منذ انفصال دولتَي الهند وباكستان، عام 1947، فإن كلاًّ منهما تحاول تنمية قدراتها، في المجالات المختلفة؛ لكي تعتلي مكاناً مؤثراً، في المستويَين: الإقليمي والعالمي، انطلاقاً من نظرية سياسية، تدرس في المعاهد والكليات المتخصصة، وتقوم عليها سياسة الدولة في علاقاتها بالمجال الحيوي"Lebensraum"، والمجالات الأخرى. وهذه الركائز تتحدد في:
1. أن المصلحة الوطنية هي قِمة الغايات القومية، التي تحددها الإستراتيجية السياسية. كما أن ممارسة الدولة لسياستها الخارجة تستند إلى قِواها الشاملة، وتتصاعد عندما يكون هناك تهديد أو مساس بالمصلحة الوطنية، أو الأمن القومي الشامل.
2. أن القدرة الشاملة للدولة، وفي مقدمتها القوة العسكرية، هي السند الرئيسي لسياستها في تحقيق أهدافها، وفرض الإرادة، باستخدامها عند اللزوم، وعندما تعارض مصالحها مصالح أخرى مضادة. أمّا القول بأن السياسة، تستند إلى الشرعية أو القانون، فهو قول، أثبتت الأحداث فشله، وعدم جدواه، خاصة في عالم أحدية القوة.
3. أن القدرة الاقتصادية للدولة، هي القاطرة التي تستند إليها القوى الأخرى، في تحقيق أهدافها. ومن دون اقتصاد، فإن تأثير الدولة في مجالها الحيوي، سيتقلص؛ نتيجة لمشاكل، ستؤثر في داخلها، إلى جانب تقلص إمكانيات القدرة العسكرية؛ نتيجة لضعف الإنفاق العسكري.
4. أن الرغبة في التأثير والتوسع، لدى الدول الكبرى، هي قانون أزلي، استمر عبر التاريخ، وأدى إلى صعود دول وإمبراطوريات وهبوطها. والهند تشعر بأنها دولة كبيرة، لها حق التأثير، بقدر في إقليمها والعالم. وكان أهم ما تتوجه به الهند من تأثير، هو في اتجاه باكستان، التي انفصلت عنها، نتيجة تقسيم استعماري. وفي المقابل، فإن هذه الأخيرة، تشعر أنها نِدّ للأُوْلى، ولا بدّ أن تتصدى لأطماعها.
والنزاعات والتحديات ما بين الهند وباكستان، لم تتوقف لحظة، منذ إعلان الاستقلال، عام1947. لذلك، فإن كِلْتَيْهِما حاولت جاهدة أن تحقق التوازن بينها وبين الأخرى، بأسلوبها وإمكانياتها، ولكلّ منهما وجهة نظرها الخاصة، التي تمتلئ بالشكوك والهواجس، في ضوء التاريخ الدامي، وووفقاً للحاضر الشائك في كشمير، ونظراً إلى اختلال توازن القوى، بحكم حقائق كثيرة، لا يمكن تجاهلها.
فالهند شبه قارة مترامية الأطراف. أمّا باكستان، فدولة متوسطة المساحة. وعدد سكان الأُوْلى تعدى المليار نسمة. أمّا الثانية، فلا يكاد يناهز عدد سكانها سدس سكان نِدِّها.
ولا يقتصر الخلل في التوازن الإستراتيجي بين الدولتَين على ذلك، بل يمتد إلى أوضاعهما الجيو-استراتيجية. فالهند تنفذ إلى المياه الزرقاء للمحيط الهندي، وبحر العرب. أمّا باكستان، فهي ممتدة، في شكل مستطيل مائل، من الجنوب إلى الشمال، قاعدته ضيقة على بحر العرب؛ وبعدها، لا توجد إلا حدود مهددة بجميع أنواع الخصومات والأزمات. ففي الشرق والجنوب، هناك الهند، وساحة النزاع في كشمير. وفي الشرق والشمال الشرقي، ثمة أفغانستان، التي باتت تمثل تهديداً ونزفاً لجارتها. وفي الجنوب الغربي، ثَمّ إيران، حيث العلاقات متوترة. وفي أقصى الشمال، تبدو الصين حليفاً منطقياً لباكستان؛ لعلاقات بكين المتوترة بنيودلهي.
أولاً: الرؤية الباكستانية لتحقيق التوازن
تدرك باكستان حقيقة الخلل في التوازن مع الهند، وعلى الرغم من ذلك، فإنها تتبع نظرية المفكر الإستراتيجي، والتر ليبمان، حول العلاقة بين القوة العسكرية والأمن القومي، حيث يذكر أن الدولة، ستكون آمنة، حينما لا تضطر إلى التضحية بمصالحها المشروعة، لكي تتجنب الحرب؛ بل يجب أن تكون مستعدة للتلويح بها، عندما تتحدث عن تحقيق تلك المصالح؛ بمعنى أن أيّ تهاون في امتلاك قدرة ردع، هو تهاون في تحقيق الأمن القومي للدولة. وهو ما أدى إلى تصميم رئيس وزراء باكستان الأسبق، ذو الفقار علي بوتو، على امتلاك سلاح ردع نووي، في مواجهة الهند، على الرغم من الحسابات، التي عارضت ذلك، آنئذٍ.
وتتأسس وجهة النظر الباكستانية تجاه الهند على الشك المطلق في التحركات الهندية، وتأويلها دوماً بأنها موجهة إلى باكستان. كما أن الهند، طبقاً للتقييم الباكستاني، دولة عدوانية، تصبو إلى بناء إمبراطوريتها الخاصة، في المحيط الهندي، على حساب الآخرين. ولذا، أقامت آلة حربية هائلة، وأسطولاً مجهزاً للوصول إلى المياه الزرقاء البعيدة. كما أن سياستها، تستهدف إخضاع شعوب المنطقة، كما هو حادث في كشمير؛ فضلاً عن أنها دولة، تميز الأكثرية على الأقليات، وخاصة الإسلامية.
وتؤسس باكستان توازناتها على الآتي:
1. التمسك بأحقية شعب كشمير بالحكم الذاتي
ترى باكستان، أن مشكلة كشمير، التي بدأت منذ قرار التقسيم، عام1947، تدل دلالة واضحة على نيات الهند في تحقيق مصالحها، على حساب باكستان. فالمهاتما غاندي، الذي كان يقود الهند، في تلك المرحلة، وهو الذي كافح من أجل الحصول على الاستقلال، وكان ينادى بالتحرر، ويعلن كراهيته للاستعمار ـ هو نفسه كان المهندس الرئيسي للسيطرة على أجزاء من منطقة كشمير لمصلحة بلاده، ولم يتخلَّ عن أحقيتها بها؛ على الرغم من المواجهة الهندية- الباكستانية، وقتئذٍ. ومن ثَمّ، فإن السياسة الباكستانية، تعمل بكلّ الجهد والطاقة على منع الهيمنة الهندية، وخاصة في المسائل الدفاعية؛ لتبديد أوهام القيادة الهندية بالقدرة على العدوان، من دون عقاب رادع؛ وهو ما حَمَل البلدَين على سباق التسلح، وخاصة في المجال التقليدي.
السباق النووي
أفقدت مشكلة كشمير كلاًّ من باكستان والهند أيّ ثقة بالأخرى، فلم تحققا أيّ نجاح في شأنها، عدا اتفاقية تقسيم مياه النهر، التي أدارها البنك الدولي. ولو حُلَّت هذه المشكلة، لربما سَلِمَت العلاقات بين الدولتين من أيّ مشكلة؛ إذ إنه لا خلافات حدودية بينهما، ولم ينجم عن التداخل: العرقي والديني، بين مواطنيهما، على جانبَي الحدود أيّ مشكلة.
إن هدف باكستان هو تصحيح الخلل، الذي أحدثته الهند، بقوة، في كشمير. وترى أنها دولة، ليست عدوانية؛ بل تسعى إلى تحقيق مصالحها المشروعة. ومن ثَم، فإنه من الضروري حل مشكلة كشمير حلاً نهائياً، حتى لا يكون هناك مصدر تهديد أو توتر مع الهند، مستقبلاً. وهناك اتجاهان لحل مشكلة كشمير، من وجهة نظر باكستان.
الاتجاه الأول، يرى أنه من الضروري البدء بالحل، من خلال تدخّل المجتمع الدولي؛ وأن يكون معيار الحل هو إعطاء حق تقرير المصير لمواطني كشمير، حسب القرارات الدولية. ثم يتجه بعد ذلك إلى تنشيط العلاقات بين الدولتَين (والافتراض الذي يقوم عليه هذا الاتجاه، يتأسس على أن كشمير، تشكل قلب التوتر في العلاقات الهندية- الباكستانية؛ وأن هذا القلب المعالَج من شأنه أن يسمح بالتحول إلى أيّ قضية أخرى، لتسويتها. وهو الاتجاه الذي تسعى إليه باكستان).
الاتجاه الثاني، يرى أنه من الممكن تعليق مشكلة كشمير، فترة من الزمن، تُتَّخَذ إجراءات لبناء الثقة، بين البلدَين وتنشيط العلاقات والاتصالات بينهما، في المجالات: الرسمية وغير الرسمية، بداية بالخطوات الصغيرة، التي تكبر فيما بعد خطوة بعد خطوة. وبعد أن يتأتّى تدعيم العلاقات، وتجاوز مجالات الشك، وبناء الثقة، يمكِن حل مسألة كشمير نهائياً.
ترى باكستان، أن برنامج الهند النووي، لم يقصد به تحقيق التوازن مع الصين فقط؛ إذ إن الطبيعة الجغرافية بينهما، تعوق غزو أحدهما للآخر؛ وإنما المقصود به هو الهيمنة على المنطقة، وردع الآخرين وتخويفهم، وفى مقدمتهم باكستان. ويعزز طموحَها ذاك، أنها أمست عضواً سادساً في النادي الذري العالمي، وفرضت نفسها عضواً دائماً في مجلس الأمن، واضطلعت بدور قوة عظمى، تنافس الصين في الهيمنة على المنطقة. وهو ما لا يقبَله أيّ شخص في باكستان، وخاصة أن الهند، أخذت تشيع أن باكستان لا تمتلك إمكانيات نووية. ولا يمكنها تحمّل العقوبات المنتظرة، إذا كانت لديها هذه الإمكانيات، وأجرت تفجيرات نووية.
وترى باكستان كذلك، أن مجال التسليح التقليدي، لا يمكِنه تحقيق التوازن مع الهند، التي تمتلك جيشاً كبيراً، يناهز أربعة أمثال الجيش الباكستاني، وتدعمه صناعات عسكرية متقدمة، تفتقر إليها باكستان. ولذلك كان على إسلام آباد، أن تطور نظاماً إستراتيجياً، يمنحها ميزة عسكرية، يحاذرها أيّ عدوان عليها من دولة قوية، مثل الهند. وكان السلاح النووي هو الوحيد، من وجهة نظر باكستان، القادر على تحقيق التوازن، في المجال الإستراتيجي.
ويذكر السياسيون الباكستانيون، أن الرئيس الأمريكي السابق، كلينتون، زَيَّنَ لباكستان أن يقدم لها مِنَحاً مالية، يصل مجموعها إلى خمسة مليارات من الدولارات؛ وإسقاط الديون الأمريكية على باكستان؛ وإلغاء قانون "بريسلر"، الذي ينص على فرض عقوبات عليها، بسبب برنامجها النووي؛ ثم تسليمها صفقة طائرات، من طراز "ف-16"، سبق أن علَّقتها الحكومة الأمريكية؛ وأخيراً، توجيه دعوة إلى رئيس وزرائها لزيارة واشنطن. علّ كلَ ذلك يصرف باكستان عن طموحها النووي. ولكنها أدركت أن كلّ مليارات الدنيا، لا تمنح الباكستانيين الشعور بالأمن، فكانت الإجابة بلا. ولذلك، كان لا بدّ من تحقيق التوازن النووي، وهو الأسلوب الوحيد، الذي يحقق هذا الأمن. وفي ضوء التفجيرات النووية الباكستانية، تغيرت لغة الهند تماماً، تجاه باكستان، بعد أن تحقق التوازن.
3. العمق الإستراتيجي
إن باكستان تفتقر إلى العمق الإستراتيجي، في مواجهتها الهند، التي تحاول اتهام إسلام آباد بأنها تتدخل في شؤون أفغانستان، لتحقيق هذا العمق. أمّا الباكستانيون، فيرون أن العلاقات الحسنة بأفغانستان، من دون التدخل في الشؤون الداخلية، كفيل بتحقيق هذا العمق؛ من خلال دولة صديقة؛ وهو ما يحبط أهداف الهند في الإيقاع بين الدولتَين.
1. أن المصلحة الوطنية هي قِمة الغايات القومية، التي تحددها الإستراتيجية السياسية. كما أن ممارسة الدولة لسياستها الخارجة تستند إلى قِواها الشاملة، وتتصاعد عندما يكون هناك تهديد أو مساس بالمصلحة الوطنية، أو الأمن القومي الشامل.
2. أن القدرة الشاملة للدولة، وفي مقدمتها القوة العسكرية، هي السند الرئيسي لسياستها في تحقيق أهدافها، وفرض الإرادة، باستخدامها عند اللزوم، وعندما تعارض مصالحها مصالح أخرى مضادة. أمّا القول بأن السياسة، تستند إلى الشرعية أو القانون، فهو قول، أثبتت الأحداث فشله، وعدم جدواه، خاصة في عالم أحدية القوة.
3. أن القدرة الاقتصادية للدولة، هي القاطرة التي تستند إليها القوى الأخرى، في تحقيق أهدافها. ومن دون اقتصاد، فإن تأثير الدولة في مجالها الحيوي، سيتقلص؛ نتيجة لمشاكل، ستؤثر في داخلها، إلى جانب تقلص إمكانيات القدرة العسكرية؛ نتيجة لضعف الإنفاق العسكري.
4. أن الرغبة في التأثير والتوسع، لدى الدول الكبرى، هي قانون أزلي، استمر عبر التاريخ، وأدى إلى صعود دول وإمبراطوريات وهبوطها. والهند تشعر بأنها دولة كبيرة، لها حق التأثير، بقدر في إقليمها والعالم. وكان أهم ما تتوجه به الهند من تأثير، هو في اتجاه باكستان، التي انفصلت عنها، نتيجة تقسيم استعماري. وفي المقابل، فإن هذه الأخيرة، تشعر أنها نِدّ للأُوْلى، ولا بدّ أن تتصدى لأطماعها.
والنزاعات والتحديات ما بين الهند وباكستان، لم تتوقف لحظة، منذ إعلان الاستقلال، عام1947. لذلك، فإن كِلْتَيْهِما حاولت جاهدة أن تحقق التوازن بينها وبين الأخرى، بأسلوبها وإمكانياتها، ولكلّ منهما وجهة نظرها الخاصة، التي تمتلئ بالشكوك والهواجس، في ضوء التاريخ الدامي، وووفقاً للحاضر الشائك في كشمير، ونظراً إلى اختلال توازن القوى، بحكم حقائق كثيرة، لا يمكن تجاهلها.
فالهند شبه قارة مترامية الأطراف. أمّا باكستان، فدولة متوسطة المساحة. وعدد سكان الأُوْلى تعدى المليار نسمة. أمّا الثانية، فلا يكاد يناهز عدد سكانها سدس سكان نِدِّها.
ولا يقتصر الخلل في التوازن الإستراتيجي بين الدولتَين على ذلك، بل يمتد إلى أوضاعهما الجيو-استراتيجية. فالهند تنفذ إلى المياه الزرقاء للمحيط الهندي، وبحر العرب. أمّا باكستان، فهي ممتدة، في شكل مستطيل مائل، من الجنوب إلى الشمال، قاعدته ضيقة على بحر العرب؛ وبعدها، لا توجد إلا حدود مهددة بجميع أنواع الخصومات والأزمات. ففي الشرق والجنوب، هناك الهند، وساحة النزاع في كشمير. وفي الشرق والشمال الشرقي، ثمة أفغانستان، التي باتت تمثل تهديداً ونزفاً لجارتها. وفي الجنوب الغربي، ثَمّ إيران، حيث العلاقات متوترة. وفي أقصى الشمال، تبدو الصين حليفاً منطقياً لباكستان؛ لعلاقات بكين المتوترة بنيودلهي.
أولاً: الرؤية الباكستانية لتحقيق التوازن
تدرك باكستان حقيقة الخلل في التوازن مع الهند، وعلى الرغم من ذلك، فإنها تتبع نظرية المفكر الإستراتيجي، والتر ليبمان، حول العلاقة بين القوة العسكرية والأمن القومي، حيث يذكر أن الدولة، ستكون آمنة، حينما لا تضطر إلى التضحية بمصالحها المشروعة، لكي تتجنب الحرب؛ بل يجب أن تكون مستعدة للتلويح بها، عندما تتحدث عن تحقيق تلك المصالح؛ بمعنى أن أيّ تهاون في امتلاك قدرة ردع، هو تهاون في تحقيق الأمن القومي للدولة. وهو ما أدى إلى تصميم رئيس وزراء باكستان الأسبق، ذو الفقار علي بوتو، على امتلاك سلاح ردع نووي، في مواجهة الهند، على الرغم من الحسابات، التي عارضت ذلك، آنئذٍ.
وتتأسس وجهة النظر الباكستانية تجاه الهند على الشك المطلق في التحركات الهندية، وتأويلها دوماً بأنها موجهة إلى باكستان. كما أن الهند، طبقاً للتقييم الباكستاني، دولة عدوانية، تصبو إلى بناء إمبراطوريتها الخاصة، في المحيط الهندي، على حساب الآخرين. ولذا، أقامت آلة حربية هائلة، وأسطولاً مجهزاً للوصول إلى المياه الزرقاء البعيدة. كما أن سياستها، تستهدف إخضاع شعوب المنطقة، كما هو حادث في كشمير؛ فضلاً عن أنها دولة، تميز الأكثرية على الأقليات، وخاصة الإسلامية.
وتؤسس باكستان توازناتها على الآتي:
1. التمسك بأحقية شعب كشمير بالحكم الذاتي
ترى باكستان، أن مشكلة كشمير، التي بدأت منذ قرار التقسيم، عام1947، تدل دلالة واضحة على نيات الهند في تحقيق مصالحها، على حساب باكستان. فالمهاتما غاندي، الذي كان يقود الهند، في تلك المرحلة، وهو الذي كافح من أجل الحصول على الاستقلال، وكان ينادى بالتحرر، ويعلن كراهيته للاستعمار ـ هو نفسه كان المهندس الرئيسي للسيطرة على أجزاء من منطقة كشمير لمصلحة بلاده، ولم يتخلَّ عن أحقيتها بها؛ على الرغم من المواجهة الهندية- الباكستانية، وقتئذٍ. ومن ثَمّ، فإن السياسة الباكستانية، تعمل بكلّ الجهد والطاقة على منع الهيمنة الهندية، وخاصة في المسائل الدفاعية؛ لتبديد أوهام القيادة الهندية بالقدرة على العدوان، من دون عقاب رادع؛ وهو ما حَمَل البلدَين على سباق التسلح، وخاصة في المجال التقليدي.
السباق النووي
أفقدت مشكلة كشمير كلاًّ من باكستان والهند أيّ ثقة بالأخرى، فلم تحققا أيّ نجاح في شأنها، عدا اتفاقية تقسيم مياه النهر، التي أدارها البنك الدولي. ولو حُلَّت هذه المشكلة، لربما سَلِمَت العلاقات بين الدولتين من أيّ مشكلة؛ إذ إنه لا خلافات حدودية بينهما، ولم ينجم عن التداخل: العرقي والديني، بين مواطنيهما، على جانبَي الحدود أيّ مشكلة.
إن هدف باكستان هو تصحيح الخلل، الذي أحدثته الهند، بقوة، في كشمير. وترى أنها دولة، ليست عدوانية؛ بل تسعى إلى تحقيق مصالحها المشروعة. ومن ثَم، فإنه من الضروري حل مشكلة كشمير حلاً نهائياً، حتى لا يكون هناك مصدر تهديد أو توتر مع الهند، مستقبلاً. وهناك اتجاهان لحل مشكلة كشمير، من وجهة نظر باكستان.
الاتجاه الأول، يرى أنه من الضروري البدء بالحل، من خلال تدخّل المجتمع الدولي؛ وأن يكون معيار الحل هو إعطاء حق تقرير المصير لمواطني كشمير، حسب القرارات الدولية. ثم يتجه بعد ذلك إلى تنشيط العلاقات بين الدولتَين (والافتراض الذي يقوم عليه هذا الاتجاه، يتأسس على أن كشمير، تشكل قلب التوتر في العلاقات الهندية- الباكستانية؛ وأن هذا القلب المعالَج من شأنه أن يسمح بالتحول إلى أيّ قضية أخرى، لتسويتها. وهو الاتجاه الذي تسعى إليه باكستان).
الاتجاه الثاني، يرى أنه من الممكن تعليق مشكلة كشمير، فترة من الزمن، تُتَّخَذ إجراءات لبناء الثقة، بين البلدَين وتنشيط العلاقات والاتصالات بينهما، في المجالات: الرسمية وغير الرسمية، بداية بالخطوات الصغيرة، التي تكبر فيما بعد خطوة بعد خطوة. وبعد أن يتأتّى تدعيم العلاقات، وتجاوز مجالات الشك، وبناء الثقة، يمكِن حل مسألة كشمير نهائياً.
ترى باكستان، أن برنامج الهند النووي، لم يقصد به تحقيق التوازن مع الصين فقط؛ إذ إن الطبيعة الجغرافية بينهما، تعوق غزو أحدهما للآخر؛ وإنما المقصود به هو الهيمنة على المنطقة، وردع الآخرين وتخويفهم، وفى مقدمتهم باكستان. ويعزز طموحَها ذاك، أنها أمست عضواً سادساً في النادي الذري العالمي، وفرضت نفسها عضواً دائماً في مجلس الأمن، واضطلعت بدور قوة عظمى، تنافس الصين في الهيمنة على المنطقة. وهو ما لا يقبَله أيّ شخص في باكستان، وخاصة أن الهند، أخذت تشيع أن باكستان لا تمتلك إمكانيات نووية. ولا يمكنها تحمّل العقوبات المنتظرة، إذا كانت لديها هذه الإمكانيات، وأجرت تفجيرات نووية.
وترى باكستان كذلك، أن مجال التسليح التقليدي، لا يمكِنه تحقيق التوازن مع الهند، التي تمتلك جيشاً كبيراً، يناهز أربعة أمثال الجيش الباكستاني، وتدعمه صناعات عسكرية متقدمة، تفتقر إليها باكستان. ولذلك كان على إسلام آباد، أن تطور نظاماً إستراتيجياً، يمنحها ميزة عسكرية، يحاذرها أيّ عدوان عليها من دولة قوية، مثل الهند. وكان السلاح النووي هو الوحيد، من وجهة نظر باكستان، القادر على تحقيق التوازن، في المجال الإستراتيجي.
ويذكر السياسيون الباكستانيون، أن الرئيس الأمريكي السابق، كلينتون، زَيَّنَ لباكستان أن يقدم لها مِنَحاً مالية، يصل مجموعها إلى خمسة مليارات من الدولارات؛ وإسقاط الديون الأمريكية على باكستان؛ وإلغاء قانون "بريسلر"، الذي ينص على فرض عقوبات عليها، بسبب برنامجها النووي؛ ثم تسليمها صفقة طائرات، من طراز "ف-16"، سبق أن علَّقتها الحكومة الأمريكية؛ وأخيراً، توجيه دعوة إلى رئيس وزرائها لزيارة واشنطن. علّ كلَ ذلك يصرف باكستان عن طموحها النووي. ولكنها أدركت أن كلّ مليارات الدنيا، لا تمنح الباكستانيين الشعور بالأمن، فكانت الإجابة بلا. ولذلك، كان لا بدّ من تحقيق التوازن النووي، وهو الأسلوب الوحيد، الذي يحقق هذا الأمن. وفي ضوء التفجيرات النووية الباكستانية، تغيرت لغة الهند تماماً، تجاه باكستان، بعد أن تحقق التوازن.
3. العمق الإستراتيجي
إن باكستان تفتقر إلى العمق الإستراتيجي، في مواجهتها الهند، التي تحاول اتهام إسلام آباد بأنها تتدخل في شؤون أفغانستان، لتحقيق هذا العمق. أمّا الباكستانيون، فيرون أن العلاقات الحسنة بأفغانستان، من دون التدخل في الشؤون الداخلية، كفيل بتحقيق هذا العمق؛ من خلال دولة صديقة؛ وهو ما يحبط أهداف الهند في الإيقاع بين الدولتَين.