حدود الدور الصيني في شبه الجزيرة الكورية
من وجهة نظر بيونغ يانغ، من الطبيعي أن تكون الصين القبلة التي ينظر إليها الكوريون الشماليون، فلولا أمواج المقاتلين التي دفعت بهم بكّين في خضم الحرب الكورية (1950-1953) لكنّا اليوم نتحدّث عن تاريخ مختلف وجغرافيا مختلفة.
وتعتبر الصين حاليا المصدر الأساسي والرئيسي لتزويد كوريا الشمالية بما تحتاجه من الغذاء والطاقة. فمنذ التسعينيات، تساهم الصين وفقا لبعض التقارير بحوالي 90% من واردات كوريا الشمالية من الطاقة، وحوالي 80% من حاجاتها الاستهلاكية من البضائع وقرابة الـ45% من الغذاء. ومن المفارقات في هذا المجال أنّ حجم التجارة بين البلدين وفقا لأرقام العام 2008 بلغ حوالي 2.79 مليار دولار يميل الميزان التجاري فيها لصالح بيونغ يانغ بواقع 1.25 مليار دولار! وهو ما يفسّره البعض بأنه عملية تغطية تقوم الحكومة الصينية بموجبها بدعم اقتصاد حليفتها على اعتبار أنّه ليس باستطاعة الأخيرة أنّ تموّل عجزها بالاستدانة الخارجية.
من وجهة النظر الصينية، فان الموضوع لا يتعلق فقط بالتاريخ والجغرافيا والأيديولوجيا، بل يرتبط بالدرجة الأولى بالأمن القومي للبلاد. وتأخذ بكّين عند مقاربتها الإستراتيجية لوضع كوريا الشمالية عددا من المعطيات بعين الاعتبار، منها:
1- تشكّل كوريا الشمالية من الناحية الجيوبوليتكية منطقة عازلة لكونها تقع على خاصرة الصين في شمال شرقي البلاد وتفصل بينها وبين كوريا الجنوبية جغرافيا، ولكنها عمليا تفصل بينها وبين الاحتكاك المباشر مع الولايات المتّحدة التي تحتفظ بحوالي 30 ألف جندي في كوريا الجنوبية. وبهذا المعنى، فان كوريا الشمالية ليست مجرّد منطقة عازلة وإنما بمثابة احتياط عسكري يتيح للصين الاسترخاء وتقليص تواجدها العسكري على حدودها من هذه الجهة والتفرّغ لمناطق أكثر أهمية.
2- إلى جانب مسألة الأمن القومي، تدعم الصين كوريا الشمالية لأنها تخشى أن يؤدي انهيارها إلى مضاعفات سلبية ليس أقلّها مشكلة اللاجئين الذي سيتدفقون باتجاه الحدود الصينية، الأمر الذي يشكّل على الدوام هاجسا للسلطات الصينية مخافة أن تفقد سيطرتها على المناطق التي تتدفق إليها جموع اللاجئين داخل الحدود الصينية. ولذلك تحرص الصين على الاستثمار داخل كوريا الشمالية وعلى تحسين الأوضاع في داخل البلاد منعا لانهيار النظام.
3- الاستقرار في شبه الجزيرة الكورية شيء ضروري بالنسبة لبكّين التي ترى أنّها ستكون أول من يتحمّل تكاليف الحرب إلى جانب كوريا الجنوبية. ولأنّ الجانبين ليسا مستعدّين لتحمّل هذه التكاليف، فان الصين تفضّل ان يستمر الوضع على ما هو عليه لمدّة غير قصيرة.
ولا تلغي هذه المعطيات إمكانية انزعاج الصين من تصرفات بيونغ يانغ المتهوّرة. فقد سبق وان أثار الاختبار النووي الذي أجرته الأخيرة عام 2006 حفيظة الأولى، كما شهدت العلاقات بين البلدين أوقات عصيبة عندما أجرت كوريا الشمالية اختبارا نووية ثانيا عام 2009. وقد اضطرت بكين إلى الموافقة على عدد من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والتي تتضمن فرض عقوبات على كوريا الشمالية نتيجة لذلك.
إحدى الأسباب الوجيهة التي دفعت الصين إلى الموافقة خوفها من تفجّر سباق تسلّح نووي إقليمي من قبل اليابان وكوريا الجنوبيّة اللتين تمتلكان القدرات والتقنيّات التي تمكّنهما من إنتاج أسلحة نووية في أقرب وقت ممكن. كما يمكن أن يقود هذا السباق على التسلّح تايوان إلى تطوير أسلحة نووية خاصّة بها أو قد يدفع جميع هذه الأطراف (على الأقل) إلى إقامة أنظمة دفاعيّة صاروخيّة مشتركة.
وتشترك الولايات المتّحدة مع الصين في الخوف من انتشار السلاح النووي في منطقة شرق آسيا، ولذلك لعبت الصين في مراحل متعددة أدوارا بنّاءة في جمع مختلف الأطراف الإقليمية على طاولة مفاوضات واحدة لا سيما من خلال الحادثات السداسية التي توقفت قبل سنتين بانسحاب كوريا الشمالية وعودتها إلى الإستراتيجية القديمة التي تقوم على التفاوض حتى التوصل إلى اتفاق ومن ثمّ التراجع عنه.
لكنّ الملاحظ أنّ الدور الصيني في موضوع العقوبات والضغط على بيونغ يانغ ظلّ من جهته يراوح في دائرة اللعبة المزدوجة التي تتضمن الموافقة على العقوبات ومن ثمّ العمل على الحد من وطأتها. كما قامت الصين هذا العام بالامتناع عن إدانة بيونغ يانغ اثر قيامها بإغراق سفينة حربية تابعة لسيول في مارس الماضي، واستمرت على نفس النهج حتى مع الكشف عن منشآت تخصيب اليورانيوم المتطورة التي تمتلكها في نوفمبر وقصفها لمناطق تابعة لكوريا الجنوبية.
وعلى الرغم من المناشدات الاقلمية والدولية التي طالبت بكين بممارسة نفوذها على كوريا الشمالية لإنهاء هذا الوضع، الاّ أنّ المعطيات الحالية تشير إلى تحرّك الصين دوما باتجاه المحافظة على الستاتيكو الموجود، وهو ما أكّدته أيضا وثيقة تمّ تسريبها من ويكيليكس تفيد بأنّ بكّين مهتمة بموضوع توحيد شبه الجزيرة الكورية على المدى البعيد، لكنّها تتوقّع بقاء الوضع الحالي على المدى القصير أقلّه.
ويطرح الموقف الكوري الشمالي معضلة للصين، فهناك إشكالية ستتولّد نتيجة صعود الصيني العالمي من جهة وما يفترضه ذلك من زيادة تحمّلها للمسؤولية ومشاركة المجتمع الدولي في حل المشاكل والتحديات التي تواجه بفعالية من جهة أخرى. ومن هذا المنطلق، يمكن القول أنّ التصعيد الأخيرة لكوريا الشمالية يضع الموقف الديبلوماسي الصيني تحت الاختبار الحقيقي من ناحية التحرك بسرعة والاستجابة لهذا الوضع الطارئ عبر آليات تعبر عن اعترافها بمدى خطورة الوضع القائم والقيام بكل ما بوسعها لتحويل التركيز على الحوار والتفاوض.
لكن المأزق الحالي الذي يحمله طرح التفاوض الآن يتمثّل في أنّ موافقة واشنطن وحلفائها على التفاوض من جديد دون إلزام كوريا الشمالية ببعض الأمور سيعتبر مكافأة لها على سلوكها السيء، في الوقت الذي سيخدم فيه عدم انطلاق المفاوضات أيضا كوريا الشمالية. ومن هنا تأتي أهمية دور الصين في تفكيك هذه العقدة وإعادة الاستقرار إلى شبه الجزيرة الكورية