السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كنتُ نشرتُ سابقًا في هذا القسم بحثًا نقديًا بعنوان رابطه: فتوى الأمير عبد القادر في وجوب الهجرة إلى دار الإسلام
وطلب مني بعض الإخوة النص الكامل لتلك الرسالة
واليوم أضع بين أيديكم نص تلك الرسالة مضبوطا من عدة نسخ موجودة في مكتبة الرباط بالمغرب والظاهرية بدمشق
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وسلَّم تسليمًا
هذا ((حسام الدين، لقطع شبه المرتدين))
أجوبة أمير المؤمنين: سيدنا الحاج عبد القادر بن محيي الدين.
كنتُ نشرتُ سابقًا في هذا القسم بحثًا نقديًا بعنوان رابطه: فتوى الأمير عبد القادر في وجوب الهجرة إلى دار الإسلام
وطلب مني بعض الإخوة النص الكامل لتلك الرسالة
واليوم أضع بين أيديكم نص تلك الرسالة مضبوطا من عدة نسخ موجودة في مكتبة الرباط بالمغرب والظاهرية بدمشق
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وسلَّم تسليمًا
هذا ((حسام الدين، لقطع شبه المرتدين))
أجوبة أمير المؤمنين: سيدنا الحاج عبد القادر بن محيي الدين.
الحمد لله حمدًا يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، اللهم صلِّ وسلِّم على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد
اللهم إني أعوذ بك من معضلات الفتن؛ ونضرع إليك يا مُقلب القلوب أن تثبِّت قلوبنا على دينك.
وبعد يا أخي: فإني رأيتك متعطشًا لسماع كلام سادتنا في هؤلاء الذين رَكَنوا إلى الكافر، ودخلوا تحت ذمته: شعوبًا وقبائل، أصاغر وأكابر . فأحببت لذلك أن أذكر لك بعض ما هنالك.
ولولا رؤيتي لشدة عطشك و أوامك([1])ما ذَكَرْتُه لك، إذ ربما تُفني في الكلام معهم باقي أيامك.
وتَعَبُكَ في استصلاحهم تعبٌ في إصلاح الفاسد، وضربٌ في الحديد البارد. وكلاهما لا تحصل منه على طائل ولو في الزمان المتطاول: ((وهل يُصْلِحُ العطَّارُ ما أفسدَ الدَّهْرُ!))
إذ الراكن إلى الكفار، الداخل تحت ذمة أهل البوار، واحدٌ من رجلين: إما رجل كذَّب الله في ضمانه لرزقه –نعوذ بالله من كفره وحمقه- وقال: إنْ هاجرتُ متُّ جوعًا، فازداد بذلك هلوعًا، واعتقد أن وطنه هو رازقه، لا موجده وخالقه.
وإما رجل متكالب على الدنيا، أعماه وأصمَّه حبها، يريد الظفر بها، سواء كانت مع الكفر أو مع الإسلام. وكلا هذين لا يرجى صلاحهما ولا يؤمل نجاحهما: {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم}. {إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء}. {فإن الله لا يهدي من يضل}. وهذه الفِتن سُنَّةُ الله التي قد خَلَت في عباده. وحكمته الجارية في أرضه وبلاده، ليتبين الصادق من المدعي:
((من ادَّعى ما ليس فيه، فضحته شواهد الامتحان)): {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}. ليظهر ذلك إلى الخلائق؛ وإلا فالله يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون. فعلمه تعالى محيطٌ بالكليات والجزئيات، قبل إيجادها وبعده.{أم حسبتم أن تتركوا. .} يعني: من غير امتحان واختبار. والاستفهام هنا إنكاري، أنكر عليهم تعالى أن يظنوا أن الله لا يختبرهم ولا يمتحنهم، بل لا بد من الامتحان والاختبار. {..ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم، ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة...}.
يعني: أن الله يمتحن عباده ويختبرهم، حتى يتبين للناس الذي لا يتخذ وليًا ولا نصيرًا من دون الله ورسوله والمؤمنين؛ من الذي يتخذ ذلك. ونعوذ بالله من المهالك.{ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين}. الآية ... {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}.
ولعل هذا الزمان أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى ابن ماجه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((تأتي فتن في آخر الزمان، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا؛ إلا من أجاره [أحياه] الله بالعلم)). وفي رواية: ((بعلمه)). ولقد ظهر في أهل هذا الوقت مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (("لتتبِعُّنَّ سنن الذين من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع؛ حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال:"ومن؟")). رواه البخاري في صحيحه.
لأن أهل هذا الوقت كانوا يتمنون مجيء النصارى ويطلبونه، ليجاهدوا، فلما ظهر الجهاد نكصوا على أعقابهم. فهم في هذا كبني إسرائيل {إذ قالوا لنبيءٍ لهم ابعث لنا مَلِكًا نقاتل في سبيل الله. قال: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا؟ قالوا: وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟ فلما كتب عليهم تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين}([2]).
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية. وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب}. ثم بعد هذا أرادوا من سلطانهم أن يجاهد وحده، ويتكلف ردَّ العدو عنهم وحده. فهم في هذا -أيضًا- كبني إسرائيل، إذ قالوا لموسى: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}.
ثم بعد هذا صاروا رِدْءًا لِعَبَدَةِ الأصنام ومعينين لهم؛ إمَّا بالأنفس، أو بالأموال، أو بهما على من بقي مستمسكًا بعروة الإسلام. وأعظم هؤلاء ذنبًا، وأشدهم هلاكًا وأبعدهم نجاة، وأكثرهم في هذا الأمر سقوطًا واستهلاكًا رجلان: أحدهما رجل عَرَفَ الحق وعاند. وهو أول من تُسَعَّر به النار، إذ هو عالم لم ينفعه الله بعلمه. وجَحْدُ الحق -مع معرفته حقًّا- أصلٌ من أصول الكفر. ومنه كفر الموجودين في زمانه صلى الله عليه وسلم المشاهدين لمعجزاته. قال تعالى فيهم:{فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}. وهذا أعظم الضلال والداء العضال. {وأضله الله على علم}، أي: مع علم. {وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة}. فبعد الختم لا ترجى زيادة ولا نقص في الشيء المختوم عليه.
والآخررجل قرأ بعض أبواب الفقه، فعلم بعض أحكام الصلاة والنكاح والبيوع، فظن أنه وصل إلى غاية يستحق أن يسمى بها عالماً. وصار يقول في دين الله ما ليس له به علم. ويفتري على الله الكذب. {ومن أظلم ممن افترى على كذبًا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون}. ويستدل بآيات وأحاديث وكلام الأيمة، وهو مع ذلك لا يحسن النطق والتلفظ بمبانيها، فكيف بالغوص على معانيها؟ فالحمار أحسن حالاً من هذا؛ إذ جهل الحمار بسيط وجهله مركب:
قال حمار الحكيم توما **** لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جـاهل بسـيط **** وراكبي جـاهل مركب
لأنني جـاهل بسـيط **** وراكبي جـاهل مركب
والجهل المركَّب أصلٌ من أصول الكفر الستة . فجَمَعَ هذا الصنف -مع قبح ما هم عليه من الدخول تحت ذمة الكفار- استحلال ما حرم الله من ذلك. وجعلوا ما ورد في القرآن والسنة من ذكر (الهجرة) ومدحها ووجوبها عبثًا ومنسوخًا. لا بكلام الله ولا بكلام رسوله؛ بل بأباطيلهم وأقاويلهم الأفيكة. فكيف ذلك والقرآن مملوء بذكر (الهجرة) ومدحها وذم تاركها؟ وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تنقطع الهجرة حتى يغلق باب التوبة، ولا يغلق باب التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها))([3]). أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وقال عليه الصلاة والسلام: ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين))([4]). رواه أصحاب الصحاح الستة ما عدا البخاري. قال السيوطي في كتاب (المحاضرة)([5]): ((ما تبرأ منه صلى الله عليه وسلم إلا لِكُفْرِه)). وفي الصحيح: ((من جامعهم أو ساكنهم فهو منهم))([6]) قالوا: لم يا رسول الله؟ قال: ((لا تتراءى ناراهما))([7]). وقال مالك رضي الله عنه: "تجب الهجرة من أرض الظلم والعدوان، فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمن، وتعبد فيه من دونه الأوثان؟".
وعجزُ المسلم عن حمل أهله وولده لا يبيح له التخلف عن الهجرة، بل يهاجر بنفسه. وقد هاجر صلى الله عليه وسلم بنفسه، لما تعذر عليه إخراج أهله معه. وما لحقوه إلا بعد حين. وكذا إن خاف إن هاجر يسلب من ماله. نص عليه غير واحد، كما ذكر صاحب (المعيار)([8]). وقال ابن مرزوق في جواب سؤال نقله صاحب (المعيار): ((الضرورات التي يجب حفظها خمس وهي على الترتيب: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. فكل واحد من هذه الضرورات يجب حفظها، ما لم يعارضه حفظ ما قبلها في المرتبة. فإذا عارضه يسقط وجوب حفظ المؤخر، وبقي وجوب حفظ المقدم في المرتبة. فيجب حفظ المال، ما لم يعارضه وجوب حفظ النسل. فإذا عارضه سقط وجوب حفظ المال، وبقي وجوب حفظ النسل، مالم يعارضه وجوب حفظ العقل. فإذا عارضه سقط وجوب حفظ النسل، وبقي وجوب حفظ العقل، وهكذا)).
فانظر إلى هذا الذي طبع الله على قلبه وأعماه الجهل والحرص على الدنيا، كيف جعل حفظ المال الذي هو آخر المراتب الخمس مقدمًا على الدين الذي هو أول المراتب.
وكذا تجب الهجرة على المرأة، إن لم يهاجر زوجها. وقد هاجر كثير من النساء إلى (الحبشة) قبل هجرته صلى الله عليه وسلم وإلى (المدينة)، بعد هجرته صلى الله عليه وسلم. وفيهن أنزل الله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحونهن، الله أعلم بإيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار}. ولم يعذر الله تعالى في المقام تحت ذمة الكافر إلا الذي لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً. مَثَّله سادتنا بـ (الأعمى) الذي لا يجد قائدًا، وبـ (الزَّمِن) الذي لا يجد حاملاً مع نيتهما أنهما مهما وجدا ذلك هاجرا. فإن تَرَكا نِيَّةَ ذلك وماتا بلا توبة، ماتا على غير السنة والكتاب العزيز الذي{لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه}.
فاحذر من مخالطة الكفار وموالاتهم ومودَّاتهم. قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادًا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل}. وقال تعالى:{إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم مكن دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}. وقال تعالى:{بشر المنافقين بأن لهم عذابًا أليمًا الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعًا}.
فهذه الآي القرآنية كلها، أو أكثرها، نصوص في تحريم الموالاة الكفرانية. ومن خالف في ذلك ورام الخلاف من المقيمين معهم والراكنين إليهم بجواز هذه الإقامة، واستخف أمرها واستسهل حكمها، فهو مارق من الدين، ومفارق لجماعة المسلمين، ومحجوج بما لا يدفع فيه المسلم، ومسبوق بـ (الإجماع) الذي لا سبيل إلى مخالفته وخرق سبيله.
فبين الله تعالى المنافقين بقوله:{الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ...} إلى غير ذلك من الآي والأحاديث القاطعة الصريحة، التي لا تحتمل تأويلاً.
وقد ذكر الونشريسي في ((المعيار المعرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب)) في باب الجهاد: أن هؤلاء المقيمين تحت ذمة النصارى لا تصح لهم صلاة ولا زكاة ولا صوم ولا حج، ووجّه ذلك بوجوه. فانظرها فيه ، فقد طال عهدي به.
منها: أن الزكاة شرطها أن تدفع إلى الإمام. فإذا دفعت إلى النصارى يستعينون بها على المسلمين كانت المصيبة أشد. ومنها: أن الصيام لا يثبت في الغالب إلا برؤية عدلين، والعدالة إنما تثبت عند الإمام أو قاضيه. وحيث لا إمام ولا قاضي فلا صيام. إلى غير ذلك من الوجوه.
نعم، بلغني عن هؤلاء (المتفقهة الذين أفتوا بغير علم، فضلُّوا وأضلوا: المعنيون بقوله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي على الناس زمان عالمهم أنتن من جيفة حمار))([9]). وأنهم يستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم : ((لا هجرة بعد الفتح؛ ولكن جهاد ونية، وإذا استُنفرتم فانفروا)). رواه البخاري في صحيحه. وهذا لا حجة لهم فيه؛ إذ هذا قاله صلى الله عليه وسلم لسائل سأله عن الهجرة من (مكة) إلى (المدينة)، بعد فتح (مكة)، فأجابه بأن الهجرة الواجبة من (مكة) إلى (المدينة) قد سقطت بالفتح. وقد كانت الهجرة قبل الفتح واجبة على كل مسلم بمكة. فنسخت كما نسخت حرمة رجوع المهاجر إلى وطنه، لو عاد دار إسلام.
وأما وجوب الهجرة من دار الكفار إلى دار الإسلام، فهو باق إلى طلوع الشمس من مغربها. وكذلك يستدلون بقوله تعالى: {إلا أن تتقوا منهم تقاة}. وهذه الآية منسوخة. روى البخاري في صحيحه من كتاب التفسير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ((لا تقية اليوم))، لاتساع بلاد الإسلام([10]).
وكذا يستدلون بقوله تعالى:{إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}، والآية إنما وردت فيمن يظفر به الكفار من غير اختيار، كالأسير. إذا حملوه على معصية، أو نطق بكفر؛ يسوغ له ذلك. وصبره أجمل. أما كونه متمكنًا من الفرار، وبقي تحت حكمهم، فلم يقل به مسلم.
وكذلك يستدلون بما ذكره البيضاوي في تفسير قوله تعالى:{قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}. فإنه قال: ((في الآية دليل على جواز التولية على يد الكافر، إذا رجى في ذلك صلاحًا)). انتهى كلام البيضاوي.
وهذه القولة لا نقلده فيها، فإن النصوص الصحيحة الصريمة متضافرة على حرمة موالاتهم وموادتهم ومساكنتهم. فكيف بالولاية على أيديهم؟! وعلى تقدير تسليمها منه؛ إنما يكون ذلك فيمن كان تحت أسرهم، فإن يوسف عليه السلام كان مملوكًا لهم في قبضتهم.
فيجوز لمن كان تحت أسر الكفار أن يطلب منهم ذلك؛ إذ بعض الشر أهون من بعض. ويوسف عليه السلام أبوه الخليل هو أول من سن الهجرة، فقد روى البخاري في صحيحه: ((أن إبراهيم عليه السلام خرج مهاجرًا ومعه (سارة)، فدخل قرية فيها جبار من الجبابرة)) الخ ....
على أن البيضاوي معدود في أشياء كثيرة من (المعتزلة). وقد حذّر سادتنا المحققون كسيدي محمد السنوسي وغيره من النظر في كتبه، كـ (طوالعه)([11]).
وقد تبع الزمخشري في تفسيره هذا في أشياء كثيرة بيَّنها بعض محشيه، كالشيخ أحمد (التلمساني في حاشيته) وكذا يستدلون بما نقل عن النووي والرافعي : أن المسلم إذا كانت له عشيرة تحميه أو له جاه، لا يجب عليه الهجرة؛ ولكن تستحب في حقه. وهذا أيضًا لا دليل فيه، لأن كلام النووي والرافعي فيمن كان كافرًا في دار الحرب ثم أسلم، وكان لا يخاف الفتنة في دينه، لحماية عشيرته أو جاهه، بحيث لو أراد الكفار ذلك لم يقدروا، لتوفر عصبته، فيأمن لذلك من الفتنة. أما من كان مسلمًا في دار الإسلام ودخل عليه الكفار، فلا يتصور أن تكون له عشيرة تحميه أو جاه يأمن به على دينه من الفتنة، مهما أرادها الكفار منه.
وهل يوجد واحد من هذه الشعوب والقبائل الداخلة تحت الكفار، من له عشيرة تحميه من الكفار إذا أرادوا إجراء حكم من أحكامهم عليه؟، أو يأمن الفتنة منهم بهذين الوجهين اللذين ذكرهما الرافعي والنووي؟ اللهم إلا أن يكون أحمق ضعيف العقل، فيأمنهم وثوقًا منه بعهودهم ومواثقهم. كيف؟ والشرع الحكيم لم يقبل شهادتهم بالإضافة إليهم. فكيف بالإضافة إلينا؟! وكأن هذا الأحمق لم يصل إليه خبر الأندلس، خصوصًا أهل (قرطبة) فإنهم تعاقدوا مع الكافر لما غلبهم على نيّف وستين شرطًا اشترطوها عليه، فلم يحلِ الحول عليها حتى نقضها عروة عروة إلى أن صار يأتي المسلم، فيقول له: ((إن أباك أو جدّك أو جدّ جدك كان كافرًا، فارجع إلى الكفر، واترك دين الإسلام)). إلى غير ذلك.
ثم بلغني عن بعض هؤلاء أنهم يقولون: إن الهجرة واجبة؛ لكن عارضها وجوب حفظ المال. فإذا خاف المسلم الذي تحت ذمة الكفار على ماله إذا هاجر تسقط الهجرة عنه.
وهذا هو العمى والجهالة والغواية والضلالة. فاحتقر ما عظم من المحافظة على الدين، واستعظم ما احتقره الله، من الدنيا التي لا تزن عنده جناح بعوضة، ولا نظر إليها منذ خلقها، بغضًا لها واحتقارًا. وكان هذا ممن يمزقون أديانهم لترقيع دنياهم:
نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا **** فلا دينُنا يبقى ولا ما نرقّعُ
ومن الأحكام الجارية على ألسنة العوام: ((اللهم في الأموال ولا في الأبدان. اللهم في الأبدان ولا في الأديان)). ولهوان دين هذا عليه، جعل حفظ المال مقدمًا على حفظ الدين. نسأل الله السلامة. وقد قدمنا في النقل عن صاحب (المعيار)، نقلاً أن المال ليس بعذر في ترك الهجرة، مع أنه قد تقرر عند أئمتنا أن الضرورات الخمس التي يجب حفظها؛ إنما يجب حفظها على الترتيب. فإذ كان حفظ المقدم في الرتبة يعارض حفظ ما بعده، يسقط وجوب حفظ المؤخر. ويبقى وجوب حفظ ما قبله. والضرورات الخمس على الترتيب، هي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
فالدين أول المراتب، والمال آخرها. فكيف جعل البليد الآخِرَ أوَّلاً؟! هذا مما لا يعقل. فحفظ المال واجب، ما لم يعارضه حفظ النسل. فإن عارضه سقط وجوب حفظ المال، وبقي حفظ النسل. وكذا يجب حفظ النسل، ما لم يعارضه حفظ العقل. فإن عارضه سقط وجوب حفظ النسل، وبقي حفظ العقل وكذا يجب حفظ العقل، ما لم يعارضه حفظ النفس فإن عارضه وجوب حفظ النفس، سقط وجوب حفظ العقل وبقي حفظ النفس. وكذا يجب حفظ النفس، ما لم يعارضه حفظ الدين، وهكذا على الترتيب. وقد تكلم على هذه المسألة الإمام ابن مرزوق في جواب سؤال سئل عنه، ولم يحضرني.
فإن قال ضعيف العقل والدين: إن الكفار لم يأمروا المسلمين الذين تحت ذمتهم بترك الدين وتغييره، فإن الأمر بذلك متوقع منهم. وقد تقرر في القواعد الشرعية التي بني عليها مذهب (مالك): هل المتوقع كالواقع أو لا؟ وعلى أنه كالواقع بني كثير من أحكام الصلاة وغيرها: كالجمع على توقع المطر.
الغالب على الكفار أن يأمروا بذلك، إذ لو لم يأمروا بذلك ما انمحى رسم الإسلام من (الجزيرة)([12]) و(صقلية) وغيرهما من المواضع التي استولى عليها الكفار حتى لم يبق فيها مسلم واحد. والغالب كالمحقق. ففي القواعد: هل الغالب كالمحقق أو لا؟ الصحيح أنه كالمحقق. وعلى ذلك بني كثير من أحكام الطهارة وغيرها).
ومن شنيع حمق هؤلاء وضعف عقولهم أنهم يسمون طاعتهم للكفار مهادنة. وهل يسوغ لمن له أدنى عقل أن يتلفظ بذلك؟!
كيف؟ وأحكام الكافر وشرائعه وتصرفاته جارية على شريفهم ووضيعهم، ويؤدون إليه المغارم، ويحملون أثقاله إذا أراد الغزو على المسلمين، ويقاتلونهم معه. هذا والله! لهذيان لا يعقل.
على أن (المهادنة) خاصة بالإمام أو نائبه، فلا يعقدها سواهما، ولذا قال خليل: ((وللإمام المهادنة)). يعني: لا غيره، فقدم الخبر مع جره باللام. وكلاهما يفيد الحصر والاختصاص. ومن هؤلاء المقيمين تحت حكم النصارى من يدعي أنه ممن عذره الشرع من المستضعفين، ومنهم من يدعي أن لا يجد إلى الهجرة سبيلاً لأخذ النصارى له بالمرصاد، وأنه في حكم الأسير. وهذان الصنفان إن صدقا في دعواهما لا يجوز لهما أن يتزوجا؛ إن لم يكونا متزوجين، وأن لا يطآ؛ إن كانا متزوجين.
قال صاحب (المغني): ((ظاهر كلام أحمد أن الأسير لا يحل له التزويج ما دام أسيرًا، لأنه منعه من وطء امرأته إذا أسرت معه. وهذا قول الزهري، فإنه قال: لا يحل للمسلم أن يتزوج ما دام في أيدي العدو. وقال الحسن بذلك. وأما لو دخل إليهم بالأمان كالتاجر ونحوه، فلا ينبغي له أن يتزوج، لأنه لا يأمن أن تأتي امرأته بولد، فيتولى عليه الكفار. وربما نشأ بينهم، فيصير على دينهم. وإن غلبت عليه الشهوة يتزوج ويعزل منها، لئلا تأتي بولد. وإذا اشترى منهم جارية لا يطؤها في الفرج في أرضهم، مخافة أن يغلبوه على ولدها، فيسترقوه ويكفروه)).
ثم اعلم أن هذه المصيبة التي هي ظهور الكفار (على بلاد المسلمين) –حتى دخل المسلمون تحت ذمتهم- لم تكن في القرن الأول، ولا في القرن الثاني، ولا في الثالث، ولا في الرابع؛ وإنما حدثت في الخامس وبعده. ولذا لم يوجد فيها قول لواحد من الأيمة: كـ(مالك) وأضرابه. ولما حدثت في الخامس ووقع السؤال عنها، قاسها سادتنا أهل النظر والاجتهاد على (مسألة من أسلم ولم يهاجر). قال ابن رشد: وهو قياس صحيح، وقد اختلف الأيمة فيمن أسلم ولم يهاجر، فقال بعضهم: ماله وولده فيء؛ إذ العاصم الدار، يعني: (دار الإسلام). وقال بعضهم: لا. وهذا الخلاف فيمن أقام تحت ذمتهم، ولم تحصل منهم إعانة للكافر، لا بالنفس ولا بالمال. أما إذا أعانهم بماله بأن أخذوه منه مغرمًا كرهًا، أو بايعهم، أو شاركهم ولو في أقل شيء فقال ابن الحاج الأندلسي، معاصر ابن رشد: ((يباح ماله، وكذا إن أعانهم بنفسه يباح دمه)). وأما سبيهم، فقال ابن الحاج: ((الأرجح سبي ذراريهم، ليعيشوا في دار الإسلام آمنين من الفتنة))اهـ.
وأما الذين يعتضدون بالكفار ويطلبون منهم الغزو على المسلمين، ويستجيشون بهم فهم مرتدون والعياذ بالله! قال البرزلي في (موازنه): ((أحفظُ أن أمير المؤمنين: يوسف بن تاشفين استفتى علماء (العدوة) في المعتمد بن عباد فاتفقت فتواهم على أن مجرد الاستجاشة بالكفار على المسلمين ردة))اهـ.
يعنون: ولو لم يحصل مطلوبهم، والمعتمد بن عباد هذا كان من أمراء الأندلس، واستجاش بالطاغية على يوسف المذكور، فنصر الله المسلمين، وظفر به يوسف. وقال بعض شراح (الرسالة): ((الفرار من دار الإسلام إلى دار الحرب ردة)). قال تعالى:{ومن يتولهم منكم فإنه منهم}. قال المفسرون: التولية بالمعاضدة والممازجة. وقال تعالى:{ترى كثيرًا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبيء وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرًا منهم فاسقون}. وإذ قلنا بردتهم كما افتى به سادتنا ففي سبي نسائهم وذراريهم خلاف. فـالذي ذهب إليه كثير من الفقهاء أنه لا سبي في نسائهم وذراريهم، وهو الذي ذهب إليه (خليل)، حيث قال: ((وإن ارتدت جماعة وحاربوا، فكالمرتدين))، وقال ابن وهب من المالكية وجمهورُ الشافعية: المرتد يسبى كالكافر الأصلي. وهو حكم أبي بكر الصديق رضي الله عنه في المرتدين. فإنه حكم بسبيهم، وأعطى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أم محمد بن الحنفية ووطئها بملك اليمن. قال ابن حجر: ((إن قول ابن بطال: الإجماع على أن المرتد لا يسبى منقوض بمذهب ابن وهب وجمهور الشافعية)).
وخالف عمر أبا بكر رضي الله عنهما فإنه أطلق سراح المرتدين بعد موت أبي بكر رضي الله عنه وكانوا في الرق. وقال بعض العلماء: لا خلاف بين أبي بكر وعمر في سبي المرتدين، فحكم المن عليهم ليس مناقضًا لحكم أبي بكر في استرقاقهم؛ إذ الإمام مخير بين الاسترقاق والمنّ، فأبو بكر استرقهم وعمر منّ عليهم ولا تناقض في ذلك.
وإذا قتل الغزاة نساء هؤلاء المتنصرة الذين تحت ذمة النصارى وصبيانهم، من غير قصد لهم بأن بيَّتهم المجاهدون ليلاً، كالغارة وقت الفجر؛ عند اجتماع الناس في البيوت، فلا حرج على قاتلهم، ولا إثم. وقد عقد البخاري لذلك بابًا، فقال: (باب أهل الدار يبيتون وفيهم النساء والصبيان). ثم ساق الحديث على أنه لا بأس بذلك. والكفر ليس هو خاص بترك الشهادتين؛ بل يكون بالقول، والفعل الذي يقتضيه. وهؤلاء المعتضدون بالنصارى الداخلون تحت ذمتهم يحبون نصرة النصارى على المسلمين، ويفرحون كلهم بها: رجالا ونساء. وهذا كفر نسأل الله السلامة!. والمرأة إذا ارتدت، فقال الكثير من الفقهاء: تقتل كالرجل. وقال أشهب: تسترق. نقله منه ابن التلمساني في حاشيته على الشفا.
قال ابن العربي أبو بكر: ومنشأ الخلاف في ذلك أن قتل الكافر هل هو لكفره أو لحرابته. فأما من قال لكفره قال بقتل الرجل والمرأة، وأما من قال لحرابته فلا تقتل المرأة، لا أنها لا تحارب.
وفي هذا كفاية {لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
تم –بحمد الله وحسن عونه- ما قصدناه جوابًا لسؤال بعض المحبين، وقطعًا لشبه المرتدين، ونحن مرابطون ولا كتاب معنا إذ ذاك. وفي حجة الحرام خاتم ثمانية وخمسين ومئتين وألف([13]) من هجرة حائز كمال الفخر والشرف صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
انتهت بحمد الله وحسن عونه وتوفيقه.
[1]ـ حرارة العطش
[2]- سورة (البقرة) الآية 246.وهي برواية ورش عن نافع المدني.[3]- رواه أحمد، وأبو داود.
[4]- رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي.
[5]- هو كتاب ((حسن المحاضرة، في تاريخ مصر والقاهرة)). مطبوع.
[6]- رواه البزّار، والترمذي، والحاكم، والطبراني، والبيهقي.
[7]- هي تتمة الحديث السابق (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين).
[8]- هو كتاب (المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب) لأبي العباس أحمد بن يحيى بن علي الونشريسي( 914هـ).
[9]- هذا الأثر رواه الآجري في (أخلاق العلماء) عن مكحول الدمشقي أنه قال: ((إنه لا يأتي على الناس ما يوعدون حتى يكون عالمهم فيهم أنتن من جيفة حمار)). ورواه أبو نعيم في (الحِلْية).
[10]- لم أجد رواية ابن عباس في البخاري. والمشهور في ذلك قول سعيد بن جبير رحمه الله: ((لا تقية في الإسلام))، روى ذلك ابن سعد في طبقاته. وروى القرطبي في تفسيره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وعن مجاهد قوله: ((كانت التقية في جِدَة الإسلام قبل قوة المسلمين، أما اليوم فقد أعز الله المسلمين أن يتقوا منهم)).
[11]-جاء في كتاب (شرح أم البراهين) للشيخ محمد بن يوسف السنوسي، مع حاشية الدسوقي ص71ـ72: ((وليحذر المبتدئ جهده أن يأخذ أصول دينه من الكتب التي حُشِيَت بكلام الفلاسفة، وأُولِع مؤلفوها بنقل هوسهم وما هو كفرٌ صراح من عقائدهم التي ستروا نجاستها بما ينبهم على كثير من اصطلاحاتهم وعباراتهم التي أكثرها أسماء بلا مسميات، وذلك ككتب الفخر (الرازي) في علم الكلام، وطوالع (الأنوار) البيضاوي، ومن حذا حذوهما في ذلك.
وقلَّ أن يفلح من أُولع بصحبة كلام الفلاسفة أو يكون له نور إيمان في قلبه أو لسانه ، وكيف يُفلحُ من والى مَنْ حادَّ اللهَ ورسوله، وخرقَ حجاب الهيبة، ونبذَ الشريعة وراء ظهره، وقال في حق مولانا جلّ وعزّ وفي حقّ رسله عليهم السلام ما سولت له نفسه الحمقاء ودعاه إليه وهمه المختل، وقد خُذِل بعض الناس فتراه يُشرِّف كلام الفلاسفة الملعونين، ويشرّف الكتب التي تعرَّضت لنقل كثيرٍ من حماقاتهم، لما تمكن في نفسه الأمارة بالسوء من حب الرياسة والإغراب على الناس).انتهى
[12]- هي: الأندلس.
[13]- (1843م).
التعديل الأخير بواسطة المشرف: