ألفونسو السادس ذو الملتين
بعد أن استطاع ألفونسو إسقاط طليطلة في صفر سنة (487هـ=1085م)، علا وتجبَّر وتسمى بذي الملتين، وراح يستهين بملوك الطوائف، لا يُفَرِّق بين أحد منهم، وكانت خطوته التالية بعد طليطلة إخضاع إشبيلية لسلطانه، وكان ألفونسو -كما أوضحنا- قد اعتمد في إرهاق إشبيلية على الجزية والغارات المتواصلة، ولكن حدث أمر قلب موازين الأمور في الأندلس..
موقف تاريخي للمعتمد بن عباد
أرسل ألفونسو سفارة على رأسها وزير يهودي لأخذ الجزية من المعتمد بن عباد، وكان المعتمد قد تأخَّر عن موعد دفع الجزية لانشغاله بغزو ابن صمادح صاحب ألمرية، فغضب ألفونسو وطلب فوق الجزية أن يتسلم بعض الحصون، ثم بالغ في طلباته فطلب أن تلد امرأته جنينها في مسجد قرطبة، وأن تسكن في الزهراء؛ بحجة أن الأطباء أشاروا عليه بنقاء الهواء في الزهراء، كما أن القساوسة أشاروا عليه بهذا الموضع من الجامع، فرفض المعتمد هذه الطلبات، وإذ باليهودي -وهو مجرد رسول- يردُّ على المعتمد بكلام مهين أمام مجلسه ووزرائه[1].
وكعادة النفوس التي قد بقي بها شيء من عوالق الفطرة السوية، أخذت الغيرة المعتمد بن عباد، وبنخوة كانت مفقودة قام المعتمد على الله فضرب اليهودي وقطع رأسه وصلبه بقرطبة، واعتقل بقيَّة الوفد.
جُنَّ جنون ألفونسو السادس، وعلى الفور جمع جيشه وأتى بحدِّه وحديده، يُخَرِّب في أراضي إشبيلية، وبعث سراياه فعاثت في أراضي باجة ولبلة، وأحرق كل القرى حول حصن إشبيلية الكبير، ثم عاث في أراض شَذُونة وانحدر غربًا يُخَرِّب ويحرق، ثم فرض الحصار على إشبيلية[2].
حصار إشبيلية
فرض ألفونسو حصاره على إشبيلية (478هـ=1085م) بعد أن خرب أعمالها حرقًا ونهبًا، ثم بعث برسالة للمعتمد بن عباد مع رجل يُسَمَّى البرهانس، وهي رسالة مِلْؤُها الوعيد والانتقام، يقول له فيها:
«من الإمبراطور ذي الملتين الملك أذفونش بن شانجة إلى المعتمد بالله سدَّد الله آراءه، وبصَّره مقاصد الرشاد، قد أبصرتَ تَزَلْزُلَ أقطار طليطلة، وحصارها في سالف هذه السِّنين، فأسلمتم إخوانكم، وعطَّلتم بالدِّعة زمانكم، والحَذِر مَنْ أيقظ بالَهَ قبل الوقوع في الحِبَالة[3]، ولولا عهدٍ سَلَفَ بيننا نحفظ ذِمامه، ونسعى بنور الوفاء أمامه، لنهض بنا نحوكم ناهض العزم ورائده، ووصل رسول الغزو ووارده، لكن الإنذار يقطع الأعذار، ولا يعجل إلاَّ مَنْ يخاف الفَوْت فيما يرومه، وقد حمَّلنا الرسالة إليك السيد البرهانس، وعنده من التسديد الذي يلقى به أمثالك، والعقل الذي يُدَبّر به بلادك ورجالك، مما أوجب استنابته فيما يدقُّ ويجلُّ، وفيما يصلح لا فيما يخلُّ، وأنت عندما تأتيه من آرائك، والنظر بعد هذا من ورائك، والسلام عليك، يسعى بيمينك وبين يديك»[4].
رد المعتمد على ألفونسو
فلمَّا قدم الرسول أحضر المعتمد بن عباد أكابر القوم ووزراءه وفقهاءه، فلمَّا قرأ الكتاب بكى فقيه الأندلس أبو عبد الله بن عبد البر وقال: قد أُبْصِرنا ببصائرنا أنَّ مآل هذه الأموال إلى هذا، وأن مسالمة اللَّعين قوَّة بلاده، فلو تضافرنا لم نصبح في التِّلاف تحت ذلِّ الخلاف، وما بقي إلاَّ الرجوع إلى الله والجهاد.
ثمَّ أخذ المعتمد رسالة ألفونسو وكتب عليها: [الكامل]
«من الملك المنصور بفضل الله المعتمد على الله محمد بن المعتضد بالله، إلى الطَّاغية الباغية أدفونش الذي لَقَّب نفسه ملك الملوك، وتسمَّى بذي الملَّتَيْنِ، سلام على مَنِ اتَّبع الهُدى، فأول ما نبدأ به من دعواه أنه ذو الملَّتَيْنِ والمسلمون أحقُّ بهذا الاسم؛ لأنَّ الذي نملكه من نصارى البلاد، وعظيم الاستعداد، ولا تبلغه قدرتكم، ولا تعرفه ملَّتكم، وإنَّما كانت سِنَةُ سعدٍ اتَّعظ منها مُناديك، وأغفل عن النَّظر السَّديد جميل مُناديك، فركِبنا مركب عجز يشحذ الكيْس، وعاطيناك كئوس دَعَةٍ، قلت في أثنائها: لَيْس. ولم تستحي أن تأمر بتسليم البلاد لرجالك، وإنَّا لنعجب من استعجالك وإعجابك بِصُنْعٍ وافَقَكَ فيه القَدَر، ومتى كان لأسلافك الأخدمين مع أسلافنا الأكرمين يدٌ صاعدة، أو وقفة مساعدة، فاستعدَّ بحربٍ، وكذا وكذا... إلى أن قال: فالحمد لله الذي جعل عقوبة توبيخك وتقريعك بما الموت دونه، والله ينصر دينه ولو كره الكافرون، وبه نستعين عليك»[7].
طاول المعتمد على الله في التحصُّن، وفي محاولة لبثِّ الهزيمة النفسية في قلوب المسلمين والفتِّ في عضدهم أرسل ألفونسو السادس رسالة قبيحة أخرى إلى المعتمد على الله بن عباد يقول فيها: «كثُر بطول مقامي في مجلسي الذِّبَّان[8]، واشتدَّ علي الحرَّ فأتحِفْنِي من قصرك بمروحة أُرَوِّح بها عن نفسي، وأطرد بها الذباب عني».
يُريد وبكل كبرياء وغرور أن يُخبره أن أكثر ما يُضايقه في هذا الحصار هو الذباب أو البعوض، أمَّا أنت وجيشك وأمتك وحصونك فهي أهون عندي منه.
وبنخوة أخرى أخذ المعتمد على الله بن عباد الرسالةَ وقلبها، وكتب على ظهرها ردًّا وأرسله إلى ألفونسو السادس، ولم يكن هذا الردُّ طويلاً، إنه لا يكاد يتعدَّى السطر الواحد فقط، وما أن قرأه ألفونسو السادس حتى تَمَلَّكهُ الخوف والرعب والفزع وأخذ جيشه، ورجع من حيث أتى..
لم تكن رسالة المعتمد بن عباد إلاَّ قوله: قرأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللَّمْطِيَّة[9] في أيدي الجيوش المرابطية، تُريح منك لا تروح عليك إن شاء الله[10].
رفع الحصار عن إشبيلية
لم يكن أمام المعتمد على الله غير أسلوب التهديد هذا؛ فقط لوَّح بالاستعانة بالمرابطين، وقد كان ألفونسو السادس يعلم جيدًا مَنْ هم المرابطون، فهو مطَّلِع على أحوال العالم الخارجي، فما كان منه إلاَّ أن أخذ جيشه وانصرف وفضَّ حصار إشبيلية.
وهنا أيقن المعتمد فداحة جرمه وخطأه في دفع الجزية للنصارى، وإغارته على ممالك المسلمين، وقد أيقن أنه لا قِبَلَ له بألفونسو إلاَّ بالمرابطين، وقد استنكر عليه بعضهم، وقالوا له: المُلْكُ عَقِيمٌ[11]، والسيفان لا يجتمعان في غمد. فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة مثلاً: رعي الجمال خير من رعي الخنازير .
بعد أن استطاع ألفونسو إسقاط طليطلة في صفر سنة (487هـ=1085م)، علا وتجبَّر وتسمى بذي الملتين، وراح يستهين بملوك الطوائف، لا يُفَرِّق بين أحد منهم، وكانت خطوته التالية بعد طليطلة إخضاع إشبيلية لسلطانه، وكان ألفونسو -كما أوضحنا- قد اعتمد في إرهاق إشبيلية على الجزية والغارات المتواصلة، ولكن حدث أمر قلب موازين الأمور في الأندلس..
موقف تاريخي للمعتمد بن عباد
أرسل ألفونسو سفارة على رأسها وزير يهودي لأخذ الجزية من المعتمد بن عباد، وكان المعتمد قد تأخَّر عن موعد دفع الجزية لانشغاله بغزو ابن صمادح صاحب ألمرية، فغضب ألفونسو وطلب فوق الجزية أن يتسلم بعض الحصون، ثم بالغ في طلباته فطلب أن تلد امرأته جنينها في مسجد قرطبة، وأن تسكن في الزهراء؛ بحجة أن الأطباء أشاروا عليه بنقاء الهواء في الزهراء، كما أن القساوسة أشاروا عليه بهذا الموضع من الجامع، فرفض المعتمد هذه الطلبات، وإذ باليهودي -وهو مجرد رسول- يردُّ على المعتمد بكلام مهين أمام مجلسه ووزرائه[1].
وكعادة النفوس التي قد بقي بها شيء من عوالق الفطرة السوية، أخذت الغيرة المعتمد بن عباد، وبنخوة كانت مفقودة قام المعتمد على الله فضرب اليهودي وقطع رأسه وصلبه بقرطبة، واعتقل بقيَّة الوفد.
جُنَّ جنون ألفونسو السادس، وعلى الفور جمع جيشه وأتى بحدِّه وحديده، يُخَرِّب في أراضي إشبيلية، وبعث سراياه فعاثت في أراضي باجة ولبلة، وأحرق كل القرى حول حصن إشبيلية الكبير، ثم عاث في أراض شَذُونة وانحدر غربًا يُخَرِّب ويحرق، ثم فرض الحصار على إشبيلية[2].
حصار إشبيلية
«من الإمبراطور ذي الملتين الملك أذفونش بن شانجة إلى المعتمد بالله سدَّد الله آراءه، وبصَّره مقاصد الرشاد، قد أبصرتَ تَزَلْزُلَ أقطار طليطلة، وحصارها في سالف هذه السِّنين، فأسلمتم إخوانكم، وعطَّلتم بالدِّعة زمانكم، والحَذِر مَنْ أيقظ بالَهَ قبل الوقوع في الحِبَالة[3]، ولولا عهدٍ سَلَفَ بيننا نحفظ ذِمامه، ونسعى بنور الوفاء أمامه، لنهض بنا نحوكم ناهض العزم ورائده، ووصل رسول الغزو ووارده، لكن الإنذار يقطع الأعذار، ولا يعجل إلاَّ مَنْ يخاف الفَوْت فيما يرومه، وقد حمَّلنا الرسالة إليك السيد البرهانس، وعنده من التسديد الذي يلقى به أمثالك، والعقل الذي يُدَبّر به بلادك ورجالك، مما أوجب استنابته فيما يدقُّ ويجلُّ، وفيما يصلح لا فيما يخلُّ، وأنت عندما تأتيه من آرائك، والنظر بعد هذا من ورائك، والسلام عليك، يسعى بيمينك وبين يديك»[4].
رد المعتمد على ألفونسو
ثمَّ أخذ المعتمد رسالة ألفونسو وكتب عليها: [الكامل]
الذُّلُّ تَأْبَاهُ الْكِرَامُ وَدِينُنَا
لَكَ مَا نَدِينُ بِهِ مِنَ الْبَأْسَاءِ
سُمْنَاكَ سِلْمًا مَا أَرَدْتَ وَبَعْدَ ذَا
نَغْزُوكَ فِي الإِصْبَاحِ وَالإِمْسَاءِ
اللهُ أَعْلَى مِنْ صَلِيبِكَ فَادَّرِعْ
لِكَتِيبَةٍ خَطَبَتْكَ فِي الْهَيْجَاءِ
سَوْدَاءَ غَابَتْ شَمْسُهَا فِي غَيْمِهَا
فَجَرَتْ مَدَامِعُهَا بِفَيْضِ دِمَاءِ
مَا بَيْنَنَا إِلاَّ النِّزَالُ وَفِتْنَةٌ
قَدَحَتْ زِنَادَ الصَّبْرِ فِي الْغَمَّاءِ[5]
فَلَتَقْدُمَنَّ إِذَا لَقِيتَ أَسِنَّةً
زُرْقًا تُرَى بِالْوَجْنَةِ الْوَجْنَاءِ[6]
ثم قال:لَكَ مَا نَدِينُ بِهِ مِنَ الْبَأْسَاءِ
سُمْنَاكَ سِلْمًا مَا أَرَدْتَ وَبَعْدَ ذَا
نَغْزُوكَ فِي الإِصْبَاحِ وَالإِمْسَاءِ
اللهُ أَعْلَى مِنْ صَلِيبِكَ فَادَّرِعْ
لِكَتِيبَةٍ خَطَبَتْكَ فِي الْهَيْجَاءِ
سَوْدَاءَ غَابَتْ شَمْسُهَا فِي غَيْمِهَا
فَجَرَتْ مَدَامِعُهَا بِفَيْضِ دِمَاءِ
مَا بَيْنَنَا إِلاَّ النِّزَالُ وَفِتْنَةٌ
قَدَحَتْ زِنَادَ الصَّبْرِ فِي الْغَمَّاءِ[5]
فَلَتَقْدُمَنَّ إِذَا لَقِيتَ أَسِنَّةً
زُرْقًا تُرَى بِالْوَجْنَةِ الْوَجْنَاءِ[6]
«من الملك المنصور بفضل الله المعتمد على الله محمد بن المعتضد بالله، إلى الطَّاغية الباغية أدفونش الذي لَقَّب نفسه ملك الملوك، وتسمَّى بذي الملَّتَيْنِ، سلام على مَنِ اتَّبع الهُدى، فأول ما نبدأ به من دعواه أنه ذو الملَّتَيْنِ والمسلمون أحقُّ بهذا الاسم؛ لأنَّ الذي نملكه من نصارى البلاد، وعظيم الاستعداد، ولا تبلغه قدرتكم، ولا تعرفه ملَّتكم، وإنَّما كانت سِنَةُ سعدٍ اتَّعظ منها مُناديك، وأغفل عن النَّظر السَّديد جميل مُناديك، فركِبنا مركب عجز يشحذ الكيْس، وعاطيناك كئوس دَعَةٍ، قلت في أثنائها: لَيْس. ولم تستحي أن تأمر بتسليم البلاد لرجالك، وإنَّا لنعجب من استعجالك وإعجابك بِصُنْعٍ وافَقَكَ فيه القَدَر، ومتى كان لأسلافك الأخدمين مع أسلافنا الأكرمين يدٌ صاعدة، أو وقفة مساعدة، فاستعدَّ بحربٍ، وكذا وكذا... إلى أن قال: فالحمد لله الذي جعل عقوبة توبيخك وتقريعك بما الموت دونه، والله ينصر دينه ولو كره الكافرون، وبه نستعين عليك»[7].
طاول المعتمد على الله في التحصُّن، وفي محاولة لبثِّ الهزيمة النفسية في قلوب المسلمين والفتِّ في عضدهم أرسل ألفونسو السادس رسالة قبيحة أخرى إلى المعتمد على الله بن عباد يقول فيها: «كثُر بطول مقامي في مجلسي الذِّبَّان[8]، واشتدَّ علي الحرَّ فأتحِفْنِي من قصرك بمروحة أُرَوِّح بها عن نفسي، وأطرد بها الذباب عني».
يُريد وبكل كبرياء وغرور أن يُخبره أن أكثر ما يُضايقه في هذا الحصار هو الذباب أو البعوض، أمَّا أنت وجيشك وأمتك وحصونك فهي أهون عندي منه.
وبنخوة أخرى أخذ المعتمد على الله بن عباد الرسالةَ وقلبها، وكتب على ظهرها ردًّا وأرسله إلى ألفونسو السادس، ولم يكن هذا الردُّ طويلاً، إنه لا يكاد يتعدَّى السطر الواحد فقط، وما أن قرأه ألفونسو السادس حتى تَمَلَّكهُ الخوف والرعب والفزع وأخذ جيشه، ورجع من حيث أتى..
لم تكن رسالة المعتمد بن عباد إلاَّ قوله: قرأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللَّمْطِيَّة[9] في أيدي الجيوش المرابطية، تُريح منك لا تروح عليك إن شاء الله[10].
رفع الحصار عن إشبيلية
لم يكن أمام المعتمد على الله غير أسلوب التهديد هذا؛ فقط لوَّح بالاستعانة بالمرابطين، وقد كان ألفونسو السادس يعلم جيدًا مَنْ هم المرابطون، فهو مطَّلِع على أحوال العالم الخارجي، فما كان منه إلاَّ أن أخذ جيشه وانصرف وفضَّ حصار إشبيلية.
وهنا أيقن المعتمد فداحة جرمه وخطأه في دفع الجزية للنصارى، وإغارته على ممالك المسلمين، وقد أيقن أنه لا قِبَلَ له بألفونسو إلاَّ بالمرابطين، وقد استنكر عليه بعضهم، وقالوا له: المُلْكُ عَقِيمٌ[11]، والسيفان لا يجتمعان في غمد. فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة مثلاً: رعي الجمال خير من رعي الخنازير .