لم يعد قياس التوازنات الاستراتيجية بين الدول يقتصر على قياس التوازن العسكري بعد أن تطورت أسلحة ومعدات
القتال، وأصبح تأثيرها لا يقتصر على ساحة المعركة فقط، وإنما امتد مواجهة وعمقاً ليشمل الأعماق التكتيكية والاستراتيجية ويوقع الدمار في الأهداف الاستراتيجية الحيوية في العمق الاستراتيجي للدول ليشمل المناطق السكانية والمصانع المدنية والحربية التي تمد القوات المسلحة باحتياجاتها من أسلحة ومعدات القتال والذخائر وقطع الغيار، والخامات والصناعات التكميلية اللازمة لها، وحيث السدود ومحطات القوى وموارد الطاقة والمستودعات والمطارات والموانئ وطرق المواصلات وعقدها الرئيسية، وكل ما يمد الشعب وقواته المسلحة باحتياجاتهم الضرورية لمواصلة القتال وتحقيق الغايات والأهداف القومية والحفاظ على المصالح الحيوية للشعب والدولة، بل أصبحت القاذفات والمقاتلات والصواريخ البالستية والمسلحة بذخائر دمار شامل تصل إلى ما هو خلف هذا العمق لتصيب دول التحالف أو التأييد والدعم. كما أصبح الشعب ذاته هدفاً لتنظيمات إرهابية ترعاها وتحركها الدول المعادية، والتي تلعب على الاختلافات العرقية والمذهبية لتثير صراعات وفتناً داخلية، تربك قيادات الدولة وأجهزتها الأمنية في الداخل، لتصبح الدولة معرضة لعدائيات تضرب من الخارج وعدائيات أخرى تضرب في الداخل. ولذلك أصبحت قوى الدولة الشاملة- الجغرافية والبشرية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والمعنوية- مشاركة في حسابات قياس قوة الدولة بشكل كامل، ومن ثم إمكانية مقارنتها بقوى الدولة الشاملة عند العدائيات، واستخلاص النتائج المتوقعة إذا ما خاضت الدولة صراعاً مسلحاً أو حرباً شاملة ضد أعدائها، والتحسب لكل بعد من أبعاد هذا الصراع يمكن أن يؤثر في قدرات الدولة كل على حدة، ثم بشكل شمولي، وبما يؤثر في النتائج النهائية للصراع.
مفهوم القوة الشاملة للدولة
ولم يكن هذا التحول في قياس التوازنات الاستراتيجية على أساس القوة الشاملة للدولة وليد اليوم أو الأمس القريب، وإنما هو تحول بدأ منذ نحو خمسة قرون عندما توصل فلاسفة وصناع الاستراتيجية إلى أهمية إدخال جميع قوى الدولة الشاملة في حساب قدراتها على خوض الصراعات المسلحة، وهو ما عرف بـ”القوة القومية الشاملة للدولة National Total Power”. وكان في مقدمة هؤلاء الفلاسفة المفكر الإيطالى “نقولا ماكيافيللى Nicola Machiavelli” عام 1521 ميلادية في كتابه “فن الحرب Dell’arte della Guerra” والذي نادى فيه بفكرة “الأمة تحت السلاح Nation in arms” مستنداً في ذلك إلى أن عصر لعبة الحروب بواسطة الملوك والأمراء في قيادة الجيوش المحترفة، ودون اعتبار للشعوب والكتل البشرية قد انتهى. وقد كانت فكرة تسليح الأمة أو الشعب هي منبع فكرة الحرب الشاملة Total War والتي أصبحت هي الفكرة السائدة في القرن العشرين على ضوء التقدم الهائل في تقنيات الأسلحة التقليدية وفوق التقليدية ذات الدمار الشامل (نووية وكيميائية وبيولوجية وذات تفجير حجمي) ووسائل إيصالها المتنوعة التي شملت الطائرات والصواريخ الباليستية والغواصات والصواريخ كروز، بل والمدفعيات وراجمات الصواريخ أيضاً. وغزت وانتشرت في بلدان الشرق الأوسط وما حوله في آسيا الوسطى وجنوب آسيا ووسط وجنوب إفريقيا والبلقان، وأصبح احتمال وقوعها في أيدى منظمات إرهابية غير مستبعد. ومن ثم أصبح مفهوم الحرب الشاملة بأبعاده التقليدية وفوق التقليدية هو المجال الذي ينبغى أن تبُحث من خلاله أبعاد التوازنات الاستراتيجية بين الدول العربية وإسرائيل وإيران، بعد أن أصبحت الأولى قوة نووية معترفاً بها، والثانية تواصل تحديها للمجتمع الدولي لتصبح قوة نووية وصاروخية في المنطقة، وتطالب بدور في صياغة منظومة الأمن الإقليمي، ولا سيما في منطقة الخليج، كما صار لها أذرع ممتدة في معظم بلدان الشرق الأوسط وجنوب ووسط آسيا وإفريقيا تعمل لأجل المصالح الإيرانية وتخدم أهدافها، وكلاهما- إسرائيل وإيران- يشكلان تهديداً خطيراً للأمن العربي في بعديه القطري والقومي. وإذا كان ماكيافيللى قد اعتبر أن الكتلة البشرية في الدولة Masses هي العامل المؤثر في الحروب والصراعات المسلحة، باعتبار أنها الوعاء الذي يخرج منه المقاتلون والعلماء والمفكرون..إلخ، فقد اتبعه واتفق معه في هذا الرأي علماء ومفكرون آخرون مثل توماس هوبس Thomas Hobbs منذ ثلاث مائة سنة، وأخيراً هانز مورجينثاو Hans Morgenthau، وفريدريك شومان Fredric L. Sochuman، واعتبروا أن الحرب أصبحت شاملة، وأن الدولة في علاقاتها السياسية، وفي حفاظها على هيبتها، وعند حساب ثقلها الإقليمي والدولي في موازين السياسة الخارجية أو في ميادين القتال، إنما تعتمد على قوتها الشاملة، التى تمثل قدرتها على إنهاء وحسم أي نوع من أنواع الصراعات والأزمات- بما في ذلك الصراع المسلح- لصالح الدولة، وبما يؤمِن تحقيق أهدافها وغاياتها القومية، واجتياز أي عقبات والتغلب على أي تهديدات تحول دون تحقيق ذلك. ولقد اتفق رأي المفكرين والعلماء على أن وحدة القياس لتقييم القوة القومية- أو القوة الشاملة- وقياس التوازنات الاستراتيجية، هي الوحدة السياسية أو (الدولة)، وأن قوة الدولة التى توضع مع موازين القياسات الاستراتيجية ليست قوة مطلقة، بل هي قوة تقارن مع قوى الدول الأخرى في الدائرة الإقليمية أو في الدائرة الدولية إذا كانت من القوى العظمى أو الكبرى، خاصة تلك التي تحيط بها أو تتشابك أو تتعارض مع مصالحها القومية. ومن ثم أصبحت قوة الدولة تركيباً شمولياً يدخل في مكوناته العناصر الرئيسية التى تقوم عليها الدولة، وأهمها جغرافية الدولة وقدراتها الجيوبوليتيكية، وقوتها البشرية، وقوتها الاقتصادية بما في ذلك ثرواتها الطبيعية وقوتها الصناعية والزراعية، وقوتها السياسية ونفوذها داخلياً وخارجياً، وأخيراً قوتها العسكرية بأفرعها المختلفة التقليدية وفوق التقليدية. ولكل من هذه المكونات تأثيره في قوة الدولة الشاملة. وإذا كانت آراء المفكرين والباحثين قد اتفقت تقريباً على مكونات القوة الشاملة، إلا أنها اختلفت كثيراً في تأثير هذه المكونات على قوة الدولة القومية، ونسبة تأثير كل عنصر منها على إجمالي قوة الدولة الشاملة، وبالتالي، فإن تجميع مصادر القوة لدولة ما- والتي يطلق عليها البعض “قاعدة القوة Power Base”- تعد القاعدة التي ترتكز عليها جهود الدولة لمواجهة ما يحيق بها من تهديدات أمنية، وتأمين مصالحها في مواجهة هذه التهديدات، وتحقيق غاياتها وأهدافها القومية، ويعتبر تجميع وتطوير وتحسين أداء وزيادة فعالية كل عنصر من عناصر القوة الشاملة، هو الهم الرئيسي الذي ينبغي أن يشغل بال القيادة السياسية للدولة للاستغلال والاستفادة بأقصى ما يمكن من العناصر المتميزة والمتفوقة بين عناصر قوتها الشاملة، وتحسين أداء وإصلاح عناصر الضعف فيها.
1- جغرافية الدولة
تشمل موقع الدولة بالنسبة لخطوط الطول والعرض، وبالنسبة لليابس والمياه، وما تتمتع به من منافذ بحرية، وطبيعة اتصالها الجغرافي بالدول المجاورة، وحجم الدولة ومساحتها وشكلها، وطول حدودها، والطبيعة السائدة في أرضها (صحراوية- زراعية- جبلية- غابات.. إلخ)، وما يخترقها من أنهار وبحيرات ومصادر مياه عذبة سطحية وجوفية. فإذا نظرنا إلى الدول العربية فسنجد أنها تقع بين خط الاستواء، حيث الصومال إلى خط 38 درجة شمالاً حيث حدود العراق وسوريا مع تركيا، وبين خط طول صفر حيث سواحل موريتانيا على الأطلنطى إلى 60 شرقاً حيث سواحل عمان على بحر العرب. وتشكل الدول العربية بصفة عامة نحو ربع دول العالم التى تزيد مساحتها عن نصف مليون ميل مربع (أو مليون وثلاث مائة ألف كيلو متر مربع)- وهي 4 دول عربية من إجمالي دول العالم وهي 17 دولة- ولكن تسودها هي وكثير من الدول العربية الأخرى مساحات ذات طبيعة صحراوية قاحلة تؤثر في تعداد وكثافة وتوزيع سكانها، ويقل تعدادها عن 15 مليون نسمة، ويعتبرها بعض مفكري القوة القومية الشاملة أنها دول ليست لها قوة محسوسة لقلة سكانها، بالإضافة إلى اتساع الرقعة وقلة السكان، وما يخلف ذلك من مشكلات السيطرة والدفاع. والدول العربية جميعها لها سواحل بحرية تساعدها على الاتصال بالعالم الخارجي، وتزيد من أهميتها الجغرافية، ولا سيما تلك التي تلتقى عندها مسطحات مائية واسعة مثل مصر (البحر المتوسط والمحيط الأطلنطى). وفي الوقت نفسه كان الضعف العربي سبباً في نفوذ بعض الدول المجاورة واستيلائها على أراض وجزر عربية، مثل إسرائيل بسيطرتها على النقب لتطل على البحر الأحمر من إيلات، وإيران باستيلائها على الجزر الثلاث المتحكمة في مضيق هرمز بالخليج (أبو موسى، طنب الكبرى، طنب الصغرى) من الإمارات. ولقد كان من أسباب العدوان العراقي على الكويت في أغسطس 1990 أن يوسع العراق منافذه على الخليج العربي والاستيلاء على جزر بوبيان وفيلكه ووربة من الكويت. وتتأثر قوة الدولة بمساحتها وحجمها، فالدول صغيرة المساحة مهما ارتقى مستواها الحضاري تظل مقيدة رهن مساحتها المحدودة، كما أن كبر المساحة وحدها لا يؤدي بالضرورة إلى وصول الدولة لمرتبة القوى الكبرى. فالدول العربية في معظمها ذات مساحة متوسطة ولكنها قليلة السكان، أما عن دول التهديد في المنطقة- خاصة إسرائيل وإيران- فإنها وصلت إلى مساحتها الراهنة بعد أن اقتطعت أجزاء من الوطن العربي. فإسرائيل طبقاً لمشروع التقسيم كانت تحصل على مساحة 14249كم2 أي نحو 55% من أفضل الأراضي الفلسطينية، وتضم معظم السهل الساحلي من حيفا حتى أشدود، والمنطقة الزراعية الغنية في شرق الخليل حول بحيرة طبرية، ومعظم صحراء النقب من بئر سبع حتى أقصى الجنوب، إلا أن جولات الصراع العربي الإسرائيلى- قد أوصلت مساحة إسرائيل إلى 28177كم2، أي أنها نمت بنسبة 198% قياساً بمشروع التقسيم، أي تضاعفت مساحتها تقريباً. ويرجع ذلك إلى اعتناقها نظرية التوسع وضم الأراضي بالقوة لتقيم دولة إسرائيل الكبرى التي نادى بها الزعيم الصهيوني جابوتنسكى عام 1929 لتضم الأراضي شمال وجنوب نهر الأردن، لتصبح قوة إقليمية عظمى يدور في فلكها دويلات عربية ضعيفة مقسمة عرقياً وطائفياً، فيما أطلق عليه “الكومنولث العبري”، وإسرائيل في ذلك تعتنق المبادئ التي نادى بها العالم الألمانى “فريدريك راتزل Ratzel” عن “قوانين نمو الدولة، كما عملت بكثير من آراء المفكر والسياسي الألمانى “الجنرال كارل هوسهوفر Karl Houshofer” ومزجت هذه القوانين والآراء مع نظرية جان جاك روسو Jean Jacques Rousseau، وذلك على النحو التالي:
أ- مبادئ راتزل: والتي تقول إن الدولة كائن حي يولد ويكبر وينمو، ويعني الكبر والنمو الهجرة إلى الأراضي المحيطة حتى تتوسع الدولة ببطء، ويضاف إلى جسمها أجزاء ثم أجزاء يسهل ابتلاعها. وأن الحدود السياسية للدولة هي إطار تغليف الدولة وتتطور هذه الحدود مع تطور نمو الدولة. كما تدعو مبادئ راتزل أيضاً إلى اهتمام الدولة بنوعية الأراضي التي تضمها، فإما أن تكون أراضي ساحلية تطل على بحار دولية نشطة، أو سهولاً خصبة أو أراضي غنية بالثروات المعدنية. وهو ما طبقته إسرائيل باستيلاءئها على الضفة الغربية والجولان، حيث السهول الخصبة ومصادر المياه. ب- آراء هوسهوفر: تدعو الدول الصغيرة إلى اتباع استراتيجية هجومية في التعامل مع جيرانها لكي تتوسع على حساب أراضيها، وأن الاستراتيجية الدفاعية تكون ملائمة للدول ذات المساحات الكبيرة، إذ يمكنها توفير العمق الاستراتيجي للدفاع، وإنهاك القوات المهاجمة، وتوافر الوقت والمكان لإعادة التنظيم وتوجيه الضربات المضادة الحاسمة (كما فعل الاتحاد السوفيتي ضد الهجوم الألماني إبان الحرب العالمية الثانية، وكما فعلت مصر عندما احتلت إسرائيل سيناء عام 1967 واستعادتها مصر بعد هجوم أكتوبر 1973). كما تحذر آراؤه من القتال في أكثر من جبهة في نفس الوقت لتجنب تشتييت الجهود العسكرية، واتباع استراتيجية تفتيت الدول الكبيرة الحجم. وهي الاستراتيجية التي اتبعتها إسرائيل لمحاولة تفتيت السودان بين جنوبه وشماله، كما تشجع انفصال دارفور، وفي العراق بتأييد الأكراد ودفعهم للانفصال، ومحاولة تفتيت لبنان إلى كنتونات، بعد أن قسمت فلسطين إلى دويلة حماس في غزة ودويلة فتح في الضفة الغربية. كما تسعى إيران أيضاً إلى تطبيق نظرية (التفتيت) نفسها بفصل جنوب العراق الشيعي عن شماله، وضمها من قبل إقليم عربستان إلى إيران، وكذلك أقاليم البلوش في الشرق، والأذربيجانيين في الشمال، والأكراد في الغرب، كما تسعى إلى بسط سيطرتها على مجرى شط العرب واقتطاع جنوب العراق الغني بالنفط والأماكن المقدسة للشيعة، وتطالب بأراضي البحرين، وتدعو إلى إمبراطورية شيعية تضم المناطق التي تسكنها الشيعة في الخليج وجنوب آسيا وآسيا الوسطى، وتمتد إلى سوريا ولبنان. كما تنادي آراء هوسهوفر بأن يكون الاحتلال العسكري للأراضي المعادية احتلالاً كاملاً شاملاً للقضاء على المقاومة قضاءً تاماً، وأن تكون السياسة في الأراضي المحتلة هي سياسة “القبضة الحديدية”، وهي السياسة نفسها التي تتبعها إسرائيل في جميع الأراضي العربية التي احتلتها في الضفة الغربية وغزة وجنوب لبنان (حتى عام 2000) والقدس والجولان. جـ- أما نظرية جان جاك روسو: فهي تربط بين حجم الدولة وسكانها، وتشجع إسرائيل على غزو الأراضي العربية وضمها بالقوة، كما تدعو إلى هجرة يهود العالم إلى إسرائيل، باتباع سياسة الاستيطان واقتلاع العرب من أراضيهم، وهو ما انتهى إليه نتنياهو أخيراً عندما طالب بالإقرار بيهودية دولة إسرائيل، توطئة لطرد سكانها العرب الذين يبلغ تعدادهم أكثر من مليون ونصف عربى داخل أراضي إسرائيل، صارت لهم حقوق سياسية (تمثيل 11 عضواً في الكنيست) ويطالبون بحقوق اقتصادية واجتماعية لا يمكن تجاهلها.
2- السكان أو القوة البشرية
يعتبر السكان- أو القوة البشرية- من أهم العناصر التي تقوم عليها القوة الشاملة للدولة، والزيادة في السكان لا تعني في جميع الظروف زيادة قوة الدولة، إذ يجب أن يواكب الزيادة السكانية زيادة في الناتج القومي للدولة (GNP)، وأيضاً زيادة في نصيب الفرد من هذا الناتج القومي (GNP Per Capita). كما أن زيادة الناتج القومي، وزيادة نصيب الفرد منه مع وجود عجز كبير في القوة البشرية للدولة هو أيضاً نوع من الضعف في الدولة، إذ تفتقر الدولة بذلك إلى القوة البشرية الكافية لاستغلال مواردها، وأيضاً بناء قوتها المسلحة، هذا بالإضافة إلى نوعية القوة البشرية، إذ إن الحجم الكبير للقوى البشرية دون أن يواكب ذلك الارتقاء بأنواعه من حيث التعليم، والصحة، والثقافة، والوعي الوطني (الولاء والانتماء)، والانسجام والتوافق العرقي والطائفي والمذهبي، يسبب أضراراً للدولة أكثر من المنافع. هذا بالإضافة إلى تأثير التعظيم في الدولة لاستغلال إمكاناتها البشرية في الإنتاج والدفاع.. إلخ. ذلك أن وجود نسبة كبيرة من البطالة بين السكان يعني بروز مشكلات اجتماعية وسياسية خطيرة داخل الدولة يستغلها الأعداء في الخارج- والدول العربية بصفة عامة- يتواجد معظمها في المنطقة بين خطي عرض 20 ْ، 40 ْ شمالاً، وهي منطقة الكثافة السكانية في العالم، حيث يسكنها 50% من سكان العالم، وتضم أيضاً 14 دولة عربية هي أكثر الدول العربية سكاناً بصفة عامة (مصر، ليبيا، تونس، المغرب، الجزائر، الإمارات، قطر، البحرين، الكويت، نصف السعودية، لبنان، سوريا، الأردن، العراق)، أما باقي الدول العربية (8 دول) فهي تقع في المنطقة الاستوائية والمدارية الأقل كثافة سكانية بين خط الاستواء، 20 ْ درجة شمالاً ويسكنها 10% من سكان العالم (الصومال، جيبوتى، السودان، اليمن، عمان، وما يقرب من نصف مساحة السعودية، وموريتانيا). وبصفة عامة تدخل الدول العربية في عداد الدول متوسطة الكثافة السكانية (25 - 200 فرد/ميل مربع)، وفي الوقت نفسه تتركز غالبية السكان في مساحة محدودة من الدولة وتعتبر هذه المساحات عالية الكثافة، بينما باقي مساحة الدولة الصحراوية تعتبر نادرة السكان، وهو ما يعني استراتيجياً توزيعاً سيئاً للسكان يكون له مردودات سلبية على الجانب الدفاعي. ويعتبر حرص القوة البشرية للدولة- أو الأمة Nation- على مبدأ بقائها Reason de Etre - هو جوهر القوة السكانية لها، ويتوافر مبدأ بقاء الأمة عند توافر “القوة الجاذبة لبقاء الدولة Centripetal Forces” وينعدم إذا ما ظهرت “القوى المفككة للدولة Centrifugal Forces” ويتوقف ذلك على التكوين العرقي والطائفي والمذهبي لسكان الدولة. فكلما زادت الانقسامات العرقية والدينية والمذهبية وتعددت اللغات، تضاءل الانسجام الاجتماعي وفتر وضعف الولاء والانتماء للدولة، وسعت كل طائفة دينية أو عرقية أو مذهبية إلى الارتباط بطائفتها أو عرقيتها الأم خارج الدولة، وهو ما نراه واضحاً في محاولات انفصال البوليزاريو والبربر عن دول المغرب العربي، وفي أكراد العراق وإيران وتركيا .. إلخ. وهو ما يؤدي إلى تفسخ الدولة وانهيارها. أما الأمة المصرية فيتوافر لها مبدأ البقاء، حيث وصل العرق فيها إلى حد التوحد، وتسود اللغة العربية سيادة كاملة، والدين الإسلامي هو دين الأغلبية المطلقة، على عكس الوضع في لبنان، حيث نتج عن تعدد الطوائف المذهبية صعوبة الاتفاق على رئيس جمهورية للدولة لمدة عامين (2006 - 2008)، وصعوبة تشكيل وزارة رغم وجود أغلبية يحق لها دستورياً أن تشكل وحدها الوزارة. أما في إسرائيل، فرغم أنها جمع شتات من اليهود من جميع بلدان العالم، فتسود أوضاع التفرقة الجنسية بين اليهود الغربيين (اشكنازى Ashkenazim) واليهود الشرقيين (سفارديم Sephardim)، هذا إلى جانب التفرقة بين اليهود بشكل عام وعرب إسرائيل، والتفرقة بين اليهود المتدينين وغير المتدينين والتفرقة بين يهود (الصابرا) الذين ولدوا في إسرائيل واليهود المهاجرين، والتفرقة بين اليهود سكان الحضر (المدن) واليهود سكان المستعمرات والمستوطنات (كابوتزات). وقد نتج عن عزوف اليهود عن الزواج وتحديد النسل بينهم- رغم تشجيع الدولة على النسل بين اليهود، والزواج المختلط، ما أدى إلى عدم اعتراف الحاخامات بيهودية من أنجبته أم غير يهودية حتى إن كان الأب يهودياً، وفي المقابل زيادة النسل بين السكان العرب بنسبة تصل إلى 4.5%- وهي أعلى نسبة في العالم- إلى بروز تهديد ديموجرافى (سكانى) ناتج عن زيادة نسبة السكان العرب بشكل مطرد، حيث يتوقع أن تصل نسبة العرب إلى اليهود في إسرائيل إلى 50% في عام 2025، وهو ما يهدد المبدأ الذي قامت عليه إسرائيل باعتبارها “دولة يهودية نقية”. وهذه المشكلة تواجهها إيران أيضاً فيما يتعلق بالمحافظات الحدودية الموجودة في أطرافها التي تسودها جنسيات غير فارسية (الأكراد في الغرب، الآذريين في الشمال، البلوش في الشرق، العرب في الجنوب)، ما أدى إلى بروز اضطرابات عديدة في هذه المحافظات تهدد أمن إيران في الداخل.
3- القوة السياسية للدولة
تحتوى بنية كل دولة على إمكانات كامنة فيها، قد يستثمرها الشعب والنظام الذي يحكمه ويمثل أداته التنفيذية إذا ما كان هناك توافق وانسجام بين الشعب والنظام الحاكم. أما إذا كان هناك تنافر وتضاد بين الشعب ونظامه الحاكم، هنا يحدث تباعد بينهما، وتظل إمكانات الشعب وقدراته راكدة حتى يتوافر المناخ المناسب لإطلاقها. يبرز هذا الأمر واضحاً في الفرق بين البلدان التي تحكمها أنظمة ديموقراطية تطلق طاقات الشعب الخلاقة، لأن الشعب هو الذي يساهم في وجود هذه الأنظمة وتوليها السلطة، وبين البلدان التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية خانقة أو ثيوقراطية (حكم دينى) تكبت قدرات الشعب وتمنع انطلاقه خوفاً على بقائها، وهو ما انعكس في ثورات بلدان أوروبا الشرقية في التسعينيات عندما تخلصت الشعوب بنفسها من الأنظمة الشيوعية التي تحكمها. وتعتمد القوة السياسية للدولة أساساً على القوة البشرية باعتبارها عماد كتلتها الحيوية، وتتأثر هذه القوة بعدة عوامل هي:
أ- مدى قبول الشعب بالنظام الذي يحكمه، وحرية الرأي، والتعددية الحزبية، ومدى ما يتمتع به الشعب من ديموقراطية في حياته السياسية، وقدرته على اختيار قياداته السياسية دون قيود. ب- إيمان الشعب بقضية بلاده، ووجود مشروع قومي تلتف حوله قوى الشعب خلف قياداته السياسية، وتأثير هذا الإيمان في الروح المعنوية للشعب، وهو ما يطلق عليه “الشخصية القومية”. جـ- التماسك الاجتماعي بين فئات وطوائف ومذاهب الأمة، وفئاتها الاجتماعية والسياسية المختلفة، وعدم وجود تنافر أو صراع عرقي أو ديني يولد خلافات وصراعات داخلية تهدد البنيان الداخلي للدولة. د- التكوين القومي، وقدرة النظام الحاكم على حل مشكلات الأقليات في مجتمع الدولة، والقضاء على الميول الانفصالية والاستقلالية لهذه الأقليات. هـ- قدرة النظام الحاكم على فرض سلطة القانون واحترامها على الجميع، والقضاء على صور الفساد بجميع أنواعها، واستقلالية القضاء، وهو ما يولد ثقة الشعب في النظام الذي يحكمه. و- قدرة النظام الحاكم على اتخاذ القرارات الحاسمة خاصة في الأزمات والظروف الصعبة، ولا سيما ما يتعلق منها بقضايا الحرب والسلام، وقدرته على فرض قراراته ووضعها موضع التنفيذ، سواء في الداخل أو في الخارج. ز- مدى ما يتمتع به النظام الحاكم من احترام وتأييد ودعم ومساندة من القوى المجاورة له في البيئة الإقليمية، وأيضاً في البيئة الدولية، خاصة إذا ما كانت علاقاته طيبة مع جيرانه.
ويمتلك العالم العربي مقومات القوة السياسية إذا ما أحسن استخدام عناصرها. ذلك أن الكتلة الحيوية للعالم العربي تضم أرضاً تزيد مساحتها عن 13 مليون كم2، وتتوسط العالم القديم، وتضم الأماكن المقدسة الإسلامية التي تهفو لها قلوب مسلمي العالم، وتتحكم في أهم الممرات المائية في العالم (قناة السويس، مضيق باب المندب، مضيق تيران، مضيق هرمز، مضيق جبل طارق)، وتضم أيضاً أمة عربية واحدة يصل تعدادها إلى ما يزيد على 200 مليون نسمة تطاول الكثير من القوى العالمية تعداداً، ويدين غالبيتها بدين الإسلام، ويتحدثون اللغة العربية، وهي مقومات لا تتوافر في بعض القوى العظمى والكبرى التي تتعدد فيها العرقيات والديانات واللغات. كما يمكن للعالم العربي أن يتمتع بتكامل اقتصادي لا يتوافر إلا للدول العظمى أو الكبرى.. سواء الزراعية أو الصناعية، أو الثروات المعدنية، وبصفة خاصة النفط الذي تختزن منه الأراضي العربية الجزء الأكبر من المخزون العالمي، ويعتبر العمود الفقري لمصادر الطاقة والقوى الكهربائية والمحركة والصناعات على أنواعها. ولقد كانت عوامل القوة العربية، وخطوط الالتقاء بين وحداته السياسية (الدول العربية) هي الدافع القوي لقوى العالم العظمى والكبرى المعادية له وتخشى بأس قواه الشاملة إذا ما أحسن استخدامها، لكى تقيم في قلبه بفلسطين دولة إسرائيل لتفصل شرقه عن غربه، وتضمن أيضاً بقاء هذه الدولة الدخيلة بدعمها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.. رغم شذوذ وضعها، علاوة على التحالفات التي تقيمها إسرائيل مع قوى تهدد العالم العربي من داخله لأسباب عرقية وطائفية.
4- القوة الاقتصادية للدولة
تعتبر القوة الاقتصادية من أهم عناصر قوة الدولة، ويعتبر إجمالي الناتج القومي للدولة (GNP) مؤشراً واضحاً على قوة الدولة الاقتصادية، كما يعطي متوسط الدخل القومي للفرد Per Capita أيضاً مؤشراً عن مدى تقدم الدولة وتحقيق الرفاهية لشعبها. كما تضيف موازين التجارة الخارجية دلائل توضح قوة الدولة في المجال الدولي. وتعتمد القوة الاقتصادية للدولة على قوتها في مجالات الإنتاج المختلفة من موارد الطاقة، والتعدين، والصناعة، والزراعة، والخدمات الإنتاجية الأخرى، والخدمات الاجتماعية، وأهم هذه المجالات:
أ- موارد الثروة الطبيعية: وهي التي في باطن الأرض أو أعماق البحيرات والبحار الداخلية، والبحار والمحيطات، وما هو فوق سطح الأرض أو في الغلاف الجوي. وتعتمد الدولة في بناء صناعاتها- ومن بينها الصناعات الحربية- على ثروتها الطبيعية في المقام الأول، والصناعة بالتالي في حد ذاتها ركناً مهماً في قوة الاقتصاد أو ضعفه- وموارد الثروة الطبيعية هي: (1) موارد الطاقة: وهي التي تولد القوى المحركة للصناعة والزراعة ووسائل النقل بمختلف أنواعها، ومعدات وأسلحة القتال براً وبحراً وجواً، كما يعتمد عليها أيضاً كثير من الخدمات المنتجة مثل توليد الطاقة الكهربائية، وأعمال الري والصرف، إلى جانب الخدمات الأخرى غير المنتجة ولكنها ضرورية للحياة مثل التدفئة والخدمات الصحية. والدولة التي تستورد من الخارج القوى المحركة اللازمة لها، تحمل في جسدها عاملاً من عوامل الضعف لقوتها الشاملة، وأهم موارد الطاقة هي: (أ) الفحم: ولا تملك الدول العربية وباقي دول الشرق الأوسط- عدا تركيا- موارد ضخمة من الفحم، ولكن من المتوقع أن تدخل مصر دائرة الدول المنتجة له عند وضع مناجم جبل المغارة بوسط سيناء تحت الإنتاج. وهو إنتاج سيكون محدوداً إذا ما قيس بالدول كبيرة الإنتاج له مثل روسيا والصين والولايات المتحدة وبريطانيا وبولندا وجنوب إفريقيا والهند وألمانيا الغربية. (ب) البترول (النفط): ويحتل إنتاج الدول العربية بمجموعها من النفط المرتبة الأولى قبل روسيا والولايات المتحدة، ولكنها أقل استهلاكاً بكثير من هذه الدول. وتحتل المملكة السعودية المرتبة الأولى في إنتاج النفط (14 مليون برميل يومياً)، كما تخزن الدول العربية في أراضيها نحو 60% من الاحتياطي العالمي المؤكد. ولذلك يعتبر النفط مصدراً رئيسياً من مصادر القوة الاقتصادية، وبالتالي القوة السياسية للدول المنتجة لها في المجالين الإقليمي والدولي. وفي نفس الوقت يجعل النفط هذه الدول مطمعاً لدول أخرى في الدائرتين الإقليمية والدولية تريد السيطرة عليه، خاصة أن الشركات العاملة في التنقيب عنه واستخراجه ونقله وتكريره، شركات أجنبية تشكل احتكارات عالمية تابعة للقوى العظمى في العالم- خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين- وتستطيع أن تمارس ضغوطاً على الدول المنتجة للنفط من خلال الاكتشاف أو الإحجام عن اكتشاف ما لديها من موارد نفطية، والتحكم أيضاً في تأهيل وصيانة حقول النفط ومنشآت تكريره ومعدلات إنتاجه، وبالتالي أسعاره العالمية، بإدخال دول غير عربية- مثل روسيا تنتج 10ملايين برميل يومياً- خارج مؤسسة أوبك في سوق النفط، وبالتالي حرة في تحديد أسعار نفطها وكمية ما تستخرجه منه. (جـ) الكهرباء: تعتبر الكهرباء مورداً حيوياً من موارد الطاقة، خاصة بالنسبة للدول التي لا تجد حاجتها من موارد الطاقة الطبيعية (الفحم والبترول). ويعتمد توليد الكهرباء على موارد طبيعية مثل المساقط المائية (مثل الموجودة في الحبشة، والسدود والقناطر (مثل السد العالي في مصر) والمحطات الحرارية والغازية .. إلخ. (د) الطاقة النووية: وقد اتجه كثير من الدول نحو استخدام محطات توليد الطاقة باستخدام القوة النووية بواسطة مفاعلات الانشطار النووي أو الاندماج النووي، وتوجد بعض محطات نووية ذات قدرات منخفضة في عدد من الدول العربية- مصر وسوريا - ولكن بعد أن توسعت إسرائيل في استخدامات الطاقة النووية بواسطة مفاعلاتها في ديمونة وناحال سوريك لأغراض سلمية وعسكرية مكنتها من امتلاك ما يزيد على 200 سلاح نووي متعدد القدرات، كذلك دخول إيران بقوة في المجال النووي لنفس الأغراض السلمية والعسكرية وإعلان نفسها دولة نووية، اتجهت معظم الدول العربية إلى تنشيط مخططاتها لبناء مفاعلات نووية. (هـ) مصادر الطاقة الأخرى: مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وهي ما زالت في دور التطور والنمو. وتعتبر موارد الطاقة- مثل حقول ومنشآت النفط، ومناجم الفحم، ومعامل تكرير البترول ومنشآت تصديره، والسدود، ومحطات توليد الطاقة، ومستودعات الوقود، من الأهداف الاستراتيجية الحيوية المعرضة للأعمال العدائية عند نشوب الصراعات المسلحة. (2) المعادن: تقاس قوة الدولة أيضاً بمدى اعتمادها على مواردها الداخلية من المعادن الحيوية والرئيسية لتغطية احتياجاتها الصناعية. وهناك معادن ثمينة ذات أهمية كبيرة في مجالات الصناعات الثقيلة التي ترتبط بها الصناعات العسكرية- مثل خام الحديد، وخامات المنجنيز والكروم التي تدخل في صناعة الصلب، وخام النحاس الذي يعتبر أيضاً من أهم معادن الصناعات الثقيلة والصناعات التحويلية، وخام الكوبالت الذي يدخل في الصناعات الكهربائية والإليكترونية والكيماوية وصناعات الفضاء (الصواريخ والأقمار الصناعية والمنصات الفضائية .. إلخ)، ومجموعة البلاتنيوم واليورانيوم الخام باعتبارها أساس الصناعات والقوة النووية، وتعتبر الدول العربية من الدول الفقيرة في إنتاج المعادن، ربما باستثناء مصر والجزائر اللذين ينتجان خام الحديد المستخدم في صناعة الصلب. (3) الزراعة والمواد الأولية: يعتبر إنتاج الدولة لاحتياجاتها من المواد الغذائية- خاصة الحبوب- وتحقيقها الاكتفاء الذاتي في هذا الشأن، من أهم متطلبات الأمن القومي للدولة، لأنه يعفي الدولة والشعب من التعرض للضغوط الخارجية إذا ما كانت الدولة تعتمد على استيراد حاجاتها من الحبوب- خاصة القمح- من الخارج، ولا سيما أثناء الحروب والأزمات، واحتمال تعرض خطوط الملاحة البحرية للعمليات الحربية من قبل السفن والغواصات الحربية المعادية. لذلك يعتبر تحقيق الدولة للاكتفاء الذاتي من الحبوب والقمح خاصة دليلاً واضحاً على قوة الدولة والعكس صحيح، فإن قصور الإنتاج الزراعي عن الوفاء بالاحتياجات الغذائية للشعب يعتبر دليل ضعف، ولا سيما في وقت الحروب. لذلك تعتبر خطط الدولة لاستصلاح الأراضي وزراعتها بمواد الغذاء الرئيسية (القمح والذرة والأرز)، ومدى كفايتها لحاجة الشعب من أدق المقاييس لقوة الدولة الزراعية، ويرتبط ذلك بتوفير موارد المياه والأموال والقوة البشرية والأراضي اللازمة للإنتاج الزراعي. ناهيك من أن تصدير فائض الإنتاج الزراعي للخارج يزيد من قوة الدولة السياسية والاقتصادية على الصعيد الدولي. ب- الصناعة: تعتمد قوة الدولة الشاملة، وقوتها الاقتصادية إلى حد كبير على مدى تقدمها الصناعي. ولقياس مدى قوة الصناعة في الدولة، اتبع مفكرو القوة الشاملة طرقاً مختلفة. فهناك (جيرمان) الذي اعتمد على إحصاء عدد العاملين في الصناعة، ولكن ليس للقطاع الصناعي بكامله، وإنما الصناعات الثقيلة والصناعات التحويلية. أما (كلاين) فقد ربط قوة الصناعة بحجم وقيمة الإنتاج الصناعي. أما (برونواكى) فقد توصل إلى قياس قوة الدولة الصناعية بقياس استهلاك هذه الصناعة من الطاقة، فكلما زاد استهلاك الطاقة كلما كان ذلك دليلاً على تقدم الدولة والعكس. وتبرز أهمية القوة الاقتصادية للدولة بشكل عام في كونها تلعب دوراً بارزاً في بناء القوات المسلحة وتطويرها للحفاظ على أمنها القومي، وتحقيق غاياتها وأهدافها القومية والاستراتيجية.
5- القوة العسكرية للدولة
تتفق آراء العلماء والباحثين في قوى الدولة الشاملة، والتوازنات الاستراتيجية على قياس التوازن العسكري منفرداً أو في إطار التوازن الاستراتيجي للقوى الشاملة، وذلك بعدة أساليب قياس، لكل منها مزاياه وعيوبه. وتنحصر هذه الأساليب في الآتي:
أ- قياس حجم القوة البشرية العسكرية في القوات المسلحة: Man Power، سواء العاملة أو بعد تعبئة الاحتياط. ب- قياس التوازن اعتماداً على مقارنة أعداد أسلحة ومعدات القتال الرئيسية: Weaponry، سواء في البر (الدبابات، العربات المدرعة، المدفعية) أو في البحر (سفن قتال السطح، والغواصات)، أو في الجو (طائرات القتال والمروحيات الهجومية المسلحة). جـ- قياس التوازن بمقارنة الإنفاق العسكري، الذي تنفقه الدولة من دخلها القومي، بالإضافة إلى ذلك حجم المعونات العسكرية الخارجية، والتي تؤثر بصورة مباشرة في حجم الإنفاق العسكري. وهناك بعض مراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية- مثل مركز جافى للدراسات الاستراتيجية التابع لجامعة تل أبيب Jaffee Center for Strategic Studies في إسرائيل، يعالج الطريقة الثانية لقياس التوازن الاستراتيجي العسكري بمقارنة أسلحة ومعدات القتال الرئيسية، بتقييم هذه الأسلحة إلى عدة نوعيات على النحو التالي: أ- أسلحة المواجهة المباشرة: First Echelon Weapons Systems، وهذه تشمل من الأسلحة البرية دبابات القتال الرئيسية، وعربات نقل الجند والقتال المدرعة، وأسلحة المدفعية، وأسلحة الدفاع الجوي. ومن الأسلحة البحرية سفن القتال فوق وتحت السطح، ومن الأسلحة الجوية طائرات القتال. ب- أسلحة ومعدات الاستخدام والمعاونة: Force - Multiplier Weapons Systems، وتشمل جميع أنواع الأسلحة والمعدات التي يكون لها تأثير في التوازن العسكري، منها في الأسلحة البرية الأسلحة المضادة للدبابات، خاصة الصواريخ المضادة للدبابات الموجهة بحكم فعالية تأثيرها في الحد من تأثير قوة الصدمة عند المدرعات في الهجوم. ويدخل أيضاً أنواع الذخائر التي تؤثر في فعالية أسلحة المواجهة المباشرة مثل الذخائر الذكية دقيقة الإصابة والموجهة بالليزر أو حرارياً أو بأقمار صناعية، كما أدخل أيضاً المعدات التي تعطي للسلاح ثقلاً في التوازن النوعي وتأثيراً على التوازن الكمي.. مثل أنظمة إدارة النيران المتطورة ومعدات تقدير المسافة بالليزر، وأنظمة الملاحة والتوجيه عبر الأقمار الصناعية GPS أما بالنسبة للأسلحة البحرية، فيدخل ضمن أسلحة الاستخدام والمعاونة أنظمة الرادار والدفاع الجوي والصاروخي المزودة بها السفن الحربية، وسرعة ومدى عمل وتسليح هذه السفن، خاصة الصواريخ سطح/ سطح. وبالنسبة للأسلحة الجوية، فهناك طائرات الإنذار المبكر والقيادة والسيطرة Command, Control and Early Warning مثل طائرات أواكس، E2C، وأضيفت لها الاستخبارات والكمبيوتر تحت اختصار C-4E. جـ- أسلحة ذات القدرة المميزة Stand - off Armament وتشمل الصواريخ البالستية متوسطة وبعيدة المدى التي تطلق من منصات ثابتة أو متحركة والتي تصل إلى العمق الاستراتيجي للدول المعادية، وتطلق من الأرض أو من الجو أو من البحر، وغالبها موجه إما عبر الأقمار الصناعية، أو بالليزر أو تلفزيوني أو أشعة تحت الحمراء أو أي وسائل توجيه أخرى. وعند إجراء المقارنة بين أسلحة ومعدات القتال ينبغى ألا يقتصر ذلك على المستوى الكمي في المقارنة بين الدول، بل يجب أن يوضع في الاعتبار الفروق النوعية بين الأسلحة ومعدات القتال ومدى حداثتها، وكذلك الثقل النيرانى للتشكيلات الميدانية (الفرق المدرعة والميكانيكية والمشاة) ومدى ما تتمتع به من خفة حركة ومعاونة نيرانية جوية.
6- القوة التكنولوجية
تعتبر القوة التكنولوجية ذات أهمية قصوى في تطور الدولة وقدراتها في المجالات والأصعدة كافة، خاصة العسكرية والاقتصادية، بعد أن خطت الدول المتقدمة خطوات واسعة وسريعة في تحقيق التقدم التكنولوجي، وامتلاك ناصيته التي أوصلها إلى غزو الفضاء، وقهر الأزمات التي تتعرض لها. وأصبحت التكنولوجيا من وسائل القوة السياسية للدولة ومحاولة فرض إرادتها على المجتمع الدولي حتى بالنسبة للدول النامية مثل كوريا الشمالية وإيران. ويتوقف التقدم التكنولوجي على مدى ما تحققه الدولة من تقدم علمي في مجالات الدراسة لأبنائها في المدارس والجامعات والمعاهد التخصصية، وإقامة مراكز الدراسات والبحوث والتطوير التكنولوجي، وتشجيع الباحثين على الابتكار، وتزويد المعامل بالمعدات التكنولوجية الحديثة التي تساعد الباحثين على تطوير بحوثهم، وإرسال البعثات إلى الخارج، حيث الدول المتقدمة، وتبادل المعرفة التكنولوجية معها. ولا تقتصر فائدة التقدم التكنولوجي على الجانب العسكري أو النووي فقط، بل له مردودات إيجابية على التطور الزراعي والصناعي وخدمات النقل والصحة والتعليم. وخلاصة القول أن محور القياس للقوة القومية (الشاملة) وقياسات التوازنات الاستراتيجية هو الوحدة السياسية أو الدولة التي يجب أن تركز على عدة عوامل تتمثل في الآتي:
أ- العامل الأول: هو رقعة الأرض المحددة بحدود سياسية واضحة ومعترف بها دولياً، فمن المستحيل أن تقوم دولة لمدة طويلة دون أن تكون لها رقعة من الأرض تمارس عليها سيادتها، ثم تمتد ممارسة السيادة إلى المياه الإقليمية التي تمتد إلى مسافة محددة ومعلنة، وما يعلو اليابسة والمياه من غلاف جوي، ويستثنى من ذلك في أوقات الحروب، عندما تحتل دولة أراضي دولة أخرى، فتضطر حكومة الدولة المعتدى عليها إلى ترك أراضيها وشعبها واللجوء إلى دولة صديقة لتمارس حقوقها المشروعة لتحرير أراضيها. ب- العامل الثاني: هو شعب يحيا على هذه الرقعة من الأرض حياة دائمة، ويرتبط بها، ويرتبطون ببعضهم في إطار مصالح مشتركة، وبروابط عرقية ودينية ولغوية مشتركة. جـ- العامل الثالث: هوالتنظيم السياسي، والذي بواسطته تمارس الدولة وظيفتها داخل وخارج حدودها السياسية، وهذا التنظيم ما هو إلا جهاز يمثل السلطة العليا وأجهزة أخرى مساعدة يخضع لها جميع أفراد الشعب، ويتولى رسم سياسة الدولة الداخلية والخارجية، واستغلال موارد البلاد لتحقيق الخير والرفاهية للشعب وحمايته من التهديدات الخارجية والداخلية. د- العامل الرابع: وهو جوهر الدولة الذي يتمثل في استقلالها وحرية إرادتها وقرارها السياسي، وحكم الشعب نفسه بنفسه، وسيادة الحكومة التامة على جميع أطرافها. فهناك دول خضعت أو تحالفت مع قوى عظمى أو كبرى فسلبت جوهر الاستقلال، لأنها تستمد سياستها الخارجية، وأحياناً الداخلية من خارج حدودها. من ذلك على سبيل المثال دول أوروبا الشرقية عقب تحررها من الاحتلال النازي بواسطة قوات الاتحاد السوفيتي في نهاية الحرب العالمية الثانية، فوقعت في براثن تسلط حكومة موسكو على هذه الدول التي فرضت على جيوشها الدخول في حلف وارسو ليواجه حلف الناتو للدول الغربية، وأصبحت دول أوروبا الشرقية تدور في فلك الاتحاد السوفيتي في جميع المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والأيديولوجية الشيوعية، وعندما شعرت شعوب المجر عام 1956 وتشيكوسلوفاكيا 1968 بضغوط الاتحاد السوفيتي عليها، وما تمثله من كبت للحريات وفرض ديكتاتورية الحكم انتفضت، إلا أن الاتحاد السوفيتي سارع بإخماد هذه الانتفاضات حتى سقط الحكم الشيوعي نفسه في موسكو وتفكك الاتحاد السوفيتي، هنا عادت شعوب أوروبا الشرقية لانتفاضاتها وتخلصت من الأنظمة الشيوعية التي كانت تحكمها. هـ- العامل الخامس: توفير القوة الشاملة الكافية لتحقيق الأمن القومي للشعب، سواء في مواجهة عدوان خارجي أو عدوان داخلي، ولا تستطيع الدولة أن تؤمن استقلالها ووحدة أراضيها داخلياً وخارجياً إن لم تمتلك عناصر القوة الشاملة بأبعادها السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والأيديولوجية والإعلامية والتكنولوجية، وتحقق الاكتفاء الذاتي- قدر الإمكان- في مجالات الغذاء والسلاح، وبما يحررها من أية ضغوط خارجية.
حسابات التوازن الاستراتيجي في إطار القوة الشاملة للدولة
نظراً لأن قوة الدولة صارت تركيباً شمولياً يدخل في مكوناته العناصر الرئيسية التي تقوم عليها الدولة.. بشرياً وجغرافياً واقتصادياً وعسكرياً.. إلخ، وحيث لم تعد القوة العسكرية وحدها هي الحاسمة في تقرير مصير الحروب والصراعات المسلحة، بعد أن أصبحت الجبهات الداخلية، حيث العمق الاستراتيجي للدولة الذي توجد به الكتل السكانية والأهداف الاستراتيجية الحيوية- امتداداً لجبهات القتال الأمامية التي تتعامل فيها الجيوش، بل إن المناطق الخلفية أصبحت أول ما يستهدفها العدو بأسلحته بعيدة المدى- قاذفات مقاتلة وصواريخ بالستية ذات دمار شامل، لما لذلك من تأثيرات معنوية سلبية على صانعي القرار في الدولة، وبما قد يؤدي إلى كسر الإرادة السياسية للدولة مع بدء العمليات الحربية، لذلك أصبح من المتعين أن تسعى الدولة إلى قياس قواها الشاملة على النحو السابق أيضاً، وتقارن نتائج ذلك بالقوى الشاملة للدولة. ومن ثم- كما قلنا آنفاً- فإن القوة القومية للدولة ليست مطلقة، وإنما هي تقاس بالمقارنة بقوة الدول الأخرى. وبينما اتفق العلماء والمفكرون على مكونات بناء قوة الدولة، إلا أنهم اختلفوا في أسلوب قياس هذه القوة وطريقة حساب مكونات القوة الشاملة للدولة بالنسبة لوزن كل عنصر من عناصرها بالنسبة لأوزان باقي العناصر من حيث أهميته في تحقيق أمن الدولة واستقرارها ونموها ودفع العدائيات والتهديدات عنها، لذلك تعددت آراء العلماء في هذا الشأن. ومن أشهر هؤلاء العلماء والمفكرين “جيرمان F.C. German”، و”ولهلم فوكس Wilhelm Fucks”، و”ريتشارد موير Richard Muir”، و”راى كلاين Ray S. Cline”. ويمكن تقسيم الأنماط والأساليب المستخدمة لقياس قوة الدولة الشاملة إلى نوعين:
1- النوع الأول: ويشمل أنماطاً إجمالية أو مختصرة تعتمد على قياس قوة الدولة طبقاً لعامل رئيسي أو أكثر، يرى المفكر أنه عامل القياس الرئيسي، وهذه الطرق هي: أ- طريقة الفكر الألماني (فوكس): فقد اعتمد في قياس قوة الدولة على عاملين، أحدهما عامل رئيسي هو حجم الناتج القومي للدولة (Gross National Production GNP)، والعامل الآخر أقل أهمية وهو حجم القوة البشرية للدولة. وتوصل في ذلك إلى المعادلة التالية: قوة الدولة (Power)= حجم الناتج القومي (P) × الجذر التكعيبى للقوة البشرية وP = القوة الإنتاجية للدولة Production و B = القوة البشرية للدولة People. وقد طبق فوكس طريقته لحساب بعض القوة العظمى والكبرى في العام طبقاً لما كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية، وما أصبحت عليه وقت إعداده لمرجعه الخاص بالقوة الشاملة عام 1963، مستعيناً بإحصائيات هيئة الأمم المتحدة، ثم أجرى حساباً لقوة هذه الدولة طبقاً لمعدلات نموها في المستقبل في عام 1990، 2010 دون تغيير في هذه المعدلات. وإذا ما قورنت توقعات فوكس بالوضع الراهن فعلاً نجد أن هناك بعض القوى الكبرى قد حدث تغيير كبير في قوتها بالنسبة لباقي الدول مثل الصين واليابان. وتلاحظ في طريقة فوكس أنه عظَّم من تأثير الناتج القومي للدولة، وذلك بإدخاله في المعادلة بقيمته الكاملة (بالمليون دولار مثلاً)، وذلك من منطلق أن الناتج القومي للدولة هو المعيار الحقيقي لقوة هذه الدولة. أما عن القوة البشرية للدولة فقد اعتبره فوكس المكون الثاني لهذه المعادلة، ولكنه في المقام الثاني إذا ما قيس بالقوة الإنتاجية للدولة، ولذلك فقد خفض فوكس من تأثير معامل القوة البشرية بإيجاد الجذر التكعيبي للقوى البشرية. ب- طريقة (ريتشارد موير): ناقش موير القوة القومية من خلال دراسة شاملة للجغرافيا السياسية في كتابه الذي تناول هذا الموضوع. وقد أشار إلى الجدل الكبير بين العلماء والمفكرين القائمين بالبحث العلمي للوصول إلى تعريف محدد ومفهوم وواضح للقوة القومية. وذكر التعريف أو المفهوم المشترك الذي اجتمع عليه كثير منهم، ووصف القوة القومية للدولة بأنها القوة المحركة للدولة Motive Force داخل النظام الدولي، بالنظر لانعكاساتها وتأثيراتها الواضحة على مجريات الأحداث داخل الدولة وخارجها، وتأثيرها في صنع القرارات الرئيسية على المستوى القومي وعلى الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية.. إلخ، إلى جانب تأثيرها في سلوكيات الدولة وقادتها. وقسَّم موير القوة القومية للدولة إلى مكوناتها السابق الإشارة إليها ولكن من وجهة نظره من حيث تركيزه على نوعية ومدى تطور كل عنصر من عناصر القوة الشاملة، وليس حجمها أو عددها فقط، كالآتي: (1) اعتبار قوة البناء والتكوين: Morphological Power هي القوة التي تنشأ عن حجم الدولة Size وشكل الدولة Shape وموقعها Location، ومعالمها الجغرافية Topographical Features. (2) القوة السكانية: Demographical Power، وهي لا تعني فقط القوة العددية للشعب، ولكنها تعني أيضاً قياسات اجتماعية أخرى.. مثل مهارات القوة البشرية Skills، والحالة الصحية، والتركيب العمري، والروح المعنوية، والروح القومية، والولاء والانتماء الوطني. (3) القوة الاقتصادية: Economic Power، وتضم موارد الدولة الاقتصادية، وحجم تجارتها الداخلية والخارجية ومدى تطورها التكنولوجي، وقدرة الدولة على تحقيق الاكتفاء الذاتي في تلبية احتياجاتها الأساسية، خاصة الغذائية والتسليحية دون اعتماد على الأسواق الخارجية. (4) القوة التنظيمية للدولة: Organizational Power، وتعني في نظره أسلوب السلطة التنفيذية في إدارة الدولة، ومدى قوة العلاقة بين مستوى الإدارة العليا، ومستويات الإدارة الدنيا، ومع عامة الشعب. إلى جانب مدى الاستقرار الداخلي في الدولة، وقوة علاقتها الخارجية مع الدول المجاورة في المستوى الإقليمي، ومع الدول الكبرى والعظمى على المستوى الدولي، وبالتالي قوة تأثيرها على هاتين الساحتين. (5) القوة العسكرية: Military Power، أوضح أنها لا تعني فقط أعداد أسلحة القتال الرئيسية في البر والجو والبحر وذات الدمار الشامل ووسائل إيصالها، ولكن تعني أيضاً نوعية كل سلاح، والقوة البشرية تحت السلاح ومدى تدريبها واستعدادها القتالي، ونظام تعبئة الاحتياط وتدريبه وكفاءته القتالية مقارنة بالقوات العاملة وزمن استدعائه ليكون جاهزاً للقتال، وأسلوب انتشار القوات المسلحة في مسرح العمليات Deployment، ومدى فعالية الاسترايجية العسكرية للدولة، وتطور أساليبها القتالية وخبراتها القتالية. (6) قوة التأثيرالخارجي للدولة: Power From External Relation، وتعني قوة ومتانة علاقات الدولة الخارجية، ونفوذها على الساحتين الإقليمية والدولية، ومدى ما تملكه من أوراق لتأمين هذا النفوذ تحقيقاً لمصالحها القومية في الخارج، وما تحققه من تحالفات إقليمية ودولية، ومكانتها وهيبتها الدولية. وقد بنى موير طريقته- من واقع أنه أحد أساتذة الجغرافيا- على أساس دراسة لإيجاد العلاقة بين مساحة الدولة وعدد سكانها وقوتها، واعتبر أن كثيراً من عناصر القياس تقديرية، وأن الوصول إلى رقم حقيقي يترجم كل عنصر يكاد يكون مستحيلاً، ولهذا اعتبر أن أقوى دلالة على قوة الدولة هو إجمالي دخلها القومي، وأوجد هذه العلاقة بين الدخل القومي للدولة ومساحتها، والعلاقة بين الدخل القومي للدولة وعدد سكانها، ثم أوجد علاقة بين مساحة الدولة وعدد سكانها، أي أنه أدخل عاملاً آخر، إضافة إلى طريقة فوكس، وهو عامل مساحة الدولة، وربط ذلك كله بعدد الدول في العالم، وأعطى معاملات مقارنة ثابتة، وأجرى حساب هذه المعاملات لعدد 132 دولة مستقلة، تعبر عن إجمالي عدد الدول المستقلة في عام إجراء الدراسة اعتماداً على البيانات المتوافرة في عام 1969، ووصل إلى متوسط لهذه المعاملات بالنسبة لكل دول العالم وهو: (أ) متوسط معامل حساب الدخل القومي إلى مساحة الدولة = 0.346 (ب) متوسط معامل حساب الدخل القومي إلى تعداد السكان = 0.955 (جـ) متوسط معامل حساب مساحة الدولة إلى تعداد السكان = 0.879 وربط كل ذلك في معادلة لحساب قوة الدولة (S) State Power وهي: قوة الدولة = ولكن طريقة ريتشارد موير لم تضع اعتباراً لاختلاف معدلات النمو في الدخل القومي وعدد السكان. فبينما يتزايد معدل النمو في الدخل القومي سريعاً في دول الشمال والقوى العظمى والكبرى، لا يسايره معدل نمو في تعداد السكان لهذه الدولة، وعلى النقيض من ذلك دول الجنوب أو دول العالم الثالث التي تمثل العدد الأكبر لدول العالم. 2- النوع الثاني: وهو أنماط أكثر شمولاً، حيث تناولت قوى الدولة من واقع عناصر هذه القوى الفعالة والمؤثرة، وأهمها: أ- القوة الجغرافية أو القوة الجيوبوليتيكية: سواء من ناحية المساحة فقط، أو مساحة الدولة ومؤشرات أخرى منها كثافة السكان، وكثافة خطوط السكك الحديدية. ب- القوة البشرية: تناول بعض المفكرين إجمالي الكتلة السكانية، والبعض الآخر تناول القوة البشرية العاملة في الدولة ومؤشراتها النوعية.. مثل المستوى التقني، والقوة العاملة في الصناعات التحويلية، وأخلاقيات الشعب وسلوكياته.. إلخ. وقد أدخل بعض المفكرين- مثل رأي كلاين- العاملين الجغرافي والبشري في عامل واحد أطلق عليه “الكتلة الحيوية للدولة Critical Mass” جـ- القوة الاقتصادية: ترجم بعض المفكرين القوة الاقتصادية للدولة إلى إجمالي الناتج القومي للدولة، ثم أدخل عليها مؤشرات أخرى مثل الطاقة ومصادرها، والمعادن الاستراتيجية، والقوة الصناعية، والقوة الزراعية، وحجم التجارة الخارجية للدولة، ورأى البعض الآخر الاكتفاء بحجم الناتج القومي وقصر المؤشرات الأخرى على الثروات الطبيعية والقوة الصناعية. د- القوة السياسية: وقد أدخلها أحد المفكرين وهو (كلاين) كعنصر غير مقاس ولكنه عنصر تقديرى يعتمد على: (1) تقييم الهدف الاستراتيجي للدولة وارتباطه بالتوازنات والإنجازات الداخلية، واستراتيجية العمل الدبلوماسي للدولة. (2) الإرادة الوطنية: والتي تختلف قوة وضعفاً بناء على التماسك الوطني، والتناسق الداخلي ثقافياً واجتماعياً وعقائدياً، وقدرة القيادة التنفيذية للدولة. (3) الروح المعنوية: ارتباطاً بالهدف القومي والاستراتيجي، وحجم الولاء، ومستوى حياة الفرد، والقناعة بالقيادة التنفيذية للدولة. (4) القوة العسكرية: بوجهيها التقليدي وفوق التقليدي (النووي والكيماوي والبيولوجي .. إلخ). وأكثر الأنماط والنوعيات التي اتبعت الطرق الأكثر شمولاً هي: أ- نمط وأسلوب جيرمان German ارتكز جيرمان في حسابه لقوى الدولة الشاملة على عديد من العوامل، منها عوامل رئيسية وأخرى عوامل مساعدة، ولكن لها تأثيرها في العوامل الرئيسية بالنقص أو الزيادة، أما العوامل الرئيسية التي أدخلها جيرمان فهي: (1) العامل الجغرافي: وذلك انطلاقاً من اعتبارين: مساحة الدولة وعلاقتها بكثافة السكان، ومساحة الدولة وتأثرها بكثافة طرق المواصلات فيها، اعتماداً على السكة الحديدية فقط. (2) العامل السكانى: لم يدخل تعداد السكان في الدولة إجمالاً، ولكنه اعتبر أن قوة العمل هي العامل الرئيسي، وأدخل عليه عوامل أخرى مساعدة، أبرزها قوة العمل طبقاً للمستوى التقني، حيث يتم حساب هذا المستوى طبقاً لاستهلاك الطاقة مقيمة باستهلاك الفرد من الفحم والكهرباء سنوياً، ويتراوح تقييم قوة العمل للمستوى التقني من 1-5 أضعاف قوة العمل طبقاً لهذا الاستهلاك. كما أضاف أيضاً قوة العمالة في الصناعات التحويلية، ولا يتم تقييمها طبقاً لحجم هذه القوة الفعلي، ولكن يتم مضاعفتها إلى خمسة أمثال. كما يُقيِّم قوة العمل طبقاً لأخلاقيات وسلوكيات الشعب (تقديرى) بما يعادل 1/3 -1/2 قوة العمل. هذا مع تقدير مدى نجاح السكان في توفير الاكتفاء الذاتي من الغذاء. ونجد أن هذه العوامل المساعدة طبقاً للقياسات والتقديرات تحدث تغييراً كبيراً في قياسات العامل البشري، حيث يصل حجم القياس إلى أكثر من ثلاثة أضعاف إجمالي حجم السكان في بريطانيا وألمانيا وبولندا، أو ضعفين أو أكثر في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وبلجيكا وتشيكوسلوفاكيا، أو إلى تقدير يماثل حجم السكان تقريباً، كما في روسيا والأرجنتين وجنوب إفريقيا، أو قد يؤدي إلى تقدير أقل بكثير من حجم السكان قد يصل إلى النصف كما في الصين، أو الثلث أو الربع، كما في الهند والبرازيل. (3) العامل الاقتصادي: ركز جيرمان في قياسات العامل الاقتصادي على مجموع الإنتاج الصناعي باعتباره عاملاً رئيسياً يشمل الإنتاج السنوي للصلب (بالمليون طن)، والفحم (بالمليون طن)، والمنجنيز (5 ملايين طن)، والبترول (بالمليون طن متري)، والكهرباء (محولة إلى مكافئ لإنتاج الفحم بالمليون طن). كما أدخل عوامل مساعدة مثل التوجيه الاقتصادي الذي يطبق في الدول ذات النظام الشمولي ويخضع فيها الإنتاج للملكية والإشراف الحكومي (الدول الشيوعية)، وقد ساوى بين معامل التوجيه الاقتصادي ومجموع الإنتاج الاقتصادي، بما ضاعف حجم الإنتاج الصناعي في الدول الاشتراكية. كما أضاف من 5-10% معامل إنتاج الصلب إلى الدول المتقدمة وخصم نفس النسبة من دول العالم الثالث، وكذلك بالنسبة لإنتاج النفط والمعادن الأخرى والمعدات الهندسية. (4) العامل العسكري: أدخله جيرمان طبقاً لحجم القوة البشرية العسكرية (بالمليون فرد). (5) العامل النووي: وقد ضخَّم كلاين من تأثير العامل النووي، فجعله مساوياً لباقي عناصر قوة الدولة الأخرى الجغرافية والسكانية والاقتصادية، وقدرَّها بمضاعفة القوة العسكرية عشرة أضعاف، مضافاً إليها إجمالي قوة الدولة الأخرى غير العسكرية. ويصل إجمالي حجم عناصر حساب قوى الدولة بأسلوب جيرمان إلى 26 عنصراً مقسمة كالآتى: 3 عناصر للعامل الجغرافي، 6 عناصر للعامل البشري (منها عنصر رئيسي واحد يمثل قوة العمل السكانية بالمليون، و4 عناصر عوامل مساعدة، وعنصر أخير لإيجاد إجمالي العوامل المؤثرة على السكان)، 13 عنصراً للعامل الاقتصادي (منها 5 عناصر رئيسية، و5 عناصر مساعدة تقديرية، و3 عناصر لحساب المجموع والإجماليات)، عنصر واحد للعامل العسكري، عنصر واحد للعامل النووي، عنصر واحد لإجمالي القوة الشاملة للدولة. وأهم النقاط المؤثرة في مصداقية هذا النمط لحساب قوى الدولة الشاملة، وإدخال ثقلها إلى الموازين الاستراتيجية هي: (أ) عدم التوازن في تقسيم القوة الشاملة للدولة إلى عناصر، فنجد أن العامل الجغرافي يمثل 10 أو5% بالنسبة لدول النادي النووي، والعامل البشري يمثل 21.2% أو 10.6% بالنسبة للدول النووية، والعامل الاقتصادي يمثل 68.6% أو 34.3% بالنسبة للدول النووية، والعامل العسكري التقليدي يمثل 0.2% والنووي العسكري يمثل 49.8% بالنسبة للدول النووية. (ب) تضخيم القوة الاقتصادية لدول النظام الشمولي (الشيوعية) بإدخال معامل التوجيه الاقتصادي الذي يضاعف الوزن الاقتصادي لهذه الدول، وقد ترتب على ذلك أن وضع جيرمان بولندا، وتشيكوسلوفاكيا، وألمانيا الشرقية (قبل توحّد الألمانيتين) ضمن أقوى 19 دولة في العالم متجاوزة دولاً أخرى تفوقها قوة. وهو ما ثبت خطأه، حيث تسبب النظام السياسي الشمولي في إضعاف اقتصاد هذه الدول، بل وتفكك الاتحاد السوفيتي نفسه. وإن كان النظام الشمولي في الصين عندما تطعم نظامه الاقتصادي بالأسلوب الرأسمالي أمكن له أن يحقق انطلاقة اقتصادية قوية. ب - نمط وأسلوب رأي كلاين Ray S. Cline: عرَّف كلاين القوة الوطنية للدولة بأنها: “خليط من عوامل القوة والضعف الاستراتيجي والعسكري والاقتصادي والسياسي، وهي تعكس اهتماماً بالقوة العسكرية للدولة، بالإضافة إلى التأثير الجغرافي مثل حجم وموقع الدولة، وحدودها الطبيعية، ومصادر القوة الأخرى كتعداد السكان، وتوافر مصادر الخامات، والبناء الاقتصادي، والتطور الفني، واختلاط الأجناس، والتماسك الاجتماعي، واستقرار المفاهيم السياسية، وكفاءة عملية اتخاذ القرار، وأخيراً الكم غير المحسوس الذي يعبر عنه “بالروح القومية”. ويرى كلاين أن العناصر الواردة في تعريفه السابق للقوة الوطنية للدولة هي المكونات التي تبني معادلة حساب القوى المحسوسة Perceived Power (PP). واعتبر أن التقييم الاستراتيجي الجاد لدول العالم يدل على أن 40-50 دولة فقط هي التي تشكل التوازن العالمي للقوة، أما الدول الباقية، فهي إما دولاً ذات وزن غير مؤثر في بنود القوة الحقيقية، وبالتالي يمكن إهمالها، أو أنها ذات تبعية سياسية تضع قوتها ضمن تلك الدول الجاذبة للقوة والمؤثرة في المسرح الجغرافي. أو تدخل في نظام تحالفي تكون تابعة له، وبالتالي يتضاءل تأثيرها في المستوى العالمي، أو حتى على التطورات في إقليم الدولة. ولكن هذا لا يعني التجاهل التام لهذه الدول وسكانها في الاعتبارات الاستراتيجية بعيدة المدى، أو الاعتبارات الإنسانية، حيث قد تكون بعض المكونات الفرعية بحجمها الكمي البسيط كافية للوصول إلى تقدير عام تقريبي لقوة الدولة. وحتى تكون القياسات ممكنة ويسهل الوصول إليها، فإن التعامل لتقدير قوة الدولة يتم بالقياسات بالمفهوم الواسع ولا يتم الدخول في التفاصيل، والنتائج تكون متقاربة ولا تتميز كثيراً عن التدقيق والتفصيل. وقد ترجم كلاين أسلوبه في معادلته الشهيرة وهي:
القوة المحسوسة للدولة = الكتلة الحيوية (السكان + المساحة) + القدرة الاقتصادية + القدرة العسكرية × (الاستراتيجية القومية + الإرادة الوطنية).
ق م=(ك + ص + ع) × (هـ + أ) PP = (C+E+M) × (S+W)
واستخدم في هذه المعادلة المكونات الآتية: وأهم ما يميز أسلوب أو نمط كلاين ما يلي:
أ- توزيع الثقل على قدرات الدولة المختلفة بطريقة أكثر دقة بواقع: ب- ترتفع في هذا الأسلوب القدرات التقليدية للدولة عنها في نمط وأسلوب جيرمان، وفي بعض الدول تزيد على 50% من إجمالي قوة الدولة. ولقد اعتبر كلاين أن الدول التي يقل عدد سكانها عن 15 مليون نسمة دولاً لا وزن لها، وبالتالي ليست لها قوة محسوسة للدولة، إلا أن هناك بعض الدول قليلة السكان ولكن لها تأثير غير متناسب مع حجمها السكانى نتيجة لعوامل أخرى مؤثرة.. مثل الموقع الاستراتيجي أو القوة الاقتصادية أو القوة العسكرية (مثل إسرائيل نتيجة قوتها العسكرية والنووية في حين حجمها السكانى نحو 5 مليون نسمة)، و(المملكة السعودية حجمها السكانى نحو 12 مليون نسمة ودخلها القومي يقدر بنحو 100 مليار دولار سنوياً) باعتبارها أكبر دولة في العالم مصدرة للنفط، و(نيوزيلندا، حيث حجمها السكاني 3.4 مليون نسمة ودخلها القومي 23 مليار دولار، وسنغافورة يبلغ حجمها السكانى 3 ملايين نسمة ودخلها القومي 18 مليار دولار)، وذلك لموقعها الاستراتيجي المتميز وتأثيرها في التجارة العالمية. أما بالنسبة للكتلة الحيوية المحسوسة للدول فنجد أن الدول العربية التي يستبعدها كلاين من عداد الدول ذات القوة تشمل معظم الدول العربية (16 دولة من بين 23 دولة). وقد أدخل كلاين في قياسات القوة العسكرية التقليدية نوعين للقياس: (أ) النوع الأول: تقديرات مقاسة: وتقوم هذه القياسات على القوة القتالية البشرية، ولا يقصد بها تعداد القوة البشرية العسكرية فقط، بل يقصد بها أيضاً القياس الكم نوعي بإدخال أداء القوة البشرية خلال الحروب والصراعات المسلحة السابقة، والروح المعنوية، ومستوى التدريب.. إلخ. كما يدخل في التقييم أيضاً الأسلحة ومعدات القتال الرئيسية مرتبطة بالكم والكيف معاً، ومدى توافر معدات القتال المهمة ذات التقنيات المتقدمة، وصارت من ضرورات الانتصار في العمليات العسكرية (أنظمة الرادار والإنذار المبكر والقيادة والسيطرة، أنظمة الدفاع الصاروخي والجوي والمضاد للدبابات). ويتأثر تقييم القوة العسكرية أيضاً بحجم الإنفاق العسكري، باعتباره تقييماً إضافياً لتقدير القوة العسكرية، ومدى توافر الاحتياطيات الاستراتيجية وكفاءة خطط استدعائها وتدريبها، ونظام رفع درجات الاستعداد القتالي، ومدى الاكتفاء الذاتي في تصنيع وإنتاج الأسلحة والذخائر والمعدات الحربية؛ أو اعتماد الدولة في الحصول على احتياجاتها العسكرية من الخارج. (ب) النوع الثاني: تقديرات غير مقاسة: وتضم تقديرات محسوسة.. مثل الروح المعنوية، ونوعية وكفاءة القيادة العسكرية، ومدى تطابق وترابط الاستراتيجية العليا للدولة مع الاستراتيجية العسكرية، هذا إلى جانب معامل الاقتراب الاستراتيجي، وهو ما يتمثل في خفة الحركة، والقدرة على المناورة الاستراتيجية، ومدى توافر عمق استراتيجي داخل أراضي الدولة، أو بالاستعانة بقواعد عسكرية وقوات لها خارج حدودها. كما أجرى كلاين- في نمطه وأسلوبه- تقييماً واضحاً له ثقله بالنسبة للهدف الاستراتيجي للدولة، والإرادة الوطنية، بأن جعل مقياس الثقل لكل من هذين العنصرين واحداً صحيحاً يضرب في إجمالي حجم العناصر المادية في قوة الدولة الشاملة، وقد يؤدي هذا إلى مضاعفة قوة الدولة الشاملة إذا توافر لها استراتيجية قومية شاملة لها غاياتها ومصالحها وأهدافها، وأيضاً إرادة وطنية قوية. وعلى العكس قد يؤدي افتقار الدولة إلى وضوح الهدف والغاية القومية واستراتيجية تنفيذها والهدف الاستراتيجي، مع غياب الإرادة الوطنية إلى خمود قوة الدولة بمفهومها الشامل. وقد ربط كلاين تقييم الهدف الاستراتيجي للدولة بتوافر اتجاه أو مفهوم عام داخل الوطن والشعب يؤيد ويدعم هذا الهدف، كما ربطه أيضاً بالإنجازات الداخلية مثل التوازن بين السلطات وحقوق الفرد داخل المجتمع، ومدى توافر الحياة الكريمة لكل فرد، كذلك ربطه باستراتيجية العمل الدبلوماسي للدولة وعلاقاتها الخارجية وارتباطها بالسياسة العسكرية للدولة. أما الإرادة الوطنية فترتبط أيضاً- طبقاً لوجهة نظر كلاين- بالوحدة الاجتماعية للشعب داخل حدود الوطن السياسية، وانعكاس هذه الوحدة الاجتماعية خلف الأهداف الاستراتيجية للدولة، بمعنى درجة قوة وحماس الإرادة الوطنية لدعم سياسة واستراتيجية الدولة التي يجب أن تكون واضحة ومفهومة للشعب، وتتمتع بتأييده ومساندته. وطبقاً لمقاييس كلاين فقد اعتبر أن هناك ثلاث دول لها مفهوم استراتيجي عالمي يحكم علاقاتها العالمية هي الولايات المتحدة- روسيا- الصين. أما القوى الكبرى الأخرى (مثل بريطانيا، وفرنسا، واليابان، وألمانيا، وإيطاليا) فقد خلفتها الحرب العالمية الثانية وهي مرتبطة بالولايات المتحدة، وإن كان مدى هذا الارتباط يختلف من حقبة إلى أخرى، ومالت إلى تشكيل تجمعات إقليمية- مثل الاتحاد الأوروبى- ورغم قوتها الاقتصادية إلا أن تأثيرها في المسارح السياسية العالمية تضاءل إلى حد كبير. كما ظهرت أيضاً قوى إقليمية، قد يكون تأثيرها محدوداً في المحيط العالمي، ولكن تأثيرها إقليمياً قد يكون واضحاً وفعالاً إلى حد كبير، فهي تفرض نفسها مثل رومانيا، وكوبا، وإسرائيل، وسنغافورة، وإيران، ونيوزلندا. وليست الإرادة الوطنية قيمة ثابتة الثقل، بل هي متقلبة إلى حد كبير، وتتأثر بدرجة المشاركة الشعبية في عملية صنع القرار، والمشاركة في المواقف الاستراتيجية الداخلية والخارجية والقيم التي يتمسك بها الشعب، والتفاف الشعب حول قيادته السياسية، خاصة إبان الأزمات والحروب، وإيمانه بما تعلنه هذه القيادة من غايات وأهداف قومية أو لا تعلنه، ولكن تكون معلومة للشعب ضمنياً. وقد حدد الآتي:
ثلاث ركائز للإرادة الوطنية هي: مستوى التماسك الوطني (33%)، وقوة القيادة السياسية (34%)، ومدى ملائمة الاستراتيجية العليا للدولة للمصالح الوطنية وتحقيقها لهذه المصالح (33%). أما قيم التماسك الوطني فهي اثنتان: التناسق والتكامل الثقافي (25%)، والتناسق والتكامل الإقليمي (8%). وقسّم أيضاً قوة القيادة الوطنية إلى اثنتين: قدرة القيادة التنفيذية (الحكومة) (17%)، ومستوى الانضباط الاجتماعي (17%). ولقد وافق كلاين على رأي بعض المحللين بعدم جدوى وضع معدل لقياس الأهداف السياسية والإرادة الوطنية لكثير من دول العالم الصغرى والنامية.
جـ- تعديل اللواء أركان حرب/ أحمد فخر (مدير أكاديمية ناصر سابقاً) لطريقة كلاين: اتبع اللواء أح/ أحمد فخر معادلة راين كلاين في قياس القوة القومية (القوة المدركة) للدولة، ولكنه أضاف إليها عاملين جديدين هما:
(1) قوة نفوذ الدولة عالمياً وإقليمياً (ن). (2) القدرة الدبلوماسية للدولة (د). لتصبح معادلة قياس قوة الدولة هي: ق م = (ك + ص + ع + ن) × (هـ + أ + د) وبذلك فقد أضاف اللواء فخر عاملاً آخر للتقديرات غير المقاسة، وهو عامل نفوذ الدولة عالمياً وإقليمياً والقدرة الدبلوماسية للدولة، وهذه الإضافة لعاملين للقياس ولكنهما يخضعان للتقدير. وتعني قوة نفوذ الدولة (ن)- طبقاً لمفهوم اللواء فخر- قدرة الأجهزة السياسية والإعلامية للدولة على إقناع الرأي العام الإقليمي والعالمي بشرعية الغايات والمصالح والأهداف القومية للدولة، وأنها متوافقة مع غايات وأهداف ومصالح شعوب ودول الإقليم، وعدم تعارضها مع مصالح باقي دول وشعوب العالم، وبهذا لا يخضع هذا الأمر للقياس، وإنما يخضع للتقدير. أما القدرة الدبلوماسية للدولة (د)، إنما تعني مدى نجاح الجهاز الدبلوماسي للدولة في نقل اتجاهات الجهاز السياسي للدولة خارج حدودها، وشرعية وصواب ما تتخذه القيادة السياسية من قرارات خاصة إبان الأزمات، وإقناع الأجهزة السياسية للدول الأخرى بسلامة التوجهات السياسية للدولة إقليمياً ودولياً.
خلاصة أنماط قياس قوة الدولة الشاملة:
تناولنا في هذا القسم من الدراسة أنماط وأساليب حساب القوة الشاملة للدولة، وأكثرها شيوعاً، وهي أنماط تتناول قوى الدولة السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والنووية والمعنوية كافة، ثم نمط (جيرمان)، ونمط (كلاين)، وأنماطاً أخرى تركز على أهم عناصر قوى الدولة الشاملة، مثل نمط (فوكس)، (موير)، وخلصت الدراسة إلى أن الأنماط الشاملة هي الأكثر دقة. وأن القياس لكل عنصر من العناصر لا بد وأن يتم في إطار مقارن بين الدول، ولإجراء ذلك لا بد من اتباع خطوتين عند القياس:
1- الخطوة الأولى: هي المقارنة الداخلية بين الدول لكل عنصر على حدة بهدف تحويل الأرقام المطلقة إلى أرقام وزنية (نسبية) قابلة للجمع مع العناصر الأخرى، ويتم ذلك باتباع أسلوب طريقة القيمة المعيارية للعنصر بقسمة ناتج طرح المتوسط الحسابى (م ح) على قيمة العنصر الفعلية (ع ف). وهذا الانحراف المعياري هو ناتج مجموع مربعات حاصل طرح المتوسط الحسابي من القيمة الفعلية للعنصر، مقسوماً على عدد الوحدات الممثلة في الدراسة (ن). القيمة المعيارية = الانحراف المعيارى = 2- الخطوة الثانية: وهي ضرب القيمة المعيارية الناتجة عن الخطوة الأولى في الوزن المقترح لكل متغير، ثم كل عنصر داخلي للوقوف على ترتيب العناصر الرئيسية.. وهكذا. وإذا ما طبقنا الطرق والأنماط والأساليب السابقة في قياس قوى الدولة الشاملة، مقارنة بين مصر وإسرائيل، فسنجد اختلافاً في النتائج طبقاً للآتي: أ- طبقاً لنمط جيرمان: تتفوق مصر على إسرائيل في الآتي: (1) العامل الجغرافي بنسبة 1.8 : 1 (2) العامل الاقتصادي بنسبة 3.5 : 1 (3) العامل العسكري بنسبة 3 : 1 حيث استند جيرمان في ذلك إلى مقارنة حجم القوات المسلحة في كل من مصر (0.445) وإسرائيل (0.149) مقارنة بمليون فرد. أما في العامل البشري فتتساوى مصر مع إسرائيل بنسبة 1:1 حيث اعتمد جيرمان في ذلك على العامل البشري محولاً إلى قوة عمل، بالإضافة إلى المستوى التقني وأخلاقيات الشعب، وليس على تعداد السكان فقط. أما بالنسبة للعامل النووي، فإن النسبة مطلقة لصالح إسرائيل، وبذلك انقلب التوازن في القوى الشاملة لصالح إسرائيل بنسبة 0.9 مصر إلى 1 إسرائيل.
ب- طبقاً لنمط كلاين:
(1) تتفوق مصر على إسرائيل في الآتي: (أ) الكتلة الحيوية (مساحة + سكان) بنسبة 65 (مصر) : 1(إسرائيل) (ب) القوة الاقتصادية بنسبة 4 (مصر) : 1 (إسرائيل) حيث استند كلاين في ذلك بصفة أساسية إلى إجمالي الناتج القومي للدولة، وكذا التحول من إنتاج السلم إلى إنتاج الحرب، وهو ما يميز مصر عن إسرائيل. (2) وتتفوق إسرائيل على مصر في الآتي: (أ) القوة العسكرية التقليدية بنسبة 0.57 (مصر) : 1 (إسرائيل). حيث أدخل كلاين العوامل الكم نوعية في كل ما يتعلق بالقوات المسلحة (مستوى الأداء في الحروب، التنظيم، الروح المعنوية، الكفاءة النوعية للفرد والسلاح، والقيادة والسيطرة، تعبئة الاحتياطيات الاستراتيجية .. إلخ). (ب) القوة النووية بنسبة صفر(مصر) : 1 (إسرائيل) (جـ) القوى الأخرى المحسوسة بنسبة 0.59 مصر : 1 (إسرائيل) (3) وبالتالي، فإن إجمالي القوة الشاملة طبقاً لنمط كلاين يمثل ميزان التوازن الشامل لصالح مصر بنسبة 2.26 (مصر) : 1 (إسرائيل) نخرج من ذلك بخلاصة مضمونها ضرورة التوصل إلى طريقة أكثر ملاءمة لحساب القوة الشاملة للدول العربية، ودول التهديد بالمنطقة للوصول إلى نتائج أكثر دقة في الموازين الاستراتيجية، وللتغلب على نقاط الضعف التي تلمستها الدراسة في نمطي كل من جيرمان وكلاين، وذلك بإدخال عناصر فرعية جديدة في عناصر القوة الشاملة للدولة، خاصة بالنسبة للقوة العسكرية والتي يجب أن يدخل في قياساتها: حجم القوات قبل التعبئة وبعدها، معاملات الكفاءة النوعية للأفراد (اللياقة الصحية والبدنية والمستوى العلمي والثقافي، والروح المعنوية والانتماء والولاء الوطني، والمهارات في استخدام الأسلحة والمعدات)، ونوعية القيادات وقدرتها على ممارسة أعمال القيادة والسيطرة والتخطيط وإدارة العمليات وتنفيذ المهام التي تحددها القيادة السياسية، والمستوى النوعي لأسلحة القتال الرئيسية والتكميلية في أفرع القوات المسلحة البرية والبحرية والجوية (والمعاملات الإضافية للتسليح، ومدى توافر احتياطي استراتيجي من الأسلحة والذخائر والمعدات وإنتاجها محلياً)، والكفاءة القتالية للتشكيلات الميدانية (ومدى التنسيق والتعاون بينها وبين القوات الجوية، والثقل النيراني للفرق بأنواعها، ومدى ما تتمتع به من خفة حركة)، مستوى الاستعداد القتالي والإنذار (قدرة أجهزة الاستخبارات على جمع وتحليل المعلومات وتقديم التقديرات في الأوقات المناسبة)، وإعداد الدولة والشعب والأرض للحرب، والتوزيع الاستراتيجي للقوات المسلحة، وأخيراً القوة الفوق تقليدية (نووي، كيماوي، بيولوجي، إشعاعي) ووسائل إيصالها إلى عمق العدو وباعتبار أن القوة النيرانية تشكل ثقلاً في الميزان الشامل لقوى الدولة يعادل الثقل العسكري التقليدي.
أسس تقييم القدرة العسكرية للدولة
1
1- تتمثل العوامل المؤثرة في القدرة العسكرية من المنظور السياسي العسكري في الآتي:
أ- القدرات القتالية للأفرع الرئيسية للقوات المسلحة وقوات الدفاع الشعبي المخطط تعبئتها في ظروف الحرب وقدرات الردع المتيسرة. ب- حجم المخزون الاستراتيجي من الاحتياجات العسكرية (أسلحة- ذخائر- قطع غيار- معدات- مركبات .. إلخ)، وكذلك القدرة على الاستعواض. جـ- كفاءة القيادة العسكرية الاستراتيجية في التخطيط وإدارة العمليات وممارسة القيادة والسيطرة. د- كفاءة خطط التعبئة، والقدرة على تعبئة موارد وقدرات قطاعات الدولة لصالح المجهود الحربي. هـ- درجات الاستعداد القتالي للقوات المسلحة وقوات الدفاع الشعبي وقوات الدفاع المدني. و- كفاءة إعداد أراضي الدولة كمسرح للعمليات من وجهة نظر العمليات الحربية، والتأمين المادي، والنقل لخدمة الصراع المسلح، ومدى صلابة وتحصين الجبهة الداخلية ضد ضربات العدو الجوية والصاروخية بأسلحة دمار شامل، ووقاية السكان والأهداف الاستراتيجية من تأثير هذه الضربات.
2- مفهوم القدرة القتالية، والعوامل المؤثرة فيها: هى البيان الإحصائى للقوة العسكرية الذي تعقد على أساسه المقارنات على المستويات المختلفة مع قوى التهديد الخارجي، ويتضمن هذا البيان القوة البشرية وحجم ونوع الوحدات (لواءات) والتشكيلات (الفرق). ويوجد عديد من العوامل المؤثرة على القدرة القتالية المؤثرة بالإيجاب أو السلب تتمثل في عوامل أساسية (ثابتة) تتمثل في الكفاءة النوعية للسلاح، وعوامل رئيسية تتمثل في كفاءة وفعالية التنظيم والتوازن النسبي بين عناصره، والكفاءة القتالية، وحجم القوات البرية والجوية والبحرية سلماً وحرباً، والعقيدة القتالية، والقيادة والسيطرة. هذا إلى جانب عوامل أخرى مساعدة (متغيرة) وتتمثل في معامل الاستخدام التكتيكي العام للأسلحة وهو ما يسمى بمعامل التأثير الميداني (طبيعة الأرض، التوقيت، الطقس، .. إلخ).
3- أهمية دراسة الكفاءة النوعية:
تعتبر الدراسة النوعية الدقيقة للأسلحة لها عديد من الجوانب الإيجابية ذات التأثيرات الحيوية والمهمة الكثيرة في المجالات العسكرية، باعتبارها أساساً لتكوين القدرة القتالية على أسس سليمة.
أ- في مجال العمليات: يعتبر التخطيط الدقيق الواقعي في مجال العمليات، وتحديد الأهداف والمهام الاستراتيجية للقوات بما يناسب إمكاناتها وقدراتها الفعلية، وما سبق أن تدربت عليه فعلاً، ولا يتعدى ذلك لما هو فوق طاقاتها، من العوامل المساعدة على نجاح التخطيط. هذا إلى جانب قدرة القيادات الاستراتيجية والتعبوية على إدارة العمليات وممارسة أعمال القيادة والسيطرة طبقاً لما قد يفرضه سير المعركة- خاصة من جانب العدو- من مواقف استراتيجية وتعبوية وتكتيكية لم تكن واردة في الخطة، وسرعة التعامل معها دون أن تفاجأ بها وبما يحرم العدو من تحقيق أهدافه ويوفر الحماية والوقاية للقوات، وتستمر في أعمالها القتالية طبقاً للخطة وبما يؤمن الاستمرار في الإمساك بالمبادأة. ومما يساعد على تجنب المواقف المفاجئة والمعقدة من جانب العدو، افتراضها مسبقاً وفي أسوأ توقعاتها أثناء التحضير لإجراءات المعركة، ومناقشة القادة على المستويات المختلفة في كيفية مواجهتها، واتخاذ القرارات المناسبة لذلك بتوفير قدرات صد وتدمير كفيلة بمنع العدو من تحقيق أهدافه. ب- في مجال تقدير احتياجات القدرة القتالية من الأسلحة والمعدات الحربية: وذلك بالمفاضلة بين العروض المختلفة للأسلحة والمعدات الحربية، وتقدير الأعداد المطلوبة من الأسلحة المختلفة طبقاً لخصائصها الفنية والتكتيكية ووزنها النوعي. وبما يحقق لها التفوق على ما في أيدي العدو من أسلحة مماثلة كماً ونوعاً، ويراعى سهولة التدريب عليها واستخدامها وصيانتها بواسطة المقاتلين، وإصلاحها وتوفير قطع الغيار لها بواسطة العناصر الفنية للإصلاح. جـ- في مجال التصنيع الحربى: توجيه سياسة التصنيع الحربي بما يحقق هدفاً استراتيجياً مهماً هو تأمين الاكتفاء الذاتي من احتياجات القوات المسلحة من الأسلحة والمعدات والذخائر، ودون حاجة لاستيرادها من الخارج. وذلك إما بتطويرها داخلياً بواسطة مراكز البحوث والتطوير طبقاً لاحتياجات قواتنا، أو من خلال الحصول على تراخيص استيرادها من الخارج، وبما يراعى عند عقد أي صفقة أسلحة ألا يتعدى ما يتم شراؤه من أسلحة ومعدات جاهزة نسبة 25% من احتياجات القوات المسلحة، وعلى أن يتم تجميع 25% منها داخل مصانعنا الحربية، ثم تصنيع كامل بنسبة 50% داخل هذه المصانع محلياً .. مع مراعاة اختبار نوعيات الأسلحة والمعدات ذات الوزن النوعي المناسب والخصائص الفنية والتكتيكية التي تواجه ما يجريه العدو- أو ما يتوقع أن يجريه مستقبلاً- من تطوير في قدراته التسليحية، وبما يجعلها قادرة على التنافس والتفوق مع العدو لمدة 10 سنوات مستقبلاً على الأقل قبل تغييرها بطور جديد من الأسلحة والمعدات. هذا مع توفير القدرة على تصنيع المعدات التكميلية للأسلحة المختلفة طبقاً لدراسة خصائصها الفنية والتكتيكية (مثل أجهزة الرؤيا الليلية، وتحويل الذخائر التقليدية إلى ذخائر ذكية، وأجهزة التصويب بواسطة الليزر .. إلخ). د- التمسك بمبادئ الحرب: ينبغى عند التخطيط وإدارة أعمال القتال مراعاة مبادئ الحرب والتمسك بها من حيث (حشد الحجم المناسب من القوات ذات النوعية المناسبة في اتجاه الجهود الرئيسية للقتال، وبما يحقق أهداف العملية ومهام القوات، وتحقيق المفاجأة واستخدام الخداع، وخفة الحركة وحرية المناورة، وتأمين القيادة والسيطرة المستمرة على القوات بالوسائل المختلفة للاتصالات طوال فترة الحرب، والمحافظة على الهدف وعدم الحياد عنه، المرونة في تنفيذ الخطة وعدم الجمود إزاء المواقف التي يفرضها العدو، والتأمين اللوجيستي المستمر للقوات مهما صعبت مواقف المعارك، الاحتفاظ بالمبادأة باستمرار وانتزاعها من العدو إذا حصل عليها في مرحلة ما من مراحل المعركة، وتحقيق تعاون وتنسيق مستمر بين أفرع الأسلحة المختلفة في الحرب وبين التشكيلات والوحدات المتجاورة في المعركة وأيضاً بين أسلحة القتال المختلفة (المشاه، المدرعات، المدفعية، المهندسين .. إلخ)، الاستعداد القتالي الدائم وهو ما يتحقق بتحديد فترة إنذار بالنوايا المعادية تنذر بها أجهزة الاستخبارات لا تقل عن سبعة أيام، وتحديد فترة إنذار ببدء الأعمال القتالية لا تقل عن ثلاثة أيام، وتدريب القوات على التحول من درجة الاستعداد العادية إلى درجات الاستعداد الأخرى وصولاً إلى درجة الاستعداد القصوى، وتأمين وسائل الاتصالات التي تحقق ذلك، ولا سيما بالنسبة لاستدعاء الاحتياط، وأخيراً المحافظة الدائمة على الروح المعنوية للقوات من خلال زرع الإيمان بالقضية التي تقاتل من أجلها، وبث الثقة في النفس والسلاح والقيادة، وتعميق الإيمان بالله وبالدفاع عن الأرض والأهل والمقدسات، مع مبدأ الاقتصاد في القوة. هـ- توفير العناصر الأساسية للمعركة الحديثة: والتي تتضمن قوة النيران المباشرة وغير المباشرة بالوسائل المختلفة التي تؤمن المساندة النيرانية المستمرة لعمليات الهجوم والدفاع، وذلك بواسطة نيران المقاتلات والمروحيات والمدفعية، إلى جانب توفير قوة الصدمة التي تحققها المدرعات (قوة نيران، قوة درع، خفة حركة) والتي تؤمن تحقيق اختراقات عميقة عند الهجوم في دفاعات العدو والالتفاف حولها أو تطويقها والوصول إلى خطوط تحقيق المهام المباشرة والتالية وفي نهاية كل يوم قتال، إلى جانب الملاءمة لتحقيق صور معركة الأسلحة المشتركة الحديثة (هجوم/ دفاع/ معارك تصادمية/ مطاردة/ انسحاب منظم بهدف تكتيكي لاستئناف الهجوم بعد ذلك).
4- قياس عناصر الكفاءة النوعية:
تتمثل عناصر الكفاءة النوعية في عناصر التنظيم الثلاثة، وقد اتفق المحللون العسكريون، بالإضافة لبعض الدراسات الاستراتيجية التي ما زالت مستمرة، على أن تكون نسبة التوازن في عناصر تنظيم القوات البرية كالآتي:
أ- عنصر القيادة والسيطرة: يتمثل في النسبة بين 13-18% بمتوسط عام 15%. ب- العنصر المقاتل والمعاون: يتمثل في النسبة بين 65-75% بمتوسط عام 70%. جـ- عنصر إداري وقتي (لوجيستي): يتمثل في النسبة بين 13-17% بمتوسط عام 15%
5- متطلبات تحقيق التفوق العسكري نوعياً:
لدراسة هذه المتطلبات، يجدر بنا تقسيم التفوق العسكري المطلوب تحقيقه إلى مستوياته الأساسية الثلاثة، حتى يمكن إعداد القواعد الرئيسية لمستويات المقارنة:
أ- التفوق النوعي في الحرب: وهو التفوق الذي يهدف إلى ضمان تحقيق أهداف الحرب الاستراتيجية، ونجاح التشكيلات والوحدات الميدانية في تنفيذ مهامها القتالية. ومن أجل سد الفجوة الكمية في علاقات القوى في الحرب يكون التفوق النوعي في مجالات أكبر من تلك المطلوبة في مجالي القتال والمعركة. والعناصر الأساسية لإحراز التفوق النوعي في الحرب تكون في القدرة على ردع العدو، ويكون للردع مصداقية عند العدو، والقدرة على الإنذار المبكر، والقدرة على صد أي هجوم مفاجئ (ضربات وقائية واستباقية من جانب العدو)، القدرة على استغلال موارد الدولة التي تتفوق فيها على العدو (مثل القوة البشرية العربية في مواجهة ضعف القوة البشرية عند العدو، والقدرة على امتصاص وتحمل الخسائر، وذلك بتحصين الأهداف الاستراتيجية والمناطق السكانية ودفاعات القوات، ووسائل الدفاع الجوي والصاروخي، وسرعة استعواض الخسائر. ب- التفوق النوعي في العملية: وهو ذلك التفوق الذي يهدف إلى تحقيق نصر عسكري في مسرح العمليات البري أو الجوي أو البحري، بمعنى آخر هو تحقيق التفوق على المستوى التعبوي (بين التكتيكي والاستراتيجي)، وهنا يتضح الأثر الكبير لإمكانات التفوق النوعي ومجالاته، وحيث يمكن بواسطته تعويض التفوق الكمي الذي قد يتمتع به العدو، حيث إن التفوق الكمي للعدو الجوي له تأثير بعيد على مسار العمليات، وقد يحد من حرية مناورة التشكيلات المدرعة ويجبرها على اتخاذ الدفاع بدلاً من الهجوم. وللحد من التفوق الجوي للعدو يمكن اعتماد وسائل الدفاع الجوي الصاروخية في تكبيد العدو الجوي خسائر جسيمة تحرمه من تفوقه الجوي وتُحيِّد هذا التفوق وتستعيد قواتنا الجوية التفوق الجوي الذي يمكنها من تأمين الحماية الجوية والمساندة النيرانية لهجمات قواتنا البرية. نفس الأمر بالنسبة للتفوق الكمي في مدرعات العدو، حيث يمكن بواسطة الاستخدام الجيد للأسلحة الصاروخية المضادة للدبابات تكبيد مدرعات العدو خسائر جسيمة تجبرها على الحد من هجماتها وحرية مناوراتها وتلزمها الدفاع، وبما يعطي قواتنا المدرعة القدرة على حرية الحركة والمناورة والقيام بعمليات هجومية. كما يمكن أيضاً بالاستخدام الموسع في راجمات الصواريخ متعددة المواسير تعويض النقص في كتائب المدفعية المسلحة بمواسير مدافع، حيث تساوى كتيبة واحدة مكونة من 12 راجمة صواريخ كل راجمة قادرة على إنتاج 40 صاروخاً في القصفة الواحدة وتطلق في القصفة الواحدة 480 صاروخاً، وبما يعادل نيران 40 كتيبة مدفعية أحادية المواسير. وهو ما يثبت ويؤكد أنه على المستوى التعبوي تعبر المقارنة الكمية لعناصر القوى بشكل عددى مجرد غير معبرة عن حقيقة مركز الثقل لعلاقات القوى، حيث ينحرف التقدير عن العامل النوعي الذي يكون له الأثر المرجح، وبالتالي يصبح من الضروري عقد مقارنة نوعية لا تغفل فيها التأثير الكمي وكيفية الاستعاضة عنه، للحصول على رؤية واضحة ودقيقة. جـ- تفوق نوعي في المعركة: يهدف هذا المستوى التكتيكي إلى تحقيق هدف عسكري محدد مثل احتلال أرض أو الدفاع عنها، وتدمير قوات وتشكيلات أساسية للعدو أو شل عملها. وينتج أساساً هذا التفوق من نوعية العناصر المكونة للتجميع القتالي للوحدات المقاتلة (مستوى لواء وكتيبة) التي تضمن تحقيق الهدف، ذلك أن تحديد مستوى نوعية هذه العناصر (نوعية المقاتل، ونوعية السلاح، والأسلوب القتالي لتنفيذ المهمة) هو الذي يضع الأساس لعلاقات القوى، وسعياً لتحقيق المهمة القتالية للوحدة التي ستخوض المعركة، ولهزيمة العدو، ينبغى التركيز أولاً على معرفة أبعاد المنطقة التي ستجرى على أرضها العملية، وكيفية تحقيق الاستفادة القصوى من طبيعة الأرض، خاصة فيما يتعلق بالإخفاء والتحصن وحرية الحركة والمناورة والخداع، إلى جانب تحديد عناصر القوة والضعف في قوة العدو المتوقع مواجهته، مع استغلال عناصر الضعف عنده بالتركيز على مهاجمتها لزيادة ضعفها، وإضعاف عناصر القوة عنده بتحييدها بأسلحة مناسبة أو عزلها عن المعركة وتجنيبها خوض المعركة الرئيسية. وهو ما يفرض مسبقاً إجراء عمليات استطلاع جيد للأرض والعدو، وتوقع لطبيعة عمليته القادمة، واستخدام أسلوب القتال الذي يعرقل خطته ويحبط أهدافه ويلزمه على تغييرها تجنباً لمزيد من الخسائر. ويعتبر استخدام القوات الخاصة المدعمة بصواريخ مضادة للدبابات في شكل كمائن وإغارات تتسم بالمفاجأة من أهم الوسائل لإرباك العدو ومفاجأته وإحداث خسائر جسيمة فيه. هذا مع عدم إغفال السعي لتحقيق الحد الأدنى من التفوق الكمي أو التعادل الكمي. مع تعويض النقص الكمي بتحقيق تفوق نوعي في المقاتل والمعدة والقيادة والسيطرة وأسلوب القتال.
6- معايير قياس الكفاءة النوعية:
تكمن صعوبة قياس الكفاءة النوعية في عامل أساسي هو أنها مسألة نسبية، حيث تتعرض لمسائل أغلبها غير ملموس، والقليل من هذه المسائل ما يمكن قياسه. وهنا تظهر المشكلة التالية، وهي صفر القياس. أو بمعنى آخر هل سيكون أساس القياس بوجه عام أو مقارنة بالنظير (العدو/ الخصم) من قوى التهديد. وقد ظهرت عديد من الدراسات التي بحثت في كيفية قياس النوعية، ويمكن إجمال هذه الآراء المختلفة لوضع الأساس الذي يمكن عليه قياس النوعية في الآتي:
أ- معيار القرار البشري: ويعتمد مؤيدو هذا الرأي على أن العامل البشري هو العامل الوحيد الذي يحقق التواصل المستمر في جميع المراحل، بدءاً من قرار التصنيع وحتى قرار الحرب وإطلاق النار، مروراً بقرارات عديدة تخضع أولاً للعامل البشري مثل رسم الاستراتيجيات، واختيار العقيدة العسكرية، وتحديد أساليب القتال والمناورة، واختيار الأهداف، وكذا قرارات اختيار التنظيم والتجميع المناسب للعملية من بين البدائل المتاحة، وخطط العمليات على المستويات الاستراتيجية والتعبوية والتكتيكية.. وهكذا، وفي هذه الحالة يمكن قياس معيار القرار البشري باعتباره قراراً سليماً جدا أو قراراً سليماً بدرجة أقل أو قراراً غير سليم. ب- المعيار المالي (ميزانية الدفاع): وهذا الأسلوب يعتمد في قياس النوعية على حجم الإنفاق الدفاعي، أو على مقدار المنفعة المالية التي تم إنفاقها في سبيل الحصول على التطور النوعي. فمثلاً يتم قياس ومقارنة التطور النوعي في الدولة بحجم الإنفاق العسكري أو حجم مخصصات الأمن والدفاع ومقارنته بحجم الإنفاق في نفس المجال لدول التهديد الخارجي. وبنفس الأسلوب يتم مقارنة حجم الإنفاق في العملية التدريبية، والتجهيز الهندسي لمسرح العمليات، وهكذا حتى يمكن أخيراً مقارنة سعر السلاح بتكلفة نظيره في الجانب الآخر، ويعتمد هذا الأسلوب في القياس على افتراض أن كل دولار أو جنيه يتم إنفاقه قد حقق النتائج المتوقعة في المجال الذي استثمر فيه. ولا تقتصر المقارنة على إجمالي الإنفاق الدفاعي، بل تفاصيل بنوده. فأسوأ أنواع الإنفاق الدفاعي هو ما يخصص أكثر من 50% لمرتبات ومعاشات الضباط والجنود، وأقل من 5% للبحث والتطوير، حيث ينبغى أن يخصص الحجم الأكبر من الإنفاق الدفاعي على رفع مستوى الكفاءة القتالية من حيث الأفراد والأسلحة والمعدات والاستعداد القتالي وإعداد المسرح للحرب، وما لا يقل عن 15% للبحوث والتطوير. جـ- معيار التكنولوجيا (قاعدة البيانات/ المعلومات/ الاتصالات): وهذا الأسلوب يعتمد في قياس النوعية على أساس حجم التكنولوجيا المستخدمة، سواء في المعدة، السلاح، التشكيل، أجهزة القيادة والسيطرة، والتصنيع.. وهكذا. ولا شك أن هذا القياس له دلالاته الخاصة، ونحن في عهد ثورة التكنولوجيا والمعلومات، حيث تنامى تطور الحسابات الإليكترونية لدرجة الوصول إلى ما يسمى بعصر “الأجيال”، حيث تتتابع وتتلاحق أعمال التطوير بشكل يستحيل معه التمييز بين كل نظام حديث وآخر، وحيث أدت ثورة الاتصالات إلى ما يعرف بالقرية الصغيرة التي تشمل كل الكرة الأرضية بأسرها، ولكن هل يمكن بهذا المعيار- مثلاً قياس الروح المعنوية كعامل مؤثر في القتال؟ وهل يمكن بهذا المعيار قياس قدرة التحمل وامتصاص الخسائر؟ بالطبع لا. د- معيار كفاءة الأداء: ويعتمد هذا الأسلوب على أن المعيار الرئيسي لكل قرار هو جودة تنفيذه، فلقياس نوعية التصنيع يكون المعيار هو مقدار الجودة للمنتج بعد التصنيع، وقرار التدريب يقاس بمعيار جودة التدريب، وقرار القتال يقاس بمعيار أداء القوات المتحاربة.. وهكذا، وبناء على هذا المعيار يتم قياس جودة الأداء والتنفيذ، سواء بصورة ممتازة، أو جيدة، أو مرضية، أو سيئة.
مفهوم الكفاءة القتالية
الكفاءة القتالية هي محصلة عنصرين رئيسيين في القوات المسلحة، هما الفرد المقاتل والسلاح والمعدة ومركبة القتال، مع بعضهم بعضاً في ظل تنظيم محكم ومصمم بكفاءة ليحقق للقوات المسلحة قدرتها من ناحية الكم والكيف، وبما يمكنها من إدارة الصراع المسلح في مسرح العمليات في الوقت والمكان المناسبين بأقصى كفاءة وأقل استهلاك في القوات والوسائل في مختلف الظروف تحقيقاً للهدف السياسي العسكري للدولة. وتتكون عناصر الكفاءة القتالية من:
أ- الاستعداد القتالي: ويتضمن نسب الاستكمال للقوات (ضباط وصف ضباط وجنود)، نظام القيادة والسيطرة، الانضباط، الروح المعنوية، الخطط ووثائق العمليات ومدى استيعابها والتدريب على تنفيذها، وكيفية التحول إلى درجات الاستعداد القتالي المختلفة، وتنفيذ المهام القتالية. ب- التدريب القتالي: يتضمن أسلوب تخطيط وتسجيل وتنفيذ المهام التدريبية للفرد والوحدة الفرعية الصغرى (من الفصيلة والسرية وحتى الكتيبة) نهاراً وليلاً، ومساعدات التدريب المستخدمة، ونتائج تنفيذ الرمايات الفردية والتكتيكية، واختبار الوحدة/ التشكيل على تنفيذ مهمة عملياتية. جـ- الحالة الفنية: وتشمل الحالة الفنية للأسلحة والذخائر والمعدات والمركبات، وموقف التأمين الفني للإصلاح، والتخطيط للإمداد بقطع الغيار. د- التنظيم والإدارة: وتشمل تخطيط التعبئة، واستدعاء الاحتياط، ومستوى تدريبه، وأسلوب استعواض الخسائر، ومراجعة الوثائق والخطط التنظيمية. هـ- الكفاءة الإدارية: وتشمل نسب استكمال مستويات الاكتفاء الذاتي من الوقود وقطع الغيار والمواد الغذائية والمياه والمهمات، وكفاءة المعدات الإدارية، وورش الإصلاح، والتخطيط الإداري. و- الروح المعنوية: وتشمل مستوى الانضباط العسكري (حالات الغياب، الجرائم العسكرية، القضايا والجزاءات)، ومدى اقتناع الأفراد بعدالة الدفاع عن الوطن ومشروعيته، والالتزام بالجوانب الدينية.
علاقة الكفاءة القتالية بالقوة العسكرية والقدرة العسكرية
بينما القوة العسكرية هي إحدى قوى الدولة الشاملة، فإن القدرة العسكرية هي إمكانية الدولة لتكريس الإمكانات والقدرات المختلفة في المجالات المتعددة لدعم القوة العسكرية للدولة (آلية وفاعلية استخدام القوة العسكرية لتحقيق الأهداف السياسية- العسكرية والاستراتيجية). أما الكفاءة القتالية فهي مجموعة العناصر التي تتفاعل فيما بينها لتحقيق أفضل استخدام للقدرات العسكرية. وتعتبر العلاقة بين الكفاءة القتالية والقدرة القتالية علاقة طردية، فكلما ارتفعت الكفاءة القتالية ازدادت القدرة القتالية، فمثلاً يؤثر ارتفاع مستوى التدريب إيجابياً على القدرة القتالية للوحدة والعكس صحيح، حيث إن انخفاض أحد عناصر الكفاءة القتالية يؤثر سلباً في القدرة القتالية للوحدة أو التشكيل.