كتاب جديد:سكنةُ وادي الـرافدين روادُ الرياضيات

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,782
التفاعل
17,900 114 0
كتاب جديد: سكنةُ وادي الـرافدين روادُ الرياضيات

تأليف الدكتور ريمون نجيب شكوري

مـراجعة الدكتور ثائـر البـياتي

صدر حديثا كتاب باللغة الإنكليـزية للدكتور ريمون نجيب شكوري تحت عنوان: "Mesopotamians: Pioneers of Mathematics :أي : "سكنة وادي الـرافديـن: رواد الرياضيات"
يقع الكتاب بـِ 216 صفحة مـن النوع المتوسط ويحتوي على أحد عشـر فصلاً وملحقيـن إثنيـن أولهما يتناول بعض الأمور الـرياضياتية وثانيهما يحوي على خط - زمـني تاريخيٍ للحضارات القديمة لوادي الـرافديـن.
و يمكـن شـراء الكتاب عـن طريق الإنترنيت مـن موقع الأمازون.

عـَرفتُ المؤلف الدكتور ريمون نجيب شكوري قبـل واحد وأربعيـن عاماً كأستاذٍ لي عندما دخلتُ كلية العلوم في جامعة بغداد لدراسة الرياضيات. وقد كان مـن الأساتذة اللامعين في الرياضيات، متذوقا ً لنظرياتها وملماً بِفلسفاتها وبِتاريخ تطورها. وكان مـن عادته عَرْضَ الموضوع الذي يـُدَّرسه بسياقهِ التاريخي التطوري والفلسفي وبشكـل ممتع.
والجديـرٌ بِالذِكـْـر أن الدكتور ريمون هو أحدُ مئةٍ شخصية مسيحية مؤثـرة في عـراق القـرن العشـريـن وِفقَ تقـريـر أعدَّه المؤرخُ والمفكِّـر الدكتور سيّار الجميـل بِعنوان " المسيحيون العـراقيون : وقفةٌ تاريخية عند أدوارِهم الوطنية والحضارية، ونشـره في الحوار المتمدن ــ العدد 1019 ــ بِتاريخ 16 تشـريـن الثاني 2004.
واليوم وبعد قـرابة نصف قـرن على تدريسه مختلف مواضيع الـرياضيات في جامعة بغداد وجامعات عـربية وأمريكية ومـُعايشتهِ لها ومتابعاته وأشـرافه على بحوث طلبة الدراسات العليا أطـل علينا في كتابه الجديد المذكور أعلاه، عارضا ً فيه بشكلٍ سلسـلٍ كثيـراً من الأفكار والمفاهيم والأساليب الـرياضياتية الأساسية التي إبتكـرها قدامى سكنة وادي الـرافديـن واضعيـن اللبنات الأولى للـرياضيات كي تغدو لاحقاً لغةَ العلومِ وخادمتَـها وملكتَـها في آن واحد.
إن كتاب "Mesopotamians: Pioneers of Mathematics" ليس بِكتابٍ تاريخي بحت ولا رياضياتي بحت كما قد يوحي عنوانه. إنما هو عـرضٌ شيقٌ وممتعٌ وكأنه مجـرد تناقـلٌ لأطـراف أحاديث عمّا قدمه سكنة وادي الـرافديـن مـن مساهمات أساسية في علم الـرياضيات قبـل أكثر من أربعة ألآف عام. إضافة الى هذا فهو زاخـر بكثيـر مـن الأمور الجانبية والطـريفة.
يذكـر المؤلف أنه قد تمّ حتى الآن إكتشاف أكثـر مـن مليون لوحة طينية في بلاد ما بـيـن النهريـن ( أي العـراق حالياً) ويسميها مجازاً "أقـراص CD الميسوتومية" لأنها تحاكي وظيفـياً أقـراص ال CD المتداولة في يومنا هذا إذ أنها تحتوي ــ كمثيلاتها الحالية ــ على معلوماتٍ مخـزونة. أما تلك الألواح فتحتوي على معلومات قَيّمة نُقِشتْ بِالخط المسماري تناولتْ ـ إضافة الى الـرياضيات ـ مختلفَ نواحي الحياة في حضارة وادي الـرافديـن مـن أدبٍ وملاحمَ قصصية وقوانيـنَ وقواميسَ وطبٍ وفلكٍ وصلواتٍ ومـراسلاتٍ خاصة وتوثيقاتٍ لِزواجاتٍ وطلاقاتٍ وحتى وصفاتِ لطهي الأطعمة وعلى غيـرها مـن أمور الحياة.
يُـركِّـزالكتاب بِصورةٍ رئيسية على الجوانبَ الـرياضياتية مـن حضارة وادي الـرافديـن. تُظهـر تلك الألواح الطينية التي تنقـل معلومات رياضياتية أن مساهماتِ الحضارة الـرافدينييـة ذات مستوٍ عالٍ شكّلتْ عوامـل مؤثـرة على المسيـرة العلمية في الأزمنة القديمة والحديثة.أيضاً تُظهـر الألواح الطينية الإهتمام الكبيـر الذي يُوليه سكنةُ وادي الـرافديـن بِإنشاء الجداول الحسابية. إذ أن هنالك لوحات مختلفة تحوي جداولَ لِعمليات جمع الأعداد وضـربها وتـربيعها وتكعيبها، وجداول لمعكوس الأعداد ولِحساب الـربح المـركب وغيـرها مـن الأمور. ومـن الجديـر بِالذكـر أن القسمة الطويلة كانت تُجـرى بِالإستعانة بِجداول معكوس الأعداد. إضافة الى ذلك فقد كانت تلك الجداول تُستخدم في حــلِ مختلف المسائـل الحسابية والتطبيقية الناشئة مـن الحياة العملية.

ولم تقتصـر أنشطةُ الـرافدينيـيـن على العمليات الحسابية فقط بـل إمتدتْ بصورة طبيعية الى الجبـر. فإستطاع الـرافدينييـون حـلَّ أنواعٍ مـن المسائـل الجبـرية كالمعادلات مـن الدرجة الأولى ومـن الدرجة الثانية وحتى بعض المعادلات مـن الدرجة الثالثة كما أستطاعوا حـل المعادلات الآنية. إضافة الى هذا فقد تناولوا مجموع المتتاليات المنتهية. وتدل طـرائق معالجاتهم لهذه المسائـل على بـراعة وفهم عميقيـن وذكاءٍ بالغ.
وقد بـرع الـرافدينييون أيضاً بِالمفاهيم الهندسية وبِعلم المثلثاث وبِإيجاد مساحات الأشكال الهندسية منها الدائـرة وحجوم الأشكال لإن كل هذه الأمور تتطلبها إنشاءات المباني الشاهقة كالـزقورات والمعابد وإقامة السواتـر التـرابية وشق القنوات .
وقد حـرص الدكتور ريمون أن يكون مستوى عـرضه للمفاهيم الـرياضياتية في متـناول خـريجي المـرحلة الإعدادية فيما عدا ما جاء في بعض هوامش الكتاب وفي أحد الملاحق عند نهايته. وعلى كل حال يستطيع القارئ الذي نسي ما تعلمه مِـن رياضياتِ تلك المـرحلة أن يتجاوزَ المواقع التي يعتبـرها صعبة أومنسية وأن يستمـر في متابعة القـراءة دون أن يفقد كثيـراَ.

وقد وضع الدكتور ريمون عدداً مـن القصصِ الـروائية التوضيحية الغـرض منها عـرض تصوراته عـن الكيفية التي توَصّل بها أولئك الأقدمون الى الإنجازات الـرياضياتية ذات المستوى العالي.
يعـرض المؤلف بعض المفاهيم والنظـريات الأساسية في الـرياضيات التي يعتبـرها الغـرب مـن انجازات الإغـريق، غيـر أنها في الحقيقة قد نشأتْ وتطورتْ في وادي الرافديـن قبـل أكثـر مـن ألف عام مـن تداولها في الحضارة الإغـريقية. فعلى سبيـل المثال: إن النظـرية المشهورة المعـروفة اليوم بـِنظـرية فيثاغورس ــ التي تـنص على أن مجموع مساحة المـربعيـن المنشأيـن على ضلعي أي مثلث قائم الزاوية يساوي مساحة المـربع المنشأ على وتـره ــ كانت معـروفة لدى سكنة وادي الـرافديـن وكانت تُستعمـل في الأعمال الإنشائية والمساحية وربما كان قد بـرهـن عليها رياضياتو أو كهنة وادي الـرافديـن. ويعـرض الكتاب قصة خيالية يُـروى فيها حدس الدكتور ريمون عـن أسلوبٍ ممكـن للبـرهـنة عليها مـن قِبـَلِ الـرافدينيـيـن.

كما أنه يـروي مـن خلال رواية خيالية أُخـرى تصوره للكيفية التي إكتشف بها تجارٌ مـزارعون مـن وادي الـرافديـن نظامَ التـرقيمِ المكاني. وهو النظام نفسه الذي يُستعمـل اليوم في كـل أنحاء الأرض لِتـرميـز الأعداد مع شيءٍ مـن تحويـرٍ بسيط هو أن نظامَنا عَشـري الأساس بينما نظامهم ستيني الأساس إضافة الى أننا نستعمل رمـزاً صـريحاً للصفـر بينما كانوا يتـركون فـراغاً للدلالة على الصفـر فمثلاً لِغـرض التعبيـر عـن 2011 كانوا يكتبون 2 ثم يتـركون فـراغاً يليه 11.
في الوقت الذي يقـر الدكتور ريمون بأن وضْعَ فـراغٍ للددلالة على الصفـر يؤدي الى إلتباسات غيـر أنه يخالف رأي بعض المؤرخيـن عـن جهـل الـرافدينيـيـن لمفهوم الصفـر إذ يَعتقد أنهم كانوا يتعاملون معه حسابياً بِدقة لكـن كانت تتملكهم ــ على ما يبدو ــ عقدة نفسية - فلسفية تعيقهم مـن تـرميـزيهم للصفـر ألا وهي أنه مـن غيـر المعقول والمقبول تمثيـل اللاشيء (وهو الصفـر) بِـرمزٍ صـريح (وهو شيء).
ويحوي الكتاب فصلاً كاملاً عـن اللوحة الطينية المسماة Plimpton 322 المحفوظة في جامعة كولومبيا. تكشف تلك اللوحة عـن نتيجة رياضياتية مذهلة وهي جدول جـزئي لما يُعـرف اليوم بِثلاثيات فيثاغورس والتي يعـزي الغـربيون إكتشافها الى الـرياضياتي الإغـريقي ديوفونطس الذي كان يعيش في إسكندريةَ مصـر خلال القــرن الثالث الميلادي بينما عمـر اللوحة المذكورة يسبق الحضارة الإغـريقية بألفي عام.
في الفصـل الخامس مـن الكتاب يأخذ المؤلفُ القاريءَ معـرِّجاً به خارج وادي الـرافديـن في جولةٍ زمانية حول العالَم بِصحبة الصفـر متوقفاً خلالها بعض الوقت عند كـلٍ مـن الهند ومصـر وبلاد اليونان والبلاد العـربية الإسلامية وأوربا القـرون الوسطى وحتى أمـريكا الوسطى قبـل إكتشافها وشارحاً عند كـلٍ منها بِإختصارشديد بعض التطورات الـرياضياتية التي حدثتْ فيها وخاصةً فيما يتعلق بِالصفـر. فيكتشف القاريءُ أن الإغـريـق أيضاً كانت تتملكهم عقدةٌ نفسية ـ فلسفية جعلتهم يأنفون مـن التعامل بِالأعداد والجبـر فإتجهوا بِكـل قواهم العقلية نحو الهندسة فقط وذلك بِسبب إفـلاس الفلسفة الفيثاغورية. وربما يمتلك الضحكُ القاريءَ حيـن يجد أوربا القـرون الوسطى متمسكةً بِإستعمال الحـروف الأبجدية اليونانية أو الـرومانية لتـرميـز الأعداد وممتنعةً عـن تبني الأعداد العـربية بِحجة أنها " أعدادٌ كافـرةٌ " وافدةٌ مـن البلاد العربية الإسلامية. وتنتهي الـرحلة الطويلة عند الـزمـن الـراهـن منبهاً الى سوء فهم وسوء إستعمالات للصفـر ويقف الدكتور ريمون واعظاً بِعبارة : "لا تقسم على الصفر" وكأنها وصية إلاهية ويبـرهن عليها بِبـرهان بسيط يمكـن أن يفهمه ختى تلميذ الإبتدائية.
أما الفصل الأخيـر في الكتاب فيعـرِّج المؤلف الى موضوع ثانٍ مـن أهم مساهمات الحضارة الـرافدينية ألا وهو الفلك. إذ تـرك سكنة وادي الـرافديـن معلومات متراكمة هائلة لـرصدهم الفلكي لحـركة النجوم والكواكب من دون استخدام التلسكوبات، شملت جداول وبيانات متواصلة لأكثـر من ألف عام، كانت أساسا متينا لبحوث علماء وفلكيي الإغـريق اللاحقيـن. وقد تمكن البابليون من تحديد وحساب وقت وقوع الخسوف والكسوف بدقة.
وقبـل آن أنهي مـراجعتي للكتاب أود تسجيـل ملاحظتيـن عليه على الـرغم مـن أنهما لا يقللان مـن أهميته ولا قيمته العلمية. فقد كنتُ أتمنى أن يطـرح الدكتور ريمون في الفصـل الأخيـر مـن كتابه معلوماتٍ أوفـر عـن المساهمات الفلكية للـرافدينيـيـن، فقد جاء فصـل الفلك موجـزاً. كما كنتُ أتمنى أن يكون الملحقُ التاريخي الذي يحوي الخط الـزمني التاريخي أكثـر إتساعاً مما هو عليه الآن.

أعتقد بِثقةٍ أن على كـل مثقف أن يُلمَ بِتاريخ مساهمات الأقدميـن الذيـن أنشأوا مهد الحضارة. وأن هذا الكتاب يثـري كـل راغب في الإستـزادة بِالمعـرفة العلمية والتاريخية ولهذا فإني أوصي كـل المثقفيـن وبصورة خاصة أولئك المنحدريـن أصلاً مـن قدامى الرافدينيـيـن بِقـراءة ودراسة كتاب:

"Mesopotamians: Pioneers of Mathematics".
 
عودة
أعلى