هناك أول حصيلة ايجابية لاسقاط نظام القذافي، وهي إعلان انسحاب كل القوات الامريكية من العراق قبل انتهاء عام 2011. فتطابق هذين الحدثين ليس من قبيل الصدف. وتتصف الاطاحة بالقذافي بشعبية فائقة لدى القسم اليساري للمنتخبين الامريكيين وكذلك لدى اليمينيين ايضا. وقد اتاح الانتصار في ليبيا الفرصة للاعلان بهدوء عن انسحاب القوات الامريكية من العراق.
اين الغنائم؟
ينتظرالمرء من المحلل والمراقب السياسي ان يجيب عن السؤال حول ماهي حصيلة كل ذلك؟ ويستحسن توجيه هذا السؤال بعد مرور 30 سنة تقريبا. ولا اتذكر اين سمعت لاول مرة حكمة عربية مفادها:" كان هنا الروم والبيزنطيون والصليبيون والاتراك والبريطانيون. ولم يعد لهم وجود هنا، اما نحن فباقون". وقد اثبتت الحياة حقيقة تلك الحكمة. لكن الامريكيين انتهوا في العراق قبل انسحابهم فعليا من هناك بوقت طويل ،حيث لم يتم تشغيل مبدأ" تأثير الدومينو" كما وعد بذلك المحافظون الجدد، ولم يسقط الطغاة العرب الواحد بعد الآخر، واتضح ان سقوط الطغيان يجري في ساحات المدن وليس في ميادين المعارك.
وطويت بالتدريج حملات ضخمة مثل "الدمقرطة" و"بناء الدولة" وغيرهما من الحملات الكثيرة. وقام الامريكيون بإنشاء بضع محطات كهربائية غالية الثمن هناك. لكنهم لم يهتموا بوصلها بالشبكات الكهربائية. وتم إنشاء المحطات الغالية الخاصة بتنقية المياه دون ان تمد انابيب توصلها بمرافق الماء. ولا يمكن الحفاظ على العمل الفعال لتلك المنشآت في ظروف البنية التحتية الموجودة في العراق.
وقد تم ضخ مليارات الدولارات في جيوب مجمع الصناعات الحربية، الامر الذي لم يؤد الى نمو الاقتصاد الامريكي كما تعهد بذلك العلماء الاقتصاديون وأنصارعقيدة السوق الحرة. وسرعان ما اتضح بعد قليل ان الحرب لن تعوض عن النفقات كما قدم من وعود للشعب الامريكي. وأسفر الفشل في العراق عن هزيمة الحزب الجمهوري في انتخابات عامي 2006 و2008.
ثم اتضح ان الحملة للحصول على النفط لم تتوج ايضا باية نتائج. حيث لم يشعر المستهلك الامريكي في محطة البنزين بورود غنائم عسكرية. وطالبت مجلة "فوربس" المرتبطة بدوائر الاعمال الامريكية في الاسبوع الاول بعد سقوط بغداد طالبت البيت الابيض بالخصخصة الفورية لصناعة النفط العراقية.لكن لم يتمكن الامريكيون من تحقيق حتى هذا الهدف. واستطاع الساسة ورجال النفط العراقيون باغراق كل محاولات الاستحواذ على النفط في الرمال العراقية، وذلك عن طريق ممارسة المماطلات وحيل السوق، الامر الذي يؤكد مرة اخرى ان اسطورة موارد الطاقة بصفتها محركا للسياسة العالمية تصلح للدعاية، لكنها عاجزة عن تفسير ما يحدث من الاحداث والعمليات الواقعية.
انتهاء الموضوع
أمر الرئيس أوباما "كما وعد" بسحب جميع القوات الامريكية من العراق قائلا "ان الحرب العراقية اصبحت في طيات الماضي بعد مرور 9 سنوات من خوضها". وسبب ذلك بحسب قوله هو عجز الجانبين الامريكي والعراقي عن الاتفاق على منح العسكريين الامريكيين الذين يبقون في العراق الحصانة القانونية. وكانت الولايات المتحدة قد وقعت في عهد ادراة بوش مع العراق اتفاقية قياسية تدعى "SOFA" ، وهي اتفاقية تعقدها الولايات المتحدة مع كل الدول التي ترابط فيها القوات الامريكية. وتنتهى فترة سريان مفعول الاتفاقية في 31 ديسمبر/كانون الاول عام 2011. ويبدو ان الجانبين لن يمدداها. ومن الواضح ان هذا الامر هو ذريعة. لكنها ذريعة جيدة. ولم يعد البرلمان العراقي الذي صادق على تلك الاتفاقية لم يعد يرغب في استمرار الوجود العسكري الامريكي.
واتسم رد فعل الجمهوريين على تصرف الرئيس بنوع من الخمول حيث أعلن جون ماكين ان هذا القرار هو قرار سياسي اتخذ خلافا لرأي القادة العسكريين ذوي النفوذ. واتهمت المرشحة للرئاسة الامريكية ميشيل باكمان هي ايضا البيت الابيض بانه يجعل السياسة تسود على أفكار العقلانية العسكرية. وشددت على ضرورة مطالبة العراقيين بان يدفعوا ثمن الحرب وقالت:" كل مرة نقوم باسقاط طاغية نبقي القوات لفترة طويلة". الا ان الاهتمام بالامر بات محدودا الى درجة ان موضوع الانسحاب من العراق اختفي من أنباء وسائل الاعلام في اليوم التالي.
ينسى اغلبية الخيراء العسكريين ان الحروب لا تشن من اجل تحقيق انتصار رمزي بل من اجل تحقيق اهداف سياسية ملموسة. ولا يزال دور الجيش في الولايات المتحدة ينحصر في تنفيذ الاوامر الصادرة عن القيادة السياسية. ولا تزال الحرب هنا تعتبر استمرارا للسياسة باستخدام وسائل اخرى وليس العكس. ومن وجهة نظر الخبراء العسكريين في واشنطن وكبار الضباط كان يمكن البقاء في العراق فترة مهما كانت طويلة واستيعاب الميزانيات والحصول على ترقيات. اما مبررات ذلك فيمكن ايجادها بسهولة. وعلى سبيل المثال هناك ردع ايران التي تصور اليوم في الولايات المتحدة كأنها خصم استراتيجي رئيسي في المنطقة والعالم.
العامل الايراني في العراق
لا يجب كبح جماح ايران بسبب ان الايرانيين قد أتوا منذ زمن الى العراق حيث تباع سلع إيرانية في كل مكان، ويمكن مشاهدة السياح والحجاج الايرانيين في كل مكان. كما يمكن مشاهدة العلم الايراني الذي يرفرف فوق مبنى القنصلية الايرانية من كل ركن في البصرة بجنوب العراق الشيعي.
وهناك دور اكبر تلعبه الاستثمارات الايرانية في صناعة النفط العراقية . ويعد الايرانيون أكثر فاعلية من الامريكيين. وتعتبر أسعارهم أقل بكثير.
وبينت الانتخابات البرلمانية التي جرت في العراق عام 2010 ان القوى الموالية لايران اقوى من القوى الموالية لامريكا. ثمة عامل واحد لا يزال قائما لحد الآن بوسعه إيقاف التوسع الايراني في العراق، وهو ليس القوات الامريكية بل النزعة القومية العراقية من جهة و الغطرسة ونزعة كره العرب في إيران نفسها من جهة اخرى. وكان كل الساسة الحاليين الموالين لإيران مثل رئيس الوزراء العراقي نوري كامل المالكي الذين أمضوا بعض الاوقات في المهجر بإيران كانوا يشعرون بحماقة ايديولوجية وغطرسة قومية تأتي من جانب رعاتهم الايرانيين. اذن فانه حتى الاوساط الشيعية الموالية لايران تدرك جيدا ان تغيير الامريكيين بالايرانيين هو ليس الحل الافضل.
القوات الامريكية ترحل لكن الامريكيين يبقون
رغم كل ذلك فان الامريكيين سيبقون فترة طويلة في العراق حيث يبقى مستشارون ومدربون و شبكة واسعة لعملاء الاستخبارات الامريكية. ويبيع الامريكيون للعراق اسلحة بمبلغ 16 مليار دولار، ويسلمون الجيش العراقي أهدافا عسكرية حيث يبقى عادة عدد كبير من المستشارين العسكريين، علما ان الجيش العراقي بحاجة الى اعادة التدريب لانه انشئ بغية ضمان الامن الداخلي. ولا بد ان يكون جاهزا للدفاع عن سيادة الدولة، الامر الذي يعتبر خدمة تختلف تماما عن اداء مهام أمنية.
وسيقوم الكثير من الامريكيين الآن بتغيير ازيائهم العسكرية بازياء منتسبي وزارة الخارجية وغيرها من الهيئات الحكومية الامريكية. ومن المحتمل ان تبدأ جولة جديدة للنقاش حول السماح بوجود الجيش الامريكي في العراق بشكل مرتزقة وليس عسكريين. لكن حصل الشئ الرئيسي . وتم عبور اصعب مرحلة مؤلمة. ويتم انسحاب القوات والحرب قد انتهت.
http://arabic.rt.com/news_all_news/analytics/68588