الناس جراء سخافة تصريحاته المشهورة . ومع ذلك فقد عامله عبد الكريم قاسم برحمة وعفو وغفران رغم انه اراد قتل عبد الكريم قاسم في مركز القيادة . وكان هذا العفو خطأ ولا شك في احكام الثورات ، لقد تسلح عبد الكريم قاسم وياللأسف بمبدأ " العفو عما سلف " ، تسلّح بالرحمة فقتلته تلك الرحمة ، اذْ استغلها اعداؤه ضده . وتاريخ تكوين الدول والزعامات لا يعرف للرحمة معنى فهذا حكم الامويين وحكم العباسيين وغيرهما ، وقد سيطرا وارسيا دعائم دولتين شامختين بالقتل والبطش والقسوة الى اقصى الحدود ضد الخصوم ولم يعرف رحمة أو رأفة والتاريخ ملئ بهذه الشواهد .
ورغم أن عبد الكريم قاسم صادق في رحمته الا انه كان ومعه الحق عاجزاً عن مقاومة جميع القوى العنفية التي تكالبت عليه للإطاحة به من مخابرات امريكية وانجليزية الى عبد الناصر الىالقوميين المتطرفين والبعثيين وحكومة الكويت والى فوضى الشيوعيين والى مواقف بعض رجال الدين بحجة الخوف من التيّار الشيوعي، وقوى مسلحة بالعنف الناري والاعلامي والتضحيات الدموية والتخريب . فساعد الله عبد الكريم قاسم أمام كل تلك الأعباء والمؤامرات والفوضى والاضطرابات التي لم يستطع بها ان يتفرّغ لحل كثير من المشاكل الوطنية والدفاع عن نفسه ونظام حكومته .
من السهل ان يأتي الأنسان بثورة ولكن ليس من السهل ان يحوّل تلك الثورة ويطورها الى بناء واصلاح . اتذكر قول امرأة في البصرة في اثناء تلك الفوضى" ليس الفخر للمرأة التي تحبل وتلد وانما الفخر للمرأة التي تربّي ذلك الولد " وتقصد بذلك ان المهم في الثورة أو الولادة هو التطوير في ظل تربية وتنمية سليمة . وليس من الكافي ان يزرع الانسان بذرة إذا لم يستطع ان يسقيها ويرعى تربتها وتغذيتها لتنمو وتزدهر .
لقد أطاحت بثورة هذا الوطني الانساني المخلص عبد الكريم قاسم ظروف قاسية لم يستطع تحملها ، ولم تكن مواتية لمواصلة تلك الثورة وتحقيق اهداف نبيلة واصلاحية فيها للمجتمع العراقي والعربي . لقد قام عبد الكريم قاسم رغم ظروفه القاسية متحلياً بعفّته ونزاهته واخلاصه ، بأعمال تستحق الثناء . منها بناء 37 الف دار للفقراء مجاناً وتخصيص رواتب للمعوزين وشقّ نهر قرب بغداد واقامة سدود وغير ذلك من الاصلاحات العمرانية والتشريعات القانونية لخدمة المجتمع لكن لم تمهله القوى المعادية له ليستمر بالعمل . وهنا لابد لي ان استشهد ببعض ما قامت به الجاسوسية الامريكية ضد عبد الكريم كما نشرته مجلة دير شبيجل الالمانية في حينه وهو ان المخابرات الامريكية سلمت الى طبيب عراقي يعتمد عليه عبد الكريم قاسم مناديل ورقية مشبعة بعطر فيه مواد مخدرة حين يستعملها عبد الكريم قاسم للمسح والشم يصاب بهلوسة ويصبح متشككاً في كل شئ فلا يستطيع رؤية المشاكل وحلها بوضوح كما انها تؤدي به الى التشكك حتى في اعوانه والمقربين اليه ".
كثيراً ما كان يتردد على السنه الناس آنذاك ان عبد الكريم قاسم مجنون . إنه لم يكن مجنوناً ولكن لعلّ تلك المناديل الورقية السامة المشبعة بالمخدّرات أدّت به الى حالات الارتياب والشك لديه وهذه مصيبة عسيرة علاوة على مصائب الحملات والمؤمرات الموّجهة من قبل أقسى الاطراف ضده . وليس غريباً على الجاسوسية الامريكية أو الجاسوسية عامة ً . فأن سلطات المخابرات التجسسية تقدس كل وسيلة اجرام من اجل الغاية والمصالح . ومثال على ماذكرنا نضيف ان المخابرات الامريكية استطاعت ان تعوّد برجنيف وهو رئيس ثاني كبريات الدول في العالم ، الاتحاد السوفييتي على المخدارت وتجعله مُدمناً عليها الى درجة شلّت كل نشاطه الجسدي والعقلي من عام 1972 الى عام 1982 : فقد جاء في كتاب صدر في موسكو قبل عدة سنوات من تأليف الطبيب الخاص لبريجنيف ان خبراء امريكيين ( لا شك أنهم من مصلحة الاستخبارات ) حدّثوا بريجنيف في احد الاجتماعات معه إبان تبادل الخبرات السوفيتية الامريكية تحت ظلّ التعايش السلمي ، حدثوه بأن هناك دواءاً مهماً توصل اليه العلماء الأمريكيون يساعد على تنشيط القوى الذهنية والعقلية والحسية والبدنية ويقدم لمن يتناوله نشوة وبهجة ونشاطاً عجيباً في كل حركاته واعماله . فألحَّ بريجينف بان يتعرف على هذا الدواء ليجربه . فقدم الخبراء الامريكيون الوصفة له . فجربها وبالفعل شعر بعد تناول هذا الدواء ببالغ الارتياح والقوة واستمر بها مرتاحاً لها فترة قصيرة من الزمن . لكن من عادة هذه المخدرات أنها تُغري من يتناولها بالاستمرار لتناولها دون ان تترك له مجالاً للخلاص منها مهما أراد هو ان يتركها . لقد تعود عليها بريجنيف وكان يعتمد على ممرضة تقدم الدواء المخدر له . وكثيراً ما عرف عن بريجنيف في تلك الفترة بانه اصبح واهناً ضعيف الحركة لا يكاد يستطيع رفع يده حتى شاهدناه مرّة في التلفزيون في لقاء له مع مستشار المانيا الاتحادية آنذاك وهو هيلموت شميت ، يخاطبه بريجينيف قائلاً له " نعم ياهير برانت " .
أي ان اوهامه أدت به ان يسمى هيلموت شميت مستشار المانيا باسم " ويلي برانت " . هذا وقد وصف مؤلف الكتاب الطبيب الخاص انه هو ورئيس المخابرات السوفيتية آنذاك " اندروبوف " حاولا التأثير على بريجنيف ليحملاه على الاقلاع عن تعاطي هذا المخدر فلم يستطيعا وكان يجبرهما ان يُحضرا له الممرضة ومعها المخدّر . وقد منعا الممرضة من الوصول اليه ، الاّ انه أصر مرة ان يأخذه هذا الطبيب الى بيت في غابة ليلتقي بها . حسب وعده معها لأنها مُنعتْ من الاتصال به ويقول الطبيب الخاص لقد اخذته ومعي حارسه الشخصي . وكنا نسير ممسكين بجانبيه من ذراعية لئلا يسقط ، الى أن اوصلناه الى بيت الممرضة فمدّ ذراعه وكأنه خرقة بالية ليصافح الممرضة . وهكذا تلاشت قواه الحسية والعقلية والبدنية .
وهكذا أطاحت المخابرات الامريكية بأقوى دولة في العالم . ولماذا لاتسقط هذه الدولة ما دام حكمها قائماً على ارادة شخص واحد شبه مشلول تلتف حوله كومة من أعضاء اللجنة المركزية التي كان يهمها ان تحقق لنفسها قبل كل شيء المصالح الفردية النفعية حيث لا حساب فهي فوق الحساب ، ومصالحها فوق القانون والمجتمع حتى آلت النتيجة الى سخط وتذمر الشعب والنقمة على سياسة الدولة مما أدى كل ذلك الى استطاعة شخص واحد وهو غورباتشوف ان يهدم صرح هذه الدولة وكأنها لم تكن دولةً ذات كيان وانما بناء كارتوني قائم على دبوس .
هذه الاجراءات المحنكة في الجاسوسية الامريكية اتخذت كل الاساليب للاطاحة بأقوى نظام عالمي يضم مئات الملايين من البشر المسلحين بالعلم والفن والقدرات العسكرية والثقافية فماذا نقول في نظام هش في عراق صغير متخلف تحاربه اقوى سلطة جاسوسية عالمية مسلحة بكل وسائل التكنيك والعلم والكشوف والابحاث .
ومن ذكرياتي عن العراق وقيادة عبد الكريم قاسم في فترة وجيزة ما حدثني به صديقي الدكتور عباس حلمي الحلي . وكان من قبلُ قد درس وتخرج بدرجة دكتوراه من المانيا في اثناء الحرب العالمية الثانية . قال : بعدما تخرجت من الدراسة اشتغلتُ في الجامعة العربية في القاهرة فتعرفت من خلال عملي على شخصيات رسمية كبيرة في الجامعة منها شخصية فيصل عبد العزيز السعود، فكانت لي معه صداقة جيدة . وبعد ذلك اشتغلت في العراق وكيلا لشركة كروب الألمانية . وبعد ثورة 14 تموز 1958 زرتُ الرياض لاشغال تتعلق بالشركة فمررت بصديقي فيصل العبد العزيز السعود في مقر وظيفته وكان رئيساً للوزراء في الرياض آنذاك . فرحب بي وقال لي لقد احضرك الله لي . انها فرصة سعيدة بانك جئت الي بهذه الايام . أين تقيم الآن ؟ فاجبته باني مقيم في فندق سميته له فقال لي انا اليوم مشغول جداً وارجو ان تمر بي هنا غداً صباحاً . ثم امر موظفيه بان ينقلوا شنطتي من هذا الفندق الى فندق خاص آخر على نفقتة الخاصة . وفي اليوم الثاني زرته فرحب كثيراً بي وسألني مهتماً كل الاهتمام بحكومة عبد الكريم قاسم قائلاً : هل ان عبد الكريم قاسم سنّي أم رافضي " أي شيعي " فأجبته : حسبما اعرف فان والد عبد الكريم قاسم مدفون في مقبرة سنّية وعادة الشيعة ان يدفنوا موتاهم في النجف . ولهذا يتضح لي ان عبد الكريم قاسم سنّي . فأجاب رئيس الوزراء فيصل عبد العزيز السعود : " لقد طمأنتني الآن وأرحتني لأننا نريد أن نتخذ موقفاً سياسياً إزاء العراق . لقد كنا في حيرة منها انك أوضحت لي المشكلة فاننا لا نسمح ان تكون للروافض حكومة ولن نتعامل معها . اما الآن فموقفنا واضح منها ولن نعارضها " .
هكذا كانت حكومة عبد الكريم قاسم من كل الجوانب والاطراف الشغل الشاغل للدول ما ابتعد منها وما قرب . وليس ذلك بغريب فحكومة عبد الكريم قاسم حطمت اكبر حلف عسكري في الشرق الاوسط . وكان تحطيم هذا الحلف لصالح الاتحاد السوفيتي وحركات التحرر والدول الاشتراكية . فبينما كانت الولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤها واعوانها وعملاؤها لايدخرون وسعاً او قوةً الا وزجوها للاطاحة بمن أطاح بحلف بغداد ، نرى الأتحاد السوفيتي واقفاً مكتوف الايدي لا يقدّم العون لمن ناصره وسار في ركبه ودافع عنه. كانت سياسة الاتحاد السوفيتي من البداية تعتمد على التهديد الرخيص بالاقوال لا بالافعال بينما الامريكيون يقدّمون كل الدعم مالياً وعسكرياً لانصارهم . عرفنا الاتحاد السوفيتي وموقفه الذي اعتمد فقط على الكلمات التي اصبحت بلا محتوى وذلك في ثورة الكونغو البلجيكية بقيادة لومومبا ، وقد اطاحت المخابرات البلجيكية والأمريكية بحكومته وناصرت جومبي عميلها الذي استطاع السيطرة على الحكم ولم يقدم الاتحاد السوفيتي دعماً ما ليبقى به لومومبا في الحكم ، واكتفى بان يطلق اسم جامعة لدراسة طلبة افريقيا وغيرها باسم لومومبا ، أي أنه دعم معنوي فقط . ورأينا حكومة سوكارتو الوطنية وقد أطاحت بها الجاسوسية الامريكية بمعونة عملائها وحلفائها مثل سوهارتو وقد قدّمت السفارة الامريكية في جاكارتا وجواسيسها اسماء اكثر من خمسمائة الف شيوعي لاعدامهم من قبل سوهارتو فاعدموا ولم ينقدم الاتحاد السوفيتي الذي يدّعي بانه حليف الشعوب والحركات الوطنية أي دعم لانقاذ الشيوعيين في اندونيسيا الذين يقدسون اسم ولفظة سوفييت رغم أهمية وحجم أندونيسيا في أقصى الشرق . فخسرت حركة التحرر الاسيوية والعالمية والاتحاد السوفيتي نفسه اكبر ركيزة للتحرر والاشتراكية في المنطقة . وأطاحت المخابرات الامريكية والبريطانية بحكومة مصدق الوطنية ولم يساعد السوفييت المجاورين لايران حكومة مصدق بشئ للبقاء في الحكم . فمن المعروف ان ثورة مصدق من أعظم الثورات التاريخية ضد الاستعمار البريطاني والامريكي ولضرب مصالح النفط الاستعمارية . لقد أمم مصدق النفط وبقي شهوراً طويلةً محاصراً من جميع الاطراف لا معين له ولا مساعد لبناء اقتصاد بلده . فالامريكيون وغيرهم لا يريدون شراء النفط ولا يسمحون بتصديره ، والدولة السوفيتية المجاورة لايران لا تشتري النفط ، فبقيت ايران بلا مورد مالي وبقي موظفو كثير من وزراتها شهوراً طويلة بلا رواتب . زرتُ ايران لمدة ثلاثة اشهر وكنت آنذاك موظفاً في متصرفية
( محافظة البصرة ) زرتها باجازة مرضية . وكنت في طهران على صلة وثيقة بعراقيين يقطنون طهران من السابق . وكان لي صديق ايراني تاجر اسمه شبستري زاده وهو صديق العالم الكاشاني أحد انصار مصدق .
لقد شاهدت مظاهرة حزب تودة الشيوعي تنادي باسقاط مصدق . وما أزال اتذكر الهتاف بعد ان تعلمت كثيراً من اللغة الفارسية الجميلة وكان من هذه الشعارات " مرك بر مصّدق نوكر حلقه بكَوش امريكائي " أي الموت لمصدّق خادم الامريكان المربوط بحلقة من اذنه " وكنت اتحدث لصديقي التاجر شبستري زاده عما اسمع فقال لي لا تصدّق فكل الف سنة يأتي مصدق واحد ، إن مصدق مخلص وطني عظيم .
كانت الجماهير الشعبية والتجار والبسطاء مع مصدّق ولكن الحزب الشيوعي ( توده) كان ضده الى أقصى حدّ . كنت أزور في تبريز العالم الفاضل ( آية الله ) السيد مرعشي نجفي وكثيراً ما دعاني لتناول طعام الغذاء معه . وكان يزوره رجال دين ايرانيون فيحدثهم مدافعاً عن الاشتراكية قائلاً : " أني على صلة بعلماء الدين في آذربايجان الاشتراكية وكلهم يعيش بارتياح دون حاجة لأن الحكومة السوفيتية وفرّت لهم رواتب بعكس وضعنا نحن العلماء هنا لا نعيش الا على صدقات وهدايا الناس الفقراء أو الاثرياء المتدينين "
لقد أصبح العالم مرعشي نجفي يحمل بعد ذلك وفي اثناء ثورة الامام الخميني لقب آية الله ، أي بدرجة عالية في ذروة القادة الدينييّن . وكانت له مكتبة في قم تضم مليون كتاب وقد توفي رحمه الله قبل عدة سنوات .
هكذا كان حتى رجال الدين متحمسين ومؤيدين لمصدق القائد الوطني الذي جاء بثورة عظيمة ستصبح حصناً يدافع عن الاتحاد السوفيتي البلد المتاخم بالحدود لإيران ، حركة مصدق وطنية تحررية تعود بالنفع على الشعب الإيراني وعلى الحركات التحررية والاتحاد السوفيتي بالذات وبأكثر نفع ونصر ، وهذا ما لاترضاه المخابرات الامريكية العدوة الكبرى للآتحاد السوفيتي . ولكن مع كل ذلك لم يقدم الاتحاد السوفيتي أي دعم لإيران وقائدها مصدق ، لا مساعدة مالية ولا عسكرية ولا شراء لنفطها بل بالعكس كان أنصار السوفييت وهم حزب توده ينادون باسقاط مصدق مؤلبين الشعب عليه . وقد أدوا بذلك كما ادى الاتحاد السوفيتي ذو الموقف المتخاذل السلبي خدمة الجاسوسية الامريكية وعوناً لأكبر أعداء الاشتراكية وحركات التحرر ، أي المعسكر الغربي المتجسد بالولايات المتحدة الامريكية .
كتبت ديرشبيجل مقالة قبل عدة سنوات عن كيفية الإطاحة بمصدّق فأوردت أن المخابرات الأمريكية وبواسطة أعوانها من موظفي ومخابرات شاه إيران بذلت الأموال الطائلة ومنح المكافآت المالية لجميع مومسات طهران وقواديها في مبغى " دروازة قزوين " الذي يشبه مدينة كبيرة تضم آلالاف من البغايا فأخرجت المخابرات الأمريكية بالاغراءات المالية آلافاً من هؤلاء المومسات والقوّادين للشوارع في مظاهرات تنادي باسقاط حكومة مصدق ، وقد اتسع حجم هذه المظاهرات بالتفاف كثير من اللاواعين مؤيدين لها ممن تخدعهم الشعارات ومن الغوغاء الذين يتبعون كل ناعق ، خاصة وان شعارات الحزب الشيوعي توده كانت نفسها تنادي باسقاط مصدق .
وهكذا وحتى بهذا الاسلوب الخبيث القذر اسقطت المخابرات الامريكية وحلفاؤها واعوانها حكومة مصدق الوطنية . وجاءت حكومة زاهدي المناصرة للشاه فنكّلت بالشيوعيين أقسى تنكيل وكما يقول المثل العربي " جنت براقش على نفسها " .
لقد لجأ اعضاء اللجنة المركزية لحزب توده الى المانيا الديمقراطية وكنت على صلة ببعضهم فكانوا يلومون أنفسهم على موقفهم هذا الخاطئ ضد مصدق واعترافاً منهم بما ارتكبوه ضده . ولكن لا نفع للندم بعد ذلك وقد انهدم البناء وسقط البناء .
هذا موقف الامريكيين المناصر بحماس لأعوانهم وعملائهم ومصالحهم بعكس الموقف السوفيتي الذي يخذل وقد خذل بالفعل جميع انصاره واعوانه وخذل حتى مصلحته الوطنية الخاصة . وأمرّ من ذلك ان الاتحاد السوفيتي في اثناء الحرب العالمية الثانية عندما احتل مع حلفائه الغربيين إيران استولى على 12 طناً من الذهب الإيراني وأخذه إلى موسكو . وحين جاءت ثورة مصدق للحكم وقاست أمر الأوضاع الاقتصادية جراء الحصار الأمريكي والبريطاني لها ، لم يقدّم الاتحاد السوفيتي هذه الأطنان من الذهب إلى حكومة مصدق لتتلافى ضائقتها الاقتصادية القاتلة ولم يُعدْ ما نهب إلى مالكه الأصلي ، بل سلم وأعاد تلك الأطنان من الذهب إلى حكومة زاهدي المعادية للاشتراكية والمتحالفة مع الامبريالية الامريكية . فليتصور من له أقل شعور واحساس بالتناقضات العجيبة اللامنطقية التي تكاد تشبه الكذب . لقد أكد لي قصة اطنان الذهب هذه بعض أعضاء اللجنة المركزية لحزب توده في ألمانيا الديمقراطية .
هذا موقف الاتحاد السوفيتي ازاء ثورة مصدق العظيمة ومثالها موقفه من حكومة عبد الكريم قاسم . فعندما اطاح الحكم الدموي البعثي المخابراتي الامريكي بحكم عبد الكريم قاسم الوطني وجرت مذابح ومقابر جماعية راح ضحيتها 15 ألف من الوطنيين وكثير منهم من الشيوعيين الذين يضحون بالارواح من أجل الدفاع عن كلمة " سوفيت " المقدسة عندهم ، أي بعد حمّامات الدم هذه كان الاتحاد السوفيتي أول الدول التي اعترفت بحكومة البعث الدموية سنة 1963متجاهلة كل مواقف وتضحيات حكومة عبد الكريم قاسم ومؤيّده من الشيوعيين وغيرهم.
لقد تحدثت آنذاك في برلين مع السيدة نزيهة الدليمي عضوة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي عن موقف الاتحاد السوفيتي هذا الذي اعترف بالحكم الإرهابي الدموي البعثي ضد مصلحة الحزب الشيوعي وضد حركة التحرر الوطني وضد حكومة قاسم الشريفة فاجابتني راضيةً ان هذه دبلوماسية فأجبتها غاضباً اذن وأين المبادئ الماركسية وهل هناك في سبيل نصرة الحق دبلوماسية لا مبادئ وطنية أو ماركسية ؟ فسكتت وأنا اعرف بصلاتي مع كثير من الشيوعيين انهم يدافعون عن قاتليهم ، يؤلّهون الاتحاد السوفيتي رغم انه يفتك بهم بسلاحه وبنصرته لخصومهم . فلا يمكن أن تنتقد الاتحاد السوفيتي على أخطائه وكثيراً ما يشهَّر بالناقد مسئولون شيوعيون يهددون ويتوعدون بالقتل وإرسال كوماندو لقتل الناقد متهمين إياه بأنه تكلم ضدّ " صديق الشعوب "، أي الاتحاد السوفيتي الذي اصبح يشبه الإله وبهذه المناسبة لا يجوز لي أن أُخفي بعض الحقائق مما شاهدت . فقد زار لايبزج قبل حوالي 12 سنة وفد عراقي للمساهمة بمهرجان الأفلام الوثائقية العلمي وكان ضمن الوفد شاب اعرفه وهو مصور سينمائي وله اطلاعات واسعة بحكم وظيفته في تصوير فعاليات الحرب العراقية الإيرانية وقد أُصيب عدّة مرات بطلقات في جسده في أثناء التصوير في المعارك وتكريماً له أُرسل مع الوفد إلى لايبزج . وقد حدثني ثقةً بي متألماً إن الحكومة العراقية حاصرت آلاف الفارين من الجنود من الحرب في الاهوار الجنوبية وبعد شهور من هذا الحصار والضرب عليهم بالطيارات والمدافع أسرت منهم عشرة آلاف جندي ، فأودعتهم سجن أبي غريب . وفي أحد الأيام جاء موظفو المخابرات فبشروا السجناء هؤلاء بان السيد الرئيس عفا عنهم وفي الصباح الباكر عليهم أن يخرجوا احراراً من السجن فما عليهم هذه الليلة الاّ أن ينظفوا السجون . فاشتغل السجناء ينظفّون السجن وهم يغنّون ويضربون على الصفيح فرحاً بخروجهم من السجن غداً . وفي الصباح التالي اخرجت السلطة العراقية ومخابراتها خمسة آلاف من هؤلاء الجنود المسجونين وسارت بهم خارج بغداد فاطلقت عليهم نيران الرشاشات وقتلتهم دفعة واحدة جميعاً .
وفي اليوم الثاني كررت المخابرات العراقية هذه الجريمة ضد الخمسة آلاف من الجنود المسجونين الباقين فقتلتهم في الصحراء أيضاً .
أي قتلت الحكومة بيومين وبدفعة واحدة عشرة آلاف شخص معارض للحرب ، ولم تتحدث جهة عن ذلك ولا أُذيع خبر عنه ومن أين يذاع خبر وسط الظلام ومن خلف جدران السجن الكبير وما من ناقل يستطيع النفوذ الى الاعماق ، الى الآبار المظلمة التي تعج بجراثيم المخابرات العراقية ووحوشها الضارية . لقد ملأت الاجواء قبل عدة سنوات انباء مقتل أربعة آلاف مواطن فلسطيني في صبرا وشاتيلا في لبنان فتناولتها كل صحافة العالم . ولكن عشرة آلاف تقتلهم المخابرات العراقية في يومين ومامن خبر يذاع أو ينشر عنهم .
لقد أنبأني هذا الصديق المطلع بهذا الخبر الفاجع كما حدثني عن تدفق الاسلحة السوفيتية على الحكومة العراقية . وكل هذه الاسلحة لقتل الابرياء من شيوعيين ومن معارضين للسلطة من جهة ولقتل الشعب الايراني قبل كل شئ من جهة ثانية .
وقد حدثتُ مسؤول الحزب الشيوعي في المانيا الديمقراطية ومعي هذا الشاب الوطني المخلص لنوضح له التفصيلات ، فاحتقن وجه المسؤول الحزبي الشيوعي ضد الشاب العراقي ، مهدداً إياه:
" اني سوف ارسل اليه كوماندو ليقتله . كيف يتكلم ضد الاتحاد السوفيتي صديق الشعوب فاجبته " : ان المخابرات العراقية ترسل كوماندو لقتل الناس وانت الشيوعي تهدد بارسال كوماندو لقتل من يتكلم لصالحكم بالذات . فاجابني اخي انا لا أسمح بأن يطعن شخص بسياسة صديق الشعوب الاتحاد السوفيتي " فهل يُجدى النقاش مع شخص لا يدرك أي معنى للمنطق . أنه يقول هذا الكلام الدكتاتوري بما هو فوق حجمه وهو ما يزال خارج السلطة . فنعود بكل ما هو حق ومعقول من تعسف الجهلة والحمقى وذوي التعصب الاعمى . فمثل هذه المواقف الجاهلة يُبعد بعض الشيوعيين ذوي الحماس التأليهي الاعمى للآتحاد السوفيتي وتقديس أخطائه من كان يواليهم أو يتعاطف معهم . ولكن كما هو معروف ندم كثير من ذوي الحماس الاعمى من الشيوعيين على حماقة حماسهم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي جرّاء سياسته التعسفية الفردية المعادية للديمقراطية والحرية . ولكن هذا الندم جاء بعد فوات الأوان وبعد خراب البصرة وقد جنى الشيوعيون بحماسهم وتقديسهم الأعمى وتضحياتهم الفوضوية الانتحارية لتمجيد كلمة سوفيتي أقسى أنواع العذاب ، أي كما جنت براقش على نفسها وأهلها ، ومن وراء ذلك مأساة كل الشعب .
إن الشعب العراقي الجريح ضحية مؤامرات من المخابرات الأمريكية ومصالحها وعملائها وضحية مواقف الاتحاد السوفيتي المتخاذلة المخادعة والكاذبة التي تكيل الوعود الخلابة الفارغة من كل محتوى عملي ضد أعوانها من مستقلين وشيوعيين وأحرار ، وضحية تخلف من يدعي الحكمة والإخلاص في القيادة التي تؤدي جراء الجهل إلى الوقوع في الهاوية كما نرى الآن . لقد قُتل عبد الكريم قاسم شهيداً للإخلاص والوطنية والإنسانية كما أطيح بحكم مصدق قبل ذلك . وقد حدثني مرافق عبد الكريم قاسم مرة في برلين وهو الضابط حافظ علوان وكان يزورني في داري بان أحد مسئولي البعث وهو محسن الشيخ راضي (1)، جاء إلى عبد الكريم قاسم فأسّره بان قادة البعث حاكت له مؤامرة للإطاحة به وقد عين لها اليوم والساعة الفلانية لتنفيذ المؤامرة . والدافع الذي حدا بمحسن الشيخ راضي لتنبيه عبد الكريم قاسم ليأخذ الاحتياطات والحذر ان هذا الرجل البعثي اطلع بصلاته مع قادته ان المؤامرة تستهدف قتل الشيعة والشيوعيين مع عبد الكريم قاسم وجميع مؤيديه أي ستكون مذبحة دموية واسعة . فما كان من عبد الكريم كما حدثني حافظ علوان مرافقه الشخصي إلاّ أن وجّه خطاباً في الإذاعة والتلفزيون يهدّد المتآمرين قائلاً : " لقد اطلعت على خطط المؤامرة وأني سوف أعاقب كل من خطط لها وينوي تنفيذها " الخ غير ذلك من أقواله فأنتبه المتآمرون وغيروا ساعة الصفر واليوم المزمع تنفيذ الانقلاب فيه ، مؤجلين إياه الى اليوم الذي تم به بعد ذلك إنقلاب 8 شباط . هذا الخطاب كان طبعاً حماقة من عبد الكريم قاسم ، فما من قائد محنك ينبه خصومه ويكشف اسراره لهم قبل ان يطيح بهم . ولعلّ المخدّرات السامة التي زجّها خبراء الجاسوسية الامريكية في مناديل المسح الورقية لعبد الكريم قاسم عن طريق الطبيب العراقي قد أثرت فيه وجعلته يفقد كثيراً من التوازن العقلي ويصاب بالهلوسة والشكوك كما بينت ذلك مجلة ديرشبيجل ، علاوة على المؤامرات التي اثقلت دماغه الى أقصى حد . كما حدثني مرة الكاتب القصصي ذنون ايوب ان الاطاحة بعبد الكريم قاسم كانت تستهدف قتل ثلاثة شينات وهي " شيوعي وشيعي وشروكَي"(2) وطبعا هذه الشينات تضاف اليها عوامل مهمة جداً وهي ابادة كل الشعب العراقي لئلا تقوم به حركة وطنية حماسية مخلصة ضد اسرائيل . وعامل المحافظة على امتيازات النفط ومصالحها للاقتصاد الامريكي والبريطاني ، علاوة على تفتيت كل طموح وهدف للوحدة العربية والتقارب بين الدول والشعوب العربية ، هذا التقارب الذي يضر بمصلحة اسرائيل ويساعد على استقلالية وتحرر الشعوب العربية .
{ عبد الكريم قاسم واسترجاع الكويت }
وتكملة لبحث مواقف وسياسة عبد الكريم قاسم التي أثارت سخط الانجليز والكويتيين عليه على الاسباب التي أوردناها في هذا البحث ، ما أشيع ان عبد الكريم قاسم اراد احتلال الكويت وأمر اللواء السيد حميد الحصونة بأن يزحف على الكويت ويحتلها فامتنع حميد الحصونة (1) عن اداء هذه المهمة . هذا القول أصبح ومايزال شأئعاً لدى الشعب العراقي ولدى كثير من الاوساط السياسية والثقافية والصحافية . اما حقيقة عزم عبد الكريم قاسم على احتلال الكويت واناطة امر هذا الاحتلال باللواء حميد الحصونة وامتناعه عن تنفيذ الامر فمجرد فكرة استغلها خصوم قاسم من جميع اطرافهم لتأليب الاحقاد ضده . وما كان عبد الكريم ليغامر في تنفيذ هذه الفكرة خاصة وان مشاكل العراق التي شغلته الى أقصى واعنف حد تحول دون تحقيق هذه الفكرة . كما ان الانجليز استغلوها لأعادة سيطرتهم على الكوبت بحجة حمايتها من عدوان عبد الكريم قاسم المزعوم . واثباتاً لهذه الحقيقة فقد كانت لي صلة صداقة باللواء الس[ف . م.ك1] يد حميد الحصونة وقد زار برلين حيث اقيم عدة مرات وكنا معاً نسافر الى عدة مدن المانية ونلتقي مرات مستمرة في برلين فسألته وكان معنا الشاعر العراقي كاظم جواد عن صحة امتناعه عن تنفيذ امر عبد الكريم قاسم باحتلال الكويت فاجابني ما يلي :
(( لم تكن هناك خطة من قبل الزعيم عبد الكريم قاسم لاسترجاع الكويت كما انه لا صحة ابداً لما يقال بانه أمرني باسترجاع الكويت وما يقال اني امتنعت عن تنفيذ مهمة الاسترجاع . فلو فرضنا من ناحية المنطق انه اراد فعلاً استرجاع الكويت للعراق أو أنه امرني بذلك فامتنعت لكان من السهل أن يعزلني من منصبي إذ أنه رئيسي الاعلى وهو قائدالقوات المسلحة ومن السهل عليه عند مخالفتي امره ان ينيط امر الاسترجاع بغيري من القادة العسكريين ليقوم بالتنفيذ ، فما أنا إلا ضابط تحت امره وقيادته ، فقضية محاولة استرجع الكويت واناطة مهمة الاسترجاع بي وامتناعي عن الاسترجاع مجرد اكاذيب واشاعات باطلة غرضها الاساءة لعبد الكريم قاسم ولي كذلك واثارة الاحقاد ضد سياسة العراق آنذاك .
بين المطرقة والسندان السوفيتي
بقلم : مرتضى الشيخ حسين
برلين ـ المانيا
لا يصح قياس الشجرة إلا بعد سقوطها على الأرض .
وقتل عبد الكريم قاسم شهيد إنسانيته ووطنيته . وأُطيح بحكم مصدّق في ايران ، وهو كذلك ضحية انسانيته ووطنيته . لقد تكالبت على كل منهما صراعات عنيفة شرسة من الداخل والخارج .
لقد أَسقط عبد الكريم قاسم حلف بغداد ، ذلك الحلف الذي أقامه الغرب ضد الاشتراكية ، أي ضد الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي وضد حركة التحرر الوطنية . واسقاط الحلف هذا يعارض مصالح الغرب تحت زعامة الولايات المتحدّة الامريكية وبريطانيا . وعبد الكريم قاسم رمز مهم او دعامة قوية لتحرر العراق واستقلاله اقتصادياً وسياسياً ، ولا سيما في تحرّره من قيود واحتكارات شركات النفط ، أي المصدر المهم لللأقتصاد العالمي ، ولاسيما الاقتصاد الامريكي الذي يستهلك اكبر الكميات الهائلة من النفط في إرساء وتطوير الصناعة الامريكية . هذا وتحرّر العراق يشكل دعامة خطرة ضد الكيان الاسرائيلي الذي اغتصب الاراضي العربية الفلسطينية وتلقّى كل الدعم من بريطانيا وامريكا لتثبيت وارساء دعائم هذا الكيان .
هذه الاسباب الرئيسية عوامل مهمة يحسب لها الغرب ولاسيما امريكا وبريطانيا كل حساب لإسقاط حكومة عبد الكريم قاسم الوطنية التحررية المعادية للاحلاف .
لهذا زجت المخابرات الامريكية بأعنف قواها ضد عبد الكريم قاسم ، ومن والاه وسانده ، واستخدمت بذلك المال والسلاح والإعلام وشراء الذمم والعملاء من كل جانب للاطاحة بنظام العراق الجديد وإرجاعه الى اقصى حدود التخلف والضعف .
بأسم الوحدةالعربية والقومية العربية ارتكب الزعيم الوطني المصري جمال عبد الناصر أفضع الأخطاء ضد الوحدة العربية وضد عبد الكريم قاسم . لقد كان عبد الناصر الطموح يعتمد على الارتجال العاطفي في سياسته . وقد أدى به هذا الارتجال الى اخطاء وسلبيّات ضد التحرر القومي والوحدوي سواء ما كان من هذه الاخطاء ما غامر به في جيشه باليمن أو ما ارتكبه بالوحدة الفورية الاندماجية مع سوريا او ما دبّره من مؤامرات بشعة ضد حكم عبد الكريم قاسم الوطني المعادية للامبريالية . كان عبد الكريم قاسم يريد وحدة عربية فدرالية تدريجية لا وحدة فورية ابتلاعية واندماجية كما يريدها جمال عبد الناصر وجميع المفكرين المحنكين يدركون التناقضات الواسعة من جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية والمالية وحتى ما هو قائم على التطور التاريخي في بعض التقاليد والسلوك والعادات وغيرها . ومن المفروض الغاء هذه التناقضات بالتدريج إذ لا يمكن الغاؤها بضربة واحدة . وعلى أقل الامكانات كان يجب أولاً الغاء جوازات السفر المتعددة وتوحيدها ، وإلغاء الحواجز والحدود الجمركية وقيود التجارة ، وتناسق الاهداف الدبلوماسية والسياسة بين الدول العربية أو بين دولتين عازمتين على الوحدة والبدء بتوحيد العملة النقدية مثلما تعمل الآن أهداف الوحدة الاوربية . هذه الاسس الرئيسية أهم الدعائم التي كان من المفروض ارساؤها قبل التفكير بوحدة عاجلة . فماذا كان يضر عبد الناصر والعناصر ذات الرؤوس الساخنة العاطفية المنادية بالوحدة الاندماجية الفورية ، ماذا كان يضرهم لو صبروا عدة سنوات لحل المشاكل والغاء الحواجز تدريجياً . وهل تاريخ الشعوب والبلدان يعتمد أو يتوقف على عدة سنوات أمام مئات من السنين من المعاناة والتخلف والرواسب السلبيّة التاريخية المتراكمة التي لا يمكن الغاؤها بقفزة واحدة ؟. وهل بالإمكان الصعود الى السطح الا بمراحل من تخطي الدرجات . اما كان لعبد الناصر أن يدرك هذه البديهية ؟ . أم أن عاطفته الجيّاشة وحماسه غير القائم على مستوى سياسي واستراتيجي علمي متكامل وجرّه بسطاء الناس من المتحمسين المصفقين لكل زعيم عاطفي والذين يُخدعون غالباً بالاقوال والشعارات غير المدروسة التي يلقيها ذوو المطامح السياسية من هواة السلطة ومحبّي المغامرات السياسية التي تطيح بالمجتمع جهلاً أو قصداً في الهاوية . سنوات عدة تكالبت بها اذاعة صوت العرب التي يديرها الجاسوس المصري الامريكي أحمد سعيد ( كما ثبت أخيرا وزجّه عبد الناصر في السجن ) موجهة ضد حكومة عبد الكريم قاسم الوطنية المؤيَّدة من قبل عموم الشعب العراقي . كما امد عبد الناصر جميع خصوم الحكومة العراقية الوطنية بالمال والسلاح فاقام هؤلاء الخصوم مجازر دموية راح ضحيتها مئات الناس من الشعب العراقي .
لقد زجّ عبد الناصر بكل قواه ضد الحكم الوطني القاسمي بدلاً من ان يتفرغ لحل مشاكل شعبه المصري الداخلية فاضاع جهوداً كبرى في هذا الافراط غير الواعي في السياسة . ويعني كل ذلك باختصار ان مواقف وسياسة جمال عبد الناصر بهذا الصدد خدمت مصالح المخابرات والمصالح الامريكية دون ان يعلم وان كان ذلك عن وعي منه لا سامح الله فتلك هي ام المآسي . وعلى كل حال لقد حلت المآسي بالعرب جراء هذه المواقف الناصرية المتعسفة وخاصة ضدّ العراق ، هذه المآسي التي استمرت واتسعت الى اقصى الحدود حتى اصبحت كلمة الوحدة العربية ويا للأسف أشبه بالجريمة من فرط ما أُسئ اليها وقيل فيها من اكاذيب وما حُملت فيها من شعارات خادعة وأوهاوم وما جعل منها ما يشبه المخدّرات والهلوسة شبيهةً بالأفيون ، والسبب في ذلك جهل الدعاة للوحدة والتعصب غير العلمي للقومية والتعالي والتطرف في القفز على الواقع ، فكانت النتيجة كما يدركها كل ذي بصر وبصيرة انهيارنا الحالي الكئيب . ان العنصر الرئيسي في الإطاحة بعبد الكريم قاسم وأعوانه مؤامرات المخابرات الامريكية وشرائها لمختلف العناصر ما بين مخدوعة عاطفياً أو جاهلة او متحمسة برعونة ، مثل رعونة عبد السلام عارف والشواف واحلام وأوهام عبد الناصر اللاعلمية وغير المحنكة .
جاء في بعض مؤلفات الكاتب الكبير والصحافي الشهير محمد حسنين هيكل مثل كتابه ( حرب الخليج ) وكما نشرته جريدة الأهرام في 27 أيلول 1963 : أن الملك حسين عاهل الأُردن حدثه في فندق في باريس قائلاً : " أن ما جرى في العراق في 8 شباط قد حظي بدعم الاستخبارات الامريكية ولا يعرف بعض الذين يحكمون في بغداد اليوم هذا الامر . لقد عُقدت اجتماعات عديدة بين حزب البعث والاستخبارات الامريكية . عُقد أهمها في الكويت . أتعرف ان محطة سرية تبثّ الى العراق كانت تزود رجال الانقلاب باسماء وعناوين الشيوعيين هناك للتمكن من اعتقالهم واعدامهم ؟
كما يقول محمد حسنين هيكل في كتابه حرب الخليج ص 230 ان هذه الاذاعة السرية كانت تعمل في الكويت . ويقول كذلك : " كانت الولايات المتحدة الامريكية متصلة بكل قوى المعارضة لعبد الكريم قاسم نفسه . وقد وصل الى لحظة توجس فيها من الشيوعيين وساورته الظنون بأنهم ربما سبقوا غيرهم من القوى في الانقلاب عليه . والذي حدث فعلاً انَّ غيرالشيوعيين سبقوا . أما الشيوعيين فقد تخلفّوا ".
ونقول نحن بهذا الصدد استناداً على ما ورد في بعض الادبيات التي أرّخت تلك الفترة المعقدة ان الشيوعيين في العراق كان يتلقّون الوحي والاوامر من السلطة السوفيتية ولم يتسلحوا بسياسة مستقلة . ففي اعترافات احد اعضاء اللجنة المركزية أمام أجهزة الأمن في محاكمته وهو عدنان جلميران أن عضو اللجنة المركزية جورج تلوّ سافر الى العلاج في موسكو وعاد الى العراق سريعاً دون أن يتم علاجه مشفوعاً برسالة من السوفييت يوصون بها الشيوعيين ان لا يرفعوا شعار مشاركة الجزب الشيوعي بالحكم ( كتاب ثورة 14 تموز لمؤلفه ليث عبد الحسين الزبيدي طبعة 1989 ص 45 ) فالعامل االرئيسي كما بينا في الاطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم مؤامرات المخابرات الامريكية ومناصرتها لخصومه بكل الوسائل المالية والدعاية والاتصالات السرّية وشراء العملاء وبمختلف الحجج والشعارات والتضليل . ومن المعروف الشهير ما صرّح به أحد اقطاب هذا التآمر وهو الامين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي بأن " البعث " جاء في قطار امريكي . والوقائع والاسانيد الموثوق بها تؤكد هذه المقولة بمختلف الاساليب التي اتبعتها الادارة الامريكية ومخابراتها في تدمير الحكم الوطني القاسمي ، أي تدمير العراق والشعب العراقي ، الركيزة المهمة لتحرر كافة الوطن العربي ، فقد ساعد على انهيار هذا الحكم طبعاً صراعات الداخل من حركة الشواف الىمؤامرات البعث ومواقفه وسياسته الدموية والاوهام تحت شعار القومية والوحدة العربية ، هذا الشعارالذي اعتمد على العواطف اللاواعية في أغلب الاحيان وعلى الانحراف عن الواقع العملي والعلمي الذي أدى في نهاية المطاف الى تمزّق آمال الوحدة والابتعاد عن الشعور القومي واحياناً الوطني جراء الظلم والقسوة ضد الجماهير التي اصبحت او تكاد تصبح كارهة لكل ثورة او حركة وطنية أو حتى لذكر اسم الوطن جراء ما قاساه به الفرد العراقي خاصة من قتل وتشريد وتجويع وتعذيب الخ .. وهذا ما تريده اسرائيل .
لقد زرتُ العراق في بداية 1961 وكنت آنذاك في المانيا الديمقراطية محرراً لمجلة " الصادرات الالمانية " وزرت كثيراً مما اريد زيارته لأطلع على ما يجري في العراق من غليان . زرت مثلاً منطقة الاشغال والمواصلات الجنوبية في البصرة فحدثني مديرها المهندس قائلاً انك قادم من بلد اشتراكي فهل فيه مثل هذه الفوضى في العراق ؟ ان عمال الطرق لا يريدون تصليح طرق مرور السيارات بين البصرة والعمارة وغيرها ، منادين بأنهم الطبقة العاملة والحكم بيدهم ، رغم أنهم ما يزالون بعيدين عن الحكم . وها ان الحفر في أغلب الشوارع تعرّض السيارات الى الخطر فماذا أعمل . إن دائرتي اصبحت مشلولة ، هذا ما كان مدير الدائرة يشكو منه جراء الفوضى والتصورات الوهمية بين العمال .
وقال لي الدكتور ابراهيم الشماع : " يأتي اليّ عمال فافحصهم ويطلبون مني وفق هواهم لا وفق نتائج الفحص ان اعطيهم بنسلين فاعطيهم فيقذفون البنسلين في وجهي صارخين ما هذا ؟ نريد بنسلين سوفيتي ، هذا البنسلين امبريالي من صنع لندن " .
وزرت اصدقائي فيصل السامر وصلاح خالص وابراهيم كبّة وكان وزيراً للاقتصاد ، والاديب مصطفى علي وكان وزيراً للعدل وصديقاً حميماً لعبد الكريم قاسم . وكلهم كان بين متذمر وآمل في خضّم ذلك الجيشان حيث اصبح الشارع وطرق السيارات ، مثلاً بين الحلة وبغداد ، تحت سيطرة شباب متحمسين للشيوعية يتعرضون للسيارات في كل مكان فيوقفونها ويحاسبون ركابها من شخصيات اجتماعية أو ادارية أو عسكرية ليتعرفوا عليها فيما اذا كان احدهم معادياً للثورة أو معها . و كثيراً ما يتلقى بعض هذه الشخصيات الإهانات من هؤلاء ااشباب . ومثل هذه الاجراءات مما يسبب تذمّر الناس من الوضع ونقمتهم عليه واتساع جبهة العداء لحكومة عبد الكريم قاسم . وقد خرج كل ذلك عن قدرة قيادة الحزب الشيوعي عن الامساك بزمام الامور وفرض النظام والطاعة كما ان الحزب الشيوعي ساهم في تأجيج فوضى واضطرابات ومذابح كركوك والموصل ومحاكمات لا قانونية بل كيفية للعناصر التي ساندت حركة الشواف واعدامها وكأن السلطة اصبحت بيد تلك العناصر الشيوعية . وكثيراً ما خطب عبد الكريم قاسم مهدداً الذين يخالفون القانون والنظام ويصدرون تعاليم وقوانين كيفيّة . أو يقومون بحركات لا نظامية بمحض ارادتهم وكأن لا وجود لحكومة بينهم . ولكن " لقد أسمعت لوناديت حياً ـ ولكن لاحياة لمن تنادي" ان من كان يسمع هذا التهديد والنداء اصبح أسير عواطفه العمياء وحماسه الجنوني دون التفكير بالعواقب .
قال الاستاذ مصطفى علي وزير العدل آنذاك حول وضع عبد الكريم قاسم " ان عبد الكريم قاسم مخلص وطني ولكنه جلب معه عامل فناء وتدمير ثورته وهو عبد السلام عارف " .
وحقاً كان هذا الضابط الأرعن اللاعارف من اقذر العناصر الجاهلة المدفوعة بالتهوّر والحماس السخيف للاوهام الوحدوية الفوريّة والتطرف الطائفي والعنصري . ومع الأسف ان مثل هذا الضابط الأرعن أعتمد عليه جمال عبد الناصر ضد حكومة قاسم . ذكر كتاب ثورة 14 تموز لمؤلفه ليث الزبيدي في مقابلة مع هديب الحاج حمود : ان عبد السلام عارف ذكر لأحد الضباط الاحرار الموجودين معه ليلة 14 تموز 958 بانهم سينفذّون الثورة وهناك ثلاث جماعات يجب استئصالها وهم الاكراد والمسيحيون والشيعة .
وحدثني الصحافي عبد العزيز بركات أنه سأل عبد السلام عارف عندما تولّى زمام السلطة بعد الاطاحة بعبد الكريم قاسم مستفسراً منه الى متى ستستمر هذه المعارك بين الحكومة العراقية والاكراد؟ فاجابه عبد السلام عارف : : وماذا يهمنا من هذه الحرب ان كاكا وعبد الزهرة يتقاتلان " ويقصد بذلك ان الجندي الشيعي والمواطن الكردي هما وقود هذه المعارك . لقد كان عبد السلام عارف موضع سخرية وأضحوكة على ألسنة ابسط الناس جراء سخافة تصريحاته المشهورة . ومع ذلك فقد عامله عبد الكريم قاسم برحمة وعفو وغفران رغم انه اراد قتل عبد الكريم قاسم في مركز القيادة . وكان هذا العفو خطأ ولا شك في احكام الثورات ، لقد تسلح عبد الكريم قاسم وياللأسف بمبدأ " العفو عما سلف " ، تسلّح بالرحمة فقتلته تلك الرحمة ، اذْ استغلها اعداؤه ضده . وتاريخ تكوين الدول والزعامات لا يعرف للرحمة معنى فهذا حكم الامويين وحكم العباسيين وغيرهما ، وقد سيطرا وارسيا دعائم دولتين شامختين بالقتل والبطش والقسوة الى اقصى الحدود ضد الخصوم ولم يعرف رحمة أو رأفة والتاريخ ملئ بهذه الشواهد .
ورغم أن عبد الكريم قاسم صادق في رحمته الا انه كان ومعه الحق عاجزاً عن مقاومة جميع القوى العنفية التي تكالبت عليه للإطاحة به من مخابرات امريكية وانجليزية الى عبد الناصر الىالقوميين المتطرفين والبعثيين وحكومة الكويت والى فوضى الشيوعيين والى مواقف بعض رجال الدين بحجة الخوف من التيّار الشيوعي، وقوى مسلحة بالعنف الناري والاعلامي والتضحيات الدموية والتخريب . فساعد الله عبد الكريم قاسم أمام كل تلك الأعباء والمؤامرات والفوضى والاضطرابات التي لم يستطع بها ان يتفرّغ لحل كثير من المشاكل الوطنية والدفاع عن نفسه ونظام حكومته .
من السهل ان يأتي الأنسان بثورة ولكن ليس من السهل ان يحوّل تلك الثورة ويطورها الى بناء واصلاح . اتذكر قول امرأة في البصرة في اثناء تلك الفوضى" ليس الفخر للمرأة التي تحبل وتلد وانما الفخر للمرأة التي تربّي ذلك الولد " وتقصد بذلك ان المهم في الثورة أو الولادة هو التطوير في ظل تربية وتنمية سليمة . وليس من الكافي ان يزرع الانسان بذرة إذا لم يستطع ان يسقيها ويرعى تربتها وتغذيتها لتنمو وتزدهر .
لقد أطاحت بثورة هذا الوطني الانساني المخلص عبد الكريم قاسم ظروف قاسية لم يستطع تحملها ، ولم تكن مواتية لمواصلة تلك الثورة وتحقيق اهداف نبيلة واصلاحية فيها للمجتمع العراقي والعربي . لقد قام عبد الكريم قاسم رغم ظروفه القاسية متحلياً بعفّته ونزاهته واخلاصه ، بأعمال تستحق الثناء . منها بناء 37 الف دار للفقراء مجاناً وتخصيص رواتب للمعوزين وشقّ نهر قرب بغداد واقامة سدود وغير ذلك من الاصلاحات العمرانية والتشريعات القانونية لخدمة المجتمع لكن لم تمهله القوى المعادية له ليستمر بالعمل . وهنا لابد لي ان استشهد ببعض ما قامت به الجاسوسية الامريكية ضد عبد الكريم كما نشرته مجلة دير شبيجل الالمانية في حينه وهو ان المخابرات الامريكية سلمت الى طبيب عراقي يعتمد عليه عبد الكريم قاسم مناديل ورقية مشبعة بعطر فيه مواد مخدرة حين يستعملها عبد الكريم قاسم للمسح والشم يصاب بهلوسة ويصبح متشككاً في كل شئ فلا يستطيع رؤية المشاكل وحلها بوضوح كما انها تؤدي به الى التشكك حتى في اعوانه والمقربين اليه ".
كثيراً ما كان يتردد على السنه الناس آنذاك ان عبد الكريم قاسم مجنون . إنه لم يكن مجنوناً ولكن لعلّ تلك المناديل الورقية السامة المشبعة بالمخدّرات أدّت به الى حالات الارتياب والشك لديه وهذه مصيبة عسيرة علاوة على مصائب الحملات والمؤمرات الموّجهة من قبل أقسى الاطراف ضده . وليس غريباً على الجاسوسية الامريكية أو الجاسوسية عامة ً . فأن سلطات المخابرات التجسسية تقدس كل وسيلة اجرام من اجل الغاية والمصالح . ومثال على ماذكرنا نضيف ان المخابرات الامريكية استطاعت ان تعوّد برجنيف وهو رئيس ثاني كبريات الدول في العالم ، الاتحاد السوفييتي على المخدارت وتجعله مُدمناً عليها الى درجة شلّت كل نشاطه الجسدي والعقلي من عام 1972 الى عام 1982 : فقد جاء في كتاب صدر في موسكو قبل عدة سنوات من تأليف الطبيب الخاص لبريجنيف ان خبراء امريكيين ( لا شك أنهم من مصلحة الاستخبارات ) حدّثوا بريجنيف في احد الاجتماعات معه إبان تبادل الخبرات السوفيتية الامريكية تحت ظلّ التعايش السلمي ، حدثوه بأن هناك دواءاً مهماً توصل اليه العلماء الأمريكيون يساعد على تنشيط القوى الذهنية والعقلية والحسية والبدنية ويقدم لمن يتناوله نشوة وبهجة ونشاطاً عجيباً في كل حركاته واعماله . فألحَّ بريجينف بان يتعرف على هذا الدواء ليجربه . فقدم الخبراء الامريكيون الوصفة له . فجربها وبالفعل شعر بعد تناول هذا الدواء ببالغ الارتياح والقوة واستمر بها مرتاحاً لها فترة قصيرة من الزمن . لكن من عادة هذه المخدرات أنها تُغري من يتناولها بالاستمرار لتناولها دون ان تترك له مجالاً للخلاص منها مهما أراد هو ان يتركها . لقد تعود عليها بريجنيف وكان يعتمد على ممرضة تقدم الدواء المخدر له . وكثيراً ما عرف عن بريجنيف في تلك الفترة بانه اصبح واهناً ضعيف الحركة لا يكاد يستطيع رفع يده حتى شاهدناه مرّة في التلفزيون في لقاء له مع مستشار المانيا الاتحادية آنذاك وهو هيلموت شميت ، يخاطبه بريجينيف قائلاً له " نعم ياهير برانت " .
أي ان اوهامه أدت به ان يسمى هيلموت شميت مستشار المانيا باسم " ويلي برانت " . هذا وقد وصف مؤلف الكتاب الطبيب الخاص انه هو ورئيس المخابرات السوفيتية آنذاك " اندروبوف " حاولا التأثير على بريجنيف ليحملاه على الاقلاع عن تعاطي هذا المخدر فلم يستطيعا وكان يجبرهما ان يُحضرا له الممرضة ومعها المخدّر . وقد منعا الممرضة من الوصول اليه ، الاّ انه أصر مرة ان يأخذه هذا الطبيب الى بيت في غابة ليلتقي بها . حسب وعده معها لأنها مُنعتْ من الاتصال به ويقول الطبيب الخاص لقد اخذته ومعي حارسه الشخصي . وكنا نسير ممسكين بجانبيه من ذراعية لئلا يسقط ، الى أن اوصلناه الى بيت الممرضة فمدّ ذراعه وكأنه خرقة بالية ليصافح الممرضة . وهكذا تلاشت قواه الحسية والعقلية والبدنية .
وهكذا أطاحت المخابرات الامريكية بأقوى دولة في العالم . ولماذا لاتسقط هذه الدولة ما دام حكمها قائماً على ارادة شخص واحد شبه مشلول تلتف حوله كومة من أعضاء اللجنة المركزية التي كان يهمها ان تحقق لنفسها قبل كل شيء المصالح الفردية النفعية حيث لا حساب فهي فوق الحساب ، ومصالحها فوق القانون والمجتمع حتى آلت النتيجة الى سخط وتذمر الشعب والنقمة على سياسة الدولة مما أدى كل ذلك الى استطاعة شخص واحد وهو غورباتشوف ان يهدم صرح هذه الدولة وكأنها لم تكن دولةً ذات كيان وانما بناء كارتوني قائم على دبوس .
هذه الاجراءات المحنكة في الجاسوسية الامريكية اتخذت كل الاساليب للاطاحة بأقوى نظام عالمي يضم مئات الملايين من البشر المسلحين بالعلم والفن والقدرات العسكرية والثقافية فماذا نقول في نظام هش في عراق صغير متخلف تحاربه اقوى سلطة جاسوسية عالمية مسلحة بكل وسائل التكنيك والعلم والكشوف والابحاث .
ومن ذكرياتي عن العراق وقيادة عبد الكريم قاسم في فترة وجيزة ما حدثني به صديقي الدكتور عباس حلمي الحلي . وكان من قبلُ قد درس وتخرج بدرجة دكتوراه من المانيا في اثناء الحرب العالمية الثانية . قال : بعدما تخرجت من الدراسة اشتغلتُ في الجامعة العربية في القاهرة فتعرفت من خلال عملي على شخصيات رسمية كبيرة في الجامعة منها شخصية فيصل عبد العزيز السعود، فكانت لي معه صداقة جيدة . وبعد ذلك اشتغلت في العراق وكيلا لشركة كروب الألمانية . وبعد ثورة 14 تموز 1958 زرتُ الرياض لاشغال تتعلق بالشركة فمررت بصديقي فيصل العبد العزيز السعود في مقر وظيفته وكان رئيساً للوزراء في الرياض آنذاك . فرحب بي وقال لي لقد احضرك الله لي . انها فرصة سعيدة بانك جئت الي بهذه الايام . أين تقيم الآن ؟ فاجبته باني مقيم في فندق سميته له فقال لي انا اليوم مشغول جداً وارجو ان تمر بي هنا غداً صباحاً . ثم امر موظفيه بان ينقلوا شنطتي من هذا الفندق الى فندق خاص آخر على نفقتة الخاصة . وفي اليوم الثاني زرته فرحب كثيراً بي وسألني مهتماً كل الاهتمام بحكومة عبد الكريم قاسم قائلاً : هل ان عبد الكريم قاسم سنّي أم رافضي " أي شيعي " فأجبته : حسبما اعرف فان والد عبد الكريم قاسم مدفون في مقبرة سنّية وعادة الشيعة ان يدفنوا موتاهم في النجف . ولهذا يتضح لي ان عبد الكريم قاسم سنّي . فأجاب رئيس الوزراء فيصل عبد العزيز السعود : " لقد طمأنتني الآن وأرحتني لأننا نريد أن نتخذ موقفاً سياسياً إزاء العراق . لقد كنا في حيرة منها انك أوضحت لي المشكلة فاننا لا نسمح ان تكون للروافض حكومة ولن نتعامل معها . اما الآن فموقفنا واضح منها ولن نعارضها " .
هكذا كانت حكومة عبد الكريم قاسم من كل الجوانب والاطراف الشغل الشاغل للدول ما ابتعد منها وما قرب . وليس ذلك بغريب فحكومة عبد الكريم قاسم حطمت اكبر حلف عسكري في الشرق الاوسط . وكان تحطيم هذا الحلف لصالح الاتحاد السوفيتي وحركات التحرر والدول الاشتراكية . فبينما كانت الولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤها واعوانها وعملاؤها لايدخرون وسعاً او قوةً الا وزجوها للاطاحة بمن أطاح بحلف بغداد ، نرى الأتحاد السوفيتي واقفاً مكتوف الايدي لا يقدّم العون لمن ناصره وسار في ركبه ودافع عنه. كانت سياسة الاتحاد السوفيتي من البداية تعتمد على التهديد الرخيص بالاقوال لا بالافعال بينما الامريكيون يقدّمون كل الدعم مالياً وعسكرياً لانصارهم . عرفنا الاتحاد السوفيتي وموقفه الذي اعتمد فقط على الكلمات التي اصبحت بلا محتوى وذلك في ثورة الكونغو البلجيكية بقيادة لومومبا ، وقد اطاحت المخابرات البلجيكية والأمريكية بحكومته وناصرت جومبي عميلها الذي استطاع السيطرة على الحكم ولم يقدم الاتحاد السوفيتي دعماً ما ليبقى به لومومبا في الحكم ، واكتفى بان يطلق اسم جامعة لدراسة طلبة افريقيا وغيرها باسم لومومبا ، أي أنه دعم معنوي فقط . ورأينا حكومة سوكارتو الوطنية وقد أطاحت بها الجاسوسية الامريكية بمعونة عملائها وحلفائها مثل سوهارتو وقد قدّمت السفارة الامريكية في جاكارتا وجواسيسها اسماء اكثر من خمسمائة الف شيوعي لاعدامهم من قبل سوهارتو فاعدموا ولم ينقدم الاتحاد السوفيتي الذي يدّعي بانه حليف الشعوب والحركات الوطنية أي دعم لانقاذ الشيوعيين في اندونيسيا الذين يقدسون اسم ولفظة سوفييت رغم أهمية وحجم أندونيسيا في أقصى الشرق . فخسرت حركة التحرر الاسيوية والعالمية والاتحاد السوفيتي نفسه اكبر ركيزة للتحرر والاشتراكية في المنطقة . وأطاحت المخابرات الامريكية والبريطانية بحكومة مصدق الوطنية ولم يساعد السوفييت المجاورين لايران حكومة مصدق بشئ للبقاء في الحكم . فمن المعروف ان ثورة مصدق من أعظم الثورات التاريخية ضد الاستعمار البريطاني والامريكي ولضرب مصالح النفط الاستعمارية . لقد أمم مصدق النفط وبقي شهوراً طويلةً محاصراً من جميع الاطراف لا معين له ولا مساعد لبناء اقتصاد بلده . فالامريكيون وغيرهم لا يريدون شراء النفط ولا يسمحون بتصديره ، والدولة السوفيتية المجاورة لايران لا تشتري النفط ، فبقيت ايران بلا مورد مالي وبقي موظفو كثير من وزراتها شهوراً طويلة بلا رواتب . زرتُ ايران لمدة ثلاثة اشهر وكنت آنذاك موظفاً في متصرفية
( محافظة البصرة ) زرتها باجازة مرضية . وكنت في طهران على صلة وثيقة بعراقيين يقطنون طهران من السابق . وكان لي صديق ايراني تاجر اسمه شبستري زاده وهو صديق العالم الكاشاني أحد انصار مصدق .
لقد شاهدت مظاهرة حزب تودة الشيوعي تنادي باسقاط مصدق . وما أزال اتذكر الهتاف بعد ان تعلمت كثيراً من اللغة الفارسية الجميلة وكان من هذه الشعارات " مرك بر مصّدق نوكر حلقه بكَوش امريكائي " أي الموت لمصدّق خادم الامريكان المربوط بحلقة من اذنه " وكنت اتحدث لصديقي التاجر شبستري زاده عما اسمع فقال لي لا تصدّق فكل الف سنة يأتي مصدق واحد ، إن مصدق مخلص وطني عظيم .
كانت الجماهير الشعبية والتجار والبسطاء مع مصدّق ولكن الحزب الشيوعي ( توده) كان ضده الى أقصى حدّ . كنت أزور في تبريز العالم الفاضل ( آية الله ) السيد مرعشي نجفي وكثيراً ما دعاني لتناول طعام الغذاء معه . وكان يزوره رجال دين ايرانيون فيحدثهم مدافعاً عن الاشتراكية قائلاً : " أني على صلة بعلماء الدين في آذربايجان الاشتراكية وكلهم يعيش بارتياح دون حاجة لأن الحكومة السوفيتية وفرّت لهم رواتب بعكس وضعنا نحن العلماء هنا لا نعيش الا على صدقات وهدايا الناس الفقراء أو الاثرياء المتدينين "
لقد أصبح العالم مرعشي نجفي يحمل بعد ذلك وفي اثناء ثورة الامام الخميني لقب آية الله ، أي بدرجة عالية في ذروة القادة الدينييّن . وكانت له مكتبة في قم تضم مليون كتاب وقد توفي رحمه الله قبل عدة سنوات .
هكذا كان حتى رجال الدين متحمسين ومؤيدين لمصدق القائد الوطني الذي جاء بثورة عظيمة ستصبح حصناً يدافع عن الاتحاد السوفيتي البلد المتاخم بالحدود لإيران ، حركة مصدق وطنية تحررية تعود بالنفع على الشعب الإيراني وعلى الحركات التحررية والاتحاد السوفيتي بالذات وبأكثر نفع ونصر ، وهذا ما لاترضاه المخابرات الامريكية العدوة الكبرى للآتحاد السوفيتي . ولكن مع كل ذلك لم يقدم الاتحاد السوفيتي أي دعم لإيران وقائدها مصدق ، لا مساعدة مالية ولا عسكرية ولا شراء لنفطها بل بالعكس كان أنصار السوفييت وهم حزب توده ينادون باسقاط مصدق مؤلبين الشعب عليه . وقد أدوا بذلك كما ادى الاتحاد السوفيتي ذو الموقف المتخاذل السلبي خدمة الجاسوسية الامريكية وعوناً لأكبر أعداء الاشتراكية وحركات التحرر ، أي المعسكر الغربي المتجسد بالولايات المتحدة الامريكية .
كتبت ديرشبيجل مقالة قبل عدة سنوات عن كيفية الإطاحة بمصدّق فأوردت أن المخابرات الأمريكية وبواسطة أعوانها من موظفي ومخابرات شاه إيران بذلت الأموال الطائلة ومنح المكافآت المالية لجميع مومسات طهران وقواديها في مبغى " دروازة قزوين " الذي يشبه مدينة كبيرة تضم آلالاف من البغايا فأخرجت المخابرات الأمريكية بالاغراءات المالية آلافاً من هؤلاء المومسات والقوّادين للشوارع في مظاهرات تنادي باسقاط حكومة مصدق ، وقد اتسع حجم هذه المظاهرات بالتفاف كثير من اللاواعين مؤيدين لها ممن تخدعهم الشعارات ومن الغوغاء الذين يتبعون كل ناعق ، خاصة وان شعارات الحزب الشيوعي توده كانت نفسها تنادي باسقاط مصدق .
وهكذا وحتى بهذا الاسلوب الخبيث القذر اسقطت المخابرات الامريكية وحلفاؤها واعوانها حكومة مصدق الوطنية . وجاءت حكومة زاهدي المناصرة للشاه فنكّلت بالشيوعيين أقسى تنكيل وكما يقول المثل العربي " جنت براقش على نفسها " .
لقد لجأ اعضاء اللجنة المركزية لحزب توده الى المانيا الديمقراطية وكنت على صلة ببعضهم فكانوا يلومون أنفسهم على موقفهم هذا الخاطئ ضد مصدق واعترافاً منهم بما ارتكبوه ضده . ولكن لا نفع للندم بعد ذلك وقد انهدم البناء وسقط البناء .
هذا موقف الامريكيين المناصر بحماس لأعوانهم وعملائهم ومصالحهم بعكس الموقف السوفيتي الذي يخذل وقد خذل بالفعل جميع انصاره واعوانه وخذل حتى مصلحته الوطنية الخاصة . وأمرّ من ذلك ان الاتحاد السوفيتي في اثناء الحرب العالمية الثانية عندما احتل مع حلفائه الغربيين إيران استولى على 12 طناً من الذهب الإيراني وأخذه إلى موسكو . وحين جاءت ثورة مصدق للحكم وقاست أمر الأوضاع الاقتصادية جراء الحصار الأمريكي والبريطاني لها ، لم يقدّم الاتحاد السوفيتي هذه الأطنان من الذهب إلى حكومة مصدق لتتلافى ضائقتها الاقتصادية القاتلة ولم يُعدْ ما نهب إلى مالكه الأصلي ، بل سلم وأعاد تلك الأطنان من الذهب إلى حكومة زاهدي المعادية للاشتراكية والمتحالفة مع الامبريالية الامريكية . فليتصور من له أقل شعور واحساس بالتناقضات العجيبة اللامنطقية التي تكاد تشبه الكذب . لقد أكد لي قصة اطنان الذهب هذه بعض أعضاء اللجنة المركزية لحزب توده في ألمانيا الديمقراطية .
هذا موقف الاتحاد السوفيتي ازاء ثورة مصدق العظيمة ومثالها موقفه من حكومة عبد الكريم قاسم . فعندما اطاح الحكم الدموي البعثي المخابراتي الامريكي بحكم عبد الكريم قاسم الوطني وجرت مذابح ومقابر جماعية راح ضحيتها 15 ألف من الوطنيين وكثير منهم من الشيوعيين الذين يضحون بالارواح من أجل الدفاع عن كلمة " سوفيت " المقدسة عندهم ، أي بعد حمّامات الدم هذه كان الاتحاد السوفيتي أول الدول التي اعترفت بحكومة البعث الدموية سنة 1963متجاهلة كل مواقف وتضحيات حكومة عبد الكريم قاسم ومؤيّده من الشيوعيين وغيرهم.
لقد تحدثت آنذاك في برلين مع السيدة نزيهة الدليمي عضوة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي عن موقف الاتحاد السوفيتي هذا الذي اعترف بالحكم الإرهابي الدموي البعثي ضد مصلحة الحزب الشيوعي وضد حركة التحرر الوطني وضد حكومة قاسم الشريفة فاجابتني راضيةً ان هذه دبلوماسية فأجبتها غاضباً اذن وأين المبادئ الماركسية وهل هناك في سبيل نصرة الحق دبلوماسية لا مبادئ وطنية أو ماركسية ؟ فسكتت وأنا اعرف بصلاتي مع كثير من الشيوعيين انهم يدافعون عن قاتليهم ، يؤلّهون الاتحاد السوفيتي رغم انه يفتك بهم بسلاحه وبنصرته لخصومهم . فلا يمكن أن تنتقد الاتحاد السوفيتي على أخطائه وكثيراً ما يشهَّر بالناقد مسئولون شيوعيون يهددون ويتوعدون بالقتل وإرسال كوماندو لقتل الناقد متهمين إياه بأنه تكلم ضدّ " صديق الشعوب "، أي الاتحاد السوفيتي الذي اصبح يشبه الإله وبهذه المناسبة لا يجوز لي أن أُخفي بعض الحقائق مما شاهدت . فقد زار لايبزج قبل حوالي 12 سنة وفد عراقي للمساهمة بمهرجان الأفلام الوثائقية العلمي وكان ضمن الوفد شاب اعرفه وهو مصور سينمائي وله اطلاعات واسعة بحكم وظيفته في تصوير فعاليات الحرب العراقية الإيرانية وقد أُصيب عدّة مرات بطلقات في جسده في أثناء التصوير في المعارك وتكريماً له أُرسل مع الوفد إلى لايبزج . وقد حدثني ثقةً بي متألماً إن الحكومة العراقية حاصرت آلاف الفارين من الجنود من الحرب في الاهوار الجنوبية وبعد شهور من هذا الحصار والضرب عليهم بالطيارات والمدافع أسرت منهم عشرة آلاف جندي ، فأودعتهم سجن أبي غريب . وفي أحد الأيام جاء موظفو المخابرات فبشروا السجناء هؤلاء بان السيد الرئيس عفا عنهم وفي الصباح الباكر عليهم أن يخرجوا احراراً من السجن فما عليهم هذه الليلة الاّ أن ينظفوا السجون . فاشتغل السجناء ينظفّون السجن وهم يغنّون ويضربون على الصفيح فرحاً بخروجهم من السجن غداً . وفي الصباح التالي اخرجت السلطة العراقية ومخابراتها خمسة آلاف من هؤلاء الجنود المسجونين وسارت بهم خارج بغداد فاطلقت عليهم نيران الرشاشات وقتلتهم دفعة واحدة جميعاً .
وفي اليوم الثاني كررت المخابرات العراقية هذه الجريمة ضد الخمسة آلاف من الجنود المسجونين الباقين فقتلتهم في الصحراء أيضاً .
أي قتلت الحكومة بيومين وبدفعة واحدة عشرة آلاف شخص معارض للحرب ، ولم تتحدث جهة عن ذلك ولا أُذيع خبر عنه ومن أين يذاع خبر وسط الظلام ومن خلف جدران السجن الكبير وما من ناقل يستطيع النفوذ الى الاعماق ، الى الآبار المظلمة التي تعج بجراثيم المخابرات العراقية ووحوشها الضارية . لقد ملأت الاجواء قبل عدة سنوات انباء مقتل أربعة آلاف مواطن فلسطيني في صبرا وشاتيلا في لبنان فتناولتها كل صحافة العالم . ولكن عشرة آلاف تقتلهم المخابرات العراقية في يومين ومامن خبر يذاع أو ينشر عنهم .
لقد أنبأني هذا الصديق المطلع بهذا الخبر الفاجع كما حدثني عن تدفق الاسلحة السوفيتية على الحكومة العراقية . وكل هذه الاسلحة لقتل الابرياء من شيوعيين ومن معارضين للسلطة من جهة ولقتل الشعب الايراني قبل كل شئ من جهة ثانية .
وقد حدثتُ مسؤول الحزب الشيوعي في المانيا الديمقراطية ومعي هذا الشاب الوطني المخلص لنوضح له التفصيلات ، فاحتقن وجه المسؤول الحزبي الشيوعي ضد الشاب العراقي ، مهدداً إياه:
" اني سوف ارسل اليه كوماندو ليقتله . كيف يتكلم ضد الاتحاد السوفيتي صديق الشعوب فاجبته " : ان المخابرات العراقية ترسل كوماندو لقتل الناس وانت الشيوعي تهدد بارسال كوماندو لقتل من يتكلم لصالحكم بالذات . فاجابني اخي انا لا أسمح بأن يطعن شخص بسياسة صديق الشعوب الاتحاد السوفيتي " فهل يُجدى النقاش مع شخص لا يدرك أي معنى للمنطق . أنه يقول هذا الكلام الدكتاتوري بما هو فوق حجمه وهو ما يزال خارج السلطة . فنعود بكل ما هو حق ومعقول من تعسف الجهلة والحمقى وذوي التعصب الاعمى . فمثل هذه المواقف الجاهلة يُبعد بعض الشيوعيين ذوي الحماس التأليهي الاعمى للآتحاد السوفيتي وتقديس أخطائه من كان يواليهم أو يتعاطف معهم . ولكن كما هو معروف ندم كثير من ذوي الحماس الاعمى من الشيوعيين على حماقة حماسهم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي جرّاء سياسته التعسفية الفردية المعادية للديمقراطية والحرية . ولكن هذا الندم جاء بعد فوات الأوان وبعد خراب البصرة وقد جنى الشيوعيون بحماسهم وتقديسهم الأعمى وتضحياتهم الفوضوية الانتحارية لتمجيد كلمة سوفيتي أقسى أنواع العذاب ، أي كما جنت براقش على نفسها وأهلها ، ومن وراء ذلك مأساة كل الشعب .
إن الشعب العراقي الجريح ضحية مؤامرات من المخابرات الأمريكية ومصالحها وعملائها وضحية مواقف الاتحاد السوفيتي المتخاذلة المخادعة والكاذبة التي تكيل الوعود الخلابة الفارغة من كل محتوى عملي ضد أعوانها من مستقلين وشيوعيين وأحرار ، وضحية تخلف من يدعي الحكمة والإخلاص في القيادة التي تؤدي جراء الجهل إلى الوقوع في الهاوية كما نرى الآن . لقد قُتل عبد الكريم قاسم شهيداً للإخلاص والوطنية والإنسانية كما أطيح بحكم مصدق قبل ذلك . وقد حدثني مرافق عبد الكريم قاسم مرة في برلين وهو الضابط حافظ علوان وكان يزورني في داري بان أحد مسئولي البعث وهو محسن الشيخ راضي (1)، جاء إلى عبد الكريم قاسم فأسّره بان قادة البعث حاكت له مؤامرة للإطاحة به وقد عين لها اليوم والساعة الفلانية لتنفيذ المؤامرة . والدافع الذي حدا بمحسن الشيخ راضي لتنبيه عبد الكريم قاسم ليأخذ الاحتياطات والحذر ان هذا الرجل البعثي اطلع بصلاته مع قادته ان المؤامرة تستهدف قتل الشيعة والشيوعيين مع عبد الكريم قاسم وجميع مؤيديه أي ستكون مذبحة دموية واسعة . فما كان من عبد الكريم كما حدثني حافظ علوان مرافقه الشخصي إلاّ أن وجّه خطاباً في الإذاعة والتلفزيون يهدّد المتآمرين قائلاً : " لقد اطلعت على خطط المؤامرة وأني سوف أعاقب كل من خطط لها وينوي تنفيذها " الخ غير ذلك من أقواله فأنتبه المتآمرون وغيروا ساعة الصفر واليوم المزمع تنفيذ الانقلاب فيه ، مؤجلين إياه الى اليوم الذي تم به بعد ذلك إنقلاب 8 شباط . هذا الخطاب كان طبعاً حماقة من عبد الكريم قاسم ، فما من قائد محنك ينبه خصومه ويكشف اسراره لهم قبل ان يطيح بهم . ولعلّ المخدّرات السامة التي زجّها خبراء الجاسوسية الامريكية في مناديل المسح الورقية لعبد الكريم قاسم عن طريق الطبيب العراقي قد أثرت فيه وجعلته يفقد كثيراً من التوازن العقلي ويصاب بالهلوسة والشكوك كما بينت ذلك مجلة ديرشبيجل ، علاوة على المؤامرات التي اثقلت دماغه الى أقصى حد . كما حدثني مرة الكاتب القصصي ذنون ايوب ان الاطاحة بعبد الكريم قاسم كانت تستهدف قتل ثلاثة شينات وهي " شيوعي وشيعي وشروكَي"(2) وطبعا هذه الشينات تضاف اليها عوامل مهمة جداً وهي ابادة كل الشعب العراقي لئلا تقوم به حركة وطنية حماسية مخلصة ضد اسرائيل . وعامل المحافظة على امتيازات النفط ومصالحها للاقتصاد الامريكي والبريطاني ، علاوة على تفتيت كل طموح وهدف للوحدة العربية والتقارب بين الدول والشعوب العربية ، هذا التقارب الذي يضر بمصلحة اسرائيل ويساعد على استقلالية وتحرر الشعوب العربية .
{ عبد الكريم قاسم واسترجاع الكويت }
وتكملة لبحث مواقف وسياسة عبد الكريم قاسم التي أثارت سخط الانجليز والكويتيين عليه على الاسباب التي أوردناها في هذا البحث ، ما أشيع ان عبد الكريم قاسم اراد احتلال الكويت وأمر اللواء السيد حميد الحصونة بأن يزحف على الكويت ويحتلها فامتنع حميد الحصونة (1) عن اداء هذه المهمة . هذا القول أصبح ومايزال شأئعاً لدى الشعب العراقي ولدى كثير من الاوساط السياسية والثقافية والصحافية . اما حقيقة عزم عبد الكريم قاسم على احتلال الكويت واناطة امر هذا الاحتلال باللواء حميد الحصونة وامتناعه عن تنفيذ الامر فمجرد فكرة استغلها خصوم قاسم من جميع اطرافهم لتأليب الاحقاد ضده . وما كان عبد الكريم ليغامر في تنفيذ هذه الفكرة خاصة وان مشاكل العراق التي شغلته الى أقصى واعنف حد تحول دون تحقيق هذه الفكرة . كما ان الانجليز استغلوها لأعادة سيطرتهم على الكوبت بحجة حمايتها من عدوان عبد الكريم قاسم المزعوم . واثباتاً لهذه الحقيقة فقد كانت لي صلة صداقة باللواء الس[ف . م.ك1] يد حميد الحصونة وقد زار برلين حيث اقيم عدة مرات وكنا معاً نسافر الى عدة مدن المانية ونلتقي مرات مستمرة في برلين فسألته وكان معنا الشاعر العراقي كاظم جواد عن صحة امتناعه عن تنفيذ امر عبد الكريم قاسم باحتلال الكويت فاجابني ما يلي :
(( لم تكن هناك خطة من قبل الزعيم عبد الكريم قاسم لاسترجاع الكويت كما انه لا صحة ابداً لما يقال بانه أمرني باسترجاع الكويت وما يقال اني امتنعت عن تنفيذ مهمة الاسترجاع . فلو فرضنا من ناحية المنطق انه اراد فعلاً استرجاع الكويت للعراق أو أنه امرني بذلك فامتنعت لكان من السهل أن يعزلني من منصبي إذ أنه رئيسي الاعلى وهو قائدالقوات المسلحة ومن السهل عليه عند مخالفتي امره ان ينيط امر الاسترجاع بغيري من القادة العسكريين ليقوم بالتنفيذ ، فما أنا إلا ضابط تحت امره وقيادته ، فقضية محاولة استرجع الكويت واناطة مهمة الاسترجاع بي وامتناعي عن الاسترجاع مجرد اكاذيب واشاعات باطلة غرضها الاساءة لعبد الكريم قاسم ولي كذلك واثارة الاحقاد ضد سياسة العراق آنذاك .