د. أحمد عبد الدايم محمد حسين
تقدمت الدراسات والاتجاهات التاريخية في الغرب تقدماً مذهلاً، ونتج عن هذا التقدم أن تعددت زوايا النظر في حركة التاريخ، ومن ثم تعددت نظرياته ومدارسه التفسيرية والتأويلية، ناهيك عن التطور الذى حدث في قراءة التاريخ وكتابته ومناهجه وأدواته البحثية، غير أننا في العالم العربي لا زلنا بعيدين عن متابعة وملاحقة هذا التقدم الحادث في الدراسات الغربية، لأننا حينما ننجذب لاتجاه تاريخي معين، نظل لمدة كبيرة نركض خلف هذا الاتجاه، وننسى الاتجاهات الجديدة، المتزايدة والمتلاحقة، ربما لأننا نستنزف جهودنا لسنوات طويلة لإقناع جماهير القراء ونخبة المؤرخين في ضرورة تبنى هذا الاتجاه أو رفضه، وفى ظل هذا الصراع الداخلي المحتدم، يكون العالم، في نظرته للماضي، قد قطع أشواطاً كبيرة في تقديم رؤى وأفكار جديدة.
ولما كان القيل والقال، كمصطلح، له مرادفات كثيرة؛ فهو يأتي بمعنى النميمة وترويج الأخبار والإشاعات، ويأتي بمعنى الغمز واللمز، ويعنى اللغو والثرثرة حول شؤون الآخرين، ويعنى نشر الأوساخ والفضائح والأباطيل بهدف التضليل، وترويج نوع معين من الحديث غالبيته شائعات ولغو، فإن هذا الاستخدام المرن لمصطلح القيل والقال قد فتح لدى المؤرخين الغربيين مجموعة متنوعة من التفسيرات، جعلتهم يعيدون النظر في بناء المعرفة التاريخية، ويعيدون قراءة كثير من المسلمات التاريخية التي كانت سائدة من قبل.
ولعل ما دفعني لكتابة هذ المقال عن هذا الاتجاه الجديد ستة أسباب رئيسية:
أولها، أن التقدم الحادث في دراسات القيل والقال تكشف لنا مدى استفادة الغرب من تلك الدراسات، ومدى تحكمه في الأحداث العالمية الجارية، وتكشف مدى قدرته على توظيف تلك الدراسات في خلق حالة انقسام وتنافر داخل العوالم التي يديرها.
ثانيها، أن دراسة القيل والقال تكشف لنا الأهداف والأجندات الخفية للغرب من وراء تصدير القيل والقال لعالمنا العربي، لشغله بقضايا خلافية تزيد من عملية التفتيت والانقسامات بين أواصر الأمة، بما يساعد في بقاء عالمنا العربي تابعاً.
ثالثها، محاولة لفهم هذه المباراة الخفية التي تدور تحت السطح داخل الغرب بمفهومه الثقافي والفكري، فالصراع بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية في إنتاج النظريات، يشير إلى تلك الحرب الخفية الدائرة بين الفريقين للسيطرة على العالم، فالصراع بين نظرية البنيوية ونظرية ما بعد البنيوية، وبين نظرية المركزية وما بعد المركزية، وبين نظرية الحداثة وما بعد الحداثة، وبين الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، وبين التركيبية والتفكيكية، يعد خير دليل على هذا الصراع الخفي الذى يدور بين الفريقين، رغم أن بقية العالم ينظر اليهما على أنهما كيان واحد يظهر تحت مسمى " الغرب". وأن عدم مشاركتنا في تلك المعارك المحتدمة حول اكتشاف أساليب جديدة لدراسة التاريخ، يجعلنا لا نستكشف تلك الحرب الخفية، ونعمل على الاستفادة منها.
رابعها، أن أي اتجاه جديد دائما ما يمدنا بأسئلة جديدة عن حركة الماضي، وهذه الأسئلة الجديدة تساعدنا في تقديم إجابات مختلفة عما جرى دراسته من قبل، عن هذا الماضي.
خامسها، الانتشار الواسع الذى حظيت به دراسات القيل والقال في شتى مناطق العالم، ومحاولة الاستفادة من أساليب تلك الدراسات وأدواتها وتقنياتها.
سادسها، لفت النظر إلى عدم تقديس كتابات الصحف والمجلات التي تستند على مصادر رسمية موثوقة في روايتها للأحداث ، ربما لأن تلك المصادر تكون مدفوعة حينها إلى ترويج شيء معين يخدم مصالحها الخاصة، أو ترويج مقولات لخدمة سياسات معينة تتعلق بمصالح الدولة، أو ربما لأن رجال السياسة بصفة خاصة، والأفراد بصفة عامة، يحبون القصص التي يصطنعونها، ويرفضون الشك فيها، وبالتالي لابد من البحث عن وسائل ومصادر أخرى تكشف هذه القصص والأقاويل المصطنعة والروايات الملفقة، لتجلى أهدافها وتحقق في نتائجها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر
معهد البحوث والدراسات الأفريقية جامعة القاهرة
تقدمت الدراسات والاتجاهات التاريخية في الغرب تقدماً مذهلاً، ونتج عن هذا التقدم أن تعددت زوايا النظر في حركة التاريخ، ومن ثم تعددت نظرياته ومدارسه التفسيرية والتأويلية، ناهيك عن التطور الذى حدث في قراءة التاريخ وكتابته ومناهجه وأدواته البحثية، غير أننا في العالم العربي لا زلنا بعيدين عن متابعة وملاحقة هذا التقدم الحادث في الدراسات الغربية، لأننا حينما ننجذب لاتجاه تاريخي معين، نظل لمدة كبيرة نركض خلف هذا الاتجاه، وننسى الاتجاهات الجديدة، المتزايدة والمتلاحقة، ربما لأننا نستنزف جهودنا لسنوات طويلة لإقناع جماهير القراء ونخبة المؤرخين في ضرورة تبنى هذا الاتجاه أو رفضه، وفى ظل هذا الصراع الداخلي المحتدم، يكون العالم، في نظرته للماضي، قد قطع أشواطاً كبيرة في تقديم رؤى وأفكار جديدة.
ولما كان القيل والقال، كمصطلح، له مرادفات كثيرة؛ فهو يأتي بمعنى النميمة وترويج الأخبار والإشاعات، ويأتي بمعنى الغمز واللمز، ويعنى اللغو والثرثرة حول شؤون الآخرين، ويعنى نشر الأوساخ والفضائح والأباطيل بهدف التضليل، وترويج نوع معين من الحديث غالبيته شائعات ولغو، فإن هذا الاستخدام المرن لمصطلح القيل والقال قد فتح لدى المؤرخين الغربيين مجموعة متنوعة من التفسيرات، جعلتهم يعيدون النظر في بناء المعرفة التاريخية، ويعيدون قراءة كثير من المسلمات التاريخية التي كانت سائدة من قبل.
ولعل ما دفعني لكتابة هذ المقال عن هذا الاتجاه الجديد ستة أسباب رئيسية:
أولها، أن التقدم الحادث في دراسات القيل والقال تكشف لنا مدى استفادة الغرب من تلك الدراسات، ومدى تحكمه في الأحداث العالمية الجارية، وتكشف مدى قدرته على توظيف تلك الدراسات في خلق حالة انقسام وتنافر داخل العوالم التي يديرها.
ثانيها، أن دراسة القيل والقال تكشف لنا الأهداف والأجندات الخفية للغرب من وراء تصدير القيل والقال لعالمنا العربي، لشغله بقضايا خلافية تزيد من عملية التفتيت والانقسامات بين أواصر الأمة، بما يساعد في بقاء عالمنا العربي تابعاً.
ثالثها، محاولة لفهم هذه المباراة الخفية التي تدور تحت السطح داخل الغرب بمفهومه الثقافي والفكري، فالصراع بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية في إنتاج النظريات، يشير إلى تلك الحرب الخفية الدائرة بين الفريقين للسيطرة على العالم، فالصراع بين نظرية البنيوية ونظرية ما بعد البنيوية، وبين نظرية المركزية وما بعد المركزية، وبين نظرية الحداثة وما بعد الحداثة، وبين الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، وبين التركيبية والتفكيكية، يعد خير دليل على هذا الصراع الخفي الذى يدور بين الفريقين، رغم أن بقية العالم ينظر اليهما على أنهما كيان واحد يظهر تحت مسمى " الغرب". وأن عدم مشاركتنا في تلك المعارك المحتدمة حول اكتشاف أساليب جديدة لدراسة التاريخ، يجعلنا لا نستكشف تلك الحرب الخفية، ونعمل على الاستفادة منها.
رابعها، أن أي اتجاه جديد دائما ما يمدنا بأسئلة جديدة عن حركة الماضي، وهذه الأسئلة الجديدة تساعدنا في تقديم إجابات مختلفة عما جرى دراسته من قبل، عن هذا الماضي.
خامسها، الانتشار الواسع الذى حظيت به دراسات القيل والقال في شتى مناطق العالم، ومحاولة الاستفادة من أساليب تلك الدراسات وأدواتها وتقنياتها.
سادسها، لفت النظر إلى عدم تقديس كتابات الصحف والمجلات التي تستند على مصادر رسمية موثوقة في روايتها للأحداث ، ربما لأن تلك المصادر تكون مدفوعة حينها إلى ترويج شيء معين يخدم مصالحها الخاصة، أو ترويج مقولات لخدمة سياسات معينة تتعلق بمصالح الدولة، أو ربما لأن رجال السياسة بصفة خاصة، والأفراد بصفة عامة، يحبون القصص التي يصطنعونها، ويرفضون الشك فيها، وبالتالي لابد من البحث عن وسائل ومصادر أخرى تكشف هذه القصص والأقاويل المصطنعة والروايات الملفقة، لتجلى أهدافها وتحقق في نتائجها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر
معهد البحوث والدراسات الأفريقية جامعة القاهرة