الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد ..
فإن أهم ما يميز الحضارة الإسلامية على ما سواها أنها ليست نتاج جنس أو شعب معين ، وإنما هي نتاج أجناس وشعوب مختلفة الأعراق واللغات والأديان ، انصهرت جميعا في بوتقة واحدة في ظل الحكم الإسلامي الذي استوعب الجميع تحت مظلته ، دون تفريق أو انحياز لجنس على حساب آخر ، وأتاح للجميع الفرصة للتفكير والإبداع والاختراع والإنتاج والتعبير عن أفكارهم في حرية كاملة..
وفي ظل جو من الحرية أتاحه الإسلام للجميع ، مع كثرة العطايا التي كانت تنهال على العلماء من الخلفاء والأمراء والكبراء ، هذه العطايا التي كانت تمنح لكل من يشارك في مجال التأليف العلمي والابتكار دون النظر لجنسيته أو ديانته ..
هذا فضلا عن المكانة العالية التي كان يتمتع بها العلماء بين عوام الناس من جانب ، ولدى الخلفاء من جانب آخر ، حتى كان بعض هؤلاء العلماء يجالسون الخلفاء على أسرتهم ، ويأكلون ويشربون ويسمرون معهم ، بل وبعضهم مثل الخليفة هارون الرشيد كان يوضع أمامه الطعام فلا يقبل عليه إذا تأخر عن الحضور أحد العلماء الذين يجالسونه ، ويتمهل حتى يأتي إليه ..
وأكثر من ذلك أن خلفاء المسلمين وأمراءهم لم يكونوا ينتظرون حتى يتوافد هؤلاء العلماء على قصورهم المفتوحة لهم ، وإنما شرعوا في دعوتهم من سائر الأقطار التي دخلت في حمى الدولة الإسلامية ، مثل : العراق والشام وفارس ومصر والهند وإفريقيا والأندلس ، فيحضرون إليهم مكرمين ، هذا في الوقت الذي كان أندادهم من العلماء في أوربا يُحقرون ويضطهدون ، وتطاردهم محاكم التفتيش في كل مكان ؛ فَتُوقع بكل مبتكر منهم سوء العذاب ، دون أن يجدوا من ينصفهم أو يدافع عنهم ..
وقد شجع هذا التحفيز وذالكم التكريم والتقدير ـ العلماء من غير المسلمين على اختلاف مللهم ( الصابئة والمجوس واليهود والنصارى ) على أن يتسابقوا لتقديم ما عندهم ، وشحذ عقولهم للتفكير والاختراع والإبداع ، وصاروا منذ أن ضُمت أقطارهم للدولة الإسلامية يشاركون جنبا إلى جنب مع العلماء المسلمين في ترسيخ الحضارة الإسلامية ، ولم يألوا جهدا في تقديم العون لها..
ثم ازداد نشاطهم بعد أن أُسست "دار الحكمة " ببغداد ـ تلك المكتبة التي تُعَد بحق أول نواة للنهضة الحضارية الحديثة.. فقد عين هارون الرشيد يوحنا بن ماسويه الذي كان نصرانياً سريانياً مشرفا على ترجمة الكتب الطبية القديمة التي وجدت بأنقرة وعمورية وسائر بلاد الروم حين افتتحها المسلمون ، ورتب لَه كُتاباً حذاقاً يكتبون بَيْنَ يديه ، وظل في منصبه أيام المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل.
وجاء بعده تلميذه حنين بن إسحاق النصراني الذي كان يلقب بشيخ الأطباء بالعراق ، فتولى الإشراف أيضا على تعريب الكتب اليونانية ، وقربه إليه المتوكل ، وجعله رئيسا للأطباء ، وأوعز إليه بتعلم اللغات التي كانت تدون بها العلوم في عصره ، حتى صار أعلم أهل زمانه باللغة اليونانية والسريانية والفارسية ، وألف خمسة وعشرين كتابا ، خلا ما ترجمه عن اليونانية إلى السريانية والعربية ..
وقد تولى حنين هذا رئاسة البعثة العلمية التي ذهبت إِلى بلاد الروم من أجل التنقيب والبحث عن الكتب القديمة المدفونة في خزائن القصور والأديرة والكنائس والمعابد ، فوقعت أيدي بعثته على الكثير من كنوز المعرفة اليونانية التي كادت أن تضيع لولا أن الله سبحانه وتعالى قدر لها أن تقع في أيديهم ..
وأكثر الكتب التي ترجمها هؤلاء كانت نواة للحركة العلمية التجريبية عند المسلمين ، كما أنهم مثلوا بفضل ما ترجموه مع باقي العلماء المسلمين جسر التواصل بين الحضارات القديمة والحضارة الإسلامية ..
هذا ولم يكن يوحنا وحنين هما فقط من وصلا إلى تلك المكانة من غير المسلمين ، وإنما شاركهما كثيرون مثل :
يوحنا بن البطريق الترجمان الذي كان مولى للمأمون ، ثم جعله أمينا على الترجمة في عصره ، وتولى ترجمة كتب أرسطو وبعض كتب بُقراط الطبيب الشهير .
ويوحنا بن يوسف بن الحارث بن البطريق الذي كان ماهرا في مجال الهندسة ، مهتما بكتب إقليدس وغيرها من كتب الهندسة ، ونقل كثيرا من الكتب من اليونانية للعربية ، بالإضافة إلى شروحه ومصنفاته ..
وعلي بن ربَّن الطبري الذي كان متميزاً في الطب ، ووضع المبادئ العامة لها، وقواعد الحفاظ على الصحة الجيدة والوقاية من الأمراض ؛ إضافةً إلى مناقشة جميع الأمراض السائدة في عصره من الرأس إلى القدم..
ومن كلامه البليغ : الطبيب الجاهل مستحث الموت...
وكان إلى جانب معرفته بالطب عالماً بالهندسة والرياضيات ، وترجم الكثير من الكتب في هذا المجال ..
وقد تتلمذ على يديه العالم الشهير أبو بكر الرازي ، وأسلم رحمه الله في نهاية عمره ..
وثابت بن قرة الحراني الذي كان نابغة في مجال الترجمة والطب والفلك والرياضيات والهندسة ، وكان له ببغداد عدة مراصد يطبق عليها نظرياته الفلكية.
وقد أثرى المكتبة العربية بكثير من الكتب الفلكية والرياضية والهندسية والطبية.
ومن العجب أن هذا الرجل كان يعمل عند دخوله بغداد صيرافيا فلمح فيه موسى بن شاكر أمارات النبوغ والذكاء ، فاصطحبه إلى دار الخلافة لتتاح له فرصة المساهمة في إثراء الحضارة الإسلامية بابتكاراته ، ولولا ذلك لمات نكرة كما يموت الكثيرون ممن لم تتح لهم مثل تلك الفرصة .
ومن العلماء غير المسلمين أيضا نذكر سهل بن بشر بن حبيب بن هانئ اليهودي ، الذي وصف بأنه كان عارفا فاضلا ، صاحب تآليف فِي أحكام النجوم.. وله كثير من الكتب الفلكية..
والفلكي الشهير محمد بن جابر بن سنان الحراني الصابئ المعروف بالبتاني الذي اشتهر بالأعمال العجيبة والأرصاد المتقنة ، وكان أوحد عصره في فنه ، وأعماله تدل على غزارة فضله وسعة علمه ، وقد قيل : إنه أول من اخترع قلم الحبر ، وآلة النفخ في النار التي كانت مقدمة لفكرة الإنسان الآلي ، وقد بلغت شهرته الآفاق ، ونال ثناء كثير من أصحاب كتب التراجم المسلمين مثل : ظهير الدين البيهقي الذي قال عنه : كان حكيماً عارفاً بتفاصيل أجزاء علوم الحكمة ، وابن خلكان الذي قال عنه : له الأعمال العجيبة والأرصاد المتقنة ، وكان أوحد عصره في فنه، وأعماله تدل على غزارة فضله وسعة علمه.
والذهبي الذي قال عنه : له أعمال وأرصاد وبراعة في فنه، وكان صابئا ضالا، فكأنه أسلم وتسمى بمحمد، وله تصانيف في علم الهيئة..
كما أثنى عليه بعض علماء الغرب في العصر الحديث مثل : لالند (Lalande)الفلكي الفرنسي الذي قال عنه : "البتاني أحد الفلكيين العشرين الأئمة الذين ظهروا في العالم كله ". .
وول ديو رانت الذي قال عنه : "ظل واحداً وأربعين عاماً يقوم بأرصاد فلكية اشتهرت بدقتها واتساع مداها ، وقد وصل بهذه الأرصاد إلى كثير من "المعاملات" الفلكية تمتاز بقربها العجيب من تقديرات هذه الأيام ..
ومن هؤلاء العلماء أيضا : السموأل بن يهوذا المغربي اليهودي الذي قدم من الأندلس إلى العراق فاشتغل بالعلوم الرياضية ، وأحكم أصولها وفوائدها ونوادرها ، وله في ذلك مصنفات كثيرة.
وهبة الله بن زيد بن حسن بن إفرائيم النصراني الملقب بشمس الرياسة ، الذي كان يعد طبيب وقته ، وفاضل زمانه ، وعالم أوانه ، وكان عالما بقوانين هذه الصناعة ، وانتهت إليه رئاستها ، وقال عنه الصفدي : كان مفنناً في العلوم، جيد المعرفة ، كثير الاجتهاد في الطب ، حسن المعالجة ، جيد التصنيف، وكان له نظر في العربية ، وتحقيق الألفاظ اللغوية ، لا يُقرِئ في الطب إلا وكتاب الصحاح للجوهري عنده حاضر، إذا مرّت كلمة لم يعرفها حققها منه، وخدم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وحظي في أيامه، وكان رفيع المنزلة عنده ، يعتمد عليه في الطب..
وما شاء الله المنجم اليهودي الذي عاش في زمن المنصور والمأمون ، وذَكَر عنه القفطي أنه كان فاضلاً أوحد زمانه في مجال الفلك ، وله أيضا كثير من المصنفات في هذا المجال .
ويعقوب بن سقلاب القدسيّ ، الذي كان راهباً، فيلسوفاً، بارعاً في الهيئة والنجوم ، وقد قال عنه الذهبي : كان عاقلاً، رزيناً، ساكناً، متقناً للسان الرومي، خبيراً بنقله إلى العربي ، وكان من أعلم أهل زمانه بكتب جالينوس حتى لعله يكاد يستحضرها كلها.. وغير هؤلاء الكثير والكثير ممن وردت ترجمتهم مفصلة في ثنايا البحث..
هذا ولم يقتصر دور العلماء من غير المسلمين في خدمة الحضارة الإسلامية عند مجال العلوم التجريبية والفلسفية ، وإنما ساهموا أيضا في مجال اللغة والأدب ، ولعل أبرز من ساهموا في هذا المجال :
أبو الحسين هلال بن الصابئ الأديب الشهير ، صاحب الرسائل ، وإبراهيم بن سنان الذي قال عنه الذهبي : الأديب البليغ، صاحب الترسل البديع ..
وسعيد بن إبراهيم التستري صاحب كتاب المقصور والممدود على حروف المعجم ، وكتاب المذكر والمؤنث على حروف المعجم أيضا ...
وعلي بن نصر النصراني ، صاحب كتاب البراعة، وكتاب صحبة السلطان ، وكتاب إصلاح الأخلاق...
وفي الختام أؤكد أن هؤلاء العلماء من غير المسلمين الذين ذكرت بعض مآثرهم ما كانوا لينبغوا ويقدموا للبشرية تلك الخدمات الجليلة التي قدموها لولا البيئة الإسلامية التي ساعدتهم على ذلك كما ذكرت في صدر حديثي..
هذا في الوقت الذي كانت فيه محاكم التفتيش في أوربا تتعقب أمثالهم من العلماء ، فتقتل بعضا ، وتحرق بعضا ، وتسجن آخرين ، تحت شعار محاربة الهرطقة ، والكثيرون من الباحثين في العالم شرقه وغربه يعرفون المصير الذي لاقاه كل من : جون هس ، وجيروم البراجي ، وجان داراك ، حيث حُرِّقوا وهم أحياء ، والمصير الذي لاقاه كل من : رجر بيكون ، وجاليليو ، وغيرهما ممكن كانوا مفتاح النهضة الحديثة بأوربا ، حيث قضوا جل عمرهم في غياهب السجون ، والكل يعرف أيضا مصير مئات الكتب التي وضعها العلماء التجريبيون في أوربا قبل قيام الثورة الفرنسية ، حيث أحرق أكثرها بأمر من الكنيسة .
وكما قلنا من قبل : شتان بين جو الحرية الذي هو طريق الإبداع وبين جو الإرهاب الذي يميت الأفكار ، ويقتل المواهب ويبلد العقول !!! ..
جو الحرية الذي أتاحه خلفاء وأمراء المسلمين على اختلاف عصورهم وثقافاتهم واتجاهاتهم الفكرية ، وسيلاحظ من يقرأ البحث مفصلا إن شاء الله أنني حرصت على أن أنوع في ذكر الخلفاء والأمراء الذين شملوا هؤلاء العلماء من غير المسلمين برعايتهم ؛ كي لا يُظن أن ذلك كان مقصورا على فئة معينة ، فقد كان منهم عمر بن عبد العزيز ، وهارون الرشيد ، وصلاح الدين الأيوبي ، وهؤلاء يمثلون إنموذجا للحكام الورعين في التاريخ الإسلامي .
أيها الفضلاء : إن أمتنا الإسلامية تستطيع الآن بعون الله سبحانه وتعالى أن تشيد مجدا حضاريا لا يقل عما شيده السابقون ، وأن يقدم أبناؤها للبشرية أضعاف ما قدمه السابقون ؛ بشرط أن نعود إلى جوهر الإسلام ، وأن نسعى للاستفادة مما عند الآخرين ، دون النظر لدياناتهم أو مذاهبهم ، وأن يقدم ولاة الأمر التقدير والحفاوة للعلماء ؛ لكي يكون ذلك دافعا لهم على شحذ هممهم في الإبداع والابتكار ، ويكون تشجيعا للآخرين على الانضمام لركبهم .
وأن يسعوا لاستقطاب العلماء النابغين في كل الأقطار على اختلاف لغاتهم ودياناتهم ، وعلى رأسهم العلماء المسلمون الذين دفعتهم ظروفهم إلى الهجرة ليقدموا ثمرة جهدهم للغرب بعد أن رءوا في بلاده مناخا مشجعا على العطاء ..
فإن أهم ما يميز الحضارة الإسلامية على ما سواها أنها ليست نتاج جنس أو شعب معين ، وإنما هي نتاج أجناس وشعوب مختلفة الأعراق واللغات والأديان ، انصهرت جميعا في بوتقة واحدة في ظل الحكم الإسلامي الذي استوعب الجميع تحت مظلته ، دون تفريق أو انحياز لجنس على حساب آخر ، وأتاح للجميع الفرصة للتفكير والإبداع والاختراع والإنتاج والتعبير عن أفكارهم في حرية كاملة..
وفي ظل جو من الحرية أتاحه الإسلام للجميع ، مع كثرة العطايا التي كانت تنهال على العلماء من الخلفاء والأمراء والكبراء ، هذه العطايا التي كانت تمنح لكل من يشارك في مجال التأليف العلمي والابتكار دون النظر لجنسيته أو ديانته ..
هذا فضلا عن المكانة العالية التي كان يتمتع بها العلماء بين عوام الناس من جانب ، ولدى الخلفاء من جانب آخر ، حتى كان بعض هؤلاء العلماء يجالسون الخلفاء على أسرتهم ، ويأكلون ويشربون ويسمرون معهم ، بل وبعضهم مثل الخليفة هارون الرشيد كان يوضع أمامه الطعام فلا يقبل عليه إذا تأخر عن الحضور أحد العلماء الذين يجالسونه ، ويتمهل حتى يأتي إليه ..
وأكثر من ذلك أن خلفاء المسلمين وأمراءهم لم يكونوا ينتظرون حتى يتوافد هؤلاء العلماء على قصورهم المفتوحة لهم ، وإنما شرعوا في دعوتهم من سائر الأقطار التي دخلت في حمى الدولة الإسلامية ، مثل : العراق والشام وفارس ومصر والهند وإفريقيا والأندلس ، فيحضرون إليهم مكرمين ، هذا في الوقت الذي كان أندادهم من العلماء في أوربا يُحقرون ويضطهدون ، وتطاردهم محاكم التفتيش في كل مكان ؛ فَتُوقع بكل مبتكر منهم سوء العذاب ، دون أن يجدوا من ينصفهم أو يدافع عنهم ..
وقد شجع هذا التحفيز وذالكم التكريم والتقدير ـ العلماء من غير المسلمين على اختلاف مللهم ( الصابئة والمجوس واليهود والنصارى ) على أن يتسابقوا لتقديم ما عندهم ، وشحذ عقولهم للتفكير والاختراع والإبداع ، وصاروا منذ أن ضُمت أقطارهم للدولة الإسلامية يشاركون جنبا إلى جنب مع العلماء المسلمين في ترسيخ الحضارة الإسلامية ، ولم يألوا جهدا في تقديم العون لها..
ثم ازداد نشاطهم بعد أن أُسست "دار الحكمة " ببغداد ـ تلك المكتبة التي تُعَد بحق أول نواة للنهضة الحضارية الحديثة.. فقد عين هارون الرشيد يوحنا بن ماسويه الذي كان نصرانياً سريانياً مشرفا على ترجمة الكتب الطبية القديمة التي وجدت بأنقرة وعمورية وسائر بلاد الروم حين افتتحها المسلمون ، ورتب لَه كُتاباً حذاقاً يكتبون بَيْنَ يديه ، وظل في منصبه أيام المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل.
وجاء بعده تلميذه حنين بن إسحاق النصراني الذي كان يلقب بشيخ الأطباء بالعراق ، فتولى الإشراف أيضا على تعريب الكتب اليونانية ، وقربه إليه المتوكل ، وجعله رئيسا للأطباء ، وأوعز إليه بتعلم اللغات التي كانت تدون بها العلوم في عصره ، حتى صار أعلم أهل زمانه باللغة اليونانية والسريانية والفارسية ، وألف خمسة وعشرين كتابا ، خلا ما ترجمه عن اليونانية إلى السريانية والعربية ..
وقد تولى حنين هذا رئاسة البعثة العلمية التي ذهبت إِلى بلاد الروم من أجل التنقيب والبحث عن الكتب القديمة المدفونة في خزائن القصور والأديرة والكنائس والمعابد ، فوقعت أيدي بعثته على الكثير من كنوز المعرفة اليونانية التي كادت أن تضيع لولا أن الله سبحانه وتعالى قدر لها أن تقع في أيديهم ..
وأكثر الكتب التي ترجمها هؤلاء كانت نواة للحركة العلمية التجريبية عند المسلمين ، كما أنهم مثلوا بفضل ما ترجموه مع باقي العلماء المسلمين جسر التواصل بين الحضارات القديمة والحضارة الإسلامية ..
هذا ولم يكن يوحنا وحنين هما فقط من وصلا إلى تلك المكانة من غير المسلمين ، وإنما شاركهما كثيرون مثل :
يوحنا بن البطريق الترجمان الذي كان مولى للمأمون ، ثم جعله أمينا على الترجمة في عصره ، وتولى ترجمة كتب أرسطو وبعض كتب بُقراط الطبيب الشهير .
ويوحنا بن يوسف بن الحارث بن البطريق الذي كان ماهرا في مجال الهندسة ، مهتما بكتب إقليدس وغيرها من كتب الهندسة ، ونقل كثيرا من الكتب من اليونانية للعربية ، بالإضافة إلى شروحه ومصنفاته ..
وعلي بن ربَّن الطبري الذي كان متميزاً في الطب ، ووضع المبادئ العامة لها، وقواعد الحفاظ على الصحة الجيدة والوقاية من الأمراض ؛ إضافةً إلى مناقشة جميع الأمراض السائدة في عصره من الرأس إلى القدم..
ومن كلامه البليغ : الطبيب الجاهل مستحث الموت...
وكان إلى جانب معرفته بالطب عالماً بالهندسة والرياضيات ، وترجم الكثير من الكتب في هذا المجال ..
وقد تتلمذ على يديه العالم الشهير أبو بكر الرازي ، وأسلم رحمه الله في نهاية عمره ..
وثابت بن قرة الحراني الذي كان نابغة في مجال الترجمة والطب والفلك والرياضيات والهندسة ، وكان له ببغداد عدة مراصد يطبق عليها نظرياته الفلكية.
وقد أثرى المكتبة العربية بكثير من الكتب الفلكية والرياضية والهندسية والطبية.
ومن العجب أن هذا الرجل كان يعمل عند دخوله بغداد صيرافيا فلمح فيه موسى بن شاكر أمارات النبوغ والذكاء ، فاصطحبه إلى دار الخلافة لتتاح له فرصة المساهمة في إثراء الحضارة الإسلامية بابتكاراته ، ولولا ذلك لمات نكرة كما يموت الكثيرون ممن لم تتح لهم مثل تلك الفرصة .
ومن العلماء غير المسلمين أيضا نذكر سهل بن بشر بن حبيب بن هانئ اليهودي ، الذي وصف بأنه كان عارفا فاضلا ، صاحب تآليف فِي أحكام النجوم.. وله كثير من الكتب الفلكية..
والفلكي الشهير محمد بن جابر بن سنان الحراني الصابئ المعروف بالبتاني الذي اشتهر بالأعمال العجيبة والأرصاد المتقنة ، وكان أوحد عصره في فنه ، وأعماله تدل على غزارة فضله وسعة علمه ، وقد قيل : إنه أول من اخترع قلم الحبر ، وآلة النفخ في النار التي كانت مقدمة لفكرة الإنسان الآلي ، وقد بلغت شهرته الآفاق ، ونال ثناء كثير من أصحاب كتب التراجم المسلمين مثل : ظهير الدين البيهقي الذي قال عنه : كان حكيماً عارفاً بتفاصيل أجزاء علوم الحكمة ، وابن خلكان الذي قال عنه : له الأعمال العجيبة والأرصاد المتقنة ، وكان أوحد عصره في فنه، وأعماله تدل على غزارة فضله وسعة علمه.
والذهبي الذي قال عنه : له أعمال وأرصاد وبراعة في فنه، وكان صابئا ضالا، فكأنه أسلم وتسمى بمحمد، وله تصانيف في علم الهيئة..
كما أثنى عليه بعض علماء الغرب في العصر الحديث مثل : لالند (Lalande)الفلكي الفرنسي الذي قال عنه : "البتاني أحد الفلكيين العشرين الأئمة الذين ظهروا في العالم كله ". .
وول ديو رانت الذي قال عنه : "ظل واحداً وأربعين عاماً يقوم بأرصاد فلكية اشتهرت بدقتها واتساع مداها ، وقد وصل بهذه الأرصاد إلى كثير من "المعاملات" الفلكية تمتاز بقربها العجيب من تقديرات هذه الأيام ..
ومن هؤلاء العلماء أيضا : السموأل بن يهوذا المغربي اليهودي الذي قدم من الأندلس إلى العراق فاشتغل بالعلوم الرياضية ، وأحكم أصولها وفوائدها ونوادرها ، وله في ذلك مصنفات كثيرة.
وهبة الله بن زيد بن حسن بن إفرائيم النصراني الملقب بشمس الرياسة ، الذي كان يعد طبيب وقته ، وفاضل زمانه ، وعالم أوانه ، وكان عالما بقوانين هذه الصناعة ، وانتهت إليه رئاستها ، وقال عنه الصفدي : كان مفنناً في العلوم، جيد المعرفة ، كثير الاجتهاد في الطب ، حسن المعالجة ، جيد التصنيف، وكان له نظر في العربية ، وتحقيق الألفاظ اللغوية ، لا يُقرِئ في الطب إلا وكتاب الصحاح للجوهري عنده حاضر، إذا مرّت كلمة لم يعرفها حققها منه، وخدم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وحظي في أيامه، وكان رفيع المنزلة عنده ، يعتمد عليه في الطب..
وما شاء الله المنجم اليهودي الذي عاش في زمن المنصور والمأمون ، وذَكَر عنه القفطي أنه كان فاضلاً أوحد زمانه في مجال الفلك ، وله أيضا كثير من المصنفات في هذا المجال .
ويعقوب بن سقلاب القدسيّ ، الذي كان راهباً، فيلسوفاً، بارعاً في الهيئة والنجوم ، وقد قال عنه الذهبي : كان عاقلاً، رزيناً، ساكناً، متقناً للسان الرومي، خبيراً بنقله إلى العربي ، وكان من أعلم أهل زمانه بكتب جالينوس حتى لعله يكاد يستحضرها كلها.. وغير هؤلاء الكثير والكثير ممن وردت ترجمتهم مفصلة في ثنايا البحث..
هذا ولم يقتصر دور العلماء من غير المسلمين في خدمة الحضارة الإسلامية عند مجال العلوم التجريبية والفلسفية ، وإنما ساهموا أيضا في مجال اللغة والأدب ، ولعل أبرز من ساهموا في هذا المجال :
أبو الحسين هلال بن الصابئ الأديب الشهير ، صاحب الرسائل ، وإبراهيم بن سنان الذي قال عنه الذهبي : الأديب البليغ، صاحب الترسل البديع ..
وسعيد بن إبراهيم التستري صاحب كتاب المقصور والممدود على حروف المعجم ، وكتاب المذكر والمؤنث على حروف المعجم أيضا ...
وعلي بن نصر النصراني ، صاحب كتاب البراعة، وكتاب صحبة السلطان ، وكتاب إصلاح الأخلاق...
وفي الختام أؤكد أن هؤلاء العلماء من غير المسلمين الذين ذكرت بعض مآثرهم ما كانوا لينبغوا ويقدموا للبشرية تلك الخدمات الجليلة التي قدموها لولا البيئة الإسلامية التي ساعدتهم على ذلك كما ذكرت في صدر حديثي..
هذا في الوقت الذي كانت فيه محاكم التفتيش في أوربا تتعقب أمثالهم من العلماء ، فتقتل بعضا ، وتحرق بعضا ، وتسجن آخرين ، تحت شعار محاربة الهرطقة ، والكثيرون من الباحثين في العالم شرقه وغربه يعرفون المصير الذي لاقاه كل من : جون هس ، وجيروم البراجي ، وجان داراك ، حيث حُرِّقوا وهم أحياء ، والمصير الذي لاقاه كل من : رجر بيكون ، وجاليليو ، وغيرهما ممكن كانوا مفتاح النهضة الحديثة بأوربا ، حيث قضوا جل عمرهم في غياهب السجون ، والكل يعرف أيضا مصير مئات الكتب التي وضعها العلماء التجريبيون في أوربا قبل قيام الثورة الفرنسية ، حيث أحرق أكثرها بأمر من الكنيسة .
وكما قلنا من قبل : شتان بين جو الحرية الذي هو طريق الإبداع وبين جو الإرهاب الذي يميت الأفكار ، ويقتل المواهب ويبلد العقول !!! ..
جو الحرية الذي أتاحه خلفاء وأمراء المسلمين على اختلاف عصورهم وثقافاتهم واتجاهاتهم الفكرية ، وسيلاحظ من يقرأ البحث مفصلا إن شاء الله أنني حرصت على أن أنوع في ذكر الخلفاء والأمراء الذين شملوا هؤلاء العلماء من غير المسلمين برعايتهم ؛ كي لا يُظن أن ذلك كان مقصورا على فئة معينة ، فقد كان منهم عمر بن عبد العزيز ، وهارون الرشيد ، وصلاح الدين الأيوبي ، وهؤلاء يمثلون إنموذجا للحكام الورعين في التاريخ الإسلامي .
أيها الفضلاء : إن أمتنا الإسلامية تستطيع الآن بعون الله سبحانه وتعالى أن تشيد مجدا حضاريا لا يقل عما شيده السابقون ، وأن يقدم أبناؤها للبشرية أضعاف ما قدمه السابقون ؛ بشرط أن نعود إلى جوهر الإسلام ، وأن نسعى للاستفادة مما عند الآخرين ، دون النظر لدياناتهم أو مذاهبهم ، وأن يقدم ولاة الأمر التقدير والحفاوة للعلماء ؛ لكي يكون ذلك دافعا لهم على شحذ هممهم في الإبداع والابتكار ، ويكون تشجيعا للآخرين على الانضمام لركبهم .
وأن يسعوا لاستقطاب العلماء النابغين في كل الأقطار على اختلاف لغاتهم ودياناتهم ، وعلى رأسهم العلماء المسلمون الذين دفعتهم ظروفهم إلى الهجرة ليقدموا ثمرة جهدهم للغرب بعد أن رءوا في بلاده مناخا مشجعا على العطاء ..