اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city

الحالة
مغلق و غير مفتوح للمزيد من الردود.
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city

يخصوص روما افتح لها موضوعا يعبر عن افكارك حتى نناقشها بشكل جيد
بخصوص الامير عبد القادر فاول قصص تاثره بالماسونية جاءت بعد الفتنة الطائفية في سوريا وحمايته للمسيحيين هناك انطلاقا من مبادئ اسلامية بحتة وهي ليست غريبة عن رجل كان يطلب في معاهداته مع الفرنسيين ارسال قس مسيحي للجنود الفرنسيين الاسرى والذين كان يعطيهم اجرا لقاء عملهم في الاسر فهذه قيم اسلامية قبل كل شيئ

والامير بحد ذاته يتحدث عن رسائل الشكر التي كانت تصله من المحفل الماسونية نظير افعاله الانسانية يعني كحال حكامنا العرب اذا وفرت الخدمات للسواح الغربيين وقمت بحماية الطوائف الاخرى تجد الشكر والمديح ياتيك من كل حدب وصوب حتى من اسرائيل فهل هذا يعني انك عميل للغرب او انك انضممت اليهم
يقول الامير
طبعا ماسنوية القرن التاسع عشر الناشئة وليس ماسونية اليوم ثم ان كلام الامير واضح
لم اجد ما يتعارض مع القران والسنة ولو وجد ما يتعارض لامتنع منها ولحذر منها
ضف الى ذلك
كل احاديث علاقة الامير بالماسونية جاءت من ماسويين وزادت هذه الحملة بعد زيارة الامير لمصر خلال تدشين قناة السويس بل وقيل ان الامير انظم الى محفل القاهرة ولما طالبهم احد احفاده بتقديم وثائق انضمامه او شيئ مادي ملموس لم يتقدم ولا واحد منهم لذلك

عربيا نجد ان من حرك هذه النقطة اول مرة هو الكاتب اللبناني جورجي زيدان وان كان هو شخصيا كتب عن الامير في قصته اسير المتمهدي وان كنت انا من محبي قصص جورجي زيدان الان ان كل ماجاء به هو قيل وقال

لاتخم الموضوع اقول

ان الامير تاثر بالماسونية وعبر عن ذلك بقوله لم اجد فيها ما يتعارض مع الاسلام والقران والسنة والفقه الاسلامي
هذا كان اقول انا انني متاثر بالسلفية فهل هذا يعني انني ارهابي لانني لم اجد فيها ما يتعارض مع السنة والقران ولكن هذا لا يمنع السلفية من ان تتحول ومستقبلا وربما بعد مماتي الى مذهب فاسد فهل سابقى محسوبا على السلفية التي لم ارها ؟؟؟؟
نفس الشيئ ينطبق على الماسونية
علما ان الامير توفي سنة 83 وتاسس الحركة الصهيونية سنة 97 وقد كان لتاسيسها دور كبير في تحريف الماسونية بشكل كبير

علما ان الامير كان من انصار فكرة حورا الاديان وهي فكرة كانت تدعوا لها المحافل الماسونية انذاك


اما بقية التراهات حول وجود النجمة السداسية في علم الامير و و و و فقد رد عليها حفيد الامير عبد القادر محمد بن سعيد ولا داعي لاكررها والبحث عنها بالنت سيوضح لكم الحقيقة


اخي الزعيم في البداية انتقدت واعترضت والان تعترف بان الامير عبد القادر ماسوني تحت غطاء ماسونية الفرن 19 وكان الماسونية التي تعود جذورها الى عام 44 م اختلفت عن ماسونية 1897 حسب ما تريد اقناع نفسك به ......انا مايهمني صراحة هو انك لن تجد شيء تحاجج به وتنكر به ماسونية الامير عبد القادر وهذا جوهر الموضوع والمهم هواعترافك بماسونيته بطريقة او باخرى والباقي سيحكم فيه التاريخ وذوي العقول ما اذاكانت هناك ماسونية للقرن 19 وماسونية للقرن 20 ونحن على هذا مستعدين للنقاش ودحر المكابرين .....لكن مالم افهم هوانك قلت انك تمتلك مصادر تنتقد بها خزعبلاتي وبعد ربع ساعة اتيت مؤكدا على حديثي اوخزعبلاتي كما سبق وصفك لها فاين مصدرك التي ستنتقد بها افكاري الغريبة اذن .....اخي الزعيم اذا كنت تريد حديث بمصادر وادلة وبراهين فحدد ماتريد واذا كان كلامك مجرد تحاليل من بنات افكارك التي نحترمها فاخبرني كذالك رغم انني اكتفيت بما اريد وهواعترافك بماسونية الامير .....

بخصوص روما اخي الزعيم فانا كتبت وقائع ودلائل ولم اكتب افكاري وارائي و مع هذا فجميع ماكتبته هو بانتظارك وانتظار انتقادك له فانا من رد عليك وانا من ينتظر ردك علي وقد سبق واخبرتك افتح اي موضوع واختار اي نقاش عن روما ثم اتصل بي ....ونقطة اخيرة اخي الزعيم اي نقاش بخصوص روما انا من سيصحح افكارك ويناقش ارائك وليس العكس ......

http://defense-arab.com/vb/showthread.php?t=42012&page=11
 
التعديل الأخير:
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city

ياريت دليل اخي شكيب عن ماسونية احفاد الامير

ليس جورجي زيدان فقط اذا استطعت الحصول على كتاب الماسونية والماسونين في الوطن العربي ستكتشف ان جورجي زيدان لم يقول اي شيء ذي قيمة ......يكفي ان الكتاب يتحدث عن احد ملوك العرب الماسونيين [font=&quot][/font]لتدرك اهميته وخطورته .......بالمناسبة الملك ليس ملك المغرب.......
 
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city


كنت اعتقد انه يوجد قذافي واحد و لكن الظاهر اني مخطئ فهناك الكثير من امثال القذافي .
 
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city


كنت اعتقد انه يوجد قذافي واحد و لكن الظاهر اني مخطئ فهناك الكثير من امثال القذافي .

وانا كنت اعتقد ان السذج في الوطن العربي قلة ولكن اتضح ان معظم الوطن العربي ساذج الى حد التافهة ........
 
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city

وانا كنت اعتقد ان السذج في الوطن العربي قلة ولكن اتضح ان معظم الوطن العربي ساذج الى حد التافهة ........



خرجاتك اصبحت تثير الاستغراب فحكاياتك التي تشبه حكايات الف ليلة و ليلة انحرفت و اصبحت خطيرة للغاية.

فمرة تكلمنا عن الامبراطورية الرومانية و مرة عن خزعبلات ان الامير كان ماسونيا و المرة القادمة ستقول اننا الشعب الجزائري نزل من المريخ .........

الخوف كل الخوف عليك من انسلاخك من معتقداتك الدينية فقرائتك لكتب المستشرقين جعلت افكارك تشبه افكارهم لحد بعيد.

ربي يهديك و يشافيك.

على فكرة قبل ان تتحدث عن الامير عبد القادر عليك ان تغتسل.
 
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city

مقالات منقولة

سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر .. خلدون مكي الحسني

بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة الأولى

أيها الإخوة السلام عليكم ورحمة الله
وقفتُ على مقال منشور في هذا الموقع الطيب (الألوكة) بعنوان ((فك الشفرة الجزائرية وفتح الأيقونة الباريسية)) كتبه محمد المبارك . وهذا المقال منشور في كثير من المواقع الإسلامية ، والغرض منه الحديث عن شخصية الأمير عبد القادر الجزائري ، ولكن بطريقة ومضمون لم يسبق إليهما ، وطبعًا لا يُقرُّ عليهما!
وقبل أن أبدأ بالرد على مغالطات صاحب المقال ، أود أن أبدأ بمسألة ذكَرَها صاحب المقال معتمدًا عليها ؛ ويذكرها بعضُ من خاض في عرض الأمير عبد القادر ويظنون أنها ثابتة أو صحيحة ويبنون عليها أحكامهم ، ويبالغ بعضهم كاذبًا فيقول إنها متواترة!! ويحاول البعض أن يدلّس على الناس فيوهمهم أنّ بعض علماء الحديث الكبار في عصرنا هذا ؛ قد أثبتها!!
وهذه المسألة هي ما رواه عبد الرحمن الوكيل في المقدمة التي كتبها لكتاب الإمام برهان الدين البقاعي رحمه الله (تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي) نقلاً عن الصفحة الأولى من نسخة الشيخ محمد نصيف الذي أهدى هذا الكتاب إلى الشيخ محمد حامد الفقي ليطبعه حيث قال: وقد كتب الشيخ الجليل محمد نصيف على نسخته ما يأتي : "أقول أنا محمد نصيف بن حسين بن عمر نصيف: سألت السائح التركي ولي هاشم عند عودته من الحج في محرم سنة 1355هـ عن سبب عدم وجود ما صنفه العلماء في الرد على ابن عربي ، وأهل نحلته الحلولية والاتحادية من المتصوفة ؟ فقال: قد سعى الأمير السيد عبد القادر الجزائري بجمعها كلها بالشراء والهبة ، وطالعها كلها ، ثم أحرقها بالنار ، وقد ألف الأمير عبد القادر كتاباً في التصوف على طريقة ابن عربي . صرّح فيه بما كان يلوّح ابن عربي ، خوفاً من سيف الشرع الذي صرع قبله:" أبو الحسين الحلاج " ، وقد طبع كتابه بمصر في ثلاث مجلدات ، وسماه المواقف في الواعظ والإرشاد ، وطبع وقفاً ، ولا حول ولا قوة إلا بالله" .انتهى [ص14]
وأقول : إذا كان ما رواه الوكيل عن الشيخ محمد نصيف صحيحًا ، فإننا مع احترامنا للشيخ محمد نصيف ولمنزلته ، لا يمكن أن نقبل هذا الكلام لأنه كلام غير مقبول أبداً وليس علمياً ولا منطقياً!! والذين يقبلونه هكذا على علاّته عندهم مشكلة ولا ريب ، ونحن مسلمون نكتب في منتدى أهل الحديث ، فيجب علينا أن نقتفي طريقة أهل الحديث في قبول الروايات وردّها ، فما بالك برواية عجيبة كهذه؟!
أوّلاً ـ لماذا لم يترجم الشيخ نصيف لشخصية السائح التركي ولي هاشم؟ من هو ، وما منزلته العلمية ، ومتى ولد ، وما عمله واختصاصه ، وعَمَّن تلقى تلك الرواية عن الأمير؟ أسئلة كثيرة يجب أن تُعرف قبل القبول برواية شخص مجهول الحال!
ثانياً ـ من المعروف أن الشيخ محمد نصيف من أشهر أصحاب المكتبات في مدينة جُدّة والمهتمّين بالكتب ، فما حاجته إلى سؤال أحد السّائحين الأتراك عن تلك الكتب؟ وهل ذلك التركي أعلم بالكتب والمخطوطات من الشيخ نصيف؟ وقد ذكر عبد الرحمن وكيل ص13 أنّ السيد أحمد زكي أهدى صورة مخطوط (تنبيه الغبي) للشيخ محمد نصيف سنة (1352هـ) أي قبل اجتماعه بالسائح التركي بثلاث سنوات!! إذن عمَّ كان يسأله والكتاب عنده؟!
ثالثاً ـ إنّ سؤال الشيخ نصيف غريب ، فما هي الكتب التي صُنّفت في الرد على ابن عربي؟ نحن لم نسمع أو نقرأ عن كتاب صنّف لأجل الرّد على ابن عربي غير كتاب الإمام البقاعي (تنبيه الغبي) ، فلماذا لم يذكر لنا الكتب المفقودة التي صنّفت في الرد على ابن عربي؟ وجواب السائح التركي أغرب منه فقد زعم أنّ الأمير اشترى جميع (انتبه جميــع) تلك الكتب والمخطوطات وأحرقها!!
ونحن نرى أنّ كتاب البقاعي كان موجوداً عند الشيخ نصيف وقد طُبع! إذن فالمخطوط لم يُحرق والحمد لله ، وكذلك كتب التراجم التي ترجمت لابن عربي وانتقدته ، مثل (ميزان الاعتدال) و(لسان الميزان) و(سير أعلام النبلاء) و(العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين) وغيرها من الكتب كلّها موجودة ومطبوعة ، إذن فمخطوطاتها لم تحرق والحمد لله ، فعن أي كتب يسأل الشيخ نصيف؟ وأيّ جواب هذا الذي افتراه السائح التركي؟!!
رابعاً ـ إنّ الأمير عبد القادر توفي سنة (1300هـ)! ، والشيخ نصيف من مواليد (1302هـ)!( ) أي بعد وفاة الأمير بسنتين ، والسائح التركي لا نعرف من هو ولا تاريخ مولده ، ولكنّ اللقاء جرى بينه وبين الشيخ نصيف سنة (1355هـ) !!! أي بعد وفاة الأمير بخمس وخمسين سنة! فمن أين لهذا السائح التركي تلك المعلومات ؟ شراء جميع تلك المخطوطات أو استيهابها ثمّ الاطلاع على ما فيها وبعد ذلك إحراقها!!
إنّ واحدة من تلك المعلومات تحتاج من راويها أن يكون معاصراً للأمير ومخالطاً له ومطلعاً على أعماله واتصالاته ، فما بالها غابت عن كل من خالط الأمير واجتمع به وعاش معه من العلماء والوجهاء والأدباء والأعيان الذين ترجموا له وكتبوا عن سيرته ، وظفر بها السائح التركي المجهول والذي يفتقر إلى كل تلك الصفات؟!
خامساً ـ إن حادثة مثل هذه (إحراق مخطوطات) هي حادثة كبيرة جداً ، ومن الغريب والمستبعد جداً ألاّ يعلم بها أحدٌ من أهل الشام على مختلف طبقاتهم ، فكل من ترجم للأمير عبد القادر ، وهم من تيارات مختلفة : ففيهم الصوفي وفيهم السلفي وفيهم الكافر وفيهم المسلم وفيهم المستشرق والمغرض وفيهم المؤرخ الحر وفيهم الأدباء ، كل هؤلاء لم يذكروا هذه الحادثة أو يشيروا إليها لا من قريب ولا من بعيد!! فكيف علم بها السائح التركي وحده؟ وكيف قَبِل منه هذا الخبر الشيخ محمد نصيف؟!
وهؤلاء العلماء ذكروا ما للأمير وما عليه بإنصاف وعدل .
سادساًـ من المعلوم عند أهل العلم أن السلطان سليم العثماني هو من أشد الناس تعظيماً وتقديساً لابن عربي ، وبعد دخوله إلى الشام أسرع وأمر ببناء مقام للشيخ ابن عربي بصالحية دمشق في أعلى الجبل وفق إشارة الشيخ ابن عربي في أحد كتبه!![انظر (منتخبات التواريخ لدمشق) للحصني 2/573] (وكان يعبّر عن هذه الإشارة بعض شيوخ المتصوفة بقولهم : إذا دَخَلَت السِّين في الشين ظَهَرَ مقام محيي الدين! إذن فلتكن السين هي رمزٌ للسلطان سليم والشين رمزٌ للشام)
ومن المعلوم أيضاً عند أهل العلم أن السلطان سليم قام بمصادرة مخطوطات الحديث والسنة من الشام ومصر وألقاها في أقبية الآستانة (وهذا قبل أن يولد أجداد الأمير عبد القادر)، وآخر من اطلع على هذه المخطوطات من العلماء المشاهير الحافظ ابن حجر العسقلاني ،رحمه الله ، فلماذا لم يذكر أحد من أهل التواريخ أن السلطان سليم أحرق الكتب التي ترد على ابن عربي؟ ولماذا لم يقم بهذا الفعل أصلاً مع تعصبه الشديد لابن عربي؟ [والدليل على ما قاله أهل العلم من المؤرخين هو عثور الأستاذ أحمد زكي على مخطوط (تنبيه الغبي) في خزائن القسطنطينية (استنبول)!! . انظر مقدمة عبد الرحمن الوكيل ص13
فائدة :[الأستاذ أحمد زكي باشا والملقّب بشيخ العروبة كان من أصدقاء الأمير سعيد الجزائري حفيد الأمير عبد القادر]
سابعاً ـ إنّ الدولة العثمانيّة في كلّ أطوارها كانت ترسّخ التصوّف وتشجّعُ عليه في كلّ أرجاء دولتها ، وهي التي أنشأت الأضرحة والقباب والمقامات والزوايا وأجرت لها الأوقاف ، وعيّنت كبار شيوخ التصوف مُتَولِّين على الأوقاف الإسلامية . وكما نعلم فإنّ المتصوفة يعظّمون ابن عربي ويقدّسونه فهل يريد منا الشيخ نصيف أن نقبل أن جميع هؤلاء المتعصبين لابن عربي من السلطان سليم وباقي السلاطين والولاة مروراً بمشيخة الطرق والأضرحة لم يتعرّضوا للكتب الرادة على ابن عربي عبر تلك القرون كلها وحافظوا عليها واعتنوا بها ، وتركوا التفكير بإحراقها ، حتى إذا أهلَّ زمان الأمير عبد القادر ؛ ذلك القائد الفذ والأديب الشريف ، أقدم على التفكير بهذه الطريقة وقام بتنفيذها؟!!!
إنّ هذا حقاً لأمر عجيب ولا يمكن القبول به عند العقلاء .
وألفت الانتباه إلى أنّ السيوطي نفسه ؛ وهو الذي ردّ على كتاب الإمام البقاعي ؛ كان يعتقد بولاية ابن عربي ولكن كان يقول بحرمة قراءة كتبه!
وجلّ شيوخ التصوف كان هذا مذهبهم ينهون أتباعهم عن نسخ كتب ابن عربي أو قراءتها مع إقرارهم بولايته!! ويقولون للناس إن الفقهاء الذين ينتقدون ابن عربي لم يفهموا كلامه ونحن نعذرهم فهم أهل الظاهر وابن عربي من أهل الباطن!!
إذن فما الحاجة إلى إحراق كتب العلماء التي انتقدت ابن عربي؟
ليس هناك حاجة طبعاً سوى أن مختلق هذه القصّة (السائح التركي!) أراد أن يشوّه صورة الأمير عبد القادر فحسب ، فالأمير صوفي المشرب في الأصل وهذا يكفي عند البعض لأن يكون مباح العرض والدم فيفترى عليه بالباطل وتلصق به التهم.
ثامناً ـ أنا أعلم أنّ الأمير عبد القادر كان صوفيّ المشرب وقرأ "الفتوحات المكيّة" ، ولكن هذا لا يسمح لي أن أجزم من عند نفسي بأنّه كان موافقاً لابن عربي في كلّ شذوذاته وانحرافاته ، كيفَ لي ذلك وأنا أقرأُ في كتاب المواقف ؛ الذي نَسَبه الشيخ محمد نصيف للأمير!(وليس له)؛ قولَ الأمير : "وما يُنسَبُ لسيدنا خاتم الولاية محيي الدين مِنَ الكتب المؤلّفة في علم التدبير والكيمياء ، ولغيره من الأولياء الدّاعين إلى الله تعالى ؛ فزورٌ وافتراء ، فإنّه مُحالٌ أنْ يَدُلَّ وليٌ من أولياء الله ، عبادَ الله على ما يقطعهم عن الله تعالى ... وكذا ما يُنسَبُ لسيدنا محيي الدين ، من الكتب المؤلّفة في الملاحم والجِفْر كالشّجرة النعمانيّة وغيرها .. وكذا الفتاوى المنسوبة إليه ، كذبٌ وزور".انتهى [المواقف 2/709]
فكما ترون فإنّ الأمير عندما اطّلَعَ على كلامٍِ يُنسبُ للشيخ ابن عربي ووجَدَه مخالفاً للشريعة أسرعَ فنفاه عنه وذلك في كتابه الخاص بعلوم القوم ، والسبب في ذلك أنّ الأمير نشَأ على محبّة من يُسمّونهم أولياء الله ، ومنهم ابن عربي . فمن باب حُسنِ ظنّه به نفى عنه ما رآه مخالفاً للشرع .
ولَسْتُ هنا في معرض تصويب أو تخطئة كلام الأمير في نفي تلك الكتب أو إثباتها ، ولكنّ الذي أُريد بيانه أنّ الأمير صرَّح بعدم موافقته على الكلام المخالف للشرع الذي نُسِبَ لابن عربي ، فكيفَ يسمح البعض لأنفسهم أن يجزموا بأنّ الأمير كان على معتقد الشيخ ابن عربي من الحلول والاتحاد؟!
كما فعل الشيخ محمد نصيف الذي لم يكتف بذلك بل قال : ((وقد ألف الأمير عبد القادر كتاباً في التصوف على طريقة ابن عربي . صرّح فيه بما كان يلوّح ابن عربي)) . سبحان الله!
وانظروا إلى تحذير الأمير من ذلك عندما كان يشرحُ بعض إشارات الصوفيّة قال في آخر كلامه :
" واحذر أن ترميَني بحلولٍ أو اتّحاد أو امتزاج أو نحو ذلك ، فإني بريء من جميع ذلك ومِنْ كل ما يُخالف كتابَ الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم .. ".انتهى [المواقف 2/869]
وانظروا إلى قوله : "... فإنّ هلاكه أقرب ، ونجاته أغرب ، إذ للشيطان فيه مدخلٌ واسع وشبهة قويّة فلا يزال أبو مُرّة (يعني إبليس) معه يستدرجه شيئاً فشيئاً يقول له : الحقُّ ـ تعالى ـ حقيقَتُكَ ، وما أنتَ غيرُه ، فلا تُتْعِب نفسك بهذه العبادات ، فإنّها ما وُضعت إلا للعوام الذين لم يصلوا إلى هذا المقام ، فما عرفوا ما عَرَفت ، ولا وصلوا إلى ما إليه وصلت. ثمّ يُبيحُ له المحرّمات، ويقول له : أنتَ ممَّن قال لهم : اعملوا ماشئتم فقد وجبت لكم الجنّة ، فيُصبِحُ زنديقاً إباحيّاً حلوليّاً ، يمرقُ من الدِّين كما يمرق السهم من الرميَّة".انتهى [المواقف 3/1043]
يقول شارل هنري تشرشل : ((إن العرب ينسبون نجاح وحظّ عبد القادر السعيد إلى تعضيد سميّه العظيم (يقصد بسميّه الشيخ عبد القادر الجيلاني) ، ولكن كلّما سُئلَ عبد القادر عن عقيدته في هذه الخرافة ، أجاب بلا تغيير ، مُشيراً بإصبعه إلى السماء ، "إنّ ثقتي في الله وحده")) .انتهى [(حياة الأمير عبد القادر) ترجمة أبي القاسم سعد الله ص46]
وهذا نصٌّ واضح يرويه هنري تشرشل (البريطاني المسيحي) مباشرة عن الأمير ـ فقد لازمه مدة خمسة أشهر في دمشق سنة 1860م يسأله عن حياته العائلية ووقائعه في الجزائرـ وبعد أن سأله مراراً عن عقيدته فيما يعتقده بعض المتصوفة من أنّ نجاح الأمير كان بسبب عناية الولي الجيلاني به ومساندته له ، كان جواب الأمير ثابتًا دائماً ، كان يُشير بإصبعه إلى السماء ويقول :"إنّ ثقتي بالله وحده"!! وهذه النصوص التي سقتها لكم هي نصوص ظاهرة الدلالة يصرّح فيها الأمير عن معتقده ، فلا يجوز أن يُتغافل عنها ويُصار إلى الكلام عنه بالتخرّص والتوهّم!! بل يتعيّن الاعتماد عليها وطرح ما يخالفها.
وسيأتي مزيدٌ لبيان فكر وعقيدة الأمير عبد القادر عند الحديث على كتاب المواقف إن شاء الله .
أعتقد أنّ هذه الأشياء التي ذكرتها لكم تبيّن بوضوح عدم صحة الرواية التي أوردها الشيخ محمد نصيف عن السائح التركي ، على جميع الصُعد ، فهي لا تصح سنداً ولامتناً ولا مقبولة عقلاً ، ومتعارضة مع الحقيقة والواقع ، فقد زعم راويها أنّ الأمير اشترى كل تلك الكتب وأحرقها ، وها نحن نرى اليوم جميع تلك الكتب موجودة ومحفوظة! فالأخذ بهذه الرواية ليس من الدّين في شيء .
وأعجب من ذلك أنّ بعض الذين أوردوا هذه الرواية فهموا منها شيئاً لم يُذكر فيها! وصاغوه كما يروق لهم ، فقالوا : إن الأمير عبد القادر من ألد أعداء دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وكان يُحرق كُتبه وكتب ابن القيّم!!
ودليلهم على ذلك هو الرواية التي ساقها الشيخ محمد نصيف .
ولا أدري من أين ظهر لهم اسم شيخ الإسلام ابن تيمية في كل تلك الرواية؟!
لعلّهم ظنوا أنّ الإمام ابن تيميّة ، رحمه الله ، كان الوحيد الذي يُنكر على ابن عربي ، ومِنْ ثَمَّ فالكتب التي أحرقها الأمير عبد القادر هي كتب الإمام ابن تيميّة ، ومن هنا استشفّوا العداوة بين الرجلين!
وهذا والله أمرٌ عجيب! أيكون الحكم على العلاقات بين الرجال بهذه الطريقة السقيمة؟!
توهّمٌ أوّل مضافٌ إلى توهّمٍ ثان والتوهمان مبنيان على رواية باطلة ، وبعد ذلك الخروج بحكم ما أنزل الله به من سلطان . ثم "نحن أهل الإسلام وأهل الحديث!!"
إنّ الواجب على الذي يدّعي هذا الكلام أن يأتي بالبرهان والدليل على كلامه ، وإلاّ فهو ساقط الرواية وليس بثقة ؛ هذا في الدنيا ، وأما في الآخرة فالموقف عصيب والدّيان شديد العقاب .
وأنبّه هنا إلى أمر هام وهو أنّ علماء عصرنا الذين ترجموا لابن تيمية وابن القيم وكذلك المحققين الذين تولوا إخراج تراثهما المكتوب ، لم يشيروا لا من قريب ولا من بعيد إلى حادثة إحراق كتبهما . وتفرّد بذكر هذه الحادثة صاحب مقال فك الشيفرة وأمثاله من الذين يلقون أوهامهم هنا وهناك في (الإنترنت) ، وهم ليسوا من أهل العلم بل وغير معروفين .وليس لهم أي مستند أو برهان لما ذكروه وافتروه!!
والأمير له بعض الكتب والرسائل ، لا يوجد في أي منها تعريض بشيخ الإسلام أو بغيره .
وبعد مطالعتي لتراث الأمير عبد القادر لم أقف على شيء يدل على نفور الأمير من ابن تيمية. ولكنني وقفت على بعض النصوص ، التي كتبها السيد أحمد بن محيي الدين الحسني الأخ الأصغر للأمير عبد القادر وتلميذه النجيب وهو صوفي المشرب أيضًا (وهو من أصفياء العلاّمة جمال الدين القاسمي)، هي أقوى في الدلالة وأظهر من تلك التي اعتمد عليها أدعياء العداوة بين الرجلين ؛
1ـ جاء في كتاب (نثر الدر وبسطه) لأحمد بن محيي الدين الحسني (وهو مطبوع سنة 1324هـ) في الصفحة 102 : (( .. ثمّ إنّ مما يُستغرب منه ويُتعجّب ما كنتُ سمعته من بعض طلبة وقتنا ، وهو أنّ العلاّمة المحقق الشيخ ابن تيميّة رحمه الله تعالى ألّف كتاباً حاول فيه تعليل المسائل الفقهيّة التي عجز فحول العلماء عن تعليلها ، واستنبطَ لها جميعها تعليلات مقبولة ، فاستبعدتُ ذلك منه كل البعد ، وعددته من الأشياء المحالة أو الشبيهة بالمحال ، إذ لا يمكن للإنسان أن يلتمس لتلك الأشياء تعليلاً مقبولاً إلاّ أن يكون بقوة كشفيّة أو ملكة وهبيّة . فلربما يصحّ ذلك لمن أطلعه الحق تعالى على ما هنالك وتخرج وقتئذ عن كونها تعبّديّة ..)) انتهى
إذن فالسيد أحمد الأخ الأصغر للأمير وتلميذه المخلص إذا أورد اسم شيخ الإسلام قال عنه : ((العلاّمة المحقق الشيخ)) ثمّ يقول ((رحمه الله تعالى)) ، مع أنّ الكلام الذي سيسوقه إنما هو في معرض الرد والمخالفة ، فهل يمكن أن يُفهم من كلامه أنّه من ألدّ أعدائه؟
وانظروا إلى ما قال الهيتمي بحق شيخ الإسلام ابن تيمية عندما سُئل عنه فأجاب بقوله : ((ابن تيمية عبدٌ خذَلَه الله وأضلّه وأعماه وأصمّه وأذله وبذلك صرّح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذب أقواله)).انتهى [انظر فتاوى الهيتمي ص114].
بمقارنة بسيطة بين كلام السيد أحمد الحسني وبين كلام الهيتمي يستطيع العاقل أن يميّز بين من هو مبغضٌ وعدوّ ، وبين من يحترم الآخر مع مخالفته له في المذهب الفقهي . ومِِنْ ثَمَّ يستطيع القول إنّ الهيتمي مبغضٌ وعدوٌ لابن تيميّة ، ولكنه لا يستطيع أن يقول ذلك أبداً عن السيد أحمد ، وغرضي من هذا أن موقف السيد أحمد هو بالضرورة يعبّر عن موقف أخيه وأستاذه الأمير عبد القادر .
2ـ وجاء في كتاب السيد أحمد بن محيي الدين الحسني (نُخبة ما تُسرُّ به النواظر) وهو مخطوط موجود عندي ، وقد قدَّم له العلاّمة جمال الدين القاسمي ؛ يقول السيد أحمد في الصفحة 173
: (( .. وما أحسن قول العلاّمة محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيّم الدمشقي الحنبلي في وصف الحور العين في نونيّته المشهورة رحمةُ الله عليه ....)) .انتهى ، ثم أورد (32) بيتاً منها .
أهذا وصف الأعداء الألداء بعضهم لبعض؟! وابن القيّم هو من أخص تلاميذ ابن تيميّة ووارث منهجه .
إذن أستطيع أن أرى من خلال هذين النصين أن من زعم أنّ الأمير يكره ابن تيميّة وابن القيم هو متخرّص ومتكلّم بغير علم ولا تقوى .
وللفائدة فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يكن مكروهاً من قِبَل العلماء ولا الناس ولا المتصوفة ؛ لا في عصره ولا بعد ذلك ، وإنما كان له بعض المنافسين الذين حاولوا أن ينالوا منه ، ولكن هذا لم يكن له أي أثر عند الناس ، وفقهاء المذاهب الأربعة المتأخرون نقلوا عنه واستشهدوا بكلامه في كتبهم ؛ ولم يظهر التحامل على ابن تيمية والتعريض به على نحو عريض إلاّ في هذا العصر وذلك لأسباب أظن أنني غير محتاج إلى ذكرها في هذا المقام . والشيء نفسه يُقال بحق ابن القيّم رحمه الله.
وإنني أشهد أنني رأيت أناساً من المتصوفة ، بل ومن غلاتهم يقفون على قبر الشيخ ابن تيمية في دمشق خلف مشفى التوليد الجامعي وفي حرم كلية طب الأسنان القديمة ، ومدخل رئاسة جامعة دمشق ، ويقرؤون له الفاتحة كما هي عادتهم إذا زاروا القبور . (وقبره مع قبر صاحبيه) هي القبور الوحيدة المتبقّية من مقابر الصوفية! (المقبرة التي دُفن فيها ابن تيمية اسمها مقابر الصوفية) .
والآن سآتي على بيان فساد الادعاء الثاني ، وهو توهّم أن الأمير أحرق كتب ابن تيمية .
إن شيخ الإسلام لم يتعرّض فيما أعلم لتأليف جزءٍ خاص في الرد على ابن عربي ، وإنما هو ذكره في فتاويه ورسائله خلال حديثه عن انحرافات الصوفية . وكان يذكر عباراته التي في (فصوص الحكم والفتوحات) وينتقدها ويصفها بما تستحق من الضلال إلى الكفر ، ولكنّه لم يتعرّض لتكفير شخص ابن عربي مباشرة ، بل انظروا ماذا قال عنه في الفتاوى : ((..المَقَالَةُ الأُولَى مَقَالَةُ ابنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ فُصُوصِ الحكم. وَهِيَ مَعَ كَونِهَا كُفْرًا فَهُوَ أَقْرَبُهُم إلَى الإِسلامِ لِمَا يُوجَدُ فِي كَلامِهِ مِنْ الكَلامِ الجَيِّدِ كَثِيرًا وَلأَنَّهُ لا يَثبُتُ عَلَى الاتِّحَادِ ثَبَاتَ غَيرِهِ بَل هُوَ كَثِيرُ الاضْطِرَابِ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ قَائِمٌ مَعَ خَيَالِهِ الوَاسِعِ الَّذِي يَتَخَيَّلُ فِيهِ الحَقَّ تَارَةً وَالبَاطِلَ أُخرَى . وَاَللَّهُ أَعلَمُ بِمَا مَاتَ عليه)) انتهى.[مجموع الفتاوى 1/141]
وقال : ((وَهُوَ قَوْلُ بَقِيَّةِ الاتِّحَادِيَّةِ لَكِنَّ ابنَ عَرَبِيٍّ أَقْرَبُهُم إلَى الإسلام وَأَحسَنُ كَلامًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فَإِنَّهُ يُفَرِّقُ بَينَ الظَّاهِرِ وَالمَظَاهِرِ فَيُقِرُّ الأَمرَ وَالنَّهيَ وَالشَّرَائِعَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيهِ وَيَأْمُرُ بِالسُّلُوكِ بِكَثِيرِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ الْمَشَايِخُ مِن الأَخْلاقِ وَالعِبَادَاتِ وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِن العِبَادِ يَأخُذُونَ مِن كَلامِهِ سُلُوكَهُم فَيَنتَفِعُونَ بِذَلِكَ وَإِن كَانُوا لا يَفقَهُونَ حَقَائِقَهُ وَمَن فَهِمَهَا مِنهُم وَوَافَقَهُ فَقَد تَبَيَّنَ قَولَهُ)) . انتهى [مجموع الفتاوى 1/ 196]وفي الجزء الثاني من مجموع الفتاوى ص464 : ((وإنما كنتُ قديماً ممن يُحسن الظن بابن عربي ويُعظّمه : لِمَا رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثيرٍ من "الفتوحات" ، و"الكُنْه"( ) ، و"المحكم المربوط" ، و"الدرة الفاخرة" ، و"مطالع النجوم" ، ونحو ذلك . ولم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصوده ، ولم نطالع الفصوص ونحوه ، وكنا نجتمع مع إخواننا في الله نطلب الحق ونتبعه ، ونكشف حقيقة الطريق، فلما تبيّن الأمر عرفنا نحن ما يجب علينا ...)) ثمّ ذكرَ طامّات من أقوال ومعتقدات غلاة الصوفية الفلاسفة وختمها بقوله : ((وهذه المعاني كلها هي قول صاحب الفصوص (يعني ابن عربي) والله تعالى أعلم بما مات الرجل عليه ، والله يغفر لجميع المسلمين والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات ، الأحياء منهم والأموات {ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم})). انتهى [مجموع الفتاوى2/ 469]
فهل في هذا الكلام ما يحمل على الحقد على ابن تيميّة؟ وهل في كلام ابن تيمية أي رائحة شدّة وتعسّف أو حقد على ابن عربي؟
وروى الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة ابن عربي ، قال : وقد حكى العلامة ابن دقيق العيد شيخُنا أنه سمع الشيخ عز الدين ابن عبد السلام يقول عن ابن العربي : ((شيخ سوء كذّاب ، يقول بقدم العالم ولا يحرِّم فرجاً)).انتهى
وقال تقي الدين السبكي : ((ومَنْ كان مِنْ هؤلاء الصوفية المتأخرين كابن عربي وغيره ، فهم ضُلال جهالٌ ، خارجون عن طريقة الإسلام ، فضلاً عن العلماء)). انتهى . قال ذلك في باب الوصية من شرح المنهاج ونقله الكمال الدَّميري والتقي الحصني .
إننا إذا قارنا بين ما قاله الإمام العز بن عبد السلام أو السبكي وأبو حيان الأندلسي والبقاعي وغيرهم في ابن عربي وبين ما قاله ابن تيميّة ، تبيَّن لنا كم كان الإمام ابن تيميّة متلطفاً في العبارة ، ورعاً في الوصف مع الجرأة في بيان الحق ودحض الباطل . والشيء نفسه يُقال بحق ابن القيّم .
إذن فإحراق كتب هؤلاء أولى من إحراق كتب ابن تيمية وابن القيم!
ومع ذلك أقول للذين يصرّون بغير حق على اتهام الأمير بحرق كتب ابن تيميّة وابن القيّم .
هل تدرون أين وُجِدَت كُتب شيخ الإسلام ابن تيمية؟ وهل تدرون أين كانت تُحفظ وتتعهد بالرعاية ؟ إلى أن يسّر الله طبعها ونشرها .
لقد وُجد مجموع فتاوى ابن تيمية بتمامه تقريباً في دمشق ، موطنِ الأمير عبد القادر ومكان نفوذه وسلطته ، في المكتبة الظاهريّة غير البعيدة عن دار الأمير عبد القادر! فكيف يزعمون أنه أحرقها؟
أم أنهم سيقولون إنها فاتته ، إذن ماذا كان يحرق؟! وكيف لم يستحوذ عليها كما ادّعى السائح التركي ، مع أنها تحت يده في دمشق؟
وإليكم ما قاله الشيخ محمد بن عبد الرحمن العاصمي ، في مقدّمة مجموع الفتاوى المطبوع ، قال : ((إن أباه الشيخ عبد الرحمن العاصمي الحنبلي رحمه الله بدَأَ بجمع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميّة في نجد سنة 1340 هـ(انتبه للتاريخ) فوجد منها ثلاثة مجلّدات عند الشيخ محمد بن عبد اللطيف ثمّ قال :" وكانت نجدٌ وما زالت ـ بحمد الله ـ أسعد الأقاليم بالانتفاع بمؤلّفات شيخ الإسلام ، وتداولها وتدريسها"
[طبعاً هذا الكلام بعد وفاة الأمير عبد القادر وقبل قصّة الشيخ نصيف مع السّائح التركي فتنبَّه!]
ثمّ استخرَج من مكتبة الحرم المكي عدداً منها ؛ كما تحصّل على مسائل من بعض العلماء الأفاضل . وأمّا فَرَحُه الكبير فقد كان عندما عَثَرَ في المكتبة الظّاهريّة بدمشق على الكمّ الأكبر من الفتاوى قال :" .. ثمّ تصفّحتُ ((المجاميع)) وهي تزيد على (150) مجموعة ، وقد اشتَمَلَت على مسائل ونبذٍ لا توجد في غيرها ، وهي بخطوط قديمة ، وفيها من خطّ شيخ الإسلام بيده ما يزيد على (850) صحيفة . ومن تلك المجاميع ((مجموعة مسودة)) كلّها بخطّه ، لا يوجد شيء منها في المكاتب ، ولا غيرها عدد صفحاتها ( 664).."
ويتابع الحديث عن بحثه في المكتبات الأهليّة (الخاصّة) بدمشق فيقول : " فوجدتُ عند الشيخ حسن الشطي كتابين في الوقف ضمن مجاميع لشيخ الإسلام ، وعند محمد حمدي السفرجلاني مسائل في التراويح والإمامة وغيرها ..وعند أحمد عبيد وإخوانه مسائل ..." .انتهى انظر مقدّمة مجموع الفتاوى بقلم الشيخ محمد بن عبد الرحمن العاصمي النجدي الحنبلي.
إذن بعض كتب شيخ الإسلام كانت في بلاد الحرمين قديماً ، ولكن عُثر على معظم تراثه في دمشق! حيث كان يعيش الأمير عبد القادر ، وحيث كانت دار الكتب الظاهرية التي أنشأها ومدّها بالمخطوطات والكتب أحدُ ألمع تلامذة الأمير عبد القادر والمقرّبين منه إنه الشيخ طاهر الجزائري السمعوني السَّلَفي ، والأمير كان يمدّه بالمال والمخطوطات ، ومعظم المخطوطات التي كانت عند الأمير أعطاها للشيخ طاهر ، والمكتبة الظاهرية أُسِّسَت سنة 1879م يعني قبل وفاة الأمير بخمسة أعوام . والشيخ طاهر يُجلّ الأمير كثيرًا ورثاه بمرثيّة من أبدع ما قيل.
والذي أرشد الشيخ عبد الرحمن العاصمي إلى مجموع فتاوى ابن تيميّة ، هو الأمير عبد المجيد حفيد الأمير عبد القادر ، الذي كان أمينًا للمكتبة الظاهرية قرابة أربعين سنة! وللفائدة فإن الأمير عبد المجيد هو الذي كان يقدم التسهيلات للشيخ المحدّث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله ، أثناء وجوده في المكتبة الظاهرية . وكان الأمير عبد المجيد يأخذ برأي الإمام ابن تيمية في بعض المسائل!
وبالمناسبة فإن هواة الطعن في الرجال بالتشهي يتّهمون الشيخ طاهر الجزائري بالماسونية!
إذن على طريقتهم فإنّ الماسون هم الذين حافظوا على تراث شيخ الإسلام ابن تيمية! وحسبنا الله ونعم الوكيل .
أعتقد أن في هذا القدر من التوضيح والبيان كفاية لمن يريد الحق .
وفي المشاركة القادمة إن شاء الله سأبدأ بالرد على التهم والتخرصات التي ساقها صاحب فك الشيفرة الجزائريّة . وسأجعل الرد مقسمًا على حلقات أتناول فيها التهم واحدة إثر أخرى .



والحمد لله ربّ العالمين
خلدون بن مكّي الحسني
للبحث صِلة
 
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city

بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة الثانية

نُشر في الكثير من المواقع الإسلامية!! مقال للأخ (محمد المبارك) بعنوان ((فك الشفرة الجزائريّة وفتح الأيقونة الباريسيّة)) والقارئ للعنوان يظن أنه سيطلع على خفايا ووثائق تكشف شيئًا عن السياسة في الجزائر وفرنسة ، ولكن سرعان ما يتلاشى هذا الظن عندما يجد القارئ نفسه أمام مقال يترجم للأمير عبد القادر فحسب!! ولكن أيّ ترجمة؟ إنها ترجمة غير مسبوقة ولا يُقرُّ الكاتب عليها ، فهي وإنْ بدأَتْ بذكر شيء من مآثره ومزاياه ، إلاّ أنها في صلبها لا تُبقي للأمير أي خصلة حميدة إلاّ جرّدته منها ، وألصقت به خصال السوء .
كل ذلك دون ذكر أي مصادر أو مراجع أو إحالات لكتب أو علماء . اللهم ما كان من ذكر لأقوال بعض رجال الماسون ولكن أيضًا دون ذكر المصادر والإحالات!
وإذا راجعنا تاريخ تلك الحقبة ، وترجمة الأمير عبد القادر في كتب المغاربة والمشارقة الذين عاصروه أو كانوا قريبًا من عصره ، وهم بالعشرات ، فسنجد خلاف ما ذكره صاحب المقال!
وتحت إلحاح الكثير من الإخوة والأساتذة الكرام ، كتبتُ ردًا على ذلك المقال ، أُبيّن فيه ما وقفتُ عليه في كتب العلماء والمؤرّخين من الحقائق والوثائق ، وذلك لتجلية الموضوع وإظهار الحقيقة.
وتشمل حلقات الرد على بعض التوضيحات التاريخية والتراجم ، إضافة إلى دفع الشُّبه والاتهامات .
وأنا في ردي هذا إنما أنطلق من مبدأ الذَّب عن أعراض المسلمين الذي أُمِرْنا به ، فلا يجوز لي وأنا أرى ظلمًا واقعًا بأحدٍ من المسلمين ـ أيًّا كان مذهبه ـ وأعلم أنه بريء منه ، أن أسكت عنه أو أتجاهله . لا يجوز هذا لي ولا لغيري أبدًا ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ((كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه)) . [وعِرْضُ الرجل : موضع المدح والذم فيه] .
وأنطلق من قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح : [((انصر أخاك ظالماً أو مظلومًا)) . فقال رجل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلومًا أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال : ((تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره))]
وأنا ـ إن شاء الله ـ في بحثي هذا سأنتصر للأمير عبد القادر (المظلوم) والذي انتقل إلى الدار الآخرة فلا يستطيع أن ينتصر لنفسه ، وسأنصفه وأدافع عن عرضه بالحق . وذلك لأنني على اطّلاع جيد على تاريخ حياته وسيرته وآثاره . وهو في حياته لم توجه إليه أي تهمة من هذه التهم الجديدة!!
وسأنصر الأخ محمد المبارك والإخوة الخائضين في هذا الموضوع بإبداء النصح لهم ، وذلك بعرض الحقائق والبيّنات التي لم يقفوا عليها ، وأدعوهم إلى الاعتماد على الحقائق عوضًا عن الظنون. والاطمئنان لأقوال المسلمين العدول ، والانصراف عن الأخذ بأقوال غيرهم وخصوصًا الماسون .
يقول الله عزَّ وجلّ :{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}[الأحزاب:58]
ويقول تعالى : {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}[النور:15]
وإذا وجد الأخ محمد المبارك في خطابي شدّة فليعلم أنني لا أضمر له في نفسي بغضًا أو كرهًا ، وإنما خاطبته بلهجة النقد العلمي فحسب ، وقد ترفّقت به كثيرًا ، مع أنه في مقاله لم يترفّق بالأمير ، ولم يترك فضيلة إلاّ جرّده منها ، ولم يدع نقيصة إلاّ ووصمه بها ، حتى إن القارئ لمقاله ليظن نفسه أمام أبشع شخصية عرفتها الإنسانية .
وأرجو أن تجد كلماتي عنده وعند الذين خاضوا خوضه ، صدرًا سليمًا ، وقبولاً حسنًا . وأسأل الله تعالى أن يرشدنا جميعًا إلى سواء السبيل وصراطه المستقيم ، وكلي أمل ألاّ نصل إلى آخر حلقات هذا البحث إلاّ وقد آب الأوّابون وانصلح الحال .
فأقول مستعيناً بالله العظيم :
يقول الأخ محمد المبارك في مقاله (فكّ الشفرة): ((ومما حُفِظ عن الأمير خلال تلك الحوارات قوله :" لو كان العالم يسمعني لجعلت من المسلمين والمسيحيين إخوةً ولعملنا معاً من أجل إرساء السلام في العالم"ولعلَّ هذه الجملة كانت هي البروتوكول الذي انتهجه فيما بعد الأمير و التزم به كلالالتزام)).انتهى
يقول مما حُفظ! طيِّب ، مَنْ حفظه لنا يا أخي؟ سمِّ لنا العلماء المسلمين الذين حفظوا هذه المقولة كما ذكرتها! وأين أوردوها؟
ويبدو أنّ الأخ كاتب المقال لم يتنبّه إلى أمر هام وهو أنه أمام جملة شرطية مبدوءة بأداة الشرط [لو]! وهي : حرفُ امتناعٍ لامتناع ، أي تدلُّ على امتناع الجواب لامتناع الشرط!!! ففي قولكَ : (لو درسَ لنجح) امتناعُ النجاح لامتناعِ الدَّرْس!
إذن عندما يقول الأمير : ((لو أصغى إليَّ المسلمون والنصارى لرفعت الخلاف بينهم))
فالذي يُفهم من هذا الكلام امتناع رفع الخلاف بين المسلمين والنصارى لامتناع إصغائهم!
فكيف تكون هذه الجملة منهجًا يلتزمه الأمير وهي ممتنعة؟!!
وللعلم فإنّ هذه المقولة أوردها عدّة أشخاص في الإنترنت وكل واحد منهم يأتي بها في صيغة مختلفة عن الأخرى ، وذلك لأنهم ينقلونها بالمعنى أو مترجمة عن لغات أخرى . ولكن أغرب ما رأيت في نقل هذه المقولة هو ما كتبه (عبد الحق آل أحمد) ؛ ولا أدري إن كان هذا اسمه الحقيقي ؛حيث قال :" قال الأمير عبد القادر الجزائري:(( لو أصغى إلي المسلمون و النصارى، لرفعت الخلاف بينهم، ولصاروا إخوانا، ظاهرا و باطنا، ولكن لا يصغون إلي)).اهـ من [ذكرى العاقل و تنبيه الغافل:ص/107]". انتهى
والغرابة في هذا النقل أنّ كاتبه ينقله هذه المرة من مصدره الأصلي وهو رسالة ((ذكرى العاقل وتنبيه الغافل)) للأمير عبد القادر الجزائري . ولكنّه نقَلَه بعد أن سلخه عن سياق الكلام ، فحذف ما سبقه وما لحقه لكي يُظهر العبارة بوجهٍ يساعده على ما يريد . ومِنْ ثَمَّ حَكَمَ على الأمير بأنه يدعو إلى المؤاخاة مع النصارى!!!
وأقول : إنّ رسالة (ذكرى العاقل) هي رسالة كتبها الأمير عبد القادر إلى علماء فرنسة يدعوهم فيها إلى الإسلام ؛ وقد بدأها بالكلام على ضرورة إعمال النظر وترك التقليد ، ثم بيّن فضل العلم والعلماء ، وبيان انقسام العلم إلى محمود ومذموم ، ثم بيّن فضل العلم الشرعي ، وتحدث عن ضرورة إثبات النبوة التي هي منبع العلوم الشرعية ، وتحدث عن قصور المكذبين للأنبياء ، وبرهن لهم أن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم الأنبياء ، ثم تحدث عن الكتابة وضرورة التصنيف .
وبالطبع فإن هذه الرسالة موجهة إلى غير المسلمين وطريقة الخطاب فيها تراعي حال المخاطبين من أهل الكتاب ، كما أمرنا الله تعالى في قوله :{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125] .
فينبغي على القارئ لها أن يستحضر هذا الأمر ، ولا ينظر إليها بوصفها رسالة إلى علماء المسلمين في بيان عقيدة المؤلف! هذا أولاً
وأمّا ثانيًا ؛ فهذه الرسالة المطبوعة إنما هي الترجمة العربية للنص الفرنسي المترجم عن الأصل العربي!
فيجب على القارئ لها أن يدرك أنّ الألفاظ التي صيغت بها ليست من إنشاء المؤلِّف (الأمير) وإنما هي ألفاظ المترجِم لها من الفرنسية ، وكذلك المعاني هي ما فهمه المترجِم من النص الفرنسي!
وكذلك يجب أن يدرك أنّ النص الفرنسي أيضًا صِيْغَ على النحو الذي فهمه المترجم الفرنسي من النص العربي!
إذن نحن أمام نصّ تعرّض لشيء من التشويه عندما تُرجِمَ من العربية إلى الفرنسية وكذلك عندما تُرجِمَ من الفرنسية إلى العربية!!
ليس هذا فحسب وإنما يجب على القارئ أن يعلم أنّ النص الفرنسي الموجود هو نصٌّ محرّف!! والفرنسيون يخفون الأصل العربي الذي كتبه الأمير بخطّه ، ولا يروّجون إلاّ للنص الفرنسي أو النص العربي المترجم عن الفرنسي.
وهذا الذي أقول ليس ظنًا أو تخمينًا ، وإنما عندي دليل عليه . فقد ذكر محمد باشا في كتابه (تحفة الزائر) قصة هذه الرسالة فقال : ((إنّ علماء باريس تذاكروا في علماء الإسلام المشاهير ، وانتهى بهم الحديث إلى ذكر الأمير ومؤلفاته التي اتصلت بأيديهم ومواعظه التي كان يلقيها على من يجتمع به منهم ، وأجوبته على أسئلتهم التي كانوا يبعثونها إليه ، فوقع اتفاقهم على أن يثبتوا اسمه في ديوان العلماء من كلِّ أُمّة وملّة من أهل القرون الماضية ، فأثبتوه وكتبوا إليه يخبرونه بذلك فكتب إليهم رسالةً ضمّنها علومًا جمّة ذَكرَ في خطبتها ما نصّه : (((الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين ، ورضي الله تعالى عن العلماء العاملين ، أمّا بعد : فإنه بلغني أنّ علماء باريس كتبوا اسمي في ديوان العلماء ، ونَظَموني في سلك العظماء ، فحمدت الله على ستره عليَّ حتى نظر عباده بالكمال إليّ ؛ وقد أشار عليَّ بعض المحبين منهم أن أكتب إليهم بعض الرسائل ، فكتبتُ هذه العجالة، وسميّتها "ذكرى العاقل وتنبيه الغافل" ورتبتها على مقدمة وثلاث أبواب...إلخ))).انتهى
هذا هو الأصل العربي الذي افتتح به الأمير رسالته ، وللأسف ليس لدينا إلاّ هذا الجزء الذي نقله محمد باشا . وإذا قارناه بما كُتبَ في الرسالة المطبوعة باللغة العربية المترجمة عن الفرنسية وجدنا أنه حتى في هذه الافتتاحية الصغيرة (خمسة أو ستة أسطر) وقع حذفٌ وزيادة وتحريف للنص الأصلي!!
وإليكم النص المطبوع والمنشور (المحرّف) : (()الحمد لله ربّ العالَمين . ورضي الله تعالى عن العالِمين. أما بعد : فإنه بلغني أن علماء بريز . وفّقهم العليم الحكيم العزيز . كتبوا اسمي في دفتر العلماء . ونظموني في سلك العظماء . فاهتززت لذلك فرَحا . ثم اغتممت ترَحا . فرِحت من حيث ستر الله عليّ . حتى نظر عبادُه بحسن الظن إليّ . واهتممت من كون العلماء استسمنوا ذا ورم . ونفخوا في غير ضرم . ثم أشار عليّ بعض المحبين منهم بإرسال بعض الرسائل إليهم . فكتبتُ هذه العجالة للتشبه بالعلماء الأعلام . ورميت سهمي بين السهام .
فتشبهوا إن لم تكونوا منهمُ ***** إن التشبه بالكرام رباحُ
وسميتُ هذه الرسالة (ذكرى العاقل . وتنبيه الغافل) ورتبتها على مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة ...إلخ()) . انتهى
إنّ كل قارئ يقظ وسليم الصدر ، سيرى بوضوح الفوارق الكثيرة بين النصين (الأصلي والمحرّف)!!
لقد حذف المزور الصلاة على النبي بدايةً ـ التي وصفه فيها الأمير بخاتم النبيين لأنّ الرسالة تتضمن إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم النبيين ـ ، ثمّ حذف كلمة العلماء العاملين ، ووضع مكانها كلمة العالِمين!! ، ثم غير كلمة باريس فجعلها باريز ، وأضاف جملةً كاملة فيها دعاء وثناء على علماء باريس أتى بها مسجوعة ، وبعد ذلك حذف المزوّر الجملة التي حمِد اللهَ فيها الأمير ، ووضع مكانها جملاً ليس فيها معنى الحمد ، ثم أضاف كلامًا وشعرًا ، وكل ذلك ليس له وجود في كلام الأمير!!
حتى بيت الشعر جاء بصيغة غير الصيغة المعروفة والتي لا تخفى على الأمير الشاعر!وهي :
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلَهمْ*****إن التشبه بالكرام فلاحُ
وسيدرك القارئ الفطن أنّ المحرّفين للنص الأصلي هم من المستشرقين الفرنسيين أو من عملائهم من نصارى الشرق (لبنان) بخاصة! (وأعني بذلك أنّه كان بحوزتهم النص العربي الأصلي يستعملون ألفاظه ومبانيه ، في صياغة النص المحرّف).
وللعلم فإنّ النص المترجم إلى العربية طُبِع أوّل مرة في لبنان دون ذكر اسم الناشر أو دار النشر!!
وقبل أن أنقل لكم كامل الصفحة التي اقتُصّت منها تلك العبارة . سأنقل لكم بعض الجمل والعبارات التي وردت في رسالة الأمير حتى تكونوا على شيء من الاطلاع على فحوى هذه الرسالة.
(والرسالة مطبوعة وأنا أدعو الجميع لقراءتها بأنفسهم) .
قال الأمير عبد القادر في مقدمة الرسالة في معرض حثّ علماء فرنسة (والغرب) على إعمال عقولهم لكي يصلوا إلى الدين الحق : ((اعلموا أنه يلزم العاقلَ أن ينظر في القول ولا ينظرَ إلى قائله ، فإن كان القول حقًا قبِلَه سواء كان قائله معروفًا بالحق أو الباطل ، فإنَّ الذَّهب يُستخرج من التراب والنرجسَ من البصل والتِرياقَ من الحيّات ويُجْتنى الورد من الشوك ؛ فالعاقل يعرفُ الرجال بالحق ولا يعرف الحقَّ بالرجال)).انتهى[ص5] ، ثمّ قال : ((والمتبوعون من الناس على قسمين ، قسمٌ عالمٌ مُسْعِدٌ لنفسه ومسعدٌ لغيره وهو الذي عرف الحق بالدليل لا بالتقليد ودعا الناس إلى معرفة الحق بالدليل لا بأن يقلّدوه ، وقسمٌ مُهلِكٌ لنفسه ومهلك لغيره وهو الذي قلَّد آباءَه وأجداده فيما يعتقدون ويستحسنون وتَرَكَ النَّظرَ بعقله ودعا الناسَ لتقليده ، والأعمى لا يصلح أن يقود العميان ؛ وإذا كان تقليد الرجال مذمومًا غيرَ مرضيّ في الاعتقادات فتقليد الكُتب أولى وأحرى بالذم ، وإنّ بهيمةً تُقاد أفضل من مقلِّدٍ يَنْقَاد . وإن أقوال العلماء والمتدينين متضادّةٌ في الأكثر واختيارُ واحد منها واتِّبَاعُه بلا دليل باطلٌ لأنّه ترجيحٌ بلا مرجِّح فيكون مُعارَضًا بمثله)).انتهى[ص6ـ7] ؛ وفي معرض كلامه على فضل العلم والعلماء قال : ((ويُدرَكُ شرفُ العلم مطلقًا من حيث هو علمٌ بشيئين ، أحدهما شرف الثمرة والثاني قوة الدليل . وذلك كعلم الأحكام الدينية الشرعية وعلم الطب ، فإن ثمرة علم الدين السلامة في الدارة الآخرة وهي الحياة الأبدية . وثمرة الطب السلامة في الدنيا وهي سلامة بدنية منقطعة . فيكون علم الدين أشرف لأنه سببٌ لسلامة أبدية لا تنقطع)).انتهى[ص22] ؛ وقال : ((وأشرفُ العلوم النافعة معرفةُ الله تعالى ومعرفة حكمته في أفعاله وفي خلق السموات والأرض وما فيهما وما بينهما)).انتهى[ص33] ؛ وفي معرض كلامه عن الفرق بين الإنسان وغيره من المخلوقات قال : ((ولما كان المقصود الأعظم من خلق الإنسان هو معرفة خالقه وعبادته أكرمَ اللهُ الإنسان وميّزه بصفة أخرى أشرفَ من الكل وهي العقل ، فبه يعرف الإنسان خالقَه ويدرك المنافع والمضار في الحال والمآل)).انتهى[ص35ـ36] ؛ وفي معرض نقده لعلماء فرنسة قال : ((وقد اعتنى علماء افرنسا ومن حذا حذوهم باستعمال العقل العملي وتصريفه فاستخرجوا الصنائع العجيبة والفوائد الغريبة فاقوا بها المتقدمين وأعجزوا المتأخرين ، رقوا بها أعلى المراقي ، وحصل لهم بها الذكر الباقي ، فلو استعملوا مع هذا العقلَ النظري في معرفة الله وصفاته وفي معرفة حكمته في خلق السموات والأرض وما يلزم للإله من الكمال وما يتقدس عنه من النقص وما يمكن في حقّه أن يفعله وأن لا يفعله لكانوا حازوا المرتبة التي لا تدرك والمزية التي لا تُشرَك ، ولكنهم أهملوا استعمال هذه القوة النظرية حتى إنهم لا يُسمَع منهم لها ذاكر ولا يعثر عليها في كتبهم ناظر)).انتهى[ص40] ؛ وقال : ((وأقلّ أحوال من يقصد بعلم النجم الاطلاعَ على المغيبات أنه خوض في فضول لا ينفع ، فإن المقدورَ واقعٌ والاحتراز منه غير ممكن ، وأحكام النجوم ظنٌ خالصٌ والحكم بالظن حكمٌ بجهل)).انتهى[49] ؛ وقال ((اعلموا وفّقكم الله أنَّ العقل وإن بلغ من الشرف والاطلاع على حقائق الأشياء ما بلغ فثَمَّ علوم لا يصل إليها ولا يهتدي إلى الاطلاع عليها إلاّ بتصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد إليهم)).انتهى[ص50] ؛
وقال : ((فالذي يدعو الناس إلى التقليد المحض مع عزل العقل جاهل ، والمكتفي بمجرد العقل عن العلوم الشرعية مغرور ، فإياكم أن تكونوا من أحد الفريقين وكونوا جامعين بينهما ، فإن العلوم العقلية كالأغذية والعلوم الشرعية كالأدوية ، وقلوب الخلق كلها مرضى ولا علاج لها إلاّ بالأدوية التي ركّبها الأنبياء ، وهي وظائف العبادات ، فمن اكتفى بالعلوم العقلية تضرر بها كما يتضرر المريض بالغذاء . كما وقع لبعض الناس فإنهم قالوا الإنسان إذا حصل له المعقول وأثبتَ للعالم صانعًا وصل إلى الكمال المطلق فتكون سعادته على قدر علمه وشقاوته على قدر جهله ، وعقلُه هو الذي يوصله إلى هذه السعادة . وإيّاكم أن تظنوا أنّ العلوم الشرعية مناقضةٌ ومنافرةٌ للعلوم العقلية ، بل كلُّ شيء جاء عن الأنبياء مما شرعوه للناس لا يخالف العقول السليمة ؛ نعم يكون في شرائع الأنبياء ما تستبعده العقول لقصورها عنه ، فإذا عرفتْ طريقَه عرفتْ أنه الحقُّ الذي لا ينبغي العدول عنه . مثاله في شرع الإسلام الذهب والفضة فإن الشرع يمنع من اختزانهما من غير إعطاء بعضها للفقراء والمساكين ، ويمنع من اتخاذ الأواني للأكل والشرب منها ، ويمنع من بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة بزيادة ، فإذا قيل لإنسان أعطِ بعضها للفقراء وإلاّ تُحرق بالنار! يقول أنا تعبت وجمعتُها فكيف أعطيها مَنْ كان نائمًا مستريحًا هذا خارج عن العقل؟ وإذا قيل له لا تأكل ولا تشرب في أواني الذهب والفضة وإلاّ تُحرق بالنار! يقول أنا أتصرف في ملكي ولا ينازعني فيه أحدٌ فكيف أُعاقب على التصرف في ملكي هذا خارج عن العقل؟ وإذا قيل له لا تبعْ الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة بزيادة وإلاّ تُحرق بالنار! يقول أنا أبيع وأشتري بِرِضًا مني ومن الذي أتعامل معه ولولا البيع والشراء لخربت الدنيا وتعطلت المنافع هذا شيء خارج عن العقل. وكلامه هذا صحيح فإن العقل غير مدركٍ للعقاب على هذه الأمور ، فيحتاج العقل إلى التعريف ، فيُقال له الحكمة التي خلق الله الذهبَ والفضة لأجلها هي أنّ قِوامَ الدنيا بهما وهما حجران لا منفعة في أعيانهما إذ لا يرُدَّان حرًّا ولا بردًا ولا يُغذيان جسمًا ، والخلق كلهم محتاج إليهما من حيث أنّ كل إنسان محتاج إلى أشياء كثيرةٍ في مطعمه وملبسه ، وقد لا يملك ما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه كمن يملك القمح مثلاً وهو محتاج إلى فرس ، والذي يملك الفرس قد يستغني عنه ويحتاج إلى البُرّ فلا بدّ بينهما من معاوضة ولابُدَّ من تقدير العِوَض إذ لا يعطى صاحب الفرس فرسَه بكل مقدار من البُر ، ولا مناسبة بين البُر والفرس حتى يُقال يُعْطَى منه مثلَه في الوزن أو الصورة فلا يدري أن الفرس كم يسوى بالبُر فتتعذر المعاملات في هذا المثال وأشباهه . فاحتاج الناس إلى متوسط يحكم بينهم بالعدل فخلق الله الذهب والفضة حاكمين بين الناس في جميع المعاملات ، فيُقال هذا الفرس يسوى مئة دينار وهذا القَدر من البُر يسوى مثلَه ؛ وإنما كان التعديل بالذهب والفضة لأنه لا غرض في أعيانهما وإنما خلقهما الله لتتداولهما الأيدي ويكونا حاكمين بالعدل ، ونسبتهما إلى جميع الأموال نسبة واحدة ، فمن ملكهما كأنه ملَكَ كلَّ شيء ، ومن ملك فرسًا مثلاً فإنه لا يملك إلاّ ذلك الفرس ، فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الفرس لأنّ غرضه في ثوبٍ مثلاً فاحتيج إلى ما هو في صورته كأنه ليس بشيء وهو في معناه كأنه كل الأشياء . والشيء إنما يستوي نسبته إلى الأشياء المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصّة ؛ كالمرآة لا لون لها وتحكي كل لون . فكذلك الذهب والفضة لا غرض فيهما وهما وسيلتان إلى كل غرض ؛ فكل من عمل فيهما عملاً لا يليق بالحكمة الإلهية فإنه يُعاقب بالنار إن لم يقع السّماح)).انتهى[54ـ57] .
وفي معرض كلامه على إثبات النبوّة واحتياج كافة العقلاء إلى علوم الأنبياء قال : ((وإذا ثبت أنّ اللهَ تعالى فاعلٌ مختار لا عِلّةٌ موجبة وثبت أن إرسال الأنبياء ممكن غير محال في حقه ، وجاءت الأنبياء بما يصدقهم من المعجزات الخارقة للعادة لزم تصديقهم)).انتهى[ص65] ؛ ثم قال : ((ولو أن قائلاً قال إن هذا الإبريق تكوّن بنفسه من غير قصد قاصدٍ حكيم ، ولا فعلِ فاعلٍ بل اتفق تكوُّنه بنفسه كما اتفق تشكل هذه القطعة بهذا الشكل الخاص من غير قصد قاصد حكيم ولا جعل جاعل ، لشهدت الفطرة السليمة بأن هذا القول باطل محال ؛ ومتى ثبت القول بالفاعل المختار ثبتَ حدوث العالم ، ومن عرف هذا سهل عليه معرفة النبيّ)).انتهى[ص67] ؛ وقال : ((فإذا قال قائل إن هذا المنقول عنهم (يعني الأنبياء) خرافات وكذب! فنقول له ما بال الناس لا ينقلون نقلاً متواترًا عن غير الأنبياء مثلَ ما نقلوا عن الأنبياء؟)).انتهى[ص68]
وقال : ((وأساس الديانة وأصولهُا لا خلاف فيها بين الأنبياء من آدم إلى محمد ، فكلّهم يدعون الخلقَ إلى توحيد الإله وتعظيمه واعتقاد أن كل شيء في العالم صُنعه . وإلى حفظ النفس والعقل والنسل والمال ، فهذه الكلّيات الخمس لا خلاف فيها بين الأنبياء ، وجميعُ الشرائع متفقة عليها ، وحاصلها يرجع إلى تعظيم الإله والشفقة على مخلوقاته ، وطريان النسخ على هذه الكلّيات الخمس مُحال ، وإنما النسخ يمكن في الشرائع الوضعية ، وهي الأشياء التي يجوز ويصح أن لا تكون مشروعة ، دون الأحكام العقلية كتوحيد الإله وما ذكرنا معه من الكلّيات)).انتهى[ص71] .
والآن إليكم النص الذي وردت فيه عبارة الأمير التي يُراد من اجتزائها وتدليسها الطعن فيه بغير حق. وقد وردت في معرض احتجاجه على النصارى بأن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين قال : ((والنسخُ في الحقيقة ليس هو إبطال وإنما هو تكميل....واليهود هم الذين اعتدوا في السبت فمسخهم الله قردةً وخنازير . وقال المسيح ما جئتُ لإبطال التوراة بل جئتُ لأكملها ، قال صاحب التوراة "النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والجروح قصاص" وأنا أقول "إذا لطمك أخوك على خدّك الأيمن فضع له خدك الأيسر. وجوابُ النصارى لليهود هو جواب المسلمين للنصارى ، والذي قاله المسيح قاله محمد ، فإنه قال "ما جئتُ لأُبطل الإنجيل والتوراة وإنما جئتُ لأكملهما . ففي التوراة أحكام السياسة الظاهرة العامة ، وفي الإنجيل أحكام السياسة الباطنة الخاصة ، وأنا جئتُ بالسياستين جميعًا ، جئتُ بالقصاص {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } وهو إشارة إلى السياسة الظاهرة العامة ، وجئتُ بالعفو {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وهو إشارة إلى السياسة الباطنة الخاصة . وهذا دليلٌ على أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ؛ لأن النبوّة حكمةٌ ، والحكمةُ إمّا عملية أو علمية أو جامعة بينهما ، وحكمة موسى كانت عمليةً لاشتمالها على تكاليفَ شاقة وأعمال متعبة ، وحكمة المسيح كانت علمية لاشتمالها على التجرد والروحانيات والتصوف المحض ، وحكمة محمدٍ جامعةٌ بينهما ، فلا يجيءُ نبيٌّ بعده غير المسيح فإنه ينزل ثانيًا إلى الأرض لأنّ الذي يجيء بعد محمد إن كانت حكمته عملية فموسوي وإن كانت حكمته علمية فمسيحي ، وإن كانت جامعة بينهما فمحمدي ، فقد انختمت عليه النبوّة بالضرورة . فالدين واحدٌ باتفاق الأنبياء ، وإنما اختلفوا في بعض القوانين الجزئية ، فهم كرجالٍ أبوهم واحد وأمهاتهم متعددة ؛ فتكذيب جميعهم أو تكذيب البعض وتصديق البعض قصورٌ ؛ ولو أصغى إليَّ المسلمون والنصارى لرفعتُ الخلاف بينهم ولصاروا إخوانًا ظاهرًا وباطنًا ، ولكن لا يصغون إليّ لِمَا سبق في علم الله أنه لا يجمعهم على رأي واحد ؛ ولا يرفعُ الخلافَ بينهم إلاّ المسيح عند نزوله ولا يجمعهم لمجرَّد كلامه مع أنه يحيي الموتى ويبرئُ الأكمه والأبرص ، ولا يجمعهم إلاَّ بالسيف والقتل ، ولو جاءَني مَنْ يريد معرفة طريق الحق وكان يفهم لساني فهمًا كاملاً لأَوصلته إلى طريق الحق من غير تعب لا بأن يُقلّدني بل بأن يَظْهَرَ الحقُّ له حتى يعترف به اضطرارًا.
وعلوم الأنبياء من حيث خطابهم للعامة دائرةٌ على ما يصلح الناس في معاشهم ومعادهم ، وما جاؤوا ليجادلوا الفلاسفة ولا لإبطال علوم الطب ولا علوم النجم ولا علوم الهندسة وإنما جاؤوا باعتبار هذه العلوم على وجهٍ لا يناقض التوحيد ، ونسبة كل ما يحدث في العالم إلى قدرته وإرادته سبحانه ..)).انتهى[ص75ـ78] .
هذا ما قاله الأمير عبد القادر ، والقارئ يرى بوضوح الاختلاف الكبير بين إيراد تلك المقولة ضمن سياقها ، وبين سلخها عن سياقها! . فالأمير يتحاور مع العلماء النصارى ويبيّن لهم الحقائق بطريقة تتناسب مع طبائعهم وتفكيرهم ، فضرب لهم المثل بداية باليهود وكيف اعترضوا على النصارى وأنكروا نبوّة المسيح ، ورفضوا مبدأ النسخ والتكميل في الشرائع .. إلى غير ذلك من الاعتراضات . ثم ذكّرهم بما ردّت به النصارى على اليهود! ثم قال لهم لقد اعترضتم على المسلمين بمثل ما اعترض عليكم اليهود ، ونحن نجيبكم بمثل ما أجبتم اليهود! فإذا كنتم تعدّون أنفسكم على الحق وأنّ ما رددتم به على اليهود حق ، فيلزمكم من ذلك أن تقبلوا ردّنا عليكم وتُقِرّوا بأنّ الإسلام هو آخر الشرائع وأنّ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء . ولا يليق بكم أن تعترضوا علينا بما اعترض به اليهود عليكم ، لأنكم في ردّكم عليهم بيّنتم بطلان أصل اعتراضهم .
والقارئ يلاحظ أن الأمير لم يقل : لو أصغى إليّ المسلمون واليهود!! وإنما قال والنصارى ، إذن نحن لسنا أمام فكرٍ يدعو إلى توحيد الأديان أو إزالة الفوارق بين المسلمين والكافرين ، كما يتوهّم البعض ، وإنما نحن أمام محاورة يُجْرِيها مسلمٌ مع أهل الكتاب من النصارى حصرًا ـ لأنّهم تعرّضوا لمثل ما تعرّض له المسلمون ـ يحاولُ فيها إلزامهم بالقواعد العقلية التي استندوا إليها في صراعهم مع اليهود .
ومع ذلك أعود فأقول إنّ العبارة ليس فيها الإشكال الذي يظنه البعض . فالجملة صدّرها الأمير بحرف الشرط (لو) ، وهو كما يعرف دارسو العربية : حرفُ امتناعٍ لامتناع ، أي يدلُّ على امتناع الجواب لامتناع الشرط!!! ففي قولك : (لو درسَ لنجح) امتناعُ النجاح لامتناعِ الدَّرْس!
إذن عندما يقول الأمير : ((لو أصغى إليَّ المسلمون والنصارى لرفعت الخلاف بينهم))
فإنّ العربي يفهم من هذا الكلام امتناعَ رفعِ الخلاف بين المسلمين والنصارى لامتناع إصغائهم!
ومع ذلك فإنّ الأمير أوضح العبارة كي لا تلتبس على أحد ، فقال : ((ولكن لا يُصغون إليّ لِمَا سبق في علم الله أنه لا يجمعهم على رأي واحد ؛ ولا يرفعُ الخلافَ بينهم إلاّ المسيح عند نزوله ولا يجمعهم لمجرَّد كلامه مع أنه يحيي الموتى ويبرئُ الأكمه والأبرص ، ولا يجمعهم إلاَّ بالسيف والقتل)).انتهى
فهل يبقى بعد هذا البيان أي غموض في العبارة؟ لقد قرر الأمير ما استقرّ في عقيدة كل مسلم أنّ النصارى ـ في مجموعهم ـ لن يصغوا إلى المسلمين ولن يعترفوا بالإسلام إلاّ بعد نزول المسيح عليه السلام ، ليس هذا فحسب ، بل إنهم حتى بعد نزول المسيح لن يستعملوا عقولهم ولن يصغوا بآذانهم وقلوبهم ، وإنما سيدفعهم المسيح إلى ذلك بالسيف والقتل!!
فهل في هذا الكلام أي مطعن في عقيدة الأمير الإسلامية؟! .
وما كان الأمير ليتودد إلى النصارى ولو ظاهرًا ، وهو عندما كان في أَسْرِهم وفي متناولهم ، وسمع من بعض أعيانهم ورجالاتهم كلامًا ينتقصون فيه دين الإسلام ، كتبَ كتابًا يرد فيه عليهم ووضع له عنوانًا جريئًا قويًا لا يهابُ فيه أحدًا منهم مع أنه يعلم أنه تحت سلطانهم ، ولكنّه الإيمان الراسخ بالله وحده، والعزّة بدين الإسلام ، والقوة في الدفاع عن هذا الدين . وعنوان الكتاب :
[المقراضُ الحادّ لقطع لسان منتقص دين الإسلام بالباطل والإلحاد] ؛وهو مطبوع
وحتى لا أدع أيّ مجال للمشككين أقول : لقد صرّح الأمير عبد القادر ـ بكل اطمئنان وبأوضح بيان ـ بعقيدته في اليهود والنصارى وذلك في رسالته الجوابية إلى مفتي الشام السيد محمود أفندي الحمزاوي ، الذي سأله عن بعض الطوائف والأديان . وقد أثبتَ هذه الرسالة محمد باشا في تحفة الزائر وهي من آخر رسائل وفتاوى الأمير!! ؛ جاء فيها : ((... وأمّا قولك أنّ منطوق الآية الشريفة في سورة الحج أنّ المشركين ليسوا هم النصارى([1]) .. الخ . فاعلم أنّ النصارى هم أتباع المسيح عليه السلام، وأُمَّته ممن كان تابعًا للمسيح قبل ظهور محمد عليه السلام فهو من أفضل الخلق وأعلاهم درجة ، وبعد ظهور محمد عليه السلام مَنْ آمن به فله أجران ويحشر مع الناجين الآمنين ومَنْ كفرَ بما جاء به محمد من النصارى وغيرهم فيُسمّى كافرًا لا مشركًا ، إلاّ من قال في المسيح عليه السلام أنه ابن الله ومن اليهود في عُزير أنه ابن الله فهو مشرك والنصارى الحقيقيون هم الذين يعتقدون أن المسيح عليه السلام روحُ اللهِ وكلمتُه ألقاها إلى مريم العذراء البتول عليها السلام وأنه رسول الله إلى بني إسرائيل بشرعٍ ناسخ لبعض شرع موسى عليه السلام والإنجيل المُنزّل عليه كلام الله تعالى حقيقةً لا مجازًا . وفِرَقُ النصارى واعتقاداتهم المختلفة أنتَ أعلم بها فلا نطيل الكلام بذكر مذاهبهم وفِرَقهم . وبالجملة فالنصارى أجهل الناس بالمعقول والإلهيات . والكفرُ : إمّا كفر إنكار ، وهو أن يكفر بقلبه ولسانه ، وإما كفر جحود وهو أن يعرف الحق بقلبه ولا يقرّ بلسانه ، وإما كفر عناد وهو أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه ولا يدين به ، وكفر نفاق وهو أن يقر بلسانه ولا يعتقد بقلبه، والجميع سواء في أنه من لقيَ اللهَ تعالى بواحد منهم لا يُغفر له . فقد بان لك أنّ أهل الكتاب لا يُقال فيهم مشركون وإنما يُقال لهم كفّار ؛ فإنّ الكافر اسمٌ لمن لا إيمان له بمحمد وبما جاء به من الشرائع والأحكام ، ومَنْ أخفى الكفرَ وأظهر الإيمان فهو المنافق ، وإن طرأَ عليه الكفر بعد الإيمان فهو المرتد، وإن كان متدينًا ببعض الأديان والكتب المنسوخة فهو الكتابي ، وإن قال بقدم الزمان والدهر ونسبَ الحوادث له فهو الدّهريّ ، وإن كان لا يُثبتُ الباري تعالى فهو المعطّل ، وإن كان يجعل مع الله إلهًا آخر فهو المشرك ؛ وشريعة محمدٍ عليه السلام نسخت الشرائع المتقدمة كلّها ، فلا يقبل الله تعالى دينًا اليوم من أحدٍ ولو عبدَ اللهَ بعبادة الثّقلين ؛ الإنس والجن ؛ إلاّ مَنْ عبدَ اتّباعًا بمحمدٍ عليه السلام)) .انتهى[تحفة الزائر2/246]
وبعد فإنني أعتقد أنّ الأمر أصبح جليًا لا لبسَ فيه .
وأُذكّرُ كل من يتسرّع في اتّهام الآخرين ويُطلق عليهم أحكام الردة والكفر وموالاة الكفرَة ، بقول الله تعالى : {ستُكتَبُ شهادتهم ويُسْألون}[الزخرف :19]
([1]) في قوله تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج :17]




وهناك أمر هام جدًّا أريد أن أنبّه عليه : وهو أنّ بعض الأوربيين قرؤوا أو سمعوا عبارات وكلمات من الأمير عبد القادر ففهموا منها معنىً ما ، ثمّ ترجموها إلى لغاتهم بحروفهم وأدبيّاتهم ، ثمّ جاء بعد ذلك بعض العرب ليقرؤوها ويفهموا منها فهمًا جديدًا قريبًا من المعنى الأجنبي ثمّ بعد ذلك يعيدوا ترجمتها إلى العربيّة . فماذا تكون النتيجة؟ النتيجة أننا نقرأ كلامًا بعيدًا عن الأصل في المعنى . أو لا وجود له ، وسأضرب بعض الأمثلة :
استمعَ شارل هنري تشرشل (البريطاني) لخطبة من خطب الأمير عبد القادر وكان من ضمن الخطبة استشهادٌ بآيات من القرآن ، فانظروا كيف ترجم تشرشل الآيات التي قرأها الأمير :
1ـ الآية الأولى : يقول تشرشل نقلاً عن الأمير : (( ..فأنتم تعلمون ما نصّ عليه القرآن الكريم من أنّ {النمل يغلب الفيلة وأنّ الجرذان تقتل الأسود}.انتهى [حياة الأمير لتشرشل ص150]
2ـ الآية الثانية :{دع الظلم يسقط على رأس صاحبه}.انتهى[المرجع السابق ص168]
3ـ الآية الثالثة :{من الأفضل أن تكون مظلومًا من أن تكون ظالماً}.انتهى [المرجع السابق ص168]
4ـ الآية الرابعة يقول تشرشل : (( وألقى خطبة كان موضوعها آية قرآنية يلوم فيها محمدٌ صهره عليًا على قتل خمسمئة كافر بعد أن استسلموا)).انتهى [المرجع السابق ص207]
5ـ الآية الخامسة {أنا لا أوجّه الطلقة بل الله هو الذي يوجّهها}.انتهى [المرجع السابق ص146].
أرأيتم كيف تتحرّف الأشياء! هل سمعتم بتلكم الآيات؟ هل يظن عاقلٌ أن الأمير (الحافظ لكتاب الله) يقول تلك الآيات وعلى مسمعٍ من المسلمين أيضًا؟!
الواضح تمامًا أن تشرشل البريطاني فهم معنىً ما من الآيات التي ذكرها الأمير ثم ترجمه للغته ثم أتى المترجم العربي ففهم معنى آخر من الترجمة الأجنبية فصاغه بالعربية على النحو الذي رأيناه .
وقد قال الأستاذ أبو القاسم سعد الله عن ترجمة الآية الأولى : ((ولعل الأقرب إلى هذا المعنى قوله تعالى :{كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} ، وقال عن الآية الثانية : والأقرب إلى هذا المعنى هو قوله تعالى :{ولا يحيق المكر السيئ إلاّ بأهله} )).انتهى .
وأما الآية الخامسة فالمقصود ولا ريب قوله تعالى :{ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} .
هكذا يفعل العقلاء والمنصفون.
وهناك أمثلة أخرى كثيرة وأظن أن ما أوردته يكفي لتوضيح الفكرة .



والحمد لله رب العالمين
خلدون بن مكيّ الحسني
للبحث صِلَة إن شاء الله
 
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city

بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة الثالثة


لقد بدأ الكاتب مقاله متعجبًا من سبب اهتمام العالَم بشخصيّة الأمير عبد القادر، وتحدَّث عن أفلام تبثُّها قناة العربيّة وغيرها ، وقال : ((وكأن الرجل إنما توفي عن وقتٍ قريب جداَّ)). وبصرف النظر عن صياغة عبارته ، فإنها عبارة عجيبة! وهل الاهتمام بالأشخاص يكون تَبَعًا لتاريخ وفاتهم أم بحسب مكانتهم وقَدْرِهم وما تركوه من أثر؟
وحتى لا أطيل أقول للأخ الكاتب ولغيره : لا تعجب أبدًا من اهتمام العالم العربي والغربي بالشخصيات المرموقة والفذّة في أي وقت وعصر ، فهذا أمر طبيعي ومطلوب .
ولكن تعجّب من فعلهم ومن خبثهم! نعم إنّ الذي يفعلونه اليوم هو مكرٌ شديد ، مستغلين جهل بعض أبناء أمّة الإسلام وغفلتهم .
ثمّ لماذا تتعجب والسيناريو الذي اعتمد عليه الفيلم قريب جدًا من محتوى مقال (فكّ الشفرة)؟!
أمّا قناة العربيّة فليس لها من ذلك الفيلم اللّعين أي دور سوى الترويج له . لأنّ الفيلم قد أعدته قناة أوربية (فرنسية ألمانية) وبثّته في الغرب موجهاً للجالية المسلمة هناك من أجل أغراض فاسدة سأبينها لاحقاً .
فمنذ سنوات اتصلت بي مندوبة تلك القناة وأخبرتني أنّ فريقاً من العاملين في القناة جاء إلى دمشق ويريدون أن يجتمعوا بي ليجروا معي لقاءً تلفزياً ، فقلت لها وما الموضوع؟ قالت فيلم وثائقي عن الأمير عبد القادر . قلت لها الأمير مات في القرن التاسع عشر (1883م) ونحن اليوم في القرن الواحد والعشرين فكيف تصورون فيلمًا وثائقيًا عنه؟! ولم يبق أحدٌ ممن عاصره على قيد الحياة! ولا توجد لديكم أي أفلام مصورة في حياته! فما معنى فيلم وثائقي؟ قالت نحن نجتمع مع أفراد من أسرته في عدّة بلدان ونسألهم عنه ثم يكون الفيلم!
قلت وبمن التقيتم؟ قالت لا عليك نحن نريد أن نتحدث معك الآن . قلت حسنًا فأين (سيناريو) الفيلم حتى أطلع عليه . قالت نأتيك به لاحقًا . قلت هل من الممكن أن أرى ما صورتموه إلى الآن؟
قالت سأسأل المدير وأردّ لك الجواب . وبعد أيام اتصلت بي وقالت هل أنت جاهز للتصوير؟ قلت لا حتى أرى ما عملتم سابقًا . قالت أعدك أن ترى كل شيء . قلت هذا لا ينفع . ثم ما جنسية من سيجري معي اللقاء عربي أم فرنسي؟ قالت فرنسي . قلت ومن سيترجم كلامي؟ قالت لدينا مختصون في هذا المجال سيعتنون بذلك . قلت هذا لا يروق لي لأنني أخشى من سوء الترجمة والموضوع حساس فأنتم تريدون الحديث عن تصوّف الأمير وعن سيرته في دمشق . قالت كن مطمئنًا . قلت ومع من سأجتمع؟ قالت مع (المدموزيل) الآنسة فلانة! وفريق التصوير . قلت لها والله أنا لا يمكن أن أجلس مع امرأة فرنسية أو غيرها للحديث أصلاً ، فكيف مع التصوير هذا لا يمكن . ثم عاودت الاتصال بي فرفضتُ الأمر جملةً .
ثمّ إنهم ذهبوا والتقوا ببعض أفراد الأسرة (الفاتح بن سعيد بن علي بن الأمير عبد القادر) والسيدة (بديعة بنت مصطفى بن محيي الدين بن مصطفى الأخ الأصغر للأمير عبد القادر)
وقد لامني بعض الأصحاب على امتناعي من اللقاء التلفزي في حينها .
وبعد مدّة ظهر الفيلم إلى الوجود وأذيع في أوربة ، ثمّ اشترته قناة العربيّة فيما يبدو.
وعندما شاهدتُ الفيلم حمدتُ الله أنني لم أقع في شَرَك هؤلاء الخبثاء .
فالفيلم لم يعرّج أبدًا على جهاد الأمير للفرنسيين في الجزائر سبعة عشر عامًا وتفاصيلِ ذلك ، وإنما بدأ الفيلم بالحديث عن الأمير ومساعدته للمسيحيين وحبّه ومساندته لهم ، وعن "ماسونيّته" ، ثم صاروا يصورون بعض الشبّان من السياح الفرنسيين في الجزائر فيقول له أحدهم : نعم أذكر أنّ الأمير كان يقول كن مع اليهودي يهوديًا ومع المسيحي مسيحيًا بل ومع المشرك مشركًا!!!
ثم زعموا أن الأمير دفن بجانب قبر الرئيس هواري بومدين!! وكأنّ هواري بومدين مات قبل الأمير! لقد حمل هواري بومدين رُفات الأمير عندما نقلوه من الشام إلى الجزائر ، وأوصى أن يُدفن هو بجانب الأمير .
وأما عن لقاءات الأسرة فلم يظهروا أيًا منها واكتفوا بمقطع مجتزأ مع السيد الفاتح يصرح فيه بأن الأمير ليس ماسونيًا ويطالب بالعناية بآثاره وأملاكه .
إذن الفيلم يريد أن يصور للعرب والمسلمين أنّ الأمير عبد القادر إنما هو رجل ماسوني يحب اليهود والمشركين ، فإذا كان له منزلة في قلوبكم فما عليكم إلاّ أن تتبعوه! أو تنبذوه وتعادوه!
ـ وللفائدة فإن الفرنسيين لمّا خسروا حربهم في الجزائر واضطروا إلى الخروج منها خائبين ، صاروا يدّعون أنّ خروجهم كان لأغراض سياسية أو لأسباب تكتيكية أو أو.... ثمّ صاح بهم أحد عقلائهم وقال مخاطبًا الشعب الفرنسي المصعوق بخروجه من الجزائر بعد 132سنة : (( باختصار القرآن أقوى من فرنسة)) فهذا اعتراف منه أنّ الثورة في الجزائر كانت ثورة دينيّة . لذلك عمدت السلطات الفرنسيّة بكل ما لديها من أدوات الإعلام لزرع فكرة معاكسة ، فما كان من الرئيس هواري بو مدين (واسمه الحقيقي محمد بو خروبة) إلاّ أن قرر نقل رُفات الأمير من دمشق إلى الجزائر ليُحْيي عند الناس ذكرى جهاد الأمير للفرنسيين ذلك الجهاد الإسلامي!! وليوصل رسالة للفرنسيين أن حربنا معكم كانت منذ البداية حرب جهاد وأن الشعب الجزائري شعب مسلم يعتز بدينه!
والحقيقة أن الغرب يحسب ألف حساب لشخصيّة الأمير بسبب أنه يرسم للمسلمين المثال الذي يمكن أن يحتذوا به في خلق الإمارة الإسلاميّة وإعلان الجهاد المسلح على الصليبيين والمعتدين ؛ لأنهم يعلمون أن الأمير استطاع مع ثلّة من الرجال المؤمنين أن يؤسس دولة دستورها الإسلام وينشئ جيشاً ضمن أرض الجزائر ، المحتلة أصلاً من قبل أكبر قوة عسكرية في ذلك الوقت (فرنسة) ، وأن يجاهدها ويكبدها الخسائر الفادحة ويحطم كبرياءها .
الغرب يخشى من شخصيّة الأمير عبد القادر لأنه أحد رواد ثورة الإصلاح الديني ، لقد حارب الأمير الصوفي بعض شيوخ الطرق الصوفية المنحرفين في الجزائر وقاومهم وحارب الشعوذة والتدجيل وعبادة الشيوخ ، وكل هذا مدوّن في كتب تاريخ الجزائر ومسجل بالوثائق ، ولكن من المؤسف أنّ أمّة {اقرأ} لا تقرأ!!
حتى إن بعض الكتّاب والمؤرخين عدّوا الأمير عبد القادر وعبد الكريم الخطابي من المتأثّرين بالحركة الوهّابيّة (انظر حاضر العالم الإسلامي ، والحركة الوطنية الجزائرية)، وهذا طبعًا بتعريفها العام كحركة إصلاح ديني لها جيش يدعمها ، لا من حيث الاتفاق على كل مبادئ الحركة ومعتقداتها.
فالأمير مشربه صوفي ويختلف مع الفكر الوهابي ، ولكنه متفق معه على وجوب إزالة الفساد الديني والجهل الشرعي.
((وكذلك الأمر كان مع الشيخ محمد بن علي السنوسي شيخ الطريقة السنوسية الذي رحل إلى مكّة وتأثّر بالإصلاح الوهابي دون تقليده ، والسنوسية تشبّعت بأفكار الشرق ، ولا سيما الفكر الوهّابي)) والكلام للدكتور أبي القاسم سعد الله .[انظر الحركة الوطنية الجزائرية لسعد الله ص373 و403]
وكذلك من المتأثرين بالفكر الوهابي من صوفية الجزائر (شريف ورقلة : إبراهيم بن أبي فارس)[المصدر السابق ص372]
على أيّة حال ، الدروس التي يمكن أن تستفاد من سيرة الأمير عبد القادر تمثل خطرًا كبيرًا على الغرب وأتباعه ، لذلك هم حريصون على تشويه هذه الشخصيّة ، فلا مسوغ لتعجّب كاتب المقال لأن كل تلك الأفلام التي تحدَّثَ عنها إنما هي للتشويه والتضليل.
قال بعض المؤرخين الفرنسيين ((...إنّ عبد القادر قد تحدّى أكبر الجيوش في وقته ، واخترع حرب العصابات ، ووضع أسس الوطنية الجزائرية ، وأعطى لغيره دروسًا في المهارة والالتزام للدبلوماسيين ...)) انتهى[لاتياد ص43] . وكما قيل : والفضل ما شهدت به الأعداء .
وقد علّق على هذا الكلام كبير المؤرخين في الجزائر الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله فقال : ((ولكن هذا الكاتب نسيَ أن ينبّه إلى أنّ عبد القادر هزَمَ أكبر جنرالات وماريشالات فرنسا عندئذ ، وأنها (أي فرنسا) نَكَبَته في وطنه وقومه وتآمرت عليه مع جيرانه وعزلته حتى عن علماء الدين ، ونصَبَت ضده شبكة من الجواسيس والخونة ، وتقوّلت عليه الأقاويل الكاذبة ، وخانت وعدها معه بتركه يذهب حيث اختار. ولكن هناك كتّاب آخرون يذكرون أن الأمير كان باعث الوطنية الجزائرية . فقد وصَلَ خطابه أعماق الشعب ، وحرّك نداؤه ضمير الأرض ، وهزّ صوته أركان الوطن فإذا بريح الوطنية تطوي المسافات وتجتاز الحدود القَبَلِيّة والطرق الصوفية والإقليمية لتصبح شعلة واحدة تحرق وجه العدو الدخيل ، لم يكن الجهاد وحده هو الذي جعل الناس يضحّون ويتبعون راية الأمير ، بل كانت هناك مشاعر متأججة حباً في الأرض وحباً للوطن الجديد الذي رسم حدوده الأمير، وجعل عليه قُضَاتَه وخلفاءه وممثليه ، واعترف له العدو بحدوده .
وكان الأمل أكبر من الواقع وكان الزمن أقصر من الأجل ، ولو طال العهد لازدهرت الدولة الجديدة وأثمرت الآمال العريضة ولأخصب الدِّين والفكر والعلم والفن في عصرٍ كان العالم الإسلامي كله فيه ينتظر مثلَ هذا الوليد .
لقد ظهرت قبل ذلك الحركة الوهّابية فإذا بها تُضرب قبل أن تكشف عن وجهها الحقيقي ، وكشَفت "نهضة" محمد علي عن وجهها فإذا هو وجهٌ علماني سلطاني يبتسم في وجه الأجنبي ويُكشّر في وجه المواطنين . وأخذ سلاطين آل عثمان " يُنظّمون" دولتهم المتداعية فإذا الإصلاحاتُ مفاسدٌ ، وإذا الأعداءُ هم المصلحون جالسين يملون على (السلطان) محمود وعبد المجيد وعبد العزيز وأنور(باشا) ومصطفى أتاتورك ما عليهم أن يفعلوا وما عليهم أن يتركوا .
إنّ دولة الأمير الوليدة لم تحاربها فقط جيوش فرنسا حبًا في التسلط والبطولة وطمعًا في إنشاء إمبراطوريّة ، ولم يقف ضدّها فقط "الكولون" (يعني المستوطنين الأوربيين) بمحاريثهم وأموالهم لكي يستغلوا الأرض المغتصبة ويَسْتَثْروا على حساب الجزائريين ، بل حاربتها أيضًا ظاهرًا وباطنًا ، الكنيسة والماسونية (الصهيونية) ، كما حاربها سلاطين المسلمين وحتى بعض علمائهم النائمين!
حاربتها الكنيسة لأنها اعتبرتها حركة جهاد إسلامي متوثب فيه انتعاش ونهضة للإسلام الراكد إذا انتصرت ، واعتبرت الكنيسةُ نفسُها عمَلَها ذلك استمراراً للصليبية التي خاضت في الشرق والغرب حروباً ضارية ضد الإسلام والمسلمين ، بما فيها الأندلس ووهران ، وتآمرت عليها الماسونية خصوصًا في الدوائر المحيطة بالحكومة الفرنسية وحاشية الملك وقطعان التراجمة والمستشرقين الذين توافدوا على الجزائر ، لأنّ دولة الأمير كانت دولة عربيّة سلفيّة ، شريفة ، لو انتصرت لكانت خطراً عظيماً على مخططات الماسونية ـ الصهيونية في الشرق!!، ولكانت أول دولة توحّد العرب على كلمة الجهاد كما وحّدتهم عليها زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وزمن الخلفاء الراشدين)).انتهى [(الحركة الوطنية الجزائرية) لأبي القاسم سعد الله ص274ـ275].[وأظنّ أن الدكتور سعد الله يقصد بالسلفية هنا المعنى العام لها ، لا المفهوم الذي استقرّت عليه اليوم].
ويتابع الأستاذ أبو القاسم فيقول : ((وقال فريق من الكتّاب الفرنسيين : إنّ الأمير رجل دين وجهاد وتصوّف ، وقالوا : إنّ الدِّين تغلّب على دولته في جميع مجالاتها ومظاهرها : الجيش ، المالية ، القضاء، حتى العملة والسكّة)) [بيسه شينار "عبد القادر وعبد الكريم" في مجلة الدراسات الآسيوية والإفريقية) ص143ـ 160] .
((ويرى فريقٌ آخر أنّ الأمير هو مؤسس الوطنية والسيادة في الجزائر ، وأنه جَدَّدَ في الاقتصاد بإبطال الخَرَاج على الرعيّة والامتيازات "للمخزن" ، والإبقاء فقط على الزكاة والعشور ، وجدد في القضاء فسوى بين الناس وطبّق نصوص القرآن على الجميع ، وخصص راتباً قارًّا للقاضي ، وجدد في العسكرية فجعل خدمة الوطن واجبة على الجميع ، وجدد في مفهوم الدين والتصوف فلم تعد القادريّة هي المثل وإنما جعل وحدة الشعب كله هي الهدف)).[رينيه كاليسو في (هيسبريس ـ ثمودا) ص120ـ 124] .
ثمّ يقول الدكتور سعد الله : (( إنّ الأمير في نظري هو موقظ الضمير الوطني الجزائري بأفعاله وأقواله طيلة عهد جهاده الذي بلغ سبعة عشر عامًا . لقد كان هدفه الأساسي إيقاظ وإذكاء ذلك الضمير بجعله الجهادَ في سبيل الله وسيلة ، والوحدة الشعبية هدفاً . ولعلّ الأمير قرأ جيداً واستفاد كثيراً من مقولة ابن خلدون :"إنّ العربَ لا تجتمع إلاّ على عصبيّة أو دين" فجعل الأمير العصبية نصب عينيه واستحضر عهد البعثة النبوية وعهد الصحابة ، ولم يكن يفرّق في ذلك بين أبناء الجزائر في الأصل فقد كانوا عنده جميعاً عرباً ومسلمين ، سواء كانوا سكان مدن أو جبال أو صحار ، وسواء كانوا يتكلّمون العربية أو لهجات محليّة . وإنما ظهر عليه أنه لم يرتح لبعض زعماء الكراغلة (وهم أبناء الأتراك من أمهات جزائريات) لأنهم بدؤوه بالإساءة إليه وتعاونوا مع عدوّه . وبينما لم يتدخل في العادات القبلية ولا في سلوكات الطرق الصوفية فإنه كان يُخاطب الجميع بلغة الدِّين والوطن والوحدة ويُذكرهم بماضيهم المجيد ويرغّبهم في التحرر والنهضة والاعتماد على النفس . ولذلك أحبّه الجميع وندم الذين خالفوه أحياناً على فعلهم وجاؤوه تائبين متوسلين . وقد عرفوا قدره أكثر بعد أن غاب عنهم وترك فراغاً لم تملأه أيّة شخصيّة من بعده ، لأنّ كل من ظهر بعده كان يفتقر إلى العناصر التي تمتع بها الأمير ، وهي تحديد الهدف وخدمته بكل الوسائل : الحرب والدبلوماسية والشجاعة والرأي والإخلاص .
ولعلّ هذه القِيَم هي التي جعلت الأمير هو البطل المغوار الذي تتحدث عنه قصص الفروسية العربية والفارس الغازي الذي ذكَّرَ الناس بعلي بن أبي طالب وخالد بن الوليد وعقبة بن نافع ، في وقت لم تبق من هؤلاء إلا ذكريات الكتب وأحاديث الأسمار . وقد لاحظ أعداؤه المعاصرون له أن الأمير لا يمكن خيانته مِمَّن تبعه ، رغم أن كثيرًا من عظماء الرجال انتهوا بخيانة بعض المخلصين لهم ، وقد حاول الفرنسيون أن يجدوا خائناً يغتال الأمير أو يضع له السم فباؤوا بالفشل . فهو محاربٌ مِقْدَام لا تجده إلاّ متقدّماً أمام الجميع ، وهو في نظر البعض مجاهدٌ يطلب الموت لتوهب له الحياة . ولذلك لم يكن بحاجة إلى حراسة ولا بوابين . وقد وصفه الواصفون عندئذ بأنه كان بسيط اللباس والأكل والمظهر ، وأن التواضع والزهد والذكاء والحزم من سماته ، وأن في إمكانه أن يأكل (الكسكسي) تحت أية خيمة (وهي أكلة جزائريّة مشهورة) ، وأن يشرب من أي نهر ومن أي كوب يشاء دون أن يخاف سماً ، وأن يضع رجله حيث يشاء دون أن يخشى كميناً من أحد [بوجولا (دراسات) 2/103] . فهو فارس الفوارس وحامي الذِّمار وربُّ السيف والشعر .
إنّ كبار العسكريين الفرنسيين الذين حاربوا الأمير (وكذلك وزيرهم للحربية ـ الماريشال سولت) قد فهموا جيداً خطّة الأمير ، وعملوا ما في وسعهم على عرقلة تنفيذها لأنها تُخرجهم من الجزائر ، وتُعيد مجدَ الإسلام ، وتبعثُ تيارًا جديدًا اسمه القوميّة العربية . وقد تعاونوا في ذلك ، كما قلنا ، مع الكنيسة والماسونية وأغبياء المسلمين (سلاطين وعلماء) لكسر شوكة الأمير ، الممثل لهذا الفجر الجديد . ولنرجع إلى كتابات بوجو ، وسولت ، وفاليه ، ودوفيفييه ، ولاموريسيير الخ . فإن فيها الجواب اليقين عمّا كانوا يحسونه منه ويلاحظونه عليه في هذا المجال ، وكيف خططوا وعملوا على إطفاء شعلته قبل أن تحرقهم)).انتهى كلام د. سعد الله.
ويقول هنري تشرشل (البريطاني المسيحي) : ((إن سياسة عبد القادر السامية لا تستطيع صبرًا على هذا الخرق الفاضح لمبادئ القرآن الواضحة الصريحة . إن ذلك الكتاب المقدس لم يُؤيّد ولم يُقرّ مبدأ الخضوع . فشعاره الذي لا يقبل المساومة ولا الرحمة هو الانتصار أو الموت والسيف في اليد في سبيل الله . ولمّا كان عبد القادر مفسِّراً غيوراً ، ومدافعاً جسوراً عن ذلك الكتاب المؤثر بكل عظمته البطولية ، فإنّه قد جعل واجبه الأساسي حمايةَ القرآن بيقظةٍ لا تعرف الكلل ولا التواني ، ومقابَلَةَ أبسط خروج عن مبادئه بشدة لا تعرف التراجع)).انتهى [(حياة الأمير لتشرشل) ترجمة سعد الله ص69]
ويروي تشرشل ردّ الأمير على الجنرال تريزل وفيه : ((.. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ ديني يمنعني من السماح لمسلم أن يكون تحت سلطة المسيحي)).انتهى [المصدر السابق ص96]
وفي جواب آخر ((إن العرب لا يمكن أن يقبلوا حتى أن يسمعوا بالعيش تحت سلطة المسيحيين ، ولو كانت سلطة اسمية ، وإذا كانت فرنسا ساعية لوضع العربي تحتها بالقوة فمعنى ذلك أنها ستدخل حرباً لا نهاية لها)).انتهى [المصدر السابق ص110 ؛ الكاتب البريطاني يصوغ كلام الأمير بطريقته الإنكليزية فهم يستعملون كلمة عربي مقابل مسلم فتنبّه]
ويقول تشرشل : ((لم يتردد الأمير في أن يطلب أن يكون كل مسلم مقيم في منطقة فرنسية يجب أن يكون تحت سلطته الشرعية هو فقط! وهو في هذا الطلب كان يسعى أن يُطبق ويُنفّذ مبدأً كان، في نظره، أولى من كل اعتبارات دنيوية ، لأنه مبدأ قائم على ماهية القرآن الأساسية وهو أنه لا يجوز لأي مسلم مهما كانت الظروف ، إذا أمكن ، أن يعترف عن طواعية أو يستسلم إلى حكم مسيحي)).انتهى [المصدر السابق ص113]
وجاء في جواب الأمير لأحد الفرنسيين قوله : ((سوف أنزل من هذه الصخرة الشماء ،كما ينزل النسر من عشه ، لكي أطهّر مدن الجزائر وعنّابة ووهران من المسيحيين)).انتهى [المصدر السابق ص139]
لقد ضرب الأمير نقودًا خاصّة بإمارته الإسلاميّة ، فهل تعلمون ما نُقِشَ عليها؟ أما القطعة الأولى فنُقش عليها الآية الكريمة {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه} ، وأما القطعة الأصغر منها فنُقش عليها الآية الكريمة {إنّ الدين عند الله الإسلام}.
والحديث في هذا الشأن طويل جدًا لا يمكن اختزاله في أسطر ضمن رد على مقال .
ومَن يريد التوسع في الموضوع فما عليه إلاّ الرجوع إلى كتاب "الحركة الوطنية الجزائرية" وكتاب "تاريخ الجزائر الثقافي" و"أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر" و"محاضرات في تاريخ الجزائر"(بداية الاحتلال) كلّها لمؤرّخ الجزائر الكبير الدكتور أبي القاسم سعد الله ، وكتاب "كفاح الجزائر من خلال الوثائق" للدكتور يحيى بو عزيز ، وكتاب "حاضر العالم الإسلامي" للأمير شكيب أرسلان ، وكتاب "تحفة الزائر" لمحمد باشا ، وكتاب "المقاومة الجزائرية تحت لواء الأمير عبد القادر" لإسماعيل العربي ، وكتاب (حلية البشر) للعلاّمة عبد الرزاق البيطار. وهناك الكثير غيرها أيضًا . وكذلك يمكن للباحثين الرجوع للكثير من المخطوطات والوثائق التي حققها بعض العلماء ، مثل (منشور الهداية في كشف حال من ادَّعى العلم والولاية) للشيخ عبد الكريم الفكون الجزائري ؛ تحقيق د. أبو القاسم سعد الله .
وأنتقل الآن إلى الفقرة الثانية من المقال :
ذكر الكاتب في بداية مقاله في ترجمة الأمير فقال : هو الشيخ عبد القادر بن محيي الدين الحسني!!
ثمّ قال حيث يصل نسبه بالإمام الحسين بن علي!! (وأظن هذا خطأً كتابيًا) والصواب : الحسن بن عليّ.
ثم نقل عمود النسب الخاص بالأمير فقال :".....عبد القادر ابن محي الدين ابن مصطفى ابن محمد ابن المختار ابن عبد القادر ابن أحمد ابن محمد ابن عبد القوي ابن يوسف ابن أحمد ابن شعبان ابن محمد ابن أدريس ابن أدريس ابن عبدالله ( المحض ) أبن الحسن ( المثنى ) أبن الحسن ( السبط )...... انظر :"الأمير عبد القادر" – سلسلة الفن والثقافة – وزارة الإعلام والثقافة الجزائرية – الجزائر / ص 1974" انتهى
العجيب حقًا أن ينقل سلسلة نسب الأمير من مجلة (سلسلة الفن والثقافة) من مقال كتبه أحدهم (لم يذكره لنا الكاتب) وساق فيه نسب الأمير على نحو لا وجود له في كتب التاريخ والأنساب التي كَتَبَت عن أسرة الأمير عبد القادر أو حياته ، وكل من ينظر في سلسلة النسب هذه يجدها مبتورة وقد سقط منها اثنا عشر جدًّا فقط!! وفيها أسماء محرّفة.
ثم عقد الكاتب المقارنة بين هذه السلسلة العجيبة وبين السلسلة الصحيحة التي ساقها محمد باشا مؤلّف كتاب (تحفة الزائر في مآثر الأمير عبد القادر وأخبار الجزائر) ، والعجيب أن الكاتب لا يعرف أنّ محمد باشا هو ابن الأمير عبد القادر ، فقال عنه إنه قريب الأمير!!
وبعد ذلك خرج الكاتب بنتيجة وهي أنّ نسب الأمير غير موثوق به!!
فقال : ((.إلاَّ أن قريبه الأمير محمد أورد سلسلة أخرى تختلف كلياً في كتابه :" تحفة الزائر في مآثر الأمير عبدالقادر وأخبار الجزائر " ، ممَّا يُضعف الثقة في هذه النسبة الشريفة ، لا سيما إذا عرفنا أ ن النسبة الشريفة من شروط الوصول الى مرتبة القطبية عند المتصوفة ، كما أننا إذا علمنا أيضاً أن الصوفية يجوِّزون الاكتساب الروحاني للنسبة الشريفة تقلُّ الثقة عندنا بتلك السلاسل النسبية المسبوكة)).انتهى
ثم زاد في التشكيك في نسب الأمير فقال (إن النسبة الشريفة هي من شروط الوصول للقطبية عند الصوفية) ، فهذا يعني أنه ربما ادعى الأمير هذه النسبة كي يدّعي القطبية فيما بعد! وكذلك زعم أن الصوفيّة يقولون بالاكتساب الروحاني للنسب!!
وأقول : ما هذا الكلام أيها الكاتب؟ وكيف رضيته لنفسك وأنت الذي صدّرت مقالك بعنوان فك الشفرة الجزائريّة؟!!
إنّ من يعتمد على مقالة في مجلة ثقافة وفنون ويقرأ فيها كلامًا فيه سقط طباعي وتصحيف شنيع ، عليه ألاّ يخوض في الأنساب!!
كيف يتكلم في الأنساب وهو لا يعرف أنّ مؤلف كتاب (تحفة الزائر) هو الابن الأكبر للأمير عبد القادر ، أمير الجزائر الذي يريد أن يفكّ شيفرته!!
وبعد كل هذا ذهب الكاتب يتدخّل بباطن الأمير ، ويزعم أنّه كان يسعى للوصول إلى القطبية الصوفية!! ولا أدري من أين أتى بتلك المعلومة؟!
إنّ قبيلة الأمير في الجزائر اسمها قبيلة بني هاشم ، وأسرة الأمير عبد القادر من أشهر الأسر الإدريسيّة في المغرب ورجال هذه الأسرة جلّهم من العلماء والشيوخ وأصحاب السيادة والوجاهة في تلك الأقطار ، وتراجمهم زاخرة في كتب ومؤلفات علماء المغرب والجزائر والشام ، وذِكْرُ نسبهم وفروعهم أشهر من أن يدلّ عليه ، لا في عهد الأمير عبد القادر بل قبله بقرون!!
فإذا كان الكاتب لا يريد أن يقرّ بنسب الأمير ، فماذا سيفعل في كتب العلماء التي ألّفت قبل أن يولد الأمير بل وقبل أن يولد جدّه وجدّ جدّه وجدّهم!!
كل ما على الكاتب أن يفعله هو أن يرجع إلى الكتب التالية ليعلم فداحة خطئه .
1. كتاب "عِقْدُ الجُمان النَّفيس في ذكر الأعيان من أشراف غَريس" للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله التوجيني .
2. كتاب "جوهرة العقول في ذكر آل الرّسول" للشيخ عبد الرحمن بن محمد الفاسي .
3. كتاب "فتح الرحمن شرح عقود الجمان" للشيخ محمد بن محمد بن أحمد بن أبي القاسم الجوزي الراشدي المزيلي .
4. كتاب "البستان في ذكر العلماء الأعيان" للفقيه عبد الله الونشريسي .
5. كتاب "رياض الأزهار في عدد آل النبي المختار" للمَقَّرِيِّ التلمساني .
6. كتاب "حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر" للشيخ عبد الرزاق البيطار .
7. كتاب "تعطير المَشام في مآثر دمشق الشام" للعلاّمة جمال الدين القاسمي .
وغيرها ....
هذه الكتب ذكرتْ عمود النسب الخاص بأسرة الأمير باتفاق ، وأمّا الكتب التي ترجمت للأمير أو لإخوته أو لآبائه واكتفت بالتنبيه على نسبه الإدريسي الحسني فهي بالعشرات .
وإليكم عمود النسب الخاص بالأمير عبد القادر والمتفق عليه عند أهل العلم ، والذي لا يجوز اعتماد غيره : [هو عبد القادر بن محي الدّين بن مصطفى بن محمد بن المختار بن عبد القادر بن أحمد المختار ابن عبد القادر بن أحمد بن محمد بن عبد القوي بن علي بن أحمد بن عبد القوي بن خالد بن يوسف بن أحمد بن بشّار بن محمد بن مسعود بن طاوس بن يعقوب بن عبد القوي بن أحمد بن محمد بن إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر بن عبد الله المحض ابن الحسن المثنّى ابن الحسن السبط ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه].
فلو أنّ باحثًا متخصصًا بالتاريخ والأنساب قرأ هذه الكتب وغيرها ثم قرّر صحة نسب الأمير من عدمها بطريقة علمية لكان كلامه مقبولاً ومحترمًا .
أما أن يأتي شخص لا خبرة له بالأنساب فيقرأ سلسلة نسب مغلوطة في جريدة أو مجلة ثم يقرر من تلقاء نفسه صحة ذلك النسب أو عدمها ، فهذا لا يمكن القَبول به أو السكوت عنه.
ثمّ من أين أتى الكاتب بمسألة ادعاء القطبية عند الأمير؟ نريد مرجعًا!
وكما أسلفت فلا حاجة بالأمير إلى أن يدعي النَّسب ونَسَبُه ثابت قبل أن يولد هو وأبوه وجدّه!!
ولقد غفل الكاتب عن حقيقة دامغة وهي أنّ الشعب الجزائري التفّ حول السيد محيي الدين والد الأمير ، لأنه مِنْ أشهر الأدارسة في تلك الأقطار ، وهذا مدوّن في كل الكتب التي وثّقت تلك المرحلة!!
وليس للأخ الكاتب أي سلف من العلماء والمؤرّخين! فيما ذهب إليه من التشكيك بنسب الأمير .
وللفائدة فإن درجة القطبية عند المتصوفة لا يشترط فيها النسب أبدًا ، وهذا معروف في كتبهم الكبرى ، وهناك بعض جهلة الصوفية المتأخرين اشترطوا ذلك فردّ عليهم علماء الصوفية أنفسهم (انظر رسالة الشيخ عبد الله الغماري الصوفي ((كرامات وأولياء)) التي بيّن فيها بطلان قول من قال بشرط النسب الشريف للقطبيّة)
ثم إن ادعاء الكاتب بجواز اكتساب النسب روحانيًا عند الصوفية ، ادعاءٌ بدون بيّنة ، فليته ذكر لنا مرجعًا من مراجع الصوفيّة ينص على ذلك .
أيها الإخوة إنّ الله تعالى يقول في كتابه العزيز : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء : 135]


والحمد لله ربّ العالمين
خلدون بن مَكِّي الحسني
للبحث صِلَة
 
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city



بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة الرابعة

نلاحظ أن الأخ محمد المبارك في مقاله (فك الشفرة) إذا ذَكَرَ الشيخ محيي الدين الحسني وسبب التفاف الشعب الجزائري حوله قال : هو شيخ الطريقة القادرية ، وإذا تكلّم عن ثقافة الأمير عبد القادر قال عنه إنه كان يُعد لاستلام الطريقة القادرية بعد أبيه ، ولمّا تكلم على جهاد الأمير ونهايته وضع له عنواناً (نهاية الحركة القادريّة!!)
أقول : أيها الإخوة إن والد الأمير عبد القادر وكذلك جدّه كانا من الصوفيّة ولهم طريقة هي القادريّة ، هذا أمر لا ينكره أحد . ولكن أن يُقال إنّ الشعب الجزائري التفّ حول الشيخ محيي الدين لأنه قادري فهذا بعيد .
أولاً هناك عدّة طرق كانت منتشرة في الجزائر والقادريّة ليست أوسعها بل التجانية هي أوسع الطرق انتشاراً وكذلك الشاذلية والدرقاوية والرحمانية وغيرها كثير ..
فلماذا يلتف الشعب حول القادرية فحسب ويترك باقي الطرق؟ مع العلم أنّ الذين بايعوا السيد محيي الدين كانوا من مختلف الطرق!
والحقيقة كما أسلفت أن سبب التفاف الشعب حول السيد محيي الدين هو كونه من أعلى وأثبت الأشراف الأدارسة نسباً في تلك الأقطار ، ولأنّه من أهل العلم ومن أهل الصلاح والرأي ، كما ترجم له علماء المسلمين .
ثمّ إن اقتصار الكاتب على وصف السيد محيي الدين بأنه شيخ الطريقة القادريّة ، لا يُعطي الصورة الحقيقية للرجل .
فكل من ترجم للسيد محيي الدين وصفه بالعالم العامل ، المشتغل بتدريس الفقه والحديث والتفسير واللغة وغيرها من علوم الشريعة ، إضافة إلى تصوّفه .
إذن فهناك فرق بين السيد محيي الدين ، وبين من يسمون بشيوخ الطرق الصوفية ، الذين ليس لهم أي نصيب من العلم والمعرفة ، وإنما حسبهم أنهم يجمعون الناس في زواياهم لأورادهم وأناشيدهم والرقص الصوفي والأكل والشرب .
إنّ زاوية السيد محيي الدين وصفها العلماء بأنها كانت معهداً للعلوم الشرعيّة يدرّس فيها جميع أصناف العلوم . (وللفائدة فإنّ مذهب السيد محيي الدين هو محاربة الرقص الصوفي "الحضرات")
فإذا أردنا أن نصف السيد محيي الدين بإنصاف فإننا نقول عنه : إنه من أهل الدين ، صاحب علم وعمل ، وجمع إلى ذلك النسب الشريف والخلق الأصيل وكان له معهد للعلوم الشرعيّة ، وكان صوفيًا تلقى الطريقة القادريّة ونشرها ، وأجاز الناس بأورادها ، ولكنه متفقه بالمذهب المالكي ومنضبط به .. وهو من الذين يصنّفون ضمن ما يُسمِّيه الأستاذ سعد الله (بالتصوف السلفي) ؛ لا أن نقتصر على وصفه بالقادري وانتهى الأمر ، لأننا بذلك نكون قد وجّهنا أذهان القراء إلى صورة واحدة (وهي الطرقيّة أو التصوف الجاهل).
[من الذين وصفهم الأستاذ سعد الله بأنهم من دعاة التصوف السلفي ، الشيخ عبد الرحمن الأخضري، والشيخ محمد بن علي الخروبي ، والشيخ أحمد زروق ، والشيخ عبد الكريم الفكون . انظر تاريخ الجزائر الثقافي 1/507؛ 527؛530]
والعجيب من الكاتب أنه لمّا تكلّم عن ثقافة الأمير قال : إن والد الأمير كان يُعدّه لمشيخة القادرية من بعده!!!! وأنا أسأله ما مصدر معلوماتك عن هذا الأمر؟
يقول الدكتور أبو القاسم سعد الله : ((إن الأمير عبد القادر فوق الطرق الصوفية كلها ، أي إنه كان يعمل من أجل فكرة أشمل وهي الدين والوطنية)).انتهى[الحركة الوطنية الجزائرية ص400]
قال الكاتب : ((لقد كان الأمير عبدالقادر ذا ثقافة علمية واسعة ، فقد كان أبوه الشيخ محيي الدين يُعِدُّه لمشيخة الطريقة القادرية من بعده ، وحتى تكتمل صورة الأمير عبد القادر، فقد تلقى الشاب مجموعة من العلوم فقد درس الفلسفة (رسائل إخوان الصفا - أرسطوطاليس - فيثاغورس) ودرس الفقه والحديث فدرس صحيح البخاري ومسلم، وقام بتدريسهما، كما تلقى الألفية في النحو، والسنوسية، والعقائد النسفية في التوحيد، وايساغوجي في المنطق، والإتقان في علوم القرآن))انتهى
والسؤال : هل هذه العلوم يتلقاها من يُعدّ ليصبح شيخ طريقة؟!
وأقول للكاتب من أين علمت أنه درس رسائل إخوان الصفا؟ ففيما قرأتُه عن الأمير من تراجم لم أجد أحدًا ذكرها ، مع أنهم ذكروا الكثير مما لم يورده الكاتب أصلاً! وسؤالي ليس استنكارياً وإنما يهمني أن أعرف المصدر.
يقول شارل هنري تشرشل : ((إن الأمير قرأ أعمال أفلاطون ، وفيثاغورث ، وأرسطو ، ودرس كتابات مشاهير المؤلفين من عهود الخلافة العربية عن التاريخ القديم والحديث ، وعن الفلسفة ، واللغة، الفلك ، والجغرافية ، بل حتى عن الطب ، وقد تجمّعت لديه مكتبة ضخمة)).انتهى [حياة الأمير عبد القادر ص47 . تفرّد تشرشل بذكر كتب أفلاطون وفيثاغورث وأرسطو!!]
لقد قرأتُ في كتاب الدكتور أبي القاسم سعد الله (تاريخ الجزائر الثقافي) 1/520 ، كثيراً من التعليقات على زوايا الطرق الصوفية التي كانت منتشرة في تلك الأيام ، وكان ينقلُ كلام العلماء المعاصرين لتلك الزوايا والطرق والمنتقدين لبعض شيوخها وانحرافهم وتعاونهم مع الاستعمار ، ولما وصل إلى الحديث عن جدّ الأمير وهو الحاج مصطفى والطريقة القادريّة ، وصفه بأنه من علماء الوقت وصلحائه وأنه أنشأ زاوية بغرض أن تكون مركزًا للتعليم ومبعثًا للطريقة القادريّة ، وبعد وفاته تولى أمر الزاوية ولده السيد محيي الدين الذي كان من شيوخ العلم المشهود لهم ، وأصبح الشيخ محيي الدين يلقن أوراد الطريقة القادرية وينشر العلم من الزاوية التي كانت عبارة عن معهد ...إلى أن قال : كما أن القادرية قد اندمجت غداة الاحتلال في تيار الحركة الوطنية مستعملة نفوذها الروحي للدعوة إلى الجهاد ضد الفرنسيين)).انتهى كلام سعد الله .
ولم يذكر أي طعن فيه أو في زاويته كما فعل بباقي الزوايا والطرق . وما ذلك إلاّ للفرق الكبير بينها .
ملاحظة :[ينبغي أن نفرّق بين العلماء أو الفقهاء المتصوّفين الذين تلقوا أورادًا لبعض الطرق الصوفية ، وبين رجال الطرق (الطرقيين) الذين ـ في أغلبهم وعامتهم ـ جهّال وأصحاب أغراض شخصية ، ويعتمدون على الدجل والشعوذة!!]
وقال الدكتور سعد الله في معرض كلامه عن الأمير: ((.. إن المقاومة قد أخذت عليه كل الوقت وأصبح رمزاً لجمع الكلمة وتوحيد الشعب تحت راية الوطنيّة وليس مرابطًا يلقن أوراد الطريقة القادرية)).انتهى [المرجع السابق1/522]
والآن سأعرض لكم بعض النقول العلمية المتصلة بالموضوع :
أولاً ؛ ترجمة السيد مصطفى بن محمد بن المختار الراشدي الحسني ؛
ترجَمَهُ حفيدُه السيد أحمد الحسني فقال : ((كان رحمه الله عالماً عابداً زاهداً يُلقّب بسيبويه الإقليم ، وكان يحفظ كتاب التصريح على التوضيح للشيخ خالد الأزهري عن ظهر قلب كحفظه الفاتحة ، وأَقْرَأَ ألفيّة ابن مالك قراءة تحقيق وبحثٍ وتدقيق في محلٍّ واحد ثماني عشْرة مرّة ، وأجازه إجازة عامّة الشيخ مرتضى الزَبيدي صاحب "تاج العروس" وكتَبَها له في نحو كرَّاسة ، وقد كانت له المشيخة التّامة على جميع علماء الإقليم وكانت له الكلمة المسموعة عند الباي محمد حاكم وهران ، وقد كان المذكور يُجلّه ويُوقّره وجعلَ له رئاسة المسجد الكبير "بمُعسْكَر" .
ثمَّ انتقَلَ إلى وادي الحمام واختطَّ به قريةً سمّاها الراشديّة ثمّ غلَبَ عليها اسم "القيطنة" وذلك سنة 1198هـ وبنى بها مسجدًا ومحلاًّ لقراءة القرآن العظيم ومحلاًّ لطلبة العلم ، وعيّنَ لهم مصروفًا من عنده في كل يوم ، وتوفّي سنة اثنتي عشرة ومئتين وألف (1212هـ) عن ثلاثٍ وستين سنة عند ماءٍ يُعرف بعين غزالة)).انتهى [ترجمته في (نخبة ما تُسر به النواظر) لأحمد الحسني ص120]
ـ وقال عنه الشيخ عبد الرزاق البيطار في (حلية البشر) : ((الفاضل الإمام والكامل الهمام ، كعبة الأفاضل ومعدن الفضائل ...)).انتهى
ثانيًا ؛ ترجمة السيد محيي الدين بن مصطفى (والد الأمير) ، قال عنه العلاّمة جمال الدين القاسمي : ((كان عالماً زاهدًا عابدًا مربيًا صوفيًا تشدّ إليه الرِّحال ، ذا أُبّهة وصولة وعظمة ، وقد كساه الله تعالى من الهيبة والعظمة عند أهل إقليم الجزائر ما لم يتفق لغيره ، وكان مقصوداً لقضاء الحوائج الدينية والدنيوية ..)). انتهى من كتاب (تعطير المشام) .
وقال عنه الشيخ عبد الرزاق البيطار : (( هو الشيخ العالم العامل ، والفرد الأوحد الفاضل ، بقيّة السلف .... العفيف الحسيب والشريف النسيب ..)) .انتهى انظر (حلية البشر).
ومما قاله فيه الأستاذ المهدي البوعبدلّي في بحثه بعنوان " وثائق أصيلة تُلقي الضوء على حياة الأمير عبد القادر" نُشِرَ في مجلّة الثقافة التي تصدرها وزارة الثقافة الجزائريّة وفي عددها الخاص بالذكرى المئويّة لوفاة الأمير عبد القادر العدد 75 رجب وشعبان 1403 أيار ماي 1983
((" ... وهناك وثائق من بينها مرثيّة لأحد تلامذة الشيخ محيي الدين ، ضمّنها الفنون التي كان يدرّسها الشيخ محيي الدين بمعهد القيطنة ، التي أسسها والده السيد مصطفى بن المختار الذي كان بدوره أمثلَ فقهاء عهده وأدبائه ، وقد تركَ عدّة رسائل بخطّه . وهي تعطينا صورة حقيقيّة عن ثقافة السيد محيي الدين ، وتُبيِّن أنّ معهد القيطنة لم يقتصر على تعليم القرآن ومختصر خليل ، بل كانت تدرس فيه فنون كالتفسير والحديث وعلوم اللغة ، وصاحب هذه المرثيّة هو العالم المحدّث الشيخ محمد بن معروف الونشريسي المتوفى في تونس سنة 1265هـ كما ذكرَ ذلك تلميذه علي بن الحاج موسى إمام ضريح الثعالبي بالجزائر في عهده ، وقد هاجر من الجزائر بعد الاحتلال وكان الأمير كلّفه بترشيح القضاة بناحية "شْلف" و " ونشريس " وقد عثرنا على وثائق تُثبت ذلك ، وهذه بعض الأبيات من المرثيّة المذكورة :


يـحقّ لجفني أن تسيلَ دموعُه ****** علـى سيدٍ ذي حكمة وبراعـة
سما وارتقى وسادَ أهل زمـانِه ****** بذا يشـهدُ العدول كالمستفيضة
إلى أن قال :


ترى كتُبَ ابن حاجب وخليلنا ***** وألفيّة ابـن مـالك مـع غنية
وسـعد وسـلّم وجمع جوامع ***** وتفسير ما يتلـى كتاب وسنُّة
يقولون: من لنا بكشف رموزها ***** وحلّ غريب اللفظ عند القراءة
ومعرفةِ الصحيح من ضده إذا ***** تعارضت الآثار مـن غير ميزة
إلى أن قال :


فيا أسفي علـى ربيع قلوبنا ***** مزيل الصدا عنها بعلم وحكمة
ويا أسفي على خليفةِ مالكٍ ***** إمامنا محيي الدين شيخي وقدوتي
وُلِدَ رحمه الله سنة تسعين ومئة وألف وتوفّي يوم الأحد سنة تسع وأربعين ومئتين .
هذه ترجمة مختصرة لوالد وجدّ الأمير ، وأمّا تراجم باقي آبائه وأجداده المذكورين في سلسلة نسبه الإدريسي الحسني ، فهي مثبتة في كتب التواريخ والتراجم وغيرها ، وقد جمعتُها في كتاب أُعِدُّه للتعريف برجال وأعلام أسرة الأمير عبد القادر ، وكذلك أبحث فيه السيرة الذاتية للأمير بحثًا تاريخيًا ، وأتعرّض فيه للشبهات التي أثيرت حوله ، وما هذه الحلقات إلاّ اختصار لبعض مباحث هذا الكتاب ، وأسأل الله أن ييسر لي إتمامه قريبًا.
وما ذكرته في هذه الحلقة من تراجم ونقول إنما هو بيانٌ يوضِّح بعض الحقائق ؛ حتى تكون الصورة كاملة عند القارئ ، وفيه فوائد تاريخية.
ولكن الأمر العجيب حقًا هو قول الكاتب واصفاً نهاية جهاد الأمير عبد القادر (الأمير الشرعي للجزائر) المبايع من قبل الشعب الجزائري ، والذي دام 17 عاماً ، بقوله ((نهاية الحركة القادرية))!!!
سبحان الله! ماذا سيُفهم من هذا العنوان؟
ومن أين أتى بهذا الوصف؟ ومن سلفه فيه؟ وما هي مراجعه ومصادره؟
الذي يُفهم منه أنّ الكاتب سمّى قيادة الأمة والبيعة للأمير وحمل راية الجهاد بالحركة القادرية!! وعدَّ نهاية الحرب بأنها نهاية للحركة القادرية!!
والذي يُفهم من كلامه أنّ جهادَ الصليبيين المعتدين ، وجمع كلمة المسلمين والقيام بشؤون الدولة الإسلامية إنما هي تعاليم الطريقة القادريّة فحسب! ولذلك فإنّ الأمير لمّا أُسقط في يديه وحوصر واضطر إلى التسليم ، انتهت بذلك الحركة القادرية وانتهت أطول وأعنف مرحلة كفاح عسكري تعرّض لها الفرنسيون في الجزائر . وهذا حقًا؛ كلام عجيب!!!
وكان يكفي الكاتب أن يعنون لتلك الفقرة كما عنون لها كل المؤرخين والعلماء من جميع المشارب بـ (انتهاء مرحلة المقاومة الجزائرية بقيادة الأمير عبد القادر) .
ـ ومن أغرب ما وصف به كاتب المقال الأمير قوله : ((و ممَّا يُؤخذ على الأمير حبه للمال و السلطة الذين يخلطهما بحب العفو و المسامحة في أحيان كثيرة ((.انتهى
لماذا لا يذكر لنا الكاتب مصادره التي يستقي منها معلوماته؟! فهذا الوصف لا يصدر إلاّ عن شخص معاصر للأمير يعرفه عن قرب ، فمن أين حصل الكاتب على معلوماته هذه؟
المعروف عن الأمير والمشهور عنه أنه كان متقشفاً لا يلبس إلاّ البسيط من الثياب ، ويُرى عليه ثوب واحد سنواتٍ طويلةً لا يغيّره! والمشهور والثابت عنه كثرة إنفاقه للمال في وجوه الخير ، وقد مات وعليه ديون من كثرة ما كان يمنح الناسَ ، علماءَهم وعامَّتَهم .
وانظروا كيف كان أعداء الأمير عبد القادر يصفونه!
يقول أحد المؤرّخين الفرنسيين : ((..كان احتقاره للثروة وعزوفه عن مظاهر البذخ من المظاهر المميزة لشخصيّته)).انتهى [(المقاومة الجزائرية تحت لواء الأمير عبد القادر) لإسماعيل العربي ص218]
ويقول الجنرال بيجو (وهو من ألدّ أعداء الأمير) واصفاً الأمير : (( .. وقبل أن أدخل في الحديث معه، أخذتُ أتأمّل وجهه وكسوته لحظة . إنه شاحب اللون ، وصورته قويّة الشبه بالصورة التقليدية المعروفة للمسيح . وعيناه مثل لحيته ، كستنائيّة اللون . ومظهره العام يدل على التقوى والخشوع . وهو بعد النظرة الأولى يخفض عينيه ثم لا يحدّق في الأشياء أبداً . وأما كسوته فهي عادية ومستعملة في حدود ثلاثة أرباعها . إنه لمن الواضح أنّ الرجل يلتزم التقشّف والبساطة)).انتهى [المصدر السابق ص160ـ 161] .


ومليحة شهدت لها ضرَّاتها ***** والفضل ما شهدت به الأعداء
ويقول الكولونيل تشرشل : ((لقد كان عبد القادر معارضًا لكل المصاريف التي تصرف فيما لا فائدة فيه ، حتى إنَّ المبلغ الذي اعتاد المسلمون أن يخصصوه للاحتفالات والمهرجانات في أهم الأعياد الدينية ، وجَّهه هو إلى أغراض خيرية . ففي مناسبة ختان أحد أبنائه استغرب أهل (بروسة) أنه بدلاً من المسيرة الغالية العادية ، مع كل ما تستلزمه من أُبَّهة وبهرجة الفرسان والأعلام والموسيقا ، كان هناك جمعٌ من الفقراء مجتمعين أمام منزله يتلقون من يديه هدايا الخبز والملابس والنقود . إنّ هذا كان في عين عبد القادر أفضلَ احتفال بهذه الشعيرة المقدسة)).انتهى [حياة الأمير عبد القادر ص275].
وقد ذكر هذه الحادثة محمد باشا فقال : ((التمس (الأمير) من أعيان البلد (بروسة) أن يقيّدوا له أولاد الفقراء المحتاجين للختان فقيّدوا (يعني كتبوا) نحو الخمسمئة ، فأمر بختانهم (مع أبنائه) على نفقته ... وتعجب أهل بروسة لأن من عادة أعيانهم أنهم يحتفلون للختان وسائر الأفراح بضرب الموسيقا والطبول والزمور ، والأمير احتفل بكثرة الصدقات والمبرات فترى جماهير الفقراء والمحتاجين حول داره يتناولون أنواع الأطعمة والألبسة والدراهم ، وكانوا على كثرتهم يرفعون أصواتهم بالدعاء له ، وهو يقول اربعوا على أنفسكم واشكروا الله تعالى)).انتهى [تحفة الزائر 2/62]
وأمّا علماء المسلمين الذين ترجموا للأمير ، فقد وصفوا شدة كرمه وسخائه وزهده . وسيأتي مزيد من التوضيح لهذه المسألة لاحقاً .إن شاء الله
******************************
قال صاحب (فك الشفرة) : ((ورحل الأمير عبد القادر إلى الشرق براتب من الحكومة الفرنسية ، وبوعدٍ غير واضحٍ من الإمبراطور الفرنسي بتنصيبه إمبراطوراً على البلاد العربية)).انتهى
أقول : لماذا لا يذكر لنا الكاتب مصادر معلوماته؟
والمعلومة الجديدة هي وعد نابليون بتنصيب الأمير إمبراطوراً على البلاد العربيّة!!
لقد طالعت كثيرًا من الكتب (العربية والأجنبيّة) التي تحدّثت عن قصة تسريح الأمير ، وليس في واحد منها هذه المعلومة!
ومما يُذكر في هذا المقام ، أنّ الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث عندما قرر إطلاق سراح الأمير من سجنه ، أمر الماريشال "بيجو" أن يكتب للأمير يخبره بأنّ الحكومة الفرنسية كانت تريد أن تطلق سراحه وترسله إلى مكّة حيث يريد ، ولكن الأصوات في مجلس العموم أجبرتها على ترك ذلك، وأنه ربما تمضي سنوات عديدة ولا يتيسّر له التوجه إلى المواضع التي طلبها ، ثمّ أشار بيجو على الأمير فقال : ((أشير عليك .. أن توطّن نفسك على جعل فرنسا وطنًا لك ، فتطلب من الحكومة أن تعطيك أملاكًا جيدة في أرضها ينتج لك منها ما تعيش به كواحد من كبرائها مع مداومتك على أداء وظائفك الدينية كما تريد وبلوغ مرادك في تربية أولادك .... فهذا ما أشير به بحسب حقوق الإنسانية وبالخصوص عليك لِمَا ألمَّ بك من المصائب مع اتصافك بالصفات الحسنة التي وهبها الله لك، راجيًا قبول تحياتي المقدمة مع الإكرام والاحترام .في 28/1/1849م))
فأجابه الأمير بقوله : ((لو جمَعَت فرنسا سائرَ أموالها ثمّ خيّرتني بين أخذها وأكون عبدًا ، وبين أن أكون حرًّا فقيرًا مُعْدمًا ، لاخترت أن أكون حرًّا فقيرًا ، فلا تراجعوني بمثل ذلك الخطاب فإنه ليس عندي بعد هذا الخطاب جواب ، وإلى الله تُرجعُ الأمور ، وبيده كشْفُ هذا الديْجور)).انتهى [تحفة الزائر 2/26ـ27] ، (وكان عمر الأمير في حينها 41 عامًا!)
وما ترويه كتب السياسة المعاصرة هو أنّ الدولة العثمانية لمّا توالت هزائمها أمام روسيا وغيرها ، وبدأ الوهن والضعف في حكمها وسقط كثير من الأقطار التي كانت تحت سلطتها (ومنها الجزائر) ، قامت في بلاد الشام طليعة من دعاة الاستقلال وبحثوا مصير سورية ، وعقدوا المؤتمرات السريّة في دمشق سنة 1877م (وكان عُمر الأمير في حينها 72 عاماً!) واقترحوا فصل البلاد عن الدولة العثمانية ، وتنصيب الأمير عبد القادر مليكاً عليها ، لأنهم وجدوا فيه الحلّ الأمثل للوضع البائس الذي كانت عليه البلاد ، لما يتمتّع به الأمير من هيبة واحترام عند العثمانيين والعرب على حدٍّ سواء! وعندما عرضوا على الأمير هذا الموضوع لم يتحمّس له ، ولم يرفضه ، ولكنّه نصح أن يظلّ الارتباط الروحي بين البلاد الشاميّة والخلافة العثمانية قائماً ، وأن يبقى السلطان العثماني سلطاناً على الشام أيضاً.
وأمّا المشروع الفرنسي الجديد الذي ظهر سنة 1870م !!!والذي كان يرمي إلى إنشاء إمبراطوريّة عربيّة تمتد من شمالي بلاد الشام حتى قطاع عكّا يرأسها الأمير عبد القادر ، فقد رفضه الأمير بشدّة!
وهذا معروف عند المتابعين لتلك الشؤون في ذلك الوقت .
لقد رفض الأمير عبد القادر هذا المشروع لأنّه مطلب فرنسي استعماري . وبعد سبع سنوات ، عندما ظهر المشروع العربي القومي تردّد في قبوله ، كان عدم تحمّس الأمير لهذا الأمر ناشئاً عن احترامه لمبدأ الخلافة الإسلاميّة . ثم جاء مؤتمر برلين وتولّى عبد الحميد الخلافة وأصبح سلطاناً فتأخّر الحلّ العربي .
أما علماء المسلمين المتابعون لشؤون الأمير ، أمثال الشيخ عبد الرزاق البيطار ، وجمال الدين القاسمي، وأديب الحصني ، وجميل الشطي ، وأمثالهم فلم يذكروا شيئاً عن ذلك أبداً . حتى إنّ السياسي الكبير والمؤرخ المخضرم الأمير شكيب أرسلان صاحب الاطلاع الكبير وشبكة المعارف الواسعة ،لم يشر إلى شيء من ذلك عند ترجمته للأمير في حاضر العالم الإسلامي!!
ولكي أزيل اللبس أقول مختصرًا ما قاله المؤرّخون لتلك الحقبة :
عندما خُلِّي سبيل الأمير عبد القادر كانت الدولة العثمانية مقطّعة الأوصال ، وبدأت تخسر ممالكها الواحدة تلو الأخرى ، وأصبح السلطان العثماني مضطراً إلى التساهل مع الدول الأوربيّة والخضوع للكثير من رغباتها ، وفي الوقت نفسه كثُر المفتونون بأوربا وأنظمتها ضمن رجالات السلطان المتنفّذين وكانوا من المعادين للحكم الإسلامي ، كما قويت الدعوات القوميّة والعصبيّة التركية ، وزاد النفوذ اليهودي في الدولة ، وزاد اتفاق الدول الأوربيّة على ضرورة الإجهاز على الدولة العثمانية ، هذا إضافةً إلى تردي الأحوال المعيشية في بلاد الشام وشدّة جَور الولاة على الناس ، وظهور الحروب الطائفيّة ، ثمّ انتصار الروس على الدولة العثمانية. في هذه الأجواء عقد زعماء بلاد الشام مؤتمر دمشق السري للنظر في استقلالها عن العثمانيين ، واجتمع رأيهم على تنصيب الأمير عبد القادر أميراً عليها : ((ورأوا فيه أملهم الوحيد ، لأنه الشخصية التي تستطيع إقناع الأتراك بحق العرب في الاستقلال ، وهو الذي يمكن أن تتفق عليه كلمة الدول الأوربيّة ذات المصالح المتصارعة في المنطقة بعد ما قام به أثناء الفتنة ، وفوق كل ذلك فهو المجاهد ذو النسب الشريف والعالم ذو المقام الرفيع والمحايد الذي يمكن أن تهابه وتنضوي تحت لوائه مختلف الطوائف والملل والعشائر في المنطقة)).انتهى[مقدمة "حياة الأمير عبد القادر" لسعد الله ص26]
ومع ذلك لم يتحمّس الأمير لذلك ، وما هي إلاّ أيام ويتسلّم السلطان عبد الحميد الثاني الخلافة وبدأ يبطش بكل من يدعو إلى اعتماد الفكر الغربي ، واهتمّ بالجيش وقَوَّى مركز الخلافة ، وأخذ يدعو للجامعة الإسلامية ، فعندها ارتاح الأمير واطمأن وصار يرفض أي عرض له بتسلُّم الحكم إلى أن مات . [وقد عاصر الأمير خلال وجوده في الشرق أربعة من الخلفاء العثمانيين هم : عبد المجيد وعبد العزيز ومراد الخامس وعبد الحميد الثاني]
هذا الذي أقول هو كلام شديد الاختصار لأنّ الحديث عن تلك الحقبة يقتضي وقتاً طويلاً وليس محل بحثنا الآن ،
ولكن إليكم بعض النقول التاريخيّة للاستئناس ؛ جاء في كتاب"التاريخ الإسلامي" للأستاذ محمود شاكر 8/185 : ((ومن الذين فُتنوا بأوربا وأفكارها رجال كان لهم دور خطير في الدولة أمثال أحمد مدحت باشا رئيس مجلس الدولة ، وصاحب اليد الأولى في خلع الخليفة عبد العزيز وقتله، وفي خلع الخليفة مراد الخامس . وهؤلاء المفتونون كانوا بعيدين عن معرفة الإسلام ، لذا كانوا يتّهمون الخلفاء بالحكم المطلق ، ويُطالبون بوضع دستور للدولة إذ يريدون أن تكون على نمط الدول الأوربيّة النصرانية ، وأن يكون دستورها من وضع البشر بالشكل الذي عليه الدساتير الأوربيّة ، ولا يقبلون أن يكون القرآن الكريم (كتاب الله) دستور الأمّة ، وهو الذي يحدّ من تصرفات الخليفة وصلاحياته ، وما ذلك إلاّ عِداءً للإسلام ، وانبهاراً بالحياة الأوربيّة ، وانهزاماً نفسياً ، وتحقيقاً للشهوات والأهواء الذاتية .
وزاد النفوذ اليهودي في الدولة مع أطماع اليهود ، ومع تَسَلُّم يهود الدونمة عدداً من المراكز الرئيسيّة، وقد نسيَ الناسُ أصلَهم وحقيقتهم ، وطبيعة اليهود ، إذ أظهروا الإسلام وعاشوا مع أبنائه واختلطوا بهم ، يؤدّون الصلاة أمامهم بل يُؤدّون الحج ..
وزاد اتفاق الدول الأوربيّة على الإجهاز على حياة الرجل المريض ، إذ كانوا يطلقون هذا اللقب على الدولة العثمانية ، وإن ظهرت الاختلافات بين تلك الدول ، فظهرت روسيا من جهة ، والدول الأخرى من جهة ثانية .
في وسط هذه التيارات والأمواج المتلاطمة تسلّم عبد الحميد الثاني الخلافة ..)).انتهى
ويقول الدكتور أبو القاسم سعد الله : ((وإذا صدقنا ما جاء في كتاب "سطور من رسالة" فإنّ الأمير كان لا يرفض الدعوة التي تجعل منه رأسًا للحركة ولكنه كان يرى أنّ الوقت لم يحن بعد وأن الفكرة في حاجة إلى نضج ،... ولا ندري إن كان الأمير جسّ نبض الموضوع مع السلطات العثمانية وممثلي الدول الأجنبية في المنطقة قبل اتخاذ موقف نهائي . ومهما يكن الأمر فإن الدولة العثمانية قد دخلت من جديد في حرب مع اليونان ، وجاء مؤتمر برلين (1878) وتولى السلطنة عبد الحميد الثاني (1876) ، وتقدمت السن بالأمير ، فتجمّد المشروع مؤقتاً)). انتهى [مقدمة(حياة الأمير عبد القادر) ص27]
ومرّ معنا سابقاً ما قاله الأستاذ سعد الله : ((..وأخذ سلاطين آل عثمان " يُنظّمون" دولتهم المتداعية فإذا الإصلاحاتُ مفاسدٌ ، وإذا الأعداءُ هم المصلحون جالسين يملون على (السلطان) محمود وعبد المجيد وعبد العزيز وأنور(باشا) ومصطفى أتاتورك ما عليهم أن يفعلوا وما عليهم أن يتركوا)).انتهى
إذن المؤرخون المتخصصون لا يستطيعون الجزم في تصورهم لحقيقة الأحداث ، وإنما تعاملوا مع المعلومات الواردة بإنصاف وحذر! فليتنا نقتدي بهم .
ـ وأما قول الكاتب أنّ الأمير توقف في اسطنبول ثم استقر في الشام ، فيحتاج إلى توضيح .
لأنّ الاتفاقيّة التي تمت بين نابليون الثالث والسلطان العثماني تقضي بإقامة الأمير في مدينة (بروسة)! إذن الأمير سيسافر من فرنسا إلى الحاضرة العثمانية ليستقر في بروسة ، وكان السلطان قد خصص للأمير داراً كبيرة هناك (على جهة التمليك) مع مخصصات مالية ، إلاّ أنّ السلطان رأى أنّه من الأفضل أن ينتقل الأمير عبد القادر إلى الشام كي يساعده في تحسين الأوضاع هناك! ، فتشاور السلطان مع نابليون ، وتعلل بأن الأمير لم يطب له المقام في بروسة بسبب كثرة الزلازل ، فوافق نابليون على انتقال الأمير إلى دمشق.
وقد نظم الأمير قصيدة جميلة يبيّن فيها حزنه على مفارقة مدينة بروسة التي عاش فيها ثلاث سنوات وله فيها أطيب الذكريات فقال :


أبى القلبُ أن ينسى المعاهد من بُرْسا ***** وحبّي لها ؛ بين الجوانح ، قد أرسى
أكلّفه سـلوانها ، وهـو مـغرمٌ ***** فهيهات! أن يسلو وهيهات! أن ينسى
تباعدتُ عنها ؛ ويحَ قلبي! بعدها ***** وخلّفتها ، والقلبُ ،خلفي ، بها أمسى
بلادٌ لها فضلٌ علـى كل بلدة ***** سوى ، مَن يشدّ الزائرون ، لها الحِلسا
عليَّ محالٌ بلدةً غـيرها ، أرى ***** بها الدين ، والدنيا ، طهورًا ولا نجسا
وجامعها المشهور ؛ لـم يك مثله ***** به العلم مغروسٌ . به كم ترى درسا
سـقى الله غيثًا ، رحمةً وكرامةً ***** أراضٍ ، بها حلَّ الأحبّة ، من بُرْسا
[نزهة الخاطر في قريض الأمير عبد القادر ص33]
وقد منح السلطانُ الأميرَ ألف كيس ذهبي عوضاً عن داره التي تركها في بروسة .
أمّا الراتب السنوي الذي خصصه نابليون للأمير فهو تعويض عن الإساءة التي تعرّض لها الأمير بخيانة الحكومة الفرنسية لعهودها معه ، وتعويض عن أملاك أسرته التي صادرتها الحكومة الفرنسية في الجزائر، ومنعتهم من حق العودة إلى الجزائر ، والأمير كان مضطراً إلى الإنفاق على أسرته كلها وعلى الجالية التي كانت معه ، وكان هذا الراتب قد اتفق عليه السلطان العثماني مع نابليون ورضي نابليون بدفع هذه الأموال في مقابل أن يتكفّل السلطان ببقاء الأمير في المشرق وعدم عودته إلى الجزائر . والأموال التي تفرضها الدول الغربية تعويضاً عن إساءة صدرت منها تجاه أي شخص أمرٌ معروف .
ثمّ إنّ السلطان العثماني عندما عرض على الأمير عبد القادر أن يخصص له من بيت مال المسلمين مرتبًا شهريًا يفي بحاجته وحاجات من معه ، رأى الأمير باجتهاده أنه من الأفضل أن يقبل المرتب الذي خصصته الحكومة الفرنسية ليوفّر مالَ خزينة المسلمين . وهذا أحد الأسباب التي دفعت الأمير للقبول بالتعويض المالي من فرنسة .
يقول محمد باشا :"ولأول وصول الأمير إلى بروسة عرضَ عليه واليها بإذن السلطنة العظمى تعيين مرتب شهري يقوم بشؤونه ، فسُرَّ الأمير بذلك ودعا للدولة العليّة وشكرها على اهتمامها بأمره الشكرَ الجزيل ، ثم قال له إن الإمبراطور نابليون عيّن لي من النقود ما يكفي من النّفقة ، وأمّا مولانا السلطان المعظّم فقد تفضّل علينا بما هو أعظم من الدنيا بما فيها وهو تنازل عظمته وإنعامه عليَّ بالكفالة عند الدولة الفرنساوية وهذه الكفالة هي السبب الأقوى في حياتنا الجديدة ولولاها ما خرجنا من قبضة الأسر ، وهذا الإنعام لا يوازيه شيءٌ ولا يقابله شكرٌ" .انتهى [تحفة الزائر 2/54]
فلو كان الأمير يحب المال وجمع الثروة كما يتهمه البعض لما وقف هذا الموقف الذي لم نسمع بمثله إلاّ في النادر من الرجال على مرّ العصور.
على كل حال الحديث عن الحالة المادية للأمير سيأتي في حلقة قادمة إن شاء الله .


والحمد لله ربِّ العالمين
خلدون بن مكِّي الحسني
للبحث صِلَة إن شاء الله
 
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city

بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة الخامسة

بدايةً أريد أن أنبّه الأخ محمد المبارك ، والإخوة القرّاء إلى موضوع هام في هذا المقام : لقد أُنشِأت في الدول الكبرى كالاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية وأوربا وزارة اسمها (وزارة الحقيقة) هدفها غسل الأدمغة وتشويه الحقيقة وإعادة كتابة التاريخ وفق ما يناسب توجهاتها السياسية والثقافية . ومما قاله أحد المؤسسين لهذه الفكرة :"الخطوة الأولى في تصْفِيَة شعبٍ ما : هي أن تمسح ذاكرته . دمّر كُتُبَه ، وثقافَتَه ، وتاريخه، ثم اجعلْ شخصًا ما يكتبُ كتُبًا جديدة ، واصنع ثقافة جديدة ، واخترع تاريخًا جديدًا . ولن يمرَّ وقتٌ طويل حتى تبدأ الأمّة بنسيان ماذا تكون وماذا كانت".انتهى [من كتاب (موت الغرب) لـ باتريك بوكانان ؛ عن مجلّة الحرس الوطني العدد 256 شعبان 1424هـ]



********


والآن نصل إلى العنوان العريض الذي وضعه الأخ محمد المبارك صاحب (فك الشفرة) : (التحول الكبير في حياة الأمير)
وشرح هذا العنوان في أسطر قليلة بدأها بقوله : ((لم تُحيِّرني شخصية مثل شخصية الأمير عبد القادر الجزائري ، فهذا الأسد الهزبر و الفارس الضرغام نجده يتحول بعد مجيئه من فرنسا إلى خادم مطيع و مريد متحمس للدولة الفرنسية و إلى كل ما يمت إلى الفرنسيين بِصِلة)).انتهى


هذه والله كبيرة!! من أين للكاتب أن الأمير تحوّل إلى خادم مطيع ومريد متحمس لفرنسا وإلى كل ما يمت إلى الفرنسيين بصلة؟!! ما هي مصادرك؟ وأين هي مراجعك؟ وكيف طاوعتك يدك في خطّ هذا الكلام؟! أهكذا يكون أدب الكلام مع أحد أكبر الشخصيات الإسلامية المجاهدة في العصر القريب؟!
من أين أتيت بهذا الوصف وهذا التحليل؟! وما هي الخدمات التي قدّمها الأمير لفرنسا وللفرنسيين؟ ليت الكاتب أشار إلى بعضها على الأقل! ليبيّن لنا على ماذا اعتمد في تشنيعه وطعنه بالأمير عبد القادر!
أما إلقاء الكلام هكذا وعلى عواهنه والتشهير بعظماء الأمّة بالتشهي ، فهذا غير مقبول ولا نرضاه لكاتب المقال.
ثم بدأ الكاتب يعلل أسباب التحول المزعوم للأمير . فقال إنّ الأسباب التي تقف وراء ذلك هي أنّ الفرنسيين عرفوا كيف يخاطبونه وهم الذين تعرّفوا إلى الشخصيّة الشرقيّة جيداً بعد دخولهم إلى مصر!!! والأمر الآخر أنّ الأمير كان ذا ثقافة واطلاع واسعين ، وهو من أهل الذكاء ودقّة المشاهدة. لذلك استطاع الفرنسيون أن يقلبوا كيان الأمير ويؤثّروا على عقله الراجح!! هكذا زعم .


وأقول : إذا كان الفرنسيون قد تعرَّفوا الشخصية الشرقية جيدًا في مصر فما دخل ذلك بالشخصيّة المغربية الجزائريّة؟! وكلنا يعلم الفوارق الشخصيّة بين أهل مصر وأهل الجزائر ، ولا يمكن أن يقال إن التعامل مع كلتا الشخصيتين واحد . أو أن التخاطب معهما يكون بالطريقة نفسها .
ثمّ إذا كان تمتّع الشخص بالذكاء ودقة المشاهدة والاطلاع الواسع والثقافة الغزيرة يجعله عرضة للوقوع في فخّ المستشرقين ، فما حال قليل العلم والبليد ومنعدم الثقافة والغبي؟!


أيها الإخوة ما الداعي لكل سوء الظن هذا ، والكاتب أمام شخصيّة مسلمة قادت شعبها إلى الجهاد والعزّة .


ثمّ يضعنا الأخ كاتب (فك الشيفرة) أمام إحدى تحليلاته لسبب تحوّل الأمير من مجاهد إلى خادم (حسب زعمه)!
وهي قوله: ((ذلك البغض الشديد للدولة العثمانيّة)).انتهى
وأقول : البغض والحب صفتان قلبيتان لا يمكن الاطلاع عليهما إلاّ إذا صرّح صاحبهما بما في قلبه .
فمن أين للكاتب هذا الادّعاء؟!
إنّ الأمر الثابت أنّ الجزائريين (والأمير واحد منهم) كانوا ساخطين على الولاة الأتراك في الجزائر (الدايات والبايات) وذلك بسبب ظلمهم وتسلّطهم وتفريطهم بحق الرّعية ، وإطلاق يد التجار اليهود في الجزائر ، بل وتسليم الكثير منهم مناصب في الدولة . ولكنهم لم يكونوا ساخطين على الخليفة العثماني!!! ونحن نعلم أن الذريعة التي اتخذها الفرنسيون لغزو الجزائر هي لطم الداي حسين القنصلَ الفرنسي على وجهه [والذين حرّضوا الداي على ذلك هم تجار اليهود الذين يريدون الحصول على ديونهم ورباها من الحكومة الفرنسية] ، وبعد وصول الأسطول الفرنسي وتغطرس الداي حسين بنفسه وغروره بقوته سقطت مدينة الجزائر بسهولة وسلّم الداي التركي نفسه ، وجمع أهله وأمواله وغادر الجزائر وتركها للفرنسيين ، وكذلك فعل الباي حسن والي وهران .
(وهنا يجب أن يتنبّه الجميع لأمر هام جدًا وهو أنّ الذريعة التي احتجّ بها الفرنسيون هي لطم الداي حسين لقنصل فرنسا ، وهاهو يستسلم لهم فيتركونه يجمع أهله وأمواله ويُغادر الجزائر بسلام! في حين استمرت الجيوش الفرنسية بالتوغل في أراضي الجزائر واحتلالها . وفي هذا أكبر دليل على أنّ نية الاحتلال كانت مُبيّتة من قبل والاستعداد لها كان قبل حادثة اللطم وإنما كانت فرنسا تتحين الظروف).


فماذا يريد الكاتب من الشعب الجزائري أن يفعل؟ ولو رجع الكاتب إلى أوّل مقاله لوجد نفسه يذكر سبب التفاف الشعب حول والد الأمير . وإليكم ما ذكره الكاتب : ((ولم يمض وقت طويل حتى تعرضت الجزائر لحملة عسكرية فرنسية شرسة، وتمكنت فرنسا من احتلال العاصمة فعلاً في 5 يوليو 1830م، واستسلم الحاكم العثماني سريعًا، ولكن الشعب الجزائري كان له رأي آخر.
المبايعة: فرّق الشقاق بين الزعماء كلمة الشعب، وبحث أهالي وعلماء "وهران" عن زعيم يأخذ اللواء ويبايعون على الجهاد تحت قيادته، واستقر الرأي على "محيي الدين الحسني" شيخ الطريقة القادرية في وقته ، ووالد الأمير عبد القادر ،وعرضوا عليه الأمر، ولكن الرجل اعتذر عن الإمارة إلاَّ أنَّه قبل قيادة الجهاد. فأرسلوا إلى صاحب المغرب الأقصى ليكونوا تحت إمارته، فقبل السلطان "عبد الرحمن بن هشام" سلطان المغرب، وأرسل ابن عمه "علي بن سليمان" ليكون أميرًا على وهران)).انتهى


ويقول الأستاذ الدكتور سعد الله : ((أمّا سلاطين المسلمين فقد رأينا أن بني عثمان كانوا في غفلة من الزمان ، لم يبق لهم من الإسلام إلا الشعارات والطقوس والظلال ، ولم يبق لهم من لغة القرآن إلا العبارات الدينية التي تقال في المناسبات ، بل لم يبق لهم من القوة إلاّ قوة التآمر على بعضهم البعض وقوة الاستبداد بالمسلمين وقوة الحريم والمَحْظيّات الأوربيات . فمن أين لهم نجدة عبد القادر بن محيي الدين ولم ينجدوا حتى غرقاهم في (نفارينو)؟!([1]) ثم كيف ينجدونه وقد أعلن أنّه عربي هاشمي وشريفٌ من آل البيت ، ولم يطلب منهم لقبًا أو قفطانًا؟ ألم يَذُقْ شعبُه ووالده وهو شخصيًا من ممثلي أولئك السلاطين في بلاده أنكى المعاملات وأقسى الإهانات؟)).انتهى[الحركة الوطنية ص275]


فماذا يريد الكاتب من الأمير أن يفعل؟ السلطان العثماني لم يتحرك لمساعدة الجزائر ، والوالي العثماني سلّم المدينة وهرب ، ودبّ الشقاق بين الناس وبدأت الفوضى ، والشعب اجتمعت كلمته على واحد منهم ليقود فرض العين (جهاد الصليبيين الغزاة) والسيد محيي الدين رفض القبول بالبيعة احترامًا للخليفة العثماني ولسلطان المغرب، وحتى لا يفرّق شمل المقاومة الجزائريّة اقترح مبايعة سلطان المغرب، لأنّه أقرب جهة إسلامية حاكمة منهم ، وبعد إخفاق كل تلك المحاولات ماذا يفعلون؟ الواجب الشرعي يحتّمُ تأْميرَ رجل عليهم ليقودهم ويوحّد كلمتهم ، وهذا كان بمشورة كل أهل العلم في تلك النواحي ووقع اختيارهم على شخص الأمير عبد القادر ، فهل هذا دليل على البغض الشديد للدولة العثمانية كما يقول الأخ الكاتب؟!
وقد أثبت د.عبد الجليل التميمي في كتابه (بحوث ووثائق في التاريخ المغربي) المراسلات التي جرت بين الأمير عبد القادر وبين السلطان العثماني عبد المجيد ، والصدر الأعظم ، والتي شرح فيها الأمير لهما وضع البلاد، والنكبات المتوالية التي يُلحقها جيش الاحتلال الفرنسي بها ، ثم طلب منهما المساعدة والتأييد ، والدعم العسكري والسياسي . [انظر الكتاب المذكور ص195 ـ 199 ؛ نقلاً عن كتاب مع تاريخ الجزائر للدكتور يحيى بو عزيز] ، كما أثبت هذه المراسلات غيره من المؤرخين ، ولكنني تعمدت إيراد النقل عن التميمي بالذات لأنّ كاتب (فك الشيفرة) يعتمد عليه في بعض التهم التي يوجهها إلى الأمير.
وإليكم نص البيعة الذي حرّره العالم الجزائري الشهير محمود بن حوّا المجاهري. جاء في النص بعد الديباجة : ((لمّا انقرضت الحكومة الجزائريّة من سائر المغرب الأوسط واستولى العدو على مدينة الجزائر ومدينة وهران ، وطمحتْ نفسُهُ العاتية إلى الاستيلاء على السهول والجبال ، والفدافد والتلال، وصار الناسُ في هرج ومرج وحيص وبيص ... قام مَنْ وفّقهم الله للهداية من رؤساء القبائل وكبرائها وصناديدها وزعمائها ، فتفاوضوا في نصب إمامٍ يُبايعونه على الكتاب والسنّة فلم يجدوا لذلك المنصب الجليل إلاّ ذا النسب الطاهر ، والكمال الباهر ، ابن مولانا السيد محيي الدين ، فبايعوه على كتاب الله العظيم وسنّة نبيّه الكريم)).انتهى [(المقاومة الجزائرية) لإسماعيل العربي ص43]
وكما هو ثابت في جميع المراجع فإن الأمير عبد القادر كان منذ اللحظة الأولى من تسلّمه لراية الإمارة والجهاد وإلى آخر أيامه على اتصال مستمر مع الخليفة العثماني ، وهذه قصائد الأمير تتوالى في مدح الخليفة العثماني ورسائله إليه معروفة مشهورة وعندما أُفرج عن الأمير سافر إلى الآستانة ، ونزل تحت حكم السلطان والخليفة الذي كَفِلَه ، فأين ذلك البغض المتوهّم في ذهن الكاتب؟!
كان ينبغي على الأخ محمد المبارك أن يُفرّق بين استياء الشعب من الوُلاة المتخاذلين وبين بغضهم للخلافة العثمانيّة.
ثم هل إذا كان الأمير لا يحب العثمانيين ـ بزعم الكاتب ـ يجعله يتحوّل من مجاهد للفرنسيين مدّة 17سنة أذاقهم فيها الويلات ونكّس أعلامهم ورؤسهم وتكسّرت عصا الماريشالية الفرنسية عشرات المرّات بسببه ، إلى خادم للفرنسيين!!! والله هذا قولٌ عجيب!!!



والله تعالى يقول : {وإذا قلتم فاعدلوا}[الأنعام : 152]



وإليكم بعض ما قاله المؤرّخون الثقات حول هذه المسألة .
يقول الدكتور أبو القاسم سعد الله شيخ المؤرخين في الجزائر(وهو ليس من المتصوفة) : ((.. لقد ملّ كثير من الناس ظُلْمَ الأتراك العثمانيين وجمودهم على حالة واحدة ، ونظرتهم الأرستقراطية ـ الدكتاتورية ، وابتزازهم للمال دون تقديم البديل من علم وفكر وتقنيات، برغم أنهم في قرارة قلوبهم يعرفون أنهم يشتركون معهم في الدين ، ولو لم يبق من هذا الدين المشترك إلا القشور))
وفي معرض حديثه عن الباي حسن والي وهران قال : (( ولم يكن التقدم في السن هو السبب الوحيد في انسحاب الباي حسن . فقد كان يحس بأنه حاكم لا تربطه بالمحكومين أيّة رابطة ماعدا التسلط والإرهاب والفائدة المالية . وقد ظلّ في الحكم طيلة سنوات فلم يصلح الأوضاع المعاشية للناس ولم يجعل نفسه حاكمًا محبوبًا أو قريبًا من المواطنين ..... يُضاف إلى ذلك أنه خيّرهم بين الوقوف معه أو تسليم نفسه للفرنسيين ، ولم يخيرهم بين الجهاد والاستسلام . ولو فعل لوجدهم ، كما كانوا في الماضي ، سبّاقين لدعوة الجهاد والدفاع عن الوطن ضد العدو الفرنسي ..... ولكن الباي حسن فضّل أن يسلّم مفاتيح المدينة إلى العدو بعد أن ضمن له هذا الخروج سالماً من وهران ثم من الجزائر إلى حيث يريد))
ثم قال : ((أما أهل المدن فقد فكّروا في حل ديني وسياسي يضمن الأمن والاستقرار وذلك بالدخول في طاعة حاكم مسلم يمنحونه البيعة التي كانت في أعناقهم للباي حسن .... لقد فكّروا في السلطان العثماني (انتبه أخي القارئ) فإذا هو بعيد كلّ البعد عاجز كل العجز عن توفير ما يرغبون فيه ما دام قد عجز عن إنقاذ مدينة الجزائر ، وإذا هو مشغول بحروبه في البلقان وفي غيره))
إلى أن قال : ((وها هو حصار وهران (حصار ضربه المجاهدون على الجيش الفرنسي) لا يقوده الموظفون الإداريون في حكومة الباي حسن ، الذين حنّكتهم التجارب وعرفوا أسرار المدينة ، ولا يقوده أعيان الحضر من أمثال ابن نونة أو حمادي الصقال الذين امتلأت جيوبهم بالمال وبطونهم بالشحم ، ولا يقوده أيضًا أولئك "الأتراك" الطامعون في السلطة والاستبداد أمثال إبراهيم بوشناق ومصطفى المقلش ، ومحمد المرصالي ، ومصطفى بن عثمان ، وإنما قاده رجلٌ خرج من زاوية القيطنة، يقرأ القرآن ويدعوا إلى الجهاد (يقصد الحاج محيي الدين الحسني والد الأمير) .)).انتهى
وخلال حديثه عن مبايعة الشعب للأمير قال الأستاذ سعد الله : ((فالرجل شريف من آل هاشم ومن آل البيت ؛ أو المَحْتِدُ العربي والنَّسَبُ النَّبوي.... وهو المتعبّد في مسجد القيطنة والعاكف في مكتبة الوالد : يذكر الله ويتأمل في خلقه ويقرأ كتابه ، ويحفظ أشعار وآثار الأقدمين ، وهو الواقف على ما كان في الشرق من تخلّف وتحوّل ، وما كان في الغرب من تقدم وتسلط ....وتجمهر الفقراء والفلاحون والجنود في سهل غريس يؤمّنون على البيعة ويدخلون في حزب الجهاد تحت راية أمير المؤمنين الجديد ....وجلس الأمير يضع الخطط للمستقبل ، فعيّن كتابه ووزراءه ، وقوّاده وولاته، ولم يراعِ فيهم إلا الكفاءة والإيمان وتحرير البلاد..... ولكي يُسْكِتَ الأصوات التي قد تنتقده ، اعتمد على الشريعة الإسلامية في أحكامه وجعل دستوره هو القرآن ، مستعينًا بسيرة السلف الصالح))
وكان د. سعد الله قال قبل ذلك في وصف الأمير والفَرْق بينه وبين البايات التركية : ((إنه بطل كأبطال اليوم يرجع إلى الشعب ويحسّ بنبضاته ، ويتقمص آماله ، ويحتكم إلى القرآن والسنة وآثار السلف ، وينفتح على الحضارة والعلم والعقل ، ويستمد طموحه من الشرف والجهاد والوطنيّة)).انتهى[من كتاب الحركة الوطنية الجزائرية ص157إلى 173]
وفي ص122 قال الأستاذ سعد الله يصف الأمير في معرض الحديث عن القيادة الدنيوية والقيادة الروحية : ((ولكن الحاج عبد القادر(الأمير) تقمّص القيادتين معًا ، ولذلك أصبح أميرًا للمؤمنين وليس شيخ زاوية (مرابطا) أو شيخ عرش (قائد أو آغا ..)).انتهى
وقال عنه ص400 : ((الأمير عبد القادر فوق الطرق الصوفية كلها ، أي إنه كان يعمل من أجل فكرة أشمل وهي الدين والوطنية)).انتهى
وكان الأخ محمد المبارك في (فك الشيفرة) قد أتحفنا بنقل كلام للأمير فقال : وقد وجّه خطابه الأول إلى كافة العروش قائلاً: "… وقد قبلت بيعتهم (أي أهالي وهران وما حولها) وطاعتهم، كما أني قبلت هذا المنصب مع عدم ميلي إليه، مؤملاً أن يكون واسطة لجمع كلمة المسلمين، ورفع النزاع والخصام بينهم، وتأمين السبل، ومنع الأعمال المنافية للشريعة المطهرة، وحماية البلاد من العدو، وإجراء الحق والعدل نحو القوي والضعيف، واعلموا أن غايتي القصوى اتحاد الملة المحمدية، والقيام بالشعائر الأحمدية، وعلى الله الاتكال في ذلك كله".انتهى
وأنا أسوقه للتذكير به ،


ثم ساق الأخ الكاتب ظاهرةً ، فقال إن الأمير قد اعتمد عَلَمًا مغايرًا للعلم العثماني الخاص بالجزائر، ثم راح يصف العَلَم ، ثمّ خرج منها بتحليل عجيب ،فقال :"ولم يكن ظهور هذا العلم بمحض الصدفة في هذه الفترة بل كان يرمز إلى استقلال سياسي عن الدولة العثمانية، فكانت بذلك من أوائل الحركات الانفصالية التجزيئية التي أعلنت الخروج على الخلافة الاسلامية العثمانية".انتهى


أقول : لقد كانت المقاومة في الجزائر على أقسام ، أهمها : قسم الشرق وقسم الغرب ، وكان هناك أشخاص مازالوا متمسكين بالولاية التركية في الجزائر كالباي أحمد في قسنطينة مثلاً ، وهم رافضون للاتحاد مع الأمير أو مبايعته ، وكانوا يوجهون له الضربات من الخلف خلال معاركه مع فرنسا ، فليس من الحكمة في شيء أن يرفع الأمير علمًا مماثلاً لِعَلَمهم فتختلط الأمور على الجند والمجاهدين ، والأمير مع أنه لم يتفق مع أولئك الأشخاص إلاّ أنه لم يحاربهم أبدًا ، ولم يَكِدْ لهم مع فرنسا كما فعلوا هم به ، فهؤلاء الأتراك أو الموالين لهم في النهاية قد سلّموا البلاد للفرنسيين ومنهم من تعاون مع فرنسا وطعنوا المجاهدين من الخلف .[والكلام للأستاذ سعد الله]


ولكن أغرب ما في كلام كاتب (فك الشفرة) هو قوله عن جهاد الأمير والبيعة له :"فكانت بذلك من أوائل الحركات الانفصالية التجزيئية التي أعلنت الخروج على الخلافة الاسلامية العثمانية".انتهى


إذا كان جهاد الأمير للفرنسيين ، ومقاتلته للصليبيين الغزاة يُعد عند الكاتب خروجًا على الخلافة ، فماذا سيقول عمن كان واليًا للسلطان ثمّ انقلب عليه وتفرّد بالحكم؟ وماذا سيقول عمّن كان مسلمًا فقاتل الجيش العثماني المسلم ، وخرج على الخليفة؟ كل هذا وليس هناك أي وجود لا للصليبيين ولا لأي محتل أجنبي!!


لقد انفصل الوالي محمد علي باشا عن الخلافة العثمانية وانفرد بحكم مصر ووجه جيوشه إلى الشام ووصل إلى مشارف اسطنبول . وكذلك الحال في بلاد "نجد" حيث قام محمد بن سعود وحارب العثمانيين وأسس الدولة السعودية الأولى التي وصلت حتى حوران في الشام ، وهذا قبل ولادة الأمير عبد القادر!!
فإذا كان الكاتب مقتنعًا بأنّ الأمير خرج على الخلافة!! ، فكيف ساغ له أن يقول عن جهاده إنه من أوائل الحركات الانفصالية التجزيئيّة التي أعلنت الخروج على الخلافة ، وهناك من سبقه إلى ذلك بعقود بل قبل ولادته؟!! مع أن تلك القناعة هي من الغرائب حقًا ، إذ كيف يسمى المجاهد للجيش الفرنسي الصليبي خارجًا عن الخلافة؟!
وأين أعلن الأمير الخروج عن الخلافة؟ ومن روى هذا الخبر؟ وأعجب من ذلك أننا نتحدث عن بلاد تابعة للخلافة العثمانية سقطت تحت الاحتلال الفرنسي الصليبي فتخلّت عنها الخلافة فقام الشعب يجاهد هذا المعتدي ، فإذا بكاتب (فك الشفرة) يصف مقاومة الأمير للغزو الصليبي بأنها من أوائل الحركات الانفصالية التجزيئيّة التي أعلنت الخروج على الخلافة!!!!
والله كلام عجيب غريب.
ولم يكتف الكاتب بذلك ، فتابع يقول :"وقد عاد الأمير ليكمل ذلك الدور في بلاد الشام ، فقد كانت الجمعية الماسونية قد أخذت على عاتقها محاربة الخلافة العثمانية لكونها كانت تقف سداً منيعا أمام الأطماع العالمية في العالم العربي والاسلامي ، ولذلك فقد حاولت الجمعية آنذاك بتدبيرٍ من الأمير عبد القادر الجزائري رئيس المحفل السوري الماسوني آنذاك اغتيال متصرف جبل لبنان العثماني للاستقلال عن الدولة العثمانية".انتهى


أقول : عن أي دور يتكلم الكاتب؟ طبعًا هو يقصد الخروج عن الخلافة ، وقد رأيتم بطلان هذا الادّعاء ، وأمّا اتهامه الأمير بأنه دبّر لاغتيال متصرف جبل لبنان ، نزولاً عند رغبة الجمعية الماسونية التي يرأس أحد محافلها!
فنقول له : {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}[النمل : 64]
لم يكن هناك متصرف لجبل لبنان إلاّ بعد حادثة 1860م ، وكان أول متصرف هو داود باشا الأرمني ، ولم يقتله أحد! فمن أين أتى الكاتب بهذه الأخبار؟!


وأُعيد ما قاله المؤرخ الكبير أبو القاسم سعد الله لمناسبة الحال : ((إنّ دولة الأمير الوليدة لم تحاربها فقط جيوش فرنسا حباً في التسلط والبطولة وطمعاً في إنشاء إمبراطوريّة ، ولم يقف ضدّها فقط "الكولون" (يعني المستوطنين الأوربيين) بمحاريثهم وأموالهم لكي يستغلوا الأرض المغتصبة ويستثروا على حساب الجزائريين ، بل حاربتها أيضاً ظاهراً وباطناً ، الكنيسة والماسونية (الصهيونية) ، كما حاربها سلاطين المسلمين وحتى بعض علمائهم النائمين .
حاربتها الكنيسة لأنها اعتبرتها حركة جهاد إسلامي متوثب فيه انتعاش ونهضة للإسلام الراكد إذا انتصرت ، واعتبرت الكنيسةُ نفْسُها عمَلَها ذلك استمراراً للصليبية التي خاضت في الشرق والغرب حروباً ضارية ضد الإسلام والمسلمين ، بما فيها الأندلس ووهران ، وتآمرت عليها الماسونية خصوصًا في الدوائر المحيطة بالحكومة الفرنسية وحاشية الملك وقطعان التراجمة والمستشرقين الذين توافدوا على الجزائر ، لأنّ دولة الأمير كانت دولة عربيّة سلفيّة ، شريفة ، لو انتصرت لكانت خطراً عظيماً على مخططات الماسونية ـ الصهيونية في الشرق!!، ولكانت أول دولة توحّد العرب على كلمة الجهاد كما وحّدتهم عليها زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وزمن الخلفاء الراشدين)).انتهى [الحركة الوطنية الجزائرية ص274ـ275].


لقد أفشل الأمير مخططات الكنيسة والماسونية في الجزائر وكذلك في الشام ، ولكن كاتب (فك الشيفرة) للأسف ؛ يعتمد فيما يبدو على ما يروّجه بعض الحاقدين على الأمير.


تنبيه : بعد هزيمة الأمير عبد القادر وغدر الحكومة الفرنسية به وسجنه في فرنسا ، اعترفت الدولة العثمانية على لسان سلطانها بالسيادة الفرنسية على الجزائر وذلك سنة (1847م) ، وبعد ذلك حدث تقارب بين الفرنسيين والعثمانيين ، وشاركت قوات جزائرية فرنسية في حرب القرم إلى جانب الدولة العثمانيّة !!![انظر الحركة الوطنية ص342،ص373]
فما رأي الكاتب في هذا؟!
والحديث عن الماسونية سأتناوله في الحلقات القادمة إن شاء الله .


وختامًا أنبه إلى مسألة هامّة وهي أنّ الخلافة العثمانيّة حفَّت الأمير عبد القادر برعاية كاملة وحفاوة مطلقة منذ قدومه إلى الآستانة إلى أن مات ، وخصصت له الأموال والامتيازات وكان مسموع الكلمة عند السلاطين والولاة ، وعُيّن أبناؤه في مناصب حكومية عليا في اسطنبول وحصلوا على أعلى الأوسمة والألقاب ، وكذلك أبناء إخوته كانوا مقرّبين جداً من الخليفة وأوكل إليهم العديد من الوظائف الدينيّة كالإفتاء ونقابة الأشراف على كامل الممالك العثمانية ؛ وغيرها من الوظائف ، وفَرَضَ لهم الخليفة بعد وصولهم إلى بلاد الشام مرتبات شهريّة ، وعندما مات الأمير شيَّعته فِرَقٌ من الجنود العثمانيين ، واستمرّت الدولة العثمانية على هذا الاحترام والإكرام للأمير وأهله إلى أن خُلِع السلطان عبد الحميد وبدأت جماعة الاتحاد والترقي بالحكم .
فهل كاتب (فك الشفرة) مقتنع بأنّ الخلافة العثمانية بكل رجالاتها وسلاطينها لم تشعر بخطط ونيّات الأمير المعادية لها ، سواء عندما كان الأمير في الجزائر أو بعد قدومه إلى دمشق إلى أن مات؟! مع العلم أن السلاطين العثمانيين كانوا بمجرد ظهور بعض الشبهات حول أي شخص وسوء نيّتِه تجاههم يسرعون لاستئصاله .

ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله
خلدون مكي الحسني

للبحث صِلَة إن شاء الله

[1] ـ أثناء حربها مع اليونان قبل ذلك بقليل .
 
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city

بسم الله الرحمن الرحيم



الحلقة السادسة

ثمّ ينتقل الأخ محمد بن حسن المبارك ؛ كاتب (فك الشفرة) إلى حَدَثٍ جديد وهو بيان مدى تصوّف الأمير عبد القادر ، فيقول : "الأمير تربَّى في بيئة صوفية ، بل قد نشأ على تقديس يصل إلى حد الجنون لشخصية ابن عربي الحلولي الاتحادي ، و أمثاله من الاتحادية الحلولية كالحلاج والتلمساني وابن الفارض وغيرهم".انتهى


وأقول : لو اكتفى الكاتب بقوله إن الأمير تربّى في بيئة صوفية لسلّمنا له ذلك ، ولكنه أبى إلاّ أن يُضرِب عن كلامه الأول فقال : بل ... الخ
وسؤالي للكاتب : من أين له أن الأمير نشأ على تقديس ابن عربي والحلاّج والتلمساني وابن الفارض تقديسًا يصل إلى حد الجنون؟!! إنه لم يكتف بذكر التقديس وحدَه ، بل وصل به إلى حدّ الجنون! وهذا والله من العجائب.
والأمير بدأ اهتمامه بابن عربي وكتبه بعد قدومه إلى دمشق ، فمن أين للكاتب أنّ الأمير نشأ على تقديسه؟!
لقد ألّف السيوطي ردًا على كتاب (تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي) يردّ فيه على الإمام البقاعي ، وكذلك ألّف ردًا مماثلاً على كتاب (المقراض القارض في تكفير ابن الفارض) يردّ فيه على البقاعي رحمه الله ، ومع ذلك لم نجد من يصف السيوطي بأنه يقدس ابن عربي إلى درجة الجنون! ونحن ليس لنا أن نقول سوى أنه دافع عن ابن عربي وردّ على من كفّره . وأما دعوى التقديس إلى حد الجنون فهذه تحتاج إلى برهان واضح . ولذلك كان على الكاتب أن يبرهن على دعواه!!


ولكنه بدلاً من البرهنة على هذه الدعوى راح يأتي بأفكار ظنيّة تساعده على تقوية الموضوع وجعله من المسلمات . فقال :"بل قد أتمَّ الأمير تدريس كتاب الفتوحات لابن عربي على طلبته مرارا ، وألف كتابه "المواقف" على مذهب ابن عربي ، بل و قد اختار السكنى في دمشق لكونها بلد ابن عربي الذي أقام فيه ، ويقال أنه سكن في نفس البيت الذي عاش فيه ابن عربي بعد أن قام بإصلاحه و دُفِن ـ أيضاً ـ بجوار ابن عربي".انتهى


وأقول : الذي ذكره المؤرّخون أن الأمير قرأ الفتوحات المكيّة مرّتين فقط!
ثم هل كل من قرأ أو قرّأ الفتوحات يكون بالضرورة مقدِّسًا لابن عربي أو موافقًا له في كل مذهبه؟!!
إنّ كتاب الفتوحات المكيّة ليس من الكتب التي يدرّسها الصوفية لطلابهم ، وإنما هو كتاب للخاصّة منهم ، وتجتمع تلك الخاصّة لقراءته محاولين فكّ معمّياته ورموزه كما يقولون!.
وأنا لا أحب هذا النوع من الكتب ولا أرضى به أبدًا ، ولكن أريد أن أنبّه الإخوة على أنّ الإمام الذهبي قال في ترجمة ابن عربي: ((ولا ريب أن كثيرًا من عباراته له تأويل إلا كتاب "الفصوص"!)).انتهى[سير أعلام النبلاء]
ومرّ معنا في الحلقة الأولى أنّ شيخ الإسلام ابن تيميّة قرأ الفتوحات وقال : ((وإنما كنتُ قديماً ممن يُحسن الظن بابن عربي ويُعظّمه : لِمَا رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثيرٍ من "الفتوحات"..)).انتهى [الفتاوى2/464]
وللعلم فإنّ الأمير أَرْسَلَ إلى قونية في تركيا الشيخ محمد الطنطاوي (جد الشيخ علي رحمه الله) والشيخ محمد بن محمد المبارك الدلسي سنة 1289هـ ، لتصحيح نسخته من الفتوحات التي اقتناها في دمشق على نسخةٍ بخط ابن عربي نفسه موجودة هناك . وبعد عودتهما بدأ الأمير بقراءة الفتوحات ومات بعد ذلك سنة 1300هـ يعني بعد عشر سنوات من حصوله على النسخة المصححة!
وسبب إرسال الشيخين لتصحيح النسخة ، أنّ الأمير لمّا اقتنى نسخة الفتوحات استشكل بعض العبارات فيها ، وغلب على ظنّه أنها محرّفة أو مزيدة (هكذا ظن) ، وذلك لأنّ المشهور والثابت أنّ ابن عربي عالمٌ كبير , وفقيه أصوليّ، وهو ظاهري المذهب ، وهو الذي اختصر كتاب (المحلّى لابن حزم) ، وله رسائل في أصول المذهب الظاهري ، وكتبه ومؤلّفاته كثيرة جدًّا ، إذن هو ليس من الجهلاء والمشعوذين أو أدعياء العلم المخرّفين ، لذلك فإنّ الأمير شكّ في بعض العبارات فأراد أن يتيقّن من ثبوتها فأرسل من يطابق له المخطوط . فلمّا أتته النسخة محققةً ، سلك في شرح العبارات الخطيرة الواردة فيها مسلكَ كثير من أهل العلم ، الذين ذهبوا إلى قبول كلام ابن عربي الموافق للشرع، وأخذوا في تأويل كلامه الذي يخالف الشرع ، وحمْلِه على محامل حسنة ، وذلك من باب إحسان الظنّ به واستبعاد كون عالم مثله يتكلّم بما يُخالف الشريعة . هذا ما ذهب إليه القوم!
وفي أيّامنا هذه اجتمعتُ بشيخ من شيوخ التصوف المعروفين في الشام ، وكان يمدح ويثني على ابن عربي كثيرًا ، فسألتُه : ما تقول في وحدة الوجود؟ فأجابني قائلاً : "وحدة الوجود بمعنى أنّ كل ما في الكون هو عينُ الله ، الشجر والبشر والحجر ، هي كفرٌ وقائلها كافر!! وكلام ابن عربي ليس على هذا المعنى".انتهى
إذن هكذا يعتقد هذا الرجل المعظّم لابن عربي ، فهل يجوز لي بعد أن سمعتُ منه أن عقيدة وحدة الوجود كفرٌ وقائلها ومعتقدها كافر ، أن أصفه بأنه على عقيدة وحدة الوجود لأنّه يعظّم ويوقّر ابن عربي؟! لا يجوز هذا أبدًا .
إنّ العلاّمة جمال الدين القاسمي ، رحمه الله ، أحد أكبر علماء السلف في بلاد الشام ، بل هو رائد التوجه السلفي فيها ، كان يستشهد في كتبه ومؤلّفاته بكلام ابن عربي في "الفتوحات المكّية"، ويصفه بالشيخ الأكبر قُدِّس سرّه! [انظر (قواعد التحديث) ص359] ، فهل سيجرؤ أحد على وصف العلاّمة القاسمي بأنّه على مذهب ابن عربي لأنه يحترمه ويستشهد بكلامه؟!!
هذا سيكون من البلاء العظيم ، والشر الجسيم!


وهذا المسلك الذي سلكه الأمير وغيره ، سلكَه مِنْ قبلهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنّه كان إذا وقف على كلام مُريب وفاسدٍ في ظاهره لأشخاص يرى أنهم من أهل الصلاح أو العلم ، يؤوله أو يلتمس لهم الأعذار ، ولا يطعن فيهم!
مثال : قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى : ((فهذا التوحيد:هو الذي جاءت به الرسل ، ونزلت به الكتب ، وإليه تشير مشايخ الطريقة وعلماء الدين ؛ لكن بعض ذوي الأحوال قد يحصل له في حال الفناء القاصر سكرٌ وغيبة عن السِّوى ؛ والسكر وجدٌ بلا تمييز .
فقد يقول في تلك الحال سبحاني أو ما في الجبة إلا الله أو نحو ذلك من الكلمات التي تؤثر عن أبى يزيد البسطامي أو غيره من الأصحّاء ، وكلمات السكران تُطوى ولا تُروى ولا تؤدّى ؛ إذا لم يكن سكره بسببٍ محظور من عبادة أو وجه منهي عنه . فأما إذا كان السبب محظورًا لم يكن السكران معذورًا لا فرق في ذاك بين السكر الجسماني والروحاني فسكر الأجسام بالطعام والشراب ، وسكر النفوس بالصور ، وسكر الأرواح بالأصوات)).انتهى[الفتاوى 2/461]


وفي معرض حديثه عن مذهب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود ، ووروده في كلام ابن عربي وغيره قال : ((وكثير من أهل السلوك ، الذين لا يعتقدون هذا المذهب : يسمعون شعر ابن الفارض وغيره، فلا يعرفون أن مقصوده هذا المذهب ، فإن هذا الباب وقع فيه من الاشتباه والضلال ، ما حيّر كثيرًا من الرجال)).انتهى[الفتاوى 2/297]


ويقول ابن تيمية : ((ولهذا قال أهل العلم والدين ،كأبي يزيد البسطامي وغيره ، لو رأيتم الرجل يطير في الهواء أو يمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي ، وقال الشافعي لو رأيتم صاحب بدعة يطير فى الهواء فلا تغتروا به)).انتهى[الفتاوى 11/666]
وقال شيخ الإسلام : ((قد جمع أبو الفضل الفلكي كتابًا من كلام أبي يزيد البسطامي سمّاه "النور من كلام طيفور" فيه شيء كثير لا ريب أنه كذب على أبي يزيد البسطامي ، وفيه أشياء من غلط أبي يزيد ، رحمة الله عليه ، وفيه أشياء حسنة من كلام أبي يزيد وكل أحد من الناس يؤخذ قوله ويترك إلا رسول الله)).انتهى[الفتاوى13/257]


والأشد وضوحًا في هذا المسلك هو الإمام ابن القيّم ، وكتابه (مدارج السالكين) الذي شرح فيه كتاب "أبي إسماعيل الهروي" (منازل السائرين) أكبر برهان على ذلك . فإن القارئ يقف على كلامٍ للهروي ، مخالفٍ للشريعة ، وفيه عقيدة وحدة الوجود ، ومع ذلك فإنّ الإمام ابن القيّم كان يعتذر له ويؤوّله بحيث ينفي عن الهروي تهمة القول بوحدة الوجود أو غيرها . وحجّة ابن القيّم في ذلك هي أنّ الهروي من أهل الدين والصلاح ، ولا يُتصوّر منه أن يتكلّم بخلاف الشرع!(وهي حجّة الأمير نفسها مع ابن عربي)
قال الهروي : ((الدرجة الثالثة : صفاء اتصال . يُدْرِج حَظَّ العبودية في حق الربوبيّة! ويُغرق نهايات الخبر في بدايات العيان ، ويطوى خِسَّة التكاليف في عين الأزل))!!!
فعلّق عليه الإمام ابن القيّم قائلاً : ((في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير ، يَجْبُرُه حُسْنُ حالِ صاحبه وصدقُه ، وتعظيمُه لله ورسوله . ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلاّ له . ولا ريب أن بين أرباب الأحوال وبين أصحاب التمكن تفاوتًا عظيمًا..)) إلى أن قال ((ولولا مقَامُه في الإيمان والمعرفة ، والقيام بالأوامر ، لكُنَّا نُسيء به الظنّ)).انتهى[مدارج السالكين3/150ـ155]


وقال الهروي : ((وأمّا التوحيد الثالث : فهو توحيدٌ اختصّه الحقُّ لنفسه ، واستحقّه لقدره ، وألاح منه لائحًا إلى أسرار طائفةٍ مِنْ أهل صفوته ، وأخْرَسَهم عن نَعْته ، وأعجزهم عن بثِّه))!!!3/511
ثم أنشد هذه القوافي الثلاثة 3/513 وهي :



ما وحَّدَ الواحِدَ مِنْ واحد * إذْ كلُّ مَنْ وحَّدَه جاحدْ




توحيدُ مَنْ يَنْطِقُ عن نَعْتِه * عـاريّة أبطَلَها الواحد




تـوحيده إيَّاه توحيده * ونَعْتُ مَنْ يَنْعَتُه لاحد


فراح الإمام ابن القيّم رحم الله يؤول هذا الكلام والشعر ويحمله على محامل حسنة ، قال 3/515 :((فيُقال ـ وبالله التوفيق ـ : في هذا الكلام من الإجمال والحق والإلحاد مالا يخفى))
إلى أن قال : ((والكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما: أعظم الباطل ، ويريد بها الآخر محض الحق ، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عليه. وقد كان شيخ الإسلام(يقصد الهروي) ـ قدس الله روحه ـ راسخًا في إثبات الصفات ، ونفي والتعطيل ، ومعاداة أهله وله في ذلك كتب مثل كتاب (ذم الكلام) وغير ذلك مما يخالف طريقة المعطلة والحلولية والاتحادية)).انتهى[مدارج السالكين3/521]
وكان ابن القيّم قال قبل ذلك : ((وقد خبط صاحب المنازل في هذا الموضع ، وجاء بما يرغب عنه الكُمَّل من سادات السالكين والواصلين إلى الله. فقال : "الفكرةُ في عين التوحيد: اقتحامُ بحرٍ الجحود" ، وهذا بناءً على أصله الذي أصَّله ، وانتهى إليه كتابه في أمر الفناء ، فإنه لمّا رأى أن الفكرة في عين التوحيد تُبعِدُ العَبْدَ من التوحيد الصحيح عنده، لأن التوحيد الصحيح عنده :لا يكون إلا بعد فناء الفكرة والتفكّر ، والفكرة تدل على بقاء رسمٍ ، لاستلزامها مفكِّرًا ، وفعلاً قائمًا به ، والتوحيد التامّ عنده: لا يكون مع بقاء رسم أصلاً ، كانت الفكرة عنده علامة الجحود واقتحامًا لبحره ، وقد صرَّحَ بهذا في أبياته في آخر الكتاب)).انتهى[مدارج 1/147]
إلى أن قال : ((فرحمة الله على أبي إسماعيل فتحَ للزنادقة باب الكفر والإلحاد ، فدخلوا منه وأقسموا بالله جهد أيمانهم: إنه لمنهم وما هو منهم وغَرَّه سراب الفناء ، فظن أنه لُجّة بحر المعرفة ، وغاية العارفين ، وبالغ في تحقيقه وإثباته ، فقاده قَسْرًا إلى ما ترى)).انتهى[مدارج1/148]


وفي عبارة أوضح يقوا ابن القيّم : ((وأما صاحب "المنازل" ـ ومن سلك سبيله ـ فالتوحيد عندهم نوعان: أحدهما غير موجود ولا ممكن ، وهو توحيد العبد ربه فعندهم :



ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد


والثاني توحيدٌ صحيح ، وهو توحيد الربّ لنفسه ، وكل من ينعته سواه فهو ملحد ، فهذا توحيد الطوائف ، ومَن الناسُ إلاّ أولئك؟ والله سبحانه أعلم)).انتهى[مدارج السالكين 3/449]


إذن عندما يغلب على ظنّ الإنسان صلاح وعلم وتديّن شخص ما ، فإنّه إذا وجد في كلامه عبارات تخالف الشريعة في ظاهرها ، يسارع إلى تحسين الظنّ به ، وحمل كلامه على محمل حسن والاعتذار له .
وهذا هو عينُ ما فعله الأمير عبد القادر مع الشيخ ابن عربي، والأمير لم يكن مبتدعًا في ذلك وإنّما سبقه إلى ذلك الكثير من علماء الإسلام ، من زمن ابن عربي إلى زمن الأمير!!
والذي يتّهم الأمير بأنه على معتقد وحدة الوجود لأجل احترامه لابن عربي ، فهو في الواقع يتّهم جماهير كبيرة من العلماء الذين أثنوا على ابن عربي أو على الهروي ، ودافعوا عنهما.
روى المقَّري في كتابه (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) فقال : ((وفي الكتاب المسمى بـ "الاغتباط بمعالجة ابن الخيّاط" تأليف شيخ الإسلام قاضي القضاة مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد الشيرازي الفيروزآبادي الصدّيقي صاحب القاموس، قدّس الله تعالى روحه، الذي ألّفه بسبب سؤالٍ سئل فيه عن الشيخ سيدي محيي الدين بن عربي الطائي قدّس الله تعالى سرّه العزيز في كتبه المنسوبة إليه، ما صورته:
ما تقول السادة العلماء شدّ الله تعالى بهم أزر الدين، ولمَّ بهم شعث المسلمين، في الشيخ محيي الدين بن عربي في كتبه المنسوبة إليه كالفتوحات والفصوص، هل تحلّ قراءتها وإقراؤها ومطالعتها؟ وهل هي الكتب المسموعة المقروءة أم لا؟ أفتونا مأجورين جواباً شافياً لتحوزوا جميل الثواب، من الله الكريم الوهّاب، والحمد لله وحده.
فأجابه بما صورته: الحمد لله، اللّهم أنطقنا بما فيه رضاك، الذي أعتقده في حال المسؤول عنه وأدين الله تعالى به، أنّه كان شيخ الطريقة حالاً وعلماً، وإمام الحقيقة حقيقة ورسماً، ومحيي رسوم المعارف فعلاً واسماً:



إذا تغلغل فكر المرء في طرفٍ ... من بحره غرقت فيه خواطره


وهو عباب لا تكدره الدّلاء، وسحاب لا تتقاصر عنه الأنواء، وكانت دعواته تخترق السبع الطّباق، وتفترق بركاته فتملأ الآفاق (...)
وأما كتبه ومصنّفاته فالبحار الزواخر، التي لجواهرها وكثرتها لا يُعرف لها أول ولا آخر، ما وضع الواضعون مثلها (...) ومن خواص كتبه أن من واظب على مطالعتها والنظر فيها، وتأمّل ما في مبانيها، انشرح صدره لحل المشكلات، وفك المعضلات، وهذا الشأن لا يكون إلا لأنفاس من خصّه الله تعالى بالعلوم اللدنية الربانية، ووقفت على إجازة كتبها للملك المعظم فقال في آخرها: وأجزته أيضاً أن يروي عني مصنّفاتي، ومن جملتها كذا وكذا، حتى عد نيّفاً وأربعمائة مصنف، منها التفسير الكبير الذي بلغ فيه إلى تفسير سورة الكهف عند قوله تعالى " وعلّمناه من لدنّا علماً " وتوفّي ولم يكمل، وهذا التفسير كتاب عظيم، كل سفر بحر لا ساحل له، ولا غرو فإنّه صاحب الولاية العظمة، والصديقية الكبرى، فيما نعتقد وندين الله تعالى به. وثم طائفة، في الغي حائفة، يعظمون عليه النكير، وربّما بلغ بهم الجهل إلى حد التكفير، وما ذاك إلا لقصور أفهامهم عن إدراك مقاصد أقواله وأفعاله ومعانيها، ولم تصل أيديهم لقصرها إلى اقتطاف مجانيها:



عليّ نحت القوافي من معادنها ... وما عليّ إذا لم تفهم البقر


هذا الذي نعلم ونعتقد، وندين الله تعالى به في حقه، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصورة استشهاده: كتبه محمد الصديقي الملتجئ إلى حرم الله تعالى عفا الله عنه)).انتهى[نفح الطيب2/176]
والمجد الفيروزآبادي هو شيخ الحافظ ابن حجر العسقلاني (والحافظ لم يطعن في شيخه لأجل هذا الكلام ، وإنّما كان يكتفي بالاعتراض على إيراد شيخه الفيروزآبادي لكلام ابن عربي في كتبه ، ومعلوم موقف الحافظ ابن حجر الرافض بحزم لمذهب ابن عربي!!)
فعندما يقرأ الأمير أو غيره مثل هذه الترجمة ، مضافًا إليها عشرات الإشادات والثناءات من علماء وفقهاء ، في شخص ابن عربي ، مع ما يتصف به الرجل من سعة العلم والأدب ، فإنهم لا شك سيحسنون الظن به . وهذا لا يعني أبدًا أنهم على معتقده .
فكيف إذا كان في كلامهم ما يصرّحون فيه برفض هذه العقائد الفاسدة ، واستنكارهم لها؟
وقد مرّ معنا في الحلقات السابقة ، تبرّؤ الأمير من عقائد الحلول والاتحاد والوحدة ، وانتقاده الدهريين والمعطلة ، والفلاسفة!!!
قال الأمير: ((واحذر أن ترميَني بحلولٍ أو اتّحاد أو امتزاج أو نحو ذلك ، فإني بريء من جميع ذلك ومِنْ كل ما يُخالف كتابَ الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ..)).انتهى [المواقف 2/869]
وقال: ((... فإنّ هلاكه أقرب ، ونجاته أغرب ، إذ للشيطان فيه مدخلٌ واسع وشبهة قويّة فلا يزال أبو مُرّة (يعني إبليس) معه يستدرجه شيئاً فشيئاً يقول له : الحقُّ ـ تعالى ـ حقيقَتُكَ ، وما أنتَ غيرُه، فلا تُتْعِب نفسك بهذه العبادات ، فإنّها ما وُضعت إلا للعوام الذين لم يصلوا إلى هذا المقام ، فما عرفوا ما عَرَفت ، ولا وصلوا إلى ما إليه وصلت. ثمّ يُبيحُ له المحرّمات، ويقول له : أنتَ ممَّن قال لهم : اعملوا ماشئتم فقد وجبت لكم الجنّة ، فيُصبِحُ زنديقاً إباحيّاً حلوليّاً ، يمرقُ من الدِّين كما يمرق السهم من الرميَّة".انتهى [المواقف 3/1043]
[ملاحظة: إنني سأتكلّم على كتاب المواقف بالتفصيل لاحقًا إن شاء الله ، ولكن حتى لا يلتبس على بعض الإخوة استشهادي بكتاب المواقف أقول : نعم إن كتاب المواقف المطبوع ليس من تأليف الأمير ، ولكن له فيه كلام كثير ، جمعه وضمّه إلى أمثاله حتى خرج في ثلاثة مجلدات الشيخ محمد الخاني ، لذلك فإنني أستشهد بكلام الأمير الموجود في المواقف! وألزم به الذين يقطعون بنسبته إليه]


وليس من الضروري أن يكون الأمير قرأ كلام الإمام الذهبي في ابن عربي ، ومع ذلك فإنّه إذا قرأه ربّما يجد فيه ما يدفعه لحسن الظن به! قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: ((ابن العربي : العلاّمة صاحب التواليف الكثيرة محيي الدين أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن أحمد الطائي الحاتمي المرسي ابن العربي، نزيل دمشق.
ذكر أنه سمع من ابن بشكوال وابن صاف، وسمع بمكة من زاهر بن رستم، وبدمشق من ابن الحرستاني، وببغداد. وسكن الروم مدة، وكان ذكيًا كثير العلم، كتب الإنشاء لبعض الأمراء بالمغرب، ثم تزهد وتفرد، وتعبد وتوحد، وسافر وتجرد، وأتهم وأنجد، وعمل الخلوات وعلق شيئًا كثيرًا في تصوف أهل الوحدة.
ومن أردئ تواليفه كتاب "الفصوص" فإن كان لاكفر فيه، فما في الدنيا كفر، نسأل الله العفو والنجاة فواغوثاه بالله! وقد عظّمه جماعة وتكلّفوا لما صدر منه ببعيد الاحتمالات، وقد حكى العلامة ابن دقيق العيد شيخنا أنه سمع الشيخ عز الدين ابن عبد السلام يقول عن ابن العربي: شيخ سوء كذاب، يقول بقدم العالم ولا يحرّم فرجًا.
قلتُ: إن كان محيي الدين رجع عن مقالاته تلك قبل الموت، فقد فاز، وما ذلك على الله بعزيز.
توفي في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وست مئة.وقد أوردت عنه في "التاريخ الكبير".
وله شعر رائق، وعلم واسع، وذهن وقاد، ولا ريب أن كثيرًا من عباراته له تأويل إلا كتاب "الفصوص"!)).انتهى



وأما قول الأخ الكاتب إن الأمير اختار الإقامة بدمشق لأنها دار إقامة ابن عربي فهو ظنّ منه فيما يبدو ؛ وطبعًا ظنٌ غير صحيح ، وليته أتى بدليل على ذلك. وقد ذكرنا سابقًا أن الأمير اختار مكّة لإقامته ، والذي يُذكر في المراجع التاريخية أنه طلب من الحكومة الفرنسية تأمين سفينة توصله إلى ميناء الإسكندرية أو عكّا ، وذلك لأنّ هذين الميناءين هما المنفذ للوصول إلى مكّة المكرّمة.
وما ذكره الكاتب من سكنى الأمير في دار ابن عربي بعد أن قام بإصلاحه فأيضًا غير صحيح ،
إن الأمير بعد قدومه إلى دمشق استقبله واليها واستضافه في أحد الدور التابعة للحكومة ، وبعد بقائه في تلك الدار مدّةً قصيرة اشترى الأمير عدة دور صغيرة في حيّ العمارة بدمشق القديمة وهدمها وبنى مكانها دارًا واسعة وانتقل إليها وهي أبعد ما تكون عن مقام ابن عربي! [فمكان إقامة ابن عربي ومقامه يقعان خارج أسوار مدينة دمشق بمسافة بعيدة جدًا . في أعلى سفح جبل قاسيون]


وأما أنه دُفن بجانب قبر ابن عربي فصحيح ، ومازال قبره باقيًا إلى اليوم مع أنّ الحكومة الجزائريّة نقلت رفاته إلى الجزائر سنة 1966م .
ولكن أحب أن أنبّه هنا على أمر هام جدًّا ، وهو أنّ الأمير كان قد اشترى أرضًا بجانب مقبرة الدحداح القريبة من حي العمارة شمال الجامع الأموي ، وجعلها مقبرة وأوقفها على أسرته ، ولمّا ماتت أمّه دفنها في وسطها ، وأوصى أن يُدفن إلى جوارها (وهذا ثابت ومشهور عند أفراد أسرته إلى اليوم) ، وحبّه لأمه وتعلقه بها معروف وذَكَرَه جلّ الذين ألّفوا عن حياته . ولكن عندما مات الأمير أشار بعض الشيوخ على أولاده أن يُدفن إلى جوار ابن عربي ، وترددوا في الأمر إلى أن اجتمعت الآراء على دفنه بجوار ابن عربي ، فاجتمع مجلس إدارة الولاية للمذاكرة في هذا الأمر ووافق عليه بعد ترخيصٍ من الباب العالي.
إذن من ادّعى أن الأمير أوصى أن يُدفن بجانب قبر ابن عربي فادّعاؤه باطل. ووصيّة الأمير موجودة وليس فيها هذا الطلب!
من المعلوم كيف كان ـ وما زال ـ المعتقدون بابن عربي يعقِدون دروسهم في مقام ابن عربي!
وللفائدة فإنّ الأمير عبد القادر لم يُدرّس أبدًا في مقام ابن عربي ، وإنما كانت دروسه في دار الحديث، أو في الجامع الأموي ، أو في المدرسة الجقمقيّة، أو في داره الخاصّة .
وإذا كانت هذه الظنون من الكاتب إنما وضعها ليبرهن على شدة تقديس الأمير لابن عربي ، فماذا عن ادّعاءاته بخصوص تقديس الحلاج والتلمساني؟هل سكن في دورهم أيضًا أو رحل واستوطن في بلادهم؟!!
ثمّ لماذا الزج بأمثال هؤلاء في معرض الحديث عن علاقة الأمير بابن عربي؟!!
من المعلوم الفرق الكبير بين هذه الشخصيات الثلاثة ، وإذا كان البعض يلصق الأمير بابن عربي بحجة كتاب المواقف أو بتلك الظنون والأوهام ، فما هي حجّتهم عندما يلصقون به الحلاج والتلمساني؟؟
مرَّ معنا سابقًا قول ابن القيّم في دفاعه عن الهروي: ((ولولا مقَامُه في الإيمان والمعرفة ، والقيام بالأوامر ، لكُنَّا نُسيء به الظنّ)) وكذلك قوله : ((والكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما: أعظم الباطل ، ويريد بها الآخر محض الحق ، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عليه))
إذن هناك قرائن تدل على حال الرجل وما يريد . والإنكار الذي وجّه إلى ابن عربي إنما هو في اشتمال عباراته وأشعاره لكلامٍ مخالف لظاهر الشرع ، ولا يجوز السكوت عنه.
أمّا الحلاّج فكل من يقرأ سيرته يعلم أنه كان مشعوذًا ودجالاً، وليس من أهل العلم والتديّن ، وظهرت منه أفعال منافية للدين. [انظره في (سير أعلام النبلاء) للذهبي] ، وأما التلمساني فأمره أشد وأدهى ، فقد كان يتُهم بالخمر والفسق والقيادة. [انظره (تاريخ الإسلام) للذهبي]
وكذلك كل من اتهمهم العلماء بأنهم يقولون بالحلول والاتحاد أو وحدة الوجود حقيقةً، نجد في سيرهم أنهم كانوا إما تاركين للصلاة أو منتهكين للمحارم أو منحطين إلى أرذل الأخلاق .
وأنا الآن لست بصدد الحديث عن ابن عربي ، والناس فيه على فرق ثلاث .
وإنما أنا بصدد الحديث عن الأمير عبد القادر ، فإذا كان العلماء يدافعون عن أشخاص تلفّظوا بكلام مرفوض شرعًا ، بحجة أنهم أهل علم وصلاح ومقامهم في الإيمان عال . فكيف يكون موقفنا ممن يحترم أولئك الأشخاص فحسب ولم يتلفّظ بكلامهم بل تبرّئ من تلك المعتقدات؟
والذي شُهِد له بالصلابة في الدين ، والتقوى والصلاح ، والذي حَفِظَ القرآن وعمره خمسة عشر سنة ، وتلقى الفقه والحديث ، وجاهد في سبيل الله ، وحكّم القرآن والسنة في شؤون إمارته كلها ، وواظب على حضور الجمع والجماعة إلى آخر يوم من حياته ، بل لم يفوّت الصلاة على وقتها جماعة وهو في بلاد الصليبيين وفي معاقلهم (قصر فرساي) وذلك أثناء زيارته لفرنسة مبعوثًا من قِبَل السلطان عبد المجيد خان ، يقول محمد باشا: ((ثم نزل الأمير إلى الجنينة في ساحة السراية وصلى الظهر بمن معه من رفاقه، ثمّ ودّع الجنرال ، وركب العربة المعدّة له وتوجه إلى غابة بلونيا وصلى العصر بمرأى من جموع كثيرة اجتمعت لرؤيته. أخبرني بعض من كان حاضرًا معه أنّ جميع من كان موجودًا في ذلك اليوم بتلك الغابة من الفرنساويين وغيرهم وقفوا صفوفًا ينظرون إلى صلاته ويمدحونه على إظهار شعائر دينه ، ثم قال : والحق يُقال إن منظر الأمير منتصبًا للصلاة أمام الجميع خاشعًا لحضرة الحق تعالى ، لَمِنَ المناظر التي تتحرك بها القلوب وتصرفها إلى جانب الحق تعالى، وبعد أن أتمّ صلاته توجّه إلى محلّ نزوله ؛ واتّخذت الحكومة على محل صلاته سياجًا من حديد احترامًا له ، وهو موجود لهذا العهد)).انتهى[تحفة الزائر2/158]
و هو الذي درّس الفقه المالكي والحديث النبوي ، في الجامع الأموي ودار الحديث والمدرسة الجقمقيّة ، وأجاز العلماء وطلاب العلم بصحيح البخاري ومسلم وموطّأ مالك ، وإجازاتهم مازالت محفوظة إلى اليوم ، ودرّس كتاب (الإتقان في علوم القرآن) للسيوطي و(الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض ، و(الرسالة) لابن أبي زيد القيرواني ، وراسل أكابر علماء عصره وراسلوه أمثال الإمام الفقيه علي بن عبد السلام التسولي المالكي المغربي (الذي وضع كتابًا يعرض فيه أسئلة الأمير والجواب عليها وهو مطبوع)، والشيخ محمد الهادي العلوي الحسني القاضي بفاس (وجوابه للأمير موجود في تحفة الزائر 1/251) ، ومفتي المالكية بمصر العلاّمة محمد عليش (الذي كان يُنكر بشدة على منحرفي الصوفيّة) وقد أثبت أسئلة الأمير في كتابه الشهير [فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك( ص 328)] ، والعلاّمة الشيخ حسن العدوي المالكي (وجوابه مثبت في تحفة الزائر 2/124) ، وغيرهم من علماء الشام والحجاز وتركيا ، ولم يرد أي طعن فيه من جميع علماء عصره!!! وكان محلّ تقدير عندهم ، وكل من ترجم له من العلماء في عصره أو قريبًا منه إنما كانوا يثنون عليه وعلى دينه؟ وأشرفَ على غسله وتكفينه الشيخ الأزهري عبد الرحمن عليش ابن الشيخ محمد المذكور آنفًا .
يقول الشيخ جميل الشطي في وصف الأمير : ((هو السيد عبد القادر ابن السيد محيي الدين ابن السيد مصطفى الجزائري المغربي الحسني نزيل دمشق ، الأمير الشهير ، السيد الخطير ، العالم العارف ، بحر العلوم والمعارف .... وبالجملة فقد كان إمامًا جليلاً عالمًا عاملاً ، نبيلاً نبيهًا ، زاهدًا ورِعًا ، مُهابًا شجاعًا كريمًا حليمًا ، رحمه الله تعالى وجعل الجنّة مثواه)).انتهى[(أعيان دمشق) للشطي ص179]
وهؤلاء العلماء الذين مدحوا الأمير وراسلوه أو لازموه ، وعرفوه عن قرب ، وحضروا دروسه في العقيدة والحديث ، كانوا لا يسكتون عن فضح المنحرفين والزنادقة ، بل يشنّعون فيمن ظهرت منه أفعال تعارض الشريعة ، فهذا الشيخ عبد الرزاق البيطار في كتابه (حلية البشر) وفي الجزء الذي ترجم فيه لشيخه الأمير عبد القادر ؛ يترجم قبله لـ "سعيد الخالدي الدمشقي الشاذلي اليشرطي" فيقول عنه :
ولد سنة إحدى وعشرين بعد المائتين والألف ونشأ من أول عمره في العبادة، والطاعة والزهادة، وزيارة الأولياء والجلوس في مجالس العلماء ...وقد بدأ المترجم بتعلم ما لا بد منه، وما لا يستغني المكلف عنه، ثم التفت إلى التعلم، والاستفادة والتفهم ... ولم يزل مستقيمًا على حاله متخلصًا من أوحاله، إلى أن حضر إلى "داريا"خليفة من خلفاء الشيخ علي المغربي اليشرطي الشاذلي وكان قد أرسله من عكا، واسمه الشيخ أحمد البقاعي، فأخذ المترجم عنه الطريق، ثم بعد ذلك ذهب إلى زيارة الشيخ في عكا فحضر من عنده وقد انعكست حالته، وانقلبت إلى ضدّها في الظاهر طاعته، وعلاه طيشٌ وجنون، ومن المعلوم أن الجنونَ فنون، فذهب رونقه، وبان نورقه، واستثقل أمره وانخفض قدره، فترك الفقه والأصول والمعقول والمنقول، واستخف بالعلماء، وجحد فضيلة الفضلاء، وأنكر العلم والعمل، وعن كثير من التكليفات اعتزل، وقال هذه واجبة على المحجوبين لا على المحبوبين؟! وكان كثيراً ما يتكلم بالكلام، الذي لا يرتضيه مَنْ في قلبه ذرةٌ مِنَ الإسلام، وصار لا يقول بواجب ولا مسنون، ويقول إن التمسك بذلك محض جنون، ومن دخل في الطريق وترقى في المقامات صارت ذاته عين الذات، وصفاته عين الصفات، وهل يجب على الله صلاة أو صيام بحال، وهل يقال في حقه عن شيء حرام أو حلال ، وأمثال ذلك كثير لا يرام، ولو أردنا أن نطيل به لخرجنا عما يقتضيه المقام. وقد وافقه على ذلك عدة أشخاص، قد خرجوا من الدين ولات حين مناص، فتجاهروا بالآثام، ولم يتقيدوا بحلال أو حرام مع أن شيخهم الأستاذ(يعني:علي المغربي) قد أنكر عليهم ، ووجه أشدّ الملام إليهم، وكتب لهم ينهاهم عن ذلك، ويزجرهم عن هذه المسالك، وهم يؤولون كلامه، حتى صاروا فرقة ذات متانة وحمية، وما زال يتفاقم أمرهم، ويكثر جمعهم، إلى أن نفى الحاكمُ بسببهم أستاذَهم إلى جزيرة قبرص، ناسبًا القصور إليه، وكان المترجم خطيبًا في قرية كفرسوسيا وهي قرية من الشام تبعد قيد ميل، وكان منها معاشه، مع التعظيم والتبجيل، ...
ثم بعد مدة طويلة عفت الحكومة عنهم على أنهم لا يعودون إلى أمثال هذه الرذيلة، ولا إلى الملابس البذيلة، فعاد المترجم إلى قريته، ومحل إقامته وخدمته، ورجع إلى حاله الأول وما رجع عن زيغه ولا تحول، فأعرض عنه أهل البلد ونصبوا له شرك النكد، إلى أن فصلوه، ووضعوا مكانه تلميذه وبمصلحته وصلوه، فعاد المترجم بعياله إلى الشام، وتزايد أمره بما يقتضي الاعتراض والملام، إلا أنه قد ضاقت يده، وهبط قدره وسؤدده، وذهب جماله وسقط كماله، فذهب إلى داريا يقري الأولاد، ودنياه تعامله بعكس المراد، وذلك كله لاتّباعه الباطل، وتمسكه بما ليس تحته سوى الشقاء من طائل، وكنت أنصحه بالرجوع إلى المطلوب، فيقول لي أنت عن الحقيقة محجوب، لو قطع رأسي وتفصلت أوصالي لا رجعت عن طريقي وحالي. فمرة كنت أمشي وإياه في الصحراء فرأى امرأة قروية قد لبست لباساً أحمر فقال لها يا حبيبي عملتَ نفسكَ امرأة ولَبِسْتَ اللباس الأحمر! ومرة رأى هرًا فصرخ وقال له عملتَ نفسكَ هرًّا وتظن أني ما عرفتك. وكان يقول عن إبليس إنسان كامل. وأمثال هذا كثير، مما لا يقول به جليل ولا حقير، ويقول للاّئمين أنتم أهل الرسوم، المتمسكون بظاهر العلوم، ونحن الصوفية أهل الطريقة، والوجدان والحقيقة. وما علم أن ذلك من أكبر الغلط، ومن قال به فقد سلك مسلك الشطط، وهل تجدي من غير شريعة طريقة، أو تصلح بما لا تمسك له بالقرآن والسنة حقيقة. قال صاحب الأسفار في شرحه على رسالة الخلوة للشيخ الأكبر قدس الله سرهما: (( "وصية" يا أخي رحمك الله قد سافرت إلى أقصى البلاد، وعاشرت أصناف العباد، فما رأت عيني، ولا سمعت أذني، أشرّ ولا أقبح ولا أبعد عن جناب الله من طائفة تدعي أنها من كمل الصوفية وتنسب نفسها إلى الكمال، وتظهر بصورتهم، ومع هذا لا تؤمن بالله ورسله ولا باليوم الآخر ولا تتقيد بالتكاليف الشرعية، وتقررُ أحوال الرسل وما جاءوا به بوجه لا يرتضيه مَنْ في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، فكيف من وصل إلى مراتب أهل الكشف والعيان، ورأينا منهم جماعة كثيرة من أكابرهم في بلاد أذربيجان وشيروان وجيلان وخراسان لعن الله جميعهم* ، فالله الله يا أخي لا تسكن في قرية فيها واحد من هذه الطائفة، لقوله تعالى:{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} ،وإن لم يتيسر لك ذلك فاجهد أن لا تراهم ولا تجاورهم فكيف أن تعاشرهم وتخالطهم؟ وإن لم تفعل فما نصحتَ نفسك والله الهادي)).انتهى ، وما زال المترجم على حاله خائضًا في أوحاله، إلى أن تمرض وتوفي رابع عشر جمادى الأولى سنة ألف ومائتين وأربع وتسعين. ودفن في جوار سيدنا بلال الحبشي نسأل الله أن يكون رجع عمّا كان عليه وتاب إلى الله وآب إليه)).انتهى[حلية البشر 2/669ـ673]
*وقد علّق الشيخ محمد بهجة البيطار ، من شيوخ دمشق السلفيين ، على هذا الكلام فقال : ((أقول :وقد وصل شرّهم وضرّهم إلى أرض الشام ، وسمعنا ورأينا بعض من يرتكب تلك الآثام ، عليهم من الله ما يستحقّون)).انتهى
والشيخ بهجة البيطار يصف الأمير عبد القادر فيقول : ((العالم المجاهد الكبير . وعين الشام وهامها وسيدها وهمامها)) وليس في كلامه عليه إلاّ الثناء والتوقير!![وذلك في تعليقاته على (حلية البشر)]


وحين ترجم الشيخ عبد الرزاق للأمير : فإنه أثنى عليه الثناء كلّه وبالغ في مدحه، ولم يشر إلى أي شيء يخدش دينه . ولا أريد الإطالة في عرض وإيراد كل ما قيل في الأمير من الثناء والمدح.
ولكن هناك هام أمرٌ أحب أن أنبّه عليه:
وهو أنّ الشيخ عبد الرزاق البيطار يُعدُّ في ذلك العصر من أوائل علماء الشام الذين أخذوا بمذهب السلف ، ولاقى بسبب ذلك كثيرًا من الفتن والمصائب ، وعاداه كثير من شيوخ الشام ، واتّهموه بتأسيس مذهب جديد ، وكذلك كان الحال مع تلميذه العلاّمة جمال الدين القاسمي الذي سُجن وحُورِبَ بسبب عقيدته السلفيّة ، ومحاربته للخرافات والانحرافات!!
يقول الشيخ محمد بهجة البيطار في ترجمة جدّه الشيخ عبد الرزاق: ((فهو في بلاد الشام من أوّل العلماء بلا شبهة ولا مراء ، لأنّه أوّل من أخذ بالدليل ، وجاهد في هذا السبيل ، ورفع فوق رؤوس أهل الحق راية السنّة والتنزيل)) ثمّ نقل قول العلاّمة القاسمي فيه : ((إن الشيخ عبد الرزاق البيطار ذاك العالم الجليل ؛ ممن اشتهر بالإنكار على أرباب الخرافات ، وممن يقاوم بلسانه وبراهينه تلك الخزعبلات ، فإنّه ممن لا تأخذه في إبانة الحق لومة لائم ، ولا يصده عتب عاتب ولا قومة قائم، وله صدع بالحق عجيب ، وعدم محاباة ومداراة ، وكل ما يروى من حكايات المتمفقرين فإنه يزنه بميزان العقل فإنْ أباه ردَّه جهارًا ، وقابل قائله بالصد إنكارًا ، وطالما صرّح بالإنكار على من يُنادي مَنْ يعتقد فيه العامّة من الأموات ويستشفع به في قضاء الحاجات ، ويعرّفهم ما قاله السلف في هذا الباب مِنْ أنه أمرٌ ما أَذِنَ اللهُ به ، إذ أمر بدعائه وحده ، فدعاء غيره مما لا يرضيه كما صرّح به في غير آية من كريم الكتاب ، وقصْده ترقية العامّة عن نداء أحدٍ إلاّ الله ، وعدم تعليق القلب إلاّ بالخالق تبارك وتعالى)).انتهى [انظر مقدمة (حلية البشر)1/12ـ17]


هذا العالمُ الصادع بالحق كتبَ مقالةً سنة 1296هـ إثر ذيوع خبر وفاة الأمير ، ثم ظهور بقائه حيًّا وإنما كان مريضًا ، يحمد الله فيها فقال : ((نحمدُك يا منعم على إحسانك ، ونشكرك على جزيل امتنانك ، حمدًا وافيًا بوافر آلائك ، وشكرًا مكافيًا لمُتكاثِر نَعْمائك ، يا راحم المتضرّعين ، ما أرأفك ، ويا منّان على المنقطعين ما أعطفك ، ويا ذا الرحمة والجود ما أحلمك ، ويا دافع النقمة بلطفك ما أحكمك وأعظمك ، قد غمرتنا بجميل المعروف ، وأغرقتنا في بحر لطفك الموصوف ، وأسبلت علينا سترك الجميل ، وأدمت لنا حصنك الجليل ، مَنْ أنقذتنا به من أودية الغواية ، إلى فسيح الرشاد والهداية ، وعرّفتنا به المطلوب ، وهديتنا بهدايته إلى الصراط المرغوب ، وكشفت به لنا عيوبًا كنّا نعتقدها طاعة ، ودللتنا به على نهج السنّة والجماعة ؛ الأمجد الأوحد ، والعَلَم المفرد ، بحر الأكارم، وحبر العوالم ،.... يد السماحة لكل طالب ، وباب الدخول لكل راغب ، الرافع بفضائله أعلام الرايات الدينيّة ، والقامع بدلائله معاندي الشريعة المحمديّة ، أمير الأمراء ، وقطب مدار الفضلاء، .... الحسيب النسيب ، والشريف الماجد الأريب ، السيد عبد القادر الحسني ، أدام الله بقاءه وجُوْدَه الهني، ....إلخ)).انتهى


وليس غرضي من هذا النقل ذكر ما فيه من مبالغة في المديح وتعداد الأوصاف (على عادة أهل ذلك العصر) ، وإنما غرضي ما قاله الشيخ البيطار مِنْ كون الأمير عبد القادر هو الذي دلّهم على نهج السنة والجماعة ، ونفّرهم من البدع التي كانوا يظنون أنها طاعات!
وإن شاء الله أتابع الحديث عن تطور فكر الأمير ، وأثره في تلامذته وأصحابه ، وآثاره في بعث الصحوة في بلاد الشام، لاحقًا.

والحمد لله ربّ العالمين

خلدون بن مكّي الحسني

للبحث صِلة إن شاء الله
 
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city

بسم الله الرحمن الرحيم


الحلقة السابعة

إنّ الذي يطلع على تاريخ الجزائر في الحقبة التي سبقت الاحتلال الفرنسي وما بعدها ، يُدرك أنّ ما قيل ويُقال في الأمير إنما هو للتعتيم عن حقيقة الوضع الذي كان سائدًا حينها ، إنّ الدول الصليبيّة ما كانت لتفضح عملاءها المخلصين ، وما كانت لتسلّط الأضواء عليهم ، لأنّ في ذلك تنبيهًا للمسلمين على طبيعة العملاء وماهيتهم ، فإذا تنبّه المسلمون لذلك فإنهم سيسعون للقضاء على أمثال أولئك العملاء ، وسيتجنّبون العمل معهم ، وسيكتمون أسرارهم عنهم ، وفي هذا إضعاف للصليبيين وتَخْييبٌ لمخططاتهم.
ولذلك نجد أنّ الفرنسيين قبل إقدامهم على غزو الجزائر قاموا بدراسة الوضع هناك وأنشؤوا علاقات بالجهات التي تعهَّدت لهم بتقديم العون الكامل ، وقبل نزول أول جندي فرنسي على الشواطئ الجزائريّة نزل المؤرّخون الفرنسيون الذين بدؤوا من فورهم كتابة أحداث التاريخ كما تشتهي أنفسهم ، فصوّروا هزائم جيوشهم النكراء على أيدي المجاهدين الجزائريين على أنها انتصارات وملاحم بطوليّة ، وأخذ رسّاموهم يرسمون لوحات النصر الكاذب ويرسلونها لتُزَيّن بها جدران القصور في باريس ، وألّفوا عشرات الكتب يشوّهون فيها تاريخ الجزائر ؛ يرفعون الوضيع ويضعون الرفيع ، ويقلبون الحقائق فيجعلون من الجزائر بلدًا جاهلاً متخلفًا بحاجة للحضارة الفرنسية، إذن فهم أتوا ليحضّروا الشعب الجزائري (كما تزعم أمريكا اليوم عن سبب غزوها وتدميرها للعراق!)
وللفائدة فإن تقارير الباحثين الفرنسيين أمثال (فانتور ديباردي ، وروزيه) تثبت أن عدد المتعلمين في الجزائر غداة الاحتلال كان يفوق عدد المتعلمين في فرنسا![تاريخ الجزائر الثقافي 1/]
وجعلوا تدميرهم لأكثر من 700 مسجد إضافة إلى أعداد كبيرة من المعاهد والزوايا ، من الارتقاء بحضارة الجزائر!! وهلمّ جرّا ...
ومن ذلك أنّهم صاروا يشوّهون تاريخ أبطال المقاومة في الجزائر الذين لم يخضعوا للإغراءات الفرنسيّة ، والذين كشفوا وفضحوا المخطط الفرنسي الاستعماري وتصدّوا لأذناب هذا المستعمر الغازي ، وأثبتوا للعالم أن الشعب الجزائري شعبٌ أَبِيّ عزيزُ النفس ، قويّ الإيمان بربّه عزَّ وجلّ ، لا يُعطي الدّنية في دينه ، وأنّه استطاع بعتاده القليل والبسيط أن يحطّم جحافل الجيوش الفرنسيّة المدججة بالمدافع والأسلحة النارية الحديثة ، وألحق الهزيمة بالحملات المتتابعة ووسم جباه الجنرالات بوسم العار والخذلان .
لقد كتبَ المؤرخون الفرنسيون عن أحد رموز الثورة في الجزائر بعد الأمير عبد القادر وهو الملقّب بـ (بو معزة) الذي دوّخ الجيوش الفرنسية سنوات متتالية ، ثمّ سجنه الفرنسيون في الجزائر ، وحاول الهروب عدة مرات إلى أن أطلق سراحه نابليون الثالث سنة 1849م ، فتوجّه إلى المشرق وانخرط في الجيش العثماني وقاتل معه في حرب "القرم" على روسيا حتى استشهد . هذا المجاهد الشهير قال عنه الفرنسيون : ((لقد كانت معه أميرة فرنسية تعلمه الرشاقة والضرب على البيانو!)) أرأيتم كيف يشوّهون صور رجالنا! [انظر الحركة الوطنية ص312]
وكذلك فعلوا مع المجاهدة (للاّ فاطمة) التي قادت الجهاد في (الزواوة) إلى أن أُسِرَت في إحدى المعارك وسُجِنت وماتت في السجن ، رحمها الله . حيث جعلوا تعاونها مع بعض زعماء الجهاد من باب العلاقات العاطفية والإعجاب بالجمال المتبادل ، في تعريض واضح بها وبالمجاهدين لا يخلو من الدس الأخلاقي والسياسي![المرجع السابق ص414]
وغيرهم كثير ...
وبالمقابل كان المؤرخون الفرنسيون يتسترون على رموز الخيانة والعمالة من الجزائريين سواء أهل السياسة أو أهل الجاه أو الشيوخ! ، فإنّك تكاد لا تجد كتابًا فرنسيًا مروَّجًا يتحدّث عن هؤلاء لا في القديم ولا في أيامنا هذه ، وإنما الحديث كلّه منصبّ على أبطال الثورة ابتداءً من الأمير عبد القادر وصولاً إلى الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله! أليس الأمر لافتًا للنظر؟ أليس الأمر مريبًا؟ أليس الأمر واضحًا؟ وإلاّ فلماذا يصرّ الفرنسيون على إظهار الأمير عبد القادر وحده بمظهر الصديق لهم؟
وإذا كان فعل الأعداء ـ في تشويه صورة خصمهم الذي حطّم كبرياءهم في الجزائر وفي الشام ـ متوقّعًا ؛ فالعجيب هو تقبّل بعض المسلمين لهذا الهراء!
وحتى لا أطيل عليكم أنقلُ لكم مقطعًا من خطبة ألقاها الشيخ محمد التجاني الكبير صاحب السجادة الكبرى (التجانية) ـ وهو خليفة الشيخ أحمد التجاني الأكبر مؤسس هذه الطريقة ، وهذا "الخليفة" يسيطر على جميع أرواح "الأحباب" المريدين التجانيين في مشارق الأرض ومغاربها ـ بين يدي الحكومة الفرنسية في 23/المحرم/ 1350هـ [بعد وفاة الأمير بـخمسين سنة] لكي يَظْهَر لكم طبيعة الوضع الذي كان يكابده الأمير عبد القادر من خيانة رؤساء الطرق الصوفية المنحرفة في تلك البلاد .
وأنا أنقل من مصادر موثوقة ؛ لا من مصادر صليبية أو مشبوهة!
في كتاب (مشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني) لمفتي المالكية في المدينة المنوّرة العلاّمة محمد الخضر الشنقيطي ،رحمه الله ، وَرَدَتْ خطبة لشيخ التيجانية في الجزائر في حينها ،
جاء في خطبة التجاني : ((..إنه من الواجب علينا إعانة حبيبة قلوبنا (يعني فرنسة) مادياً وأدبياً وسياسياً ، ولهذا فإنني أقول لا على سبيل المنّ والافتخار ، ولكن على سبيل الاحتساب والتشرّف بالقيام بالواجب : إنّ أجدادي قد أحسنوا صنعًا في انضمامهم إلى فرنسا قبل أن تصل بلادنا ، وقبل أن تحتل جيوشها الكرام ديارنا.
ففي سنة 1838م كان جدّي سيدي محمد الصغير ـ رئيس التجانية يومئذ ـ أظهر شجاعة نادرة في مقاومة أكبر عدو لفرنسا ، الأمير عبد القادر الجزائري ، ومع أنّ هذا العدو ـ يعني : الأمير عبد القادر ـ قد حاصر بلدتنا عين ماضي ، وشدد عليها الخناق ثمانية أشهر ، فإنّ هذا الحصار تمَّ بتسليمٍ فيه شرفٌ لنا نحن المغلوبين ، وليس فيه شرف لأعداء فرنسا الغالبين ، وذلك أنّ جدّي أَبَى وامتنع أن يرى وجهًا لأكبر عدو لفرنسا ، فلم يُقابل الأمير عبد القادر!!
وفي سنة 1864م كان عمي سيدي أحمد ـ صاحب السجادة التجانية يومئذ ـ مهَّد السبيل لجنود الدوق دومال ، وسهّل عليهم السير إلى مدينة (بسكرة) ، وعاونهم على احتلالها.
وفي سنة 1870م حملَ سيدي أحمد هذا تشكرات الجزائريين للبقية الباقية من جنود (التيرايور) الذين سَلِموا من واقعة (ريش ـ هوفن) ، وواقعة (ويسانبور) ، ولكي يُظهر لفرنسا ولاءه الراسخ وإخلاصه المتين ، وليُزيل الريب وسوء الظن اللذين ربما كانا بقيا في قلب حكومتنا الفرنسية العزيزة عليه ـ يعني : من حيث كونه مسلمًا ولو بالاسم فقط ـ برهن على ارتباطه بفرنسا ارتباطاً قلبياً ، فتزوّج في أمد قريب بالفرنسية الآنسة "أوريلي بيكار" (مدام أو أيّم التجاني بعدئذ) ، وبفضل هذه السيدة ـ نعترف به مقروناً بالشكر ـ تطورت منطقة (كوردان) هذه ضاحية من ضواحي (عين ماضي) من أرض صحراوية إلى قصر منيف رائع ، ونظراً لمجهودات مدام أوريلي التجاني هذه المادية والسياسية فإنّ فرنسا الكريمة قد أنعمت عليها بوسام الاحترام من رتبة "جوقة الشرف")).

[[وأحمد التجاني هذا لمّا تزوج في سنة 1870م بهذه المرأة الفرنسية ، كان أول مسلم جزائري تزوج بأجنبيّة (غير مسلمة) ، وقد أصدرت هي كتابًا فرنسيًا أسمته: (أميرة الرمال) تعني نفسها ، وقد ملأته بالمثالب والمطاعن على الزاوية التجانية ، وذكرت فيه أنّ أحمد التجاني إنما تزوجها على يد الكردِنال "لافيجري" على حسب الطقوس الدينية المسيحيّة ، وذلك لأن قانون الزواج الفرنسي كان دينياً مسيحياً لا مدنياً!، ولما توفي عنها أحمد هذا خلفه عليها وعلى السجادة التجانية أخوه علي!!..
ولمّا أنعمت فرنسا بوسام الشرف على هذه السيدة ، قالت الحكومة في تقريرها الرسمي ما نصّه : لأن هذه السيدة قد أدارت الزاوية التجانية الكبرى إدارة حسنة كما تحب فرنسا وترضى!، ولأنها كسبت للفرنسيين مزارع خصبة ومراعي كثيرة، لولاها ما خرجت من أيدي العرب الجزائريين (التجانيين) ، ولأنها ساقت إلينا جنودًا مجنّدة من (أحباب) هذه الطريقة ومريديها ، يجاهدون في سبيل فرنسا صفًا كأنهم بنيان مرصوص!! ..انتهى

ومع أنّ الأحباب التجانيين يتبركون بهذه السيدة ويتمسكون بآثارها ويتيممون لصلواتهم على التراب الذي تمشي عليه ، ويسمونها (زوجة السيدين)، فإنها لا تزال مسيحيّة كاثوليكية ، ومن العجيب أن أكثر من إحدى وستين سنة قضتها كلها في الإسلام وبين المسلمين! من (1870 إلى 1931) لم تغيّر من مسيحيّتها شيئًا، وهذا دليل على ما كانت تكنّه في قلبها لهؤلاء (الأحباب) الذين حكّموها في رقابهم وأموالهم !!]] انتهى[هذا التوضيح من مراسل مجلة الفتح التي نقلت خطبة التجاني ، ومجلة الفتح في ذلك الوقت هي المجلة التي يثق بها المسلمون جميعًا].

ولنرجع إلى الاعترافات ؛ ثم قال محمد التجاني الكبير : وفي سنة 1881م كان أحدُ (مقاديمنا) سي عبد القادر بن حميدة مات شهيدًا!! مع الكولونيل فلاتير حيث كان يعاونه على احتلال بعض النواحي الصحراوية .
وفي سنة 1894م طلبَ منّا جول كوميون والي الجزائر العام يومئذ أن نكتبَ رسائل توصية ، فكتبنا عدّة رسائل ، وأصدرنا عدّة أوامر إلى أحباب طريقتنا في بلاد الهكار (الطوارق) والسودان نخبرهم بأن حملة "فو ولامي" الفرنسية هاجمة على بلادهم ، ونأمرهم بأن لا يقابلوها إلاّ بالسمع والطاعة!، وأن يعاونوها على احتلال تلك البلاد ، وعلى نشر العافية فيها!! ..
وفي سنة 1906ـ1907م أرسل المسيو "جونار" والي الجزائر العام يومئذ ضابطَهُ المترجم مدير الأمور الأهلية بالولاية العامة سيدي "مرانت"! برسالة إلى أبي المأسوف عليه سيدي البشير ، فأقام عنده في زاوية كوردان شهرًا كاملاً لأداء مهمّة سياسية ، ولتحرير رسائل وأوامر أمضاها سيدي البشير والدي ـ رئيس التيجانية يومئذ ـ ثمّ وجّهت إلى كبراء مرّاكش وأعيانها وزعماء تلك البلاد وجلّهم ـ أو قال : وأكثرهم ـ تجانيون من أحباب طريقتنا نبشّرهم بالاستعمار الفرنسي ، ونأمرهم بأن يتقبلوه بالسمع والطاعة والاستسلام والخضوع التام ، وأن يحملوا الأمّة على ذلك ، وأن يسهّلوا على جيوش فرنسا تلك البلاد!!.
وفي الحرب العالمية الكبرى أرسلنا ووزعنا في سائر أقطار شمال إفريقية منشورات تلغرافية وبريدية استنكارًا لتدخّل الأتراك في الحرب ضد فرنسا الكريمة وضد حلفائها الكرام ، وأمرنا أحباب طريقتنا بأن يبقوا على عهد فرنسا وعلى ذمتها ومودتها.[شارك مع فرنسا في الحرب العامة أكثر من (200.000) مقاتل جزائري قُتل منهم (62.000) فداء لفرنسا! انظر (حاضر العالم الإسلامي) للأمير شكيب أرسلان 2/176].

وفي سنة 1913م إجابةً لطلب الوالي العام للجزائر أرسلنا بريدًا إلى المقدّم الكبير للطريقة التجانية في السنغال سيدي الحاج "عثمان ساي" نأمره بأن يستعمل نفوذنا الديني الأكبر هنالك في السودان لتسهيل مأمورية "كلوزيل" الوالي العام للجزء الشمالي من إفريقية الغربية ـ أي : لكي يسهّل عليه احتلال واحة شنقيط ـ
وفي سنة 1916م إجابةً لطلب المريشال "ليوتي" عميد فرنسا في مراكش كان سيدي علي ـ صاحب السجادة الرئيس الذي كان قبلي ـ كتبَ مئة وثلاث عشرة رسالة توصية ، وأرسلها إلى الزعماء الكبار وأعيان المغاربة يأمرهم بإعانة فرنسا في تحصيل مرغوبها وتوسيع نفوذها وذلك بواسطة نفوذهم الديني!..
وفي سنة 1925م في أثناء حرب الريف أرسلتُ أنا ـ حبيبنا ـ المخلص ومريد طريقتنا ومستشارنا المعتبر حُسني سي أحمد بن الطالب إلى المغرب الأقصى ، فقام بدعاية كبرى ـ وبروباغندا([1])ـ واسعة في حدود منطقة الثوار ، وتمكن من أخذ عناوين الرؤساء الكبار والأعيان الريفيين و"المقاديم" وأرباب النفوذ على القبائل الثائرة ، وكتبنا إليهم رسائل نأمرهم فيها بالخضوع والاستسلام لفرنسا، وقد أرسلنا هذه الرسائل إلى "مقدّمنا" الأكبر في فاس ، فبلّغها إلى المبعوث إليهم يداً بيد.
وبالجملة فإنّ فرنسا ما طلبت من الطائفة التجانية نفوذها الديني إلاّ وأسرعنا بكل فرح ونشاط بتلبية طلبها وتحقيق رغائبها ، وذلك كله لأجل عظمة ورفاهية وفخر حبيبتنا فرنسا "النبيلة"!!.. والله المسؤول أن يخلّد وجودها بيننا لنتمتّع برضاها الخالد!!. وختم خطبته هذه بالثناء العاطر على الموظفين الفرنسيين وعلى الضباط العسكريين واحدًا واحدًا ، ومدح الوالي العام ووصفه بأنه (المستعمر الأكبر) .
وما انتهى الشيخ من خطبته حتى نهض ليوتنان كولونيل "سيكوني" رئيس البعثة العسكرية وشكر الشيخ وأثنى عليه ، ثم قال له : "من كمال مروءتك وإحسانك يا سيدي الشيخ (المرابط) أنك لم تذكر ولا نعمة واحدة من النعم التي غمرتني بها ، فأنت الذي أنجيتني من الطوارق الملثّمين ، وأنقذتني من أيديهم .. وهكذا جعل الكولونيل يذكر مناقب أخرى للشيخ كثيرة . انتهى[من كتاب العلامة محمد الخضر الشنقيطي مفتي المالكية بالمدينة المنوّرة (المتوفى سنة 1355هـ = 1936م) ، في ردّه على شيخ التيجانية وطريقته ص616ـ 621 . وهذه النقول جمعها تلميذه فضيلة الشيخ إبراهيم القطّان. واسم كتاب العلامة الشنقيطي (مُشتهى الخارف الجاني في ردّ زلقات التجاني الجاني)].

يقول المؤرّخ الإسلامي الكبير الأستاذ أبو القاسم سعد الله : ((إنّ الأمير (عبد القادر) قد اطلع على رسائل بخط التيجاني إلى أهل الأغواط يذكر فيها أنه خليفة الله في أرضه!! ؛ وأُخرى إلى حاكم الجزائر (الفرنسي) يقترح عليه أن يُشغل الأمير من جهة البحر وهو يكفيه من جهة البر!!)).انتهى[الحركة الوطنية الجزائرية 1/217]
ويقول سعد الله: ((إن هذا التجاني قد كتب (يوليو 1839) قبل استئناف الحرب مع الأمير ، إلى المارشال "فاليه" يقترح عليه البرنامج التالي للتعاون ضد الأمير! : كون أعيان العرب طلبوا منه هو (التجاني) أن يكون أميرًا عليهم ، فأجابهم بأن الإمارة تقتضي وسائل الحرب وهم لا يجدونها في الصحراء. تعيين فرنسا لباي على (المْدِيّة) {لاحظ أنها ما تزال عندئذ تحت الأمير}على أن يكون هو التجاني كبير أهل البادية ، ويكون الباي المذكور هو الواسطة بينه وبين "فاليه" ، ويتعهد بطاعته والدخول تحت نظرخ ويدفع إليه الزكاة والعشور ، وبذلك "نبعد من كان غريبًا عنك أو عدوًا لك" وإن العرب غاضبين من الأمير لأنه "قدّم الصغير وأبعد الكبير" ثم إنه "رجل يجهل قواعد العلاقات التي توجد بين الناس ـ القُوى ـ" وهو بدوي ، والبدو لا يعرفون شيئًا من ذلك)).انتهى بحروفه[المرجع السابق ص219]

والتيجانية كانوا منذ البداية رافضين للوجود والحكم العثماني وثاروا عليه ووقعت بينهم حروب ، ولذلك أسرعوا وتحالفوا مع الفرنسيين الذين أقنعوهم بأنهم يريدون مساعدتهم للتخلص من العثمانيين، وتنصيبهم حكّامًا على الجزائر بدلاً عنهم!!
وكان الأمير عبد القادر حاصَرَ قلعة التيجانية وهزمهم ، وجاء في رسالته إلى وكيله في وهران الحاج الطيب : ((إنّ الله تعالى قد حمّلنا مسؤولية النظر في صلاح المسلمين وتوجيه جميع أهل هذه البلاد إلى شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم . لقد توجهنا إلى الصحراء لا للإضرار بالمسلمين الحقيقيين ولا لإخضاعهم وتخريبهم ولكن لإيقاظ إيمانهم وجمع شملهم وإقامة النظام بينهم . وكلّهم استجابوا لدعوتنا وأطاعوا بقدر ما تسمح به ظروفهم ، ولم يتخلّف إلاّ التجاني . وقد وجدنا أنفسنا وجهًا لوجه أمام الذين كان قد غرر بهم وزيّن لهم العصيان ، فكانوا مستعدين لمحاربتنا ، وناشدناهم حبَّ الله ورسوله لكي ينضموا إلينا ، وذكرناهم لهذا الغرض بآيات من الذكر الحكيم ، ولكن كل ذلك بدون جدوى ، فيئسنا من رجوعهم إلى الحق ومع ذلك خفنا أن تكون الرأفة بهم سببًا في ضياع الهدف المنشود ، وهذا الهدف هو جمع العرب جميعًا على كلمة واحدة وتعليم الجاهل شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنع انتشار الشرور بينهم ، وحفظهم من انتشار الفساد إليهم من بعض المدن ..)) . انتهى [حياة الأمير لتشرشل ص132 ، وطبعًا الكلام مترجم عن الأصل]

ومن صور تفشي الجهل بأحكام الشريعة ما ذكره الأستاذ سعد الله عن "العيّاشي" :{في بلدة عين ماضي مركز الطريقة التيجانية يقول "العياشي" : (إن النساء فيها كنّ غير محجبات ويخالطن الحجيج يبعن ويشترين) [تاريخ الجزائر الثقافي 1/176]}

أعرِضُ هذه الأحداث والاعترافات لأُبيِّن للقراء والباحثين حقيقةً غابت عن أكثرهم ، وهي أنّ الحالة الاجتماعية الدينيّة التي كانت تعيشها الجزائر تحت الحكم العثماني كانت في غاية التدهور والانحطاط ؛ وقد عمّ وشاع التصوف المنحرف وكثُرَت رجالاته ،: ((ونشأت تحالفات بين أرباب الطرق الصوفية وبين الحكّام الظّلَمة ، فقد كان بعض رؤساء الزوايا والدراويش يرشون الولاة ليسكتوا عن ابتزازهم لأموال الناس والتعدي على الحرمات والأعراض . فقد رُويَ أنّ المرابط قاسم ابن أم هانئ كان له رعايا وأتباع كثيرون في قسنطينة ونواحيها وكان له فقراء يرقصون ويشطحون ولعابهم يسيل ، وربما يتضاربون ؛ وقد قيل عنه أنه أنكر التأثير لله وادّعى أنه هو الذي يملك التصرف!! وكان أصحابه يدفعون الرِّشا إلى الحكام . وكان الشيخ (طراد) في عنّابة صاحب طريقة ولمّا توفي تولاّها ابنه ودخل في خدمة الأمراء وصار يعطيهم الجبايا والخراج للاستعانة بهم على الفريق الذي يعارضه . وطغى هذا الصنف من شيوخ التصوف على حساب تصوف الزهد والعبادة والأخلاق! ولكن كثرة هذا الصنف المنحرف خلال العهد العثماني وسكوت أرباب السلطة عليه وتبادل الرِّشا والهدايا بين الطرفين تدل على المرض الذي أصاب المجتمع الجزائري آنذاك ، دينياً وسياسيًا وأخلاقيًا . فهذا الصنف من أدعياء التصوف كان يستعمل جميع الوسائل لاستغلال العامة ونشر الجهل والخرافة بينها)).انتهى[ملخصًا من كتاب تاريخ الجزائر الثقافي 1/476 للمؤرخ الكبير الدكتور أبي القاسم سعد الله]
((كما نادى أحمد بن ساسي البوني (1139هـ)، بإسقاط التدبير تمامًا عن الإنسان ، واعتبر أن هذا الإنسان مسير لا مخيّر حتى كان ما أصاب الله به البلاد من تأخر ومن ظلم وفساد ،كان لمصلحة لا يعلمها إلاّ هو ولا حاجة للإنسان أن يثور أو يرفض أو ينتقد الظلمة والمفسدين والمتسببين في التخلّف)).. ((وهذا الحسين الورثلاني (1193هـ) كان مذهبه في التصوف اتباع الطريقة الشاذليّة وسلوك علم الباطن ونقد الفقهاء الذين اعتبرهم أعداء للصالحين والأولياء ..وكان يقول إن المرابطين يكتبون في اللوح المحفوظ! وأشاد بنبوءة سيدي خالد (خالد بن سنان العبسي ؛ قبل الإسلام) ، وكان الورثلاني كمعظم أتباع الطريقة الشاذلية ، يُبدي اهتمامًا بشؤون الدنيا وملذات الحياة)) . انتهى[المرجع نفسه 1/484ـ 495].
((وكان شُرب الخمر والسماع وتعاطي الربا وتناول الحشيش والخنا أمورًا شائعة عند بعض العلماء)) ، ((وكان الشيخ محمد الحاج قد ظهر عليه الجذب وكَثُرَ الخَنَا على لسانه والتفوه به أمام الذكور والإناث على السواء ، وكان يأكل الحشيشة ويعطيها لمن يزوره ، بل إنه يلزمه بأكلها . وعندما مات له قِطٌ (وكانت له قطط كثيرة) أَسِفَ عليه وصنع له كفناً وجعل له مشهداً ومدفناً . والغريب أن خاصة وعامة قسنطينة قد جاؤوا للجنازة ولتعزية الشيخ في فقيده!!!
وكان الشيخ محمد ساسي يقول في غنائه : كنتُ صاحب الخضر والآن أنا سيّده! وكان يذكر في قصائده أنه عرج إلى السماء وكشف له الحجاب)).انتهى [المرجع السابق 1/414 ـ 490 والدكتور سعد الله ينقل من عدّة مراجع ومخطوطات من أبرزها مخطوط لأحد العلماء المصلحين في الجزائر وهو الشيخ عبد الكريم الفكون (1073هـ) وكتابه اسمه (منشور الهداية في كشف حال من ادّعى العلم والولاية) وهو مطبوع بتحقيق الدكتور سعد الله]
ويقول الأستاذ سعد الله عن حالة كثير من علماء المسلمين في عصر الأمير: ((وأمّا علماء المسلمين ، فقد كان أغلبهم ، كما قال ابن العنّابي ، منشغلين بتكوير وتكبير العمائم ، وإطالة أكمام الجبائب ، وصبغ اللحى والشوارب ، والتكثير من حبّات السبح ، والتحذلق والحوقلة والسبحلة ، والتقرّب من ذوي السلطان ، والنقاش حول الحلال والحرام . أمّا أمر الجهاد عندهم ، بما في ذلك أعظم الجهاد الذي هو كلمة حقٍ عند سلطان جائر ، فقد أصبح من الذكريات الخوالي ، لا يُقرأ إلا كآيات في القرآن أو عبارات في الأحاديث النبوية ، أو في أبواب الجهاد في الكتب الفقهية . فلما جاءهم ليون روش (وهو جاسوس فرنسي ادّعى الإسلام) صُحْبَةَ الشيخ محمد التجاني بفتوى تقتضي وقف الجهاد ضد أعداء الدين ، آمنوا وصدقوا ووضعوا أختامهم . كانت الفتوى التي أحكم صياغتها روش بالتعاون مع علماء السوء في الجزائر ، تقول للمجاهدين الجزائريين : ضعوا أسلحتكم فأنتم في بلد إسلامي ، وإنه إذا تغلّب العدو الكافر على المسلمين فإنه لا يجوز لهؤلاء مجاهدته لأن ذلك ضرب من الانتحار ، ولا تجب عليهم أيضًا الهجرة لأن الجزائر ليست دار حرب بل هي ما تزال دار إسلام ما دام العدو الكافر قد تعهّد بترك المسلمين يقومون بأمر دينهم. وليس عليهم أن يتبعوا الأمير ولا أن يشايعوا أي مجاهد أو مهدي منتظر ، يُعلن أنه رجل الساعة جاء لطرد الكافرين .(وقد حمل هذه الفتوى ليون روش ومحمد التجاني إلى علماء القيروان والأزهر والحرم المكي واستطاعوا أن يظفروا بتوقيع العلماء هناك أيضًا)!!!!!!
لقد خذل أولئك العلماء الأمير في جهاده وأثّروا في حركته ، ربما أكثر مما أثّرت فيه لا مبالاة سلاطين آل عثمان أو سيوف سلطان فاس . وقد قال أحد الباحثين الفرنسيين المتفقهين في شؤون الاستعمار :"وقد أدّت هذه الوثيقة (الفتوى) في وقتها أكبر خدمة لتأسيس احتلالنا للجزائر")).انتهى [انظر (الطرق الصوفية الإسلامية) لـ ديبون وكو بولاني .الحركة الوطنية الجزائرية ص275ـ276]
((وراسل الأميرُ علماءَ الجزائر ورجال الطرق الصوفية فيها يطلب منهم دعوة الناس للجهاد وإجابة دواعي الشرع واستخدام نفوذهم الروحي عند السكان من أجل مصلحة الوطن والدين . وقد عيّن منهم الكثير في وظائف دولته وجعلهم الأمناء على مصير دولته في أغلب الأحيان وقد صدق معه بعضهم إلى آخر رمق . ولكن بعضهم تآمروا عليه وحاربوه أو لم يفهموا مهمّته أو تغلّبت عليهم الأنانية وحب المصالح الدنيوية ، بل إن بعضهم قد خان الله ورسوله في ربطه علاقات ودّية مع العدو وشاركه كبح حركة الجهاد الشعبية))[ المصدر السابق ص276ـ277]
((وقد أعلن الحاج علي شيخ التجانية بـ (تماسين) سنة 1844م عند احتلال (بسكرة) بقيادة الدوق دومال ، أنّ ذلك من قضاء الله ، ونَصَحَ بعدم التعرض للفرنسيين))[المصدر السابق ص420]
((إنّ احتلال الفرنسيين لـ "بسكرة" و"الأغواط" و"عين ماضي" كان بمساعدة الطريقة التجانية)) [المصدر السابق ص288]
وبسبب هذه الأجواء الخرافية والمنحرفة والمنبطحة أمام شهوات المال والسلطة استطاع المتربِّصون بالجزائر أن يجدوا لأنفسهم المُعين الرخيص الذي سيمكنهم من احتلالها والبقاء فيها ، وكما مرّ معنا من قبل فإن شيخ الطريقة التيجانية كان يتعامل مع فرنسا ويوصي أتباعه بها خيرًا من قبل أن تطأ جيوشها الجزائر ، وآخر يمنع من التعرض للفرنسيين لأنهم أهل ذمّة بزعمه ، وآخر يقول للناس إنّ الأمير عبد القادر خارجي! خرج على ولاة الأمر الفرنسيس!! ، وقديمًا كان البوني يمنع من الثورة على الظلمة والمعتدين ، وهكذا ..
وصحيح أن الأمير عبد القادر صوفيّ المشرب ومن أسرة متصوّفة ، حال كل الناس في تلك الحقبة، إلاّ أنهم لم يكونوا من ذلك الصنف المنحرف الذين ضاعت عندهم المبادئ الإسلامية الأساسية ، بل إنهم كانوا منضبطين بالفقه والشريعة . ومعهدُهم ، معهد القيطنة أكبر شاهد على ذلك ، فقد كانوا يدرِّسون فيه علوم القرآن واللغة والفقه وكتب الحديث ، وهذه رسائلهم ومخطوطاتهم كلها تدل على محاربتهم للغناء الصوفي ولمجالس الإنشاد والحضرات (الرقص الصوفي) ، بل إنّ السيد محيي الدين الحسني والد الأمير عبد القادر لما جاء إليه محمد بن الشريف البربري الدرقاوي وتكلّم بكلام فيه شطحٌ صوفيّ ما كان منه إلاّ أن استتابه وأمر بتأديبه، كما ينص عليه الفقه المالكي [انظر (تحفة الزائر) لمحمد باشا 1/75] . ومن الأدلّة على انضباطهم وعدم انحرافهم كباقي المتصوفة ، أنّ جميع الكتب التي ألّفت في فضح الزائغين من المتصوفة وعددت أسماء شيوخهم لم تذكر ولم تتعرض لذكر أحد من أسرة الأمير وكلهم كانوا من أهل العلم وفيهم متصوفة ، ولكنّ أحدًا لم يصفهم بالمشعوذين أو المدجلين ، ولم يسجل عليهم التاريخ أيّ تحالف مع الطغاة والمجرمين ، وبالمقابل فإن المؤرخين عندما يذكرون الشيوخ الصادقين وأهل العلم العاملين ، نجدهم يعدّون الحاج مصطفى جدّ الأمير عبد القادر وابنه السيد محيي الدين من علماء الوقت وصلحائه وممن ساهم في نشر العلم الصحيح . [تاريخ الجزائر الثقافي لسعد الله 1/520]

ومن الأدلة أيضًا ، أن الناس فور وقوع الحادث الجلل واقتحام جيوش الفرنسيين لأرض الجزائر أسرعوا والتفوا حول السيد محيي الدين وأسرته وبايعوه لعلمهم بصدقه وتمسّكه بالشرع الحنيف واستقامته على أحكام الشريعة ، بخلاف الكثير من شيوخ الطرق الذين أسرعوا وانضموا إلى فرنسة وتحالفوا معها على السيد محيي الدين وولده الأمير عبد القادر!

وهذا الأمير عبد القادر يعاني من جيوش المتصوفة المنحرفين ومن جيوش الخونة الخارجين أكثر مما عاناه من جيوش فرنسا!! وبسبب أولئك الطرقيين المنحرفين استطاعت فرنسة أن تبقى في الجزائر أكثر من [130]سنة! ولمّا قامت الثورة الجزائريّة كانت الطرق الصوفية أحد أهم العوائق في وجهها (إلاّ القليل ممن رحم الله) وهذا شيخ الطريق العليوية يأمر أتباعه باغتيال الشيخ المجاهد عبد الحميد بن باديس أكثر من مرّة ولكن الله أنجاه والحمد لله!
((إن زعيم الطريقة "الطيبية" في المغرب كان من أوائل المُدجّنين في التسعينيات من القرن الماضي (1890) ، ولم يكتف الاستعمار باستخدامه في أغراضه التوسعيّة بل زوّجه من امرأة أوربية وجعل منه مُخدِّراً للعامّة))[الحركة الوطنية الجزائرية ص295]
وللأمانة أقول لقد تحدّث الأستاذ أبو القاسم سعد الله عن دور الطرق الصوفية في التاريخ الإسلامي وبيّن أنهم لعبوا أدوارًا إيجابيّة زمن الأزمات ، ومما قاله : ((وكان الحاج السعدي ومحيي الدين والبركاني وأحمد الطيب بن سالم مِنْ أوائل الذين رموا بعمامة التصوف ولبسوا خوذة الجهاد ، رغم أنهم من زوايا معروفة في نواحيهم)) إلى أن قال ((لم يفهم زعماء التجانية عندئذ دورَ الطرق الصوفية في التاريخ الإسلامي ، وهو دورٌ قلنا أنه إيجابي زمنَ الأزمات وروحي زمن الازدهار الإسلامي . وقد كانت الجزائر (والإسلام) في أعنف الأزمة خلال العقدين الأولين من الاحتلال ، فإذا بمعظم الطرق الصوفية تتحرك في الاتجاه التاريخي المذكور إلاّ التجانية والحنصالية والعيساوية ... فقد رأت غير ذلك)).انتهى[الحركة الوطنيةص301]
ولما تحدّث الدكتور سعد الله عن الأُسر الجزائريّة التي قاومت الغزو الفكري والديني ، رغم عملية الفرنسة التي عرفتها الجزائر خلال القرن الماضي قال: ((ومن تلك العائلات خرجت المعارضة الثقافية والسياسية للاستعمار الفرنسي في القرن العشرين، مثل عائلة ابن باديس ،والأمير عبد القادر ،وابن سماية، وابن جلول ،الخ . ونفس الشيء يقال عن عائلات الطرق الصوفية أيضًا)).انتهى[الحركة الوطنية ص254]

إذن فرنسا دمّرت معهد القيطنة وزاويتها ومسجدها لأنّها تابعة للأمير عبد القادر ، وأمّا زاوية التيجاني وأمثاله فبقيت!
وفرنسا تشوه صورة الأمير عبد القادر الذي حاربها وتصفه بالصديق والماسوني ، في حين تسكت عن العميل الحقيقي والصديق الحقيقي التيجاني!!
وخطبة التيجاني التي نقلتها لكم كانت بعد وفاة الأمير عبد القادر ، وقد وصفه فيها بأنّه العدو الأكبر لفرنسا ، وهذا يدلكم على حال الأمير الحقيقيّة التي مات عليها ، وأنه كان يُنظر إليه على أنه عدو لفرنسا لا صديق!!
فالذي يريد أن يخوض في الحديث عن الرجال وتصنيفهم ، فإنَّ العدل والإنصاف يحتّمان عليه توخّي الدقّة والانضباط في وضع الأحكام والأوصاف ، لا أن يُطلق الكلام هكذا على عواهنه . فلا يجوز أن يُجرَحَ رجلٌ ما في عقيدته وعرضه وانتمائه لدينه وأمّته ، لمجرّد أنه صوفي أو سالك لإحدى الطرق الصوفية! ولا يجوز إلصاق أي انحراف خطير به دون دليل واضح ، ولا يجوز اتّهامه بكل ما صدر من بعض المارقين أوالمتفلسفين من الصوفية! لأجل أنه صوفي .
وخصوصًا عندما نتحدث عن تلك العصور السالفة التي كان جلّ الناس ومعظمهم ، يغلب عليهم التصوف وأخذ الطريقة ، ونكاد لا نجد في تلك الأزمان أحدًا إلاّ وهو يفتخر بطريقته وأورادها وولاية شيوخها ، سواء كان من عامّة الناس أو من علمائهم أو حكّامهم ، وكذلك تجدهم يعظّمون كل من قيل فيه أنّه وليّ وذلك من باب الطاعة وتوقير أولياء الله ؛ هذا هو الطابع العام للمسلمين في القرون التي حكمت فيها الدولة العثمانية المرسّخة للتصوف (من القرن العاشر إلى بدايات القرن الرابع عشر الهجري)، والعلماء الذين تصدّوا لبيان انحرافات المتصوّفة وضلالاتهم في ذلك الوقت ، كانوا من الصوفيّة! ومن المنتمين لبعض الطرق كالشاذلية أو القادرية، فهذا الشيخ الفقيه عبد الرحمن الأخضري صاحب (السلّم المنورق) ينظم أرجوزة طويلة جدًّا(346بيتًا) يهاجم فيها جهال المتصوفة ويفضح ضلالاتهم وبدعهم ، مع أنه كان شاذليًا!
جاء فيها
:



والرقصُ والصراخ والـتصفيـق *** عــمداً بذكـــر اللـــه لا يليـق
وإنـــما المطلوبُ في الأذكــــارِ *** الــــذكرُ بالــخُشوع والـوقارِ
فــقد رأينـا فرقــةً إنْ ذَكَـــروا *** تَبَدَّعـــوا وربّمــا قد كـفـروا
وفعلـوا في الذكر فـعلاً منكراً *** صعبًا فجاهدهم جهادًا أكبرا
خلّوا من اسم الــله حرف الهاء *** فألحدوا في أعظم الأســماء
لـــقد أتوا واللــــه شـيئـــاً إدّاً *** تخرمنـــــه الـشامخات هداً
والألف المحذوف قبل الهــــاء *** قد أسقطوه وهـو ذو إخفـاء
وزعمـــوا أن لـــهم أحــــوالا *** وأنــــهم قد بلــغوا الكمالا
والقوم لا يدرون ما الأحـــوال *** فكـــونها لمثلــــهم محــال
حاشا بساط الــقدس والكمال *** تـطــــؤه حوافر الــجهــال
والجاهلون كالحمير الموكفــه *** والعارفـــون سادة مشرفـــة
وقـال بعض السادة الــمتبعـــة *** في رجز يهجو به المبتدعــة
ويذكـــــرون اللــــه بالـتَّغْبِير *** ويشْطَحون الشَّـطح كالحمـير
وينبحـــــون النبح كالكــلاب *** طَريقُهم ليست على الصَّواب
وليس فيهــم من فتى مـــطيع *** فـلعنة اللــــه علـى الجميـع
قــد ادَّعــــــوا مراتباً جليلـة *** والشـرع قد تجنَّـبوا سبيلـــه
قد نبذوا شرعــة الرســـــولِ *** والقوم قد حادوا عـن السبيلِ
لم يدخلــــوا دائرة الــحقيقة *** كــــــلا ولا دائـرة ا لطريقـة
لم يقتدوا بسيـد الأنــــــــام *** فخرجوا عـن ملَّــة الإســلام
لم يدخلوا دائرة الشريعــــة *** وأولعـــــوا ببدعٍ شنيعـــة
لم يعملوا بمقتضى الكتـاب *** وسنَّةِ الهادي إلــى الصَّـواب
قــــد مَلَكَت قلوبَـهم أوهام *** فالـــــقوم إبليـس لـهم إمـام

[انظرها في مجموعة الرسائل المنيرية الجزء الرابع]

وكذلك الشيخ عبد الكريم الفكون ، وغيرهم كثير ، ومرَّ معنا آنفًا كيف كان السيد محيي الدين القادري والد الأمير ، يستتيب أدعياء الصوفية إذا صدر منهم ما يخالف الاعتقاد الصحيح .
وليس من العلم في شيء ، ولا من الإنصاف ، أن ننظر إلى أهل تلك الأزمان بمنظار اليوم ، فنقيّمهم ونصنّفهم بناءً على ما استقرَّ في عالم اليوم ، ففي هذا العصر منَّ الله على أمّة الإسلام برجالٍ جدَّدوا لها أمر دينها ، ونشروا العلم الصحيح ، وساعدهم في ذلك النهضة العامّة وانتشار التعليم ووسائله ، فكثرت الكتب المطبوعة من مختلف العلوم : التفاسير ، والفتاوى ، والأصول ، والفقه ، وكتب الحديث وشروحها ، في حين أنه لم يكن يتيسّر لكثير من أفراد الأمّة في العصور السالفة الحصول على نسخة من كتابها العزيز القرآن!!
فارتفع عن الأمّة الجهلُ ، وساد العلم ، وارتقى التفكير ، وصار الذين كانوا بالأمس يؤمنون ببعض الأساطير والخرافات ، ينبذونها ويأنفون من قبولها ؛ وصار الذين كانوا بالأمس يتكلّفون تأويل كلام الفلاسفة ويحملونه على محامل حسنة ويعدّون ذلك من أفضل القُرَب وأعلى أبواب العلم ، يرفضونه وينهون عن قراءته ونشره!

وبعد أن وصفَ الأخ محمد المبارك الأمير بأنه يقدّس ابن عربي ، أتى بهذه القصّة فقال : ((و قد تواتر عنه أنه كان يشتري كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن قيم الجوزية بأغلى الأثمان ليحرقها ، و ذلك أنهم كانوا يفتون بكفر ابن عربي ، كما يؤججون روح الجهاد في الشارع المسلم .بل كان يشتري جميع ما صُنِّف في الرد على ابن عربي ثم يتلفه)).انتهى

يقول الكاتب إنه قد تواتر أن الأمير كان يشتري كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم بأغلى الأثمان ثم يحرقها!!
ولعلّه من المناسب أن أُذكّر أخي الكاتب بشروط تواتر الخبر
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح النخبة متحدثًا عن الخبر: ((فإذا جمع هذه الشروط الأربعة وهي :
1ـ عددٌ كثير أحالت العادة تواطؤهم أو توافقهم على الكذب.
2ـ رووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء .
3ـ وكان مستندَ انْتِهائِهم الحِسُّ .(أي الأمر المُشاهد أو المسموع)
4ـ وانضاف إلى ذلك أن يصحب خبرَهم إفادةُ العلم لسامعه. (أي العلم اليقيني لا العقلي)
فهذا هو المتواتر)).انتهى[نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر ص39]

فأين هذا الخبر الذي ساقه الكاتب من هذه الشروط ، بل أين هو من شرط واحد منها ، بل أين هو هذا الخبر أصلاً؟؟
وأقول : لماذا المجازفة في الكلام والتهويل ، والقضية لا يوجد ما يساعد على ثبوتها.
ومع ذلك سأتجاوز مسألة الزعم بتواتر هذا الخبر ، وسأرضى بوجود خبر آحاد صحيح يثبتها.
وأنا أُطالب الأخ الكاتب أن يأتيني بهذا الخبر ، وهذا ليس طلبًا عاديًّا ، وإنما هو فيصلٌ في المسألة!!
وأذكّر بأن رواية الشيخ محمد نصيف التي يعتمد عليها البعض ـ على نكارتها وضعفها ـ ليس فيها ذكر ابن تيمية ولا ابن القيم لا من قريب ولا من بعيد!!
وأدهى من ذلك أن الكاتب علَّل ذلك بأنهما كانا يكفّران ابن عربي ويؤججان روح الجهاد في الشارع المسلم!!!
أولاً ؛أنا أطالب الكاتب بإيراد النقول التي صرّح فيها الإمامان ابن تيمية وابن القيم بتكفير شخص ابن عربي!!
وثانيًا ؛هل نسي الكاتب أنّ الأمير عبد القادر كان قد قاد الجهاد في سبيل الله مدّة 17 عامًا ، وتابع أبناؤه من بعده الجهاد في سبيل الله فهذا ابنه "عبد المالك" يستشهد في المعارك مع الإسبان لتحرير المغرب ، وهذا ابنه "علي" يجاهدُ مع إخوانه في ليبيا الجيوشَ الإيطالية ، وهذا ابنه "عمر" يشنقه جمال باشا السفاح لأنه كان يقف معارضًا لسياسة التتريك ومحو اللسان العربي وينتقد جمعية الاتحاد والترقي وجماعة حزب تركيا الفتاة ، وهذا حفيده "عبد القادر بن علي" يغتاله لورانس البريطاني برصاصات وهو على فرسه بعد المغرب في دمشق ، وما ذلك إلاّ لأنّه كان يقف بالمرصاد لتحركات الإنكليز الاستعماريّة .
فكيف ساغ للكاتب أن يجعل بث روح الجهاد في المسلمين من الأمور التي تُسخط الأمير عبد القادر؟!
ثم ختم كلامه بقوله : ((بل كان يشتري جميع ما صُنِّف في الرد على ابن عربي ثم يتلفه)).انتهى
وقد بينتُ في الحلقة الأولى من ردّي عدم صحّة هذا الكلام من أصله . فحبّذا الرجوع إليه .





والحمد لله رب العالمين
خلدون بن مكي الحسني


للبحث صِلَة إن شاء الله


*********************
([1])كلمة لاتينية بمعنى الدعاية
 
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city

بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة الثامنة

انتقل الأخ محمد مبارك في مقاله (فك الشفرة) بعد كل تلك المقدمات عن تصوف الأمير وتقديس ابن عربي وغيره ، إلى الحديث عن ابن عربي ذاته . ولا يهمني الآن ما ذكره الأخ الكاتب عن ابن عربي فليس هو موضوع بحثي ؛ وكلُّ كلامٍ صدر من ابن عربي أو غيره ، فيه مخالفة للشريعة أو استخفاف بأصول الدين وقطعيّاته فهو مردود ومرفوض ، وأما شخص ابن عربي فقد تحدّث عنه علماء الإسلام الأثبات المعاصرين له أمثال الإمام العز ابن عبد السلام ، ومن جاء بعدهم ، وقد أوردتُ بعضًا من كلامهم في كتابي [إلى أين أيها الحبيب الجفري؟!]، ولكن الذي يهمني هو النتيجة التي خرج بها الكاتب بعد حديثه عن ابن عربي .
لقد استنتج أن عقيدة وحدة الوجود عند ابن عربي تصحح عقيدة وحدة الأديان التي يكثر الحديث عنها اليوم وتتلاقى مع الماسونية!
وطبعًا هذا كلام غير دقيق . والكاتب لم يفرّق بين هذه المسميات في مقاله ، لذلك نجد أنها متداخلة، والقارئ سيفهم أن الحلول يقابل وحدة الوجود ، ووحدة الوجود تقابل الماسونية ، والماسونية تقابل وحدة الأديان ، ووحدة الأديان تقابل وحدة الوجود!
نعم إنّ بعض هذه المسميات يتقاطع مع بعضها الآخر في جزء من الأجزاء من الناحية الفلسفية ولكن ليس ضمن المفاهيم المستقرّة اليوم والتي يجري التعامل مع تلك المسميات وفقًا لها.
يقول الكاتب: ((ونظرية وحدة الوجود تقول بأن الله عز و جل موجود ـ و العياذ بالله ـ في كل مكان ، و بذلك تصحِّح نظرية وحدة الأديان الذي أسماه ابن عربي (دين الحب) أيما تصحيح ، بحيث تنضوي تحته كل عقيدة)).انتهى
تعريف وحدة الوجود عند الكاتب غير دقيق! وما ذكره هو عقيدة ومذهب الجهميّة!
وأنا لا أريد الخوض في تفاصيل هذا الموضوع حتى لا نشتت القرّاء ولكن سأنبّه على أشياء منه .
أولاً ، الحلول: ((مذهبٌ يعتقد أصحابه أنّ الله تعالى حالٌّ في كل شيء ، وفي كل جزء من كل شيء متحدٌ به ، حتى صار يصح أن يطلق على كل شيء أنه الله ، تغليبًا للاهوت على الناسوت.
والعقيدة الحلولية نجدها عند فرقة من المتصوّفة ، وهي ليس وقفًا عليهم ، وإنما لها جذورها في الديانات المجوسية والهندية واليهودية والنصرانيّة . فاليعاقبة ، من النصارى القائلين بحلول الله سبحانه في جسد المسيح عليه السلام:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]
وعقيدة الحلول الموجودة عند المتصوفة تخالف المعتقدات الإسلامية ؛ لأنهم يقصدون بها أن روح الله تعالى حلّت في بعض الأجسام التي اصطفاها واختارها ، فانقلبت هذه الأجسام البشرية إلى آلهة تسير على الأرض وتعيش بين الناس.
أشهر القائلين بالحلول (الحلاّج) ، وقد شرح عقيدة الحلول بقوله:"مَنْ هذَّبَ نفسه في الطاعة ، وصبر على اللذات والشهوات ، ارتقى إلى مقام المقرّبين ، ثم لا يزال يصفو ويرتقي في درجات المصافاة حتى يصفو عن البشرية ، فإذا لم يبق فيه من البشرية حظّ حلَّ فيه روح الإله الذي حلَّ في عيسى ابن مريم ، ولم يُرِدْ حينئذ شيئًا إلاّ كان كما أراد ، وكان جميع فعله فعل الله تعالى"
وكذلك (أبو يزيد البسطامي) ، فقد روي عنه أنه دخل مدينة فتبعه فيها خلقٌ كثير ، فالتفت إليهم وقال :{إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدون}. فقال الناس: "جُنَّ أبو يزيد" وتركوه.
وتُشبه عقيدة الحلول عند المتصوفة عقيدة التجلّي ، إذ يكون فيها تجلي الذات الإلهية باسمٍ أو صفة. يقول (عبد الكريم الجيلي):"ومنهم من تجلّى الله عليه بصفة السمع ، فيسمع نُطقَ الجمادات والنباتات والحيوانات وكلام الملائكة واختلاف اللغات... وفي هذا التجلّي سمعتُ علم الرحمانية من الرحمن ، فتعلمت قراءة القرآن ، فكنتُ الرطل وكان الميزان ، وهذا لا يفهمه إلاّ أهل القرآن"
من أشهر الفرق القائلة بالحلول ، الحلاّجيّة والعذاقرة ، إذ تعتقد الأولى أنّ روح الله حلّت في الحلاّج، والأخرى أنها حلّت في محمد بن السلمقاني الملقّب بأبي العذاقرة.
وقد أفتى الفقهاء بكفر هذه الفرق ، وقالوا إنّ غايتها إفساد عقيدة التوحيد عند المسلمين ، فالله مُنَزَّهٌ عن أن يحلَّ بشيء أو يحل به شيء)).انتهى[الموسوعة الإسلامية الميسّرة 5/936]


ثانيًا ؛ إنّ وحدة الوجود: (مذهب فلسفي يوحِّد بين الله والعالم ،ولا يُقِر إلاّ بوجود واحد هو الله ، وكل ما عداه أعراضٌ له . وقد نشأت هذه الفكرة عن أصل ديني صدر عن البراهمة ، وعن آراء علميّة ترمي إلى تفسير التغير والثبوت في العالم ، وقد قال هذا إكسانوفان والرّواقيون ، وظهر في الأفلاطونيّة الحديثة والفلسفة الحديثة إذ مَثّله سبينوزا ، وتجلّت آثاره في مثاليّة نيتشه وهيغل.
أمّا المسلمون فقد ظهر هذا المذهب بتوضيح جديد عندهم ، ذكره الشيخ محيي الدين ابن عربي وابن سبعين وسواهما ، وقد حاولوا شرحه بما لا يناقض عقيدتهم ، فصعب الأمر ، ووقعوا في إشكالات عجزوا عن تأييدها . ولذا جاء غير هؤلاء ليتحدّث عن وحدة الشهود بديلاً عن وحدة الوجود ، بأن يُشاهد العارف هذه الحقيقة (وحدة الوجود) في ذات الله سبحانه وتعالى ، واتفق الجميع على ضرورة التركيز على وحدة المعبود ، وهذا الأسلم والأوضح ، وقد دعا إلى هذا الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام)).انتهى[الموسوعة الإسلاميّة الميسّرة 10/2194]
وأقول: إن وحدة الوجود هي عقيدة ونظرية ظهرت قبل الإسلام وكان يقول بها كثير من الفلاسفة ، والمصيبة الكبرى أن الذين خاضوا في الفلسفة من الصوفية اعتمدوا هذه النظرية . وبدأت هذه النظرية عندما ظنّ الفلاسفة أن الإله ـ الذي أثبتوا وحدانيّته بدايةً ـ لمّا أراد أن يوجد الخلق أوجَدَه من ذاته أي فصله عن ذاته ، فالخلق كلّه جزء من الإله!! وهكذا راحت تكبر هذه النظرية وتحوّل الفلاسفة المثبتون للوحدانية بالأمس إلى ملاحدة ومشركين . وهذه النظرية لا ترى وجودًا لشيء اسمه أديان أصلاً .فهي لا تثبت ربًا ولا تثبت عبدًا فالكل واحد!! (والعياذ بالله)


ثالثًا ، وأما وحدة الأديان فالمعروف أن أصحاب هذه الدعوة اليوم يزعمون أنّ جميع الأديان متفقة على الجوهر والكل يعبد الإله الواحد ، فلا داعي للتصادم بين أهل تلك الأديان ، وعليهم أن يتعايشوا وينسوا الفوارق بينهم ليحيوا بسلام. وهم لا ينطلقون من مفهوم وحدة الوجود أبدًا ، وأصحاب هذه الدعوة اليوم يتمثلون في بعض الجمعيات الاجتماعية والإنسانية الموجودة في أوربة.


رابعًا ، إن وحدة الوجود ووحدة الأديان لا علاقة لها بالحلول والاتحاد. الذي هو حلول الإله في مخلوقاته واتحاده معها! (عياذًا بالله)


خامسًا ، إنّ الماسونية التي اتخذ المجمع الفقهي الإسلامي قراره الشرعي حولها في دورته 15/7/1978م =10/شعبان/1398هـ ، كما جاء في البند السابع لقرار المجمع هي:"في أصلها وأساس تنظيمها يهودية الجذور ، ويهودية الإدارة العليا العالمية السرية ، وصهيونية النشاط".انتهى
والكل بات يعلم اليوم أنها دعوة لمحو الدين الإسلامي والديانة المسيحية وجعل الديانة اليهودية هي الوحيدة التي تحكم العالم ، فالشعب اليهودي هو الذي يمثل الإنسان الكامل وهو الوحيد الذي يستحق الحياة ، وأما ما سواه فهم خدم أو بهائم! ولذلك هم يسعون لإعادة بناء هيكل سليمان فوق كامل المسجد الأقصى. إذن فهم لا يقولون بوحدة الأديان أبدًا ، ولا شأن لهم بوحدة الوجود ، وإنما هم يهودٌ فحسب يؤمنون بكتبهم التي وضعوها وبنبوآتهم ، وينتظرون مليكهم الأعور الدجال! ومن هذه الحيثية (أي الديانة اليهودية) يكون لعقيدة الحلول مدخلٌ في الماسونية ، لا لكونها تدعوا للقضاء على الأديان الأخرى وإنما لأن العقيدة اليهودية فيها مفهوم حلول الرب في العبد!
هذه أهم التعاريف باختصار وإجمال.
ولنرجع إلى ما يقوله الكاتب :"و بالتالي فإن الوجودية والماسونية يدوران في فلكٍ واحد ".انتهى
لقد أورد الكاتب بدايةً خلال حديثه عن ابن عربي أقوالاً له تثبت اعتقاده بوحدة الوجود ، ثم استنتج أن وحدة الوجود والماسونية يدوران في فلك واحد .
وقد تبيّن لكم الفرق الكبير بين نظرية وحدة الوجود وبين الماسونية ، فالربط بينهما بعيد وغير مقبول!
يقول الكاتب : ((و بالتالي فإن الوجودية و الماسونية يدوران في فلكٍ واحد ، و لذلك لم يكُن بِدعاً من الرأي أن ينتهج الأمير الخط الماسوني بعد المذهب الوحدوي لكونه بذلك لم يخرج عن نفس المسار ، و إنَّما انتقل من مدار إلى مدار)).انتهى
إن طريقة إثبات التُّهم بالاستدلال النظري مرفوضة ، فكيف إذا كان هذا الاستدلال غير صحيح؟!
وكان الأولى بالكاتب أن يبرهن على دعوى انتهاج الأمير للمذهب الوحدوي ، وأن يبرهن على انضمام الأمير إلى الماسونية ، ثم بعد ذلك يتابع استنتاجاته!
مع العلم أنّ الطريقة التي يتّبعها الأخ الكاتب في حديثه عن الأمير إنما هي طريقة وضع النظريات ، والاستدلال لها بالظنون والأشياء البعيدة أو بكلام غير ثابت ، ثم يجعلها من الثوابت المبرهن عليها!!!
وهذا شيء لا يمت للدراسات العلمية بصلة عمومًا، فكيف إذا كان الموضوع يتعلّق بإطلاق حكم الكفر والردة على رجل مسلم مشهود له بالعلم والتديّن والجهاد؟!!


ثم قال الكاتب الأخ محمد المبارك :"وقد يقال أن ناحية التصوف كانت ناحية فلسفية بحتة عند الأمير ولكن ذلك ليس بصحيح ، فنجد أن الجزائري يعتقد بمخاريق وكرامات الصوفية".انتهى
إن رأي الكثير من الأساتذة المتخصصين والدارسين لفكر الأمير عبد القادر هو أنّ كلام الأمير في مسائل التصوف التنظيري كان من ناحية فلسفية فحسب ، وذلك لأنّه كان ملتزمًا بالفتوى على المذهب المالكي ، ولم يوجد في سلوكه حتى موته أي مظهر من مظاهر اعتقاد تلك الفلسفات ، مثلما وُجد في سلوك غيره من أمثال ابن سبعين والتلمساني وابن هود الأندلسي وغيرهم ممن كانوا في زمن الأمير أيضًا وقد ذكرتُ سيرة أحدهم في الحلقات السابقة!!
ورأيُ أولئك الأساتذة ـ وهم من مشارب وأديان مختلفة ـ مبني على قواعد وأدلة وبراهين عرضوها في كتبهم ودراساتهم. ولكن الأخ محمد المبارك رفض هذا الرأي وقال عنه إنه غير صحيح دون أن يأتينا ببرهان أو دليل؟! وإنما اكتفى بقوله :" ولكن ذلك ليس بصحيح ، فنجد أن الجزائري يعتقد بمخاريق وكرامات الصوفية".انتهى!!
طبعًا هو يقصد خوارق وكرامات ، لأنّ المخاريق هي المناديل ، أو الخِرَق المفتولة ، أو السيوف ، أو السياط!!
وما أغرب هذا الاستدلال! هل الاعتقاد بالكرامات أو الخوارق التي قد تقع لبعض الصالحين ويجريها الله لهم أو على أيديهم هو الدليل على أنّ صاحب هذا الاعتقاد يكون ضرورة من القائلين بالفكر الصوفي المنحرف؟! إذن ما أكثرهم إذا لم نقل بأنهم جمهور المسلمين. وهذا كلام غير مقبول أن يُتّهم جمهور المسلمين بالانحراف لأجل الاعتقاد بالكرامات!
لقد ساق الأخ الكاتب قصّة يستدل بها على الكرامات والخوارق التي كان يعتقدها الأمير ، وهي قصّة وقوف الأمير عند قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم . روى الكاتب نقلاً عن النبهاني أنّ الأمير قال :"…لما بلغت المدينة طيبة ، وقفت تجاه الوجه الشريف بعد السلام عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى صاحبيه الذين شرفهم الله تعالى بمصاحبته ؛حياةً وبرزخًا ؛ وقلت : يارسول الله ، عبدك ببابك، يارسول الله ،كلبك بأعتابك (في المواقف كليمك!) ، يارسول الله ، نظرة منك تغنيني ، يارسول الله، عطفة منك تكفيني ، فسمعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول لي : ((أنت ولدي ، ومقبول عندي))، بهذه السجعة المباركة. وما عرفتُ هل المراد ولادة الصلب ،أو ولادة القلب ، والأمل من فضل الله أنهما مرادان معًا، فحمدتُ الله تعالى".انتهى النقل الذي أورده الكاتب. مع أنّ القصّة لم تنته ولها تتمة طويلة، سأكتفي بنقل الجزء المباشر لقوله فحمدتُ الله تعالى . قال الأمير :"ثمّ قلتُ في ذلك الموقف : اللهم حقق هذا السماع برؤية الشخص الشريف ، فإنّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضمِنَ العصمة في الرؤية فقال : ((من رآني فقد رأى الحق ، فإن الشيطان لا يتمثل بصورتي)). وما ضَمِنَ العصمة في سماع الكلام. ثم جلستُ تجاه القدمين الشريفين ، معتمدًا على حائط المسجد الشرقي ، أذكرُ الله تعالى فصعقت وغبت عن العالم وعن الأصوات المرتفعة في المسجد بالتلاوة والأذكار والأدعية وعن نفسي، فسمعتُ قائلاً يقول : هذا سيدنا التّهامي ، فرفعتُ بصري في حال الغيبة ؛ فاجتمع به بصري ، وهو خارج من شباك الحديد ، من جهة القدمين الشريفين . ثمّ تقدَّم إلى الشباك الآخر ، وخَرَقَه إلى جهتي؛ فرأيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فخمًا مفخّمًا بادنًا متماسكًا ، غيرَ أنّ شيبه الشريف أكثر، وحُمرة وجهه أشدّ مما ذكَرَه أصحاب الشمائل . فلمّا دنا منِّي ، رجعتُ إلى حسّي ، فحمدتُ الله تعالى".انتهى [المواقف1/16]
وهذه القصّة أوردها الأمير ضمن حديثه على قوله تعالى {وأمّا بنعمة ربّك فحدّث} ، وأنا لا أجد فيها شيئًا من الخوارق أو العجائب ، كل ما في الأمر أن الرجل دفعه شوقه وحبّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكلّم بتلك الكلمات أمام واجهة القبر الشريف ، فظنّ أنه سمع جوابًا ولكنّه لفقهه ومعرفته بأصول الدين أقرّ بأنّ هذا السماع قد يكون توهمًا أو شيطانيًا ، فقال :" اللهم حقق هذا السماع برؤية الشخص الشريف ، فإنّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضمِنَ العصمة في الرؤية فقال : ((من رآني فقد رأى الحق ، فإن الشيطان لا يتمثل بصورتي)). وما ضَمِنَ العصمة في سماع الكلام"
فهل هذا كلام الخرافيين أو أدعياء الكرامات؟
وبعد أن حصلت له الرؤية المناميّة لشخص النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نجده صادقًا مع نفسه ومع الآخرين عندما قال :" فرأيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فخمًا مفخّمًا بادنًا متماسكًا ، غيرَ أنّ شيبه الشريف أكثر، وحُمرة وجهه أشدّ مما ذكَرَه أصحاب الشمائل"
وهذا أيضًا دليل على علمه واطلاعه وصدقه .
وهذه القصّة لا تقدّم ولا تؤخّر وليس فيها أي مستند لمن يريد أن يثبت أن الفكر الصوفي للأمير هو على طريقة المنحرفين ، فضلاً عن جعلها حجة في رفض قول الباحثين إن الناحية الصوفية كانت عند الأمير ناحية فلسفية بحتة.
تنبيه : بعض المتسرّعين جعل من هذه القصّة دليلاً على ادّعاء الأمير للنسب الشريف! وهذا عجيب منهم فليس فيها ما يساعد على هذا الاستنتاج . وربما قالوا ذلك لعدم فهمهم المقصود من القصة. فنسب الأمير مشهور ومستفيض قبل هذه القصة بل وقبل ولادة الأمير ، فآباؤه وأجداده من المشاهير والكبراء في المغرب العربي ونسبهم معروف وهو من أثبت الأنساب وأشهرها ، فليس هناك ما يدفع الأمير لادعاء النسب .
ولو كان هذا المقصود لقال الأمير هذا دليلٌ على نسبي الشريف ، لكنه لم يفعل وإنما قال :" وما عرفتُ هل المراد ولادة الصلب ،أو ولادة القلب" والسبب أن ولادة الصلب معروفة ومتحققة ، والمهم عنده هو ولادة القلب ـ أي يكون بذلك وارثًا محمّديًا ـ ولصدقه وأمانته لم يتحكّم في تأويل الكلام وإنما أبقاه على إطلاقه وعمومه .


وأنا هنا أتعامل مع هذا القصص والأحوال بتجرّد وأضعها ضمن سياقها الصحيح وأشرحها ضمن مصطلح أهلها .
وماذا سيقول الأخ محمد المبارك عن الإمام ابن قدامة المقدسي الحنبلي (541ـ620هـ) فقد قال في كتابه الكبير "المغني" : ((وقال أحمد ، في رواية عبد الله ، عن يزيد بن قُسَيْط ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ما من أحد يسلم عليَّ عند قبري ، إلا ردَّ الله عليّ روحي ، حتى أرُدَّ عليه السلام) . قال : وإذا حج الذي لم يحجَّ قطُّ ـ يعني من غير طريق الشام ـ لا يأْخُذُ على طريق المدينة ، لأني أخاف أن يحدُثَ به حَدَثٌ ، فينبغي أن يقصد مكة من أقصر الطرق ، ولا يتشاغل بغيره .ويروى عن العتبي ، قال : كنت جالسًا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابيٌّ، فقال : السلام عليك يا رسول الله ، سمعتُ الله يقول :{ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابًا رحيمًا} وقد جئتك مستغفرًا لذنبي ، مستشفعًا بك إلى ربي ، ثم أنشأ يقول:



يا خيرَ من دُفِنَت بالقاعِ أعْظُمُهُ **** فطابَ مِنْ طيبهِنَّ القاعُ والأَكَمُ




نفسي الفداءُ لِقَبْرٍ أنت سَاكِنُه **** فيه العفافُ وفيه الجودُ والكَرَمُ


ثم انصرف الأعرابي ، فحَمَلَتْنِي عيني ، فنمتُ ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ، فقال : يا عُتبيُّ ، الْحَقِ الأعرابيَّ ، فبشِّرْهُ أن الله قد غفرَ له)).انتهى [المغني 5/465]، وقد أورد هذه القصّة أيضًا صاحب الشرح الكبير الإمام عبد الرحمن المقدسي الحنبلي (682هـ) 3/494 ؛ وكذلك الإمام ابن كثير في تفسيره .
فهل سيقول الكاتب عن هؤلاء الأئمّة أنهم يعتقدون بكرامات وخوارق الصوفية ، إذن فهم من المنحرفين أصحاب العقائد الباطلة؟!
مع العلم أنّ هؤلاء أوردوا هذه الحكاية معتقدين بها ، بدليل أن الإمام ابن قدامة قال خلال حديثه عن آداب زيارة القبر الشريف والأدعية التي يستحب ذكرها : ((اللهم إنك قلت وقولك الحق :{ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابًا رحيمًا} وقد أتيتك مستغفرًا من ذنوبي، مستشفعًا بك إلى ربي ، فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة ، كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللهم اجعله أول الشافعين ، وأنجح السائلين ، وأكرم الآخرين والأولين ، برحمتك يا أرحم الراحمين)).انتهى [المغني 5/467]
فما قول الأخ الكاتب؟ وأنا أسوق هذه القصّة لوجه التشابه مع قصة الأمير.


وماذا سيقول إذا قرأ قول عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل ؛ قال "سمعتُ أبي يقول : حججتُ خمس حجج منها ثنتين [راكبًا] وثلاثة ماشيًا ، أو ثنتين ماشيًا وثلاثة راكبًا ، فضللتُ الطريق في حجة ، وكنتُ ماشيًا فجعلتُ أقول : يا عباد الله دلّونا على الطريق ؛ فلم أزل أقول ذلك حتى وقعتُ على الطريق!!!، أو كما قال".انتهى [مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله ص245]


وماذا سيقول إذا قرأ كلام الإمام ابن القيّم؟ قال ابن القيّم : ((فصل: ومن الرُّقى التي ترُدُّ العين ما ذكر عن أبي عبد الله الساجي ، أنه كان في بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فَارِهة ، وكان في الرفقة رجلٌ عائن ، قَلَّما نظر إلى شيء إلا أتلفه ، فقيل لأبي عبد الله : احفَظْ ناقَتك من العائن ، فقال: ليس له إلى ناقتي سبيل ، فأُخْبِرَ العائِنُ بقوله ، فتحيَّن غيبة أبي عبد الله ، فجاء إلى رحْله ، فنظر إلى الناقة ، فاضطربت وسقطت ، فجاء أبو عبد الله فأُخْبِرَ أن العائنَ قد عانها ، وهي كما ترى ، فقال دلُّوني عليه ، فدُل ، فوقف عليه ، وقال: بسم الله ، حَبْسٌ حَابسٌ ، وحَجَرٌ يابِسٌ ، وشِهابٌ قابسٌ ، رَدَدْتُ عينَ العائن عليه ، وعلى أحبِّ الناس إليه!!! ، {فارجعِ البصرَ هل ترى من فُطور ، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير} فخرجتْ حدقتا العائن!!! ، وقامت الناقةُ لا بأس بها)).انتهى [زاد المعاد 4/174]
إنّ هذه القصص (وهناك الكثير من مثلها) أغرب بكثير من القصّة التي ساقها الأخ الكاتب عن الأمير ، وعلى طريقة الاستنتاج التي يعتمدها الكاتب يمكن للبعض أن يصف هؤلاء العلماء بالانحراف والاعتماد على الخرافة والأوهام ، وتبني عقائد باطلة!!
إنّ عدم قبول الكثير من العلماء لأمثال هذه القصص لم يحملهم على الطعن برواتها أو القائلين بها ، وإنما اكتفوا بنقدها وعدم الرضا بحجيتها ، مع الاعتذار للعلماء الذين احتجوا بها أو رووها.
وعلينا ملاحظة أنّ القصّة السالفة المروية عن الإمام أحمد سندها صحيح وهي في غاية الغرابة ، فمن يُنادي؟ وبمن يستعين؟ ومع ذلك لا نجد أحدًا يطعن في توحيد الإمام أحمد أو في معتقده لأجل هذه القصة.
والأغرب منها قصّة ابن القيّم رحمه الله ، فهي تشتمل على مخالفات شرعية إضافة إلى أسطوريتها وخرافيتها!! ومع ذلك فنحن نلتمس العذر للإمام وذلك من باب حسن الظن به ، ولدينه وعلمه.


والغرض من كل ما سبق أن الباحث الذي يريد أن يتكلّم في الرجال وفي التاريخ يجب عليه أن يلتزم منهجًا ثابتًا وميزانًا واحدًا ، وإذا كان من المسلمين فإنّ دينه يحتّم عليه ذلك لأنّ الدين هو تقوى الله وهو العدل والإنصاف ، فمن غير المقبول أن يطعن في رجل بسبب قصّة ما ، ولا يطعن بآخر يعتقد القصة نفسها. لأنه إذا كان الإنسان يتعامل مع الأشياء بعدل وتجرد بعيدًا عن التعصب والأهواء فإنّ حكمه سيبقى واحدًا لا يتغير مع تغير الأشخاص المحكوم عليهم.
فإمّا أن يكون الحكم منصرفًا إلى القصّة بحد ذاتها فيُقال عنها قصة باطلة أو غير صحيحة أو لا تجوز شرعًا ، دون التعرض للأشخاص المحتجين بها . وإما أن يُحكم على الأشخاص بسببها حكمًا واحد لا يتغيّر بتغيرهم.

والحمد لله ربّ العالمين
خلدون مكّي الحسني
للبحث صِلة إن شاء الله
 
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city



بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة التاسعة

والآن مع السبب الرابع الذي وضعه الأخ محمد مبارك كاتب (فك الشيفرة) لتعليل التحول في شخصية الأمير ؛ قال الكاتب :"حب الأمير للسلطة وبالتالي احتياجه الشديد للمال".انتهى



ثمّ نقلَ قول عبد الجليل التميمي : ((إن المتتبع لحياة الأمير عبد القادر بدمشق، سوف يثير انتباهه تكالب الأمير على اقتناء الدور والأراضي الفلاحية ، والحصول على المال مهما كانت الوسائل المتبعة في ذلك. ففي البداية أقرت الحكومة الفرنسية منح الأمير راتباً سنوياً بما قدره 15.000 فرنك فرنسي(كذا)، وقد بلغ مع السنين ما قدره 300.000 فرنك فرنسي وهو في ذلك الوقت مبلغ خيالي للغاية، بل يفوق ميزانيات كثير من المصالح الحكومية العثمانية ، ولسنا من السذاجة بحيث نعتقد أن ذلك الكرم الفرنسي إنما كان حُباًّ من الامبراطورية الفرنسية لشخص الأمير عبد القادر ، و تقديراً منها لجهاده ضد الفرنسييين ، دون أجندة عمل فرنسية كان الأمير ـ في المقابل ـ مطالبٌ (كذا) بتنفيذها بكلِّ دقَّة ، ولعلَّ تلك الأجندة قد أسفرت عنها المواقف الأميرية المتضامنة مع المصلحة الفرنسية "العليا" خلال ما سيمر بنا من الأحداث المتتالية!!!)).انتهى
(والأخ محمد المبارك ينقل كلام التميمي من كتاب الماسوني إسكندر شاهين ، فيما يبدو ، دون الإشارة إلى ذلك!! والله أعلم)



وأقول : مازال الأخ كاتب (فك الشفرة) يصر على وضع الأوهام التي في ذهنه بصورة عناوين ثم يحتار كيف يأتي بما يبرهن عليها!
فهاهو يعود لاتهام الأمير بأنه يحب السلطة ـ وهو اتهام لم يُسبق إليه ـ والعجيب أنه يستدل بكلام لآخرين ليس فيه أنّ الأمير يحب السلطة!!
وقد بيّنت سابقًا عدم حرص الأمير على تكبير وارده المالي ، وعدم سعيه للسلطة في الحلقات السابقة.


على كل حال ، إن عبد الجليل التميمي كاتب من هذا العصر فهو طبعًا لم يعاصر الأمير ولا أبناءه وهو في كثير مما كتب لم يكن متحريًا للحق ، وهو متحامل فيما يبدو على الأمير إلى درجة أنه يبالغ في تخيّلاته وتحليلاته المبنية على أسس باطلة وكتابات فرنسية زائفة ، بل إنّ الاتهامات التي وجهها للأمير لا وجود لها حتى في تلك الكتابات ، وأمَّا ألفاظه! فالقارئ يلمس تدنّيها!
وعلى كل حال إنّ وصف الأمير بأنه متكالب على شراء الأراضي والدور ، عجيب .
إن الأمير لم يكن مختلفًا عن غيره من أصحاب الأموال في عدد ما يملكه من عقارات ، بل إن بعض أثرياء الشام كانوا يملكون أكثر منه بكثير ، مع أنه يختلف عنهم في حجم مسؤولياته وأضيافه ومبرّاته!
وإنّ كثيرًا من الأراضي التي اشتراها إنما كان يهبها للذين رافقوه من الجزائر أو للمهاجرين الذين لحقوا به ، وبعضها كان لتأمين فرص العمل لهم ، وقد أوقف الكثير منها للجزائريين المهاجرين ، فمثلاً هناك قرية "الهوشة" في فلسطين اشتراها الأمير ووهبها للجزائريين هناك ، وكذلك الأمر في أطراف دمشق وغوطتها ، كما اشترى طاحونة (الإحدى عشريّة) وجعلها لتوفير حوائج الفقراء , وهكذا .
وإذا قارنا بين أملاك الأمير وأملاك كبار التجار والوجهاء في الشام لوجدناها قليلة ، فقد كان لبعضهم قرىً كاملةٌ وقصورٌ فارهة وأكياس مكدّسة من الذهب . فما بالك بالولاة العثمانيين والباشاوات؟
إنّ دار الأمير الكبيرة التي في زقاق النقيب بحي العمارة والمقرّ الرئيسي له يسميها البعض قصر الأمير! (ودور الأمير سمّيت قصورًا لأن ساكنها هو الأمير لا لأنها تشبه القصور) وبمقارنة بسيطة بينها وبين قصر أسعد باشا العظم الشهير بدمشق يتبيّن الفارق الكبير جدًا بينهما . فقصر الأمير لا يعدو أن يكون بيتًا كبيرًا واسعًا قياسًا إلى بيوت الطبقة المتوسطة في دمشق ، في حين أنّ قصر (العظم) هو قصر بكل معنى الكلمة ، فمساحته كبيرة جدًا وفيه حدائق كثيرة وساحات وباحات وبحيرات ماء متعددة وأجنحة وغرف وكله أقواس ومقرنصات مذهّبة وأسقف أخشبية موشّاة بالذهب والصدف ، واللوحات الفسيفسائية وغيرها .. يحتاج المرء ساعات طويلة حتى يتجول في أنحائه .وهو من المعالم المعمارية الأثرية في دمشق . وليس شيء من ذلك في دار الأمير.
وانظروا إلى طريقة التهويل التي اتبعها التميمي ، فهو يضاعف الأرقام من عند نفسه من (150.000) إلى (300.000) ثمّ يقول: ((وهو في ذلك الوقت مبلغ خيالي للغاية، بل يفوق ميزانيات كثير من المصالح الحكومية العثمانية)).انتهى
أرأيتم إلى التهويل! وحتى أبيّن لكم حجم تلك الأرقام ، أقول : لقد اشترى ميشال بوشناق ـالتاجر اليهودي الجزائري ـ حليةً من فرنسا بمبلغ (30.000) فرنك ، وباعها لباي قسنطينة بمبلغ (3.520.000) فرنك ، أي بربح يقرب من ثلاثة ملايين وربع المليون!!(وهذا في عصر الأمير عبد القادر) [المقاومة الجزائرية تحت لواء الأمير عبد القادر) لإسماعيل العربي ص8 ]
فإذا كان والي مدينة من مدن الجزائر يشتري حلية بملغ (3.520.000) دفعة واحدة ، فكيف ساغ للتميمي أن يزعم أن مبلغ (300.000) وهو أقل من عُشر ذلك المبلغ ، يفوق ميزانيات كثير من المصالح الحكوميّة العثمانيّة؟!
وفي الحقيقة إنّ ما ذكره التميمي غير صحيح أصلاً!
فقد فرضت فرنسا للأمير مبلغًا قدره (5.000) ليرة ذهبية فرنسية في السنة! وهي تساوي (100.000) فرنك ، ثمّ بعد سنوات ولمّا تبيّن للحكومة الفرنسية أن ذلك المبلغ لا يكفي لسدّ نفقات الأمير (الذي يُنفق على أسرته ومن لحق به من المهاجرين وبعض أهل الشام) ، زادوا المبلغ بالاتفاق مع السلطان العثماني ، فصار (7.500) ليرة ذهبية في السنة وهي تساوي (150.000) فرنك في السّنة ،وهذا آخر ما تلقّاه الأمير.
والتميمي قام بمضاعفة الرقم من (150.000) إلى (300.000) جهلاً منه أو لأغراض أخرى!
إذن الرقم الحقيقي والثابت في جميع المراجع المعتمدة هو (150.000) ؛ وكما بينتُ آنفاً فإنّ هذا الرقم ـ وإن كان كبيرًا ـ فهو ليس بالكبير جدًّا فضلاً عن أن يكون خياليًا كما يظن التميمي!
إنّ رجلاً واحدًا من رجال الكنيسة الفرنسية الذين أقاموا في الجزائر وهو (الأسقف ديبوش) كان يتقاضى راتبًا سنويًا قدره (25.000) فرنك! بصرف النظر عن واردات الكنيسة الخاصة . [الحركة الوطنية ص387]
ولكي تتضح الصورة أكثر أقول : لقد كان المرتّب الذي يتقاضاه خلفاء الأمير الثمانية في الجزائر أثناء حكم الأمير لها ، يبلغ (52.800) فرنك سنويًا ، هذا بصرف النظر عن التموين واللباس والنفقات المتفرقة .[انظر المقاومة الجزائرية ص220]
ثم يحاول التميمي أن يتحذلق فيقول :"ولسنا من السذاجة بحيث نعتقد أن ذلك الكرم الفرنسي إنما كان حُباًّ من الامبراطورية الفرنسية لشخص الأمير عبدالقادر ، و تقديراً منها لجهاده ضد الفرنسييين ، دون أجندة عمل فرنسية كان الأمير ـ في المقابل ـ مطالبٌ بتنفيذها بكلِّ دقَّة ،و لعلَّ تلك الأجندة قد أسفرت عنها المواقف الأميرية المتضامنة مع المصلحة الفرنسية "العليا" خلال ما سيمر بنا من الأحداث المتتالية !!!"


وأقول : صدق أبو الطيب عندما قال :


إذا ساء فِعْلُ المرء ساءت ظُنُونُه *** وصدَّق مـا يعتادُهُ مـن تَوَهُّمِ



وعادى مُحبّيه بقول عُدَاتـه *** وأصبح في ليلٍ من الشك مظلمِ



أيها الإخوة سأعرض لكم بعض الوقائع حتى يتضح لكم حجم تلك الأرقام وسبب دفعها .
بعد دخول القيادة الفرنسية إلى مدينة الجزائر سنة 1830م قامت بنهب خزينة المدينة وكان فيها ما مقداره (400.000.000) أربعمئة مليون فرنك فرنسي كما ذكرت ذلك المصادر الفرنسية [مذكرات شانكا رنييه] انظر (الحركة الوطنية الجزائرية لسعد الله ص22) .
ولكي تتوضح الصورة أكثر ، فإن الداي علي باشا الذي كان قد نقل مقر الحكم من قصر الجنينة إلى أعالي القصبة ، استعمل لنقل محفوظات الخزينة خمسين بغلاً كل ليلة طَوال خمسة عشر يومًا!!! [المرجع السابق ص21] .
وفي سنة واحدة كانت واردات الأوقاف الإسلامية التي اغتصبتها فرنسا في مدينة الجزائر العاصمة وحدها قد بلغت حسب إحصاءاتهم (1.035.914.25) فرنك!![انظر تابلو سنة 1842،ص298](الحركة الوطنية لسعد الله ص257) .
هذه مدينة واحدة فما بالكم بمدن الجزائر جميعها؟ بل وقراها ومزارعها . طبعًا هذه كانت أموالاً جاهزة ، ولكن فيما بعد توالت الغلال وثروات الجزائر لتصب في الخزينة الفرنسية وهي بالمليارات ، ((وكما صرّح الفرنسيون أنفسهم أنهم لم يقوموا بحملة سابقة في أي مكان مثل حملة الجزائر إذ إن الحملات الأخرى كانت تكلّفهم ـ ولو نجحوا فيها ـ أموالاً طائلة وخسائر مالية معتبرة، بينما حملة الجزائر قد فاضت على تعويض التكاليف))[ المرجع السابق ص21]
وإنّ أملاك أُسْرة الأمير عبد القادر في الجزائر كبيرة ، أضف إليها أملاك المهاجرين مع الأمير ، وقد استولت عليها وعلى غلالها وعائداتها الحكومة الفرنسية ، ومن ثَمَّ أحبَّ نابليون الثالث أن يعوّض الأمير ومن معه عن تلك الأملاك المغتصبة ، بعد أن سرّحوهم إلى بلاد الشام ، وذلك حتى يضمنوا لهم سبل العيش ولا يرجعوا إلى الجزائر!! فليس هذا من الكرم الفرنسي ولا من حب فرنسا للأمير، وكذلك ليس مقابل أي وظيفة تطلبها فرنسا من الأمير.
وأنا أطالب التميمي والأخ محمد مبارك أن يذكرا لنا أجندة العمل التي طلبت فرنسا من الأمير أن ينفذها بدقة!!! .. بزعمهم.
يقول العلاّمة جمال الدين القاسمي ، رحمه الله :((ثُم إنّ إخوة الأمير لمّا أطلقت فرنسة سراحهم من سجونها ، عادوا إلى الجزائر واستقرّوا في مدينة (عنّابة) على الساحل الجزائري الشرقي ، ورتّبَت لهم الحكومة الفرنسيّة المرتّبات الكافية ، ثمّ بدا للسيد محمد السعيد الأخ الأكبر للأمير أن يسيرَ إلى تونس ويستوطنها مع إخوته وأبنائه لوَفْرَة علمائها وفُضَلائها ، فكاتَبَ أحدَ أمرائها يستشيره ؛ فرحّبَ به ووَعَدَه أن يقوم بجليل شأنه ؛ فَعَرَضَ أمرَ الرِّحلَة على وكيل الفرنسيين في عنّابة ؛ فأُجيب بأنّه لا يُسرَّح ما لم يُسلِّم راتبه ؛ فأَجابَ بالتّسليم عن نفسه وإخوته ، فهيّأت فرنسا باخرةً ، ونقلته مع إخوته من عنّابة إلى الشام ، وأَلْحَقَتهم بأخيهم الأمير عبد القادر ، ورَفَضَت لهم سُكنى تونس إبعادًا لهم عن قارة المغرب كليًا ، خوفًا من إقبال العموم عليهم ، لِمَا لهذا البيت في المغرب من عِظم الشهرة وكبر الاعتقاد في نفوس العامة والخاصة ، فقضت سياستهم إلحاقهم بأخيهم الأمير ، فقدموا دمشق سنة 1273 هـ أي بعد قدوم الأمير عبد القادر بسنة)).انتهى[(طبقات مشاهير الدمشقيين) للعلاّمة القاسمي ص83]
فهل هذه المرتبات كانت أيضًا في مقابل تنفيذ أجندة فرنسيّة بدقة؟! وانظر كيف أنهم أرادوا التحول إلى تونس لوفرة العلماء هناك ، ولأجل ذلك تخلّوا عن تلك المرتبات (والتي هي تعويض عن أملاكهم التي اغتصبتها فرنسة) ، ومع ذلك أبعدتهم فرنسة إلى الشام خوفًا منهم!


ثمّ إن هذه المخصصات المالية بقيت مستمرة حتى بعد وفاة الأمير ، وكان أولاده الستة عشر وبعض إخوته يقبضونها وينفقونها على الأسرة والأتباع ، فهل هم برأي التميمي ينفذون الأجندة الفرنسية بدقّة لقاء هذا المرتب؟! وكان بعض أولاد الأمير يشغلون مناصب عليا في الدولة العثمانية (في مجلس الأعيان) كالأمير محيي الدين والأمير علي ، وعندما دخلت تركيا الحرب العالمية على الحلفاء (وفيهم فرنسا) كان أبناء الأمير يساندون تركيا في مواجهة فرنسة ، وكان الأمير عليّ يقوم بمهمّات سياسية وعسكرية لمصلحة الدولة العثمانية ، فعن أي أجندة عمل يتحدث التميمي؟!


يقول الكولونيل تشرشل في معرض حديثه عن المخصصات المالية التي يقبضها الأمير من الحكومة الفرنسية: ((..وعند التأمل في عادات عبد القادر يصبح هذا الدخل أكثر مما يحتاجه ، بل يصبح بذخًا ، وكان يمكنه أن يعيش عيشة أمير بهذه الثروة وينغمس في التباهي ، ولكنه كان خاضعًا لمبادئ أخرى . فعبد القادر الذي كان دائمًا معارضًا لإرضاء النفس قد نظر إلى هذا المرتّب الكبير كأمانة، لذلك قرر أن يأخذ منه ما هو ضروري لمصاريفه الخاصة ، وأن يصرف الباقي على الآخرين. فقد كرّس دخْلَه على تلبية حاجات كثير من أولئك الذين رفضوا بنبلٍ أن ينفصلوا عن مصيره ، بل إنّه كان قادرًا على أن يغمر بكرمه جهات أخرى . ولم يكد يحتفظ لنفسه ولعائلته بسوى النصف من ذلك المبلغ أما الباقي فقد وزّعه في شكل رواتب على قوّاده وأتباعه الذين كانوا في حاجة ماسة ، وفي شكل صدقات على الفقراء ، وهبات إلى المساجد ، وغير ذلك من الأغراض الخيرية ، كما أنه كان يصرف من دخله على أخويه وعائلتيهما)).انتهى [حياة الأمير ص274]
أقول : وهذا الكلام فيه إنصاف بخلاف كلام التميمي ، إلاّ أنه غير دقيق . أولاً للأمير أربعة إخوة في دمشق وليس اثنان. ثانيًا ما كان ينفقه الأمير شهريًا كمرتبات ثابتة للعلماء والمشايخ وأعمال الخير أكبر بكثير من إنفاقه على أسرته وموظفيه. وعندي وثيقة نادرة ، وهي المخطوط الخاص بالنفقات الشهرية للأمير ، وهو بخط كاتبه الخاص وفيه بيانات تفصيلية وبأسماء الأشخاص أيضًا تُثْبت ما أقول.


ويتابع الأخ كاتب (فك الشفرة) مسلسل الاتهامات فيقول :"و عندما قرر الأمير أن يقوم ببعض الإصلاحات على الدارين اللتين سلمتهما له الإدارة العثمانية في الشام ـ بعد أن قامت بتأثيثهما ـ ألحَّ الأمير لدى وزير خارجية فرنسا والسفير الفرنسي باستانبول للقيام بتدخلات لدى الحكومة العثمانية في تمليكه للدارين ، لأنهما محتاجان إلى الإصلاح والزيادة ولايمكن اصلاحهما قبل استملاكهما، ـ كما ألح على السفير نفسه للتوسط لدى الدولة العثمانية للحصول على مبلغ مالي من الحكومة العثمانية لذلك ، وقد قدمت له الدولة العثمانية مبلغاً قدره ألف بورسه ، أي 100.000 فرنك . وكان ذلك المبلغ يساوي ثلاثة أضعاف المبلغ الذي قرر أن يشتري به مسكنا".انتهى


وأقول : كُل هذا الكلام غير صحيح ، والمراجع التاريخيّة التي تحدثت عن أملاك الأمير في دمشق تذكر خلاف هذا الكلام. والكاتب لم يُبيّن مصدر هذا الكلام المتناقض!
إنّ الدولة العثمانية استأجرت للأمير دار عزّت باشا الرئيس لينزل فيها وقتيًا ، وبعد ذلك أصدرت الدولة العليّة أمرها إلى والي الشام ليساعد الأمير في اختيار دارٍ لإقامته الدائمة تكون لائقة به، فوقع اختيار الوالي والأمير على دارٍ ، فاشتراها الأمير من ماله الخاص (وكان السلطان قد أنعم على الأمير عند رحيله إلى دمشق بألف كيس ذهبي بدلاً من الدار التي كان أهداها إليه في بروسة) وكان المكان الذي وقع عليه الاختيار مؤلفًا من دارين واسعتين بينهما دار صغيرة (في زقاق النقيب ـ نقيب الأشراف ـ بالعمارة وكان أصل تلك الدار لآل القباقيبي).
وبعد شراء المكان أُصلِحت الداران وجُهِّزَتا ، وانتقل إليها الأمير وترك الدار التي استأجرتها له الدولة العثمانية . وكانت ضيافة الأمير وعائلته في ولايتي بيروت ودمشق جارية من الولايتين بأمر الدولة العليّة!! وكان السلطان العثماني قد خصص لأفراد الأسرة مرتبات شهريّة .[انظر تحفة الزائر 2/66 ، وغيرها من المراجع]
وهذا يُظهر بكل جلاء بطلان الكلام الذي ساقه الكاتب .
وللعلم فإن أثمان البيوت في ذلك الوقت كانت أقل بكثير مما يظن الكاتب أو صاحب ذلك الكلام.


وأمّا التهمة الجديدة فهي ادّعاؤه أنّ الأمير كان يطلب وساطة وزير الخارجيّة الفرنسي والسفير الفرنسي في اسطنبول للحصول على المال من السلطان!!!!
وهذا قلبٌ للحقائق ، فالأمير كان محلّ عناية وتكريم واهتمام السلاطين العثمانيين الذين عاصرهم ، والرسائل المتبادلة بينهم لهي من الأدلّة على شدة صلته بهم وشدة حبّهم له.
وأعجب من ذلك إصرار الكاتب على إيهام القرّاء بأن صلة الأمير بفرنسا كانت أشد من صلته بالدولة العثمانية!!
يقول محمد باشا :((إنّ الأمير جاء إلى القسطنطينية منفيًا سنة 1269هـ/1853م ، وبعد وصوله إليها دُعيَ للاجتماع بحضرة السلطان الغازي عبد المجيد خان فتشرّف بلقائه ، ورحّب به السلطان وأحسن السؤال عن أحواله وشَكَرَه على ما كابده في الدفاع عن الدين والوطن ، وحَمِدَه على صبره على ما قاساه أيام احتجازه عند الفرنسيس ، ومدح الإمبراطور نابليون الثالث على وفائه بالعهد والقيام بشأنه ، وكان السلطان غاية في التلطف والتعطف ولين الجانب ، وكان بصحبة الأمير رفيقاه في الجهاد السيد قدور بن علال وخادمه قره محمد . وكان الإمبراطور نابليون الثالث طلبَ من السلطان عبد المجيد كفالة عن الأمير!! ( وذلك عندما قرر إطلاق سراح الأمير وإرساله إلى اسطنبول) ، فعقد السلطان جلسة خاصة للمذاكرة في شأن الكفالة فقال شيخ الإسلام عارف حكمت بك للسلطان : "إذا لم تكن لمولانا السلطان حسنة مع كثرة حسناته إلاّ هذه لكفى أن يكفل هذا الرجل المجاهد وينقذه من الأسر"، فحينئذ أجاب السلطان له بالكفالة)).انتهى[انظر تحفة الزائر 2/51ـ53]
فهل يُعقل أن يطلب الأمير من الفرنسيين التوسط له عند السلطان والسلطان هو الذي كفله وأراحه من أَسْر الفرنسيين وأنزله في جواره؟!
وهل يُعقل أن يطلب الأمير وساطة أحد عند السلطان ، والناس كانوا يتوسّطون الأمير لدى السلطان لما له عنده من منزلة وحظوة؟
سبحان الله!
ثم يذكر الكاتب أنّ الأمير كان يعيش في دمشق عيشة الملوك!!
أقول : إنَّ الأمير كان في وضع مالي جيد جدًّا ، ولكن لا يصل إلى حد عيشة الملوك!!
وأنى له عيشة الملوك وهو يتقاضى راتبًا شهريًا لينفقه على نفسه وأهله وأتباعه ، والأمير مات وعليه ديون!
ثم يفسّر لنا الكاتب عيشة الملوك فيقول : "إنّ الأمير كان محاطاً بـ 180 شخصاً من عائلته".انتهى
فلا أدري أهكذا تكون حياة الملوك؟ أن تكون مسؤولاً عن 180 فردًا من أسرتك يجعلك من الملوك؟
ثم من أين للكاتب هذا العدد؟ ليسمّهم لنا! إنّ أفراد أسرة الأمير في حياته لا يتجاوزون الأربعين.(وهذا الرقم يشمل أولاد الأمير وحريمه وإخوته وأبناءهم!)
ثم يقول : وكان يعمل عند الأمير (2000) حارس ومزارع وموظف ، وشيئًا فشيئًا التحق بهم (15.000) جزائري ومغربي وتونسي لخدمة الأمير!!!!
وكما يقولون في المثل الدارج (كيف عرفت أنها كذبة؟ قال : من كبرها!)
سبعة عشر ألف خادم للأمير!! سبحان الله .
أتدري أخي الكاتب كم كان عدد سكان مدينة دمشق في حينها؟
إن عددهم كان قرابة (250.000) أو أكثر بقليل ، وهذا العدد يشمل الرجال والنساء والأطفال ، فإذا صرفنا النظر عن عدد النساء والأطفال ، يكون عدد الرجال العاملين على أكبر تقدير (60.000) تقريبًا!! فهل يريد الكاتب أن يُقنعنا أنّ ثلث أو ربع السكان كانوا حرسًا وخدمًا للأمير؟؟!!
وهل يدري كم يحتاج هؤلاء لنفقات وتأمين سكن وغيرها ...؟
وكأنّ الأمير كان يعيش وحده في دمشق ، ونسي الكاتب أن دمشق كانت من أهم الولايات العثمانية وفيها عدد كبير من الباشاوات وأصحاب النفوذ والمال .
إنّ الأمير لمّا كان في الجزائر حالة حربه مع فرنسة والتي كانت تحاول شراء بعض الخونة ليغتاله لم يكن له حرّاس! فما حاجته للحرس في الشام؟
وقبل كل ذلك من أين للكاتب هذه المعلومات وهذه الأرقام الخيالية أصلاً؟؟؟
في الوثائق التي بين يديّ ـ ومنها دفتر بيان النفقات الشهرية والسنوية للأمير ـ لا يوجد فيها أيّ ذكر لحرّاس!! ومجموع الموظفين والخدم فيها هو (30) فقط! منهم عَشْرُ خادمات لحريم الأمير (الزوجات والبنات والأخوات) ولبعض أبنائه الصغار . وباقي العدد يشمل كاتب الأمير ، ووكيل الحسابات ، وعامل الحديقة والبواب و(العشّي) و(الصُفْرَجي) و(القَهْوجي) ، والجمَّالين وسُيّاس الخيل، و(الخولي)!
فانظروا كيف ارتفع العدد من (30) إلى (2000) إلى (17.000)!!! في سِباحة خيالية ، بل فوق الخيال!

ولا حول ولا قوة إلاّ بالله .

خلدون بن مكي الحسني
للبحث صِلَة إن شاء الله
 
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city

بارك الله فيك اخي حسين
وانا عارف من اين اخذت هذه المشاركات والشهدات القيمة
جزاك الله خيرا
اما بخصوص الاخ الشاب شكيب الطالياني
ادعو ربي ان يهديه
فمن خرجة ان الجزائريين احسن نظام حكمهم هو الرومان واعتبرهم اخوة
ولم يشر ابدا الى انو احسن ضيوف دخلو شمال افريقيا ذات يوم هم العرب ومعهم بعض الصحابة رضوان الله عليهم الفاتحين براسلة الاسلام
فاصبح الاستعمار الروماني البغيض خيرا من الفاتحين العرب
سبحان الله وبحمده
الرومان هل كانو مستعمرين ام اصدقاء ام ضيوف عند دخولهم الجزائر !!!!?
يفتح لنا موضوع مستقل ونناقشه
حتى لا نخرج على صلب الموضوع الرئيسي
حقيقة شخصية الامير عبد القادر فقد كفاني الاخ حميدة _الزعيم_ اول مرة اتفق معه
وكذلك الاخ حسين
ولي عدوة ان شاء الله مستقبلا وتصبحوا على خير
 
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city


يتبع ان شاء الله
 
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city

فك الشفرة الجزائرية
و فتح الأيقونة الباريسية
الأمير عبدالقادر الجزائري:

نسبه ومولده:
هو الشيخ عبد القادر ابن الأمير محيي الدين الحسني، حيث يصلُ نسبه بالإمام الحسين بن علي ، يقول الأمير عبدالقادر عن سلسلة نسبه:
( إنني عبد القادر ابن محي الدين ابن مصطفى ابن محمد ابن المختار ابن عبد القادر ابن أحمد ابن محمد ابن عبد القوي ابن يوسف ابن أحمد ابن شعبان ابن محمد ابن أدريس ابن أدريس ابن عبدالله ( المحض ) أبن الحسن ( المثنى ) أبن الحسن ( السبط ) ابن فاطمة بنت محمد رسول الله وزوجة علي ابن أبي طالب عم الرسول .
كان أجدادنا يقطنون المدينة المنورة وأول من هاجر إليها هو أدريس الأكبر الذي أصبح فيما بعد سلطانا على المغرب وهو الذي بنى ( فاس ) وبعد أن كثر نسله توزعت ذريته ومنذ عهد جدي فقط قدمت عائلتنا لتستقر في “أغريس” قريبا من “معسكر” )
( انظر :”الأمير عبد القادر” – سلسلة الفن والثقافة – وزارة الإعلام والثقافة الجزائرية – الجزائر / ص 1974) .
إلاَّ أن فريبه الأمير محمد أورد سلسلة أخرى تختلف كلياً في كتابه :” تحفة الزائر في مآثر الأمير عبدالقادر وأخبار الجزائر ” ، ممَّا يُضعف الثقة في هذه النسبة الشريفة ، لا سيما إذا عرفنا أ ن النسبة الشريفة من شروط الوصول الى مرتبة القطبية عند المتصوفة ، كما أننا إذا علمنا أيضاً أن الصوفية يجوِّزون الاكتساب الروحاني للنسبة الشريفة تقلُّ الثقة عندنا بتلك السلاسل النسبية المسبوكة .
ولد الأمير عبدالقادر في 23 من رجب عام 1222هـ / مايو 1807م، وذلك بقرية “القيطنة” بوادي الحمام من منطقة معسكر “المغرب الأوسط” أو الجزائر.
ثم انتقل والده الذي كان شيخ الطريقة القادرية في وقته إلى لمدينة “وهران”، و اثر اصطدام مع الوالي العثماني أمر الوالي بتحديد إقامة محيي الدين في بيته، فاختار أن يخرج من الجزائر كلها في رحلة طويلة.
رحلة محيي الدين الجزائري و ابنه عبدالقادر :
كان الإذن للشيخ محيي الدين بالخروج لفريضة الحج عام 1241هـ/ 1825م، فخرج الوالد واصطحب ابنه عبد القادر معه، فكانت رحلة عبد القادر إلى تونس ثم مصر ثم الحجاز ثم البلاد الشامية ثم بغداد، ثم العودة إلى الحجاز ، ثم العودة إلى الجزائر مارًا بمصر وبرقة وطرابلس ثم تونس، وأخيرًا إلى الجزائر من جديد عام 1828 م، على طريقة رحلات الصوفية و ما فيها من الوقوف على الآثار والأولياء، وما لبث الوالد وابنه أن استقرا في قريتهم “قيطنة”.
الاحتلال الفرنسي :
ولم يمض وقت طويل حتى تعرضت الجزائر لحملة عسكرية فرنسية شرسة، وتمكنت فرنسا من احتلال العاصمة فعلاً في 5 يوليو 1830م، واستسلم الحاكم العثماني سريعًا، ولكن الشعب الجزائري كان له رأي آخر.

المبايعة:
فرّق الشقاق بين الزعماء كلمة الشعب، وبحث أهالي وعلماء “وهران” عن زعيم يأخذ اللواء ويبايعون على الجهاد تحت قيادته، واستقر الرأي على “محيي الدين الحسني”
شيخ الطريقة القادرية في وقته ، و والد الأمير عبدالقادر ،وعرضوا عليه الأمر، ولكن الرجل اعتذر عن الإمارة إلاَّ أنَّه قبل قيادة الجهاد.
فأرسلوا إلى صاحب المغرب الأقصى ليكونوا تحت إمارته، فقبل السلطان “عبد الرحمن بن هشام” سلطان المغرب، وأرسل ابن عمه “علي بن سليمان” ليكون أميرًا على وهران، وقبل أن تستقر الأمور تدخلت فرنسا مهددة السلطان بالحرب، فانسحب السلطان واستدعى ابن عمه ليعود الوضع إلى نقطة الصفر من جديد.
ولما كان محيي الدين قد رضي بمسئولية القيادة العسكرية، فقد التفت حوله الجموع من جديد، وخاصة أنه حقق عدة انتصارات على العدو، وقد كان عبد القادر على رأس الجيش في كثير من هذه الانتصارات، فاقترح الوالد أن يتقدم “عبد القادر” لهذا المنصب، فقبل الحاضرون، وقبل الشاب تحمل هذه المسؤولية، وتمت البيعة، ولقبه والده بـ “ناصر الدين” واقترحوا عليه أن يكون “سلطان” ولكنه اختار لقب “الأمير”، وبذلك خرج إلى الوجود “الأمير عبد القادر ناصر الدين بن محيي الدين الحسني”، وكان ذلك في 13 رجب 1248هـ/ نوفمبر 1832م، وقد وجه خطابه الأول إلى كافة العروش قائلاً: “… وقد قبلت بيعتهم (أي أهالي وهران وما حولها) وطاعتهم، كما أني قبلت هذا المنصب مع عدم ميلي إليه، مؤملاً أن يكون واسطة لجمع كلمة المسلمين، ورفع النزاع والخصام بينهم، وتأمين السبل، ومنع الأعمال المنافية للشريعة المطهرة، وحماية البلاد من العدو، وإجراء الحق والعدل نحو القوى والضعيف، واعلموا أن غايتي القصوى اتحاد الملة المحمدية، والقيام بالشعائر الأحمدية، وعلى الله الاتكال في ذلك كله”.

ثقافته العالية :
لقد كان الأمير عبدالقادر ذا ثقافة علمية واسعة ، فقد كان أبوه الشيخ محيي الدين يُعِدُّه لمشيخة الطريقة القادرية من بعده ، وحتى تكتمل صورة الأمير عبد القادر، فقد تلقى الشاب مجموعة من العلوم فقد درس الفلسفة (رسائل إخوان الصفا – أرسطوطاليس – فيثاغورس) ودرس الفقه والحديث فدرس صحيح البخاري ومسلم، وقام بتدريسهما، كما تلقى الألفية في النحو، والسنوسية، والعقائد النسفية في التوحيد، وايساغوجي في المنطق، والإتقان في علوم القرآن .
صفاته الشخصية :
كان الأمير بتمتع بمؤهلات نادرة من حدة الذكاء و سرعة التعلم و بهما مع الرحلة و دقة المشاهدة اكتسب الأميركثيرا من الصفات كالخبرة العسكرية في ميدان القتال ، وحسن التصرف ، و الإفادة من الظروف المواتية، مع ما استفاده من العلوم و الثقافة الشرعية التي شابتها شائبة التصوف ، وكان قوي الجسم صلب العود ، ذا هيئة حسنة ، و ممَّا يُؤخذ على الأمير حبه للمال و السلطة الذين يخلطهما بحب العفو و المسامحة في أحيان كثيرة .
دولة الأمير عبد القادر و عاصمته المتنقلة:
وقد بادر الأمير عبد القادر بإعداد جيشه، ونزول الميدان ليحقق انتصارات متلاحقة على الفرنسيين، وسعى في ذات الوقت إلى التأليف بين القبائل وفض النزاعات بينها، وقد كانت بطولته في المعارك مثار الإعجاب من العدو والصديق فقد رآه الجميع في موقعة “خنق النطاح” التي أصيبت ملابسه كلها بالرصاص وقُتِل فرسه ومع ذلك استمر في القتال حتى حاز النصر على عدوه.
وأمام هذه البطولة اضطرت فرنسا إلى عقد اتفاقية هدنة معه وهي اتفاقية “دي ميشيل” في عام 1834، وبهذه الاتفاقية اعترفت فرنسا بدولة الأمير عبد القادر، وبذلك بدأ الأمير يتجه إلى أحوال البلاد ينظم شؤونها ويعمرها ويطورها، وقد نجح الأمير في تأمين بلاده إلى الدرجة التي عبر عنها مؤرخ فرنسي بقوله: «يستطيع الطفل أن يطوف ملكه منفردًا، على رأسه تاج من ذهب، دون أن يصيبه أذى!!». و كان الامير قد انشا عاصمة متنقلة كاي عاصمة اوربية متطورة آنذاك سميت الزمالة ، كما قام بضرب عملته الخاصة .
تنظيم الدولة:
وقبل أن يمر عام على الاتفاقية نقض القائد الفرنسي الهدنة، وناصره في هذه المرة بعض القبائل في مواجهة الأمير عبد القادر، ونادى الأمير قي قومه بالجهاد ونظم الجميع صفوف القتال، وكانت المعارك الأولى رسالة قوية لفرنسا وخاصة موقعة “المقطع” حيث نزلت بالقوات الفرنسية هزائم قضت على قوتها الضاربة تحت قيادة “تريزيل” الحاكم الفرنسي. ولكن فرنسا أرادت الانتقام فأرسلت قوات جديدة وقيادة جديدة، واستطاعت القوات الفرنسية دخول عاصمة الأمير وهي مدينة “معسكر” وأحرقتها، ولولا مطر غزير أرسله الله في هذا اليوم ما بقى فيها حجر على حجر، ولكن الأمير استطاع تحقيق مجموعة من الانتصارات دفعت فرنسا لتغيير القيادة من جديد ليأتي القائد الفرنسي الماكر الجنرال “بيجو”؛ ولكن الأمير نجح في إحراز نصر على القائد الجديد في منطقة “وادي تافنة” أجبرت القائد الفرنسي على عقد معاهدة هدنة جديدة عُرفت باسم “معاهد تافنة” في عام 1837م.
وعاد الأمير لإصلاح حال بلاده وترميم ما أحدثته المعارك بالحصون والقلاع وتنظيم شؤون البلاد، وفي نفس الوقت كان القائد الفرنسي “بيجو” يستعد بجيوش جديدة، ويكرر الفرنسيون نقض المعاهدة في عام 1839م، وبدأ القائد الفرنسي يلجأ إلى الوحشية في هجومه على المدنيين العزل فقتل النساء والأطفال والشيوخ، وحرق القرى والمدن التي تساند الأمير، واستطاع القائد الفرنسي أن يحقق عدة انتصارات على الأمير عبد القادر، ويضطر الأمير إلى اللجوء إلى بلاد المغرب الأقصى، ويهدد الفرنسيون السلطان المغربي، ولم يستجب السلطان لتهديدهم في أول الأمر ، وساند الأمير في حركته من أجل استرداد وطنه، ولكن الفرنسيين كانوا يضربون طنجة وموغادور بالقنابل من البحر، وتحت وطأة الهجوم الفرنسي اضطر السلطان إلى توقيع معاهدة الحماية، التي سبقت إحتلال المغرب الأقصى.
نهاية الحركة القادرية :
بدأ الأمير سياسة جديد في حركته، إذ سارع لتجميع مؤيديه من القبائل، و كان ديدنه الحركة السريعة بين القبائل فقد يصبح في مكان ويمسي في مكان آخر حتى لقب باسم “أبا ليلة وأبا نهار”.
واستطاع أن يحقق بعض الانتصارات، ولكن فرنسا دعمت قواتها بسرعة، فلجأ مرة ثانية إلى بلاد المغرب، ومن ناحية أخرى ورد في بعض الكتابات أن بعض القبائل المغربية راودت الأمير عبد القادر أن تسانده لإزالة السلطان القائم ومبايعته سلطانًا بالمغرب، وعلى الرغم من انتصار الأمير عبد القادر على جيش الإستطلاع الفرنسي، إلا أن المشكلة الرئيسية أمام الأمير هي الحصول على سلاح لجيشه، ومن ثم أرسل لكل من بريطانيا وأمريكا يطلب المساندة والمدد بالسلاح في مقابل إعطائهم مساحة من سواحل الجزائر: كقواعد عسكرية أو لاستثمارها، وبمثل ذلك تقدم للعرش الإسباني ولكنه لم يتلقَ أي إجابة، وأمام هذا الوضع اضطر في النهاية إلى التفاوض مع القائد الفرنسي “الجنرال لامور يسيار” على الاستسلام على أن يسمح له بالهجرة إلى الإسكندرية أو عكا ومن أراد من اتباعه، وتلقى وعدًا زائفًا بذلك فاستسلم في 23 ديسمبر 1847م، ورحل على ظهر إحدى البوارج الفرنسية، وإذا بالأمير يجد نفسه بعد ثلاثة أيام في ميناء طولون ثم إلى إحدى السجون الحربية الفرنسية، وهكذا انتهت دولة الأمير عبد القادر، وقد خاض الأمير خلال هذه الفترة من حياته حوالي 40 معركة مع الفرنسيين والقبائل المتمردة .
الأمير في الأسر:
ظل الأمير عبد القادر في سجون فرنسا يعاني من الإهانة والتضييق خمس سنوات ، متنقلاً بين سجون مختلفة بما فيها قصر أمبواز، و قد توفي خمسة و عشرين من أقاربه الذين كانوا معه خلال ذلك الوقت جراء البرد و الجوع .وبعد أسابيع من تولي نابليون الثالث بعث إليه الأمير برسالة في 23 ديسمبر 1848 مذكرا له بوعد فرنسا، وسجن الإنجليز لنابليون الأول، وسجنه هو نفسه (نابليون الثالث) بأمر لوي فيليب ، و طالبا الاستجابة لرغبته في الذهاب إلى مصر أو سورية.
وفي عام 1852م استدعاه نابليون الثالث بعد توليه الحكم، وأكرم نزله، وأقام له المآدب الفاخرة ليقابل وزراء ووجهاء فرنسا، ويتناول الأمير كافة الشؤون السياسية والعسكرية والعلمية، مما أثار إعجاب الجميع بذكائه وخبرته، ودُعي الأمير لكي يتخذ من فرنسا وطنًا ثانيًا له، ولكنه رفض، ثم اقترح نابليون الثالث على الأمير أن يترأس الإمبراطورية العربية في الشرق بعد أن يتم تحريرها من الاحتلال العثماني .
ورحل الأمير عبدالقادر إلى الشرق براتب من الحكومة الفرنسية ، وبوعدٍ غير واضحٍ من الامبراطور الفرنسي بتنصيبه امبراطورا على البلاد العربية .
و توقف في استانبول حيث السلطان عبد المجيد، والتقى فيها بسفراء الدول الأجنبية، ثم استقر به المقام في دمشق منذ عام 1856 م وفيها أخذ مكانة بين الوجهاء والعلماء، وقام بالتدريس في المدرسة الأشرفية، ثم في المدرسة الحقيقية ، وأخيراً في المسجد الأموي .

التحول الكبير في حياة الأمير:
لم تُحيِّرني شخصية مثل شخصية الأمير عبدالقادر الجزائري ، فهذا الأسد الهزبر و الفارس الضرغام نجده يتحول بعد مجيئه من فرنسا إلى خادم مطيع و مريد متحمس للدولة الفرنسية و إلى كل ما يمت إلى الفرنسين بِصِلة ، فما الذي حصل للأمير فأدَّى به إلى كل ذلك التغيير .
في اعتقادي أن الأمير عبدالقادر قد تعرض خلال نشأته و مراحل حياته لعدَّة تأثيرات متغايرة بعضها استصحبها من ذاكرته خلال مراحل نشأته المبكرة ، و بعضها خلال وجوده في فرنسا ، و أثناء سلسلة النقاشات التي كانت تدور بينه وبين وجهاء فرنسا ، والشبهات التي كان يوردها عليه كبار المستشرقين ، لا سيما أن الفرنسيين كانوا قد حضَّروا لذلك الدرس بكل عناية ، إذ كانوا قد تعرفوا على الشخصية الشرقية جيداًُ من خلال الحملة الفرنسية على مصر ، لا سيما طريقة التخاطب والتعامل مع مشائخ الطرق الصوفية ، مِمَّا قلب كيان الرجل ، و غيَّره كل ذلك التغيير و أثر به أيَّ تأثير .
الأمر الأول: أن الأمير كان ذا ثقافة و اطلاع واسعين
و لديه قابلية عجيبة لقبول الآخر مهما بلغ ذلك الآخر من عدائه له بشرط أن يتحد معه في حوار يتخذ الطابع العلمي ، و لا يخفى مقدرة الغربيين على قلب الأمور ، و ادعاء النزاهة ممَّا قد يؤثر حتى على ذوي العقول الراجحة ، ومما حفِظ عن الأمير خلال تلك الحوارات قوله :” لو كان العالم يسمعني لجعلت من المسلمين والمسيحيين إخوةً ولعملنا معاً من أجل إرساء السلام في العالم” ، ولعلَّ هذه الجملة كانت هي البروتوكول الذي انتهجه فيما بعد الأمير و التزم به كل الالتزام .
الأمر الثاني: ذلكم البغض الكبير للدولة العثمانية

الذي اكتنفه خلال نشأته ، وبعد اخراج الوالي العثماني لأبيه من قريته الى الحجاز ، و ما صاحب ذلك من التغرُّب.
وكذلك كون الدولة العثمانية قد تخَّلت عن الجزائر أثناء الحملة الاستعمارية الفرنسية الجائرة عليه ، و لم تحرك ساكناً ، بل سرعان ما فرَّ الوالي العثماني ، تاركاً البلاد و من عليها في حيص بيص ، و لا ريب أن العثمانيين كانوا خلال ذلك يتلقون الضربات الخارجية و الداخلية الضربة تلو الأخرى ، مما شغلهم عن الدفاع عن بلدان الثغور و الأطراف الاسلامية .
و لذلك فقد كان موقف الأمير عبد القادر من الخلافة العثمانية حين كان في بلده الجزائر موقفاً انفصالياً ، فمن الملفت للنظر أن الأمير عبد القادر الذي تولى زعامة المقاومة الشعبية المسلحة في غرب ووسط الجزائر قد تبنى و منذ توليه الإمارة سنة 1832م عَلَما مغايرا للعَلَم الجزائري التابع للدولة العثمانية قبل دخول الفرنسيين الجزائر ، إذ اختفى اللون الأحمر كلية و عُوض بالأخضر و رُسمت على رايته يدٌ مبسوطة أحيطت في شكل نصف دائري بالعبارات التالية:
“نصر من الله وفتح قريب”. ناصر الدين عبد القادر بن محي الدين
.أما توزيع الألوان على هذا العلم فقد كان على النحو التالي :
أعلاه و أسفله كانا أخضرين ، و أما وسطه فكان ابيضا.
و لم يكن ظهور هذا العلم بمحض الصدفة في هذه الفترة بل كان يرمز إلى استقلال سياسي عن الدولة العثمانية ، فكانت بذلك من أوائل الحركات الانفصالية التجزيئية التي أعلنت الخروج على الخلافة الاسلامية العثمانية .
و قد عاد الأمير ليكمل ذلك الدور في بلاد الشام ، فقد كانت الجمعية الماسونية قد أخذت على عاتقها محاربة الخلافة العثمانية لكونها كانت تقف سدا منيعا أمام الأطماع العالمية في العالم العربي و الاسلامي ، ولذلك فقد حاولت الجمعية آنذاك بتدبيرٍ من الأمير عبد القادر الجزائري رئيس المحفل السوري الماسوني آنذاك اغتيال متصرف جبل لبنان العثماني للإستقلال عن الدولة العثمانية.
الأمر الثالث = نشأته الصوفية :

إذ أن الأمير تربَّى في بيئة صوفية ، بل قد نشأ على تقديس يصل إلى حد الجنون لشخصية ابن عربي الحلولي الاتحادي ، و أمثاله من الاتحادية الحلولية كالحلاج والتلمساني و ابن الفارض وغيرهم .
بل قد أتمَّ الأمير تدريس كناب الفتوحات لابن عربي على طلبته مرارا ، و ألف كتابه “المواقف” على مذهب ابن عربي ، بل و قد اختار السكنى في دمشق لكونها بلد ابن عربي الذي أقام فيه ، ويقال أنه سكن في نفس البيت الذي عاش فيه ابن عربي بعد أن قام بإصلاحه ، و دُفِن ـ أيضاً ـ بجوار ابن عربي .
و قد تواتر عنه أنه كان يشتري كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن قيم الجوزية بأغلى الأثمان ليحرقها ، و ذلك أنهم كانوا يفتون بكفر ابن عربي ، كما يؤججون روح الجهاد في الشارع المسلم .
بل كان يشتري جميع ما صُنِّف في الرد على ابن عربي ثم يتلفه ، قال الشيخ الجليل محمد نصيف :” أقول انا محمد نصيف بن حسين بن عمر نصيف : سألت السائح التركي ولي هاشم عند عودته من الحج في محرم سنة 1355 عن سبب عدم وجود ما صنفه العلماء في الرد على ابن عربي ، وأهل نحلته الحلولية والاتحادية من المتصوفة ؟ فقال : قد سعى الأمير السيد عبدالقادر الجزائري بجمعها كلها بالشراء والهبة ، وطالعها كلها ، ثم أحرقها بالنار ، وقد ألف الأمير عبدالقادر كتابا في التصوف على طريقة ابن عربي . صرّح فيه بما كان يلوح به ابن عربي ، خوفا من سيف الشرع الذي صرع قبله :” أبو الحسين الحلاج ” ، وقد طبع كتابه بمصر في ثلاث مجلدات ، وسماه المواقف في الوعظ والارشاد ، وطبع وقفا ، ولا حول ولاقوة الا بالله” اهـ
فمن هوابن عربي هذا ؟
هو محي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي الصوفي ، الملقب بالشيخ الأكبر ، وهو أول من صرَّح بنظرية وحدة الوجود ، بينما كان من قبله من ملاحدة الصوفية يحومون حول الحلول والاتحاد .
ونظرية وحدة الوجود تقول بأن الله عزو جل موجود ـ و العياذ بالله ـ في كل كان ، و بذلك تصحِّح نظرية وحدة الأديان الذي أسماه ابن عربي (دين الحب ) أيما تصحيح ، بحيث تنضوي تحته كل عقيدة ،فإذا جاز التعميم أمكن التخصيص ـ من باب أولى ـ،
يقول ابن عربي في بيان هذه العقيدة الحلولية :

((لقد صار قلبي قابلا كل صورة ……………….فمرعى لغزلان ودير لرهبا ن
وبيت لأوثان وكعبة طائـف ……………….وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهـت ……………….ركائبه فالحب ديني وإيماني))
و يقول أيضاً :

الرب حق والعبد حـق …………… ياليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك ميت ………….أو قلت رب أنى يكلف
و لذلك صرَّح ابن عربي بإيمان فرعون ، وصحَّح عبادة بني اسرائيل للعجل .
و زالت كل الفروق لدى بعضهم ؛ حتى صار لإبليس حظوة لديهم ، وانتفى عن النظر ما لابسه من كفر وعصيان . من ثم لا نستعجب حين نقرأ قول الحلاج : ((ما كان في السماء موحِّد مثل إبليس))
وأدبيات الصوفية الحلولية مليئة بهذا الشرك المتلاطم ، بل لهم دواوين خاصة في هذا الكفر الصراح و الشرك الوقاح ، مثل ابن الفارض ، وجلال الدبن الرومي ، و مثل حكم ابن عطاء الاسكندري و غيرهم .
و هذا المنهج الديني اللاديني الذي تختطه العقيدة الوحدوية تفتح باب الولاء على مصراعيه ، و حين ذاك لا فرق بين مسلم أو نصراني ، أو ما بين مؤمن أومشرك ، في حين تلقي بباب البراء خارج القائمة .
و في هذا المعنى يقول ابن عربي أيضاً ـ قبحه الله ـ:

وما الكلب والخنزير إلا إلهنا …………………وما الله إلا راهب في كنيسة .
و بالتالي فإن الوجودية و الماسونية يدوران في فلكٍ واحد ، و لذلك لم يكُن بِدعاً من الرأي أن ينتهج الأمير الخط الماسوني بعد المذهب الوحدوي لكونه بذلك لم يخرج عن نفس المسار ، و إنَّما انتقل من مدار إلى مدار.
وقد يقال أن ناحية التصوف كانت ناحية فلسفية بحتة عتد الأمير و لكن ذلك ليس بصحيح ، فنجد أن الجزائري يعتقد بمخاريق وكرامات الصوفية ، واستمع لما يسوقه النبهاني الصوفي ضمن كرامات الامير عبدالقادر الجزائري أنه قال :”…لما بلغت المدينة طيبة ، وقفت تجاه الوجه الشريف بعد السلام عليه صلى الله عليه وسلم ، وعلى صاحبيه الذين شرفهم الله تعالى بمصاحبته حياة وبرزخا ؛ وقلت : يارسول الله عبدك ببابك ، يارسول الله كلبك بأعتابك ، يارسول الله نظرة منك تغنيني ، يارسول الله عطفة منك تكفيني ، فسمعته صلى الله عليه وسلم يقول لي : ” أنت ولدي ، ومقبول عندي بهذه السجعة المباركة ” . وما عرفت هل المراد ولادة الصلب أو ولادة القلب ، والأمل من فضل الله انهما مرادان معا ، فحمدت الله تعالى ! “
 
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city

الأمر الرابع =حب الأمير للسلطة و بالتالي احتياجه الشديد للمال :
يقول التميمي :
” إن المتتبع لحياة الأمير عبد القادر بدمشق، سوف يثير انتباهه تكالب الأمير على اقتناء الدور والأراضي الفلاحية ، والحصول على المال مهما كانت الوسائل المتبعة في ذلك. ففي البداية أقرت الحكومة الفرنسية منح الأمير راتباً سنوياً بما قدره 15000 فرنك فرنسي،تقول حفيدته الأميرة بديعة الحسني الجزائري :
( ظل (الأمير) سجينا مدة خمس سنوات إلى أن وصل نابليون (الثالث) إلى سدة الحكم في فرنسا فزار الأمير في سجنه متأسفاً معتذراً عن نقض الاتفاقية من قبل الحكومة السابقة وسلمه صك الإفراج وعرض عليه مبلغا كبيرا يدفع له سنوياً كتعويض على حجز حريته والغدر به, فقبل الأمير التعويض كمنحة من الله وعد بها الله تعالى المجاهدين والمهاجرين في سبيله).
وقد بلغ مع السنين ماقدره 300000 فرنك فرنسي وهو في ذلك الوقت مبلغ خيالي للغاية ، بل يفوق ميزانيات كثير من المصالح الحكومية العثمانية ، و لسنا من السذاجة بحيث نعتقد أن ذلك الكرم الفرنسي إنما كان حُباًّ من الامبراطورية الفرنسية لشخص الأمير عبدالقادر ، و تقديراً منها لجهاده ضد الفرنسييين ، دون أجندة عمل فرنسية كان الأمير ـ في المقابل ـ مطالبٌ بتنفيذها بكلِّ دقَّة ،و لعلَّ تلك الأجندة قد أسفرت عنها المواقف الأميرية المتضامنة مع المصلحة الفرنسية “العليا” خلال ما سيمر بنا من الأحداث المتتالية !!!.
ـ “و عندما قرر الأمير أن يقوم ببعض الإصلاحات على الدارين اللتين سلمتهما له الإدارة العثمانية في الشام ـ بعد أن قامت بتأثيثهما ـ ألحَّ الأمير لدى وزير خارجية فرنسا والسفير الفرنسي باستانبول للقيام بتدخلات لدى الحكومة العثمانية في تمليكه للدارين ، لأنهما محتاجان إلى الإصلاح والزيادة ولايمكن اصلاحهما قبل استملاكهما،
ـ كما ألح على السفير نفسه للتوسط لدى الدولة العثمانية للحصول على مبلغ مالي من الحكومة العثمانية لذلك ، وقد قدمت له الدولة العثمانية مبلغاً قدره ألف بورسه ، أي 100000 فرنك . وكان ذلك المبلغ يساوي ثلاثة أضعاف المبلغ الذي قرر أن يشتري به مسكنا ))المرجع السابق ص425.
ـ و قد كان الأمير خلال إقامته في الشام يعيش عيشة الملوك ، فقد كان محاطاً بنحو 180 شخصاً من عائلته، وكان يعمل لديه ألفا شخص كحراس شخصيين أو مزارعين أو موظفين، وشيئاً فشيئاً وصل إلى دمشق زهاء 15 ألف مغربي وجزائري وتونسي التحقوا بخدمته ، وكان يتولى الاشراف على أحوالهم .
ـ ثم لا ننسى ذلك الوعد الذي بذله نابليون الثالث للأمير عبدالقادر بتنصيبه إمبراطوراً للبلدان العربية في الشرق بعد أن يتم تحريرها من الاحتلال العثماني ، و بالمقابل أخذ وعداً من الأمير عبدالقادر ألاَّ يقاتل مجدَّداً ضد فرنسا .
لقد كان المخطط الفرنسي لوراثة التركة العثمانية يقضي بالسعي للقضاء على الخلافة العثمانية من خلال تأجيج ثورة عربية يترأسها بعض المنتسبين للبيت النبوي ،و يقوم بجر جميع تلك البلدان الى حظيرة الهيمنة الفرنسية .
ـ و لكن خطة فرنسا فشلت في الحقيقة لكون المنطقة بكاملها سرِقت منها فيما بعد ، نظرا لاكتساح السياسة البريطانية للمنطقة و تفوق اللاعب البريطاني ، فقد كان السقوط الفرنسي قد ابتدأ مسبقاً مع الفشل “العسكري” للحملة الفرنسية على مصر ، لتتتابع بعد ذلك سلسلة الإخفاقات الفرنسية ، و من ثمَّ تَمَّت سرقة المخطط برًمَّته ـ انجليزيا ـ من الحقيبة الفرنسية .
ليتم بعد ذلك تطبيقه بحذافيره على يد الجنرال البريطاني الشهير “اللنبي” لتنصيب دمية أخرى هي “الشريف فيصل بن الحسين” .
و ليحتل الجيشان البريطاني والعربي الأراضي السورية، بتاريخ11 تشرين الأول 1918 تنفيذاً لاتفاق غير معلن ، وفي نهاية الشهر ذاته يدخل الأمير فيصل دمشق تلبية لأمر والده الشريف حسين.
و من الغرابة بمكان أن يقوم الطابور الخامس الماسوني السوري وقبل يومين من وصول الأمير فيصل بإعلان استقلال البلاد باسم الشريف حسين، ورفع العلم العربي على سارية دار الحكومة، و من ثمَّ تبدأ عملية تنظيم وإكمال تشكيلات الدولة العربية و الجيش العربي ، و إزالة كل ما يمت للعهد العثماني و اللغة التركية بِصلة ، كل ذلك بسرعة غريبة و سطوة عجيبة ، بينما لم يكن من أعلن استقلال البلاد ، و حَكَم البلاد خلال ذَين اليومين الطويلين في تاريخ الأمة الاسلامية إلا الأمير محمد سعيد الجزائري القطب لأعظم للمحفل الأكبر السوري العربي الماسوني ، وحفيد الأمير عبدالقادر الجزائري .
الأمر الخامس = افتتانه بالحضارة الغربية :
فقد عرف عن الامير عبدالقادر افتتانه بالحضارة الفرنسية ، و علاقته الوطيدة بالفرنسيين .
و مما يحتفظ به التاريخ عن الأمير عبد القادر الجزائري أنه قد عمل أثناء معاركه ضد الغزو الاستعماري الفرنسي للجزائر، على سن وتطبيق مجموعة قوانين حول كيفية معاملة الأسرى الفرنسيين المعتقلين من جيش العدو، ومن ذلك: “اعتبار أن أي فرنسي يتم أسره في المعارك يجب ان يعتبر أسير حرب، وأن يعامل كذلك إلى أن تتاح فرصة تبادله مقابل أسير جزائري” ، مع أن الفرنسيين كانوا حينذاك يستخدمون سياستَي الأرض المحروقة والإبادة الجماعية ؟؟.
ـ كما حدد الأمير عبد القادر بأن “على أي عربي في حوزته أسير فرنسي، أن يعامل هذا الأخير معاملة حسنة. وفي حال شكوى الأسير من سوء المعاملة، فلن نكون العقوبة مجرد اسقاط المكافأة ، بل قد يرافق ذلك عقوبات أخرى”.
ـ ولضمان عدم قتل الأسير الفرنسي فإن “أي عربي يقدم أسيرا فرنسيا يحصل على مكافأة قدرها 8 دورو (وهي العملة الجزائرية التي تساوي 5 سنتيم).
و ذكر صاحب كتاب “نابليون الثالث والأمير عبد القادر” كيف أن “أعدادا من الأسرى الفرنسيين القدامى الذين تلقوا علاجا من قبل الأمير، كانوا يأتون من مناطق نائية في اتجاه قصر “بو” وقصر “أمبواز” حيث كان الأمير معتقلا، لتحية من كان المنتصر بالأمس”.
الأمير عبدالقادر في بلاد الشام :
أولاً= في عهد داود باشا:
ـ قبل عام 1860 كان المتصرف العثماني يقيم في جبل لبنان بينما يشرف على جميع لبنان و سورية ، و إثر ما عرف في التاريخ اللبناني بفتنة الجبل تدخل الأمير عبدالقادر للتوسط لدى الدولة العثمانية لصالح (ثورة يوسف بك كرم الماروني في (1859 ـ 1860 م) التي ثارت على داود باشا اول متصرف عثماني على الجبل اللبناني ، و طالبت بالحكم المحلي لموارنة الجبل ، ثم دعت الى التدخل الفرنسي بصوت مطرانها “طوبيا عون” ( لعلَّه جد العماد ميشيل عون الذي يسير الآن على خُطى جدِّه في العمالة لصالح فرنسا” .
ـ وحين أفرزت تلك الفتنة غضباً عارماً في دمشق والشام على المسيحيين الذين راسلوا و جلبوا المستعمر الاجنبي الفرنسي إلى ديار المسلمين ، قام الأمير عبد القادر، باعتراف العديد من قادة تلك الفترة بحماية و إنقاذ حوالي 12000 مسيحي ويهودي احتموا بالأمير من غضب جماعات ثائرة، و قد حمل مع أتباعه السلاح من أجل ذلك .
وهو ما دفع العديد من ملوك وقادة تلك الفترة ورجالات الدين إلى منح الأمير أوسمة شرف عرفانا لإنقاذ أرواح عدد من رعاياهم بمن فيهم قناصلة روسيا وفرنسا واليونان وأمريكا و قد انتهت تلك الفتنة بالتدخل الاجنبي الفرنسي ، و بعد تلك الخدمة الجليلة للتاج الفرنسي تهاطلت على الأمير الأوسمة والنياشين من عدد كبير من رؤساء الدول الأوربية ، وعلى الخصوص من نابليون الثالث الذي وشحه وسام الشرف الفرنسي الأول ، ((ونتيجة لذلك أخذت تنتشر في أوربا التآليف التي مجدت الجانب الإنساني للأمير وتسامحه “” .
و هناك نص ماسوني موثق كتبه الدكتور انطوان عاصي رئيس معهد الطقوس في المحفل الاكبراللبناني الموحد راداًّ فيه على بديعة الحسني حفيدة الأمير الجزائري ـ والتي أنكرت ماسونية الأمير ـ لاثبات ماسونية الجزائري ناقلاً فيه عن مصادر معروفة و موجودة
يقول الدكتور عاصي :
“في الاحداث الدامية التي وقعت في دمشق في تموز من العام 1860 بين المحمديين والمسيحيين , كلف عبد القادر بمهمات إنقاذية ، و وضع تحت حمايته آلاف المسيحيين الذين لقوا الحماية تحت لوائه .
هذه البادرة قدرها نابليون الثالث وقلد الامير وسام الشرف الفرنسي وارسلت من بعدها المحافل الماسونية كتابات شكر وتقدير له اهمها محفل هنري الرابع الذي اخذ المبادرة .
وفي 16 تشرين الاول 1860م اعترفت الماسونية في عدة رسائل له بناحيته الانسانية والاخلاقية واقترحت عليه في هذه الرسائل ان يكون عضوا في الماسونية دون ان يكون عضوا مكرسا بعد , اذ ان النظام الماسوني يسمح بتكريس هكذا رجال عظماء دون ان يكونوا مكرسين ، وارسلت له ما يسمى بالجوهرة او الرمز المعدني عرفانا منها اليه ولم يكن وقتها في الجزائر الدولة المسلمة اكثر من ثلاثين مكرسا ماسونيا .
وفي العام 1861 رد الامير عبد القادر الحسني الجزائري على محفل هنري الرابع الباريسي بقوله: ( لم المس في المبادئ الماسونية ما يتعارض وشريعة القران الكريم والسنة والفقه الاسلامي ) عندها طلب منه محفل هنري الرابع الاجابة على ثلاث اسئلة وهي اسئلة تقليدية للانتساب الى الماسونية :
_ ماهي واجبات الانسان تجاه الله ؟
_ ماهي واجباته تجاه الانسانية ؟
_ كيف ينظر الى خلود النفس والمساواة والاخاء والحرية ؟
كان جواب الامير بمثابة اطروحة فلسفية تفوق هذه الاسئلة بتعاليم صوفية وفلسفة اسلامية ادهشت السائلين …كان وصول المارشال الفرنسي كاستاذ اعظم لهذا المحفل وخلافاته مع الامير قد اخرت تكريسه هنا كان لابد من حضوره شخصيا ففي 18 حزيران 1864 وباسم محفل الاهرام في الاسكندرية والذي كان عاملا تحت لواء الشرق الاكبر الفرنسي والممثل في محفل هنري الرابع تكرس الامير الامير عبد القادر الجزائري واعطي امتيازا قل نظيره في ذلك الوقت انه منحت له في جلسة واحدة الدرجات الاولى الثلاث .
وصدر عن محفل هنري الرابع في باريس جلسة عمومية اعطي بموحبها إذنا للامير أن ينشئ محافل ماسونية ذات الطابع العربي في جميع الاقطار العربية .
عام 1865 و خلال وجوده في فرنسا عقد الامير اجتماعات مع الماسونية الفرنسية في مدينةAmboise واعترف امام اساتذة الماسونية في هذا المذهب انه ( هناك بعض المصاعب التي ستواجهها الحركية في الشرق العربي نظا للانتماءات الذهبية رغم ان مبادئها هي من اجل المبادئ السامية والاخلاقية )
و بعد عودته الى سوريا اصبح عضوا فخريا في محفل سوريا الذي كان ينتمى الى الشرق الدمشقي ونظرا للمفهوم العلمني الماسوني المؤمن ولمفهوم الماسونية كحركة رمزيةولدت في الغرب المسيحي وتواجدها في الشرق الاسلامي .
حجب الامير عبد القادر بعضا من نشاطاته الماسونيه وبقي في الظل . بهذا المفهوم تصرف الامير بمعنى ان الماسونية ليست نسخة عن هذا العالم . لقد فهم الامير انه لايجوز كشف اسرار النظام الكوني امام اهل العماء …… “
رئيس معهد الطقوس في المحفل الاكبر اللبناني الموحد
الدكتور انطوان عاصي
هذا النص التفصيلي الاستثنائي يفسر لنا كثيرا من الأسرار التي أحاطت بشخصية الأمير عبدالقادر في تلك المرحلة .
ثانياً = في عهد مخلص باشا:
بعد أحداث سنة 1860 في جبل لبنان صارت دمشق عاصمة ولاية سورية في الدولة العثمانية ، و خلال حقبة تسلط جمعية الاتحاد و الترقي على الدولة العثمانية كانت الجمعية تعين الولاة و المتصرفين من الماسونيين أنفسهم ، فعُين مخلص باشا الماسوني والياً على دمشق ، و الذي بدأ بنشر الماسونية بسرعة وجرأة عاليتين .
وكان الأمير عبدالقادر قد انتقل الى الشام قبل ذلك بأربع سنين ، فقرَّبه مخلص باشا من أجل علاقته بالقنصلية الفرنسية ، و اطلاعه على المحافل الماسونية الفرنسية.
و مع أن الأمير لم يكن ـ في ذلك الوقت ـ عضوا في المحافل الماسونية ، إلاَّ أن مخلص باشا ألقى إليه مقاليد نشر المبادئ الماسونية في الشام ، و قد أشار إلى ذلك مورخ الماسونية شاهين مكاريوس في كتابه المقتطف .
ـ ورأى الأمير عبدالقادر عند ذلك وجوب التنسيق مع محفل الأهرام الأكبر المصري ، مما جعله يشد الرحال للاجتماع بالماسونيين هنالك .
يقول شاهين مكاريوس الماسوني في كتابه فضائل الماسونية :
” إن الأمير عبد القادر الجزائري سمع كثيراً عن الجمعية الماسونية ومالها من صحيح المبادئ ، فتاقت نفسه إلى الإنضمام إليها واغتنم فرصة مروره بالإسكندرية أثناء عودته من الحجاز سنة 1864 فانتظم في سلكها في 18 حزيران بمحفل الأهرام التابع للشرق السامي الفرنساوي، و وافت مشاربه من كل الوجوه ، فأحبها وأحب أهلها ، ومال إليها وإليهم كثيراً، وكان لا يخفي نفسه ، وطالماً جاهر بأنه من أعضائها”
ثالثاً = في عهد راشد باشا
و في عهد راشد باشا ( أو رشيد باشا ) الماسوني أيضا الذي عُيِّن والياً سنة 1865م دخلت الأفكار الماسونية حيز التنفيذ ، فتعاون مع الأمير عبدالقادر بعد رجوعه من مصر بهذا الخصوص فأسَّسا محفل سوريا أو الجمعية الماسونية ، و كانت هذه الجمعية تتستر تحت اسم : (لجنة الإصلاح).
يقول جرجي زيدان الماسوني في كتابه “تاريخ الماسونية العام ” ص 200 :
” إن االماسونية دخلت دمشق بمساعي الأمير عبد القادر الجزائري ، وإن أول محفل تأسس فيها هو محفل “سوريا” بشرق دمشق ، … فثبت بمساعي الأخوة وتنشيطهم))
و كان الإعلام قد صنع هالةً على اسم الأمير عبدالقادر فانخدع أكثر الناس بالماسونية ، بل وأقبلت الطبقة الراقية في سوريا للا نخراط في “السلك” الماسوني
يقول شاهين مكاريوس في المقتطف-الجزء الثامن- ص469 عن نفسه أنه:
” زار في دمشق جمعية ماسونية باسم محفل سورية ، فدخل فرأى فيها أكثر وجوه دمشق ومعتبريها من كل الطوائف تقريباً ، وعند زيارته لدمشق في شهر أيلول عام 1881 قيل له أن الجمعية الماسونية أعظمها نجاحاوأوفرها أعضاءاً وأكثرها اجتماعاً وأن أعضاءها موصوفون بنبذ التعصب وأن جماعة من أهل دمشق وأكابر قومها منظمون فيها……
و ممن ذكرهم مكاريوس من فضلاء دمشق ومن مشائخ الصوفية آنذاك أصحاب الفضيلة والسيادة محمود أفندي الحمزاوي مفتي المدينة والشيخ سليم أفندي العطار ومحمد أفندي المنيني والشيخ مسلم أفندي الكزبري ، ومحمد أفندي الطنطاوي ومحمد أندي الخاني ، وغيرهم من السادات والأعلام الأشراف ، كما ذكر مكاريوس أنه تشرف بمقابلة الأمير عبد القادر الجزائري هنالك .
ـ و قد كان الأمير عبد القادر ـ خلال وجوده في الشام ـ دائما ما يفزع الى القنصلية الفرنسية عند تعذُّر بعض مهامه ، بل و كذلك في شئونه الخاصة كما مرَّ بنا ، فقد كانت هناك علاقة وطيدة بينه وبين الدولة الفرنسية الاستعمارية .
ـ فقد تمت وساطة فرنسية لدى الباب العالي للسماح للأمير عبدالقادر بالإقامة في الشام .
ـ فأثناء إقامته في منفاه في سوريا كان الأمير عبد القادر كثيراً ما يتدخل لانقاذ المسيحيين ((العملاء لفرنسا والجواسيس لها ضد المسلمين” .
مرحلة العمالة السافرة :
لقد تدرج التحول بالأمير حتى وصل إلى مرحلة العمالة السافرة ، فكان عاملا من عوامل تمزيق الدولة الإسلامية:
و أدى به طمعه بالحكم إلى أمور لم تكن تليق بتاريخه النضالي السابق ، فمن ذلك : أنه بعد إجبار الدولة العثمانية على توقيع معاهدة مع روسيا بسبب هزيمتها كانت المعاهدة تتضمن إنشاء كيانات قومية في كل الولايات العثمانية،ونتيجة لذلك سافر أحمد الصلح من بيروت عام 1877 إلى صيدا والجبل ودمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية وحوران وجبل الدروز يرافقه محمد الأمين وأحمد عباس الأزهري، ومن خلال هذه الجولة عقدت عدة اجتماعات سرية بعضها في مصيف الأمير عبد القادر في دمر قرب دمشق ، وبعضها في دار مفتي مدينة دمشق ونقيب أشرافها حسن تقي الدين الحصيني، ويذكر المؤرخ محمد جابر آل صفا أسماء ممثلي الجبل في الإجتماعات السرية وهم :
محمد الأمين (شيعي) وعلي عسيران والشيخ علي الحر الجبعي (شيعي) وشبيب باشا الأسعد الوائلي (شيعي ( تاريخ جبل عامل ص208
ويقول ((وكان هذا المؤتمر أول مؤتمر يشترك فيه الشيعيون للنظر في استقلال البلاد الشامية وفصلها عن جسم الدولة العثمانية ، وقرر المؤتمرون اختيار عبد القادر الجزائري أميراً على سوريا) عن عادل الصلح ـ المرجع السابق ص96
و في هذه المرحلة من حياته يتحول الامير عبدالقادر المجاهد الضرغام إل مخذِّلٍ عن الجهاد و موالٍ للاستعمار ، يقول الاستاذ التميمي ـ عن هذه الفترة : ((إننا لانعرف ولاوثيقة واحدة صادرة عن الأمير تشجع الحركات الانتفاضية في بلاده (الجزائر) ، أو على الأقل مساندته المعنوية لعدد من الزعماء الجزائريين الذين أبلو البلاء الحسن حتى آخر رمق من حياتهم. بل إن الأمير ذهب لاحترام وعده إلى حد التنكر لابنه محي الدين الذي تحول سراً إلى الجزائر لانقاذ البلاد من فرنسا سنة 1870))
كما لجأ إليه فردينان ديليسبس للتوسط من أجل إقناع العثمانيين بمشروع قناة السويس ـ والذي جلب الاستعمار الانجليزي فيما بعد ـ ، و لذلك فقد كان الأمير عبدالقادر في طليعة المدعوين في الحفل الاسطوري الذي صنعه الخديوي اسماعيل في عام 1869 م احتفالا بافتتاح القناة .
ـ كما قام بإنشاء مصرف دولي كان يموّل الطريق التي تربط ما بين دمشق وبيروت، ، و من خلاله قام باستقبال أسرة آل روتشيلد اليهودية العالمية المُريبة “صانعة الملوك” و كذلك أسرة آل ديلي شيبس لذلك الغرض .
ـ وحين قامت الدولة العثمانية بإلغاء نظام أهل الذمة 1857م ، بحيث يتساوى المسلم بغيره ، ممَّا ولَّد غضباً عارماً لدى المسلمين الذين رأوا أن في ذلك انتهاكاً صارخاً لقوانين الشريعة الاسلامية ـ مع ما فيه من تحويل كثيرٍ من المسلمين إلى عاطلين عن العمل في مقابل توظيف غير المسلمين ـ، و قامت عناصر منها بالشغب بسبب تلك التحولات ، تدخّل الأمير عبدالقادر لصالح ذلك النظام الجديد .
 
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city

مجاهرته بالماسونية :
بدأ الأمير بعد ذلك بالمجاهرة الفجة بالماسونية ، بل بالفرنسماسونية بشكل خاص ، يقول الأمير :
( إنني أعتبر منظمة البنائيين الأحرار كأول مؤسسة في العالم. وفي رأيي أن كل رجل لايجاهر بالعقيدة البنائية الماسونية يعد رجلاً ناقصاً وأؤمل يوماً أن أرى فيه انتشار مبادئ الفرنسماسونية في العالم ، ويومئذ فإن كل شعوب العالم ستعيش في سلام وأخوة”.
و االنصوص في ذلك عنه كثيرة ، إذ تحتفظ الدوائر العلمية الشرقية و الغربية بكثير من رسائل الأمير الى كثير من المتنفذين و المسئولين المتعلقة بتكريس الماسونيين الجدد ، وافتتاح محافل ماسونية جديدة ، و ما إلى ذلك من المهام الماسونية المناطة به .
وفاته :وافاه الأجل بدمشق في منتصف ليلة 19 رجب 1300هـ/ 24 مايو 1883 عن عمر يناهز 76 عامًا، وقد دفن بجوار الشيخ ابن عربي بالصالحية بدمشق، و بعد استقلال الجزائر طلبت الحكومة الجزائرية من الحكومة السورية نقل جثمانه إلى الجزائر ، فتمَّ ذلك في عام 1965
ذرية الأمير عبدالقادر الجزائري:
اجتهد الأمير عبدالقادر في تأسيس “محفل سوريا المستقل” ، وكما أسس عدة محافل فرعية تابعة له ، وقد ترقى إلى أعلى الدرجات حتى لقب بأستاذ أعظم للشرق.
و قامت ذرية الأمير عبدالقادر برعاية المحفل الأكبر ، وسلسلة المحافل التابعة له ، و اتهمت ذرية الأمير عبدالقادر الجزائري برعاية الماسونية في سوريا إلى منتصف القرن الماضي ، وكان الشيخ عبده ـ و هو ماسوني شهير ـ أثناء منفاه البيروتي في ضيافة وموضع حفاوة أحفاد الأمير عبد القادر الجزائري.
وقد بقي حفيده الأمير محمد سعيد حتى الستينات قطبا أعظم لمحفل جدِّه “محفل سوريا المستقل” بدمشق ، و الذي دعِي ـ حينذاك ـ باسم “المحفل الأكبر السوري” ، وذلك عام 1939.
كما لعب الأمير محمد سعيد دورا كبيراً في تاريخ سوريا الجديد ، وكان يُعامل خلال الحكومات المتعاقبة معاملة الرؤساء .
وكان الأمير محمد سعيد قد خصص جناحاً في قصره الدمشقي لاجتماع المحافل الماسونية المشرقية وهي عديدة منها محفل ميسلون، ومحفل أمية ومحفل أبي العلاء ومحفل العدل الشقيق، ومحفل يحمل اسم الأمير عبد القادر الجزائري نفسه.
========
أظن السبب الرئيس في تحوله هو إغراقه في التصوف ( الوحدة ..) ، الذي لا يفرق بين المسلم والكافر ، ويسير مع أقدار الله !
يُضاف :

1- كتب ( برونو إتيين ) مجلدًا موثقًا عن الجزائري بعنوان ” عبدالقادر الجزائري ” ، أثبت فيه :
- عقيدته الصوفية ( وحدة الوجود ) . ( ص 19 و 27 ) . ( و305 وما بعدها ) .
- تميعه مع النصارى . ( ص 284و412 ) .
- تعاونه مع دي لسبس بشأن قناة السويس وأخرى مثلها كان مقررًا إنشاءها بتونس . وكان الممهد لها عند الشعب المسلم هو الجزائري .
- ماسونيته ( ص 341و348و355و359و370و379و405وهو مهم ) .
- دعوته لوحدة الأديان ! ( ص 345و360) .

2- كتبت الأميرة بديعة الحسني كتابًا عن الجزائري ، بعنوان ” وما بدلوا تبديلا ” !! 1423هـ . حاولت فيه الدفاع عنه ، وأرفقت مقالا لأحد أقاربه ( د خلدون الجزائري ) ، بعنوان : ” إظهار المعارف في تبرئة الأمير عبدالقادر من كتاب المواقف ” !
وكتاب المواقف من كتب عبدالقادر التي أبان فيها عن عقيدته الصوفية المنحرفة .
ذكره الشيخ عبدالرزاق البيطار في ترجمته ( حلية البشر 2/904) ، وقال : ” وهو كتاب كبير في الواردات التي وردت عليه ” .

======
بسم الله الرحمن الرحيم
و هذا بحثٌ للأخ الفاضل أبوعبدالله همَّام بن محمد الجزائري
بعنوان :

التلاقـي المـاسونـي أو علاقة الأمير عبد القادر الجزائري بالمـاسونية
إن الحمد لله ، نحمده و نستعينه و نستهديه ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فهو المهتدي ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله صلى الله عليه و على آلـه و أصحابه أجمعين و سلم تسليمـا كثيرا.
أمـا بعد :
فإن الأمير عبد القـادر بن محي الدين الجزائري قد نُسجت حوله حكايات كثيرة غريبة قريبة من الخـيال ، أو القصص المشبَعَة بالأوهَام ، أو الأسَاطير الموغلة في الإختلاق !!
أُريدت لقصصه التي نُسِجت عنه و حوله أن تحتل مكانة في نفوس العرب عموماً ، و الجزائرين خصوصا ، ليصنعوا منه البطل المِقدَام ، و الرمز المغوار ، و الشخصية التاريخية الفذة التي صنعت أحداث التاريخ ، و أثرت في مجريات الأيـام ، و ضخت في نفوس الشعوب المبادئ السامية ، و المعاني العالية !
و علموا أن تحقيق ما يصبون إليه لا يتم إلا بالتضحية بالتاريخ الصحيح لهذا الأمير ، و تعويضه بتاريخ ساهم في بنـائه من التـفوا حوله ، و صنعوا منه تلك الشخصية المتألقة الممجدة !
و هم يعلمون أن تشويه التاريخ لن يدوم ، فسيأتي ذاك اليوم الذي يُنفض الغبار عن أوراق التاريخ ، و يُستخرج منها التاريخ الصحيح الذي لا يقبل التزييف و حينها ستظهر صورة من أهالوا عليه التمجيد و التقديس بأنه إنسان لا يستحق أن يُرفع في مصاف من تعتز بهم أممهم ، و تُكرمهم شعوبهم ، و تحتف بهم ذاكرة تاريخهم !!
نعم !
هذا الذي حدث مع شخصية الأمير عبد القادر بن محي الدين الجزائري
باختصار ..
حدث ذلك لإن الأمير عبد القادر انغمس في الحركة الماسونية قلبا و قالبا ، و تبوأ في مراتبها المنازل العالية ، و شُرِّف من قبل رموز هذه الحركة الباطنية بأعظم أوسمتهم ، و أفخم تشريفاتهم !
و من البديهي أن سخاء رؤوس الماسونية و رموزها على عربي مسلم من أمثال عبد القادر الجزائري بالتمجيد و التقديس و التعظيم لن يتم بدون مقـابل لأنه ضرب من الخيال ، و هذا [ المعلم الأكبر الإقليمي ] كان يُعارض قبول المسلمين في محافل الماسونية !! ؛ فكيف يُقبل أمثال عبد القادر، و كيف حدث هذا؟ !!
هذا هو السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان ، و خاصة عند من كانوا ضحية التهويل الذي أحيط بشخصية الأمير عبد القادر و تاريخه ؛ كيف حدث هذا ؟!!
لا غرابة من هذا ؛ فمن جال في صفحات التاريخ ، و قرأ ما قاله الذين أثبتوا [ تهمة ] توغل عبد القادر في الماسونية ، و اطلع على ما كتبه نفاة انضماه ، سيعيش بينهما معارك ضارية أستعملت فيها كل الأسلحة الفكرية !
لكن ما يهمنا ـ نحن ـ الآن ليس الولوج معهم في معاركهم التي لا تزيدنا إلا تيها ، بل سنقدم بعض ما قاله من أثبتوا ماسونية عبد القادر !
و من هنا البداية …
(يكتب عبد القادر في أشعاره الصوفيَّة فيقول : )

(شعر “فليس يدري الذي أقول غير فتى ** قد جاوز الكون من عَينٍ و من رُتَب”)
( كما يكتب في رسالته الجهرية إلى الفرنسيين: )
(شعر ” الدين واحد و لو يعيرني المسلمون و المسيحيون انتباههم لقضيت على اختلاف وجهات النظر بينهم، و لغدوا أخوة في الداخل و في الخارج…”)
[[ بعد ( أحداث دمشق الدامية) ، غُمر عبد القادر برسائل التقريظ و الأوسمة ، و أتاحت له هذه القضية أن يلتقي مرَّة أخرى مع الماسونيين :
مرة أخرى ، بالرغم من أننا لا نعلم متى، و ما هي مناسبة اللقاء الأول. و الواقع أن بعض جهات الاتصال بينه و بين بوجو ـ الماسوني نفسه ـ كانوا من الماسونيين ، من " بن دوران " إلـى البارون " دي ميشيل " ، مروراً بالمترجم المشؤوم المقدَّم عبد الله.
و هذه المرة كانت الأشياء أكثر استقامة، لكنها ليست أقلّ غموضا. و هكذا ( فمنذ أن تلقى الرسالة الأولى من " محفل الشرق الكبير" Grand Orient في فرنسا)، و هي تهنئة على تصرفه، عمد الأمير[عبد القادر] إلى الاستماع إلى شروح عن أهداف هذه الجمعية و نشاطاتها، و مداخلها و مخارجها، يقدِّمها له أحد أصدقائه ، و هو لبناني و من المـاسونيين القلائل العرب، و المسلمين القلائل في تلك الفترة، و هو(مميز ” شاهين مكاريوس ” الذي ربطته بعائلة الأمير صداقة حميمة) بحيث وجَّه فيما بعد اثنين من أبناء الأمير و هما محي الدين، الابن الأكبر، و محمد ، إلى الانتساب إلى محفله ” فلسطين” في بيروت. بينما انتسب ابن الثالث لاحقًا و هو الأمير عمر إلى محفل ” النور” في دمشق و انتهى إلى رتبة عليا في محفل “معحبي الكون” في باريس ، كما كان ابن رابع للأمير هو علي خليل ماسونيا أيضا. و كلهم تابعون إلى الجهات الوصائية الانجليزية في الجمعية.
أخيرا فإن العديد من أحفاده كانوا ماسونيين، حتى من كان في الجزائر مثل أبوطالب[محي الدين ابن أحمد] في العام 1901م.
ليس لدي برهان عما إذا كان قد تحدَّث عن ذلك إلى شرشل أوَّل مَن نشر سيرته الذاتية و أشار [في عام 1867م] إلى مسارَّة الأمير ؟ و كان قادة الماسونية البريطانية في تلك الفترة من العسكريين و القناصل؛ و الأخوة الماسونيون يتنقلون كثيرا بين مصر و لبنان و سورية.
و تتيميز شهادة أحد الماسونيين الزائرين الأمريكيين و هو ” روبير موريس ” بدقتها، و هو يتحدث عن لقاء أجراه في دمشق بتاريخ 7 نيسان ـ أبريل 1868م ، حيث صحبه الأخ ” ناصيف مشاقة” بعد اجتماع ماسوني إلى الأمير الذي قام ” بمعاقبته على الطريقة الأخوية الماسونية” و كان حاضراً في ذلك اليوم عدا أبناء الأمير الماسونيون، جوزيف بيلاستر J.PILASTERE الماسوني الفرنسي من محفل ” الحقيقة” في مرسيليا، و كذلك عدة أعضاء أنجليز ، و إيرانيين، و اتراك ، و يونانيين، من محفل “فلسطين” في بيروت؛ و بعض أفراد عائلة العظم المعروفة في دمشق . و كان عبد القادر نفسه مدرج الاسم في جداول محفل “سورية” في دمشق دون أن يتوفر برهان على حضوره اجتماعات ذلك المحفل.
غمرت القوى الغربية الأمير الشهم بمظاهر الامتنان و الإعجاب بعد قضية مذابح1860 : رسائل ، و هدايا ، و أوسمة ، و زوار تتتابع على دمشق و غص الدرب الصغير في باب الفراديس بالوفود حاملي الهدايا: فانجلترا قدمت له بندقية مضاعفة الماسورة مطعَّمة بالذهب؛ و الولايات المتحدة مسدسين؛ و قدَّم له الفرنسيون وسام جوقة الشرف من المرتبة الأولى ، و الروس وسام النسر الأبيض، و البروسيون وسام النسر الأسود، و اليونانيون وسام “المخلص” ، و الإيطاليون وسام “موريس واليعازر” ، و جزيرة سردينيا صلييبها و كذلك البابا بيوس التاسع، و بالطبع منحه السلطان العثماني النيشان المجيدي الهمايوني من المرتبة الأولى . كما بدرت من العالم الإسلامي ردَّات فعل مماثلة، كلن أفضلها في نظر الأمير تلك الرسالة التي وردته من البطل القوقازي محمد شامل أفندي المنفي في روسية.[الرسالة موجودة في تحفة الزائر(ص662-663) و في كتاب "فارس الجزائر ، الأمير عبد القادر" للعماد مصطفى طلاس (ص320-321)]
لم يستطع عبد القادر إلا أن يفكر بقدرهما المشترك ، فتعدَّى جوابه عبارات المجاملة إلى خلاصة عن مسيرته الخاصة، مع التأكيد على أن تصرفه يعود إلى عواطفه” الشريفة” و إلى شعوره كحام لأهل الكتاب.[الجواب موجود في التحفة(ص 663-664) و في كتاب العماد طلاس " فارس الجزائر" (ص 322-323)]
في هذا السياق من الغبطة بدا أيضا الماسونيون في تهنئتهم للأمير، بإرسَـال الهدايا ، و بالرسائل التي تعبر جيدا عن شعور الفرنسيين حيال المجاهد الجزائري في الفترة التي كان نابوليون الثالث يحلم فيها بمملكة عربية جاءت الرسالة الأولى من المحفل الباريسي ” هنري الرابع” ، الذي قدم أولا للأمير حلية، و هي مدالية معبرة برموزها [ أعيدت هذه المدالية إلى G.O (الشرق الأكبر) بتاريخ 13 تشرين الأول – أكتوبر 1947م (الرسالة 2997) من قبل عبد الرزاق بن عبد القادر أحد أبناء أحفاد عبد القادر من الجنسية الفلسطينية في الأرض العربية المحتلة. و المدالية موجود في متحف شارع كادهCADET . ] اهتم لها الأمير و هي تتألف من دائرة موضوعة ضمن مربع مضاعف و في المركز على أساس من ميناء أخضر، كوس مثلث علَّقت عليه عناصر نظرية مربع فيثاغوث. و أمكن لعبد القادر أن يقول في نفسه إن في جعبة الماسونين شيئا يستحق الاهتمام.
(( أيّها الأمير الشهير
أينما تبرق الفضيلة، و يعمّ التسامح و تُمجَّد الانسانية، يهرع الماسونيون ليهللوا و ليقدموا التقدير لمن عرف ، مع بذل أكبر التضحيات، كيف يتمم صنيع الله على الأرض ، و يقدم للمظلوم دعما حافظا منزَّها عن كل غرض. ذلك لأن الماسونية تعتبر هؤلاء الرجال منهم، و أنهم يسيرون على طريقهم ، و هي تشعر بالحاجة لرفع الصوت عاليا لشكرهم و مباركة همتهم باسم الحظ العاثر ، و المجتمع، و المبادئ السامية التي تستند إليها.
لهذا السبب ، جئنا أيها الأمير الشهير، نحن أعضاء المحفل الماسوني ” هنري الرابع” و ” شرق باريس” ، بعد العديدين غيرنا، إنما بذات الحماسة و العرفان بالجميل، لنضيف زهرية إلى تاج التبريكات الذي يضعه العالم المتمدن فوق هامتكم الجليلة النبيلة، و لنقدم قسطنا من الاعجاب إلى من سما على أحكام إدانة مسبقة مصدرها الإنغلاق و التزمّت في الدين ، و تجلى إنسانا قبل كل شيء ، فلم يستمع إلا إلى إيحاءات قلبه ليضع حاجزا حصينا أمام الهيجانات البربرية و التعصب.
نعم إنك فعلا الممثل، و النموذج الحقيقي لتلك القومية العربية المجيدة التي تدين لها أوروبة بالقسم الأعظم من المدنية و العلوم التي نوَّرتها. و لقد برهنت بتصرفاتك، و شهامة طبعك على أن تلك الأرومة لم تنتكس، و أنها إن بدت خامدة فيمكن أن تستيقظ لتحقق إنجازات عظيمة بحوافز عبقرية قادرة كعبقريتك ، فبعد أن دعمتها بسيفك و حققت لها مجدا و كبرا عرفت فرنسا ـ وز قد كانت غريمتك ـكيف تقدِّرهما و تنظر لهما بإعجاب، و ها أنت تعظمهت بالشهامة و التضحية اللتين برهنت عليهما مثبتا أسس حضارة أشادها أمثال عمر و ابن رشد، و الفارابي، و هم قدوة المحاربين، و العلماء و الفلاسفة الذين تعتز بهم أمتكم و بحق.
(….)
إن الماسونية الحرَّة التي يقوم مبدؤها على الإيمان بالله و خلود الروح ، و تؤسس أفعالها على محبة الإنسانية و ممارسة التسامح و الأخوة الشاملة لا يمكنها إلا أن تشهد ببالغ التأثر العبرة الكبرى التي تعطيها للعالم. و هي تعترف بك و تعتبرك واحدا من أبنائها (بالمشاركة بالأفكار على الأقل) و أنت الرجل الذي مارس ، بدون تفاخر و بإلهـام أولي ، شعارها السامي :” الواحد للكلّ”.
بهذا الشعور ، أيها الأمير الشهير، يجد محفل هنري الرابع ، و هو مجموعة صغيرة من العائلة الماسونية الكبرى، من واجبه أن يوجه لكم هذا التعبير البسيط إنما الصادق عن عميق مودَّته، و أن يقدم كعربون احترام حليته الرمزية .هذه الحلية التي لا قيمة لها إلا بدلالات رموزها : الكوس ،و المسواة ، و الفرجار ؛ و العدالة ، و المساواة ، و الأخوة ؛ لكنهاحلية تلتمع على صدور مخلصة للإنسانية و تستهيم حبا بأمثالها. و بهذه الصفة نقدمها لكم، و إذا تكرمتم بقبولها، و عندما ستلقون نظرة عليها، ستقولون في أنفسكم: إن هناك بعيدا في الغرب قلوبا تخفق في توافق مع قلبكم، و رجالا يبحلون اسمكم، و أخوة يحبونكم كواحد منهم؛ و سيكونون فخورين إن أتاحت لهم روابط أكثر وثوقا ليعتبروكم في عداد المؤيدين لمؤسستهم))[شرق باريس ، في 16/10/1860م]
و بما أننا نعلم بوجود دعوات عديدة وُجهت إلى الأمير، فمن المهم أن نتساءل لماذا لم يجب إلا على هذه (هذا إذا لم تكتشف رسائل جديدة في الملفات).
إن قِسما من الجواب موجود تماما في هذه الرسالة.
فأولاً هناك دعوة واضحة : إنها تقترح على الأمير أن يغدو في آن واحد ابنا لهذه الماسونية التي تقول الرسالة إنها أم جميع ذوي الإرادة الطيِّبة الذين يمارسون الأخوة، و أخاً لمجموعة الماسونيين الأحرار الذين يقولون عن أنفسهم إنهم “أبناء الأرملة” ، و علاقة أب ـ أخ تستتر كثيرا في أخوية يقتل أعضاؤها” رمزيا” المعلم المؤسس حيرام في طقوس و درجة إكمال [ يعتقد أن حيرام إيبور المستشار اليهودي لهيرودوس أغريبا ملك فلسطين هو المؤسس الأول للماسونية في العام 41م و سميت في حينه " القوة الخفية" . و كان حيرام قد فقد أباه و هو طفل فأطلق عليه اسم " ابن الأرملة" و لذلك يسمى الماسونية أنفسهم، و هم أخوته "أبناء الأرملة" و قد ذهب حيرام إلى صور ليفتش عن عمه حيث قتل أو مات و نهشت جثته الطيور الكواسر، و في مطلع القرن العشرين حضر أحد الماسونيين الأمريكان و هو "درايم ريغر" إلى صور، و فتش لمدة سنة إلى أن اهتدى إلى المكان الذي مات فيه فنصب له قبرا و عليه شعار الماسونية، و كان يؤمه الماسونيون للزيارة ]
يتعلق الأمر هنا بنداء مضاعف باتجاه العقل الباطن للأمير الذي اهتم بعد إخفاقه السياسي في البحث الصوفي (لكن هل عرف عنه ذلك في ـ تلك الفترة ؟ ، و هل كان الماسونيون يعرفون ذلك عنه ؟ هذا ما يُشك به) . فالماسونيون الأحرار يقترحون إذاً في آن واحد الاندماج الارتدادي، و التجربة الأخوية، إنما الاستيهامية إذ الأمر ليس في هذا الوارد دون عقدة اندساس.
أعتقد أن الأمير قد تحسَّس بهذه الدعوة ، إذ لا يمكنه إلا أن يبتسم للصورة الثلاثية التي يقترحها الماسونيون للإسلام : فقراءتهم مناقضة لقراءته، فالماسونيون يفكِّرون بالقوة المقاتلة( عمر صورة الأمير المقاتل التي ستتكرر في كل هذه القضية) و بالعلم (ابن رشد ، و تذاكراتهم عن تقدُّم العرب في هذا المضمار) ، و الفلسفة (الفارابي) ، و الواقع حتى في هذا الحال فإن المير لا يفكر إلا بالمعرفة الروحية، و بالشجاعة، و بالحسيَّة؛ كما ستلاحظ في إجاباته الخاصة فيما بعد ، و هذا ما سيطرح مشاكل في الترجمة أمام الأخوة…
نمتلك على الأقل رسالة أخرى موجهة إلى الأمير تؤكد فرضيتي، و هي تبدو عند القراءة الأولـى و كأنها تمثل الصورة الفرنسية ذاتها لعبد القادر حامي ضحايا التعصب ، و هي رسالة محفل ” الصداقة المخاصة” ، و موقَّعة من قبل مورا MURAT ، الذي تذكَّر أنه أحد رؤساء الماسونية عبر O.P.A النابوليونية و الشغوف بالدراسات المصرية.
[لمجد مهندس الكون الأعظم.
محفل القديس يوحنا المعروف بمحفل " الصداقة المخلصة" و الموضوع إشراف شرق فرنسة الكبير.
إلى الأمير عبد القادر، نسأل الله له الحفظ و الرشاد‍!
نحن جمعية الماسونيين الأحرار نردِّد معك : لا إله إلا الله.
و ليس لنا إلا مبدأ واحد : هو المجد لله مهندس الكون الأعظم ‍‍!
و الحب الأخوي لجميع أبناء البشر أبناء الله الأب الواحد،
الواثقون بالعدالة الإلهية الضامنة لخلود الروح.
نوجِّه لك أيها الأمير الورع هذه البادرة الودية لموقفك البطولي و النبيل وسط التعصب الرهيب الذي كسا بالحداد سورية بكاملها.
فليبارك الله، أيها الأمير الحكيم الباسل في هذا السلوك الديني المستوحى من عاطفة الأخوة الإنسانية أكثر منه من تسامح بسيط.
ألـم يتوقع الله، و الذي لم يخلق كائنين متمماثلين تمام التماثل حتى و لا ورقتي عشب أو حبتي رمل، طرقا مختلفة لفهمه و عبادته ؟
و ما اهمية هذه الفروق إذا كنا جميعً ننضوي تحت فكرة عدم إمكان خدمة الله بشكل حقيقي إلا بالعمل في محبة ليستنير و يساعد بعضنا بعضا الأخر. إن الله هو الأب السامي : أوليس السلام ، و الاتحاد ، و سعادة جميع أبنائه المتماعين بالعقل و الحرية ، مجده الأعظم ؟
على هذا الأساس ، نحن جمعية الماسونيين الأحرار المنتشرين في كل أرجاء الأرض ، بعدد ما يزال قليلا في الواقع ، سنكون معك دائما، دعاة الأخوة الإنسانية و المدافعين عن حرية المعتقد ، و كذلك عن استقلال الشعوب التي نحترم حقوق الجميع.
إليك إذًا أيها المير الورع تحية الأخوة بالله ، أبينا المشترك، و ليحقق الله السعادة لعائلته و الإزدهار لك في جميع مشاريعك الحقَّة]
هذه الرسالة في الواقع ، تختلف كليا عن السابقة، فهي أكثر تفيّدا بالشكل المسيحي منها بالشكل الإسلامي، بالرغم من أ، هذا المحفل يضم في عضويته سفير الشاه و عددا من الشخصيات *******ة المسلمة . و بينما محفل “هنري الرابع” بأن تتطرق رسالته إلى بعض المعارف الثقافية العربية الإسلامية، فإن نصّ هذه الرسالة، فيما عدا الترجمة التقريبية للصيغة الإسلامية المؤكدة لوحدة الله الأحد ، إذ أنها تبدأ بشهادة ” لا إله إلا الله ” يؤكد على الآب ” الأب المشترك” و ” مهندس الكون الأعظم” , ” الله ” ؛ بينما رسالة محفل ” هنري الرابع” ، لا تلمح إلى ” الله الذب نعبده جميعا” و لكن يمكن أن يكون عبد القادر قد تحسس بصيغة ” العرش … في أعماق كل القلوب” الذي يتناسب مع مفاهيم العرش و الذكر في القلب ، و لكن يمكن أن يكون أيضا قد اهتم بفكرة الواحد و المتعدد الأشكال في الرسالة الثانية.
أراني ، و أنا ما زلت في موضوع اختيار الأمير الرد على رسالة المحفل الأول، مضطرا لوضع فرضية. الواقع أن عبد القادر قد فضَّل مقولة الأم ـ الإخوة ، على مقولة الأب ـ الأخوة ، ليس لأنه مسلم ، و بالتالي فهي رؤية مثالية، و لكن بالأحرى لأنها واقعه المغربي المعاش ، و ليس لديه في الواقع لا شعور مبن بطريقة أوديبية؛ خاصة و أن أباه قد لعب دورا رئيساً في توجيهه : فمحيي الدين حتى في اسمه، و كذلك عبر الطريقة القادرية هو في أساس ميل عبد القادر نحو ابن عربي . فالأب الموجّه و المعلم يحملان كلاهما الاسم ذاته و هو يعني ” منعش و مجدد الدين” و الواقع أن الأمير لا يمكن أن يؤمن بالصدفة، لأنه سلك في آمبواز طريق إبراهيم القرآني، و كالصديق الحميم، قد أوضح الانكشاف، فهو لا يأخذ بالرؤيا و لا بالحلم، بحرفيتهما.
و من جهة أخرى فإن أمه ، التي يذكرها دائما في رسائله، بكلمة الوالدة ، وفق المتداول في المنطقة الوهرانية، قد توفيت مؤخرا ، و بذلك تحرّر من أجل مسيرته الأخيرة ، و هكذا ما فتئ بين عامي 1861 و 1865 يسافر بما فيها حجّه إلى الأماكن المقدسة . و قد كانت العقبة الأخيرة أمام تحقيق الأقل من مساراته. و كان يقول فيما بعد لمن يلومه على ترك عائلته : “صحيح أن عائلتي عزيزة عليّ ، لكن الله أعزّ “
(….)
لكن الماسونيين لا يعرفون كل هذا ، و لدينا البرهان في رسالة نشرها ياكونو YACONO في مؤلفه عن الماسونية الجزائرية[ المؤلف : "قرن من الماسونية 1785-1884" غير أن ياكومو قد كتب مقالا عن الأمير الماسوني في مجلة " شرق كبير فرنسة G.O.D.F" (الانسانية humanisme) رقم 57، أيار ـ مايو 1966 : 5-37 اعتبارا من وثائق متوفرة في تلك الفترة ضمن ملفات G.O.D.F.]
فبعد أن ترأس مادول Madaule إقامة محفل ” سيدي بلعباس” ، و جب عليه السفر في المنطقة، و في تشرين الثاني ـ نوفمبر 1867 كتب إلى “المشرق الكبير” رسالة فيها بعض الغرابة فقد قال :
(( عدت من جولة قمت بها في القبائل التي تفصلنا عن مراكش، و التي تمارس شعائر إسلامية ، سبق لعبد القادر ممارستها و التي يمكن تسميتها الشعائر الحرة لموريتانيا. إن توجيه البريد إلى فرنسة خلال بضع دقائق يضطرني إلى تأجيل ذكر التفاصيل المثيرة للفضول ، و الواجب تبليغكم إياها حول هذا الاكتشاف الهام.إنني آمل أن أتمكن من توجيه هذه الطاعة الرهبانية الجديدة للخضوع لقوانينكم.
و يضيف ” يا كونو” : ((هذه ” الطاعة الرهبانية” الجديدة قد لا تكون إى أخوية القادرية المشهورة التي اعتمد عليها عبد القادر . و هكذا بعد سبع و ثلاثين سنة من الاستلاء على مدينة الجزائر، يجهل أحد أقطاب الماسونية ، الصديق للعرب ، و المتكلم بلغتهم على ما يبدوا بوجود الأخويَّات ! من المؤكد أن الوصول إلى الملغمة بين الأشخاص غير المتعارفين يقتضي السير في طريق طويل)).
هذا ما يجعل أيضا هذا الغموض في رسالة محفل ” هنري الرابع “، و كذلك في النصوص التي سأعرضها لاحقا أكثر إثارة للذهول. إنها تتناول جميعها هذه التفاهات المبتذلة السائدة في ذلك العصر عن الشرق ، و لكنها في الوقت نفسه تعرض مظاهر إيجابية جدا في تمثيل الماضي و النظر إلى مستقبل ممكن عبر تلميحات إلى ” القومية المجيدة … و شهامة تلك الأرومة التي لم تنتكس و إنما تبدو خامدة … و يمكن أن تستيقظ لتحقيق إنجازات عظيمة… تتجلّى بالشهامة و التضحية … عدا ما حوته من أسلاف عظام نقلوا الثقافة إلى أوربة …” مع ذلك تجدر الإشارة إلى أن هذه الصورة تتوافق عمليًا مع تلك التي سيبرزها بعد عدة سنوات باعثو النهضة العربية في باريس كما في أمكنة أخرى، من جمال الدين الأفغاني إلى الكواكبي و حتى فيما بعد إلى حزب ” البعث” و الواقع أننا نعرف ، منذ أطروحة “تييري زركون ” ، و أبحاث ” فنسان كوش” ، أن أحد عوامل تلك الايديولوجية الجديدة يعود ، جزئيا إلى المحافل الماسونية ؛ إذ يوجد هنا تلاحق مدهش إلا إذا كان هناك خدعة أو إخراج آخر في تاريخ ليس له ، دون شك، ذات المعنى، بالنسبة للصوفيين و للمؤرخين. لكن يجب ألا ينسينا هذا غموض مسعى عبد القادر كما سأبينه في اللامنطق الذي يرتكبه الماسونيون في تفسيرهم؛ إضافة إلى أنه لا يمكن من شرح المظاهر السلبية كليا، التي ينشرونها في الوقت ذاته عن صورة الشرق. و إذا استثنينا ملاحظة سأقدِّمها لاحقا عن تسامح الإسلام لدى ” مادول ” ـ هذا القطب الذي سيلعب دورا كبيرا في نشر الماسونية في الجزائر ـ يبدو واضحا عبر جميع هذه النصوص أن الخطاب الماسوني يرتكز بشكل مطلق على مفهوم ذلك العصر أي نظرة الغرب إلى الإسلام من ” كينه” Quinet إلـى ” رنان” Renan ، مرورا بـ”سيلفتسر دي ساسي” De sacy ؛ و هو مفهمو ليس مستقلا أبدا ، و يقابل ” الجهل ” و ” الجريمة” و ” التعصب” و ” البربرية” ” بمشعل الحقيقة” و هكذا فما من جديد تحت الشمس.
لا يُستثنى “الماسونيون الأحرار” من القاعدة و هم يعيدون هذا الخطاب بعينه حتى عندما يتعلق الأمر بنغم يضيفونه للإشادة ببطلهم الجديد. و لأبين ذلك اخترت فيما يلي سردا تعظيميا لأحداث دمشق ، مجرَّدة من سياقها، لأعطاء عبد القادر مجددا مكانا متميِّزا في التصور الشعبي، بينما السلطات الفرنسية ما تزال حذرة منه كما يبيِّن السرد التاريخي للوقائع.
 
رد: اعجابا بمقاومة الامير عبد القادر الجزائري الامريكيون يسمون مدينة بسمه_el kader city

(مميز التـعظيم المَـاسوني)
إنه متضمن في نشرة خاصة صادرة عن ” شرق فرنسة الكبير” G.O.D.F (تحت رقم 293، العام 1865، ص42) ، و هو مكرر فيما بعد من قبل جميع المؤلفين اللاحقين ؛ من هذه الوثيقة أنطلق إذا ، مع تصحيح بعض الأخطاء و خاصة تلك التي تعود إلى الترجمة عن رسائل أصلية.
(( – توقفوا ، فما زال أمامكم الوقت، و إذا لم تستمعوا إليّ فهذا يعني أن الله لم يمنحكم العقل و ما أنتم إلا بهائم لا تتحرك إلا عند مرأى العشب و الماء. صرخ المتجمهرون بغيظ كصرخة الرومان سابقا في الحلبات : المسيحيون ‍ ‍! المسيحيون! سلمنا المسيحيين ، الكفرة ، و إلا سنشملك بالعقوبة ذاتها و نلحقك بأخوتك.
- أجاب عبد القادر و عيناه تبرقان بالشرر : لن تصلوا إلى المسيحيين مادام واحد من جنودي البواسل على قيد الحياة. إنهم في حماي، يا قتلة النساء و الأطفال ! و أبناء المعصية . جربوا إذًا أن تنتزعوا واحداً من هؤلاء المسيحيين الذين ألجأتهم إليّ و أعدكم بأنكم سترون يومًا رهيبا، لأنكم ستتعلمون كيف يتقن جنود عبد القادر استعمال البارود.
- ثم التفت نحو مرافقه الأمين “قره محمد” ، قائلاً :
- قرة ، إليّ بحصاني و سلاحي ، و أنتم يا رفاقي المغاربة ، فلتبتهج قلوبكم، و الله على ما أقول شهيد ، سنقاتل من أجل قضية بمثل قدسية القضية التي قاتلنا من أجلها سوية في السابق.
صرخة الحرب هذه كانت نهاية الصراع، و ستبقى منقوشة في ذاكرة كل مُعترف بالجميل في العالم المتمدِّن، فقد أحدثت لدى الجميع رجَّة انفعال حقيقية ، لأنها كشفت ، وحدها فقط ، عن قدرة العواطف الماسونية التي تعمر روح أخينا الشهير.
نعم ! كان ماسونيا مجيدا هذا الذي يسمي ، دون تمييز بين الأجناس و الأديان ، جميع البشر أخوته، و كتن مستعدا بذل دمه من أجلهم.))
هذا النص سيستخدم أساسا لجميع النصوص عن هذا الحدث لأكثر من مئة سنة : ففي عددنا الأخير ( ز هو يعود إلى مقال في مجلة العالم الماسوني ، العام 1865 ، ص228) و بخصوص فكاهة أطلقتها صحيفة فرنسة La gazette de France ذكرنا أن الأخ عبد القادر قد انتسب في الاسكندرية(مصر) إلى ” محفل هنري الرابع” شرق باريس. إنما “محفل الأهرام” تمّ انتسابه بتاريخ 18 حيزران ـ جوان 1864. لكن ما جهلته أو تظاهرت بجهله صحيفة فرنسة، التي تتهمنا بأننا أعداء المذهب الكاثوليكي ، رغم احترامنا الأديان و المذاهب ، هو أن الأمير الشهير ، المتشيّع المتحمس للقرآن، كما وصفته الصحيفة ، قد قُبل في الماسونية عقب تصرفه الرائع خلال مذابح سورية حيث أنقذ اثني عشر ألف و خمسمئة مسيحي من أيدي المتعصبين؛ و أن مؤسستنا لم تحرص على اعتباره من أتباعها إلا لأنه ظهر وسط هذه المشاهد من المجازر و الدماء ، و هو من سلالة الرسول صلى الله عليه و سلم ، ليس كممثل متزمت لشيعة و إنما كنصير لمبادئ الأخلاق المستقلة عن كل فكرة فوق الطبيعة ، و هذا ما هو ، بالاستباق عمل ماسوني رئيس.
نتذكر أيضا القدرة التي أبداها عبد القادر أمام هذه الجمهور الهائج في [أحداث دمشق ] ، و كيف نقلت المجلات الماسونية تلك المواقف و كررتها عبر سردٍ تعظيمي في مجلاتها كلمة كلمة في نحو عشر مقالات ظهرت ، و عبر الصورة التي يرسمها الماسونيون للأمير ، و عبر المهمة التي سيقترحها الفرنسيون و الماسونيون عليه حيث سينتهزون بادرة عبد القادر لنشر مبادئهم .
و هذه كلمة قالها خطيب ” محفل هنري الرابع ” : (( و قد تأثرت الماسونية بدورها أمام هذا التصرف الذي يتماشى مع مبادئها و هدف إنشائها فقرَّر “محفل هنري الرابع” ، إلى جانب آخرين ، أن يوجِّه رسالة تهنئة إلى الأمير مع حلية كرمز تقدير))
[و لم يتأخر جواب الأمير أبداً و كان يحوي طلبًا صريحاً بالمسارَّة [الانضمام] .و أدرك ” محفل هنري الرابع” أهمية هذه المسارّة لمستقبل الماسونية في الشرق، فاستقبل الطلب بمبادرة عاجلة ، و اهتم مباشرة بالسعي إلى تأمين وسائل تحقيقه. و كتبت رسالة أخرى إلى الأمير لاطلاعه على شروط المسارّة ، و على الأسئلة التي يجب عليها. و قد أجاب بالطريقة الأكثر صراحة و وضوحا، بشكل أرضى ” المحفل ” الذي كلَّف الأخ فنيز Vennez و هو آنذاك المحترم صاحب ” الرتبة الأولى ” فيه أن يتفاهم مع ” المشرق الأكبر ” في فرنسة حول الطريقة التي يمكن إجراء هذه المسارّة فيها نظرا للعقبة الكبرى الناتجة عن غياب العضو المُستقبَل.
و رغب صاحب السمو الأمير “لوسيان مورا” أن يحقق للمـاسونية هذا الكسب المجيد فأعلن استعداده بكل طيبة خاطر لإجراء كل التسهيلات الممكنة لتحقيقه..]
و عند رفع المرشال ” مانيان” Magnan إلى رتبة ” الأستاذية الكبرى” ، أراد المحفل متابعة مشروعه لضم الأمير عبد القادر إلى الماسونية ، مع أن ” محفل أهرمات مصر ” بالاسكندرية لم يقطع اتصاله بعبد القادر بتشجيع من ” محفل هنري الرابع” و تابع المساعي مع الأمير الموجود آنذاك في مكة أو المدينة .
(مميز و في جوان 1864 تم رسميا إجراء المسارّة مع الأمير و تنسيبه في الدرجة الأولى من محفل “أهرامات مصر”.)
قال (مميز ” نيكولو ” Nicoullau خطيب محفل “الأهرامات” ) ، شرق الاسكندرية (مصر) معبرا عن بهجته بانضمام الأمير عبد القادر : [إن أعجوبة الأخوة التي تمت اليوم يجب أن تعطي ثمارها ! (مميز فالسيف الماسوني الذي عهدنا به إلى يدي أخينا الحبيب عبد القادر لن يكون أقل بريقا من سيف المحارب) ؛ و يبدو لي أنني على ضوء نجمنا، و خلف شمسنا، نهارا جديدا يبزغ من أجل الشرق].
و أقيمت أيضا احتفالات متنوعة بمسارّة عبد القادر في الاسكندرية و باريس ، و هذا مقطع من كلام خطيب ” محفل هنري الرابع ” بباريس حيث قال : [ باعطائنا لمسارّة الأخ عبد القادر مثل هذا الدويّ ، يجب أن نعلن هنا ، قبل كل شيء ، أننا لا نمجد أبدا الأمير وحده ، أيا كانت فضائله و استحقاقاته التي يسرنا جميعا الاعتراف بها؛ فنحن كثيروا التشرب لمبدأ الماسونية الكبير الكافي الشافي ... و الماسونية ، و هي تجمُّعُ رجال أحرار مستقيمين ، أصدقاء للفضيلة و الإنسانية ، تؤكد استحقاق الرجال بحيث تريد جيدا دعوتهم للمساهمة في عملها بمنحهم المسارّة..
ما رأيناه في المسارّة التي كرّسناها اليوم بعد أن تابعنا طويلا اكتمالها ، هو انغراز الماسونية في مهد الجهل و التعصب ، إنه علَم التسامح يسلّم لأيد محترمة ، و يُعهد به إلى ذراع أثبتت جدارتها، و رفعته ، و الأمنية الأثيرة لدينا أن يرفع فوق أعلى مـآذن المساجد مقابل راية الرسول.
يعتبر الأمير الماسوني ، بالنسبة لنا الإسفين المنغرز في صخرة البربرية ، إنه الفأس الموضوعة على جذر شجرة سم الجهل ذات الثمار المميتة، و الموجّهة لاقتلاعها في زمن قريب. و يمكن تقدير نتائج هذه المسارّة عندما نسمع إجابات الأمير على الأسئلة التي وجّهت إليه من قبلنا عن هذا الموضوع من جهة ..
و إذا كنا قد تحدثنا عن الطاقة التي تميز الأمير ، و التي نعتمد عليها لنجاح مهمتنا التي غدت من الآن فصاعدا مهمته ، فلأننا نعلم كم ستكون هذه الطاقة ضرورية أمام المقاومات التي لن تتأخر في إبدائها المعتقدات الباطلة المستندة إلى تقاليد بربرية...و سنعمل من أجل مساعدته على تامين مراسلات منتظمة و مستمرة معه، نطلعه خلالها على أعمالنا ، و بقدر الإمكان على سير الماسونية في العالم و إذا تلطف " مهندس الكون الأعظم بدعم جهوده و جهودنا ، فسنرى أخيرا الشرق ينفض أكفانه ، و يخرج كما " ألـيعازر " من قبره ، و يولد من جديد مليئا بالحيوية من أجل الحياة الأخلاقية و الحضارة . هو ذا السبب ، أيها الأخوة الزائرون الأعزاء ، هو ذا لماذا وجد محفل " هنري الرابع " ، أن من واجبه الاحتفال بهذه المـسارّة كحدث واعد بمستقبل زاهر للماسونية...]] انتهى النقل
قلت : مع العلم أن ” المعلم الأكبر الأقليمي ” للماسـونية كان يُعارض قبول المسلمين !!!
هذا ما وصلت إليه يدي من وثائق في هذه العجالة ، و سأتناول هذا الموضوع في المرة القادمة ـ إن شاء الله تعالى ـ بتفصيل أخرى دونَّها من بحثوا في الموضوع و اهتموا به ؛ تجلي حقيقة تاريخ الأمير عبد القادر و ماسونيته المستورة !
و لا يغيب عنا دوره في جمع كتب شيخ الإسلام ابن تيمية و طلبته بالأثمان الغالية ، و تجميعها ثم حرقها في دمشق بمؤازة كل من يهمه إتلاف تراث أهل السنة و الجماعة ! و هذا الفعل قد اشتهر عنه عند علماء الشام السلفيين ، و عنهم ذكره الشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ في أحد مجالسه !
و الله أعلم ، و صلى الله على محمد و آله و صحبه و سلم
( كتبه
أبوعبدالله همَّام بن محمد الجزائري
ـعفا الله تعالى عنه بمنه و كرمه ـ
الجزائر : الأحد 28صفر 1425هـ) شكرا لك … بارك الله فيك …
===========
الماسونيةاللبنانية تعلن ان : الدروز وراء فتنة 1860 باوامر من الانجليز ! ودور الماسوني عبد القادر الجزائري في انهاءها !

******
حصلت احداث الفتنة الطائفية الكبرى الاولى في حبل لبنان عام 1860 وراح ضحيتها عدد كبير من المسيحيين الموارنة والدروز الحاليين اضافة الى عدد كبير ايضا من المسلمين ونجم عنها عمليات تهجير واسعة الى مختلف مناطق العالم الى مدن الشام الداخلية حلب و حمص و دمشق … او مصر و الامريكتين … وتكررت بصورة جديدة في اول السبعينات ايضا لاسباب مختلفة اهمها (تحول لبنان الى نقطة انطلاق مادية حقيقة لتحرير فلسطين ) وربما تلاحظون الان شرارات وبوادر حرب اهلية جديدة فيه بانباء واخبار تحريضية …يبثها ( عملاء فرنسا الحاقدون ) من موارنة لبنان خصوصا من جديد في كل وسائل الاعلام التي يديرونها باوامر خارجية (اسرائيلية مباشرة) او ( اوربية / امريكية ) عن (سلاح حزب الله والمخيمات ) !!! وبشكل فاقع واضح التبعية والخيانة بدءا من البطريق : صفير …. الى اصغر سياسي واعلامي ماروني … ولهم بالطبع اعوان ومشاركين من بقية الطوائف التي تدور في فلك الخيانة للامة سواء كانوا دروزا او مسلمين (سنة و شيعة ). ربما تفيد من يتابع التطورات الجارية على قدم وساق في اشعال نار الحرب الاهلية الجديدة فيه و يهمه الربط بين مقتل الحريري (الذي نفذته اجهزة خبيرة ماسونية عليا باوامر صهيونية خالصة ) الذي يمكن ان يتطور لغايات استعمارية واضحة ويتحول سببا وخلفية لاحداث فتنة طائفية جديدة في لبنان تشبه في اثارها ومحتواها وابعادها تماما احداث فتنة 1860 وانما تصب في مصلحة بني يهوذا هذه المرة مباشرة وتمكنهم من التجذّر فترة ايام معدودة اطول في لعبة البقاء التي يعرفون نهايتها جيدا ) ….

و في هذا المقطع البسيط هنا من كتاب : الماسونية ديانة ام بدعة : لا اسكندر شاهين .. صورة لم يعتني بها مؤلفها اصلا وانما وضعت بالاصل عرضا في الرد على حفيدة الماسوني الجزائري ولاثبات (شرف )ماسونية الجزائري اصلا نقلا مصادر معروفة موجودة …كما يتناول فيه الباحث الماسوني اسكندر شاهين بالحرف والصورة تاريخ الماسونية في الشرق واهم الركائز والشخصيات التي قامت وتقوم عليها اضافة لملحق غني بصور قديمة وحديثة لقادة الماسونية والاحياء منهم اليوم 1999 في لبنان وعدد من الوثائق الهامة المزدحمة فيه ومنها صور ووثائق عن انتساب الخائن حسين بن طلال وكبار اعضاء حكوماته و الترخيص الحكومي اللبناني لانشاء المحفل الماسوني تحت اسم : المجلس السامي اللبناني الموحد (سلطة ماسونية عليا ) من قبل وزير الداخلية اللبناني عبد الله الراسي 13 تموز عام 1988 مثلا اضافة لصور عدد كبير من الاعضاء والشخصيات الهامة التي لاتزال تدير دفة الحكم في لبنان حاليا ومنهم رشيد الصلح , كريم بقرادوني , ضاهر ديب , انطوان صعب (الاستاذ الاعظم للمحفل الاكبر اللبناني حاليا ) , عبد اللطيف سنو ولقبه القطب الاعظم للشرق الافريقي الوطني ) , انطوان عاصي (صاحب النص , باحث ماسوني ) فريد شهاب , جان صفير , فؤاد السعد , ريمون باتايان , بيار عماد , فريد شهاب , ……وغيرهم .
بين ايدكم فقرة فقط من الكتاب يرد فيه انطوان عاصي على ( بديعة الحسني الجزائري) حفيدة الماسوني عبد القادر الجزائري حين نشرت تكذيب في الصحافة حاولت تبرئة جدها من الانتساب للماسونية ولا ندري لم وحفيده سعيد الجزائري كان رئيس المحافل كلها في الشرق ؟ وهو الذي استلم حكم دمشق ليلة ونهار فقط بانتظار وصول الماسوني فيصل واللنبي من الجنوب اليها عام 1918 !!!!!!!
ما يهم هنا ليس ماسونية الجزائري فهي واضحة كالشمس… لكن ما اورد انطوان عاصي ( احد الاقطاب الماسونية ) في رسالته لها والتي نشرها هنا مؤلف الكتاب اسكندر شاهين …
وما يجدر الاشارة اليه هنا في الرسالة هو اقرار : (انطوان عاصي نقلا عن الموسوعة الفرنسية ) لاحداث 1860 في الشام وذكره بالاسم لمن اثاروا فتنة 1860 بين المسيحيين والدروز في جبل لبنان عام 1860 وهم برايه : اسماعيل الاطرش , حسين تلحوق , وحمود نكد ! وانهم افتعلوا هذه الفتن باوامر من الانجليز . !!!
وهنا نص لجزء الاخير من الرسالة الموجهة من القطب الماسوني اللبناني انطوان عاصي الى بديعة الحسني حفيدة الجزائري بدمشق
_______________________________

احداث 1860
حضرة الاميرة الموقرة:
نحن الماسونييون العريقون , نعلم بذلك من الخوارج المتطفلين , بل اننا نسمح بان ندل هؤلاء على الحجة الدامغة في هذا الشان, وهي حجة التوراة في عدة صفحات , ورد فيها ما لايمكن المكابرة معه , عند المقابلة بين نصها والنص المماثل , في التعالم الماسونية.
إلا ان التوراة ههنا , سند هام , من الوجهة التاريخية , وهو يدلنا على قدم هذه الجمعية
ولكن ندرك انحسار خطر اليهودية , بالنسبة للماسونية , في هذه النقطة فحسب , ينبغي ان نذكر : ان الحضارة في شتى مناحيها , ان هي الا سلسلة متتابعة متعاقبة منذ اقدم العصور ,. تالفت من المجهودات العامة , بين الشعوب و الامم , وعلى مر الدهر و ليس العبرة فيها , من حيث قدمها وعراقتها , وانما العبرة كل العبرة بتطورها والجدة التي رافقتها .
حضرة الاميرة الفاضلة :
لن اذكر ما استلهمته الماسونية من الصوفية الاسلامية من (ابن خلدون ) وعمر بن الفارض و( ابو العلاء المعري )وانما ساكتفي عما ورد في دراسة عن الغزالي واوجزها بالتالي :
ورد في دراسة للاستاذ الاعظم للمحفل الاكبر الروماني

Gerad Serbansco, HIstoire de la France_Maconnerie Universelle:
في موسوعته التي طبعت عام 1969 _باريس _ عن حملة نابليون الثالث على سورية مع ترجمته .
في ذلك العام 1860 ونظرا للاحداث الطائفية والمذهبية التي حصلت في لبنان وسوريا والتي كان وراءها الامبراطورية الانجليزية بالاتفاق بين وريث العهد المصري والامبراطورية العثمانية والتي اراد بموجبها خضوع سوريا الى الحكم العثماني , قررت فرنسا ومعها بروسيا وايطاليا ارسال بعثة عسكرية مؤلفة من 12 الف عسكري فرنسي لانقاذ الدروز و الموارنة من المجازر التي ارتكبها ( الطورانيون الاتراك ) بقيادة فؤاد باشا , كان قائد الحملةالجنرال : Beauford D`Haut Poul
خاطبهم نابليون الثالث بقوله : ( قد يكون عددكم قليلا إنما انتم تمثلون العلم الفرنسي وتمثلون مبادى الحرية والمساواة والاخاء) .

وللتاريخ نذكر أن من قاة الفتنة السياسية باوامر من الانجليز كانوا اسماعيل الاطرش , حسين تلحوق , وحمود نكد .
نحن نذكر هذه الاسماء كما ورت في المرجع المذكور وعلى ذمة التاريخ ,وكانت المجازر بين الدروز والموارنة وبين الدروز وبقية الفرق الاسلامية , ووفاء للحفاظ على الاقليات في الشرق , كلف الامبراطور نابليون الثالث الامير ( عبد القادر الجزائري) بوقف المجازر ويقول المرجع في 16 اب 1860 وصل الى بيروت 12 الف عسكري فرنسي معهم بضعة الاف من النمساويين والبروسيين والانجليز , استطاع الامير عبد القادر الجزائري ان ينقذ حياة 13 الف شخص ولكي يظهر فؤاد باشا العثماني حسن نيته فقد اعدم سبعة وخمسين مسلما ومئةو عشرة من العسكر التركي وحكم على اربعمائة شخص بالاشغال الشاقة وقلد نابليون الثالث الامير عبد القادر الجزائري رتبة ( مرتبة الشرف ) .
واصبحت كلمة البناء وليس اشارة الى العملة الفرنسية على شفاه كل الذين بقوا على قيد الحياة .
 
الحالة
مغلق و غير مفتوح للمزيد من الردود.
عودة
أعلى