نبيل نحاس ورحلة
الموت الجميل . .
أشرس جواسيس إسرائيل في مصر، ظل يمارس تجسسه وخيانته في الظل لمدة "13 عاماً" متتالية، بعيداً عن أعين جهاز المخابرات المصرية، وعند سقوطه. . أصيبت المخابرات الإسرائيلية بلطمة شديدة أفقدتها توازنها. فقد تزامن سقوطه مع سقوط جواسيس آخرين اكتشف أمرهم، وفقدت الموساد بذلك مصدراً حيوياً من مصادرها في مصر، الذين أمدوها بمعلومات غاية في الأهمية طوال هذه السنوات بلا تعب أو كلل.
فقد كانت الجاسوسية عند نبيل النحاس قد وصلت الى درجة الصقل والاحتراف، بعدما تعدت مراحلها الابتدائية الأولى، وتحولت مهنة التجسس عنده الى أستاذية في التخفي والتمويه والبحث عن مصادر المعلومات. ووصلت درجة الثقة في معلوماته عند جهاز الموساد لمدى شاسع من الجدية والتأكيد.
جونايدا روتي
حوت التحقيقات التي أجريت مع العديد من الخونة بمعرفة المخابرات العربية . . سواء في مصر أو في سوريا أو العراق أسراراً مذهلة عن كيفية انتقاء الجواسيس . . فمراكز المخابرات الاسرائيلية بكافة فروعها – شأنها كشأن كافة أجهزة المخابرات الأخرى – تتخذ من النظرية القائلة بأن لدى كل إنسان نقطة ضعف.. ولكل إنسان ثمن . .نقطة انطلاق للتنقيب عن ضعاف النفوس واصطيادهم .. وتخضع عملية الإيقاع بهم والسيطرة عليهم لخطوات معقدة وشائكة.
من هذا المنطلق .. أجاد رجال الموساد استخدام هذه النظرية باتساع . . دون اعتبارات للشرف أو للفضيلة . . وأخذوا يطرقون كل السبل لتجنيد عملاء لها في كل مكان. فمن كان يبحث عن المال وجد ضالته لديهم.. ومن كان يسعى وراء نزواته وشهوته قذفوا اليه بأجمل نسائهم. . ومن ضاقت به الحياة في بلده أمنوا له عملاً وهمياً يقوده في النهاية الى مصيدة الجاسوسية، دون أن يدري.
فالملاحظ. . أن "العميل" في الغالب لا يعرف أنه أصبح "عميلاً" في بداية تجنيده. . بل يكتشف ذلك بنفسه بعد انغماسه في التجسس .. وتكون شباك الجاسوسية قد كبلته وأطبقت عليه . . ولم تعد لديه أية وسيلة للفكاك.
حينئذ .. كالآلة الصماء يضطر الى العمل دون إدراك للعواقب. .
والمثير في الأمر . . أن هناك بعض الجواسيس الذين سقطوا في قبضة المخابرات العربية كانوا يجهلون أنهم عملاء لإسرائيل. . وتبين لهم ذلك فقط عندما ووجهوا بالحقائق والأدلة التي تدينهم وتؤكد تورطهم. . ومن خلال اعترافات بعضهم – فتحي رزق، محمد أحمد حسن، جان ليون توماس، فؤاد محرم، سمير باسيلي. . الخ – نجد حقائق مثيرة عن كيفية اصطيادهم وتجنيدهم . . حيث يستخدم صائدوا الجواسيس كل أسلحة التأثير النفسي والمغريات المختلفة لإذابة تركيزهم واحتوائهم. . فلكل صيد "طعم" خاص به يلقى اليه . . ومن خلال قصص الجواسيس التي بين أيدينا نجد أن بينها تشابهاً كبيراً. . ولا تكاد تختلف إحداها عن الأخرى إلا من ناحية تنوع الأسماء والأماكن والمواقف. ذلك أن صائدي الجواسيس في المخابرات الاسرائيلية لهم ميزة عجيبة وصفة واحدة .. وهي أن لكل منهم أنف كلب الصيد الذي يدرك مكان الفريسة بالشم ويحدد مكانها بدقة . . الى جانب رادار حساس في أذنيه. . يضاف الى ذلك "الكرم" الذي يصل لدرجة البذخ أحياناً. . واتقان شديد للغة العربية وعادات شعوبها.
هذه الصفات مجتمعة تؤمن للصياد أن يكتشف مكامن الضعف في الفريسة .. التي تكون على وشك الإفلاس . . أو قد تكون مصابة بانحراف جنسي . . أو تحلم بعلاقات حميمة مع ملكات الفتنة والأنوثة.
هذا ما حدث بالضبط مع الجاسوس "نبيل النحاس" الذي عبد الشهوة فأغرقته وأرقته.. وبسببها كان اصطياده سهلاً .. بسيطاً. . وما أسهل تصيد عشاق الجنس وعبدة اللذة.
تمتد جذور أسرته الى "حاصبيا" في محافظة لبنان الجنوبية وتقع على نهر الحاصباني وبعد سنوات طويلة انتقلت الأسرة الى "كفر شيما" بمنطقة الشويفات جنوبي بيروت ومن هناك الى مصر وأقام والده بالسويس، وتزوج من فتاة مصرية أنجبت له "نبيل" عام 1936.
كان الطفل يحمل ملامح والده الشامي الأشقر وعذوبة أمه المصرية. . وتميز منذ الصغر بذكاء شديد يفوق أقرانه .. فتنبأ له الجميع بمستقبل مضمون ونجاح أكيد. .
وتلاحقت السنون سراعاً ونجح نبيل النحاس في الثانوية العامة والتحق بجامعة القاهرة طالباً بكلية التجارة. . وبخطوات واثقة شق طريقه نحو الحياة العملية بعد تخرجه متفوقاً. . تراوده طموحات لا حدود لها. .
ولم يطل به الانتظار طويلاً . . إذ سرعان ما عمل سكرتيراً في منظمة الشعوب الأفرو آسيوية التي كان يرأسها الأديب يوسف السباعي . . وكان عمله كتابة محاضر الجلسات والمؤتمرات على الآلة الكاتبة.
ومن خلال وظيفته وموقعه.. توسعت علاقاته وتشبعت .. وتبلورت شخصيته الجديدة التي نضجت مع ملاحة ورجولة تلفت انتباه الحسان .. وتجعل منه مأملاً لهن . . فأحطنه بدلالهن ليقطف منهن من يشاء ..
وبمرور الشهور استشعر نبيل النحاس ضآلة راتبه الذي تعدى المائة جنيه .. في ذات الوقت الذي كان فيه راتب زميله في مكان آخر لا يتعدى الخمسة عشر جنيهاً في ذلك الوقت عام 1959. . فعمله المرموق كان يتطلب مظهراً حسناً وملابس أنيقة تتناسب ومكانته .. الى جانب حاجته للإنفاق على معيشته وعلى علاقاته النسائية وملذاته.. خاصة .. وقد ارتبط بعلاقة حميمة بفتاة أفريقية من كوناكري في غينيا . . فانجرف معها الى محيطات المتعة يجدف بلا كلل. كان اسمها "جونايدا روتي" .. خيزرانية القوام أبنوسية اللون رائعة الخلقة .. تعمل مراسلة صحفية لعدة صحف أفريقية وعالمية.
استطاعت جونايدا أن تمتلك عقله وتنسيه أية امرأة سواها. . فأغدق عليها بالهدايا حتى تعثرت أحواله المالية .. فوجد الحل لديها لإنقاذه من تعثره عندما عرضت عليه أن يطلب إجازة من عمله بالمنظمة .. والانضمام الى إحدى وكالات الأنباء العالمية كمراسل مقابل راتب كبير مغر..
وكانت أولى المهام التي أوكلت إليه السفر الى منطقة الصحراء المغربية "ريودي أورو" ومن "فيلاشيز نيروس" و "العيون" يستطيع أن ينقل أخبار الصراع السري الدائر بين المملكة المغربية وموريتانيا . . صراع النفوذ على المنطقة المحصورة بينهما.
كانت سعادته بالمهمة الجديدة عظيمة .. حيث ستتاح له فرصة اللحاق بالساحرة الأفريقية – جونايدا – التي سبقته الى كوناكري. . وطار النحاس الى الدار البيضاء تحفه أحلام المغامرة والثقة في الغد.
الطريق المختصر
هناك – في الدار البيضاء – كانت بانتظاره مفاجأة بدلت مجرى حياته كلها .. إذ تعرف إليه في بهو الفندق رجل مغربي .. يهودي .. عرف منه وجهته .. فعرض عليه مساعدته لدخول ريودي أورو عن طريق أعوان له في "سيدي أفني" أقصى جنوب المغرب .. وكيفية اجتياز "وادي درعة" للوصول الى الحدود.
سر نبيل النحاس للصدفة الجميلة التي ما توقعها.. واحتفاء بالمراسل الصحفي الوسيم .. أعد له المضيف وليمة غداء بمنزله في "أزمور" الساحرة. . التي تقع على نهر "أم الربيع" وتشرف على ساحل المحيط الأطلنطي.
وفي منزل تحيطه الحدائق والزهور في بانوراما طبيعية رائعة .. كانت تنتظره المفاجأة .. إنها "مليكة" اليهودية المغربية التي تستحوذ على جمال فتان لم تره عين من قبل . .
كانت في الواحدة والعشرين من عمرها .. إذا خطت . . تحركت الفتنة وترجرجت تحت ثيابها . . وإذا تأودت . . أغرقت الدنيا بهاء وحسناً. . وإذا تحدثت .. تموجت الأنغام سكرى على شفتيها. . وأربكت حدود العقل وأركانه.
أذهل جمالها المراسل الصحفي الجديد فنسي مهمته في الجنوب .. وذابت جونايدا الى القاع أمام سحر مليكة .. فقد أفقدته "حسناء أزمور" الوعي والرشاد .. وطيرت عقله الى سفوح المتعة. . فأقبل يلعق عناقيد الفتنة بين يديها . . ويتعبد منتشياً في محرابها مسلوب القرار .. فعندما يخوص الجسد بحار النشوة .. يغوس متلذذاً بالغرق لا يرجو خلاصاً من الموت الجميل.
الأيام تمر وفتانا نسي مهمته.. وقبع كطفل غرير بين أحضان مليكة التي أحكمت شباكها حوله وسيطرت على مجامع حواسه .. وحولته الى خادم يلبي طائعاً رغباتها.. وينقاد لرأيها ..دون أن يشك ولو للحظة في كونها يهودية تسعى لاصطياده في خطة محبوكة ماهرة أعدتها جونايدا سلفاً في القاهرة.
وبعدما فرغت جيوبه . . أفاق على موقفه السيء بلا نقود في بلاد الغربة .. وتمنى لو انه كان يملك الملايين ليظل الى جانب مليكة لا يفارقها أبداً. .
ولما قرأت فتاته أفكاره .. طمأنته . . وعرضت عليه السفر معها الى باريس حيث الحرية والعمل والثراء .. وبلا وعي وافقها .. ورافقها الى عاصمة النور والجمال ومأوى الجواسيس .. وهناك لم يفق أو ينتبه الى حقيقة وجوده بين فكي كماشة ستؤلمه عضاتها حتماً ذات يوم. . ولما أيقنت أنه سقط في براثنها بلا قوة تؤازره وتدفعه لمقاومتها. . نبهته – بالتلميح – الى ضرورة إدراك حقيقة لا بد أن يعيها .. وهي أنها يهودية تدين بالولاء لإسرائيل حتى وإن كانت مغربية المولد .. ولغتها عربية فرنسية. .
وعندما استقرأ المراسل الصحفي مستقبله معها . . كانت الصورة أمامه مهتزة .. إذ خلقت منه أصابع مليكة الناعمة طفلاً لا يعي .. وأبلهاً لا يقرر .. وأعمى لا يرى تحت قدميه.
أقام معها في شقة رائعة .. وكانت تنفق عليه بتوفير فرصة عمل له من خلال أصدقائها في باريس. . واستدعت من أعماقه كل جوانب ضعفه وجنونه . . واستدرجته للحديث في السياسة فأفاض بغزارة ..
وأسر إليها بما لديه من معلومات عن المنظمة الأفرو آسيوية . . وعن أشخاص بعينهم يمثلون رموزاً هامة في المجتمع الدولي .. وحدثها عن علاقاته بكبار المسؤولين في مصر .. وكانت كل تلك الأحاديث مسجلة بالصوت والصورة .. الى جانب تسجيلات أخرى أثناء استعراضه لفحولته عارياً بين أحضان عميلة الموساد.
كان "باسكينر" ضابط الموساد يراقب كل شيء . . ويدرس شخصية نبيل النحاس باستفاضة . . ولما حانت الفرصة المناسبة .. عرفته مليكة بفتاها .. وقدمته اليه على أنه رجل أعمال إسرائيلي يدير شركة كبرى للشحن الجوي تمتد فروعها في كل القارات .. وكان رد الفعل عند المراسل الصحفي يكاد يكون طبيعياً. . فهو يسعى الى المال أينما وجد .. وسواء تحصل عليه من يهودي أو هندوسي فلا فرق .. المهم هو الكم.
استخلص الضابط الامحنك حقيقة مؤداها أن الشاب المصري يريد المال ومليكة معاً. . فتولى أمره . . وتعهده ليصنع منه جاسوساً ملماً بفنون الجاسوسية.. وكانت المناقشات بينهما تبدو طبيعية لا غبار عليها .. ثم تطرق باسكينر شيئاً فشيئاً الى هويته. . وموقف العرب من إسرائيل. . واتجاهات الدبلوماسية العربية إزاء الوجود الإسرائيلي في المنطقة. .
في أحاديثه أيضاً تطرق الى عمليات الموساد الخارقة في البلاد العربية .. وكيف أنها تدفع بسخاء الى عملائها . . وتحرص على حمايتهم إذا انكشف أحدهم .. ونوّه – من بعيد – عن التسجيلات الصوتية والأفلام التي بحوزتهم . . والأسرار التي تحويها هذه الشرائط، وأنها قد تهلك أصحابها إذا ما وقعت في أيدي المخابرات العربية.
لم يكن نبيل النحاس غبياً بالدرجة التي تجعله يجهل ما يرمي إليه باسكينر . . أو يتجاهله .. إذ استوعب نواياه ومقصده . . وكان تعليقه الوحيد أنه شخصياً يتعاطف مع إسرائيل .. وأن تعاطفه هذا عن قناعة تبلورت من خلال قراءاته في تاريخ اليهود.
بذلك . . اختصر نبيل النحاس الطريق الطويل أمام باسكينر .. وخطا أولى خطواته الفعلية على درب الخيانة .. والخسة. .
أبقى باسكينر مليكة الى جوار الجاسوس الجديد. . فوجودها مهم للغاية في تلك المرحلة الأولى من الإعداد والتدريب .. ذلك لأن خضوعه كان مرهوناً بوجودها .. الى جانب آلاف الدولارات التي ملأت جيوبه فأسكرته . . وأنسته عروبته. . فقد كانت تمنحه النعيم ليلاً بينما يدربه باسكينر وزملاؤه نهاراً. .
كانت أولى دروس الخيانة هي كيفية استدراج ذوي المراكز الحساسة للحديث في أمور يصعب تناولها . . وتتعلق بأسرار الدولة .. واستغلال حفلات الخمر والجنس في الوصول الى أسرار غاية في الأهمية .. الى جانب ضرورة تزويد الموساد بنسخة طبق الأصل من محاضر مؤتمرات المنظمة الأفرو آسيوية التي سيعود لعلمه بها من جديد.
علموه أيضاً كيفية قراءة التقارير والأوراق بالمقلوب على مكاتب المسؤولين الكبار عند زياراته لهم . . واختزان الصور والرسوم والمعلومات التي يطلع عليها بذاكرته .. ثم يقوم بتسجيلها كتابة بعد ذلك . . وكيفية مراقبة المواقع العسكرية على الطريق ما بين القاهرة والسويس وكتابة تقارير وافية عن مشاهداته وإن كانت تافهة .. ويقوم بإرسالها – بواسطة الحبر السري – الى أحد العناوين في باريس – مقر الموساد المختص بجواسيس الشرق الأوسط – الذي يقوم بتجميع الأخبار والتقارير التي تفد إليه من قبرص وأثينا وبروكسل وروما فيرسلها بدوره الى تل أبيب.
أهلاً بك في وطنك
ابتدأ النشاط التجسسي الفعلي لنبيل النحاس في منتصف عام 1960 .. فقد عاد الى عمله بالمنظمة .. وكانت وظيفته ساتر طبيعي يختفي خلفه .. ولا يثير أية شبهات من حوله..
واستطاع من خلال علاقاته الهامة استخلاص معلومات لا يتوقف سيلها. . كانت تصل الى المخابرات الاسرائيلية أولاً بأول .. وبالتالي .. يتحصل على مقابل مادي ضخم يتسلمه في القاهرة بطرق ملتوية عديدة..
وبعد عامين تقريباً. . استدعى الى باريس في مهمة عاجلة .. حيث كان بانتظاره باسكينر .. الذي عهد به الى ضابط إسرائيلي آخر استطاع تدريبه على كيفية ترويج الإشاعات .. والتأثير سلبياً على الرأي العام من خلال تجمعات الأوساط المختلفة في مصر، ولقنع الكثير من أساليب الحرب النفسية والتأثير السيكولوجي، اعتماداً على لياقته ومقدرته الفذة على الإقناع، الى جانب ترسيخ فكرة الخوف من الإسرائيليين لدى المحيطين به، واستبيان آرائهم تجاه العدو وقدرات الجيوش العربية على مواجهته.
وبعد مرور عدة سنوات – كان نبيل النحاس من أنشط جواسيس إسرائيل في مصر. لقد نسي مليكة، ولم يعد يعرف لها وجهاً بعدما أدت مهمتها خير قيام. بينما انشغل هو بجمع أموال الموساد التي هيأت له فرص التعرف بالكثيرات غيرها، فالأموال طائلة والوثائق الهامة تقيم، والنساء على كل الألوان.
وفي مرحلة أخرى من مراحل صناعة الجواسيس المحترفين – أعد له برنامج تدريبي أكثر خطورة في بيروت، إذ تم إخضاعه لدورة تدريبية بواسطة خبير متفجرات عميل للموساد، فتعلم كيفية صنع المتفجرات، وتفخيخ الرسائل والطرود والتخفي والتمويه والهرب والتنكر.
لقد أرادوا أن يخلقوا منه جاسوساً فاعلاً وخبيراً في الأعمال الإرهابية والتدمير في مصر. وكان الخائن أشد قابلية للتشكل والتمحور وتنفيذ مخططات العدو ولو بقتل الأبرياء، وبعدما فرت من أعماقه دلائل العروبة، وسرت بشرايينه دماء تحوي كرات الخيانة بكل الصور.
لذلك .. تعاون بإخلاص مع الموساد في تهديد الخبراء الألمان، الذين يعملون في المصانع الحربية المصرية لإنتاج الصواريخ والأسلحة المتطورة .. بتوجيه الرسائل المتفجرة الى بعضهم، بالاشتراك ضمناً مع "يوهان وولفجانج لوتز" عميل الموساد الشهير في القاهرة الذي ألقى القبض عليه في فبراير 1965 ولم يجر إعدامه.
وبرغم عدم اكتشاف أمره – إلا أن نبيل النحاس لم يتوقف بعد سقوط لوتز، واحتل مرتبة الصدارة لدى المخابرات الاسرائيلية في المنطقة. وقام بدور حيوي في نقل أسرار عسكرية وحيوية الى إسرائيل قبل نكسة يونيو 1967 . . ساعدت العدو على اجتياح الأراضي المصرية واحتلال سيناء. واعتبر نبيل النحاس نجاح إسرائيل في هزيمة العرب نتاج تعاونه معهم وإمدادهم بوثائق خطيرة وتقارير تشكل الصورة الواقعية للعسكرية المصرية .
وفي عام 1968 أفرجت مصر عن "لوتز" في صقفة مع إسرائيل للإفراج عن عدد كبير من أسرى الحرب لديها. وأحس نبيل بالزهو، فالصفقة منحته قدراً هائلاً من الثقة في مخابرات اسرائيل التي لا تترك جواسيسها وعملاءها نهباً للقلق، إذ تسعى لمبادلتهم وبأي ثمن حماية للجواسيس الآخرين الذين يعملون في الخفاء، ويتملكهم الرعب عند سقوط أحدهم في قبضة المخابرات العربية.
لقد اطمأن أخيراً على مستقبله في حالة سقوطه، فسوف تتم مبادلته هو الآخر ليعيش بقية حياته في إحدى الفيلات الرائعة بإسرائيل، ينعم بالأمن وبالأموال الكثيرة.
هذا الهاجس الذي عاشه، جعل منه خائناً خطيراً لا يتورع عن بيع أي شيء ذي أهمية لإسرائيل. . وكانت زيارته الى تل أبيب حلماً يراوده، وأملاً ينشده. لقد أراد أن يرى إسرائيل من الداخل ويتجول بين مدنها ويتخير لنفسه بيتاً نماسباً قد يسكنه ذات يوم. وأعدوا له برنامجاً مشحوناً ينتظره قبل زيارته لإسرائيل بعدة أسابيع، وأثناء تواجده في أثينا. . كانت خطة سفره قد اكتملت.
ففي غفلة عن الأنظار اختفى نبيل فجأة من فندق "بوزايدون". . وفي المطار كان ثمة رجل أشقر تغطي وجهه نظارة سوداء، ويرتدي معطفاً ترتفع ياقته لتخفي بقية وجهه، يحمل جواز سفر إسرائيلياً باسم "شاؤول ياريف" ولا يتحدث مع أحد. خطواته الواثقة قادته الى السيارة التي أقلته حتى طائرة العال الإسرائيلية الرابضة على الممر، وعن قرب كان يتبعه رجل آخر لا يبدو أنه يعرفه.. إنه باسكينر ضابط الموساد الذي خلق منه جاسوساً محترفاً، وفي مطار بن جوريون كانت تنتظره سيارة ليموزين سوداء ذات ستائر، سرعان ما دلف اليها .. فأقلته الى مكان لا يعرفه سوى قلة من ضباط الموساد الذين استقبلوه بحفاوة بالغة.
وفي مكتب "زيفي زامير" رئيس الموساد الجديد كان اللقاء أكثر حرارة، إذ ترك زامير مكتبه وجلس قبالته يتأمل وجهه العربي الصديق، وعرض عليه خدمات الموساد فاختار الخائن أولاً أن يلتقي بالسيدة جولدا مائير، فصحبه الى هناك حيث اصطف أكثر من خمسة وعشرين جنرالاً إسرائيلياً لتحيته، واحتضنه أحدهم قائلاً له "أهلاً بك في وطنك إسرائيل" وصافحته جولدا مائير بحرارة، وأمرت بتلبية كل مطالبه ولو كانت مستحيلة. وقالت لزامير: "شكراً على هديتك الرائعة التي جلبتها لإسرائيل" وعلق الخائن قائلاً:
لم أكن أحلم قبل اليوم بأكثر مما أنا فيه الآن. أشعر أنني بين أهلي، ويكفيني هذا الشعور سيدتي.
وأمرت له رئيسة الوزراء بمكافأة خاصة وقدرها خمسة وعشرين ألف دولار من مكتبها، بخلاف ما سيحصل عليه من أموال الموساد. .
وفي الفيلا التي نزل بها كانت مفاجأة مدهشة .. إنها مليكة .. أجمل النساء اللاتي أسكرنه ، والعميلة المحترفة التي أوقعت به صيداً سهلاً في شرك الجاسوسية لصالح الموساد. فجددت معه ذكرى الأيام الخوالي .. وأغدقت عليه من نبع أنوثتها شلالات من المتعة تمنحها له هذه المرة ليس بقصد تجنيده كما حدث في المغرب، بل لتكافئه على إخلاصه لإسرائيل.
لم تكن هناك فروق بين إحساس المتعة في الحالتين. فمليكة أنثى مدربة تعرف كيف تغرقه في بحورها. . وكلما أرادت إنتشاله جذبها مرات ومرات. فما أحلى الغرق في بحور فاتنة مثيرة، وما ألذه من موت جميل !!
ستة عشرة يوماً بين ربوع إسرائيل زائراً عزيزاً، عاد بعدها نبيل النحاس الى أثينا بآلاف الدولارات التي كوفئ بها من إسرائيل.. والتي زادته شراهة في الخيانة، وعبقرية في جلب المعلومات. .
فالمنطقة العربية تغلي كبركان على وشك الفوران والثورة .. والشعب العربي هديره مطالباً بالثأر يصم الأذان، وحالة ترقب في إسرائيل وانتظار لصحوة المارد العربي . . الذي سقط يتلوى يبغي الوقوف والصمود.
بكاء الذليل
كانت المهمة بالنسبة لنبيل أشد صعوبة برغم سنوات الخيانة والخبرة، وبرغم احتضان مصر له لم يحفظ لها الجميل بعدما تعهدته طفلاً، ونشأته صبياً، وعلمته شاباً، ونخرت الخيانة عظامه كالسوس يسعى لا علاج له سوى الهلاك والفناء. فبارد على الفور في استكشاف النوايا تجاه إسرائيل، ونشط في جمع أدق المعلومات عن تسليح الجيش، والمعدات الحديثة التي تصل سراً من الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الشرقية، وانغمس في ملذاته بصحبة فتيات الليل، يجلب لهن بعض المناصب والعارفين بالأمور العسكرية.
ومن خلال حفلات المجون كانت المعلومات تتناثر هنا وهناك، فيلتقطها بعقل واع يقظ ويدونها، ويبعث بها في الحال الى مكتب الموساد في جنيف.
وعندما تلقى رسالة مشفرة من رؤسائه تطلب منه معلومات مركزة عن حركة ميناء الاسكندرية، لم يتأخر في تنفيذ الأمر، وأسرع الى الاسكندرية للقاء صديق له يعمل في شركة تمارس نشاطات بحرية، وأغدق عليه بالهدايا الثمينة . . فانتبه صديقه لذلك وتساءل مع نفسه "لماذا"؟ وادعى جهله بأمور تجري بالميناء الحيوي .. فوجد إلحاحاً من الخائن يطلب منه تزويده بما يخفى عنه .. بحجة عمله كمراسل لوكالة أنباء دولية.
لم يكن نبيل يدرك مطلقاً أن صديقه قد انتابته الشكوك .. فبادر على الفور بإبلاغ المخابرات المصرية ووضع العميل تحت المراقبة الشديدة.
وبعد نصر أكتوبر 1973 صدم الخائن لهزيمة إسرائيل. وفي روما عنفه ضابط الموساد واتهمه بالإهمال الجسيم الذي أدى لهزيمتهم الساحقة أمام العرب. وأقسم له الخائن أنه لن يقصر، ولكن الضابط كان ثائراً ولم يستطع أن يخفي انفعاله وغضبه.
تخوف نبيل من فكرة الاستغناء عن خدماته للموساد.. لذلك عاد الى مصر في الرابع عشر من نوفمبر 1973 حانقاً، وبداخله تصميم قوي على "تعويض" هزيمة إسرائيل، وتملكه بالفعل اعتقاد بأنه أهمل في عمله ولم يكن دقيقاً في نقل نوايا المصريين.. وبنشاط مجنون أخذ يبحث عن مصادر لمعلومات وإجابات يحمل أسئلتها. وفي غمرة جنون البحث .. كانت المخابرات المصرية تلاصقه كظله وتريد ضبطه متلبساً بالتجسس.
وفي 24 نوفمبر 1973 – بعد عشرة أيام من عودته من روما – اقتحمت المخابرات المصرية شقته في القاهرة، وضبطت أدوات التجسس كاملة، فلم يستطع الإنكار وإنهار باكياً أمام المحققين. . وأدلى باعترافات تفصيلية ملأت مئات الصفحات، وهو لا يصدق أنه سقط بعد 13 عاماً كاملة في مهنة التجسس التي أجادها واحترفها. وقدم الى المحكمة العسكرية وظل لآخر لحظة ينتظر المفاجأة .. مفاجأة مبادلته والعودة الى "وطنه إسرائيل".
لكن خاب ظنه وقتل أمله . . فالجيش المصري كان هو الغالب المنتصر في أكتوبر 1973 .. والأسرى كانوا هذه المرة جنوداً إسرائيليين، وليس هناك أمل لمبادلته على الإطلاق.
لقد كانت إسرائيل في محنة ما بعدها محنة. ولا وقت هناك للتفكير في إنقاذ خائن باع وطنه رخيصاً، بحفنة من الدولارات، وبآهات غانية تتلوى بين أحضانه. .
وكمثل جواسيس خونة آخرين اكتشف أمرهم. . أنكرت إسرائيل معرفتها به، وتجاهلته ليموت ذليلاً لا ينفعه بكاء الندم .. أو تقيه أموال الموساد من حبل المشنقة.. !!
الموت الجميل . .
أشرس جواسيس إسرائيل في مصر، ظل يمارس تجسسه وخيانته في الظل لمدة "13 عاماً" متتالية، بعيداً عن أعين جهاز المخابرات المصرية، وعند سقوطه. . أصيبت المخابرات الإسرائيلية بلطمة شديدة أفقدتها توازنها. فقد تزامن سقوطه مع سقوط جواسيس آخرين اكتشف أمرهم، وفقدت الموساد بذلك مصدراً حيوياً من مصادرها في مصر، الذين أمدوها بمعلومات غاية في الأهمية طوال هذه السنوات بلا تعب أو كلل.
فقد كانت الجاسوسية عند نبيل النحاس قد وصلت الى درجة الصقل والاحتراف، بعدما تعدت مراحلها الابتدائية الأولى، وتحولت مهنة التجسس عنده الى أستاذية في التخفي والتمويه والبحث عن مصادر المعلومات. ووصلت درجة الثقة في معلوماته عند جهاز الموساد لمدى شاسع من الجدية والتأكيد.
جونايدا روتي
حوت التحقيقات التي أجريت مع العديد من الخونة بمعرفة المخابرات العربية . . سواء في مصر أو في سوريا أو العراق أسراراً مذهلة عن كيفية انتقاء الجواسيس . . فمراكز المخابرات الاسرائيلية بكافة فروعها – شأنها كشأن كافة أجهزة المخابرات الأخرى – تتخذ من النظرية القائلة بأن لدى كل إنسان نقطة ضعف.. ولكل إنسان ثمن . .نقطة انطلاق للتنقيب عن ضعاف النفوس واصطيادهم .. وتخضع عملية الإيقاع بهم والسيطرة عليهم لخطوات معقدة وشائكة.
من هذا المنطلق .. أجاد رجال الموساد استخدام هذه النظرية باتساع . . دون اعتبارات للشرف أو للفضيلة . . وأخذوا يطرقون كل السبل لتجنيد عملاء لها في كل مكان. فمن كان يبحث عن المال وجد ضالته لديهم.. ومن كان يسعى وراء نزواته وشهوته قذفوا اليه بأجمل نسائهم. . ومن ضاقت به الحياة في بلده أمنوا له عملاً وهمياً يقوده في النهاية الى مصيدة الجاسوسية، دون أن يدري.
فالملاحظ. . أن "العميل" في الغالب لا يعرف أنه أصبح "عميلاً" في بداية تجنيده. . بل يكتشف ذلك بنفسه بعد انغماسه في التجسس .. وتكون شباك الجاسوسية قد كبلته وأطبقت عليه . . ولم تعد لديه أية وسيلة للفكاك.
حينئذ .. كالآلة الصماء يضطر الى العمل دون إدراك للعواقب. .
والمثير في الأمر . . أن هناك بعض الجواسيس الذين سقطوا في قبضة المخابرات العربية كانوا يجهلون أنهم عملاء لإسرائيل. . وتبين لهم ذلك فقط عندما ووجهوا بالحقائق والأدلة التي تدينهم وتؤكد تورطهم. . ومن خلال اعترافات بعضهم – فتحي رزق، محمد أحمد حسن، جان ليون توماس، فؤاد محرم، سمير باسيلي. . الخ – نجد حقائق مثيرة عن كيفية اصطيادهم وتجنيدهم . . حيث يستخدم صائدوا الجواسيس كل أسلحة التأثير النفسي والمغريات المختلفة لإذابة تركيزهم واحتوائهم. . فلكل صيد "طعم" خاص به يلقى اليه . . ومن خلال قصص الجواسيس التي بين أيدينا نجد أن بينها تشابهاً كبيراً. . ولا تكاد تختلف إحداها عن الأخرى إلا من ناحية تنوع الأسماء والأماكن والمواقف. ذلك أن صائدي الجواسيس في المخابرات الاسرائيلية لهم ميزة عجيبة وصفة واحدة .. وهي أن لكل منهم أنف كلب الصيد الذي يدرك مكان الفريسة بالشم ويحدد مكانها بدقة . . الى جانب رادار حساس في أذنيه. . يضاف الى ذلك "الكرم" الذي يصل لدرجة البذخ أحياناً. . واتقان شديد للغة العربية وعادات شعوبها.
هذه الصفات مجتمعة تؤمن للصياد أن يكتشف مكامن الضعف في الفريسة .. التي تكون على وشك الإفلاس . . أو قد تكون مصابة بانحراف جنسي . . أو تحلم بعلاقات حميمة مع ملكات الفتنة والأنوثة.
هذا ما حدث بالضبط مع الجاسوس "نبيل النحاس" الذي عبد الشهوة فأغرقته وأرقته.. وبسببها كان اصطياده سهلاً .. بسيطاً. . وما أسهل تصيد عشاق الجنس وعبدة اللذة.
تمتد جذور أسرته الى "حاصبيا" في محافظة لبنان الجنوبية وتقع على نهر الحاصباني وبعد سنوات طويلة انتقلت الأسرة الى "كفر شيما" بمنطقة الشويفات جنوبي بيروت ومن هناك الى مصر وأقام والده بالسويس، وتزوج من فتاة مصرية أنجبت له "نبيل" عام 1936.
كان الطفل يحمل ملامح والده الشامي الأشقر وعذوبة أمه المصرية. . وتميز منذ الصغر بذكاء شديد يفوق أقرانه .. فتنبأ له الجميع بمستقبل مضمون ونجاح أكيد. .
وتلاحقت السنون سراعاً ونجح نبيل النحاس في الثانوية العامة والتحق بجامعة القاهرة طالباً بكلية التجارة. . وبخطوات واثقة شق طريقه نحو الحياة العملية بعد تخرجه متفوقاً. . تراوده طموحات لا حدود لها. .
ولم يطل به الانتظار طويلاً . . إذ سرعان ما عمل سكرتيراً في منظمة الشعوب الأفرو آسيوية التي كان يرأسها الأديب يوسف السباعي . . وكان عمله كتابة محاضر الجلسات والمؤتمرات على الآلة الكاتبة.
ومن خلال وظيفته وموقعه.. توسعت علاقاته وتشبعت .. وتبلورت شخصيته الجديدة التي نضجت مع ملاحة ورجولة تلفت انتباه الحسان .. وتجعل منه مأملاً لهن . . فأحطنه بدلالهن ليقطف منهن من يشاء ..
وبمرور الشهور استشعر نبيل النحاس ضآلة راتبه الذي تعدى المائة جنيه .. في ذات الوقت الذي كان فيه راتب زميله في مكان آخر لا يتعدى الخمسة عشر جنيهاً في ذلك الوقت عام 1959. . فعمله المرموق كان يتطلب مظهراً حسناً وملابس أنيقة تتناسب ومكانته .. الى جانب حاجته للإنفاق على معيشته وعلى علاقاته النسائية وملذاته.. خاصة .. وقد ارتبط بعلاقة حميمة بفتاة أفريقية من كوناكري في غينيا . . فانجرف معها الى محيطات المتعة يجدف بلا كلل. كان اسمها "جونايدا روتي" .. خيزرانية القوام أبنوسية اللون رائعة الخلقة .. تعمل مراسلة صحفية لعدة صحف أفريقية وعالمية.
استطاعت جونايدا أن تمتلك عقله وتنسيه أية امرأة سواها. . فأغدق عليها بالهدايا حتى تعثرت أحواله المالية .. فوجد الحل لديها لإنقاذه من تعثره عندما عرضت عليه أن يطلب إجازة من عمله بالمنظمة .. والانضمام الى إحدى وكالات الأنباء العالمية كمراسل مقابل راتب كبير مغر..
وكانت أولى المهام التي أوكلت إليه السفر الى منطقة الصحراء المغربية "ريودي أورو" ومن "فيلاشيز نيروس" و "العيون" يستطيع أن ينقل أخبار الصراع السري الدائر بين المملكة المغربية وموريتانيا . . صراع النفوذ على المنطقة المحصورة بينهما.
كانت سعادته بالمهمة الجديدة عظيمة .. حيث ستتاح له فرصة اللحاق بالساحرة الأفريقية – جونايدا – التي سبقته الى كوناكري. . وطار النحاس الى الدار البيضاء تحفه أحلام المغامرة والثقة في الغد.
الطريق المختصر
هناك – في الدار البيضاء – كانت بانتظاره مفاجأة بدلت مجرى حياته كلها .. إذ تعرف إليه في بهو الفندق رجل مغربي .. يهودي .. عرف منه وجهته .. فعرض عليه مساعدته لدخول ريودي أورو عن طريق أعوان له في "سيدي أفني" أقصى جنوب المغرب .. وكيفية اجتياز "وادي درعة" للوصول الى الحدود.
سر نبيل النحاس للصدفة الجميلة التي ما توقعها.. واحتفاء بالمراسل الصحفي الوسيم .. أعد له المضيف وليمة غداء بمنزله في "أزمور" الساحرة. . التي تقع على نهر "أم الربيع" وتشرف على ساحل المحيط الأطلنطي.
وفي منزل تحيطه الحدائق والزهور في بانوراما طبيعية رائعة .. كانت تنتظره المفاجأة .. إنها "مليكة" اليهودية المغربية التي تستحوذ على جمال فتان لم تره عين من قبل . .
كانت في الواحدة والعشرين من عمرها .. إذا خطت . . تحركت الفتنة وترجرجت تحت ثيابها . . وإذا تأودت . . أغرقت الدنيا بهاء وحسناً. . وإذا تحدثت .. تموجت الأنغام سكرى على شفتيها. . وأربكت حدود العقل وأركانه.
أذهل جمالها المراسل الصحفي الجديد فنسي مهمته في الجنوب .. وذابت جونايدا الى القاع أمام سحر مليكة .. فقد أفقدته "حسناء أزمور" الوعي والرشاد .. وطيرت عقله الى سفوح المتعة. . فأقبل يلعق عناقيد الفتنة بين يديها . . ويتعبد منتشياً في محرابها مسلوب القرار .. فعندما يخوص الجسد بحار النشوة .. يغوس متلذذاً بالغرق لا يرجو خلاصاً من الموت الجميل.
الأيام تمر وفتانا نسي مهمته.. وقبع كطفل غرير بين أحضان مليكة التي أحكمت شباكها حوله وسيطرت على مجامع حواسه .. وحولته الى خادم يلبي طائعاً رغباتها.. وينقاد لرأيها ..دون أن يشك ولو للحظة في كونها يهودية تسعى لاصطياده في خطة محبوكة ماهرة أعدتها جونايدا سلفاً في القاهرة.
وبعدما فرغت جيوبه . . أفاق على موقفه السيء بلا نقود في بلاد الغربة .. وتمنى لو انه كان يملك الملايين ليظل الى جانب مليكة لا يفارقها أبداً. .
ولما قرأت فتاته أفكاره .. طمأنته . . وعرضت عليه السفر معها الى باريس حيث الحرية والعمل والثراء .. وبلا وعي وافقها .. ورافقها الى عاصمة النور والجمال ومأوى الجواسيس .. وهناك لم يفق أو ينتبه الى حقيقة وجوده بين فكي كماشة ستؤلمه عضاتها حتماً ذات يوم. . ولما أيقنت أنه سقط في براثنها بلا قوة تؤازره وتدفعه لمقاومتها. . نبهته – بالتلميح – الى ضرورة إدراك حقيقة لا بد أن يعيها .. وهي أنها يهودية تدين بالولاء لإسرائيل حتى وإن كانت مغربية المولد .. ولغتها عربية فرنسية. .
وعندما استقرأ المراسل الصحفي مستقبله معها . . كانت الصورة أمامه مهتزة .. إذ خلقت منه أصابع مليكة الناعمة طفلاً لا يعي .. وأبلهاً لا يقرر .. وأعمى لا يرى تحت قدميه.
أقام معها في شقة رائعة .. وكانت تنفق عليه بتوفير فرصة عمل له من خلال أصدقائها في باريس. . واستدعت من أعماقه كل جوانب ضعفه وجنونه . . واستدرجته للحديث في السياسة فأفاض بغزارة ..
وأسر إليها بما لديه من معلومات عن المنظمة الأفرو آسيوية . . وعن أشخاص بعينهم يمثلون رموزاً هامة في المجتمع الدولي .. وحدثها عن علاقاته بكبار المسؤولين في مصر .. وكانت كل تلك الأحاديث مسجلة بالصوت والصورة .. الى جانب تسجيلات أخرى أثناء استعراضه لفحولته عارياً بين أحضان عميلة الموساد.
كان "باسكينر" ضابط الموساد يراقب كل شيء . . ويدرس شخصية نبيل النحاس باستفاضة . . ولما حانت الفرصة المناسبة .. عرفته مليكة بفتاها .. وقدمته اليه على أنه رجل أعمال إسرائيلي يدير شركة كبرى للشحن الجوي تمتد فروعها في كل القارات .. وكان رد الفعل عند المراسل الصحفي يكاد يكون طبيعياً. . فهو يسعى الى المال أينما وجد .. وسواء تحصل عليه من يهودي أو هندوسي فلا فرق .. المهم هو الكم.
استخلص الضابط الامحنك حقيقة مؤداها أن الشاب المصري يريد المال ومليكة معاً. . فتولى أمره . . وتعهده ليصنع منه جاسوساً ملماً بفنون الجاسوسية.. وكانت المناقشات بينهما تبدو طبيعية لا غبار عليها .. ثم تطرق باسكينر شيئاً فشيئاً الى هويته. . وموقف العرب من إسرائيل. . واتجاهات الدبلوماسية العربية إزاء الوجود الإسرائيلي في المنطقة. .
في أحاديثه أيضاً تطرق الى عمليات الموساد الخارقة في البلاد العربية .. وكيف أنها تدفع بسخاء الى عملائها . . وتحرص على حمايتهم إذا انكشف أحدهم .. ونوّه – من بعيد – عن التسجيلات الصوتية والأفلام التي بحوزتهم . . والأسرار التي تحويها هذه الشرائط، وأنها قد تهلك أصحابها إذا ما وقعت في أيدي المخابرات العربية.
لم يكن نبيل النحاس غبياً بالدرجة التي تجعله يجهل ما يرمي إليه باسكينر . . أو يتجاهله .. إذ استوعب نواياه ومقصده . . وكان تعليقه الوحيد أنه شخصياً يتعاطف مع إسرائيل .. وأن تعاطفه هذا عن قناعة تبلورت من خلال قراءاته في تاريخ اليهود.
بذلك . . اختصر نبيل النحاس الطريق الطويل أمام باسكينر .. وخطا أولى خطواته الفعلية على درب الخيانة .. والخسة. .
أبقى باسكينر مليكة الى جوار الجاسوس الجديد. . فوجودها مهم للغاية في تلك المرحلة الأولى من الإعداد والتدريب .. ذلك لأن خضوعه كان مرهوناً بوجودها .. الى جانب آلاف الدولارات التي ملأت جيوبه فأسكرته . . وأنسته عروبته. . فقد كانت تمنحه النعيم ليلاً بينما يدربه باسكينر وزملاؤه نهاراً. .
كانت أولى دروس الخيانة هي كيفية استدراج ذوي المراكز الحساسة للحديث في أمور يصعب تناولها . . وتتعلق بأسرار الدولة .. واستغلال حفلات الخمر والجنس في الوصول الى أسرار غاية في الأهمية .. الى جانب ضرورة تزويد الموساد بنسخة طبق الأصل من محاضر مؤتمرات المنظمة الأفرو آسيوية التي سيعود لعلمه بها من جديد.
علموه أيضاً كيفية قراءة التقارير والأوراق بالمقلوب على مكاتب المسؤولين الكبار عند زياراته لهم . . واختزان الصور والرسوم والمعلومات التي يطلع عليها بذاكرته .. ثم يقوم بتسجيلها كتابة بعد ذلك . . وكيفية مراقبة المواقع العسكرية على الطريق ما بين القاهرة والسويس وكتابة تقارير وافية عن مشاهداته وإن كانت تافهة .. ويقوم بإرسالها – بواسطة الحبر السري – الى أحد العناوين في باريس – مقر الموساد المختص بجواسيس الشرق الأوسط – الذي يقوم بتجميع الأخبار والتقارير التي تفد إليه من قبرص وأثينا وبروكسل وروما فيرسلها بدوره الى تل أبيب.
أهلاً بك في وطنك
ابتدأ النشاط التجسسي الفعلي لنبيل النحاس في منتصف عام 1960 .. فقد عاد الى عمله بالمنظمة .. وكانت وظيفته ساتر طبيعي يختفي خلفه .. ولا يثير أية شبهات من حوله..
واستطاع من خلال علاقاته الهامة استخلاص معلومات لا يتوقف سيلها. . كانت تصل الى المخابرات الاسرائيلية أولاً بأول .. وبالتالي .. يتحصل على مقابل مادي ضخم يتسلمه في القاهرة بطرق ملتوية عديدة..
وبعد عامين تقريباً. . استدعى الى باريس في مهمة عاجلة .. حيث كان بانتظاره باسكينر .. الذي عهد به الى ضابط إسرائيلي آخر استطاع تدريبه على كيفية ترويج الإشاعات .. والتأثير سلبياً على الرأي العام من خلال تجمعات الأوساط المختلفة في مصر، ولقنع الكثير من أساليب الحرب النفسية والتأثير السيكولوجي، اعتماداً على لياقته ومقدرته الفذة على الإقناع، الى جانب ترسيخ فكرة الخوف من الإسرائيليين لدى المحيطين به، واستبيان آرائهم تجاه العدو وقدرات الجيوش العربية على مواجهته.
وبعد مرور عدة سنوات – كان نبيل النحاس من أنشط جواسيس إسرائيل في مصر. لقد نسي مليكة، ولم يعد يعرف لها وجهاً بعدما أدت مهمتها خير قيام. بينما انشغل هو بجمع أموال الموساد التي هيأت له فرص التعرف بالكثيرات غيرها، فالأموال طائلة والوثائق الهامة تقيم، والنساء على كل الألوان.
وفي مرحلة أخرى من مراحل صناعة الجواسيس المحترفين – أعد له برنامج تدريبي أكثر خطورة في بيروت، إذ تم إخضاعه لدورة تدريبية بواسطة خبير متفجرات عميل للموساد، فتعلم كيفية صنع المتفجرات، وتفخيخ الرسائل والطرود والتخفي والتمويه والهرب والتنكر.
لقد أرادوا أن يخلقوا منه جاسوساً فاعلاً وخبيراً في الأعمال الإرهابية والتدمير في مصر. وكان الخائن أشد قابلية للتشكل والتمحور وتنفيذ مخططات العدو ولو بقتل الأبرياء، وبعدما فرت من أعماقه دلائل العروبة، وسرت بشرايينه دماء تحوي كرات الخيانة بكل الصور.
لذلك .. تعاون بإخلاص مع الموساد في تهديد الخبراء الألمان، الذين يعملون في المصانع الحربية المصرية لإنتاج الصواريخ والأسلحة المتطورة .. بتوجيه الرسائل المتفجرة الى بعضهم، بالاشتراك ضمناً مع "يوهان وولفجانج لوتز" عميل الموساد الشهير في القاهرة الذي ألقى القبض عليه في فبراير 1965 ولم يجر إعدامه.
وبرغم عدم اكتشاف أمره – إلا أن نبيل النحاس لم يتوقف بعد سقوط لوتز، واحتل مرتبة الصدارة لدى المخابرات الاسرائيلية في المنطقة. وقام بدور حيوي في نقل أسرار عسكرية وحيوية الى إسرائيل قبل نكسة يونيو 1967 . . ساعدت العدو على اجتياح الأراضي المصرية واحتلال سيناء. واعتبر نبيل النحاس نجاح إسرائيل في هزيمة العرب نتاج تعاونه معهم وإمدادهم بوثائق خطيرة وتقارير تشكل الصورة الواقعية للعسكرية المصرية .
وفي عام 1968 أفرجت مصر عن "لوتز" في صقفة مع إسرائيل للإفراج عن عدد كبير من أسرى الحرب لديها. وأحس نبيل بالزهو، فالصفقة منحته قدراً هائلاً من الثقة في مخابرات اسرائيل التي لا تترك جواسيسها وعملاءها نهباً للقلق، إذ تسعى لمبادلتهم وبأي ثمن حماية للجواسيس الآخرين الذين يعملون في الخفاء، ويتملكهم الرعب عند سقوط أحدهم في قبضة المخابرات العربية.
لقد اطمأن أخيراً على مستقبله في حالة سقوطه، فسوف تتم مبادلته هو الآخر ليعيش بقية حياته في إحدى الفيلات الرائعة بإسرائيل، ينعم بالأمن وبالأموال الكثيرة.
هذا الهاجس الذي عاشه، جعل منه خائناً خطيراً لا يتورع عن بيع أي شيء ذي أهمية لإسرائيل. . وكانت زيارته الى تل أبيب حلماً يراوده، وأملاً ينشده. لقد أراد أن يرى إسرائيل من الداخل ويتجول بين مدنها ويتخير لنفسه بيتاً نماسباً قد يسكنه ذات يوم. وأعدوا له برنامجاً مشحوناً ينتظره قبل زيارته لإسرائيل بعدة أسابيع، وأثناء تواجده في أثينا. . كانت خطة سفره قد اكتملت.
ففي غفلة عن الأنظار اختفى نبيل فجأة من فندق "بوزايدون". . وفي المطار كان ثمة رجل أشقر تغطي وجهه نظارة سوداء، ويرتدي معطفاً ترتفع ياقته لتخفي بقية وجهه، يحمل جواز سفر إسرائيلياً باسم "شاؤول ياريف" ولا يتحدث مع أحد. خطواته الواثقة قادته الى السيارة التي أقلته حتى طائرة العال الإسرائيلية الرابضة على الممر، وعن قرب كان يتبعه رجل آخر لا يبدو أنه يعرفه.. إنه باسكينر ضابط الموساد الذي خلق منه جاسوساً محترفاً، وفي مطار بن جوريون كانت تنتظره سيارة ليموزين سوداء ذات ستائر، سرعان ما دلف اليها .. فأقلته الى مكان لا يعرفه سوى قلة من ضباط الموساد الذين استقبلوه بحفاوة بالغة.
وفي مكتب "زيفي زامير" رئيس الموساد الجديد كان اللقاء أكثر حرارة، إذ ترك زامير مكتبه وجلس قبالته يتأمل وجهه العربي الصديق، وعرض عليه خدمات الموساد فاختار الخائن أولاً أن يلتقي بالسيدة جولدا مائير، فصحبه الى هناك حيث اصطف أكثر من خمسة وعشرين جنرالاً إسرائيلياً لتحيته، واحتضنه أحدهم قائلاً له "أهلاً بك في وطنك إسرائيل" وصافحته جولدا مائير بحرارة، وأمرت بتلبية كل مطالبه ولو كانت مستحيلة. وقالت لزامير: "شكراً على هديتك الرائعة التي جلبتها لإسرائيل" وعلق الخائن قائلاً:
لم أكن أحلم قبل اليوم بأكثر مما أنا فيه الآن. أشعر أنني بين أهلي، ويكفيني هذا الشعور سيدتي.
وأمرت له رئيسة الوزراء بمكافأة خاصة وقدرها خمسة وعشرين ألف دولار من مكتبها، بخلاف ما سيحصل عليه من أموال الموساد. .
وفي الفيلا التي نزل بها كانت مفاجأة مدهشة .. إنها مليكة .. أجمل النساء اللاتي أسكرنه ، والعميلة المحترفة التي أوقعت به صيداً سهلاً في شرك الجاسوسية لصالح الموساد. فجددت معه ذكرى الأيام الخوالي .. وأغدقت عليه من نبع أنوثتها شلالات من المتعة تمنحها له هذه المرة ليس بقصد تجنيده كما حدث في المغرب، بل لتكافئه على إخلاصه لإسرائيل.
لم تكن هناك فروق بين إحساس المتعة في الحالتين. فمليكة أنثى مدربة تعرف كيف تغرقه في بحورها. . وكلما أرادت إنتشاله جذبها مرات ومرات. فما أحلى الغرق في بحور فاتنة مثيرة، وما ألذه من موت جميل !!
ستة عشرة يوماً بين ربوع إسرائيل زائراً عزيزاً، عاد بعدها نبيل النحاس الى أثينا بآلاف الدولارات التي كوفئ بها من إسرائيل.. والتي زادته شراهة في الخيانة، وعبقرية في جلب المعلومات. .
فالمنطقة العربية تغلي كبركان على وشك الفوران والثورة .. والشعب العربي هديره مطالباً بالثأر يصم الأذان، وحالة ترقب في إسرائيل وانتظار لصحوة المارد العربي . . الذي سقط يتلوى يبغي الوقوف والصمود.
بكاء الذليل
كانت المهمة بالنسبة لنبيل أشد صعوبة برغم سنوات الخيانة والخبرة، وبرغم احتضان مصر له لم يحفظ لها الجميل بعدما تعهدته طفلاً، ونشأته صبياً، وعلمته شاباً، ونخرت الخيانة عظامه كالسوس يسعى لا علاج له سوى الهلاك والفناء. فبارد على الفور في استكشاف النوايا تجاه إسرائيل، ونشط في جمع أدق المعلومات عن تسليح الجيش، والمعدات الحديثة التي تصل سراً من الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الشرقية، وانغمس في ملذاته بصحبة فتيات الليل، يجلب لهن بعض المناصب والعارفين بالأمور العسكرية.
ومن خلال حفلات المجون كانت المعلومات تتناثر هنا وهناك، فيلتقطها بعقل واع يقظ ويدونها، ويبعث بها في الحال الى مكتب الموساد في جنيف.
وعندما تلقى رسالة مشفرة من رؤسائه تطلب منه معلومات مركزة عن حركة ميناء الاسكندرية، لم يتأخر في تنفيذ الأمر، وأسرع الى الاسكندرية للقاء صديق له يعمل في شركة تمارس نشاطات بحرية، وأغدق عليه بالهدايا الثمينة . . فانتبه صديقه لذلك وتساءل مع نفسه "لماذا"؟ وادعى جهله بأمور تجري بالميناء الحيوي .. فوجد إلحاحاً من الخائن يطلب منه تزويده بما يخفى عنه .. بحجة عمله كمراسل لوكالة أنباء دولية.
لم يكن نبيل يدرك مطلقاً أن صديقه قد انتابته الشكوك .. فبادر على الفور بإبلاغ المخابرات المصرية ووضع العميل تحت المراقبة الشديدة.
وبعد نصر أكتوبر 1973 صدم الخائن لهزيمة إسرائيل. وفي روما عنفه ضابط الموساد واتهمه بالإهمال الجسيم الذي أدى لهزيمتهم الساحقة أمام العرب. وأقسم له الخائن أنه لن يقصر، ولكن الضابط كان ثائراً ولم يستطع أن يخفي انفعاله وغضبه.
تخوف نبيل من فكرة الاستغناء عن خدماته للموساد.. لذلك عاد الى مصر في الرابع عشر من نوفمبر 1973 حانقاً، وبداخله تصميم قوي على "تعويض" هزيمة إسرائيل، وتملكه بالفعل اعتقاد بأنه أهمل في عمله ولم يكن دقيقاً في نقل نوايا المصريين.. وبنشاط مجنون أخذ يبحث عن مصادر لمعلومات وإجابات يحمل أسئلتها. وفي غمرة جنون البحث .. كانت المخابرات المصرية تلاصقه كظله وتريد ضبطه متلبساً بالتجسس.
وفي 24 نوفمبر 1973 – بعد عشرة أيام من عودته من روما – اقتحمت المخابرات المصرية شقته في القاهرة، وضبطت أدوات التجسس كاملة، فلم يستطع الإنكار وإنهار باكياً أمام المحققين. . وأدلى باعترافات تفصيلية ملأت مئات الصفحات، وهو لا يصدق أنه سقط بعد 13 عاماً كاملة في مهنة التجسس التي أجادها واحترفها. وقدم الى المحكمة العسكرية وظل لآخر لحظة ينتظر المفاجأة .. مفاجأة مبادلته والعودة الى "وطنه إسرائيل".
لكن خاب ظنه وقتل أمله . . فالجيش المصري كان هو الغالب المنتصر في أكتوبر 1973 .. والأسرى كانوا هذه المرة جنوداً إسرائيليين، وليس هناك أمل لمبادلته على الإطلاق.
لقد كانت إسرائيل في محنة ما بعدها محنة. ولا وقت هناك للتفكير في إنقاذ خائن باع وطنه رخيصاً، بحفنة من الدولارات، وبآهات غانية تتلوى بين أحضانه. .
وكمثل جواسيس خونة آخرين اكتشف أمرهم. . أنكرت إسرائيل معرفتها به، وتجاهلته ليموت ذليلاً لا ينفعه بكاء الندم .. أو تقيه أموال الموساد من حبل المشنقة.. !!