إن التطور الذي تشهده العلاقات التركية- الإسرائيلية لم يكن نتاجاً مفاجئاً بل استند إلى محطات تاريخية عديدة، في مرحلة ما قبل التسعينات، أسهمت بمجموعها في تحقيق انتقالة نوعية في العلاقات توجت بالاتفاق الأمني- العسكري في 23 شباط 1996 والاتفاقات اللاحقة بهذا الشأن، والتي شكلت بمجملها منعطفاً خطيراً بالنسبة للعلاقات التركية- العربية، حيث أظهر إلى العلن ما كانت المؤسسة العسكرية الحاكمة في تركيا تحاول إخفاؤه منذ توقيع الحلف العسكري السري بين تركيا وإسرائيل في شهر آب 1958 على أثر قيام الوحدة السورية المصرية (1958- 1961) وثورة العراق في تموز 1958. وبموجب هذا التدرج المتصاعد للعلاقات التركية- الإسرائيلية نجد أنها قد تمركزت على تجاوز التكتيك الإقليمي إلى الاستراتيجية الشاملة، المعبرة عما تتشارك في استراتيجية الطرفين من منطلقات واعتبارات، فتركيا وإسرائيل معنيتان داخلياً وإقليمياً ودولياً بالشؤون والمعطيات القائمة والمستقبلية، كونهما تنتميان إلى إقليم جغرافي يتمتع بأقصى درجات الأهمية الجيو- ستراتيجية، وفيه تتفاعل وتتناقص وتتصارع السياسات، وتتعدد الغايات. وإن حرص تركيا على تطوير علاقاتها مع إسرائيل الذي وصل إلى صيغة التحالف الستراتيجي لا ينحصر بوجود مصالح آنية تربط بينهما فحسب، بل لأن تركيا لا تريد للعرب أن يقووا ويتحدوا، ولإسرائيل أن تضعف لأن قوة العرب ووحدتهم تهدد مسعى أي طرف دولي أو إقليمي يهدف إلى الهيمنة والتوسع الإقليمي، ولا سيما تركيا وإسرائيل حيث تعمل تركيا على توظيف مزاياها الجيو- ستراتيجية والبشرية والبيئية والاقتصادية لأداء دور إقليمي أكثر فاعلية، فضلاً عما تراه تركيا من أنها تتشابه في كثير من السمات مع إسرائيل من حيث علاقاتهما المتوترة مع دول الجوار العربي، وبخاصة العراق وسوريا، وتوجه الجانبين نحو التحالف مع الغرب فيما تعمد إسرائيل إلى إقامة نظام أمني في المنطقة يقوم على أساس تفوقها الشامل سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وتقنياً في ظل الدعم الأمريكي المطلق، والحليف التركي الجديد، للضغط على الدول العربية، وإجبارها على الانصياع لمنطقها بما يكفل تحقيق التسوية السياسية للصراع العربي- الإسرائيلي وفق شروط إسرائيل ومصالحها الإستراتيجية المهددة لمصالح العرب الحيوية حاضراً ومستقبلاً وهذا ما عبرت عنه صحيفة "ها آرتس" الإسرائيلية بقولها "إن الذي يحدث هو ببساطة إعادة انتشار استراتجية مهمة في الشرق الأوسط- آسيا" (1) ويندرج في إطار استراتيجية إسرائيل التقليدية الرامية إلى بناء علاقات متطورة مع دول متاخمة لأعدائها المجاورين (2).
لقد اشتمل التعاون التركي- الإسرائيلي عل مضامين وأبعاد عديدة يمكن إدراج تفاصيل أهمها، وفق التقسيم الآتي:
ميادين التعاون التركي- الإسرائيلي
أولاً/ الميدان الأمني- العسكري:
يعود تأريخ التعاون الأمني بين تركيا وإسرائيل إلى عام 1958 عندما تم الاتفاق على تعاون شامل ما بين المخابرات الإسرائيلية (الموساد) والمخابرات التركية والذي تطور إلى اتفاق رسمي ثلاثي باسم (ترايدنت) أي (الرمح ذي الثلاث شعب) بعد أن انضمت إليهما المخبرات الإيرانية (السافاك). وقد سمح ذلك الاتفاق للموساد بجمع المعلومات الاستخبارية وتتبع حركات ونشاطات السوفيت في تركيا ودول الجوار الجغرافي، وتدريب العملاء السريين الأتراك على أساليب وفنون التجسس المضاد، وكيفية استخدام الأجهزة الإلكترونية مقابل قيام تركيا بتزويد إسرائيل بالمعلومات حول النوايا العربية تجاه إسرائيل (3).
وبدأ خبراء إسرائيليون وأتراك منذ أواخر السبعينيات تبادلاً غير معلن للمعلومات حول أهدافهما المشتركة ضد ما يسمى بـ (الإرهاب) ولا سيما حول عمليات التدريب التي كانت تجري في لبنان والتي تربط بين منظمة التحرير الفلسطينية والأرمن والأكراد والمنظمات التركية المناهضة للسلطة المركزية التركية (4).
وفي الجانب العسكري وقع الجانبان على برنامج تعاون سري بينهما حول تطوير الطائرات التركية من نوع (F.4) بكلفة (400) مليون دولار عام 1986 (5) وكذلك ما نشر عن علاقات مستشار الرئيس التركي (الأسبق) توركوت أوزال وصهره "محمد بابيخامان" مع إسرائيل وقيامه بزيارات سرية عدة لتل أبيب وعقده صفقة شراء قطع غيار أجهزة إلكترونية إسرائيلية لطائرات (F.16) التركية (6).
وجاء التعاون التركي الإسرائيلي ذو الطابع الأمني- العسكري في اتفاقية شباط/ فبراير 1996 والاتفاقيات اللاحقة التي دخلت حيز التنفيذ في نيسان/ أبريل من العام نفسه لتشكل نقلة نوعية متطورة في علاقات الجانبين.
ويشكل الدعم التقني العسكري والاستخباري الإسرائيلي لتركيا أهمية بالغة لأن تصبح الأخيرة قوة عسكرية إقليمية فاعلة في المنطقة تخدم المصالح الإسرائيلية الإستراتيجية في الإبقاء على الخلل في التوازن الاستراتيجي القائم بين العرب وإسرائيل لصالح الأخيرة، إذ أكد الخبير الإسرائيلي (يحزقال) أحد مخططي السياسة الإسرائيلية في كتابه "ستراتيجية عظمى لإسرائيل" أن التحالف بين تركيا وإسرائيل يمثل ضمانة أكيدة لمنع بروز أي قوة عربية مناهضة لمصالح إسرائيل في المستقبل، وتتجسم هذه الأهداف في الوقت نفسه مع رغبات تركيا في مجال تحولها إلى قوة إقليمية مؤثرة في
المنطقة (7)، في حين يقول الباحث التركي "أرسين كلايجوغلو" أن تركيا التي أقامت تعاوناً عسكرياً وأمنياً مع إسرائيل قد تخلت عن أحد ثوابت سياستها الخارجية التي وضعت منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 والذي كان ينص على الحفاظ على التوازن الحصين الذي حاولت تركيا أن تتبعه تجاه العرب وإسرائيل مؤكداً على أن كفة هذا التوازن مالت نحو إسرائيل. وأن تركيا في المستقبل ستتبع سياسة دفاعية وأمنية وثيقة التنسيق مع إسرائيل لغرض مجابهة ما سماه "التهديد المشترك" و الإرهاب" الذي تدعمه كما قال كل من إيران وسوريا والعراق (8).
وفي هذا السياق تم تشكيل "المنتدى الأمني للحوار الإستراتيجي" بين تركيا وإسرائيل الذي يدعو إلى إقامة آلية مشتركة لرصد الأخطار التي تهددهما وتحديد سبل مواجهتها ويتضمن ذلك تبادل المعلومات الأمنية والإستراتيجية التي تحصل عليها الأجهزة الأمنية التركية والإسرائيلية في القضايا الإقليمية (9) ويمتد نشاط هذا الحوار إلى إقامة أجهزة رصد وتنصت إلكترونية على حدود تركيا مع كل من سوريا والعراق وإيران (10). ورافق ذلك تبادل الزيارات بين كبار المسؤولين العسكريين والسياسيين بين الطرفين بشكل مكثف منذ اتفاقية شباط 1996 والتي تمخضت عن توقيع العديد من الاتفاقيات بخصوص تطوير التعاون في مجالات التدريب وتبادل المعلومات وإجراء المناورات العسكرية المشتركة والتصنيع الحربي المشترك وتحديث إسرائيل للطائرات والدبابات والمعدات العسكرية التركية المختلفة... ومن ذلك موافقة الحكومة التركية (السابقة) برئاسة نجم الدين أربكان على إبرام اتفاق مع إسرائيل في كانون الأول 1996 تبلغ قيمته نحو (632) مليون دولار يقضي بتطوير وتحديث الأجهزة الإلكترونية وأنظمة الملاحة والرادار لـ (65) طائرة حربية تركية من قبل شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية (11).
لقد أصبحت تركيا في السنوات الأخيرة سوقاً مهماً للسلاح الإسرائيلي وقطع الغيار وبعض الخدمات العسكرية الأخرى (12) ويقع ذلك ضمن خطة جديدة لتحديث الجيش التركي بكلفة إجمالية تبلغ نحو (67) مليار دولار خلال السنوات السبع القادمة والتي تعد المرحلة الأولى ضمن خطة استراتيجية طويلة الأمد أعلنتها القيادة العسكرية التركية تمتد للعقود الثلاث القادمة تبلغ كلفتها نحو
(150) مليار دولار (13)، وتأمل إسرائيل أن تكون لها حصة الأسد في هذه الخطة (14).
وفي هذا السياق فقد تعاقد الجيش التركي مع شركات إسرائيلية في حقل الإلكترونات لتزويد الجيش التركي بأنظمة الإنذار المبكر والاتصالات المتطورة (15) فضلاً عن العديد من الاتفاقيات العسكرية التي تتضمن تطوير التعاون العسكري بين الجانبين بكافة أشكاله وأنواعه وتزويد إسرائيل لتركيا بمعدات عسكرية متطورة وقيامها بتقديم بعض أنماط التقنية المتقدمة والمهندسين الفنيين إلى تركيا وتزويدها بمعلومات حساسة عن الأسلحة ومنظومات الدفاع الجوي السورية (16).
وبخصوص التعاون الأمني بين تركيا وإسرائيل أبرم الطرفان في أنقرة في نيسان 1997 اتفاق "تقدير المخاطر" الذي ينص على أن يتم التقدير المشترك للمخاطر كل ثلاثة أشهر على مستوى الفنيين وكل ستة أشهر على مستوى وزراء الدفاع ورؤساء الأركان (17)، كما تم عقد اتفاقية أمنية بين كل من تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية نصت على تعاون أجهزة المخابرات في الدول الثلاث لمواجهة ما أسموه "التطرف الديني" والتواؤم مع السياسة الأمريكية في المنطقة (18) إذ تعاني كل من تركيا وإسرائيل من مشكلات أمنية في أكثر من اتجاه، ففي تركيا هناك أولاً الحرب المستمرة بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني pkk منذ عام 1984 الذي لم يقتصر ميدانه على المنطقة الكردية في جنوب شرق تركيا بل امتد إلى كبريات المدن التركية ولا سيما اسطنبول. وهناك العنف المرتبط بعدد كبير من المنظمات (اليسارية) التركية ولا سيما منظمة "اليسار الثوري" DEV-SOL " التي قامت بمعظم العمليات ضد أهداف أمريكية وغربية أبان العدوان الثلاثيني على العراق في علم 1991 فضلاً عن تصاعد نشاط عمليات عدة منظمات إسلامية متشددة ولا سيما "الحركة الإسلامية 1H10" التي قامت باغتيال عناصر بارزة من المثقفين العلمانيين الأتراك. فيما تواجه إسرائيل عمليات منظمات إسلامية فلسطينية ولا سيما منظمتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" فضلاً عن "حزب الله" اللبناني وعملياته المستمرة شبه اليومية في المنطقة التي تحتلها إسرائيل في جنوب لبنان.
وتأمل تركيا أن تستفيد من الدعم والخبرة الإسرائيلية في مواجهة هذه الحركات والمنظمات داخل أراضيها مع التأكيد على تماثل التحدي الذي يواجه كل من تركيا وإسرائيل في هذا المجال والذي أسفر عن الدور الكبير الذي لعبته (الموساد) الإسرائيلية في إلقاء القبض على زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في نيروبي في 15 شباط 1999 ونقله إلى تركيا.
وفي تقرير نشره معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط في تموز/ يوليو 1997 ورد أنه على الرغم من سرية محتويات الاتفاقية الدفاعية بين تركيا وإسرائيل إلا من بين ما تتضمنه برتولاتها التعاون في مجال مكافحة الإرهاب وأمن الحدود والمخابرات وأن الإسرائيليين والأتراك يتبادلون المعلومات في مجال المخابرات منذ سنوات وأن إسرائيل ساعدت تركيا في تأمين حدودها ضد عمليات حزب PKK الذي ترى تركيا أن لـه قواعد داخل كل من سوريا والعراق وإيران (19) ومنها قيام إسرائيل بتركيب رادارات ليلية على طائرات (كوبرا) العمودية التي يستخدمها الجيش التركي ضد عناصر حزب PKK (20).
ولم تكن إسرائيل بعيدة عن الفكرة التي طرحتها أنقرة لإقامة "حزام" أو "منطقة أمنية" Security Zone في شمال العراق كجزء من ترتيبات متفق عليها مسبقاً مع الإدارة الأمريكية للابقاء على الوضع مضطرباً في هذه المنطقة فقد ترددت معلومات في تشرين الأول 1997 عن "إقامة إسرائيل أجهزة تنصت إلكترونية في تركيا لرصد أي تحركات عسكرية في سوريا وإيران وجمع
المعومات عنها مقابل مساعدة إسرائيل لتركيا في تجهيز المنطقة الأمنية المعلن عنها مؤخراً في شمال العراق (21).
كما نصت إحدى الاتفاقيات المعقودة بين الجانبين على السماح والدعم التركي لعناصر (الموساد) الإسرائيلي للقيام بعمليات تجسسية على كل من سوريا والعراق وإيران وانطلاقاً من الأراضي
التركية (22).
ثانياً/ الميدان الاقتصادي والتجاري:
نشأت العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل وتركيا منذ قيام العلاقات الدبلوماسية بينهما على أثر
اعتراف تركيا بإسرائيل عام 1949 لكن هذه العلاقات كانت في تصاعد أو انحسار تبعاً للظروف الإقليمية والدولية.
وقد انعكست التطورات السياسية في علاقات الطرفين أواخر الثمانينات على ارتفاع حجم التبادل التجاري بينهما للعامين 1987-1988 بنسبة 47% أي أنها ازدادت من (61.367) مليون دولار عام 1987 إلى (90.635) مليون دولار عام 1988 كما ازداد عدد الشركات الإسرائيلية الخاصة العاملة في تركيا من أربع شركات عام 1984 إلى تسع شركات عام 1988 استثمرت مبلغاً قدره (1.124) مليار ليرة تركية منها (658) مليون بالعملات الأجنبية (23).
وفي التسعينيات قطع الجانبان شوطاً كبيراً في اتجاه تمتين علاقاتهما الاقتصادية والتجارية وقيام مشاريع مشتركة بينهما في مجالات الإنشاء والمقاولات المتعددة الأغراض وأعتبر (ميكاهاريش) وزير التجارة والصناعة الإسرائيلي (الأسبق) تركيا سوقاً رائجة للمبيعات الإسرائيلية (24). وبلغ التعاون مداه في فترة تولي تانسو تشيلر لرئاسة الحكومة التركية حيث اصطحبت معها وفداً تركيا كبيراً بلغ عدد أعضاؤه نحو (230) شخصاً خلال زيارتها لإسرائيل في كانون الثاني 1993 ضم وزراء الخارجية والزراعة والطاقة والصناعة والصحة ونحو خمسين شخصية اقتصادية وتجارية ونحو عشرين مواطناً تركيا من أصل يهودي يمثلون جاليتهم في تركيا (25) تم فيها إقرار العديد من الاتفاقيات التجارية الثقافية مما أدى إلى تضاعف حجم التبادل التجاري بينهما ليصل إلى نحو نصف مليار دولار في عام 1996 (26).
وتأمل تركيا من خلال تطوير علاقتها الاقتصادية والتجارية مع إسرائيل إلى تفادي تفاقم المشكلة الاقتصادية التي تعصف بتركيا بسبب تواصل العمليات العسكرية التركية ضد عناصر حزب العمال الكردستاني PKK الذي يكلف تركيا ما بين (7-8) مليار دولار (27) فضلاً عن استمرار الحصار المفروض على العراق من قبل مجلس الأمن الدولي الذي خسرت جراءه تركيا نحو (30) مليار دولار (28) وتزايد الدين الخارجي لتركيا من (49) مليار دولار عام 1991) إلى نحو (93) مليار دولار عام 1996 (29)، وقد انعكس ذلك على ارتفاع العجز في الموازنة التركية إلى نحو (129) ترليون (كل 67 ألف ليرة تركية= دولار واحد بأسعار 1997) وإلى زيادة التضخم بنسبة (120%) وتفاقم أزمة البطالة وانخفاض معدل دخل الفرد من (3004) دولار سنوياً إلى (2193) دولار سنوياً (30).
وقد أدى ذلك إلى عرقلة جهود تركيا الرامية إلى تطوير علاقاتها مع الاتحاد الأوربي ولا سيما في ظل اتفاق الاتحاد المبرم بين الجانبين في كانون الأول 1995 (31).
ولهذا وجدت تركيا في علاقاتها مع إسرائيل مدخلاً اقتصادياً قد يساعدها على حل أزمتها الاقتصادية وبلوغ هدفها في دخول الاتحاد الأوربي حيث ترى أن أدائها الاقتصادي قد يتحسن جرّاء تعاونها مع إسرائيل في مجال السياحة وبيع المياه لإسرائيل وإنشاء منطقة التبادل الحر (32).
وفي هذا الصدد أعلن المتحدث باسم السفارة (الإسرائيلية) في أنقرة (إتيان نايه) بأن تركيا كغيرها من البلدان بحاجة إلى استثمار رأسمال أجنبي وأن إسرائيل مستعدة لذلك (33) وتم تحقيق خطة اقتصادية مهمة بين الجانبين في هذا الاتجاه بتأسيس "مجلس العمل التركي- الإسرائيلي" (34).
وبسبب كون علاقات كل من تركيا وإسرائيل التجارية تنسجم وتتكامل مع الغرب ولا سيما تركيا، إذ يستحوذ الاتحاد الأوربي على نحو (43.8%) من صادرات تركيا وعلى نحو (52%) من
وارادتها (35).
فإنهما (تركيا وإسرائيل) وقعاً في مارس/ آذار 1996 على اتفاقية للتجارة الحرة وأخرى لتجنب الازدواج الضريبي وثالثة لتشجيع الاستثمارات المشتركة التي تضمنت تخفيض الرسوم الكمركية من (40) إلى (10%) في بدايات سريان مفعولها ثم إلى (4%) مما يؤدي تلقائياً إلى رفع حجم التبادل التجاري إلى معدلات كبيرة قد تصل إلى نحو ملياري دولار عام 2000 (36).
وهذا الشكل الاقتصادي الجديد يعده الأتراك نواة لسوق حرة مشتركة شرق أوسطية تقف في وجه السوق العربية المشتركة الرافضة لمشروع الشرق أوسطية. كما وقع الطرفان في نيسان 1997 اتفاق النقل البري على أن يجري تنفيذه في حالة تطبيع العلاقات العربية الصهيونية نظراً لوقوع سوريا بينهما. ويتيح التعاون لتركيا فرصة زيادة تجارتها مع الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأمريكا الوسطى عبر إسرائيل التي تربطها بها علاقات تجارية تفضيلية كما يتوقع أن تسعى شركات المنسوجات والملابس الجاهزة الإسرائيلية من هذا الاتفاق في إقامة مشروعات مشتركة مع تركيا لتجنب ارتفاع تكلفة العمل بما يضمن لإسرائيل الحصول على حصتها المقدرة بمليار دولار سنوياً من هذه المنتجات في السوق الأمريكية (37).
وتنشط الشركات الإسرائيلية في استثماراتها الاقتصادية داخل تركيا معتمدة على تفوقها التقني وقدراتها التمويلية عن طريقة زيادة صادراتها من الأجهزة الإلكترونية وأجهزة الاتصالات والآلات الزراعية والصناعية إلى تركيا وبالتالي إعادة تصديرها من تركيا إلى الدول العربية والتعاون في مجالات الطاقة وشبكات الري حيث تقوم تركيا ببناء سد (بيره جاك) على نهر الفرات قرب الحدود السورية بمشاركة إسرائيلية بمشاركة إسرائيلية وأمريكية (38).
وفي الجانب التركي تنشط شركات المقاولات التركية داخل إسرائيل حيث تسهم في بناء مستوطنات اليهود الجدد في الأراضي العربية المحتلة إذ يوجد في إسرائيل مايربو على الثلاثة آلاف عامل تركي يعملون في إسرائيل كذلك وجود نواد ليلية تركية ومحلات بيع المواد الغذائية فضلاً عن وجود نحو (80) ثمانين ألف إسرائيلي من أصل تركي الذي لم يقطعوا علاقاتهم مع تركيا وكانوا جسراً لتوطيد التعاون بين الطرفين ويقومون بأعمال متبادلة مع اليهود والأتراك الذين لهم تأثير مهم في الاقتصاد التركي عبر شركات كبيرة مثل شركة (بروفيلو) (39) إضافة إلى تزايد عدد السياح الإسرائيليين في تركيا حيث تشير الإحصائيات إلى زيارة نحو نصف مليون سائح إسرائيلي تركيا عام 1995 وإنفاقهم ما يزيد على (300) مليون دولار في حين لا يقصد إسرائيل من السياح الأتراك أكثر من (5-6) آلاف سائح سنوياً (40)
ويظهر أن تركيا قد فضلت تطوير علاقاتها مع إسرائيل التي تعتقد بأنها أكثر أهمية وربحية من علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع الدول العربية (41)، وحيث نرى أن معظم الأتراك يشددون على أهمية العامل الاقتصادي والتجاري فالخبير التركي في العلاقات الدولية الدكتور (حسن قوني) يؤكد بأن تركيا يمكن أن تكون ميدان عبور مهم لإسرائيل ومجموعات الاستثمار اليهودية الأخرى من أجل الاستثمار في آسيا الوسطى وغيرها كما يمكن لرؤوس الأموال أن تستثمر بأمان فيها وأنه في حالة تركيا في تعاون مع إسرائيل فإن ذلك سيكسب الثقة لأسواق المال الدولية (42). وتطمح إسرائيل أن تتغلغل اقتصادياً في جمهوريات آسيا الوسطى مستغلة الوجود التركي في هذه الجمهوريات وقيامها باستثمارات كبيرة هناك ولمواجهة ألمانيا التي تحاول الحصول على استثمار نفط أذربيجان وكازاخستان عبر إيران ولأن تدفق النفط الاذربيجاني عبر تركيا إلى البحر المتوسط يحقق الفائدة لتركيا وإسرائيل معاً (43).
إذ يوجد في تلك الجمهوريات احتياطي نفطي هائل قدرتها مصادر الطاقة الأمريكية بما يتراوح ما بين (90-200) مليار برميل من الاحتياطي النفطي المؤكد (44) والذي يمكن أن يكون مصدراً محتملاً للطاقة التي تفتقر إليها إسرائيل.
والواقع أن الطرفين لم يدخرا جهداً في هذا الاتجاه ففي 10 كانون الأول 1996 انعقد في اسطنبول اجتماع موسع شاركت فيه نحو (34) شركة إسرائيلية ونحو (70) شركة تركية بحضور ممثلين عن وزارات الصناعة والتجارة الخارجية الإسرائيلية والتركية للبحث في مسألة إقامة مشاريع مشتركة في الجمهوريات الآسيوية ذات الأصول التركية (45).
ويأتي هذا في سياق التخطيط الإسرائيلي لتأسيس شراكة مع تركيا في مجال الاستثمارات في آسيا الوسطى حيث سيتضمن الإسرائيليون وصولاً أكثر سهولة إلى الجمهوريات ذات الأصول التركية عبر رجال الأعمال الأتراك (46).
وفي الوقت الذي أعلن فيه رسمياً عن قيام تركيا وإسرائيل بإجراء مناورات عسكرية مشتركة في البحر المتوسط للفترة (15-25 نوفمبر/تشرين الثاني 1997) صدر إعلان عن زيادة رئيس الوزراء الإسرائيلي (الأسبق) بنيامين نتنياهو إلى جمهورية أذربيجان ذات الأصول التركية والغنية بمواردها النفطية (47).
وعلى أثر تلك الزيارة أعلن نتنياهو عن استبدال صفقة الغاز المتفق عليها بين إسرائيل وروسيا الاتحادية باتفاقيات تبرم بين إسرائيل وجمهورية أذربيجان مع جمهوريات آسيا الوسطى (48).
ثالثاً/ ميدان الموارد المائية:
تستخدم تركيا المياه سلاحاً يعبر عن استثمار جديد لموقفها الجغرافي في الضغط على دول الجوار الجغرافي (سوريا، العراق) إذ أصبحت مشكلة مياه دجلة والفرات أبتداءاً من عام 1973 مجالاً للنزاعات والمشاكل الإقليمية بين دول حوضي النهرين (تركيا- سوريا- العراق) (49).
ولكون منابع النهرين تقع في الأراضي التركية فإن ذلك يمنح تركيا خواصاً اقتصادية واستراتيجية مهمة سواء فيما يتعلق باستخدام مياه النهرين داخل أراضيها أو في سياساتها المائية تجاه دول الحوض الدنيا إذ أن نحو (90%) من مياه نهر الفرات تتبع من الأراضي التركية (50)، وهذا يدعم تطلعات السياسة الخارجية لتركيا باتجاه بناء علاقات جديدة مع دول الجوار العربي منطلقة من عامل ضغط يتمثل بتحكمها في موارد مياهها الرئيسية (51).
وعلى هذا الأساس تشهد منطقة جنوب شرق تركيا منذ أواخر الثمانينات تحقيق جملة مشروعات كبيرة متعددة الأغراض والنتائج تشمل سلسلة من سدود المياه والخزانات وأنفاق ارواء ونظم تقنية الري ومخططات كهرومائية (هايدروليكية) يطلق عليه بالتركية اختصاراً مصطلح (غاب) GAP وهي تعني "مشروع جنوب شرق الأناضول" “Guney Dogu Anadolu Projes’ المحاذي للحدود التركية مع كل من سوريا والعراق (52).
وتهدف تركيا من خلال هذا المشروع إلى زيادة انتاجها الزراعي بشكل كبير عام 2015 (53) وسيكون ذلك على حساب حقوق سوريا والعراق في مياه دجلة والفرات بتحويل تلك المياه إلى (سلعة) تركية على الرغم من أن القانون الدولي لا يبيح لها استغلالها لأغراض سياسية واقتصادية (54).
وبذلك أصبحت هذه المشكلة مرشحة للتعقد بسبب إصرار تركيا على اعتبار نهري دجلة والفرات نهري وطنيين عابرين للحدود وليسا نهرين دوليين يمران في ثلاث دول فهي ما تزال ترفض مبدأ المشاركة في الحصص المائية وترفض اعتبار سوريا والعراق صاحبتا حق في مياه النهرين (55) وتصر على أن مبدأ المقاسمة في المياه يجب أن تخضع لسياسة مقايضة المياه التركية بالنفط العربي فقد ألمح المسؤولون الأتراك غير مرة إلى ذلك ومنها ما ذكره رئيس الجمهورية التركية سليمان ديميربل في 24 يوليو/ تموز 1992 بقوله "إن المياه التي تنبع من تركيا هي ملك لتركيا والنفط هو ملك البلدان التي ينبع فيها ونحن لا نقول لهم أننا نريد مشاركتهم في نفطهم كما أننا لا نريد أن يشاركوننا في مياهنا" (56).
كما أعلن وزير الدولة التركي المسؤول عن مشروع (غاب) غرض بلاده في مقايضة المياه التركية بالنفط العربي حين قال "إن في الشرق الأوسط موارد بترولية كبيرة وهي هبة الله كما المياه إذا رضي العرب بضخ نفطهم دون مقابل فإن تركيا سترسل لهم المياه الموجودة لديها في بحيرات السدود وأن تركيا ستباشر في بورصة المياه لبيع مياه (غاب) إلى العرب ودول الشرق الأوسط لأنها ليست مستعدة لإعطاء مياهها دون مقابل ولذلك ستعمل على تسويقها، بحيث تتمكن الإدارة الخاصة ـ (غاب) من طرح سندات بورصته في أسواق البورصة العالمية (57).
وقد انتقدت العراق وسوريا بشدة هذه الطروحات التركية كما نددت سوريا بمشروع "السوق الدولية للمياه" المطروح أمام مؤتمر "مياه العالم: تمويل مشروعات المستقبل "الذي انعقد في اسطنبول (29-30 أيلول/ سبتمبر 1997)، بمبادرة من الحكومة التركية وصحفية "هير الدترتبيون الدولية" الأمريكية وبمشاركة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وهيئات المعونة الأمريكية والأوروبية والكندية ودعت الدول العربية إلى مقاطعته لمخاطره على سوريا والمشرق العربي كله لأنه يساهم في إيجاد رأي عام دولي لمصلحة تركيا التي صرح مسؤوليها بأنهم ينوون بيع المياه مقابل النفط العربي، وأنهم يعتبرون مياه الفرات ودجلة من أنهارهم الوطينة (58).
إن ضعف المحيط العربي المحاذي لتركيا سهل عليها المضي في إنجاز مشروع (غاب) ولا سيما سد أتاتورك على نهر الفرات الذي أنجز عام 1989 وبدأ يلحق ضرراً كبيراً بالأمن المائي لكل من سوريا والعراق حيث يجري إملاء الخزان التركي في سد أتاتورك منذ سنوات عدة والتي لا يمكن تحديدها إلى أي مدى زمني قادم لعدم إعلان تركيا عن برنامجها بهذا الشأن مم يترتب على ذلك حرمان كل من سوريا والعراق حيث يجري إملاء الخزان التركي في سد أتاتورك منذ سنوات عدة والتي لا يمكن تحديدها إلى أي مدى زمني قادم لعدم إعلان تركيا عن برنامجها بهذا الشأن يترتب على ذلك حرمان كل من سوريا والعراق نحو (12) إثنا عشر مليار متر مكعب من المياه في كل عام مما كان يصلهما كل عام سابقاً مما أدى إلى تفاقم الأضرار في كلا الدولتين في انخفاض توليد الطاقة الكهرومائية وإلى إجراء تعديلات لمشاريعها الزراعية مع ازدياد السكان (59).
كما تعمد تركيا إلى توظيف موضوع نهر الفرات والسدود المقامة عليه ونقله من إطاره الفني والقانوني والسياسي إلى إطاره الأمني- العسكري فقد جاء في تقرير أعدته رئاسة أركان الجيش التركي عن العلاقات مع سوريا واحتمالات الحرب بين تركيا وسوريا جاء فيها أن موازين القوى العسكرية بين البلدين متكافئة نسبياً مع رجحان الكفة بشكل واضح في النواحي التقنية والجغرافية والطبوغرافية لصالح تركيا، وعلى هذا الأساس فإن قضية حسم الصراع العسكري بين سوريا وتركيا لصالح الأخيرة يمكن تحقيقه من خلال استخدام سلسلة السدود التي بنتها تركيا على نهر الفرات في إطار مشروع (غاب) وملحقاتها مع أقنية الري المتصلة بالسدود الممتدة لآلاف الكيلو مترات على طول السهول وعرضها ومئات البحريات الصغيرة ستكون عاملاً حاسماً في تغير البيئة الجغرافية للمنطقة تمنع أي تقدم بري للدبابات والمدرعات السورية، وعلى الرغم من أن ذلك ينطبق أيضاً على إعاقة تحرك الدبابات والمدرعات التركية إلا أن سلاح الجو والصواريخ التركية وفي ظل موازين القوى الحالية ستكون لها الكلمة الفاصلة في تقرير نتيجة الحرب (60).
وفي الجانب الإسرائيلي الذي ينطلق من اعتبارات أساسية عدة لكون إسرائيل طرفاً محورياً في مفاوضات التسوية وتعاني شُحّاً في مواردها المائية وتستولي على مياه نهر الأردن والضفة الغربية والجولان وجنوب لبنان وتربطها علاقات تعاون استراتيجي مع تركيا الذي جاء ليوسع المناورة التركية إزاء الدول العربية ولا سيما دول الجوار العربي (سوريا والعراق) في قضية المياه، إذ تأمل تركيا أن تحظى بدعم إسرائيلي أكبر في هذه القضية التي من المحتمل أن تأخذ أبعاداً جديدة بين تركيا والدول العربية المعنية فضلاً عن احتمالات المواجهة العسكرية بين تركيا وكل من سوريا والعراق بسبب المياه.
وتتطلع تركيا بتحالفها مع إسرائيل إلى دعم مالي وإسرائيلي كبير سواء في إطار استثمارات مباشرة أو تقديم المساعدات والقروض لإقامة عدد من السدود الإضافية أو الإيعاز للمؤسسات المالية الغربية التي يهيمن عليها رجال المال اليهود للقيام بهذا الدور، كما تطمح تركيا من تمتين علاقاتها بإسرائيل إلى تطوير صناعاتها سواء المدنية منها أو العسكرية نظراً لتفوق إسرائيل تقنياً وبشكل كبير على تركيا (61).
وسيكون من غير المنطقي نفي تأثير العلاقات التركية الإسرائيلية في السياسية التركية حيال أزمة المياه وتوظيفها للضغط على سوريا في المرحلة الراهنة من المفاوضات الخاصة بالمسار السوري الإسرائيلي، ولا أدل على ذلك التأثير ما صرح به السفير الإسرائيلي في واشنطون في 19 كانون الثاني/ يناير 1996 بأن هناك بعداً تركياً للسلام مع سوريا وأن تركيا ذات أهمية بالنسبة إلى مواردها المائية في المنطقة (62).
إن إسرائيل تتعامل مع المشاريع المائية التركية من خلال تقديم الخبرات والتقنية في مجال تطور الزراعة ضمن مشروع (غاب) فقد سبق وأن اصطحب الرئيس الإسرائيلي عيزرا وايزمن من خلال زيارته لأنقرة في عام 1994 فريق عمل مؤلف من خبراء اقتصاديين مهتمين بشؤون الحياة،
ونظم الأتراك لوايزمن زيارة لمنطقة مشروع (غاب) على نهر الفرات الذي وصف بأنه (مشروع خارق) (63) وقد تبودلت الزيارات بين كبار المسؤولين الفنيين من الطرفين بشأن توظيف التقنية الإسرائيلية المتطورة في مشروع (غاب) حيث يعجب الأتراك بسياسة إسرائيل الزراعية التي قوامها (أرض أقل- ماء أقل- إنتاج أكثر) وأبدت عدة شركات زراعية إسرائيلية معروفة عالمياً استعدادها للإسهام في تحقيق ذلك مثل شركات (CarGill, Continental PKILIP Brother) وفي ختام زيارته لأنقرة حيث رأس الوفد الإسرائيلي في اجتماعات اللجنة الاقتصادية المشتركة أعلن وزير التجارة والصناعة الإسرائيلي في 25 آذار/ مارس 1998 "أن إسرائيل وتركيا سوف تتعاونان في مشروع جنوب شرق الأناضول وأن إسرائيل ستضع خبراتها في مجالي الزراعة والري في خدمة هذا المشروع حيث تمتلك تكنولوجيا متقدمة في هذين المجالين (64).
وتتركز الاجتماعات التي عقدت بين الجانبين على دراسة مقترحات استثمارات مشتركة والتعاون في مسائل مثل نظم البذار والمسح بواسطة الكومبيوتر وخدمات الهندسة والصناعات التي تعتمد على الزراعة والخدمات البلدية الكبيرة مثل البيئة والبنية التحتية والأقنية وما إلى ذلك (65).
كما يأتي الاهتمام الإسرائيلي بالمياه التركية من خلال ضمان استمرارية تزويد تركيا لإسرائيل بـ
(250-440) مليون متر مكعب من المياه عن طرائق مشروعات تركية خاصة عبر استخدام الطريق البحري حيث يعني هذا الضمان زيادة الكمية لإنقاصها في حالة التنفيذ الكامل لمشروع (غاب) ووسط السياقات النهائية لذلك بما يتوافر مستقبلاً من عوامل لتنفيذ مشروع (أنابيب السلام) التركية أو البحث عن طرائق أخرى لتأمين انسياب الكمية المطلوبة للاستهلاك الإسرائيلي من المياه التركية (66).
الخاتمة:
يتضح من سياق تطور العلاقات التركية الإسرائيلية أنها وصلت إلى صيغة التحالف الإستراتيجي وعدت من أبرز التطورات التي تشهدها المنطقة حالياً. وهي ليست كما يبدو في الأوساط الرسمية علاقة (روتينية) ثنائية أو تطوراً ضمنياً من شأنه إيجاد حالة من "الاستقرار" بما ينسجم مع بيئة أفقية إقليمية وأعرض وأوسع بل أنها تعد مشاركة عسكرية بين طرفين قويين في المنطقة يتمتعان بتأييد الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة النفوذ الأقوى في العالم حالياً. إذ لا يمكن فصل تطوراتها عن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة العربية في ظل ما يسمى " بالنظام العالمي الجديد" التي تهدف إلى إعادة رسم خريطة سياسية واقتصادية ومائية للمشرق العربي من خلال إلغاء "النظام الإقليمي العربي" لصالح "نظام شرق أوسطي" يكرس الهيمنة الأمريكية عليها ويضمن التفوق الإسرائيلي المطلق.
وجاءت النقلة النوعية في تطور العلاقات التركية- الإسرائيلية ولا سيما في الجانب الأمني- العسكري لتثير العديد من الهواجس والريبة والظنون لدى العرب الذي أصبحوا غير مطمئنين للجار التركي على الرغم من تحمل العرب أنفسهم قسطاً من المسؤولية عما يجري بسبب خلافاتهم وتسابق بعض أطرافهم للتسوية السياسية مع إسرائيل في ظل غياب استراتيجية عربية موحدة.
إن التحالف التركي- الإسرائيلي ما هو إلا تعبير عما تختزنه النخبة السياسية والمؤسسة العسكرية التركية والإسرائيلية ويعد التحالف من موجبات الارتباط الجذري بين تركيا والاستخبارات الأمريكية وهو ارتباط يضم في دائرته تركيا وإسرائيل معاً كما وأن الاتفاق يتم بين طرفين حليفين للولايات المتحدة الأمريكية التي تنوي في إطار المتغيرات الدولية والإقليمية أن تنقل بعض أعبائها العسكرية عن النظام الشرق أوسطي المأمول إلى تركيا وإسرائيل وربما إلى غيرها من دول المنطقة أيضاً وبأسلوب النقل البطيء المتتابع الخطوات ومستمر المراحل يتناسب مع إيقاع خطوات التسوية وبقاء
النظام الشرق أوسطي.
ويشكل التحالف التركي- الإسرائيلي مقدمة لترتيبات أمنية إقليمية قد تنتهي إلى حلف شرق أوسطي يتم في إطار التزام أمريكي في الحفاظ على تفوق إسرائيل العسكري واحتكارها للسلاح النووي كرادع استراتيجي مما سيجعل الولايات المتحدة الأمريكية في مركز القابض على توازنات إقليمية وترتيبات أمنية جديدة في المنطقة يتفق مع الإستراتيجية العسكرية الأمريكية الجديدة القائمة على مباديء الدفاع الوقائي والردع والهيمنة والسعي لبناء منظومة أمنية في الوطن العربي ودول الجوار الجغرافي للحفاظ على المصالح الأمريكية وديمومتها.
وفي ظل هذه الأجواء تبدو الحاجة ملحة نحو إعادة رص الصف العربي وتجاوز الخلافات الثانوية بما قد يجبر تركيا على إعادة النظر في علاقاتها مع إسرائيل وبالشكل الذي يجعلها ذات طبيعة مقبولة نسبياً ولا تضر كثيراً بالمصالح العربية الحيوية وإشعار تركيا بأن مصالحها الإستراتيجية لا يمكن تأمينها إلا عبر البوابة العربية وليس الانجرار وراء مواقف تقع بالضد ذلك بما يؤدي إلى عزل تركيا ودفعها ضد العرب وضد نفسها فيربح أعداء العرب وأعداء تركيا وأعداء الإسلام بوجه عام.
لقد اشتمل التعاون التركي- الإسرائيلي عل مضامين وأبعاد عديدة يمكن إدراج تفاصيل أهمها، وفق التقسيم الآتي:
ميادين التعاون التركي- الإسرائيلي
أولاً/ الميدان الأمني- العسكري:
يعود تأريخ التعاون الأمني بين تركيا وإسرائيل إلى عام 1958 عندما تم الاتفاق على تعاون شامل ما بين المخابرات الإسرائيلية (الموساد) والمخابرات التركية والذي تطور إلى اتفاق رسمي ثلاثي باسم (ترايدنت) أي (الرمح ذي الثلاث شعب) بعد أن انضمت إليهما المخبرات الإيرانية (السافاك). وقد سمح ذلك الاتفاق للموساد بجمع المعلومات الاستخبارية وتتبع حركات ونشاطات السوفيت في تركيا ودول الجوار الجغرافي، وتدريب العملاء السريين الأتراك على أساليب وفنون التجسس المضاد، وكيفية استخدام الأجهزة الإلكترونية مقابل قيام تركيا بتزويد إسرائيل بالمعلومات حول النوايا العربية تجاه إسرائيل (3).
وبدأ خبراء إسرائيليون وأتراك منذ أواخر السبعينيات تبادلاً غير معلن للمعلومات حول أهدافهما المشتركة ضد ما يسمى بـ (الإرهاب) ولا سيما حول عمليات التدريب التي كانت تجري في لبنان والتي تربط بين منظمة التحرير الفلسطينية والأرمن والأكراد والمنظمات التركية المناهضة للسلطة المركزية التركية (4).
وفي الجانب العسكري وقع الجانبان على برنامج تعاون سري بينهما حول تطوير الطائرات التركية من نوع (F.4) بكلفة (400) مليون دولار عام 1986 (5) وكذلك ما نشر عن علاقات مستشار الرئيس التركي (الأسبق) توركوت أوزال وصهره "محمد بابيخامان" مع إسرائيل وقيامه بزيارات سرية عدة لتل أبيب وعقده صفقة شراء قطع غيار أجهزة إلكترونية إسرائيلية لطائرات (F.16) التركية (6).
وجاء التعاون التركي الإسرائيلي ذو الطابع الأمني- العسكري في اتفاقية شباط/ فبراير 1996 والاتفاقيات اللاحقة التي دخلت حيز التنفيذ في نيسان/ أبريل من العام نفسه لتشكل نقلة نوعية متطورة في علاقات الجانبين.
ويشكل الدعم التقني العسكري والاستخباري الإسرائيلي لتركيا أهمية بالغة لأن تصبح الأخيرة قوة عسكرية إقليمية فاعلة في المنطقة تخدم المصالح الإسرائيلية الإستراتيجية في الإبقاء على الخلل في التوازن الاستراتيجي القائم بين العرب وإسرائيل لصالح الأخيرة، إذ أكد الخبير الإسرائيلي (يحزقال) أحد مخططي السياسة الإسرائيلية في كتابه "ستراتيجية عظمى لإسرائيل" أن التحالف بين تركيا وإسرائيل يمثل ضمانة أكيدة لمنع بروز أي قوة عربية مناهضة لمصالح إسرائيل في المستقبل، وتتجسم هذه الأهداف في الوقت نفسه مع رغبات تركيا في مجال تحولها إلى قوة إقليمية مؤثرة في
المنطقة (7)، في حين يقول الباحث التركي "أرسين كلايجوغلو" أن تركيا التي أقامت تعاوناً عسكرياً وأمنياً مع إسرائيل قد تخلت عن أحد ثوابت سياستها الخارجية التي وضعت منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 والذي كان ينص على الحفاظ على التوازن الحصين الذي حاولت تركيا أن تتبعه تجاه العرب وإسرائيل مؤكداً على أن كفة هذا التوازن مالت نحو إسرائيل. وأن تركيا في المستقبل ستتبع سياسة دفاعية وأمنية وثيقة التنسيق مع إسرائيل لغرض مجابهة ما سماه "التهديد المشترك" و الإرهاب" الذي تدعمه كما قال كل من إيران وسوريا والعراق (8).
وفي هذا السياق تم تشكيل "المنتدى الأمني للحوار الإستراتيجي" بين تركيا وإسرائيل الذي يدعو إلى إقامة آلية مشتركة لرصد الأخطار التي تهددهما وتحديد سبل مواجهتها ويتضمن ذلك تبادل المعلومات الأمنية والإستراتيجية التي تحصل عليها الأجهزة الأمنية التركية والإسرائيلية في القضايا الإقليمية (9) ويمتد نشاط هذا الحوار إلى إقامة أجهزة رصد وتنصت إلكترونية على حدود تركيا مع كل من سوريا والعراق وإيران (10). ورافق ذلك تبادل الزيارات بين كبار المسؤولين العسكريين والسياسيين بين الطرفين بشكل مكثف منذ اتفاقية شباط 1996 والتي تمخضت عن توقيع العديد من الاتفاقيات بخصوص تطوير التعاون في مجالات التدريب وتبادل المعلومات وإجراء المناورات العسكرية المشتركة والتصنيع الحربي المشترك وتحديث إسرائيل للطائرات والدبابات والمعدات العسكرية التركية المختلفة... ومن ذلك موافقة الحكومة التركية (السابقة) برئاسة نجم الدين أربكان على إبرام اتفاق مع إسرائيل في كانون الأول 1996 تبلغ قيمته نحو (632) مليون دولار يقضي بتطوير وتحديث الأجهزة الإلكترونية وأنظمة الملاحة والرادار لـ (65) طائرة حربية تركية من قبل شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية (11).
لقد أصبحت تركيا في السنوات الأخيرة سوقاً مهماً للسلاح الإسرائيلي وقطع الغيار وبعض الخدمات العسكرية الأخرى (12) ويقع ذلك ضمن خطة جديدة لتحديث الجيش التركي بكلفة إجمالية تبلغ نحو (67) مليار دولار خلال السنوات السبع القادمة والتي تعد المرحلة الأولى ضمن خطة استراتيجية طويلة الأمد أعلنتها القيادة العسكرية التركية تمتد للعقود الثلاث القادمة تبلغ كلفتها نحو
(150) مليار دولار (13)، وتأمل إسرائيل أن تكون لها حصة الأسد في هذه الخطة (14).
وفي هذا السياق فقد تعاقد الجيش التركي مع شركات إسرائيلية في حقل الإلكترونات لتزويد الجيش التركي بأنظمة الإنذار المبكر والاتصالات المتطورة (15) فضلاً عن العديد من الاتفاقيات العسكرية التي تتضمن تطوير التعاون العسكري بين الجانبين بكافة أشكاله وأنواعه وتزويد إسرائيل لتركيا بمعدات عسكرية متطورة وقيامها بتقديم بعض أنماط التقنية المتقدمة والمهندسين الفنيين إلى تركيا وتزويدها بمعلومات حساسة عن الأسلحة ومنظومات الدفاع الجوي السورية (16).
وبخصوص التعاون الأمني بين تركيا وإسرائيل أبرم الطرفان في أنقرة في نيسان 1997 اتفاق "تقدير المخاطر" الذي ينص على أن يتم التقدير المشترك للمخاطر كل ثلاثة أشهر على مستوى الفنيين وكل ستة أشهر على مستوى وزراء الدفاع ورؤساء الأركان (17)، كما تم عقد اتفاقية أمنية بين كل من تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية نصت على تعاون أجهزة المخابرات في الدول الثلاث لمواجهة ما أسموه "التطرف الديني" والتواؤم مع السياسة الأمريكية في المنطقة (18) إذ تعاني كل من تركيا وإسرائيل من مشكلات أمنية في أكثر من اتجاه، ففي تركيا هناك أولاً الحرب المستمرة بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني pkk منذ عام 1984 الذي لم يقتصر ميدانه على المنطقة الكردية في جنوب شرق تركيا بل امتد إلى كبريات المدن التركية ولا سيما اسطنبول. وهناك العنف المرتبط بعدد كبير من المنظمات (اليسارية) التركية ولا سيما منظمة "اليسار الثوري" DEV-SOL " التي قامت بمعظم العمليات ضد أهداف أمريكية وغربية أبان العدوان الثلاثيني على العراق في علم 1991 فضلاً عن تصاعد نشاط عمليات عدة منظمات إسلامية متشددة ولا سيما "الحركة الإسلامية 1H10" التي قامت باغتيال عناصر بارزة من المثقفين العلمانيين الأتراك. فيما تواجه إسرائيل عمليات منظمات إسلامية فلسطينية ولا سيما منظمتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" فضلاً عن "حزب الله" اللبناني وعملياته المستمرة شبه اليومية في المنطقة التي تحتلها إسرائيل في جنوب لبنان.
وتأمل تركيا أن تستفيد من الدعم والخبرة الإسرائيلية في مواجهة هذه الحركات والمنظمات داخل أراضيها مع التأكيد على تماثل التحدي الذي يواجه كل من تركيا وإسرائيل في هذا المجال والذي أسفر عن الدور الكبير الذي لعبته (الموساد) الإسرائيلية في إلقاء القبض على زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في نيروبي في 15 شباط 1999 ونقله إلى تركيا.
وفي تقرير نشره معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط في تموز/ يوليو 1997 ورد أنه على الرغم من سرية محتويات الاتفاقية الدفاعية بين تركيا وإسرائيل إلا من بين ما تتضمنه برتولاتها التعاون في مجال مكافحة الإرهاب وأمن الحدود والمخابرات وأن الإسرائيليين والأتراك يتبادلون المعلومات في مجال المخابرات منذ سنوات وأن إسرائيل ساعدت تركيا في تأمين حدودها ضد عمليات حزب PKK الذي ترى تركيا أن لـه قواعد داخل كل من سوريا والعراق وإيران (19) ومنها قيام إسرائيل بتركيب رادارات ليلية على طائرات (كوبرا) العمودية التي يستخدمها الجيش التركي ضد عناصر حزب PKK (20).
ولم تكن إسرائيل بعيدة عن الفكرة التي طرحتها أنقرة لإقامة "حزام" أو "منطقة أمنية" Security Zone في شمال العراق كجزء من ترتيبات متفق عليها مسبقاً مع الإدارة الأمريكية للابقاء على الوضع مضطرباً في هذه المنطقة فقد ترددت معلومات في تشرين الأول 1997 عن "إقامة إسرائيل أجهزة تنصت إلكترونية في تركيا لرصد أي تحركات عسكرية في سوريا وإيران وجمع
المعومات عنها مقابل مساعدة إسرائيل لتركيا في تجهيز المنطقة الأمنية المعلن عنها مؤخراً في شمال العراق (21).
كما نصت إحدى الاتفاقيات المعقودة بين الجانبين على السماح والدعم التركي لعناصر (الموساد) الإسرائيلي للقيام بعمليات تجسسية على كل من سوريا والعراق وإيران وانطلاقاً من الأراضي
التركية (22).
ثانياً/ الميدان الاقتصادي والتجاري:
نشأت العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل وتركيا منذ قيام العلاقات الدبلوماسية بينهما على أثر
اعتراف تركيا بإسرائيل عام 1949 لكن هذه العلاقات كانت في تصاعد أو انحسار تبعاً للظروف الإقليمية والدولية.
وقد انعكست التطورات السياسية في علاقات الطرفين أواخر الثمانينات على ارتفاع حجم التبادل التجاري بينهما للعامين 1987-1988 بنسبة 47% أي أنها ازدادت من (61.367) مليون دولار عام 1987 إلى (90.635) مليون دولار عام 1988 كما ازداد عدد الشركات الإسرائيلية الخاصة العاملة في تركيا من أربع شركات عام 1984 إلى تسع شركات عام 1988 استثمرت مبلغاً قدره (1.124) مليار ليرة تركية منها (658) مليون بالعملات الأجنبية (23).
وفي التسعينيات قطع الجانبان شوطاً كبيراً في اتجاه تمتين علاقاتهما الاقتصادية والتجارية وقيام مشاريع مشتركة بينهما في مجالات الإنشاء والمقاولات المتعددة الأغراض وأعتبر (ميكاهاريش) وزير التجارة والصناعة الإسرائيلي (الأسبق) تركيا سوقاً رائجة للمبيعات الإسرائيلية (24). وبلغ التعاون مداه في فترة تولي تانسو تشيلر لرئاسة الحكومة التركية حيث اصطحبت معها وفداً تركيا كبيراً بلغ عدد أعضاؤه نحو (230) شخصاً خلال زيارتها لإسرائيل في كانون الثاني 1993 ضم وزراء الخارجية والزراعة والطاقة والصناعة والصحة ونحو خمسين شخصية اقتصادية وتجارية ونحو عشرين مواطناً تركيا من أصل يهودي يمثلون جاليتهم في تركيا (25) تم فيها إقرار العديد من الاتفاقيات التجارية الثقافية مما أدى إلى تضاعف حجم التبادل التجاري بينهما ليصل إلى نحو نصف مليار دولار في عام 1996 (26).
وتأمل تركيا من خلال تطوير علاقتها الاقتصادية والتجارية مع إسرائيل إلى تفادي تفاقم المشكلة الاقتصادية التي تعصف بتركيا بسبب تواصل العمليات العسكرية التركية ضد عناصر حزب العمال الكردستاني PKK الذي يكلف تركيا ما بين (7-8) مليار دولار (27) فضلاً عن استمرار الحصار المفروض على العراق من قبل مجلس الأمن الدولي الذي خسرت جراءه تركيا نحو (30) مليار دولار (28) وتزايد الدين الخارجي لتركيا من (49) مليار دولار عام 1991) إلى نحو (93) مليار دولار عام 1996 (29)، وقد انعكس ذلك على ارتفاع العجز في الموازنة التركية إلى نحو (129) ترليون (كل 67 ألف ليرة تركية= دولار واحد بأسعار 1997) وإلى زيادة التضخم بنسبة (120%) وتفاقم أزمة البطالة وانخفاض معدل دخل الفرد من (3004) دولار سنوياً إلى (2193) دولار سنوياً (30).
وقد أدى ذلك إلى عرقلة جهود تركيا الرامية إلى تطوير علاقاتها مع الاتحاد الأوربي ولا سيما في ظل اتفاق الاتحاد المبرم بين الجانبين في كانون الأول 1995 (31).
ولهذا وجدت تركيا في علاقاتها مع إسرائيل مدخلاً اقتصادياً قد يساعدها على حل أزمتها الاقتصادية وبلوغ هدفها في دخول الاتحاد الأوربي حيث ترى أن أدائها الاقتصادي قد يتحسن جرّاء تعاونها مع إسرائيل في مجال السياحة وبيع المياه لإسرائيل وإنشاء منطقة التبادل الحر (32).
وفي هذا الصدد أعلن المتحدث باسم السفارة (الإسرائيلية) في أنقرة (إتيان نايه) بأن تركيا كغيرها من البلدان بحاجة إلى استثمار رأسمال أجنبي وأن إسرائيل مستعدة لذلك (33) وتم تحقيق خطة اقتصادية مهمة بين الجانبين في هذا الاتجاه بتأسيس "مجلس العمل التركي- الإسرائيلي" (34).
وبسبب كون علاقات كل من تركيا وإسرائيل التجارية تنسجم وتتكامل مع الغرب ولا سيما تركيا، إذ يستحوذ الاتحاد الأوربي على نحو (43.8%) من صادرات تركيا وعلى نحو (52%) من
وارادتها (35).
فإنهما (تركيا وإسرائيل) وقعاً في مارس/ آذار 1996 على اتفاقية للتجارة الحرة وأخرى لتجنب الازدواج الضريبي وثالثة لتشجيع الاستثمارات المشتركة التي تضمنت تخفيض الرسوم الكمركية من (40) إلى (10%) في بدايات سريان مفعولها ثم إلى (4%) مما يؤدي تلقائياً إلى رفع حجم التبادل التجاري إلى معدلات كبيرة قد تصل إلى نحو ملياري دولار عام 2000 (36).
وهذا الشكل الاقتصادي الجديد يعده الأتراك نواة لسوق حرة مشتركة شرق أوسطية تقف في وجه السوق العربية المشتركة الرافضة لمشروع الشرق أوسطية. كما وقع الطرفان في نيسان 1997 اتفاق النقل البري على أن يجري تنفيذه في حالة تطبيع العلاقات العربية الصهيونية نظراً لوقوع سوريا بينهما. ويتيح التعاون لتركيا فرصة زيادة تجارتها مع الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأمريكا الوسطى عبر إسرائيل التي تربطها بها علاقات تجارية تفضيلية كما يتوقع أن تسعى شركات المنسوجات والملابس الجاهزة الإسرائيلية من هذا الاتفاق في إقامة مشروعات مشتركة مع تركيا لتجنب ارتفاع تكلفة العمل بما يضمن لإسرائيل الحصول على حصتها المقدرة بمليار دولار سنوياً من هذه المنتجات في السوق الأمريكية (37).
وتنشط الشركات الإسرائيلية في استثماراتها الاقتصادية داخل تركيا معتمدة على تفوقها التقني وقدراتها التمويلية عن طريقة زيادة صادراتها من الأجهزة الإلكترونية وأجهزة الاتصالات والآلات الزراعية والصناعية إلى تركيا وبالتالي إعادة تصديرها من تركيا إلى الدول العربية والتعاون في مجالات الطاقة وشبكات الري حيث تقوم تركيا ببناء سد (بيره جاك) على نهر الفرات قرب الحدود السورية بمشاركة إسرائيلية بمشاركة إسرائيلية وأمريكية (38).
وفي الجانب التركي تنشط شركات المقاولات التركية داخل إسرائيل حيث تسهم في بناء مستوطنات اليهود الجدد في الأراضي العربية المحتلة إذ يوجد في إسرائيل مايربو على الثلاثة آلاف عامل تركي يعملون في إسرائيل كذلك وجود نواد ليلية تركية ومحلات بيع المواد الغذائية فضلاً عن وجود نحو (80) ثمانين ألف إسرائيلي من أصل تركي الذي لم يقطعوا علاقاتهم مع تركيا وكانوا جسراً لتوطيد التعاون بين الطرفين ويقومون بأعمال متبادلة مع اليهود والأتراك الذين لهم تأثير مهم في الاقتصاد التركي عبر شركات كبيرة مثل شركة (بروفيلو) (39) إضافة إلى تزايد عدد السياح الإسرائيليين في تركيا حيث تشير الإحصائيات إلى زيارة نحو نصف مليون سائح إسرائيلي تركيا عام 1995 وإنفاقهم ما يزيد على (300) مليون دولار في حين لا يقصد إسرائيل من السياح الأتراك أكثر من (5-6) آلاف سائح سنوياً (40)
ويظهر أن تركيا قد فضلت تطوير علاقاتها مع إسرائيل التي تعتقد بأنها أكثر أهمية وربحية من علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع الدول العربية (41)، وحيث نرى أن معظم الأتراك يشددون على أهمية العامل الاقتصادي والتجاري فالخبير التركي في العلاقات الدولية الدكتور (حسن قوني) يؤكد بأن تركيا يمكن أن تكون ميدان عبور مهم لإسرائيل ومجموعات الاستثمار اليهودية الأخرى من أجل الاستثمار في آسيا الوسطى وغيرها كما يمكن لرؤوس الأموال أن تستثمر بأمان فيها وأنه في حالة تركيا في تعاون مع إسرائيل فإن ذلك سيكسب الثقة لأسواق المال الدولية (42). وتطمح إسرائيل أن تتغلغل اقتصادياً في جمهوريات آسيا الوسطى مستغلة الوجود التركي في هذه الجمهوريات وقيامها باستثمارات كبيرة هناك ولمواجهة ألمانيا التي تحاول الحصول على استثمار نفط أذربيجان وكازاخستان عبر إيران ولأن تدفق النفط الاذربيجاني عبر تركيا إلى البحر المتوسط يحقق الفائدة لتركيا وإسرائيل معاً (43).
إذ يوجد في تلك الجمهوريات احتياطي نفطي هائل قدرتها مصادر الطاقة الأمريكية بما يتراوح ما بين (90-200) مليار برميل من الاحتياطي النفطي المؤكد (44) والذي يمكن أن يكون مصدراً محتملاً للطاقة التي تفتقر إليها إسرائيل.
والواقع أن الطرفين لم يدخرا جهداً في هذا الاتجاه ففي 10 كانون الأول 1996 انعقد في اسطنبول اجتماع موسع شاركت فيه نحو (34) شركة إسرائيلية ونحو (70) شركة تركية بحضور ممثلين عن وزارات الصناعة والتجارة الخارجية الإسرائيلية والتركية للبحث في مسألة إقامة مشاريع مشتركة في الجمهوريات الآسيوية ذات الأصول التركية (45).
ويأتي هذا في سياق التخطيط الإسرائيلي لتأسيس شراكة مع تركيا في مجال الاستثمارات في آسيا الوسطى حيث سيتضمن الإسرائيليون وصولاً أكثر سهولة إلى الجمهوريات ذات الأصول التركية عبر رجال الأعمال الأتراك (46).
وفي الوقت الذي أعلن فيه رسمياً عن قيام تركيا وإسرائيل بإجراء مناورات عسكرية مشتركة في البحر المتوسط للفترة (15-25 نوفمبر/تشرين الثاني 1997) صدر إعلان عن زيادة رئيس الوزراء الإسرائيلي (الأسبق) بنيامين نتنياهو إلى جمهورية أذربيجان ذات الأصول التركية والغنية بمواردها النفطية (47).
وعلى أثر تلك الزيارة أعلن نتنياهو عن استبدال صفقة الغاز المتفق عليها بين إسرائيل وروسيا الاتحادية باتفاقيات تبرم بين إسرائيل وجمهورية أذربيجان مع جمهوريات آسيا الوسطى (48).
ثالثاً/ ميدان الموارد المائية:
تستخدم تركيا المياه سلاحاً يعبر عن استثمار جديد لموقفها الجغرافي في الضغط على دول الجوار الجغرافي (سوريا، العراق) إذ أصبحت مشكلة مياه دجلة والفرات أبتداءاً من عام 1973 مجالاً للنزاعات والمشاكل الإقليمية بين دول حوضي النهرين (تركيا- سوريا- العراق) (49).
ولكون منابع النهرين تقع في الأراضي التركية فإن ذلك يمنح تركيا خواصاً اقتصادية واستراتيجية مهمة سواء فيما يتعلق باستخدام مياه النهرين داخل أراضيها أو في سياساتها المائية تجاه دول الحوض الدنيا إذ أن نحو (90%) من مياه نهر الفرات تتبع من الأراضي التركية (50)، وهذا يدعم تطلعات السياسة الخارجية لتركيا باتجاه بناء علاقات جديدة مع دول الجوار العربي منطلقة من عامل ضغط يتمثل بتحكمها في موارد مياهها الرئيسية (51).
وعلى هذا الأساس تشهد منطقة جنوب شرق تركيا منذ أواخر الثمانينات تحقيق جملة مشروعات كبيرة متعددة الأغراض والنتائج تشمل سلسلة من سدود المياه والخزانات وأنفاق ارواء ونظم تقنية الري ومخططات كهرومائية (هايدروليكية) يطلق عليه بالتركية اختصاراً مصطلح (غاب) GAP وهي تعني "مشروع جنوب شرق الأناضول" “Guney Dogu Anadolu Projes’ المحاذي للحدود التركية مع كل من سوريا والعراق (52).
وتهدف تركيا من خلال هذا المشروع إلى زيادة انتاجها الزراعي بشكل كبير عام 2015 (53) وسيكون ذلك على حساب حقوق سوريا والعراق في مياه دجلة والفرات بتحويل تلك المياه إلى (سلعة) تركية على الرغم من أن القانون الدولي لا يبيح لها استغلالها لأغراض سياسية واقتصادية (54).
وبذلك أصبحت هذه المشكلة مرشحة للتعقد بسبب إصرار تركيا على اعتبار نهري دجلة والفرات نهري وطنيين عابرين للحدود وليسا نهرين دوليين يمران في ثلاث دول فهي ما تزال ترفض مبدأ المشاركة في الحصص المائية وترفض اعتبار سوريا والعراق صاحبتا حق في مياه النهرين (55) وتصر على أن مبدأ المقاسمة في المياه يجب أن تخضع لسياسة مقايضة المياه التركية بالنفط العربي فقد ألمح المسؤولون الأتراك غير مرة إلى ذلك ومنها ما ذكره رئيس الجمهورية التركية سليمان ديميربل في 24 يوليو/ تموز 1992 بقوله "إن المياه التي تنبع من تركيا هي ملك لتركيا والنفط هو ملك البلدان التي ينبع فيها ونحن لا نقول لهم أننا نريد مشاركتهم في نفطهم كما أننا لا نريد أن يشاركوننا في مياهنا" (56).
كما أعلن وزير الدولة التركي المسؤول عن مشروع (غاب) غرض بلاده في مقايضة المياه التركية بالنفط العربي حين قال "إن في الشرق الأوسط موارد بترولية كبيرة وهي هبة الله كما المياه إذا رضي العرب بضخ نفطهم دون مقابل فإن تركيا سترسل لهم المياه الموجودة لديها في بحيرات السدود وأن تركيا ستباشر في بورصة المياه لبيع مياه (غاب) إلى العرب ودول الشرق الأوسط لأنها ليست مستعدة لإعطاء مياهها دون مقابل ولذلك ستعمل على تسويقها، بحيث تتمكن الإدارة الخاصة ـ (غاب) من طرح سندات بورصته في أسواق البورصة العالمية (57).
وقد انتقدت العراق وسوريا بشدة هذه الطروحات التركية كما نددت سوريا بمشروع "السوق الدولية للمياه" المطروح أمام مؤتمر "مياه العالم: تمويل مشروعات المستقبل "الذي انعقد في اسطنبول (29-30 أيلول/ سبتمبر 1997)، بمبادرة من الحكومة التركية وصحفية "هير الدترتبيون الدولية" الأمريكية وبمشاركة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وهيئات المعونة الأمريكية والأوروبية والكندية ودعت الدول العربية إلى مقاطعته لمخاطره على سوريا والمشرق العربي كله لأنه يساهم في إيجاد رأي عام دولي لمصلحة تركيا التي صرح مسؤوليها بأنهم ينوون بيع المياه مقابل النفط العربي، وأنهم يعتبرون مياه الفرات ودجلة من أنهارهم الوطينة (58).
إن ضعف المحيط العربي المحاذي لتركيا سهل عليها المضي في إنجاز مشروع (غاب) ولا سيما سد أتاتورك على نهر الفرات الذي أنجز عام 1989 وبدأ يلحق ضرراً كبيراً بالأمن المائي لكل من سوريا والعراق حيث يجري إملاء الخزان التركي في سد أتاتورك منذ سنوات عدة والتي لا يمكن تحديدها إلى أي مدى زمني قادم لعدم إعلان تركيا عن برنامجها بهذا الشأن مم يترتب على ذلك حرمان كل من سوريا والعراق حيث يجري إملاء الخزان التركي في سد أتاتورك منذ سنوات عدة والتي لا يمكن تحديدها إلى أي مدى زمني قادم لعدم إعلان تركيا عن برنامجها بهذا الشأن يترتب على ذلك حرمان كل من سوريا والعراق نحو (12) إثنا عشر مليار متر مكعب من المياه في كل عام مما كان يصلهما كل عام سابقاً مما أدى إلى تفاقم الأضرار في كلا الدولتين في انخفاض توليد الطاقة الكهرومائية وإلى إجراء تعديلات لمشاريعها الزراعية مع ازدياد السكان (59).
كما تعمد تركيا إلى توظيف موضوع نهر الفرات والسدود المقامة عليه ونقله من إطاره الفني والقانوني والسياسي إلى إطاره الأمني- العسكري فقد جاء في تقرير أعدته رئاسة أركان الجيش التركي عن العلاقات مع سوريا واحتمالات الحرب بين تركيا وسوريا جاء فيها أن موازين القوى العسكرية بين البلدين متكافئة نسبياً مع رجحان الكفة بشكل واضح في النواحي التقنية والجغرافية والطبوغرافية لصالح تركيا، وعلى هذا الأساس فإن قضية حسم الصراع العسكري بين سوريا وتركيا لصالح الأخيرة يمكن تحقيقه من خلال استخدام سلسلة السدود التي بنتها تركيا على نهر الفرات في إطار مشروع (غاب) وملحقاتها مع أقنية الري المتصلة بالسدود الممتدة لآلاف الكيلو مترات على طول السهول وعرضها ومئات البحريات الصغيرة ستكون عاملاً حاسماً في تغير البيئة الجغرافية للمنطقة تمنع أي تقدم بري للدبابات والمدرعات السورية، وعلى الرغم من أن ذلك ينطبق أيضاً على إعاقة تحرك الدبابات والمدرعات التركية إلا أن سلاح الجو والصواريخ التركية وفي ظل موازين القوى الحالية ستكون لها الكلمة الفاصلة في تقرير نتيجة الحرب (60).
وفي الجانب الإسرائيلي الذي ينطلق من اعتبارات أساسية عدة لكون إسرائيل طرفاً محورياً في مفاوضات التسوية وتعاني شُحّاً في مواردها المائية وتستولي على مياه نهر الأردن والضفة الغربية والجولان وجنوب لبنان وتربطها علاقات تعاون استراتيجي مع تركيا الذي جاء ليوسع المناورة التركية إزاء الدول العربية ولا سيما دول الجوار العربي (سوريا والعراق) في قضية المياه، إذ تأمل تركيا أن تحظى بدعم إسرائيلي أكبر في هذه القضية التي من المحتمل أن تأخذ أبعاداً جديدة بين تركيا والدول العربية المعنية فضلاً عن احتمالات المواجهة العسكرية بين تركيا وكل من سوريا والعراق بسبب المياه.
وتتطلع تركيا بتحالفها مع إسرائيل إلى دعم مالي وإسرائيلي كبير سواء في إطار استثمارات مباشرة أو تقديم المساعدات والقروض لإقامة عدد من السدود الإضافية أو الإيعاز للمؤسسات المالية الغربية التي يهيمن عليها رجال المال اليهود للقيام بهذا الدور، كما تطمح تركيا من تمتين علاقاتها بإسرائيل إلى تطوير صناعاتها سواء المدنية منها أو العسكرية نظراً لتفوق إسرائيل تقنياً وبشكل كبير على تركيا (61).
وسيكون من غير المنطقي نفي تأثير العلاقات التركية الإسرائيلية في السياسية التركية حيال أزمة المياه وتوظيفها للضغط على سوريا في المرحلة الراهنة من المفاوضات الخاصة بالمسار السوري الإسرائيلي، ولا أدل على ذلك التأثير ما صرح به السفير الإسرائيلي في واشنطون في 19 كانون الثاني/ يناير 1996 بأن هناك بعداً تركياً للسلام مع سوريا وأن تركيا ذات أهمية بالنسبة إلى مواردها المائية في المنطقة (62).
إن إسرائيل تتعامل مع المشاريع المائية التركية من خلال تقديم الخبرات والتقنية في مجال تطور الزراعة ضمن مشروع (غاب) فقد سبق وأن اصطحب الرئيس الإسرائيلي عيزرا وايزمن من خلال زيارته لأنقرة في عام 1994 فريق عمل مؤلف من خبراء اقتصاديين مهتمين بشؤون الحياة،
ونظم الأتراك لوايزمن زيارة لمنطقة مشروع (غاب) على نهر الفرات الذي وصف بأنه (مشروع خارق) (63) وقد تبودلت الزيارات بين كبار المسؤولين الفنيين من الطرفين بشأن توظيف التقنية الإسرائيلية المتطورة في مشروع (غاب) حيث يعجب الأتراك بسياسة إسرائيل الزراعية التي قوامها (أرض أقل- ماء أقل- إنتاج أكثر) وأبدت عدة شركات زراعية إسرائيلية معروفة عالمياً استعدادها للإسهام في تحقيق ذلك مثل شركات (CarGill, Continental PKILIP Brother) وفي ختام زيارته لأنقرة حيث رأس الوفد الإسرائيلي في اجتماعات اللجنة الاقتصادية المشتركة أعلن وزير التجارة والصناعة الإسرائيلي في 25 آذار/ مارس 1998 "أن إسرائيل وتركيا سوف تتعاونان في مشروع جنوب شرق الأناضول وأن إسرائيل ستضع خبراتها في مجالي الزراعة والري في خدمة هذا المشروع حيث تمتلك تكنولوجيا متقدمة في هذين المجالين (64).
وتتركز الاجتماعات التي عقدت بين الجانبين على دراسة مقترحات استثمارات مشتركة والتعاون في مسائل مثل نظم البذار والمسح بواسطة الكومبيوتر وخدمات الهندسة والصناعات التي تعتمد على الزراعة والخدمات البلدية الكبيرة مثل البيئة والبنية التحتية والأقنية وما إلى ذلك (65).
كما يأتي الاهتمام الإسرائيلي بالمياه التركية من خلال ضمان استمرارية تزويد تركيا لإسرائيل بـ
(250-440) مليون متر مكعب من المياه عن طرائق مشروعات تركية خاصة عبر استخدام الطريق البحري حيث يعني هذا الضمان زيادة الكمية لإنقاصها في حالة التنفيذ الكامل لمشروع (غاب) ووسط السياقات النهائية لذلك بما يتوافر مستقبلاً من عوامل لتنفيذ مشروع (أنابيب السلام) التركية أو البحث عن طرائق أخرى لتأمين انسياب الكمية المطلوبة للاستهلاك الإسرائيلي من المياه التركية (66).
الخاتمة:
يتضح من سياق تطور العلاقات التركية الإسرائيلية أنها وصلت إلى صيغة التحالف الإستراتيجي وعدت من أبرز التطورات التي تشهدها المنطقة حالياً. وهي ليست كما يبدو في الأوساط الرسمية علاقة (روتينية) ثنائية أو تطوراً ضمنياً من شأنه إيجاد حالة من "الاستقرار" بما ينسجم مع بيئة أفقية إقليمية وأعرض وأوسع بل أنها تعد مشاركة عسكرية بين طرفين قويين في المنطقة يتمتعان بتأييد الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة النفوذ الأقوى في العالم حالياً. إذ لا يمكن فصل تطوراتها عن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة العربية في ظل ما يسمى " بالنظام العالمي الجديد" التي تهدف إلى إعادة رسم خريطة سياسية واقتصادية ومائية للمشرق العربي من خلال إلغاء "النظام الإقليمي العربي" لصالح "نظام شرق أوسطي" يكرس الهيمنة الأمريكية عليها ويضمن التفوق الإسرائيلي المطلق.
وجاءت النقلة النوعية في تطور العلاقات التركية- الإسرائيلية ولا سيما في الجانب الأمني- العسكري لتثير العديد من الهواجس والريبة والظنون لدى العرب الذي أصبحوا غير مطمئنين للجار التركي على الرغم من تحمل العرب أنفسهم قسطاً من المسؤولية عما يجري بسبب خلافاتهم وتسابق بعض أطرافهم للتسوية السياسية مع إسرائيل في ظل غياب استراتيجية عربية موحدة.
إن التحالف التركي- الإسرائيلي ما هو إلا تعبير عما تختزنه النخبة السياسية والمؤسسة العسكرية التركية والإسرائيلية ويعد التحالف من موجبات الارتباط الجذري بين تركيا والاستخبارات الأمريكية وهو ارتباط يضم في دائرته تركيا وإسرائيل معاً كما وأن الاتفاق يتم بين طرفين حليفين للولايات المتحدة الأمريكية التي تنوي في إطار المتغيرات الدولية والإقليمية أن تنقل بعض أعبائها العسكرية عن النظام الشرق أوسطي المأمول إلى تركيا وإسرائيل وربما إلى غيرها من دول المنطقة أيضاً وبأسلوب النقل البطيء المتتابع الخطوات ومستمر المراحل يتناسب مع إيقاع خطوات التسوية وبقاء
النظام الشرق أوسطي.
ويشكل التحالف التركي- الإسرائيلي مقدمة لترتيبات أمنية إقليمية قد تنتهي إلى حلف شرق أوسطي يتم في إطار التزام أمريكي في الحفاظ على تفوق إسرائيل العسكري واحتكارها للسلاح النووي كرادع استراتيجي مما سيجعل الولايات المتحدة الأمريكية في مركز القابض على توازنات إقليمية وترتيبات أمنية جديدة في المنطقة يتفق مع الإستراتيجية العسكرية الأمريكية الجديدة القائمة على مباديء الدفاع الوقائي والردع والهيمنة والسعي لبناء منظومة أمنية في الوطن العربي ودول الجوار الجغرافي للحفاظ على المصالح الأمريكية وديمومتها.
وفي ظل هذه الأجواء تبدو الحاجة ملحة نحو إعادة رص الصف العربي وتجاوز الخلافات الثانوية بما قد يجبر تركيا على إعادة النظر في علاقاتها مع إسرائيل وبالشكل الذي يجعلها ذات طبيعة مقبولة نسبياً ولا تضر كثيراً بالمصالح العربية الحيوية وإشعار تركيا بأن مصالحها الإستراتيجية لا يمكن تأمينها إلا عبر البوابة العربية وليس الانجرار وراء مواقف تقع بالضد ذلك بما يؤدي إلى عزل تركيا ودفعها ضد العرب وضد نفسها فيربح أعداء العرب وأعداء تركيا وأعداء الإسلام بوجه عام.