بعد أن كانت القوة العسكرية السوفيتية تمثل "فزاعة" للحكومات الأمريكية والأوربية المتعاقبة – طيلة أربعة عقود – انتهى بها الأمر لتصير إرثاً أو "تركة" في يد دولة جديدة اسمها روسيا. نعم.. دولة جديدة، بحدود جديدة، وبتعداد سكاني جديد، وبدول مجاورة جديدة، ومن ثم بوضع أمني جديد.. ومختلف تماماً عما كانت تواجهه موسكو خلال الحقبة السوفيتية.
وتحولت تلك الآلة العسكرية الجبارة – التي كانت في يوم من الأيام تابعة للقطب السوفيتي – إلى قطع مهلهلة ومتهالكة أحيانا تخدم مجموعة من الدول "المستقلة" الجديدة (15 دولة) التي انبثقت أو تحررت "بطريقة مفاجئة" عن القطب السوفيتي بعد انهياره عام 1991، إلا أن الجزء الأكبر من الإرث السوفيتي وقع في يد موسكو عاصمة الدولة الروسية، بما فيه الإرث النووي المهول الذي احتكرته موسكو دوناً عن الدول الأخرى "المستقلة". ويلفت "ميلر" انتباهنا هنا إلى أنه بالرغم من سقوط القوة الروسية من بؤرة الاهتمامات الدولية، فإن روسيا – بسياستها وبقوتها العسكرية – ما زالت تمثل أهمية كبيرة وأساسية على الصعيد الأوربي- الآسيوي، وعلى الصعيد العالمي، بسبب حيازتها المتفردة للعنصر النووي.
والأسئلة التي تطرحها مقدمة الكتاب هي: كيف أعادت روسيا هيكلة قوتها العسكرية من بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، بحيث تتلاءم مع الأوضاع الجديدة؟ وما هي الإصلاحات العسكرية التي اتبعتها الدولة الروسية، أو التي فشلت في اتباعها، خلال فترة التحول الصعبة التي أعقبت سقوط القطب السوفيتي؟ وما هي السياسة الأمنية الجديدة التي انتهجتها لتحمي بها حدودها ومصالحها الجديدة، وكذلك لتدشن بها نفوذها وتأثيرها الإقليمي والعالمي؟ وأخيراً، كيف تصرفت روسيا مع المؤسسة العسكرية الضخمة التي ورثتها من الاتحاد السوفيتي؟
وقبل أن نغلق هذه الجزئية لا بد أن نشير إلى حقيقة في منتهى الأهمية، لا نستطيع إغفالها في هذا السياق، ألا وهي: سيطرة المصالح الغربية على توزيع الإرث العسكري السوفيتي وعلى الدول الـ15 التي خرجت من عباءة الاتحاد السوفيتي. باختصار، لم يعكس الإرث العسكري السوفيتي الذي آل إلى موسكو -كما يقول "ميلر" في مقدمة الكتاب- "لا تصميماً إستراتيجياً متماسكاً، ولا تقديراً حكيماً لاحتياجات روسيا ومصالحها. بل تُركت روسيا، في نهاية الأمر، مكبلة بكميات ضخمة وهائلة من القدرات العسكرية التي خلفها حطام القطب السوفيتي المنهار".
فتحت غطاء مد الجسور بين الكتلة الغربية وبين روسيا، وافقت الأخيرة تحت إملاء الأولى على توزيع حوالي نصف ما ورثته من الصرح العسكري السوفيتي على الجمهوريات السوفيتية السابقة، التي باتت بعد عام 1991 جمهوريات مستقلة. وبالطبع لم يكن هذا الإملاء الغربي إلا ترضية لمصالح حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتهدئة لمخاوفه.. وليس ترضية للجمهوريات السوفيتية السابقة. وكذلك لم يكن رفض الأخيرة للمقترح الروسي بشأن إنشاء قيادة عسكرية مركزية موحدة تحت اسم "كومنولث الدول المستقلة" إلا ترضية أخرى للمصالح الغربية من خلال إقصاء روسيا عن أي مكانة دولية.
7 حقائق تحتم الإصلاح العسكري
إن المستجدات التي طرأت على روسيا بعد عام 1991 أجبرتها على انتهاج إصلاحات بعيدة المدى في مؤسستها العسكرية، على أمل أن تلبي مصالح الدولة الروسية الحديثة، وتتماشى في الوقت ذاته مع ثرواتها وإمكانياتها الحالية. إلا أن الدافع الحقيقي وراء الإصلاح تمثل – على الوجه الأغلب – في الحقائق التي أفرزتها حقبة ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، تلك الحقائق التي كانت تشكل خليطاً بين ما هو تطبيقي، وما هو سياسي، وما هو إستراتيجي. وقد أوجزها "ميلر" في سبع حقائق.
أول حقيقة تمثلت في الإرث السوفيتي المتدهور الذي ورثته الدولة الروسية بعد انهيار القطب السوفيتي. فروسيا لم ترث ماكينة عسكرية منتعشة ومتماسكة، بل ورثت ماكينة عسكرية متهالكة ومهلهلة، قد أصابها الضعف والهزال من قبل لحظة الانهيار عام 1991. وكما يقول المحلل البريطاني "سي. جي. ديك": "إن الجيش الروسي كان قد أصابه الضعف من قبل أن يخرج للوجود – بمعنى أن الجيش السوفيتي الذي يعتبر هو أصل أو قاعدة الجيش الروسي كان غارقاً في حالة من الضياع حينما أتى جورباتشوف رئيساً لروسيا". وقد عقب "ديل آر. هيرسبرينج" – من كتاب مجلة "روسيا وأوروآسيا ريفيو" قائلاً: "إن الجيش الروسي في ضياع كامل. الأمور في منتهى السوء... إن الأمر سيأخذ أعواماً، إن لم يكن عقوداً، لإعادة القوة إلى الجيش الروسي". ومن ثم كان من المتوقع – كما يقول كاتب المقدمة – أن يدفع هذا الوضع المزري للإصلاح العسكري.
ثانيا: سوء إعادة نشر القوات السوفيتية، حيث تم سحبها في نهاية الحقبة السوفيتية من دول شرق أوربا على أن يتم وضعها في مناطق أخرى لأسباب لوجيستية بحتة، وليس لأسباب إستراتيجية. فتم نقل جزء كبير منها إلى داخل روسيا، لا لتكون قواعد تهديد للأعداء، وإنما لتكون في مناطق أخرى.. ليس أكثر من ذلك. فكانت النتيجة أن تم توزيع القوات السوفيتية داخل روسيا بطريقة غير ملائمة، فتمركزت في شمال وغرب روسيا في الوقت الذي تتواجد فيه التحديات الأمنية من ناحيتي الجنوب والشرق. ولذلك كان انعدام المنطق والحكمة في هذا الشأن دافعاً جديداً للإصلاح العسكري.
ثالثا: ندرة المصادر التمويلية لدعم وزارة الدفاع الروسية. فالفوضى التي حلت على روسيا بعد انهيار القطب السوفيتي، شكلت عائقاً في طريق الإنفاق على مؤسسات الدفاع الروسي. وكذلك الوضع الاقتصادي المتدهور في تسعينيات القرن العشرين شكل شاغلاً للقيادة الروسية عن دعم وحفظ قدراتها العسكرية التي ورثتها من الاتحاد السوفيتي. ويكفي القول بأنه في عام 1992 أضحى حجم الإنفاق على مؤسسات الدفاع ربع حجم الإنفاق في عام 1991 (86.9 بليون دولار مقابل 324.5 بليون دولار). واستمر التراجع في حجم الإنفاق حتى بلغ أواخر التسعينيات 45.9 بليون دولار فقط، أي عشر ما كان ينفقه الاتحاد السوفيتي في أواخر الثمانينيات.
رابعا: انهيار "صناعة الدفاع" أو "الإنتاج الدفاعي" الذي كان يحتل الجزء الأكبر من الكعكة الاقتصادية في الاتحاد السوفيتي السابق. تلك الصناعة التي وصفها "جوليان كوبر" في كتابه "الصناعة الدفاعية السوفيتية" عام 1991، قائلاً: "إنها تمثل قلب اقتصاد الدولة". إلا أنه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي اختلف الأمر تماماً، حيث لم يعد لتلك الصناعة أي صيت، فلم يعد هناك من يمولها أو يطورها. وجاءت الأزمة الاقتصادية في بداية التسعينيات لتزيد الطين بلة، فقتلت لدى الدولة الروسية الرغبة والقدرة – في آن واحد – لتطوير أنظمة تسليحية جديدة. وقد عبر عن ذلك "ستيف ماكو" في مقاله "سقوط جيش روسيا" بمجلة "إميرجينسي نت نيوز ديلي ريبورت" (سبتمبر 1996) قائلاً: "إن المُركب السوفيتي السابق الذي كان يجمع بين الجيش والصناعة لم يعد له أي وجود، والمصانع التي كانت يوماً تُشغل آلاف الدبابات صارت الآن جرداء فارغة". باختصار، إن روسيا ورثت القدرات الفذة على تصنيع كميات هائلة من الأسلحة، إلا أن هذه الكميات الهائلة لم تعد روسيا في حاجة إليها، كما أنها لم تعد لديها قدرة الإنفاق عليها، وهو ما يحتم السير بخطًى ثابتة نحو الإصلاح العسكري حتى يتم الإصلاح الصناعي ومن ثم الاقتصادي. ولذا، فالإصلاح العسكري في روسيا هو ضرورة اقتصادية أيضا.
خامسا: يشير "ميلر" أيضا إلى أن الوضع الروسي الجديد، بعد عام 1991، فرض على الدولة الروسية إعادة تعريف سياستها الأمنية، ومن ثم إعادة تعريف مفاهيمها الإستراتيجية، ومن ثم إحداث إصلاح عسكري. فالعقيدة التسليحية التي كان يعتنقها الاتحاد السوفيتي لم تعد ملائمة – على الإطلاق – بالنسبة لروسيا، ذات الحدود الجديدة، وذات الجغرافيا الجديدة أيضاً. ولذا، فقد كان من المتوقع – حسب كلام "ميلر" – أن تكون تلك الحقيقة دافعا للإصلاح العسكري، إلا أن هذا التوقع قد باء بالفشل نظراً لاصطدامه بالعقول التي ما زالت تعيش في أساطير الحرب الباردة، متصورة أن روسيا ما زالت هي الاتحاد السوفيتي، وأن إستراتيجيتها الأمنية لا بد أن تتطابق مع الإستراتيجية السوفيتية السابقة.
سادسا: الواقع السياسي الجديد الذي فرض نفسه على روسيا بعد عام 1991، ذلك الواقع الذي حرك الشعوب نحو الرغبة في الديمقراطية، فبات لازماً على الدولة الروسية أن تستجيب لذلك الواقع، ومن ثم بات فرضاً عليها تدشين جهاز عسكري جديد يتوافق مع ذلك الواقع، ويتفاعل معه. فالماضي المستبد الذي عاشه الروس في ظل المؤسسة العسكرية السوفيتية لم يعد يتناسب مع نسمات الديمقراطية التي هبت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. بمعنى آخر، لن تنتصر الديمقراطية في داخل روسيا – كما يعتقد "ميلر" – إلا من خلال الإصلاح العسكري. فروسيا الديمقراطية سوف تكون بحاجة إلى جيش تستطيع أن تسيطر عليه مدنياً، وهي بحاجة إلى "دمقرطة" مؤسستها الدفاعية – خاصة – لما تتسم به من ديكتاتورية مفرطة.
ويشير "ميلر" إلى الحقيقة السابعة التي يجب أن تشكل – من وجهة نظره – دافعاً آخر للإصلاح، ألا وهي حقيقة "التراجيديا الشيشانية" في عام 1994 التي أظهرت بوضوح مواطن ضعف الجيش الروسي، وعدم قدرته على التصدي لتحد يعتبر بسيطاً نسبياً بالنسبة لدولة مثل روسيا صاحبة النصيب الأكبر من التركة السوفيتية. لقد عكست الشيشان فشلاً شبه كامل للقوات الروسية التي لم تفلح في التعامل مع عمليات تمرد بسيطة، لا تصل إلى مستوى الصراعات الكبرى. هذا الفشل المزري يراه "ميلر" دافعاً قوياً للدولة الروسية لكي تعيد النظر بشأن قواتها العسكرية.
لماذا فشل الإصلاح؟
بالرغم من هذه الحقائق أو الدوافع السبعة التي سردها "ميلر"، لم يتحقق الإصلاح في الجيش الروسي طيلة ثلاثة عشر عاماً – من 1991 حتى 2004 – بالرغم من شدة الاحتياج إليه، وكان لافتا أن نجد تلك الفجوة العميقة بين شدة الحاجة إلى الإصلاح وبين شدة الرفض له. فما أسباب تلك الفجوة؟
يلخص "ميلر" الأسباب كالتالي:
أولاً: اصطدام مؤيدي الإصلاح مع مؤسسة الدفاع الروسية:
إنه اصطدام فكر واقعي مع فكر تقليدي لا يريد الاعتراف بسقوط الاتحاد السوفيتي. فراغبو الإصلاح – وهم في هذه الحالة الواقعيون – يريدون جيشاً روسياً مواكباً للتطورات العالمية والإقليمية والمحلية، فيكون جيشاً أكثر ديمقراطية وأكثر مهنية، وفي نفس الوقت أصغر حجماً وعدة لأنه – ببساطة – لم يعد هناك حرب مع الغرب أو مع حلف الشمال الأطلسي. وبدلاً من إضاعة الوقت في حرب غير ضرورية مع الغرب – هكذا يقول الإصلاحيون – على الجيش الروسي استثمار وقته في مواجهة التحديات الحقيقية الحالية، وهي التحديات التي تقع في أطراف روسيا الجنوبية، وأهمها التحديات الشيشانية. أما الفكر التقليدي الذي ما زال يعيش على "أمجاد" الاتحاد السوفيتي فتمثله مؤسسة الدفاع الروسية التي ما زالت تنفق على أسلحة الدفاع كأنها ما زالت في أجواء الحرب الباردة مع الولايات المتحدة. ومن ثم كانت هذه المؤسسة من أقوى المجهضين للفكر الإصلاحي العسكري ومن المُصرين على إبقاء الجيش الروسي على غرار الجيش السوفيتي السابق، فكانت النتيجة في النهاية هي ظهور جيش روسي جديد.. صغير في الحجم كما كانت ترغب قوى الإصلاح، لكنه مشوه لأنه صار نسخة من الجيش السوفيتي السابق.
ثانياً: ضعف السلطة السياسية الروسية:
تدهور الأوضاع داخل روسيا على كافة المستويات – بعد انهيار الاتحاد السوفيتي – صَعَّب المهمة على القادة السياسيين، خاصة أمام الجيش الروسي الذي يتمتع بقوة سياسية خارقة. ومن ثم فلم يكن لدى القادة السياسيين القوة السياسية المكافئة التي تمكنهم من التدخل المدني في الشئون العسكرية، أو إحداث أي إصلاح في الجيش. فقوة الجيش تمثل رعباً للقيادات السياسية، إذ أن بإمكانه إحداث انقلابات عسكرية إذا ما استفزه رجال السياسة. هذا بالإضافة إلى احتياج القادة السياسيين إلى الجيش للاعتماد عليه في القضاء على التحديات الداخلية التي يلاقونها، كما كان الأمر مع "بوريس يلتسين" في بداية التسعينيات.
ملخص القول: إن القائد السياسي لن يكسب شيئاً في السياسة المحلية إذا قام بمواجهة الجيش لإحداث إصلاح ما، بل قد يخسر كل شيء.
ثالثاً: عدم وجود رغبة حقيقية نحو الديمقراطية:
بالرغم من هبوب رياح الديمقراطية على روسيا، بعد الانهيار السوفيتي، فإنه لم توجد هناك خطوات جادة وحقيقية تجاه "الدمقرطة" الروسية. وقد أشار مركز كارنيجي إلى "اتجاه روسيا نحو النظام السلطوي". وها هي "سلطات" الرئيس الروسي الحالي "فلاديمير بوتين" تظهر بقوة بعد إعادة انتخابه عام 2004، حيث تصاعدت أهمية بناء قوات الأمن الداخلي لدحض أي معارضة أو انشقاق. ومن ثم كان الفشل في المضي بجدية وثبات نحو عملية التحول الديمقراطي الروسي مجهضاً لأي إصلاح عسكري.
رابعاً: عدم اهتمام النخبة السياسية بالإصلاح العسكري:
لم تنظر النخبة السياسية الروسية إلى هذا الشأن باهتمام، وهي ترى أن استثمار الاتحاد السوفيتي في القوة العسكرية لم يجنبه الانهيار، بل إن انشغال الاتحاد السوفيتي بالعامل العسكري أكثر من اللازم هو الذي أدى إلى سقوطه في النهاية. وكذلك تعتقد أن الوقت الحالي لا يتطلب هذا الاهتمام الزائد بالعنصر العسكري، وتُرجع هذا الاعتقاد إلى اختفاء عنصر التهديد الأمني من قبل الغرب، ومن ثم، فلا حاجة إلى ذلك الاتجاه الإصلاحي داخل الجيش.
خامساً: عقيدة تعظيم الجيش لدى الروس:
منذ "بطرس الأكبر" وصعود روسيا إلى مصاف القوى الكبرى، والجيش يُنظر إليه على كونه "حجر أساس الدولة الروسية". فترسخت هذه العقيدة في الثقافة السياسية الروسية كقضية مُسلم بها، وصارت العقلية الروسية تؤمن بأن الجيش لا يمكن له الخضوع لأي تحكم مدني. هذه السيادة التي حصل عليها الجيش الروسي – تاريخياً وثقافياً – أعطت له فاعلية واضحة في صد أية جهود إصلاحية غير مرغوب فيها.
سادساً: حرب الشيشان أولى من الإصلاح:
كما استخدم مناشدو الإصلاح حرب الشيشان كدافع رئيسي لإصلاح الجيش، استخدم أيضاً مناهضو الإصلاح حرب الشيشان كمانع لإصلاح الجيش، إذ يتساءلون: كيف يكون من الحكمة أخذ خطوات إصلاحية داخل الجيش الروسي وهو يحارب في الشيشان؟ وكيف يمكن للقيادة السياسية أن تطالب قيادة الجيش العليا بإصلاحات عسكرية في الوقت الذي تكون فيه القيادة العليا في أمس الحاجة إلى كل جندي روسي ليحارب أو يموت في الشيشان؟.
سابعاً: تزاحم الأولويات على الأجندة الروسية:
لم تكن قضية إصلاح الجيش هي القضية الأولى والأخيرة على الأجندة الروسية، بل كانت هناك قضايا أخرى، وعلى نفس درجة الأهمية، الأمر الذي شتت وأرهق عقول القادة السياسيين. فكانت هناك أزمات عدة: اقتصادية، واجتماعية، وإثنية، وأزمة بلورة سياسة خارجية جديدة.. كلها أزمات تجلت بعد الانهيار السوفيتي، كان من الصعب إهمالها من أجل الإصلاح العسكري فقط.
ثامناً: ظهور سياسات غربية مستفزة وداحضة لفكرة الإصلاح:
كان لبعض السياسات الأمنية الخارجية الأمريكية أثر واضح على سير الجدل القائم بين راغبي الإصلاح ومعارضيه، حيث استفزت تلك السياسات حفيظة موسكو لدرجة جعلتها تفكر في إعادة النظر حول مسألة التهديد الغربي، وإمكانية عودته مرة أخرى. أثارت تلك السياسات – بالذات – حفيظة الجناح المعارض للإصلاح، وأعطت له كل الحق في أن يصر على أن المستقبل الحقيقي هو للقوة العسكرية وليس للقيادة المدنية. ومن تلك السياسات، على سبيل المثال، السياسات الغربية في البلقان التي اصطدمت مع نظيرتها الروسية، مما جعل الكثير من الروس يعتقدون أن حلف شمال الأطلسي قد تجاهل المصالح الروسية، وبأنه قادر على شن "هجوم" داخل أوربا. ثم أُطلقت سياسة استفزازية أخرى، حينما تم توسيع الحلف تجاه شرق أوربا، قرب الحدود الروسية.
تاسعاً: ندرة المصادر التمويلية:
أدى العجز في الميزانية الروسية إلى تعطيل الإصلاح العسكري، فأي إصلاح بحاجة إلى ميزانية ضخمة. وإصلاح الجيش ليس معناه أبداً تخفيض النفقات، بل العكس هو الصحيح. فهناك عناصر كثيرة في الإصلاح العسكري تحتاج إلى تكاليف باهظة، مثل تطوير الأجهزة، وترشيد استخدام البنى التحتية، ورفع مستوى المدنية لدى الجنود، وإعطاء معاشات لفائض الجنود الذين سيتم تسريحهم.
عاشراً: اتجاه روسيا نحو النووي بدلاً من الإصلاح:
نظراً لإخفاقها في مجال التسلح التقليدي – مقارنة بالغرب – لجأت روسيا إلى تعويض هذا الإخفاق من خلال التركيز على السياسة النووية، وتبني مفهوم أمني يعتمد أساساً على التسلح النووي، سواء على المستوى الإستراتيجي أو المستوى التكتيكي. ومن ثم صارت مواطن الضعف في القوات الروسية أمراً أكثر قبولاً، وصار خيار الاعتماد على النووي مضموناً، الأمر الذي أدى في النهاية إلى تقليص أهمية الإصلاح العسكري. بمعنى آخر: إن وجود ضامن نووي للأمن الروسي أخمد مناشدات وهتافات الإصلاحيين، وعضد من الفئة المعارضة للإصلاح. وهذه النقطة العاشرة والأخيرة تفيد بعودة مسألة النووي إلى الفكر الروسي، بل انتقالها إلى مركز أو بؤرة الفكر الروسي، في الوقت الذي اختفت فيه هذه المسألة لدى الجمهور.
... هكذا نرى كيف تصير عراقيل الإصلاح أقوى أثراً من دوافعه، فتترك جيشاً واقفاً مكانه – على امتداد ثلاثة عشر عاماً – بدون أدنى تقدم أو تطور، وتحوله إلى مؤسسة رثة منزوعة الروح والحمية، غير قادرة على التكيف العسكري مع أبسط المهام التي تُطالب بها.. ثم نرى ذلك التضارب غير المفهوم بين ضعف الجيش من ناحية، وقوة قيادته من ناحية أخرى.. وأخيراً، نرى تلك الفجوة غير المنطقية بين السياسة الأمنية من جهة، وبين المتطلبات العسكرية الملحة من جهة أخرى.
وتحولت تلك الآلة العسكرية الجبارة – التي كانت في يوم من الأيام تابعة للقطب السوفيتي – إلى قطع مهلهلة ومتهالكة أحيانا تخدم مجموعة من الدول "المستقلة" الجديدة (15 دولة) التي انبثقت أو تحررت "بطريقة مفاجئة" عن القطب السوفيتي بعد انهياره عام 1991، إلا أن الجزء الأكبر من الإرث السوفيتي وقع في يد موسكو عاصمة الدولة الروسية، بما فيه الإرث النووي المهول الذي احتكرته موسكو دوناً عن الدول الأخرى "المستقلة". ويلفت "ميلر" انتباهنا هنا إلى أنه بالرغم من سقوط القوة الروسية من بؤرة الاهتمامات الدولية، فإن روسيا – بسياستها وبقوتها العسكرية – ما زالت تمثل أهمية كبيرة وأساسية على الصعيد الأوربي- الآسيوي، وعلى الصعيد العالمي، بسبب حيازتها المتفردة للعنصر النووي.
والأسئلة التي تطرحها مقدمة الكتاب هي: كيف أعادت روسيا هيكلة قوتها العسكرية من بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، بحيث تتلاءم مع الأوضاع الجديدة؟ وما هي الإصلاحات العسكرية التي اتبعتها الدولة الروسية، أو التي فشلت في اتباعها، خلال فترة التحول الصعبة التي أعقبت سقوط القطب السوفيتي؟ وما هي السياسة الأمنية الجديدة التي انتهجتها لتحمي بها حدودها ومصالحها الجديدة، وكذلك لتدشن بها نفوذها وتأثيرها الإقليمي والعالمي؟ وأخيراً، كيف تصرفت روسيا مع المؤسسة العسكرية الضخمة التي ورثتها من الاتحاد السوفيتي؟
وقبل أن نغلق هذه الجزئية لا بد أن نشير إلى حقيقة في منتهى الأهمية، لا نستطيع إغفالها في هذا السياق، ألا وهي: سيطرة المصالح الغربية على توزيع الإرث العسكري السوفيتي وعلى الدول الـ15 التي خرجت من عباءة الاتحاد السوفيتي. باختصار، لم يعكس الإرث العسكري السوفيتي الذي آل إلى موسكو -كما يقول "ميلر" في مقدمة الكتاب- "لا تصميماً إستراتيجياً متماسكاً، ولا تقديراً حكيماً لاحتياجات روسيا ومصالحها. بل تُركت روسيا، في نهاية الأمر، مكبلة بكميات ضخمة وهائلة من القدرات العسكرية التي خلفها حطام القطب السوفيتي المنهار".
فتحت غطاء مد الجسور بين الكتلة الغربية وبين روسيا، وافقت الأخيرة تحت إملاء الأولى على توزيع حوالي نصف ما ورثته من الصرح العسكري السوفيتي على الجمهوريات السوفيتية السابقة، التي باتت بعد عام 1991 جمهوريات مستقلة. وبالطبع لم يكن هذا الإملاء الغربي إلا ترضية لمصالح حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتهدئة لمخاوفه.. وليس ترضية للجمهوريات السوفيتية السابقة. وكذلك لم يكن رفض الأخيرة للمقترح الروسي بشأن إنشاء قيادة عسكرية مركزية موحدة تحت اسم "كومنولث الدول المستقلة" إلا ترضية أخرى للمصالح الغربية من خلال إقصاء روسيا عن أي مكانة دولية.
7 حقائق تحتم الإصلاح العسكري
إن المستجدات التي طرأت على روسيا بعد عام 1991 أجبرتها على انتهاج إصلاحات بعيدة المدى في مؤسستها العسكرية، على أمل أن تلبي مصالح الدولة الروسية الحديثة، وتتماشى في الوقت ذاته مع ثرواتها وإمكانياتها الحالية. إلا أن الدافع الحقيقي وراء الإصلاح تمثل – على الوجه الأغلب – في الحقائق التي أفرزتها حقبة ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، تلك الحقائق التي كانت تشكل خليطاً بين ما هو تطبيقي، وما هو سياسي، وما هو إستراتيجي. وقد أوجزها "ميلر" في سبع حقائق.
أول حقيقة تمثلت في الإرث السوفيتي المتدهور الذي ورثته الدولة الروسية بعد انهيار القطب السوفيتي. فروسيا لم ترث ماكينة عسكرية منتعشة ومتماسكة، بل ورثت ماكينة عسكرية متهالكة ومهلهلة، قد أصابها الضعف والهزال من قبل لحظة الانهيار عام 1991. وكما يقول المحلل البريطاني "سي. جي. ديك": "إن الجيش الروسي كان قد أصابه الضعف من قبل أن يخرج للوجود – بمعنى أن الجيش السوفيتي الذي يعتبر هو أصل أو قاعدة الجيش الروسي كان غارقاً في حالة من الضياع حينما أتى جورباتشوف رئيساً لروسيا". وقد عقب "ديل آر. هيرسبرينج" – من كتاب مجلة "روسيا وأوروآسيا ريفيو" قائلاً: "إن الجيش الروسي في ضياع كامل. الأمور في منتهى السوء... إن الأمر سيأخذ أعواماً، إن لم يكن عقوداً، لإعادة القوة إلى الجيش الروسي". ومن ثم كان من المتوقع – كما يقول كاتب المقدمة – أن يدفع هذا الوضع المزري للإصلاح العسكري.
ثانيا: سوء إعادة نشر القوات السوفيتية، حيث تم سحبها في نهاية الحقبة السوفيتية من دول شرق أوربا على أن يتم وضعها في مناطق أخرى لأسباب لوجيستية بحتة، وليس لأسباب إستراتيجية. فتم نقل جزء كبير منها إلى داخل روسيا، لا لتكون قواعد تهديد للأعداء، وإنما لتكون في مناطق أخرى.. ليس أكثر من ذلك. فكانت النتيجة أن تم توزيع القوات السوفيتية داخل روسيا بطريقة غير ملائمة، فتمركزت في شمال وغرب روسيا في الوقت الذي تتواجد فيه التحديات الأمنية من ناحيتي الجنوب والشرق. ولذلك كان انعدام المنطق والحكمة في هذا الشأن دافعاً جديداً للإصلاح العسكري.
ثالثا: ندرة المصادر التمويلية لدعم وزارة الدفاع الروسية. فالفوضى التي حلت على روسيا بعد انهيار القطب السوفيتي، شكلت عائقاً في طريق الإنفاق على مؤسسات الدفاع الروسي. وكذلك الوضع الاقتصادي المتدهور في تسعينيات القرن العشرين شكل شاغلاً للقيادة الروسية عن دعم وحفظ قدراتها العسكرية التي ورثتها من الاتحاد السوفيتي. ويكفي القول بأنه في عام 1992 أضحى حجم الإنفاق على مؤسسات الدفاع ربع حجم الإنفاق في عام 1991 (86.9 بليون دولار مقابل 324.5 بليون دولار). واستمر التراجع في حجم الإنفاق حتى بلغ أواخر التسعينيات 45.9 بليون دولار فقط، أي عشر ما كان ينفقه الاتحاد السوفيتي في أواخر الثمانينيات.
رابعا: انهيار "صناعة الدفاع" أو "الإنتاج الدفاعي" الذي كان يحتل الجزء الأكبر من الكعكة الاقتصادية في الاتحاد السوفيتي السابق. تلك الصناعة التي وصفها "جوليان كوبر" في كتابه "الصناعة الدفاعية السوفيتية" عام 1991، قائلاً: "إنها تمثل قلب اقتصاد الدولة". إلا أنه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي اختلف الأمر تماماً، حيث لم يعد لتلك الصناعة أي صيت، فلم يعد هناك من يمولها أو يطورها. وجاءت الأزمة الاقتصادية في بداية التسعينيات لتزيد الطين بلة، فقتلت لدى الدولة الروسية الرغبة والقدرة – في آن واحد – لتطوير أنظمة تسليحية جديدة. وقد عبر عن ذلك "ستيف ماكو" في مقاله "سقوط جيش روسيا" بمجلة "إميرجينسي نت نيوز ديلي ريبورت" (سبتمبر 1996) قائلاً: "إن المُركب السوفيتي السابق الذي كان يجمع بين الجيش والصناعة لم يعد له أي وجود، والمصانع التي كانت يوماً تُشغل آلاف الدبابات صارت الآن جرداء فارغة". باختصار، إن روسيا ورثت القدرات الفذة على تصنيع كميات هائلة من الأسلحة، إلا أن هذه الكميات الهائلة لم تعد روسيا في حاجة إليها، كما أنها لم تعد لديها قدرة الإنفاق عليها، وهو ما يحتم السير بخطًى ثابتة نحو الإصلاح العسكري حتى يتم الإصلاح الصناعي ومن ثم الاقتصادي. ولذا، فالإصلاح العسكري في روسيا هو ضرورة اقتصادية أيضا.
خامسا: يشير "ميلر" أيضا إلى أن الوضع الروسي الجديد، بعد عام 1991، فرض على الدولة الروسية إعادة تعريف سياستها الأمنية، ومن ثم إعادة تعريف مفاهيمها الإستراتيجية، ومن ثم إحداث إصلاح عسكري. فالعقيدة التسليحية التي كان يعتنقها الاتحاد السوفيتي لم تعد ملائمة – على الإطلاق – بالنسبة لروسيا، ذات الحدود الجديدة، وذات الجغرافيا الجديدة أيضاً. ولذا، فقد كان من المتوقع – حسب كلام "ميلر" – أن تكون تلك الحقيقة دافعا للإصلاح العسكري، إلا أن هذا التوقع قد باء بالفشل نظراً لاصطدامه بالعقول التي ما زالت تعيش في أساطير الحرب الباردة، متصورة أن روسيا ما زالت هي الاتحاد السوفيتي، وأن إستراتيجيتها الأمنية لا بد أن تتطابق مع الإستراتيجية السوفيتية السابقة.
سادسا: الواقع السياسي الجديد الذي فرض نفسه على روسيا بعد عام 1991، ذلك الواقع الذي حرك الشعوب نحو الرغبة في الديمقراطية، فبات لازماً على الدولة الروسية أن تستجيب لذلك الواقع، ومن ثم بات فرضاً عليها تدشين جهاز عسكري جديد يتوافق مع ذلك الواقع، ويتفاعل معه. فالماضي المستبد الذي عاشه الروس في ظل المؤسسة العسكرية السوفيتية لم يعد يتناسب مع نسمات الديمقراطية التي هبت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. بمعنى آخر، لن تنتصر الديمقراطية في داخل روسيا – كما يعتقد "ميلر" – إلا من خلال الإصلاح العسكري. فروسيا الديمقراطية سوف تكون بحاجة إلى جيش تستطيع أن تسيطر عليه مدنياً، وهي بحاجة إلى "دمقرطة" مؤسستها الدفاعية – خاصة – لما تتسم به من ديكتاتورية مفرطة.
ويشير "ميلر" إلى الحقيقة السابعة التي يجب أن تشكل – من وجهة نظره – دافعاً آخر للإصلاح، ألا وهي حقيقة "التراجيديا الشيشانية" في عام 1994 التي أظهرت بوضوح مواطن ضعف الجيش الروسي، وعدم قدرته على التصدي لتحد يعتبر بسيطاً نسبياً بالنسبة لدولة مثل روسيا صاحبة النصيب الأكبر من التركة السوفيتية. لقد عكست الشيشان فشلاً شبه كامل للقوات الروسية التي لم تفلح في التعامل مع عمليات تمرد بسيطة، لا تصل إلى مستوى الصراعات الكبرى. هذا الفشل المزري يراه "ميلر" دافعاً قوياً للدولة الروسية لكي تعيد النظر بشأن قواتها العسكرية.
لماذا فشل الإصلاح؟
بالرغم من هذه الحقائق أو الدوافع السبعة التي سردها "ميلر"، لم يتحقق الإصلاح في الجيش الروسي طيلة ثلاثة عشر عاماً – من 1991 حتى 2004 – بالرغم من شدة الاحتياج إليه، وكان لافتا أن نجد تلك الفجوة العميقة بين شدة الحاجة إلى الإصلاح وبين شدة الرفض له. فما أسباب تلك الفجوة؟
يلخص "ميلر" الأسباب كالتالي:
أولاً: اصطدام مؤيدي الإصلاح مع مؤسسة الدفاع الروسية:
إنه اصطدام فكر واقعي مع فكر تقليدي لا يريد الاعتراف بسقوط الاتحاد السوفيتي. فراغبو الإصلاح – وهم في هذه الحالة الواقعيون – يريدون جيشاً روسياً مواكباً للتطورات العالمية والإقليمية والمحلية، فيكون جيشاً أكثر ديمقراطية وأكثر مهنية، وفي نفس الوقت أصغر حجماً وعدة لأنه – ببساطة – لم يعد هناك حرب مع الغرب أو مع حلف الشمال الأطلسي. وبدلاً من إضاعة الوقت في حرب غير ضرورية مع الغرب – هكذا يقول الإصلاحيون – على الجيش الروسي استثمار وقته في مواجهة التحديات الحقيقية الحالية، وهي التحديات التي تقع في أطراف روسيا الجنوبية، وأهمها التحديات الشيشانية. أما الفكر التقليدي الذي ما زال يعيش على "أمجاد" الاتحاد السوفيتي فتمثله مؤسسة الدفاع الروسية التي ما زالت تنفق على أسلحة الدفاع كأنها ما زالت في أجواء الحرب الباردة مع الولايات المتحدة. ومن ثم كانت هذه المؤسسة من أقوى المجهضين للفكر الإصلاحي العسكري ومن المُصرين على إبقاء الجيش الروسي على غرار الجيش السوفيتي السابق، فكانت النتيجة في النهاية هي ظهور جيش روسي جديد.. صغير في الحجم كما كانت ترغب قوى الإصلاح، لكنه مشوه لأنه صار نسخة من الجيش السوفيتي السابق.
ثانياً: ضعف السلطة السياسية الروسية:
تدهور الأوضاع داخل روسيا على كافة المستويات – بعد انهيار الاتحاد السوفيتي – صَعَّب المهمة على القادة السياسيين، خاصة أمام الجيش الروسي الذي يتمتع بقوة سياسية خارقة. ومن ثم فلم يكن لدى القادة السياسيين القوة السياسية المكافئة التي تمكنهم من التدخل المدني في الشئون العسكرية، أو إحداث أي إصلاح في الجيش. فقوة الجيش تمثل رعباً للقيادات السياسية، إذ أن بإمكانه إحداث انقلابات عسكرية إذا ما استفزه رجال السياسة. هذا بالإضافة إلى احتياج القادة السياسيين إلى الجيش للاعتماد عليه في القضاء على التحديات الداخلية التي يلاقونها، كما كان الأمر مع "بوريس يلتسين" في بداية التسعينيات.
ملخص القول: إن القائد السياسي لن يكسب شيئاً في السياسة المحلية إذا قام بمواجهة الجيش لإحداث إصلاح ما، بل قد يخسر كل شيء.
ثالثاً: عدم وجود رغبة حقيقية نحو الديمقراطية:
بالرغم من هبوب رياح الديمقراطية على روسيا، بعد الانهيار السوفيتي، فإنه لم توجد هناك خطوات جادة وحقيقية تجاه "الدمقرطة" الروسية. وقد أشار مركز كارنيجي إلى "اتجاه روسيا نحو النظام السلطوي". وها هي "سلطات" الرئيس الروسي الحالي "فلاديمير بوتين" تظهر بقوة بعد إعادة انتخابه عام 2004، حيث تصاعدت أهمية بناء قوات الأمن الداخلي لدحض أي معارضة أو انشقاق. ومن ثم كان الفشل في المضي بجدية وثبات نحو عملية التحول الديمقراطي الروسي مجهضاً لأي إصلاح عسكري.
رابعاً: عدم اهتمام النخبة السياسية بالإصلاح العسكري:
لم تنظر النخبة السياسية الروسية إلى هذا الشأن باهتمام، وهي ترى أن استثمار الاتحاد السوفيتي في القوة العسكرية لم يجنبه الانهيار، بل إن انشغال الاتحاد السوفيتي بالعامل العسكري أكثر من اللازم هو الذي أدى إلى سقوطه في النهاية. وكذلك تعتقد أن الوقت الحالي لا يتطلب هذا الاهتمام الزائد بالعنصر العسكري، وتُرجع هذا الاعتقاد إلى اختفاء عنصر التهديد الأمني من قبل الغرب، ومن ثم، فلا حاجة إلى ذلك الاتجاه الإصلاحي داخل الجيش.
خامساً: عقيدة تعظيم الجيش لدى الروس:
منذ "بطرس الأكبر" وصعود روسيا إلى مصاف القوى الكبرى، والجيش يُنظر إليه على كونه "حجر أساس الدولة الروسية". فترسخت هذه العقيدة في الثقافة السياسية الروسية كقضية مُسلم بها، وصارت العقلية الروسية تؤمن بأن الجيش لا يمكن له الخضوع لأي تحكم مدني. هذه السيادة التي حصل عليها الجيش الروسي – تاريخياً وثقافياً – أعطت له فاعلية واضحة في صد أية جهود إصلاحية غير مرغوب فيها.
سادساً: حرب الشيشان أولى من الإصلاح:
كما استخدم مناشدو الإصلاح حرب الشيشان كدافع رئيسي لإصلاح الجيش، استخدم أيضاً مناهضو الإصلاح حرب الشيشان كمانع لإصلاح الجيش، إذ يتساءلون: كيف يكون من الحكمة أخذ خطوات إصلاحية داخل الجيش الروسي وهو يحارب في الشيشان؟ وكيف يمكن للقيادة السياسية أن تطالب قيادة الجيش العليا بإصلاحات عسكرية في الوقت الذي تكون فيه القيادة العليا في أمس الحاجة إلى كل جندي روسي ليحارب أو يموت في الشيشان؟.
سابعاً: تزاحم الأولويات على الأجندة الروسية:
لم تكن قضية إصلاح الجيش هي القضية الأولى والأخيرة على الأجندة الروسية، بل كانت هناك قضايا أخرى، وعلى نفس درجة الأهمية، الأمر الذي شتت وأرهق عقول القادة السياسيين. فكانت هناك أزمات عدة: اقتصادية، واجتماعية، وإثنية، وأزمة بلورة سياسة خارجية جديدة.. كلها أزمات تجلت بعد الانهيار السوفيتي، كان من الصعب إهمالها من أجل الإصلاح العسكري فقط.
ثامناً: ظهور سياسات غربية مستفزة وداحضة لفكرة الإصلاح:
كان لبعض السياسات الأمنية الخارجية الأمريكية أثر واضح على سير الجدل القائم بين راغبي الإصلاح ومعارضيه، حيث استفزت تلك السياسات حفيظة موسكو لدرجة جعلتها تفكر في إعادة النظر حول مسألة التهديد الغربي، وإمكانية عودته مرة أخرى. أثارت تلك السياسات – بالذات – حفيظة الجناح المعارض للإصلاح، وأعطت له كل الحق في أن يصر على أن المستقبل الحقيقي هو للقوة العسكرية وليس للقيادة المدنية. ومن تلك السياسات، على سبيل المثال، السياسات الغربية في البلقان التي اصطدمت مع نظيرتها الروسية، مما جعل الكثير من الروس يعتقدون أن حلف شمال الأطلسي قد تجاهل المصالح الروسية، وبأنه قادر على شن "هجوم" داخل أوربا. ثم أُطلقت سياسة استفزازية أخرى، حينما تم توسيع الحلف تجاه شرق أوربا، قرب الحدود الروسية.
تاسعاً: ندرة المصادر التمويلية:
أدى العجز في الميزانية الروسية إلى تعطيل الإصلاح العسكري، فأي إصلاح بحاجة إلى ميزانية ضخمة. وإصلاح الجيش ليس معناه أبداً تخفيض النفقات، بل العكس هو الصحيح. فهناك عناصر كثيرة في الإصلاح العسكري تحتاج إلى تكاليف باهظة، مثل تطوير الأجهزة، وترشيد استخدام البنى التحتية، ورفع مستوى المدنية لدى الجنود، وإعطاء معاشات لفائض الجنود الذين سيتم تسريحهم.
عاشراً: اتجاه روسيا نحو النووي بدلاً من الإصلاح:
نظراً لإخفاقها في مجال التسلح التقليدي – مقارنة بالغرب – لجأت روسيا إلى تعويض هذا الإخفاق من خلال التركيز على السياسة النووية، وتبني مفهوم أمني يعتمد أساساً على التسلح النووي، سواء على المستوى الإستراتيجي أو المستوى التكتيكي. ومن ثم صارت مواطن الضعف في القوات الروسية أمراً أكثر قبولاً، وصار خيار الاعتماد على النووي مضموناً، الأمر الذي أدى في النهاية إلى تقليص أهمية الإصلاح العسكري. بمعنى آخر: إن وجود ضامن نووي للأمن الروسي أخمد مناشدات وهتافات الإصلاحيين، وعضد من الفئة المعارضة للإصلاح. وهذه النقطة العاشرة والأخيرة تفيد بعودة مسألة النووي إلى الفكر الروسي، بل انتقالها إلى مركز أو بؤرة الفكر الروسي، في الوقت الذي اختفت فيه هذه المسألة لدى الجمهور.
... هكذا نرى كيف تصير عراقيل الإصلاح أقوى أثراً من دوافعه، فتترك جيشاً واقفاً مكانه – على امتداد ثلاثة عشر عاماً – بدون أدنى تقدم أو تطور، وتحوله إلى مؤسسة رثة منزوعة الروح والحمية، غير قادرة على التكيف العسكري مع أبسط المهام التي تُطالب بها.. ثم نرى ذلك التضارب غير المفهوم بين ضعف الجيش من ناحية، وقوة قيادته من ناحية أخرى.. وأخيراً، نرى تلك الفجوة غير المنطقية بين السياسة الأمنية من جهة، وبين المتطلبات العسكرية الملحة من جهة أخرى.