لغتنا تاج ذهبي لهويَّتنا
غزاي درع الطائي
كرَّم الرحمن الرحيم أمتنا حين جعلها خير أمة أُخرجت للناس، وكرَّم لغتنا العربية حين أنزل بها القرآن الكريم، وهو التشريف الأعلي لها، نعم لقد اختارها سبحانه وتعالي وأنزل بها ذلك الكتاب الإلهي العظيم، الذي فيه تبيان لكل شيء وهو هدي ورحمة وبشري وشفاء، ولم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، ومن فضل الله تعالي علي أمتنا العربية أن نشر لغتها في مشارق الأرض ومغاربها عبر ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه.
وهنا من حقنا أن نقول: إن اللغة العربية هي خير لغة أُخرت للناس، إنها ليست لغة وحسب بل كون لغوي، ففيها ما ليس في غيرها وهي تتَّسع لما لا يتَّسع له غيرها، ويعمل محبّوها علي ترسيخ فصاحتها عبر استعمال كل ما هو أصيل من الأساليب والتراكيب ونبذ كل ما هو هجين وشاذ.
ويعرف الجميع أن اللغة العربية لها القدرة علي التكيُّف علي وفق متطلبات العصر، وذلك لأنها لغة تفاعلية حضارية إنسانية قادرة علي الإتصال والتواصل والإيصال والربط والترابط، وهي بحق لغة الدين والعلم والسياسة والإجتماع والأدب والشعر والتصوف والفن والمنطق والفلسفة والإقتصاد والزراعة والتجارة والصناعة والقانون والتاريخ والجغرافية، وكل معرفة.
ولقد استطاعت اللغة العربية ـ وهذا ما يشهد عليه تاريخها الفاعل ـ أن تكون متمكنة من تحقيق اتصال مباشر بالواقع، وأن تكون لها القدرة الفائقة علي التعبير عن العواطف والأحاسيس والمشاعر، مع قدرة مشهودة علي استيعاب ما يدلُّ علي الإرتقاء العقلي عبر الإتصال بالمجرَّد والتعبير عنه بإبداع، ولا يستطيع أحد أن ينكر قدرتها علي التعبير بنوعيه الحقيقي والمجازي، وقدرتها علي الإبداع سواء أكان ذلك الإبداع علي مستوي الكناية أو علي مستوي التصريح، فضلا علي التعبير عن المعقولات والمجرَّدات علي حد سواء، وعن الحسِّيّات والعقليّات والمعنويات أيضا،
إنها قادرة علي استيعاب الكليّات والشموليّات والعموميّات مثلما هي قادرة علي استيعاب الجزئيات والخصوصيات والتفصيلات.
ويستطيع العربي الإفصاح الدقيق والتام عن كل ما يريد التصريح أو البوح به باستخدام لغته العربية، وهو لا يحتاج في أثناء كلامه إلي الإستعانة بحركات يديه أو كتفيه أو أي جزء من أجزاء جسمه الأخري من أجل إتمام إفهام المخاطب بمقصوده من الكلام سدا للنقص المفترض الذي يمكن أن تشكو منه لغته، وهذا موضوع جدير بالملاحظة.
وهنا نتوقف لنقول: لا بد لأي متحدث عن اللغة العربية علي مستوي الإطارات العامة أن يضع نصب عينيه الحقائق الآتية:
1.إن اللغة العربية اليوم هي واحدة من اللغات العالمية الرسمية الست المستخدمة في المنظمة العالمية للأمم المتحدة والمنظمات والوكالات الدولية التابعة لها، فهي تقف بثبات إلي جانب اللغات العالمية: الإنكليزية، الفرنسية، الأسبانية، الروسية، والصينية، وهي تحتل التسلسل الخامس بينها، أي أنها تسبق اللغة الصينية، وقد أكدت منظمة الأمم المتحدة أهمية التمسُّك باللغات الرسمية الست في ظل هيمنة اللغة الإنكليزية علي الأعمال اليومية للمنظمة الدولية وتبنَّت الجمعية العمومية قرارا يشدِّد علي الأهمية الكبري للتساوي بين اللغات الرسمية لتلك المنظمة.
2.إنها تحتل اليوم المرتبة السادسة من بين اللغات العالمية الثمان الأكثر تداولا في العالم من حيث عدد الناطقين بها، والتي يستخدمها نصف سكان العالم، فهي تأتي مباشرة بعد اللغات: الصينية، الإنكليزية، الهنديــة (الأوردية)، الأسبانية، الروسية، ومما هو معروف أن اللغة العربية هي اللغة القومية لما يزيد علي الثلاثمائة مليون عربي، وهي لغة العقيدة والفكر والثقافة لأكثر من مليار وربع المليار مسلم في مختلف بقاع الدنيا.
3.إنها تحتل المرتبة الثانية عشرة من بين اللغات الخمسين الأكثر بروزا في مجال الترجمة، كما تحتلُّ المرتبة السابعة والعشرين عالميا من حيث عدد الكتب المترجمة إليها.
4.أنها لغة رسمية في منظمة المؤتمر الإسلامي والإتحاد الإفريقي وصندوق النقد الدولي والإتحاد الدولي لجمعيات المكتبات ومؤسساتها ومنظمة شرطة الجرائم الدولية وتجمُّع دول الساحل والصحراء.
العربية وخصائصها
من يمعن النظر في اللغة العربية وخصائصها اليوم، يجد أنها لغة كاملة تامة بقاموسها ونحوها وصرفها وفقها ودلالتها، وبعلومها البلاغية الثلاثة: المعاني، البيان، والبديع، وببنائها المحكم وبمادَّتها الغزيرة، ويجد أنها لغة تمتلك أكبر معجم لغوي، وأنها تتميز بتنوع الأساليب وبعذوبة النطق ووضوح المخارج وبالعلاقة بين الأوزان العربية للكلمات ومدلولاتها، كما في: اسم الآلة، اسم المكان، اسم الزمان، اسم الهيئة، اسم الفاعل، اسم المفعول، اسم التفضيل، الصفة المشبهة، المصدر، صيغ المبالغة، التصغير، وغيرها من الأوزان.
إن اللغة العربية جزء أساس من شخصية الأمة وسمة لامعة من سماتها، وهي فوق كل ذلك التاج الذهبي لهويَّتنا القومية، إنها لغة يتصل حاضرها بماضيها، وماضيها وحاضرها لا يغلقان الأبواب المفتوحة لها بوجه مستقبلها، وهي لغة موسيقية، وقد جاءت حلاوة موسيقاها من صفتين أساسيتين فيها، هما:
1.الساكن والمتحرك: اللذان يؤكدان بتعاقبهما بتشكيلات متنوعة أنغاما مختلفة، ولا ننسي الحرف المشَّدد وهو عبارة عن حرفين أولهما ساكن وثانيهما متحرك.
2.الحركات الإعرابية (الفتحة والضمة والكسرة والسكون، والتنوين: جرا وضما ونصبا): التي تلوِّن الكلمات بإيقاعات متناغمة وتضيف لها تلوينا موسيقيا جميلا.
ولا يفوتنا أن نذكر أن الحرف وهو أساس كل لغة قد يشكِّل في اللغة العربية مع حركته جملة تامة مفيدة، مثل: (فِ)، أو (قِ)، أو (عِ)، فما أعظمك من لغة أيتها اللغة العربية.
إننا فيما لو مضينا بعيدا في سبر أغوار اللغة العربية لوجدنا أن لها الخصائص الآتية:
ـ امتلاكها خصائص علي درجة فائقة من الأهمية مثل: التعريب (وهو استعارة لفظ من لغة أخري، مثل: السندس، الإبريق، الزنجبيل.. الخ)، والتوليد (وهو إعطاء لفظ عربي معني مختلفا عما كان العرب يعرفونه، مثل: الجريدة، السيارة، الصلاة.. الخ)، والنحت (وهو انتزاع كلمة جديدة من كلمتين أو أكثر، مثل: البسملة، وهي بسم الله الرحمن الرحيم، والحوقلة، وهي لا حول ولا قوة إلا بالله)، والتضاد (وهو إطلاق اللفظ علي المعني ونقيضه، مثل: الأزر، وهو الضَّعف والقوة، والسبل، وهو الحرام والحلال.. الخ)، والترادف (وهو ما اختلف لفظه واتَّفق معناه، أو هو أن يدلَّ أكثر من لفظ علي معني واحد، مثل: الحرير والدمقس والإستبرق، واليم والبحر، البئر والجب.. الخ)، والمشتـرك (وهو أن يكون للفظ الواحد أكثر من معني، مثل العين التي تعني: عضو الإبصار، وعين الماء، والعين من الناس هي أعيانهم أي وجهاؤهم، والعين: الإصابة بالحسد)، إضافة إلي إمكانية تلخيص أصوات الطبيعة وانتقال المفردة من المحسوس إلي المجرد.
ـ لها القدرة علي اقتناص أفصح المعاني وأقدرها تعبيرا عن خلجات النفس الإنسانية بسبب وفرة الألفاظ التي تفتح المجال واسعا أمام الكاتب والقائل لاختيار ما يريد من بين اختيارات متعددة، إنها من أغزر اللغات في المادة اللغوية.
ـ إنها حيوية ومتجددة وتمتاز بالغني، ولها القدرة علي استقبال ما هو جديد واستيعابه، وتتميز بالقدرة علي توليد الألفاظ، وهي قادرة علي الإستجابة لمتطلبات جميع المضامين والأغراض دون عوائق، وفيها من السعة في مجالات الإستعارة والتمثيل والقلب ما هو غير موجود في أي لغة أخري.
ـ إنها لغة اشتقاقية، تتوالد فيها الكلمات بعضها من بعض، والعرب كما هو معروف تشتق الكلام بعضه من بعض، فتأتي الكلمات العربية أصيلة بعيدة كل البعد عن كل ما هو دخيل، ولقد عزَّزت الصفة الإشتقاقية هذه معرفة العرب بما هو دخيل وليس أصيلا وبما هو غريب وليس صحيحا، واللغة العربية تمتلك من (الجذور) ما يربو علي السبعة آلاف جذر، وتمتلك من (الأوزان) ما يربو علي الأربعمائة وزن، ولها الكثير مــن (السوابق) أي ما يسبق الكلمة الأصلية، والكثير من (اللواحق) أي ما يلحق الكلمة الأصلية، وهناك خاصِّيَّة مهمة جدا وهي أن جميع مشتقات اللغة العربية ـ إلا فيما ندر ـ قابلة للتصريف، وهذا ما يجعل منها لغة مطواعة ومرنة.
ـ إنها لغة نامية لا نائمة، ومتحركة لا جامدة، وحيَّة لا ميِّتة.
ـ إنها لغة مركَّبة، ففيها المفرد والمثني والجمع، وفيها المذكَّر والمؤنث، وفيها المتكلم والمخاطب والغائب، وفيها النكرة والمعرفة.
ـ يمكن للجملة العربية أن تأخذ أساليب بلاغية مختلفة علي وفق الحاجة، ونقصد بالأساليب البلاغية هنا: أساليب التمني والأمر والنهي والإستفهام والنداء.. الخ، ويمكن للجملة العربية أن يكون فيها: فصل ووصل، وتقديم وتأخير، وتمثيل، وقلب، وقصر، وإيجاز، وإطناب، ومساواة.
ـ يجري تقسيم الحروف العربية إلي قسمين هما:
1.الصوائت: وهي الحركات الإعرابية وأحرف المد الثلاثة (الألف والواو والياء)، ولا يعترض الهواء في نطق الصوائت حبس أو تضييق.
2.الصوامت: وتشمل جميع الحروف عدا الصوائت، ولا يعترض الهواء في نطق الصوامت حبس أو تضييق.
في الخصائص الصوتية للغة العربية
تمتلك اللغة العربية مدرَّجا صوتيا يتَّصف بالسَّعة والشُّموليَّة، وذلك بفضل امتداد مخارج حروفها علي حزمة صوتية عريضة تمتاز بالتنوُّع والتدرُّج، تبدأ بأقصي الحلق وتنتهي بالشفتين، وقد وجد علماء اللغة العربية أن عدد مخارج الحروف العربية يبلغ (16) مخرجا، ابتداءً بالهمزة والهاء والألف التي تخرج من أقصي الحلق وانتهاءً بالنون الخفيَّة أو الخفيفة التي تخرج من الخياشيم.
ولو انتقلنا من أجل تناول صفات الحروف العربية، لوجدنا أن تلك الحروف لا تأخذ صفة واحدة بل تتعدَّد صفاتها وتتنوَّع، ولو فصَّلنا القول في تلك الصفات لوجدنا أنها تنقسم إلي قسمين، أما القسم الأول فيشمل الصفات المتضادَّة، وأما القسم الثاني فيشمل الحروف ذوات الصفة المفردة التي لا ضدَّ لها، أما الصفات المتضادَّة فهي: الجهر والهمس، الشدَّة والرخاوة، الإطباق والإنفتاح، الإستعلاء والإستفال، والذلاقة والإصمات، أما القسم الثاني فيشمل: حروف القلقلة والصفير والتفشّي والإنجراف والغُنَّة والتكرار والخفاء.
وهذا التنوُّع والإختلاف في صفات الحروف ومخارجها دفع العرب إلي مراعاة ذلك عند اجتماع الحروف في كلمة واحدة، وفرضوا علي اجتماع الحروف في كلمة واحدة أن يؤدي إلي الإنسجام الصوتي والتآلف النغمي بين تلك الحروف، وان يكون توزيع الحروف وترتيبها بطريقة تأخذ بنظر الإعتبار صفات تلك الحروف ومخارجها بما يجعلها منسجمة ومتوازنة لا متنافرة ومتعارضة.
وتمتاز اللغة العربية بأبنيتها، وهي القوالب التي تهدف إلي تصنيف المعاني وربط المتشابه منها برباط واحد، وتمتاز بانها ذات أوزان موسيقية، وكل بناء من تلك الأبنية له نغمته الموسيقية الخاصة، ومن تلك الأبنية: الفاعلية، المفعولية، المكانية، الزمانية، السببية، الأصوات، الحرفة، التفضيل، المشاركة.. الخ.
ونشير هنا إلي أن تاريخ الدراسات الصوتية في اللغة العربية يرجع إلي الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 275 هـ) الذي وضع الأساس الأول لعلم الأصوات في العربية، وذلك في مقدمة معجمه المعروف (العين)، وقد قدَّم الفراهيدي في تلك المقدمة أول ترتيب صوتي للحروف العربية، راسما الطريقة التي يمكن بها معرفة مخرج الصوت، ونذكر هنا أربعة من الكتب التراثية البارزة في مجال فقه اللغة العربية لأهميتها العالية، وهي: الخصائص لابن جني (ت 392 هـ)، الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها لابن فارس (ت 395هـ)، وفقه اللغة وسر العربية لأبي منصور الثعالبي (ت 429 هـ)، والمُزهر في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي (ت 911 هـ).
ولا بدَّ ونحن نتحدث عن الخصائص الصوتية للغة العربية من الإشارة إلي أهمية علم التجويد في هذا الجانب، فهو من أهم المصادر في موضوع التراث الصوتي، ولقد ضمَّت مؤلفات علماء القراءت ما هو قيِّم من المباحث الصوتية كما جاءت تلك المؤلفات حافلة بالمصطلحات الصوتية مثل: الإشمام، الإشباع، الإختلاس، المد، التفخيم، الترقيق، وغيرها.
في الترادف
الترادف الذي تتميَّز به اللغة العربية يشي بأنها من أكثر اللغات العالمية سعة، ولقد أفاد الشعراء العرب منذ القدم من هذه الخاصيَّة في كتابة أشعارهم، فالترادف فتح أبواب اختيار الكلمات علي مصاريعها أمامهم، وهكذا لم تشكِّل البحور الشعرية بتفاعيلها التي تستوجب الإلتزام الشديد حاجزا أمام إبداعاتهم، بسبب وفرة المفردات التي تستطيع أن تعبِّر عن الشيء ذاته، فكانت إمكانية اختيار الكلمات التي تنسجم مع التفاعيل وزحافاتها وعللها متاحة أمام الشعراء علي نحو واسع، والشيء نفسه يمكن أن يُقال عن اختيار الكلمات التي تتطلبها القوافي، فإذا كان حرف الروي في قافية القصيدة هو (الفاء) مثلا استخدم الشاعر كلمة(السيف)، وإذا كان (الراء) استخدم كلمة (البتّّار)، أما إذا كان (الميم) فبإمكانه استخدام كلمة (الصارم) أو كلمة (الصمصام).. وهكذا، ومن طريف ما يُذكر في باب الترادف أن (واصل بن عطاء) كان يلثغ بحرف الراء، وبسبب عمق معرفته باللغة العربية وسعة الثروة المعجمية التي يمتلكها منها كان يقوم بإلقاء خطب طويلة ليس فيها كلها حرف راء واحد، مستفيدا من ظاهرة الترادف في اللغة العربية علي خير ما تكون الإستفادة، وقد ذكر الجاحظ (ت 255 هـ) ما كان يعانيه (واصل بن عطاء) وذلك في كتابه (البيان والتبيين) فقال عنه إنه (رام إسقاط الراء من كلامه وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه ويناضله ويساجله ويتأتّي لسَتره والراحة من هُجنته، حتي انتظم له ما حاول واتَّسق له ما أمَّل)، وذكر بيتين قالهما شاعر في (واصل بن عطاء)، والبيتان هما:
ويجعلُ البُرَّ قمحـاً في تصرُّفِهِ
وجانبَ الرّاءَ حتي احتالَ للشَّعَرِ
ولم يُطِقْ مطراً والقـولُ يُعجلُهُ
فعاذَ بالغيثِ إشفاقاً مِنَ المطَرِ
أي أنه يستخدم كلمة (القمح) بديلا عن كلمة (البُر) وكلمة (الغيث) بديلا عن كلمة (المطر) تجنبا للراء.
العربية... ألف تحية
تحية بل ألف تحية لك أيتها اللغة العربية، أيتها الطيبة المباركة، سواء أكنت مقروءة أم مسموعة، وسواء أكنت مكتوبة في كتاب أم جريدة أم مجلة أم علي شاشة، وسواء أكنت مطبوعة أم مخطوطة، مباركة أنت فينا وفي العالمين.
غزاي درع الطائي
كرَّم الرحمن الرحيم أمتنا حين جعلها خير أمة أُخرجت للناس، وكرَّم لغتنا العربية حين أنزل بها القرآن الكريم، وهو التشريف الأعلي لها، نعم لقد اختارها سبحانه وتعالي وأنزل بها ذلك الكتاب الإلهي العظيم، الذي فيه تبيان لكل شيء وهو هدي ورحمة وبشري وشفاء، ولم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، ومن فضل الله تعالي علي أمتنا العربية أن نشر لغتها في مشارق الأرض ومغاربها عبر ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه.
وهنا من حقنا أن نقول: إن اللغة العربية هي خير لغة أُخرت للناس، إنها ليست لغة وحسب بل كون لغوي، ففيها ما ليس في غيرها وهي تتَّسع لما لا يتَّسع له غيرها، ويعمل محبّوها علي ترسيخ فصاحتها عبر استعمال كل ما هو أصيل من الأساليب والتراكيب ونبذ كل ما هو هجين وشاذ.
ويعرف الجميع أن اللغة العربية لها القدرة علي التكيُّف علي وفق متطلبات العصر، وذلك لأنها لغة تفاعلية حضارية إنسانية قادرة علي الإتصال والتواصل والإيصال والربط والترابط، وهي بحق لغة الدين والعلم والسياسة والإجتماع والأدب والشعر والتصوف والفن والمنطق والفلسفة والإقتصاد والزراعة والتجارة والصناعة والقانون والتاريخ والجغرافية، وكل معرفة.
ولقد استطاعت اللغة العربية ـ وهذا ما يشهد عليه تاريخها الفاعل ـ أن تكون متمكنة من تحقيق اتصال مباشر بالواقع، وأن تكون لها القدرة الفائقة علي التعبير عن العواطف والأحاسيس والمشاعر، مع قدرة مشهودة علي استيعاب ما يدلُّ علي الإرتقاء العقلي عبر الإتصال بالمجرَّد والتعبير عنه بإبداع، ولا يستطيع أحد أن ينكر قدرتها علي التعبير بنوعيه الحقيقي والمجازي، وقدرتها علي الإبداع سواء أكان ذلك الإبداع علي مستوي الكناية أو علي مستوي التصريح، فضلا علي التعبير عن المعقولات والمجرَّدات علي حد سواء، وعن الحسِّيّات والعقليّات والمعنويات أيضا،
إنها قادرة علي استيعاب الكليّات والشموليّات والعموميّات مثلما هي قادرة علي استيعاب الجزئيات والخصوصيات والتفصيلات.
ويستطيع العربي الإفصاح الدقيق والتام عن كل ما يريد التصريح أو البوح به باستخدام لغته العربية، وهو لا يحتاج في أثناء كلامه إلي الإستعانة بحركات يديه أو كتفيه أو أي جزء من أجزاء جسمه الأخري من أجل إتمام إفهام المخاطب بمقصوده من الكلام سدا للنقص المفترض الذي يمكن أن تشكو منه لغته، وهذا موضوع جدير بالملاحظة.
وهنا نتوقف لنقول: لا بد لأي متحدث عن اللغة العربية علي مستوي الإطارات العامة أن يضع نصب عينيه الحقائق الآتية:
1.إن اللغة العربية اليوم هي واحدة من اللغات العالمية الرسمية الست المستخدمة في المنظمة العالمية للأمم المتحدة والمنظمات والوكالات الدولية التابعة لها، فهي تقف بثبات إلي جانب اللغات العالمية: الإنكليزية، الفرنسية، الأسبانية، الروسية، والصينية، وهي تحتل التسلسل الخامس بينها، أي أنها تسبق اللغة الصينية، وقد أكدت منظمة الأمم المتحدة أهمية التمسُّك باللغات الرسمية الست في ظل هيمنة اللغة الإنكليزية علي الأعمال اليومية للمنظمة الدولية وتبنَّت الجمعية العمومية قرارا يشدِّد علي الأهمية الكبري للتساوي بين اللغات الرسمية لتلك المنظمة.
2.إنها تحتل اليوم المرتبة السادسة من بين اللغات العالمية الثمان الأكثر تداولا في العالم من حيث عدد الناطقين بها، والتي يستخدمها نصف سكان العالم، فهي تأتي مباشرة بعد اللغات: الصينية، الإنكليزية، الهنديــة (الأوردية)، الأسبانية، الروسية، ومما هو معروف أن اللغة العربية هي اللغة القومية لما يزيد علي الثلاثمائة مليون عربي، وهي لغة العقيدة والفكر والثقافة لأكثر من مليار وربع المليار مسلم في مختلف بقاع الدنيا.
3.إنها تحتل المرتبة الثانية عشرة من بين اللغات الخمسين الأكثر بروزا في مجال الترجمة، كما تحتلُّ المرتبة السابعة والعشرين عالميا من حيث عدد الكتب المترجمة إليها.
4.أنها لغة رسمية في منظمة المؤتمر الإسلامي والإتحاد الإفريقي وصندوق النقد الدولي والإتحاد الدولي لجمعيات المكتبات ومؤسساتها ومنظمة شرطة الجرائم الدولية وتجمُّع دول الساحل والصحراء.
العربية وخصائصها
من يمعن النظر في اللغة العربية وخصائصها اليوم، يجد أنها لغة كاملة تامة بقاموسها ونحوها وصرفها وفقها ودلالتها، وبعلومها البلاغية الثلاثة: المعاني، البيان، والبديع، وببنائها المحكم وبمادَّتها الغزيرة، ويجد أنها لغة تمتلك أكبر معجم لغوي، وأنها تتميز بتنوع الأساليب وبعذوبة النطق ووضوح المخارج وبالعلاقة بين الأوزان العربية للكلمات ومدلولاتها، كما في: اسم الآلة، اسم المكان، اسم الزمان، اسم الهيئة، اسم الفاعل، اسم المفعول، اسم التفضيل، الصفة المشبهة، المصدر، صيغ المبالغة، التصغير، وغيرها من الأوزان.
إن اللغة العربية جزء أساس من شخصية الأمة وسمة لامعة من سماتها، وهي فوق كل ذلك التاج الذهبي لهويَّتنا القومية، إنها لغة يتصل حاضرها بماضيها، وماضيها وحاضرها لا يغلقان الأبواب المفتوحة لها بوجه مستقبلها، وهي لغة موسيقية، وقد جاءت حلاوة موسيقاها من صفتين أساسيتين فيها، هما:
1.الساكن والمتحرك: اللذان يؤكدان بتعاقبهما بتشكيلات متنوعة أنغاما مختلفة، ولا ننسي الحرف المشَّدد وهو عبارة عن حرفين أولهما ساكن وثانيهما متحرك.
2.الحركات الإعرابية (الفتحة والضمة والكسرة والسكون، والتنوين: جرا وضما ونصبا): التي تلوِّن الكلمات بإيقاعات متناغمة وتضيف لها تلوينا موسيقيا جميلا.
ولا يفوتنا أن نذكر أن الحرف وهو أساس كل لغة قد يشكِّل في اللغة العربية مع حركته جملة تامة مفيدة، مثل: (فِ)، أو (قِ)، أو (عِ)، فما أعظمك من لغة أيتها اللغة العربية.
إننا فيما لو مضينا بعيدا في سبر أغوار اللغة العربية لوجدنا أن لها الخصائص الآتية:
ـ امتلاكها خصائص علي درجة فائقة من الأهمية مثل: التعريب (وهو استعارة لفظ من لغة أخري، مثل: السندس، الإبريق، الزنجبيل.. الخ)، والتوليد (وهو إعطاء لفظ عربي معني مختلفا عما كان العرب يعرفونه، مثل: الجريدة، السيارة، الصلاة.. الخ)، والنحت (وهو انتزاع كلمة جديدة من كلمتين أو أكثر، مثل: البسملة، وهي بسم الله الرحمن الرحيم، والحوقلة، وهي لا حول ولا قوة إلا بالله)، والتضاد (وهو إطلاق اللفظ علي المعني ونقيضه، مثل: الأزر، وهو الضَّعف والقوة، والسبل، وهو الحرام والحلال.. الخ)، والترادف (وهو ما اختلف لفظه واتَّفق معناه، أو هو أن يدلَّ أكثر من لفظ علي معني واحد، مثل: الحرير والدمقس والإستبرق، واليم والبحر، البئر والجب.. الخ)، والمشتـرك (وهو أن يكون للفظ الواحد أكثر من معني، مثل العين التي تعني: عضو الإبصار، وعين الماء، والعين من الناس هي أعيانهم أي وجهاؤهم، والعين: الإصابة بالحسد)، إضافة إلي إمكانية تلخيص أصوات الطبيعة وانتقال المفردة من المحسوس إلي المجرد.
ـ لها القدرة علي اقتناص أفصح المعاني وأقدرها تعبيرا عن خلجات النفس الإنسانية بسبب وفرة الألفاظ التي تفتح المجال واسعا أمام الكاتب والقائل لاختيار ما يريد من بين اختيارات متعددة، إنها من أغزر اللغات في المادة اللغوية.
ـ إنها حيوية ومتجددة وتمتاز بالغني، ولها القدرة علي استقبال ما هو جديد واستيعابه، وتتميز بالقدرة علي توليد الألفاظ، وهي قادرة علي الإستجابة لمتطلبات جميع المضامين والأغراض دون عوائق، وفيها من السعة في مجالات الإستعارة والتمثيل والقلب ما هو غير موجود في أي لغة أخري.
ـ إنها لغة اشتقاقية، تتوالد فيها الكلمات بعضها من بعض، والعرب كما هو معروف تشتق الكلام بعضه من بعض، فتأتي الكلمات العربية أصيلة بعيدة كل البعد عن كل ما هو دخيل، ولقد عزَّزت الصفة الإشتقاقية هذه معرفة العرب بما هو دخيل وليس أصيلا وبما هو غريب وليس صحيحا، واللغة العربية تمتلك من (الجذور) ما يربو علي السبعة آلاف جذر، وتمتلك من (الأوزان) ما يربو علي الأربعمائة وزن، ولها الكثير مــن (السوابق) أي ما يسبق الكلمة الأصلية، والكثير من (اللواحق) أي ما يلحق الكلمة الأصلية، وهناك خاصِّيَّة مهمة جدا وهي أن جميع مشتقات اللغة العربية ـ إلا فيما ندر ـ قابلة للتصريف، وهذا ما يجعل منها لغة مطواعة ومرنة.
ـ إنها لغة نامية لا نائمة، ومتحركة لا جامدة، وحيَّة لا ميِّتة.
ـ إنها لغة مركَّبة، ففيها المفرد والمثني والجمع، وفيها المذكَّر والمؤنث، وفيها المتكلم والمخاطب والغائب، وفيها النكرة والمعرفة.
ـ يمكن للجملة العربية أن تأخذ أساليب بلاغية مختلفة علي وفق الحاجة، ونقصد بالأساليب البلاغية هنا: أساليب التمني والأمر والنهي والإستفهام والنداء.. الخ، ويمكن للجملة العربية أن يكون فيها: فصل ووصل، وتقديم وتأخير، وتمثيل، وقلب، وقصر، وإيجاز، وإطناب، ومساواة.
ـ يجري تقسيم الحروف العربية إلي قسمين هما:
1.الصوائت: وهي الحركات الإعرابية وأحرف المد الثلاثة (الألف والواو والياء)، ولا يعترض الهواء في نطق الصوائت حبس أو تضييق.
2.الصوامت: وتشمل جميع الحروف عدا الصوائت، ولا يعترض الهواء في نطق الصوامت حبس أو تضييق.
في الخصائص الصوتية للغة العربية
تمتلك اللغة العربية مدرَّجا صوتيا يتَّصف بالسَّعة والشُّموليَّة، وذلك بفضل امتداد مخارج حروفها علي حزمة صوتية عريضة تمتاز بالتنوُّع والتدرُّج، تبدأ بأقصي الحلق وتنتهي بالشفتين، وقد وجد علماء اللغة العربية أن عدد مخارج الحروف العربية يبلغ (16) مخرجا، ابتداءً بالهمزة والهاء والألف التي تخرج من أقصي الحلق وانتهاءً بالنون الخفيَّة أو الخفيفة التي تخرج من الخياشيم.
ولو انتقلنا من أجل تناول صفات الحروف العربية، لوجدنا أن تلك الحروف لا تأخذ صفة واحدة بل تتعدَّد صفاتها وتتنوَّع، ولو فصَّلنا القول في تلك الصفات لوجدنا أنها تنقسم إلي قسمين، أما القسم الأول فيشمل الصفات المتضادَّة، وأما القسم الثاني فيشمل الحروف ذوات الصفة المفردة التي لا ضدَّ لها، أما الصفات المتضادَّة فهي: الجهر والهمس، الشدَّة والرخاوة، الإطباق والإنفتاح، الإستعلاء والإستفال، والذلاقة والإصمات، أما القسم الثاني فيشمل: حروف القلقلة والصفير والتفشّي والإنجراف والغُنَّة والتكرار والخفاء.
وهذا التنوُّع والإختلاف في صفات الحروف ومخارجها دفع العرب إلي مراعاة ذلك عند اجتماع الحروف في كلمة واحدة، وفرضوا علي اجتماع الحروف في كلمة واحدة أن يؤدي إلي الإنسجام الصوتي والتآلف النغمي بين تلك الحروف، وان يكون توزيع الحروف وترتيبها بطريقة تأخذ بنظر الإعتبار صفات تلك الحروف ومخارجها بما يجعلها منسجمة ومتوازنة لا متنافرة ومتعارضة.
وتمتاز اللغة العربية بأبنيتها، وهي القوالب التي تهدف إلي تصنيف المعاني وربط المتشابه منها برباط واحد، وتمتاز بانها ذات أوزان موسيقية، وكل بناء من تلك الأبنية له نغمته الموسيقية الخاصة، ومن تلك الأبنية: الفاعلية، المفعولية، المكانية، الزمانية، السببية، الأصوات، الحرفة، التفضيل، المشاركة.. الخ.
ونشير هنا إلي أن تاريخ الدراسات الصوتية في اللغة العربية يرجع إلي الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 275 هـ) الذي وضع الأساس الأول لعلم الأصوات في العربية، وذلك في مقدمة معجمه المعروف (العين)، وقد قدَّم الفراهيدي في تلك المقدمة أول ترتيب صوتي للحروف العربية، راسما الطريقة التي يمكن بها معرفة مخرج الصوت، ونذكر هنا أربعة من الكتب التراثية البارزة في مجال فقه اللغة العربية لأهميتها العالية، وهي: الخصائص لابن جني (ت 392 هـ)، الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها لابن فارس (ت 395هـ)، وفقه اللغة وسر العربية لأبي منصور الثعالبي (ت 429 هـ)، والمُزهر في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي (ت 911 هـ).
ولا بدَّ ونحن نتحدث عن الخصائص الصوتية للغة العربية من الإشارة إلي أهمية علم التجويد في هذا الجانب، فهو من أهم المصادر في موضوع التراث الصوتي، ولقد ضمَّت مؤلفات علماء القراءت ما هو قيِّم من المباحث الصوتية كما جاءت تلك المؤلفات حافلة بالمصطلحات الصوتية مثل: الإشمام، الإشباع، الإختلاس، المد، التفخيم، الترقيق، وغيرها.
في الترادف
الترادف الذي تتميَّز به اللغة العربية يشي بأنها من أكثر اللغات العالمية سعة، ولقد أفاد الشعراء العرب منذ القدم من هذه الخاصيَّة في كتابة أشعارهم، فالترادف فتح أبواب اختيار الكلمات علي مصاريعها أمامهم، وهكذا لم تشكِّل البحور الشعرية بتفاعيلها التي تستوجب الإلتزام الشديد حاجزا أمام إبداعاتهم، بسبب وفرة المفردات التي تستطيع أن تعبِّر عن الشيء ذاته، فكانت إمكانية اختيار الكلمات التي تنسجم مع التفاعيل وزحافاتها وعللها متاحة أمام الشعراء علي نحو واسع، والشيء نفسه يمكن أن يُقال عن اختيار الكلمات التي تتطلبها القوافي، فإذا كان حرف الروي في قافية القصيدة هو (الفاء) مثلا استخدم الشاعر كلمة(السيف)، وإذا كان (الراء) استخدم كلمة (البتّّار)، أما إذا كان (الميم) فبإمكانه استخدام كلمة (الصارم) أو كلمة (الصمصام).. وهكذا، ومن طريف ما يُذكر في باب الترادف أن (واصل بن عطاء) كان يلثغ بحرف الراء، وبسبب عمق معرفته باللغة العربية وسعة الثروة المعجمية التي يمتلكها منها كان يقوم بإلقاء خطب طويلة ليس فيها كلها حرف راء واحد، مستفيدا من ظاهرة الترادف في اللغة العربية علي خير ما تكون الإستفادة، وقد ذكر الجاحظ (ت 255 هـ) ما كان يعانيه (واصل بن عطاء) وذلك في كتابه (البيان والتبيين) فقال عنه إنه (رام إسقاط الراء من كلامه وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه ويناضله ويساجله ويتأتّي لسَتره والراحة من هُجنته، حتي انتظم له ما حاول واتَّسق له ما أمَّل)، وذكر بيتين قالهما شاعر في (واصل بن عطاء)، والبيتان هما:
ويجعلُ البُرَّ قمحـاً في تصرُّفِهِ
وجانبَ الرّاءَ حتي احتالَ للشَّعَرِ
ولم يُطِقْ مطراً والقـولُ يُعجلُهُ
فعاذَ بالغيثِ إشفاقاً مِنَ المطَرِ
أي أنه يستخدم كلمة (القمح) بديلا عن كلمة (البُر) وكلمة (الغيث) بديلا عن كلمة (المطر) تجنبا للراء.
العربية... ألف تحية
تحية بل ألف تحية لك أيتها اللغة العربية، أيتها الطيبة المباركة، سواء أكنت مقروءة أم مسموعة، وسواء أكنت مكتوبة في كتاب أم جريدة أم مجلة أم علي شاشة، وسواء أكنت مطبوعة أم مخطوطة، مباركة أنت فينا وفي العالمين.
جريدة (الزمان) الدولية - العدد 3601 - التاريخ 24/5/2010