قراءة في غزوة خيبر/د.عثمان قدري مكانسي

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,779
التفاعل
17,897 114 0
قراءة في غزوة خيبر (1)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

الخروج إلى خيبر

قال محمد بن إسحاق : ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة - حين رجع من الحديبية - ذا الحجة وبعض المحرم ، وولي تلك الحجة المشركون ، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر

استعمال نميلة على المدينة
قال ابن هشام : واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي ، ودفع الراية إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وكانت بيضاء. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى خيبر عامر بن الأكوع ، وهو عم سلمة بن عمرو بن الأكوع أن يرتجز : انزل يا بن الأكوع ، فحد لنا من هناتك ، قال : فنزل يرتجز برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :

والله لولا الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

إنا إذا قوم بغوا علينا * وإن أرادوا فتنة أبينا

فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا​

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يرحمك الله ؛ فقال عمر بن الخطاب : وجبت والله يا رسول الله ، لو أمتعتنا به فقتل يوم خيبر شهيدا ، وكان قتله ، فيما بلغني ، أن سيفه رجع عليه وهو يقاتل ، فكلمه كلما شديدا ( جرحه جرحاً شديداً ) ، فمات منه ؛ فكان المسلمون قد شكوا فيه ، وقالوا : إنما قتله سلاحه ، حتى سأل ابن أخيه سلمة بن عمرو بن الأكوع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وأخبره بقول الناس ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه لشهيد ، وصلى عليه ، فصلى عليه المسلمون .

إضاءة

1- إن المجاهد لا يعرف الراحة ، فمهمّته الدعوة إلى الدين وحمل راية الحق ، فما إن عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من الحديبية حتى مكث فيها أقل من شهرين ، أراح جنده من وعثاء سفرهم ، وأعدّهم لمهمّة جديدة .

2- اغتنام الفرص من أولويات الداعية ، فحين أمِنَ المسلمون في صلح الحديبية مكرَ قريش في هدنة بين الطرفين انطلق يؤمّنُ حدودَ دولته الجديدة ومجتمعَ المسلمين من جهة يهود الذين ما فتئوا يتربصون بالمسلمين ، وكانت خيبرُ آخرَ حصونهم في الحجاز ، وهم على عداوته مصممون ، وفي تأليب القبائل عليه ما ضون.

3- من أساليب القيادة أن ينيب النبي صلى الله عليه وسلم أحد المسلمين – في غيابه- على المدينة ، فلما انطلق بجيش المسلمين إلى خيبر – شمال المدينة بمئتي كيلومتر تقريباً – استعمل عليها ( نميلة بن عبد الله الليثي ) وذكر ابْنُ هِشَامٍ أنّ النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم استعمله على خَيْبَر بعد فتحها . ونميلة هذا قتل مِقْيَسَ بن صُباَبة يوم الفَتْح، وهو من قومه وكان النّبي ـــ صلّى الله عليه وآله وسلم ـــ أهدر دم مقيَس لأنه قتل غيلة رجلاً من المسلمين قتل أخاه هشام بن صبابة خطأ ،ودفع المسلمون لأخيه مقيَس ديته ؛ فأخذها ثم رصد قاتلَ هشام حتى قتله وارتدّ، وهرب إلى مكة ،فلما كان يوم الفتح قتل نُميلة ُ مِقْيَسًا : وفي ذلك تقول أخت مِقْيَس:
لَعَمْرِي لَقَدْ أَخْزَى نُمَيْلَةُ قَوْمَهُ * فَفَجَّعَ أَضْيَافَ الشِّتَاءِ بِمِقْيَسِ​

والحقيقة أنْ لا كرامة لمن يقتلُ مسلماً ثم يرتد إلى جاهليته ، نعوذ بالله من الغيّ والضلال .

4- من أساليب التربية النبوية أن يحمّل القائد العظيم صلى الله عليه وسلم بعض جنوده الشجعان الأذكياء مهمّات يدربهم فيها على تحمّل المسؤولية فكان أن دفع رسولُ الله راية الجيش لابن عمه وصهره علي رضي الله عنه ، وسيمر معنا أنه رضي الله عنه كان أهلاً لذلك فهو فتى الإسلام وبطل الميدان.

5- إن التشويق للجهاد والحضَّ عليه يرفع المعنويات ويدفع إلى المعركة بنشاط ويدفع السأم والملل والخوف . فهو أسلوب رائع يحفظ نفسية الجيش في أعلى المستويات ، وهذا ما فعله عامر بن الأكوع في رجزه المشهور الذي تناقله الخلف عن السلف . معان رائعة وصوت جهْوري وأداءٌ ممتاز . وما الأناشيد التي نسمعها في الثورات وهتافات الانتفاضات الشعبية ضد العدو الداخلي والخارجي إلا ثورة إعلامية لها دورها المتميز في شحن النفوس وتهيئتها للمعركة .

6- يرى الرسول صلى الله عليه وسلم من صدق عامر بن الأكوع في هزجه ورجزه ما يثبت في قلبه أن هذا الرجل مودّع ، وينزل الوحي عليه يثبت ما وقر في نفسه صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر ، فيبشره بلقاء الله تعالى بقوله ( يرحمك الله ) ويسمع الفاروق هذه البشرى وكان يرجو أن يعيش هذا الرجل ليفيد في أجواء الجهاد أكثر فيقول : (وجبت والله يا رسول الله ، لو أمتعتنا به) ولكنّ الأمر كله بيد الله سبحانه . وما كان قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم إلا البوحَ بقدر الله تعالى وإرادته.

7- الهداية من الله ( لولا الله ما اهتدينا) وما علينا سوى طلب الهداية والسير في سبيله ، ويرى الله تعالى منا صدق التوجه – وهو الكريم الهادي – فيهدينا سبحانه ، وعلى هذا نفهم السؤال المتكرر كل يوم عشرات المرات ( اهدنا الصراط المستقيم ) . وما الثبات الذي رأيناه في ثورتي مصر وتونس ، وما نراه في ليبيا واليمن ، وما نزال نراه كل يوم في ثورة سورية أمام باطل الإجرام الدموي اليومي فيها إلا ثمرة الهداية الربانية للأبطال الميامين الذين يعلمون أن الحق عزيز ، وأن ثمن النصر غالٍ.

8- يظن الناس كما ظن الصحابة الكرام أن الشهادة لا تكون إلا أن يُقتل الإنسان بسهم أو طلقة رصاص أو طعنة سيف بيد العدو ، إن وسائل الشهادة كثيرة كثيرة ، والنية واحدة ( الصدق مع الله تعالى ) فقد رجع سيف ابن الأكوع عليه فقتله ، فكان شهيداً ، بل إن المؤمن لينال الشهادة وهو على فراشه ما دام صادقاً في طلبها . قالها صلى الله عليه وسلم ( إنه لشهيد ) فأكدها مرتين بإنّ ولام التأكيد .
وشهداؤنا في هذا الزمن أكثر من أن يحصوا ، رحمهم الله وأجزل ثوابهم وألحقنا بهم شهداء .

يتبع
 
رد: قراءة في غزوة خيبر/د.عثمان قدري مكانسي

ما أحوجنا لخيبر اليوم
 
قراءة في غزوة خيبر(2)/د.عثمان قدري مكانسي

قراءة في غزوة خيبر (2)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

- منازل الرسول في طريقه إلى خيبر

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المدينة إلى خيبر سلك على عصر، فبُنِيَ له فيها مسجدٌ ، ثم على الصهباء( وعصر والصهباء مرتفعان قرب خيبر ) ، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه ، حتى نزل بواد يقال له الرجيع ، فنزل بينهم وبين غطفان ، ليحول بينهم وبين أن يُمِدوا أهل خيبر ، وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

- دعاء الرسول لما أشرف على خيبر

وعن أبي معتب بن عمرو : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أشرف على خيبر قال لأصحابه ، وأنا فيهم : قفوا ، ثم قال : اللهم رب السموات وما أظللن ورب الأرضين وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ، ورب الرياح وما أذرين فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها ، أقدموا بسم الله . قال: وكان يقولها عليه السلام لكل قرية دخلها.

- فرار أهل خيبر لما رأوا الرسول

روى أنس بن مالك ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوما لم يُغِرْ عليهم حتى يصبح ، فإن سمع أذانا أمسك ، وإن لم يسمع أذانا أغار . فنزلنا خيبر ليلا ، فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا أصبح لم يسمع أذانا ، فركب وركبنا معه ، فركبت خلف أبي طلحة ، وإن قدمي لتمس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستقبلنا عمالُ خيبرَ غادين ، قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم ، فلما رأوا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم والجيش ، قالوا : محمدٌ والجيشُ معه فأدبروا هرابا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر ، خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين .

- غطفان ومحاولتهم معونة خيبر ثم انخذالهم

وكانت غطفان لما سمعت بمنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر جمعوا له ، ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه ، حتى إذا ساروا منقلة سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حساً ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم ، فرجعوا على أعقابهم ، فأقاموا في أهليهم وأموالهم ، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر .
وتدنى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال يأخذها مالا مالا ، ويفتتحها حصنا حصنا ، فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم ، وعنده قتل محمود بن مسلمة ، ألقيت عليه منه رحا فقتلته ، ثم القموص ، حصن بني أبي الحقيق ، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سبايا ، منهن صفية بنت حيي بن أخطب ، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وابنتـَيْ عم لها ؛ فاصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه . وكان دحية بن خليفة الكلبي قد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية ، فلما أصفاها لنفسه أعطاه ابنتي عمها ، وفشت السبايا من خيبر في المسلمين .

- نهيُ الرسول يوم خيبر عن أشياء

وأكل المسلمون لحوم الحمر الأهلية من حمرها ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهى الناس عن أمور سماها لهم .
عن عبد الله بن أبي سليط ، عن أبيه ، قال : أتانا نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الإنسية ، والقدور تفور بها ، فكفأناها على وجوهها
عن مكحول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاهم يومئذ عن أربع : عن إتيان الحبالى من السبايا ، وعن أكل الحمار الأهلي ، وعن أكل كل ذي ناب من السباع ، وعن بيع المغانم حتى تقسم وحين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر ، أذن لهم في أكل لحوم الخيل
عن حنش الصنعاني ، قال : غزونا مع رويفع بن ثابت الأنصاري المغرب ، فافتتح قرية من قرى المغرب يقال لها جربة ، فقام فينا خطيبا ، فقال : يأيها الناس ، إني لا أقول فيكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله فينا يوم خيبر ، قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماؤه زرع غيره ، يعني إتيان الحبالى من السبايا ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ( هَزَلها ) ردها فيه ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه ( رثـّه وبلاه) رده فيه وعن عبادة بن الصامت ، قال : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن أن نبيع أو نبتاع تبر الذهب بالذهب العين ، وتبر الفضة بالورِق العين ؛ وقال : ابتاعوا تبر الذهب بالورق العين ، وتبر الفضة بالذهب العين .

إضاءة :

1- يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً "، ومع ذلك فقد بنى المسلمون قرب خيبر وقبل فتحها مسجداً ، لأن المساجد علامة سكون الإيمان في البقاع ، وما إن وصل الحبيب المصطفى مدينته الطيبة حتى سارع إلى بناء مسجده فيها ، وقد بنى قبل ذلك مسجد قباء ، فالمساجد مدارس الأمة وأماكن تجمعها ، وهي مصانع العلماء والأبطال والأئمة ، ومنها ينبثق النور في أرجاء المعمورة .

2- ومن النباهة أن يعرِفَ القائدُ عدوه الظاهر، وعدوه الباطن - ما أمكن - ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين انطلق إلى خيبر يعلم أن هناك أعداءه من غطفان يتابعونه ويساعدون الأعداء عليه ويؤلبونهم . فكان أول ما فعله صلى الله عليه وسلم أن عسكر في نقطة التقائهم ليمنع المدد عن أهل خيبر .

3- يقول الفاروق رضي الله عنه للمسلمين حين ولي الخلافة وأرسل جيوشه إلى بلاد الشام ومصر : إن أعداءنا أكثر منا عدداً وعُدّة ، وما ننتصر عليهم إلا بالإسلام والتزامه ، وبالإيمان وقوته ، فإذا كنا مع الله كان الله معنا . تعلم الفاروق هذا من أستاذه العظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان صلى الله عليه وسلم كلما أشرف على قرية أو بلدة نبه أصحابه أن يقفوا متوجهين بقلوبهم إلى الله مخلصين له بالدعاء ، فما النصر إلا من عند الله. فإذا ما دعا وأمّن أصحابُه قال : " أقدموا باسم الله ".

4- ليس من أوّليّات حرب المسلمين أن يغزوا ويفتحوا ويغنموا ، إن اهتمامهم منصب قبل فتح البلاد على فتح قلوب العباد ، وعلى هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَنْ بعده من قادة المسلمين إذا دنَوا من قبيلة أو مدينة أن يصيخوا السمع ؛ أهناك أذان وصلاة فإن سمعوا ذلك علموا أن مَن أمامَهم إخوانُهم فأمسكوا ، وإذا لم يسمعوا أذاناً ولم يروا صلاة علموا أنهم أعداء فأغاروا .

5- القائد المحبوب من يتواضع لأمته وجنوده ويقاسمهم متاعه وطعامه ورَكوبه ، ألم يقل صلى الله عليه وسلم " من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ؟ وهو يبدأ بنفسه ، فيكون قدوة قولاً وعملاً ، إنه صلى الله عليه وسلم يردف خلفه اثنين في انطلاقته المباركة إلى خيبر أحدهما رجل من أصحابه هو أبو طلحة ، والثاني خادمه الفتى أنس بن مالك رضي الله عنهما . فيحفظها له الفتى ويخبرنا متأثراً بهذا الفعل الكريم ويعلمنا كيف يتصرف المسؤول بتواضع وحب لمرءوسيه ويعتني بهم .

6- وقد علمنا القرآنُ الكريمُ أن المباغتة الصباحية والهجوم عند الفجر أو بعده بقليل يفجأ العدوّ ويربكه. " والعاديات ضبحاً * فالموريات قدحاً * فالمغيرات صبحاً * فأثرن به نقعاً * فوسطن به جمعاً * " وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، وفعله من بعده أسامة بن زيد ، وكذلك خالد بن الوليد وجمْعُ الصحابة في جهادهم . وإذا باليهود الخارجين إلى مزارعهم يهربون إلى حصونهم فزعين " هذا محمد والجيش " فيقع الرعب في قلوبهم وقلوب السامعين منهم ، وهذا أول بشائر النصر يزفه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً " الله أكبر ، خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ."
وبمثل هذا التصرف الواعي والقول الرائع يزرع القائد التفاؤل في نفوس جنده فينطلقون سيلاً هادراً يكتسح ما أمامه بقوة راعبة .

7- حين يكون المسلمون قلباً واحداً جهادهم في سبيل الله بعيدين عن المصالح الخاصة هدفهم رضا الله سبحانه وتعالى فالنصر حليفهم يرونه رأي العين ، هذا ما كان في غزوة بدر حين فقد أنزل الله عليهم قبل المعركة غيثاً طهرهم به وأذهب عنهم وسوسة الشيطان وثبت به أقدامهم ، وأمر الملائكة أن تقاتل معهم وتقطع أصابع الكفار وأعناقهم ، أما في غزوة خيبر حين انطلقت غطفان لدعم اليهود أسمعهم الله في أموالهم وأهليهم صوتاً أخافهم فظنوا أن عدواً يتربص بهم ، أو أن المسلمين قصدوهم دون يهود فعادوا إلى ديارهم متوجسين ، وتخلّوا عن دعم يهود خيبر ، وكفى الله المؤمنين قتالهم.

8- يفتح الله تعالى على عباده النصر فيقطفون ثمرته خطوة خطوة ، وتسقط الحصون حصناً حصناً بقوة الله وأمره ، وما المسلمون المقاتلون إلا صورة في المعركة يجاهدون احتساب الأجر عند الله وهو سبحانه من يرمي ويقتل . يذكرني سرعة َ سقوط الحصون بيد المسلمين قولُه تعالى في سورة الأنفال يحكي حقيقة معركة بدر وهذا ينطبق على كل ما يشابهها من غزوات ومعارك: " فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى وليُبلي المؤمنين بلاء حسناً .."

9- وتقع النساء سبايا بيد المسلمين يقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين المقاتلين ، والسبي كان في تلك الأيام من آثار المعارك تعارفوا عليها فباتت شرعاً مألوفاً ، وللأمم أن تتعارف على ما يناسبها في أزمنتهم وحضاراتهم ، وقد ضيّقَ الإسلامُ بابَ السبي والاستعباد وشرَع ما يجفف به استرقاق البشر بعضِهم بعضاً ، وقد حافظ الشرع حتى في قضية السبي على النسب ، فمنع الدخول على الإماء الحاملات حتى يضعن حملهنّ ، وعلى غيرهن حتى يستبرئن..

10- تتنزل الشريعة تقنن الأمور وتبين الحلال والحرام في زمن السلم وزمن الحرب على حد سواء ، ففي غزوة خيبر نزلت كثير من الأوامر والنواهي تحدد مسارات الحياة الاجتماعية وتبني دستور الأمة إلى يوم الساعة ، منها : نهي أكل لحوم الحمر الأهلية وزواج المتعة ونهيُ أكل كل ذي ناب من السباع ، ونهى عن بيع المغانم حتى تقسم ، وعن بيع تبر الذهب بالذهب العين ، وتبر الفضة بالورِق العين . فبناء نظام الأمة ودستورها يساير حياتهم أينما كانوا وحيثما حلوا إلى أن تكتمل الشريعة ويتضح بناؤها ..

11- والملفت للنظر أن المسلم الحقيقي يلتزم بالأوامر والمنهيات دون تلكؤ ، وهذا دليل على ثبات الإيمان في قلبه وتفاعله معه . من هذه الصور الإيجابية الرائعة ما رواه عبد الله بن أبي سليط ، عن أبيه ، قال : أتانا نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الإنسية ، والقدور تفور بها ، فكفأناها على وجوهها . ولم يقولوا نأكل ما طبخناه الآن ونتركه لا حقاً ، وهذا مارأيناه في مجتمع المدينة حين نزل تحريم الخمر إذ فرغت الأواني في أزقة المدينة وقال المسلمون : انتهينا يا رب انتهينا حين سمعوا آية تحريم الخمر وفي آخرها قوله تعالى " فهل أنتم منتهون " . وهذا ما يجب على المسلمين أن يتحلوه ويعملوا به.

12- ولا يصل الدين للخلف إذا تلكأ السلف عن إيصاله إليهم أو تهاونوا فيه فهو- الدين - أمانة لا بد من أدائها. ومن الصور الرائعة لأداء الأمانة ما رواه حنش الصنعاني عن رويفع بن ثابت الأنصاري الذي غزا في المغرب فنبه المقاتلين إلى التزام الحلال والحرام الذي جاء به هذا الدين العظيم . فالدين أمانة لا بد من أدائها ومن صورأدائها أن توظف المواقف المناسبة المشابهة لما حصل مع المسلمين الأوائل وكأن الأمر ( رأي عين ) .

يتبع
 
قراءة في غزوة خيبر(3)/د.عثمان قدري مكانسي

قراءة في غزوة خيبر(3)

الدكتور عثمان قدري مكانسي


شأن بني سهم الأسلميين

جماعة من بني سهم من أسلم أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : والله يا رسول الله لقد جهدنا وما بأيدينا من شيء ، فلم يجدوا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا يعطيهم إياه ؛ فقال : اللهم إنك قد عرفت حالهم وأن ليست بهم قوة ، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه ، فافتح عليهم أعظمَ حصونها عنهم غَناء ، وأكثرَها طعاما وودكا ( الودك الدسم من الطعام )، فغدا الناس ، ففتح الله - عز وجل - حصن الصعب بن معاذ ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا منه .
مقتل مرحب اليهودي
لما افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حصونهم ما افتتح ، وحاز من الأموال ما حاز ، انتهوا إلى حصنـَيهم الوطيحِ والسلالِمِ ، وكان آخرَ حصون أهل خيبر افتتاحا ، فحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضع عشرة ليلة ،وكان شعار أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر : يا منصور ، أمت أمت . قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل ، أخو بني حارثة ، عن جابر بن عبد الله ، قال : خرج مرحب اليهودي من حصنهم ، قد جمَع سلاحه ، يرتجز وهو يقول :
قد علمت خيبر أني مرحب == شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحيانا وحينا أضرب == إذا الليوث أقبلت تحرب
إن حماي للحمى لا يقرب​

وهو يقول : من يبارز ؟
فأجابه كعب بن مالك دون أن يبارزه ، فقال :

قد علمت خيبر أني كعب == وأنني متى تشب الحرب
ماض على الهول جريء صلب == معي حسام كالعقيق عضب
بكف ماض ليس فيه عتب == ندككم حتى يذل الصعب​
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من لهذا ؟
قال محمد بن مسلمة : أنا له يا رسول الله ، أنا والله الموتور الثائر ، قتل أخي بالأمس ؛ فقال : فقم إليه ، اللهم أعِنه عليه
قال : فلما دنا أحدهما من صاحبه ، دخلت بينهما شجرة عمرية ( دهرية ، عمرها طويل) ، فجعل أحدهما يلوذ بها من صاحبه ، كلما لاذ بها منه اقتطع صاحبه بسيفه ما دونه منها ، حتى برز كل واحد منهما لصاحبه ، وصارت بينهما كالرجل القائم ، ما فيها فنن ، ثم حمل مرحب على محمد بن مسلمة ، فضربه ، فاتقاه بالدرقة( المِجَنّ) ، فوقع سيفه فيها ، فعضت به فأمسكته ، وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله .
مقتل ياسر أخي مرحب
: ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر ، وهو يقول : من يبارز ؟ فخرج إليه الزبير بن العوام ، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب : يقتل ابني يا رسول الله . قال : بل ابنك يقتله إن شاء الله فخرج الزبير فالتقيا ، فقتله الزبير .
وكان الزبير إذا قيل له : والله إنْ كان سيفك يومئذ لصارما عضبا ، قال : والله ما كان صارما ، ولكني أكرهته .
شأن علي يوم خيبر

وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - برايته ، وكانت بيضاء ، فيما قال ابن هشام ، إلى بعض حصون خيبر ، فقاتل ، فرجع ولم يكُ فتحٌ ، وقد جهد ؛ ثم بعث الغد عمرَ بن الخطاب ، فقاتل ، ثم رجع ولم يكُ فتحٌ ، وقد جهد ؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللهَ ورسوله ، يفتح الله على يديه ، ليس بفرار
فدعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليا - رضوان الله عليه - وهو أرمد ، فتفل في عينه ، ثم قال : خذ هذه الراية ، فامض بها حتى يفتح الله عليك فخرج والله بها يأنح ( يتنفس بصعوبة) ، يهرول هرولة ، وإنا لخلفه نتبع أثره ، حتى ركز رايته في رضم من حجارة ( والرضم: صخور عظام مبنية بعضُها فوق بعض) تحت الحصن ، فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن ، فقال : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب . قال : يقول اليهودي : علوتم ، وما أنزل على موسى( يقسم بالتوراة ) ، فما رجع حتى فتح الله على يديه .

إضاءة:

1- يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " وجُعل رزقي تحت ظل رمحي" .ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُعرف عنه استعمال الرمح في حروبه ....و انما سلاحه المفضل هو السيف ...و المعروف أن الرمح سلاح للدفاع و الرمي و قد قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ...) فقال: (ألا أن القوة الرمي . ألا أن القوة الرمي . ألا أن القوة الرمي ) . ويكون الرمي بالرمح والسهم.
ومعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت الليالي جائعا و لم يكن رزقه إلا كفافاً ، وقد توفي و درعه مرهونة عند يهوديّ.
ومعنى هذا الحديث أن على المسلم - كي يضمن استمرار رزقه - أن يكون دائما مستعدا للعدوّ بقوة الرمي المعبَّر عنه بالرمح هنا، ولو كان المسلمون أقوياء ما ابتزّتهم دول الغرب وسلبتهم ثرواتهم عياناً ، ولا يُفهم مطلقاً ما يظنه الأعداء من هذا الحديث أن رزق المسلمين بالسلب والنهب ، وقد أعادوا لأهل حمص جزيتهم حين علموا أنهم لن يستطيعوا الدفاع عنهم ، فقال لهم أهل حمص : لأنتم أحب إلينا من أبناء ديننا .والتاريخ يشهد أن عمر بن عبد العزيز أمر جنده بالخروج من طشقند حين دخلوها دون أن يعرضوا – ابتداءً- على أهلها الإسلام أو الجزية أو الحرب .

2- حين يرفض العدو العرضَين المطروحين قبل الحرب ( الإسلام أو الجزية ) وتبدأ المعركة ، فما يقع بين أيدي المسلمين فهو فيئهم وحلال لهم ، على هذا نفهم ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لفقراء أسلم حين جهدوا ، ولم يجدوا شيئاً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم إنك قد عرفت حالهم وأن ليست بهم قوة ، وأن ليس بيديّ شيء أعطيهم إياه ، فافتح عليهم أعظمَ حصونها عنهم غَناء ، وأكثرَها طعاما وودكا " ( الودك الدسم من الطعام )، فغدا الناس ، ففتح الله - عز وجل - حصن الصعب بن معاذ ، وما بخيبر حصنٌ كان أكثر طعاما وودَكا منه . فكان الحصنُ غنيمة للمسلمين.

3- وشعار المسلمين في هذه الغزوة : يا منصور أمت أمت يدل أن المسلمين الذين يقاتلون في سبيل الله يعلمون علم اليقين أن نصرهم من عند الله ، وأنهم يقاتلون تحت رايته ونشراً لدينه ورغبة في رضاه ، وأن بيده كلَّ شيء . كما أن ترديد هذا الشعار في الليل وتحت سنابك الخيول وفي غبار المعركة واختلاط المقاتلين من الطرفين يُعَرِّف المسلمين بعضَهم ببعض فلا يُقتل أحدهم – في تشابك الناس - بيد أخيه ، كما يكون هذا النداء مدعاة للتكاتف على عدو ودعوة للنصرة والعون ضد مقاتل من العدو شرس.

4- والحرب قتال بالسلاح ودفعٌ باللسان ألم يقل الشاعر حسان بيته المشهور :
لساني صارم لا عيب فيه === وبحري لا تكدره الدلاء
فكذلك خرج اليهودي مرحب شاكي السلاح يفخر بنفسه كما مَرَ ، وأجابه كعب بن مالك بما يناسب قوله ، وبرز إليه محمد بن مسلمة البطل الشاب الذي قُتل أخوه محمود برحى سقطت عليه من سور الحصن ، وتبارزا ساعة فكان النصر حليفه ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا بد أن نشير إلى أمرين مُهِمَّينِ في المعركة ، أحدهما الكفاءة في القتال وثانيهما دعاء الصالحين الذي تجلى بدعائه صلى الله عليه وسلم لمحمد بن مسلمة " اللهمّ أعِنه عليه". وكذلك في مبارزة ياسر اليهودي والزبير بن العوام فيتفاءل الحبيب صلى الله عليه وسلم ويجيب عمته صفية حين خافت على ابنها من اليهودي " بل ابنك يقتله إن شاء الله " وما أقرب الحبيب إلى الله تعالى ، فيتحقق ما قاله صلى الله عليه وسلم .

5- ومن المهم أن نرى النساء يخرجن مع الرجال يشجعنهم ، ويدفعنهم إلى الجهاد فإذا المرأة صنوُ الرجل ورفيقته في كل عمل ، فهنّ شقائق الرجال ، وكم من امرأة فاقت الرجال في فعلها وقولها وكانت أسوة حسنة لأولادها ونسائها . ولأن المرأة مهما أوتيَتْ من ثبات وقوة فهي الأم التي تخاف على ولدها وترجو له النجاة والفوز ، فتتساءل مشفقة : يُقتلُ ابني يا رسول الله ؟ فهي على الرغم من دفعها ابنَها إلى المعركة قلقة ، وهذه سمة البشر جميعاً . ولكن لا بد من المغامرة وبذل الروح والمهجة والمال والولد في سبيل الدعوة وعلى الله الاتكال ، ومنه الفضل والحفظ والصون. ولعلنا نرى روعة تربيتها لابنها في جوابه الدال على الرجولة والبطولة حين قيل له : والله إنْ كان سيفك يومئذ لصارماً عضباً ، فقال : والله ما كان صارماً ، ولكني أكرهته . وقد أقر له الفاروق رضي الله عنه بالبطولة والشجاعة حين طلب عمرو بن العاص فاتحُ مصر المددَ فأرسل له الزبيرَ مدداً ،ويقول فيه : إنه يعادل ألف فارس . ولله درّه فقد كان كذلك . رضي الله عنه وتقبله شهيداً ، وعفا عنه وأكرمه.

6- وللمغاليق في بعض الأحيان مفاتيح لا تفتح إلا بها ، لقد كان إخضاع الجزيرة في عهد الصديق رضي الله عنه فخاراً له وكذلك كان له الفضل في القضاء على المرتدين وفتح الشام والعراق وجمع القرآن الكريم ، وكان لعمر الفاروق رضي الله عنه فخارُ فتح مصر والقضاء على الفرس وضم فارس إلى الدولة الإسلامية والوصول إلى ما بين النهرين ، وكان لعلي رضي الله عنه فخار القضاء على يهود خيبر ، ولم يكن لهما ذلك. وهذا عطاء الله يهبه لمن يشاء . من صفاته التي أسبغها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يحب الله ورسولَه ،مقدامٌ ليس بفرار . ونعمَتْ هذه الشمائل العلائية لزوج البتول وابن عم المصطفى . يذكر عمر الفاروق أنه تشوّف لها ، فكانت لعلي رضي الله عنه.

7- اختيار الأمير بعض قادته لمهمة خاصة دليلٌ على معرفته بهم وأنه يرسل لكل مهمة أكثرَهم أهليّة لها . والأمير الناجح من يعرف جنوده وقادته ويحملهم المسؤوليات المناسبة ، ويزوّدهم بما يعينهم في مهمتهم ويوضحها لهم ليكونوا على بيّنة من أمرهم. فرسول الله صلى الله عليه وسلم يختار علياً – وكان أرمدَ- فيتفل في عينه فتشفى بإذن الله ، ويسرع على الرغم مما به من مرض ويهرول – بعد أن تلقّى مهمته ووعاها – إلى الهدف لايريم عنه ولا يحيد . يسبق جنده إلى أرض المعركة غير هياب ولا وجل ، فيكون قدوة رائعة لجنوده فتنتشر فيهم حُمَيّا شجاعته وبطولته رضي الله عنه.

8- ولم يكن بد من انتصار أهل الحق على أهل الباطل انتصاراً ساحقاً ، فدولة الباطل ساعة ، ودولة الحق إلى قيام الساعة . ومن كان مع الله كان الله معه . ومن نصر اللهَ نصره اللهُ ألم يقل اللهُ تعالى " ولينصرنّ اللهُ من ينصره إن الله لقوي عزيز "؟ .

يتبع
 
قراءة في غزوة خيبر(4)/د.عثمان قدري مكانسي

قراءة في غزوة خيبر (4)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

دعاء الرسول لأبي اليسر

قال :أبو اليسر كعب بن عمرو: والله إنا لمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر ذات عشية ، إذ أقبلت غنم لرجل من يهود تريد حصنهم ، ونحن محاصروهم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من رجل يطعمنا من هذه الغنم ؟ قال أبو اليسر : فقلت : أنا يا رسول الله قال : فافعل ؛ قال : فخرجت أشتد مثل الظليم ( ذكر النعام) ، فلما نظر إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موليا قال : اللهم أمتعنا به قال : فأدركت الغنم وقد دخلت أولاها الحصن ، فأخذت شاتين من أخراها ، فاحتضنتهما تحت يدي ، ثم أقبلت بهما أشتد ، كأنه ليس معي شيء ، حتى ألقيتهما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذبحوهما ، فأكلوهما ، فكان أبو اليسر من آخر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هلاكا فكان إذا حدث هذا الحديث بكى ، ثم قال : أمتعوا بي ، لعمري ، حتى كنت من آخرهم هلكا .

صفية أم المؤمنين

لما افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القموص ، حصن بني أبي الحقيق ، أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصفية بنت حيي بن أخطب ، وبأخرى معها ، فمر بهما بلال ، وهو الذي جاء بهما على قتلى من قتلى يهود ؛ فلما رأتهم التي مع صفية صاحت . وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها ؛ فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أعزبوا عني هذه الشيطانة . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبلال ، حين رأى بتلك اليهودية ما رأى : أنزعت منك الرحمة يا بلال ، حين تمر بامرأتين على قتلى رجالهما ؟ وأمر بصفية فحيزت خلفه . وألقى عليها رداءه ؛ فعرف المسلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اصطفاها لنفسه .

وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، أن قمرا وقع حجرها . فعرضت رؤياها على زوجها ؟ فقال : ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمدا ، فلطم وجهها لطمة خضر عينها منها . فأتي بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبها أثر منه ، فسألها ما هو ؟ فأخبرته هذا الخبر .

عقوبة كنانة بن الربيع

وأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكنانة بن الربيع ، وكان عنده كنز بني النضير ، فسأله عنه . فجحد أن يكون يعرف مكانه ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من يهود ، فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة ؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكنانة أرأيت إن وجدناه عندك ، أأقتلك ؟ قال : نعم . فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخربة فحفرت ، فأخرج منها بعض كنزهم ، ثم سأله عما بقي ، فأبى أن يؤديه ، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزبير بن العوام ، فقال : عذبه حتى تستأصل ما عنده فكان الزبير يقدح بزند في صدره ، حتى أشرف على نفسه ، ثم دفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى محمد بن مسلمة ، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة .

مصالحة الرسول أهل خيبر

وحاصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم ، حتى إذا أيقنوا بالهلكة ، سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ، ففعل . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حاز الأموال كلها : الشق ونطاة والكتيبة وجميع حصونهم ، إلا ما كان من ذينك الحصنين .

فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا ، بعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه أن يسيرهم ، وأن يحقن دماءهم ، ويخلوا له الأموال ، ففعل . وكان فيمن مشى بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبينهم في ذلك محيصة بن مسعود ، أخو بني حارثة ، فلما نزل أهل خيبر على ذلك ، سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعاملهم في الأموال على النصف ، وقالوا : نحن أعلم بها منكم ، وأعمر لها ؛ فصالحهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النصف ، على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم ؛ فصالحه أهل فدك على مثل ذلك ، فكانت خيبر فيئا بين المسلمين ، وكانت فدك خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب .

أمر الشاة المسمومة

فلما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدت له زينب بنت الحارث ، امرأة سلام بن مشكم ، شاة مصلية ، وقد سألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقيل لها : الذراع ؛ فأكثرت فيها من السم ، ثم سمت سائر الشاة ، ثم جاءت : بها ؛ فلما وضعتها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تناول الذراع ، فلاك منها مضغة ، فلم يسغها ، ومعه بشر بن البراء بن معرور ، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فأما بشر فأساغها ؛ وأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلفظها ، ثم قال : إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم ثم دعا بها ، فاعترفت ؛ فقال : ما حملك على ذلك ؟ قالت : بلغت من قومي ما لم يخف عليك ، فقلت : إن كان ملكا استرحت منه ، وإن كان نبيا فسيخبر ، قال : فتجاوز عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومات بشر من أكلته التي أكل .

وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال في مرضه الذي توفي فيه ، ودخلت أم بشر بنت البراء بن معرور تعوده : يا أم بشر ، إن هذا الأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات شهيدا ، مع ما أكرمه الله به من النبوة

إضاءة :

1- قد يتساءل أحدنا ، كيف تقترب الأغنام بثغائها وعددها الملفت من الحصن ولا ينتبه المسلمون إليها ابتداءً ، وكيف يجرؤ الرعيان أن يخرجوا من الحصن وهو محاصر ثم يعودون مع أغنامهم وكأن شيئاً لم يكن؟ وأين حرس المسلمين ومقدمتهم؟ وكيف تغيب هذه الأغنام عن عيون المسلمين وهم يحاصرون الحصن ، ثم ينفتل أبو اليسر خلسة فيدخل بين حرس اليهود ورعيانهم ليقتنص شاتين ، وكيف يرضى المسلمون أن يأكلوا شيئاً مسروقاً أو مختلسَاً ؟ ولماذا لم يهجموا فيأخذوا القطيع كله وقد كان بين أيديهم؟ هذه الأسئلة تخطر في الذهن وتتطلب الإجابة قبل التعليق على هذه الحادثة...

2- الملاحظ من المقدمة أن المسلمين بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يحاصرون أحد الحصون في يوم من أيام الحصار الذي امتد أياماً طويلة والحصار بين مدّ وجزر ، فمرة يهاجمون الحصن ومرة يبتعدون عنه ، وتارة يشتد الحصار وتارة تهدأ الأمور ، وبين هذا وذاك يغتنم الطرفان فرصة تغيب عن الطرف الآخر ، ولعل الرعاة بغنمهم كانوا قبل مباغتة المسلمين في مرعى من المراعي البعيدة أو القريبة ، فلما علموا أن المسلمين على أبواب حصنهم تخفوا في مغارة أو كنف جبل قريب أو كهف ، فلما وجدوا سانحة للدخول إلى الحصن في ابتعاد المسلمين أسرعوا إلى الحصن فرأى المسلمون آخرها يدخل الحصن ، ولم يكن من السهل الهجوم لوجود حرس منتبه ، وهنا يمكن للفرد أن يلج بسرعة واليهود يظنونه – وهو مقبل وحده – فرداً منهم فلا يأبهون له ، فيحمل واحدة أو اثنتين ويغيب بسرعة من بين الرعاة والحرس قبل أن ينتبهوا له . وهذا يُعتبر اختباراً لمهارة المقاتل وشجاعته وحسن تصرفه وتشجيعاً له على المغامرة والتصرف البدهي الإيجابي .

3- ولأن القوم في حرب فليس الأمر سلباً ولا سرقة وإنما هو غنيمة يغنمها من العدو ونقطة تحسب له في المعركة وتعتبر نكاية بعدوّهم ، كما أن المسلمين وهم في حالة الهجوم لا يودون أن يكون معهم ما يثقل تحركهم ، فلو أخذوا القطيع لأضعف الاعتناء به من حركتهم وصرف جزءاً من اهتمامهم بالحرب إلى ما هم بغنى عنه ولا حاجة لهم به. وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم " من رجل يطعمنا من هذه الغنم " فهو تدريب ليس إلاّ ، وتحفيز للهمم ، وبذر للتنافس والسباق إلى تنفيذ الأوامر وروعة الجندية .

4- والجميل في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه ينطلق بسرعة كالظليم نحو القطيع لا يهاب من يخطِر بينهم ولا يهتم لهم ، وهذه قمة الشجاعة والثقة بالنفس " اللهم متعنا به" احفظه يارب وأعده سالماً غانماً ، فقد حمل الشاتين بقوة وعاد بهما بخفة ورشاقة كأنه لا يحمل شيئاً .. هذا الدعاء من القائد لأحد جنوده دليلٌ على حبه إياهم وهم يبادلونه حباً ، وحين تكون العلاقة بين الرئيس والمرءوس قائمة على العطف والحب والمودة فاعلم أن هذا الجيش منتصر وأنه سيصل إلى هدفه لا ريب. وعاش أبو ياسر طويلاً ببركة دعاء المصطفى له صلى الله عليه وسلم. وتصور شوق هذا الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم ولصحبه الكرام ، فهو يقص ما جرى وهو يبكي لطول عمره ورغبته لقاءَ الأحبة محمداً وصحبه.

5- صفية رضي الله عنها ترى - لحسن طالعها - قمراً وقع في حجرها ، وكانت عروساً عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، فتذكر هذا الحلم لزوجها ، فيصفعها فتخضر عينها ويؤوله برسول الله صلى الله عليه وسلم ، صدق تأويله ليصيب الخيرُ صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها وتكون زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم . وكان زواجها خيراً لها ولكثير من قومها اليهود الذين أسلموا وحسن إسلامهم . فقد سباها المسلمون ورآها النبي صلى الله عليه وسلم فاصطفاها لنفسه ، وأكرمها إذ جعل عتقَها مهرها.

6- من التصرف الحسن أن يراعي القوم أفئدة النساء والصغار ، فلا يرينَ النساءُ ما يسوءهنّ ، وقد يخطئ أحدنا فيتصرف بما لا يناسب فتبكي النساء لأنهن لا يتحملن ، وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء خيراً فقال : " اتقوا الله في النساء " لقد أخطأ بلال حين مرّ بامرأة من اليهود على قتلاها فصاحت وبكت واستعبرت ، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام عن إيذائهنّ في رؤية ما يكرهْنَ .

7- من أساليب العرب كلمات لا يُقصد بها التشنيع أو الدعاء السيء أو الإهانة ، ولكنها تخرج لمعان التعجب أو الاستعظام أو الكره ... ، كأن يقول أحدنا للآخر متعجباً من فعله " لا أبالك" فهو لا يدعو عليه باليتم . وكذلك قد يقول له :" قاتلك الله " وهي ليست دعاء عليه بل استنكارٌ أو تعجبٌ من فعل ، وكذلك " كذبْتَ " بمعنى أخطأتَ . ومن هذه الكلمات ما قاله النبي حين سمع صوت المرأة اليهودية وصريخها " أعزبوا عني هذه الشيطانة " فصياحها وولولتها الشديدان المهيّجان بعد الهدوء والسكون غير مناسبين ، فتصرفت بفطرتها الأنثوية صارخة . والدليل على رحمة النبي بالإنسان الضعيف قوله لبلال:" : أنزعت منك الرحمة يا بلال ، حين تمر بامرأتين على قتلى رجالهما ؟

8- الاستعانة بالآخرين للوصول إلى الهدف مطلوب ، فقد استعان الرسول بيهودي لمّاح رأى كنانة يكثر الطواف بخربة فعلم أنه يخبئ فيها كنزه الذي يسأل عنه المسلمون ، كما أننا نجد الوضوح في المفاوضة في قوله صلى الله عليه وسلم " أرأيت إن وجدناه عندك ، أأقتلك ؟ قال : نعم . " وكان على الرجل الواعي لو وجد منفذاً من الموت أو القتل أن يغتنمه خاصة أن ما ينكره لن يفيده لأنه فقده حين صار أسيراً أولاً ، ولأنّ خسرانَ شيء أنفع من خسران كل شيء ثانياً . ولأن خصمه الذي لا يريد به شراً قد اقترب من هدفه ثالثاً ، ولعل القارئ يعود إلى مقطع " عقوبة كنانة بن الربيع " ليرى العناد الخاسر الذي قاد إلى تعذيبه ثم إلى قتله.

9- راهن كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق رهاناً خاسراً حين لم يقدر الأمور بقدرها ،وأقر موافقاً على قتله ، فقدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحمد بن مسلمة يضرب عنقه بأخيه محمود الذي ألقي عليه الرحى فمات متأثراً بعد ثلاثة أيام من الحادثة . وأقر الله عينه حين قطعت عنق رامي الرحى قبل أن يسلم محمود الروح إلى بارئها . ولعل كنانة لو كان لبيباً ولم يراهن الرهان الخاسر لم يقتل ، ولعلي أزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسعد محمد بن مسلمة حين أسلمه سيّدَ الحصن ، فكان أن ثأر لأخيه أولاً ، وكوفئ لشجاعته ثانياً ، وأزكى روح التنافس بين المجاهدين ثالثاً .

10- كان يهود خيبر في نهايتهم ثلاثة أقسام أما القسم الأول :

أ‌- فأهل الحصون التي فتحت قتالاً ، فقد أسِر رجالهم وقتل الكثير منهم وسبيت نساؤهم وأبناؤهم .

ب‌- والقسم الثاني حوصروا وقوتلوا فاستسلموا دون أن يُفتح حصناهم ( الوطيح والسلالم ) ونزلوا على الذلّ شرط أن يدعهم رسول الله يسيرون وأن يحقن دماءهم ، ويخلوا له الأموال فكان هذان الحصنان مع غيرهما فيئاً للمسلمين ،

ت‌- والقسم الثالث هم أهل فدك لم يحاربوا السلمين وفعلوا ما فعله أهل الحصنين ( الوطيح والسلالم) فكانت فدك فيئاً لرسول الله دون المسلمين ، لكنّهم اتفقوا مع رسول الله أن يظلوا في حصونهم يعملون ( مرابعين ) لهم نصف ثمار خيبر عملاً وأجرة لا ملكاً ، فلرسول ِ الله والمسلمين أن يخرجوهم متى شاءوا .

وهكذا آلت خيبر بعد الغزوة ، فكان الجهاد في سبيل الله إعلاء للحق ونصراً للإسلام وشوكة وقوة ، وسار المسلمون في العهد الأول للخلافة على هذا المنوال.

11- وخط القائد الفذ صلوات الله وسلامه عليه أسلوباً عملياً حين ترَكَ للعامل الماهر غير المسلم أن يبقى في عمله للفائدة المرجوة من خبرته إلى أن يأخذ مكانه المسلمُ الذي مَهَرَ في العمل وأتقنه. ، وجدير بنا أن نتفهم قول عمر لأبي موسى الأشعري في العراق حين أمره أن يعفي المجوسي أو اليهودي من عمله واعترض أبو موسى بسبب مهارته ( مات المجوسي) .

12- وينبغي أن يعلم المسلمون أن اليهود مخادعون ولو أظهروا اللطف في حال الضعف ، فالله تعالى يحذرنا منهم ومن مكرهم في مواقع كثيرة في كتابه الكريم، وقد سممت اليهودية الشاة التي أهدتها لرسول الله وزاد في مكرها أنها حين سممت اللحم أكثرت السمَّ في أحب أنواع اللحم له صلى الله عليه وسلم ( الذراع). ولولا لطف الله تعالى لانتهى أجله ،

13- وهنا نعلم أن الله يحفظ عباده الصالحين ويكلؤهم برعايته ويبطل مكر الماكرين فقد أخبره جبريل أن الشاة مسمومة فامتنع عن الأكل . زكذلك يهيئ للصالحين النجاة والفوز على غيرهم.

14- ولا بد من القصاص ، وهذا مبدأ ثابت كي يحسب المجرم ألف حساب قبل أن يقدم على فعلته الشائنة ، فلما مات بشر بن البراء قتلتِ المرأة به .

15- لا تنطلي الأحابيل على المسلم ولا يغشه اللينُ في الكلام ولا معسوله. إذ لم ينفع المرأة حين سئلت عن سبب تسميم الشاة ، فادّعت أنها كانت تريد التأكد من نبوة الحبيب محمد ( لو كان نبياً أنقذه ربه ، ولو كان غير ذلك تخلصنا منه ) لم ينفعها ذلك من القصاص العادل .

16- وأخيراً يرى العلماء أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين احتضر شعر أن أبهره انقطع ، فكأن السم بقي في جسده لا يضره إلى أن حان أجله ففتك به ، وبهذا نال درجة الشهادة إلى درجة النبوّة . وهم بذلك يعظمون من شأن الشهادة ومكانة الشهيد .

يتبع
 
قراءة في غزوة خيبر(5)/د.عثمان قدري مكانسي

قراءة في غزوة خيبر (5)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

عن أبي هريرة ، قال : لما انصرفنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن خيبر إلى وادي القرى نزلنا بها أصيلا مع مغرب الشمس ، ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلام له ، أهداه له رفاعة بن زيد الجذامي . فوالله إنه ليضع رحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أتاه سهمُ غَرَبٍ (لا يُدرى من رماه) فأصابه فقتله ؛ فقلنا : هنيئا له الجنة ؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كلا ، والذي نفس محمد بيده ، إن شَمْلته(كساءه) الآن لتحترق عليه في النار ، كان غلها من فيء المسلمين يوم خيبر قال : فسمعها رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاه فقال : يا رسول الله ، أصبت شراكين لنعلين لي ؛ قال : فقال : يُقدُّ لك مثلهما من النار .

ابن مغفل وجراب شحم أصابه

وعن عبد الله بن مغفل المزني ، قال : أصبت من فيء خيبر جراب( كيس) شحم ، فاحتملته على عاتقي إلى رحلي وأصحابي . قال : فلقيني صاحب المغانم الذي جعل عليها ، فأخذ بناحيته وقال : هلم هذا نقسمه بين المسلمين ؛ قال : قلت : لا والله لا أعطيكه ؛ قال : فجعل يجابذني الجراب . فرآنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نصنع ذلك . قال : فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضاحكا ، ثم قال لصاحب المغانم : لا أبا لك ، خل بينه وبينه قال : فأرسله ، فانطلقت به إلى رحلي وأصحابي ، فأكلناه .

بناء الرسول بصفية وحراسة أبي أيوب للقبة

لما أعرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصفية . بخيبر أو ببعض الطريق ، جمّلتها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومشطتها وأصلحت من أمرها أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك . فبات بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبة له . وبات أبو أيوب خالد بن زيد ، أخو بني النجار متوشحا سيفه ، يحرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويطيف بالقبة ، حتى أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأى مكانه قال : ما لك يا أبا أيوب ؟ قال : يا رسول الله ، خفت عليك من هذه المرأة ، وكانت امرأة قد قتلتَ أباها وزوجها وقومها ، وكانت حديثة عهد بكفر ، فخفتها عليك . قال : اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني.

تطوع بلال للحراسة وغلبة النوم عليه

لما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر فكان ببعض الطريق ، قال من آخر الليل : من رجل يحفظ علينا الفجر لعلنا ننام قال بلال : أنا يا رسول الله أحفظه عليك . فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزل الناس فناموا ، وقام بلال يصلي ، فصلى ما شاء الله - عز وجل - أن يصلي . ثم استند إلى بعيره واستقبل الفجر يرمقه ، فغلبته عينه ، فنام ، فلم يوقظهم إلا مس الشمس .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول أصحابه هبَّ ، فقال : ماذا صنعت بنا يا بلال ؟ قال : يا رسول الله ، أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك ؛ قال : صدقت ؛ ثم اقتاد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعيره غير كثير ، ثم أناخ فتوضأ ، وتوضأ الناس ، ثم أمر بلالا فأقام الصلاة ، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس فلما سلم أقبل على الناس فقال : إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها ، فإن الله تبارك وتعالى يقول : وأقم الصلاة لذكري . .

شهود النساء خيبر وحديث المرأة الغفارية .

شهد خيبر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساء من نساء المسلمين ، فرضخ لهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفيء ، ولم يضرب لهن بسهم .
عن امرأة من بني غفار قالت : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسوة من بني غفار ، فقلنا : يا رسول الله ، قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا ، وهو يسير إلى خيبر ، فنداوي الجرحى ، ونعين المسلمين بما استطعنا ؛ فقال : على بركة الله . قالت : فخرجنا معه ، وكنت جارية حدثة ، فأردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حقيبة رحله . قالت : فوالله لنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبح وأناخ ، ونزلت عن حقيبة رحله ، وإذا بها دم مني ، وكانت أول حيضة حضتها ، قالت : فتقبضت إلى الناقة واستحييت ؛ فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بي ورأى الدم ، قال : ما لك ؟ لعلك نفست قالت : قلت : نعم ؛ قال : فأصلحي من نفسك ، ثم خذي إناء من ماء ، فاطرحي فيه ملحا ، ثم اغسلي به ما أصاب الحقيبة من الدم ، ثم عودي لمركبك .
قالت : فلما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر ، رضخ لنا من الفيء( والضخ : العطاء ليس بالكثير) وأخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي فأعطانيها ، وعلقها بيده في عنقي ، فوالله لا تفارقني أبدا . قالت : فكانت في عنقها حتى ماتت ، ثم أوصت أن تدفن معها . قالت : وكانت لا تطهر من حيضة إلا جعلت في طهورها ملحا ، وأوصت به أن يجعل في غسلها حين ماتت .

إضاءة:

1- ينبغي أن يكون الجهاد خالصاً له سبحانه كي يصل المسلم إلى هدفه الدنيوي ( النصر ) وهدفه الأخرويّ ( الجنة ) ويجب كذلك أن يتقي الله في سره وعلنه ( وأستغفر الله من كل زلل فإنني أشعر بالخجل من نفسي والحياء من ربي حين أقول ما لا أفعل ،واسأل الله العفو والغفران ). فهذا رفاعة الجذامي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيش مع خير الخلق وضعفت نفسه فغلّ شملته التي يلتف بها من أرض المعركة ، ولم يشفع له جهاده في هذه الغزوة أن ينجو من العقاب فيقرر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لسرقته الكسوة هذه دخل النار والعياذ بالله . وينتبه أحد المسلمين لمقولة النبي وكان قد أخذ أنشوطتين لنعليه من فيء المسلمين دون أن تُقسم له فيحذره النبي صلى الله عليه وسلم بكل وضوح أنه سيلقى مثلهما في النار. " يُقدُّ لك مثلهما من النار " فيعيدهما لساعته . وقدّرْ ثمن الأنشوطتين اللتين غلّهما هذا المجاهد ، وتصوّرْ ما نتهاون فيه - معشر المسلمين - من أخذ ما ليس لنا بحق ، ووسِّعِ الدائرة بعد هذا لتشملَ كل السرقات التي يعيش فيها أفرادنا ومجتمعُنا في المؤسسات والشركات والمديريات والوزارات وو... ولا حول ولا قوة إلا بالله

2- فإذا انتقلنا إلى جِراب ابن مغفل نسقط ما قررناه في الإضاءة الأولى نجد القصة نفسها تختلف قليلاً ضمن الدائرة نفسها ، فابن مغفل يأخذ للجميع لا لنفسه كيس الشحم للأكل من جوع وحاجة ، وابن مغفل لا يغله بمعنى التفرّد به والاحتفاظ به لنفسه إنما هو حاجة آنيّة سريعة له وللمجموعة التي يقاتل معها ، ويصر على منعه صاحبُ المغانم ويأبى حاملُه الانصياعَ له ، ويتجاذبان ، ويرى القائد ويسمع، ويقدّرالموقف ، فيأمر الرجل أن يتركه مرجحاً موقف ابن مغفل بقوله " لا أبا لك ، خل بينه وبينه" ولو كانت هذه الحالة غَلاّ لما كان ما كان . ويعضد هذا الموقف عدم الاقتصاص من السارقين في عام المجاعة على عهد الفاروق رضي الله عنه . ونحن نحتاج إلى (فقه المقاصد) في فهم الحياة .

3- يُعرِّس رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب في طريقه إلى المدينة المنوّرة . ولعلنا نستفيد من زواجه منها أموراً دعوية كثيرة منها :

أ‌- إكرام الكريم ، فلا تكون السبية بنت رئيس القوم إلا عند رئيس القوم .
ب‌- أسلم بإكرامها عديد من قومها ، ونالوا حريتهم وحَسُنَ إسلامُهم ، والإسلام حريص على هذا.
ت‌- يجب أن تستمر الحياة كما ينبغي ، فلا يمنعنّ الجهاد والقتال من ممارسة الحياة والتمتع بمباهجها ، والدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة .
ث‌- من السنة أن يدخل الرجل على المرأة متزينة فلا يرى منها ما يسوءها وينفر منها .
ج‌- الحذر مطلوب على الرغم أن الله تعالى عصم نبيه صلى الله عليه وسلم ، فأبو أيوب خاف على النبي صلى الله عليه وسلم أن تغدر به صفية لأنه صلى الله عليه وسلم قتل أباها وزوجها ، ولعلها تثأر لهما منه كما اجتهد أبو أيوب رضي الله عنه وأرضاه.
ح‌- حب الصحابة رضي الله عنهم نبيّهم الكريم واضح في فعل أبي أيوب ، والحب يولّد الرغبة في الحفاظ على المحبوب والعمل على صونه وخدمته .
خ‌- الرسول صلى الله عليه وسلم يحفظ لصاحبه هذا الاهتمام ويبادله إكراماً ودعاء " اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني " تناغم رائع بين الرئيس والمرءوس.

4- السفر في الليل آمنُ للمسافر من العيون المترصدة وأفضل للجسم من السير في النهار تحت أشعة الشمس والتعرق والإجهاد ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل السفر في الليل أحياناً ، ويقول: " من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل "

5- الاهتمام بالصلاة على وقتها من الشمائل المطلوبة ، والمسلمون في سفرهم متعبون ، ولعلهم إن ناموا أن يأخذهم الإرهاق عن صلاة الفجر في وقتها ، ولا بد من منبه لهم فكان بلال رضي الله عنه من تبرّع أن يظلّ متيقظاً يحرس الفجر وينتظر وقته ليوقظ النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين . وبلال مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم ذو الصوت الشجي الذي أذن فوق الكعبة إيذاناً بتجلي هذا الأذانُ في ذلك المكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

6- ينام الناس ويقف بلال يصلي الليل ، فلا يضيعه في تفاهات الأمور كما يفعل بعضنا اليوم من لعب بالورق ومتابعة للمسلسلات الفاسدة والسهر في الغيبة والنميمة ، فإذا بالليل ينقلب نهاراً والنهار ينقلب ليلاً . فإذا ما تعب استند إلى بعيره فجاء النومُ يغلبه ، وهذا دليل ضعف الإنسان ، ويقدِّرُ الله أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أول من يستيقظ على أشعة الشمس ، وبلال نائم .

7- أقرأ قول الله تعالى في مدح الحبيب محمد " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " فأسمعُ تصديق هذا حين يقول لبلال بصوت لطيف ليس فيه تأنيب ولا لوم ، يسمعه قلبي على بعد مئات السنين الفائتة " ماذا صنعت بنا بابلال ؟ فيجيب بمنطق فيه عقل وقلب : يا رسول الله ، أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك ، فلا يعلق المصطف المعلم إلا بكلمة واحدة " صدقتَ " فما يقول بلال حق ، وينطلق إلى مكان قريب يجهز فيه نفسه للصلاة ويتبعه المسلمون يبدتئون يومهم بالصلاة ويختتمونه بها ، لا بالشعارات الجوفاء والكلمات الطنانة. وإذا بالدين يسر والحياة سهل والقاعدة الشرعية الحيوية تقول : " إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها ، فإن الله تبارك وتعالى يقول : " وأقم الصلاة لذكري "

8- للمرأة دور في الحياة سلماً وحرباً ،فهي شقيقة الرجل وقسيمه ، ونراهنّ يخرجن معه في غزوته هذه يداوين الجرحى ويُعِنّ المسلمين بما استطعن ، وينظر النبي إلى صغيرة منهنّ فيردفها خلفه على بعيره ، ولأنه الرحيم بالمرأة والصغير ومعلمُ الناس الخير شاء الله تعالى أن تحيض الفتاة فيصيب الدم حقيبة الرحل وتستحيي ، فإذا بالرحيم العطوف يعلمها كيف تتخلص من آثار الدم بالماء والملح وتنظف نفسها وتزيل آثارها وكأن شيئاً لم يكن . لم يعنّفها ولم يصرخ في وجهها . ثم ينضحها بعض العطاء فترضى ، ويعلق قلادة في عنقها لا تفارقها أبداً حتى في قبرها. ولإعجابها الشديد بأخلاق القائد العظيم تلتزم وصيته حتى آخر حياتها . أرأيت ما يفعل الخُلُق الحسنُ؟ " وإنك لعلى خلق عظيم " .

يتبع
 
قراءة في غزوة خيبر(6)/د.عثمان قدري مكانسي

قراءة في غزوة خيبر (6)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

إسلام الأسود الراعي واستشهاده

أتى الأسود الراعي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محاصر لبعض حصون خيبر ، ومعه غنم له ، كان فيها أجيرا لرجل من يهود ، فقال : يا رسول الله ، اعرض علي الإسلام ، فعرضه عليه ، فأسلم - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحقرُ أحدا أن يدعوه إلى الإسلام ، ويعرضه عليه - فلما أسلم قال : يا رسول الله ، إني كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم وهي أمانة عندي ، فكيف أصنع بها ؟ قال : اضرب في وجوهها ، فإنها سترجع إلى ربها - أو كما قال - فقال الأسود ، فأخذ حفنة من الحصى ، فرمى بها في وجوهها ، وقال : ارجعي إلى صاحبك ، فوالله لا أصحبك أبدا ، فخرجت مجتمعة ، كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن .
ثم تقدم إلى ذلك الحصن ليقاتل مع المسلمين ، فأصابه حجر فقتله ، وما صلى لله صلاة قط ؛ فأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فوضع خلفه ، وسجي بشملة كانت عليه . فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه نفر من أصحابه ، ثم أعرض عنه ، فقالوا : يا رسول الله ، لم أعرضت عنه ؟ قال : إن معه الآن زوجتيه من الحور العين . والشهيد إذا ما أصيب تدلت ( له ) زوجتاه من الحور العين عليه ، تنفضان التراب عن وجهه ، وتقولان : ترّب الله وجه من تربك ، وقتل من قتلك .

إضاءة:

1- قد يكون المرء البسيط أعقل من سيده وأقدر على الفهم ، لأنه يحمل قلباً سليماً وفكراً سديدا ، ولعل الغني المتبلد الإحساس تنطبق عليه الآية الكريمة " إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى " وقد يصيبه الغرور والكِبر فلا يستطيع تمييز الحق والباطل أو هو لا يريد ذلك ويود أن يبقى منغمساً في ملذاته وكبره إلى أن يرى ما لا يسره فيندم ، ولات حين مندم.

2- يسمع الأسود الراعي برسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل رسالة عالمية للإنسان فيقبل عليه يسأله عن هذه الرسالة ، فيقدمها له على طبق من نور ، ولا يتكبر أن يحدث راعياً فهو رسول الله لكل فئات البشر كبيرهم وصغيرهم ،غنيهم وفقيرهم ،ذكرهم وأنثاهم ،أبيضهم وأسودهم .وقد كان أغلب اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء المساكين ، وقد قال له المشركون : لا نقعد مع هؤلاء ، فاجعل لنا يوماً أو مجلساً واجعل لهم يوماً أو مجلساً . فنبهه القرآن الكريم إلى الإحسان إلى هؤلاء الفقراء : " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تَعْدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرُطاً " .

3- أداء الأمانة من صلب تعاليم الإسلام . فحين أسلم الراعي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، إني كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم وهي أمانة عندي ، فكيف أصنع بها ؟ كان جوابه صلى الله عليه وسلم تعليماً للراعي وتدريباً على حفظ الأمانة وعدم تضييعها . لقد كان أميناً وهو كافر ، فلْيكن أكثر تشبثاً بحفظ الأمانة وهو مسلم وأمَرَه أن يؤدي الأمانة إلى صاحبها

4- ولأنه أسلم ورغب أن يوصل الأمانة إلى صاحبها دون أن يلقاه - فيسأله السبب في ترك العمل عنده ، ولربما ناله السوء منه فقتله أو عذبه أو سجنه – باح بمكنون نفسه للنبي المعلم فكان جوابه إحدى المعجزات التي أجراها الله تعالى على يديه فقال له : اضرب في وجوهها ، فإنها سترجع إلى ربها . وقد آمن به الراعي وصدّقه في عقيدته ومجرى حياته أفلا يسمع لقوله ويعمل به؟ أخذ حفنة من حصى فضرب بها وجهها فانطلقت إلى صاحبها مجتمعة كأنها يسوقها سائق .

5- ونلحظ أن المسلم حين يرى نفسه في مجتمعه الأصيل وبين إخوانه لا يفضل أحداً عليهم ، فهو منهم وهم منه . إنه حين أسلم رأى نفسه في مرآة إخوته المسلمين فالتزمهم مجتمعاً وحياة وعملاً . كان في معسكر الشرك والكفر فانتمى لمعسكر الإيمان والتوحيد ، ورأى نفسه جندياً في جيش المسلمين يقاتل معهم تحت رايتهم ويأرز إليهم ،إنه معهم كالبنيان المرصوص يشد بعضُه بعضاً .

6- يتقدم الراعي بعد قليل إلى الحصن يقاتل اليهود . كان قبل زمن يسير منهم فصار في الإيمان ضدهم " إنما المؤمنون إخوة " . ينخرط في صفوف المجاهدين ويقاتل معهم عدوّهم ، وتكتب له الشهادة ، فيُقتل ولم يصلِّ لله ركعة واحدة . ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى" وينال الجنة سريعاً وتستقبله زوجتاه من الحور العين تسرّيان عنه وتحتفيان به.

7- من الحياء أن يغض المرء طرفه عما ليس له . ففي المعراج يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة لعساء تعجبه ، فيقول : لمن هذه ؟ فيُقال : إنها لعمر بن الخطاب فيبعد نظره عنها ، متمثلاً بقوله تعالى: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون" وهنا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينظر إلى هذا المسلم الجديد بإسلامه والسريع بشهادته. ثم يعرض عنه لأن معه زوجتيه من الحور العين تنفضان التراب عنه وتدعوان على قاتله. وتملّ قوله صلى الله عليه وسلم " تدلّت له زوجتاه من الحور العين " والتدلي سرعة الحضور والرغبة فيه تحملان الشوق والحب لزوجهما الذي انتظرتاه بفارغ الصبر .

8- ومن المواقف التي تسترعي الانتباه وتستدعي الإعجاب سرعة بديهة أصحاب رسول الله الذين يتابعون كل صغيرة وكبيرة وشاردة وواردة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن كل ما يبدر منه أو يفعله ، فقالوا : يا رسول الله ، لم أعرضت عنه؟ أأعرضْتَ رغبة عنه ؟ فيا ويله إذاً ! أم هناك أمر يراه الرسول صلى الله عليه وسلم وهم لا يرونه ويودّون أن يعرفوه ليفيدوا منه ، ولينقلوه لمن بعدهم من الأمم . وبهذه المتابعة اللماحة لنبيهم ، وبهذا الاهتمام البالغ بما يفعله استحقوا أن يكونوا سادة الأمم ، ففتحوا الفتوح ، وسادوا العالم وكانوا المشعل الوقّاد على مرّ الدهور وكرّ العصور.

يتبع​
 
رد: قراءة في غزوة خيبر/د.عثمان قدري مكانسي

خيبر تلك المحافظة التي ولدت فيها أنا ووالدي وترعرعنا فيها

لها ذكريات جميلة
 
قراءة في غزوة خيبر(7)/د.عثمان قدري مكانسي

قراءة في غزوة خيبر(7)/القسم الأخير

الدكتور عثمان قدري مكانسي

حيلة الحجاج بن علاط السلمي في جمع ماله من مكة

لما فتحت خيبر ، كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحجاج بن علاط السلمي ، فقال : يا رسول الله ، إن لي بمكة مالا عند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة - وكانت عنده وله منها ولد، ومال متفرق في تجار أهل مكة ، فأذنْ لي يا رسول الله ؛ فأذن له ، قال : إنه لا بد لي يا رسول الله من أن أقولَ ؛ قال : قلْ .
قال الحجاج : فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء رجالا من قريش يتسمعون الأخبار ، ويسألون عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد بلغهم أنه قد سار إلى خيبر ، وقد عرفوا أنها قرية الحجاز ريفا ومنعة ورجالا ، فهم يتحسسون الأخبار ، ويسألون الركبان ، فلما رأوني قالوا : الحجاج بن علاط - ولم يكونوا علموا بإسلامي- عنده والله الخبر ، أخبرنا يا أبا محمد . فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر ، وهي بلد يهود وريف الحجاز .
قال الحجاجُ : قد بلغني ذلك وعندي من الخبر ما يسركم ، قال : فالتبطوا( حَفـُّوا والتصقوا )بجنبَيْ ناقتي يقولون : إيه يا حجاج ؛ قال : قلت : هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط ، وقتل أصحابه قتلا لم تسمعوا بمثله قط ، وأسر محمد أسرا ، وقالوا : لا نقتله حتى نبعث به إلى أهل مكة ، فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم .
فقاموا وصاحوا بمكة ، وقالوا : قد جاءكم الخبر ، وهذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم ، فيقتل بين أظهركم . قال لهم الحجاجُ : أعينوني على جمع مالي بمكة وعلى غرمائي ، فإني أريد أن أقدم خيبر ، فأصيب من فيء محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك .

العباس يستوثق من خبر الحجاج ويفاجئ قريشا

قال الحجاج : فقاموا فجمعوا لي مالي كأحث جمع سمعت به : وجئت صاحبتي فقلت : مالي ، وقد كان لي عندها مال موضوع ، لعلي ألحق بخيبر ، فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقني التجار ؛ فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر ، وجاءه عني ، أقبل حتى وقف إلى جنبي وأنا في خيمة من خيام التجار ، فقال : يا حجاج ، ما هذا الخبر الذي جئت به ؟ فقلت : وهل عندك حفظ لما وضعت عندك ؟ قال : نعم ؛ قلت : فاستأخر عني حتى ألقاك على خلاء ، فإني في جمع مالي كما ترى ، فانصرفْ عني حتى أفرغ .
قال الحجاجُ: حتى إذا فرغت من جمع كل شيء كان لي بمكة ، وأجمعت الخروج ، لقيت العباس ، فقلت : احفظ عليّ حديثي يا أبا الفضل ، فإني أخشى الطلب ثلاثا ، ثم قل ما شئت ، قال : أفعل ؟ قلت : فإني والله لقد تركت ابن أخيك عروسا على بنت ملكهم ، يعني صفية بنت حيي ، ولقد افتتح خيبر ، وانتثل ما فيها ( حاز كنوزها)، وصارت له ولأصحابه ؛ فقال : ما تقول يا حجاج ؟ قلت : إي والله ، فاكتم عني ، ولقد أسلمت وما جئت إلا لآخذ مالي ، فرَقا من أن أغلب عليه ، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك ، فهو والله على ما تحب ،
فلما كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له ، وتخلق ( تعطّر)، وأخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى الكعبة ، فطاف بها ، فلما رأوه قالوا : يا أبا الفضل ، هذا والله التجلد لحَرِّ المصيبة ؛ قال : كلا ، والله الذي حلفتم به ، لقد افتتح محمد خيبر وترك عروسا على بنت ملكهم ، وأحرز أموالهم وما فيها فأصبحتْ له ولأصحابه ؛ قالوا : من جاءك بهذا الخبر ؟ قال : الذي جاءكم بما جاءكم به ، ولقد دخل عليكم مسلما ، فأخذ ماله ، فانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه ، فيكونَ معه ؛ قالوا : يا لعباد الله انفلت عدو الله ، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن ؛ قال : ولم ينشبوا( يلبثوا) أن جاءهم الخبر بذلك .

إضاءة:

1-لصاحب الحق حين يجد حقه صعبَ المنال – وخاصة في حالة الحرب والعداوة – أن يظهر غير الحقيقة فيما يرضي الشانئين – حتى حين - فيسهلَ الوصول إلى حقه ، وهذا ما فعله الحجاج بن علاط حين أسلم ولم يكن أحد يعلم بإسلامه ، ولو عاد مشهراً دينه الجديد لضاع حقه عند أهل مكة ، وقد يقتلونه إذا علموا بإسلامه ، والحرب خدعة .

2-وقد يخفي أمره عن أقرب الناس إليه إذا خشي افتضاحه ، فنرى الحجاج يخفي أمر إسلامه على زوجته كي لا تفسد خطته وتشي به عند متنفذي مكة . ولمّا تزلْ على كفرها ، وهي لصيقة بأهلها وترى الأمرَ أمرَهم والرأيَ رأيَهم.

3-ولا بد من استئذان القائد فيما ينتويه الرجل حين يتطلب الأمر أن يقول ما لا يعتقد بحق الآخرين وخاصة إذا تعلق الأمر بلبّ العقيدة ,فلا يجوز لمسلم أن ينال من الإسلام ورسوله إلا إذا اضطر ،وإلاّ باءَ بسوء عمله ،وكان من أهل النار ، وما يُسلم المرء إلا رغبة ورهبة ، رغبة في الحق ورضوان الله ، ورهبة من الكفر والعقوبة الأبدية ،ونعلم أن المشركين ما تركوا عذابَ عمار بن ياسر إلا حين نال مضطراً من الدين ورسوله وقال في الذات الإلهية ما قال ، وجاء إلى رسول الله يبكي ويعتذر ، فطيّب النبي صلى الله عليه وسلم خاطره وقال له " وإن عادوا فعد مادام الأمر لم يتعدّ اللسان ، وقرأ عليه الآية من سورة النحل " إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان " .

4-ولا ننسى ما فعله نُعَيم بن مسعود الغطفاني في غزوة الخندق عام خمسة للهجرة حين حين جاء رسولَ الله مسلماً وسأله أن يقبله في جيش المسلمين فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفرّق أمر الأعداء ، ولم يكونوا يعلمون بإسلامه. فكانت سفارته بين مشركي مكة ويهود قريظة عامل تثبيط إدّى إلى زرع الشك بين الفريقين ،ثم إلى انفراط عقدهم .

5-بدأ الحجاج خطته حين رأى المشركين خارج مكة يتلمّسون أخبار المسلمين وينتظرون خبراً يناسب رغباتهم ، ويدغدغ أهواءهم ، فقد كفوه مؤونة سب رمز المسلمين وسيدهم حين وصفوه صلى الله عليه وسلم بـ( القاطع) ، وهو الواصل لكل خير والآمرُ به صلى الله عليه وسلم ، ويظنون أن اليهود أقوياء لاجتماعهم وتحصنهم وغناهم ، ويتوهمون أنهم سينالون من المسلمين ونبيهم ، وأن نهاية المسلمين سوف تكون على أيديهم – وهي أمنية كل ضعيف جبان لا يمكنه فعل شيء فيرجو أن ينال ما يتمناه على أيدي الآخرين، فيسبغون عليهم ما يؤهلهم للفوز ( وهي بلد يهود وريف الحجاز) – بلد الغنى والقوة والمنَعة - وأنّ من يقع بين أيديهم يلقى سوء العاقبة ! ويتناسى الواهن ذو الفكر الضعيف أن خير وسيلة للدفاع الهجومُ وأن من يهاجم يُعِدُّ العدة لسفر وغربة طويلين ، وأنه لعوامل عدة أهمها الإيمان بالله والاعتماد عليه وإعداد العدة والصبر والثبات سيقطف النصر ويحظى بالعزة والفوز.

6-يغتنم الحجاج الحالة النفسية للسامع ويضرب على وتره الحساس ، فهؤلاء وطنوا أنفسهم أن يسمعوا النبأ الذي يسرهم – وهو نصر اليهود على المسلمين – فيمد لهم من الوهم حبالَ الطمأنينة ويعلن أن لديه الخبر اليقين الذي يريدونه ، فيجتمعون عليه متوثبين ويميلون عليه مندفعين . ويحدثهم بما يودّون سماعه ويقص عليهم ما يرغبون من خبر لا يمت إلى الحقيقة بصلة ، ولا بأس أن يُفصّل لهم ما يتمنونه فيجعلهم يبنون قصور الأحلام على كثبان الرمال ( هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط ، وقتل أصحابه قتلا لم تسمعوا بمثله قط ، وأسر محمد أسرا ، وقالوا : لا نقتله حتى نبعث به إلى أهل مكة ، فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجاله .) فالهزيمة عصيّة على التصوير ، وقد قرر أهل خيبر أن يشركوا أهل مكة بنصرهم وسيرسلون الاسرى الكثيرين - وعلى رأسهم رسول الله - إلى مكة ليروا هؤلاء رأيهم فيه . هذا ما قاله الحجاج وهو يعلم أنه لا يرغبون أن يسمعوا غير ذلك.

7-هذه الحالة من الوهم التي بسطها الحجاج فيهم أهّلتـْه أن يطالب بماله ، فيسرعوا إلى تلبية ما طلب على جناح السرعة مأخوذين بفرحة النصر التي دفعت عنهم الحذر في استقبال الحديث والتوثّق منه ، أسرعوا إلى إكرامه في جمع ماله من غرمائه الذين كانوا يماطلون في أدائه وأعانوه على ذلك ، ودفعتْ زوجته إلى إعطائه مالَه منتشية بما سمعته منه وراغبة في ربح كبير يعود عليها وعلى ولدها : إن فيءً محمد كبيرٌ ويستحق الحجاج أن يربح ويغنى، فقد أثلج الصدور وأراح القلوب .

8-لا بد للعاقل الحصيف أن يستوثق الخبر ، ولا بد للمكلوم أن يتعرف حقيقته ، فالعباس عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يخرج الظفر من اللحم ، ولئنْ كان العباس في مكة إنّ قلبه هناك عند ابن أخيه ، وهذا الخبر يقتلع القلوب من الصدور ، فلا بد من استجلاء الأمر ، أين يجد الحجاج؟ إنه يجمع ماله ويسعى للانطلاق به إلى خيبر ، وقبل الإعلان عن الرضا بالواقع الأليم ينبغي الوقوف عليه .

9-إن سؤاله على رؤوس الأشهاد لن يقدم ولن يؤخر، فالجواب لن يكون غير ما أعلنه أمام الناس جميعاً أكان صحيحاً أم كان كاذباً . فليكن السؤال بينه وبينه. فإن كان كما سمعه فلكلّ حيٍّ نهاية ،وسوف يرضى العباس بقضاء الله وقدره، وإن كان غير ذلك فسوف يخبره الحجاج به .

10-وكان الحجاج بن علاط حكيماً ذكياً إنه لن يكلم العباس عم النبي أمام التجار ، فلربما ساورتهم الشكوك وتساءلوا، وضاع ما خطط له ، ولربما جاءوا يستمعون فاضطر إلى الكذب ، وهو لا يريد ذلك ولا ينوي أن يكسر قلب عم الحبيب صلى الله عليه وسلم ، بل يود أن يلتقيه ليخبره الحقيقة . فكان أن اتفقا على اللقاء بعيداً عن أعين الرقباء بعد أن استوثق الحجاج أن العباس لن يفشي سره إن أخبره بغير ما قال للناس. وكان الحديث بينهما في الخيمة أمام التجارعابراً لا يأبه له أحد.

11-وفي اللقاء أسرّ الحجاج إلى العباس عمّ النبي صلى الله عليه وسلم بما يسر القلب ويفرح الفؤاد وزادَ أنْ أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم حاز كنوز خيبر ، وتزوج بنت ملكهم صفية رضي الله عنها ، وأنه عائد إلى المدينة المنورة منتصراً معافى .. إنه النبأ الذي كان العباس ينتظره ويرجوه . وأراد الحجاج أن يُطَمئِن العباس أكثر فأخبره أنه أسلم وأنه استأذن النبي في أن يقول ما قال .

12-حِفظُ السر سمة العقلاء وأصحابِ المروءة والشهامة ، وسيدنا العباس رضي الله عنه على رأس هؤلاء الكرام ، فلما اطمأنّ إلى سلامة رسول الله وانفرجت أساريره حفظ السر في نفسه ولم يبده لأحد من الناس ولا لأهل بيته – فقد تظهر عليهم فرحة أو تصرفات تسيء للعهد بينهما فتؤذي الحجاج - ثلاثة الأيام التي طلبها الحجاج حتى بَعُد عن مكة وأمن على نفسه وماله .

13-قد يريد المرء أن يظهر الحقيقة دون أن يبدأ بها فيتصرف بغير ما يُتوقّع منه فيستغرب الآخرون تصرفه هذا ويسألونه ، فيوصل إليهم ما يريد . إن عمر رضي الله عنه حين أسلم قال : مَن أنقلُ قريشٍ للحديث؟ قيل له: جميلُ بن معمرالجُمَحيّ . فغدا عليه فقال : أعلمتَ يا جميل أنني أسلمت ودخلت في دين محمد؟ فقام هذا الرجل يجر رداءه ويصيح في نوادي قريش : إن عمر قد صبأ . ومشى عمر وراءه يرد : كذبَ ؛ ولكني قد أسلمت وشهدت أن لاإله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. ..فماذا فعل العباس ؟! لبس أجمل حلة له ، وتعطر وأخذ عصاه وانطلق إلى الكعبة فطاف بها . فلما رأه الناس يفعل هذا أكبروه قائلين : إن أبا الفضل صبور يتحمل المصائب التي نزلت به وابن أخيه . فأخبرهم إذ ذاك أن رسول الله فتح خيبر وحاز أموال يهود وتزوج صفية رضي الله عنها ،فلما سألوه : من أنبأك هذا؟ أخبرهم : إنه الحجاجُ الذي أسلم وجمعوا له ماله وانصرف عنهم آمناً . فندموا أشد الندم لتلاعبه بهم واستخفافه بعقولهم إذ جعلهم يسرعون لخدمته حتى ابتعد عنهم آمناً ..

انتهى الموضوع​
 
عودة
أعلى