(فى التاسع من يناير 2011 أُجرى استفتاء شعبي أسفر عن انفصال جنوب السودان عن شماله، وأُعلنت دولة جنوب السودان المستقلة المسيحية برئاسة المتمرد الجنوبي سيلفا كير، حامل لواء سلفه جون جارنج لإقامة دولة مسيحية فى جنوب السودان. الدولة الوليدة طالبت دعم المجتمع الدولي لها فى مواجهة تهديدات النظام الإسلامي السوداني برئاسة عمر البشير، الذى هدد بإلغاء نتائج الاستفتاء. وفى يوم 10 يناير 2011 أعلن المهاجرون السودانيون فى "إسرائيل" والبالغ عددهم نحو خمسة آلاف شخص، عن افتتاح أول سفارة لجنوب السودان فى تل أبيب، بدعم ومساندة وزير الخارجية الصهيوني أفيجدور ليبرمان. بذلك يصبح الكيان الصهيوني أول دولة فى العالم تعترف رسمياً بالدولة الجديدة المنشقة. بعد شهر تعلن "إسرائيل" افتتاح سفارة لها بجنوب السودان لدعم العلاقات التطبيعية بين البلدين).
هذا السيناريو قد يعتبره البعض من القراءة الأولى درب من الخيال، إختلقه كاتب هذه السطور من ثنايا عقله الباطن، كمحاولة منه لتسلية القراء بقصة مثيرة جذابة. لكن بعد تأمل عميق وقراءة متأنية ستدرك من الوهلة الأولى بشاعة الخطورة التى يحملها هذا السيناريو المرتقب، والذي ستتجاوز تداعياته ودلالاته حدود السودان، التى لا تزال حتى كتابة هذه السطور أكبر دولة عربية من ناحية المساحة.
لا شك فى أن السيناريو سالف الذكر بكل أبعاده يحمل العديد من المؤشرات والدلالات لما قد يواجه الوطن العربي من مخططات الفتنة والتقسيم، وتفتيته لدويلات صغيرة يمكن التحكم فيها وفرض السيطرة عليها، فالنموذج العراقي واللبناني واليمني ليس عنا ببعيد، وها هي السودان تتهاوى لتكون أحدث حلقات مسلسل "السقوط العربي" المخزي.
محاور صهيونية
إن المتابع للساحة السياسية السودانية يمكنه أن يدرك بسهولة مدى ارتباط تطوراتها بما يحدث داخل الكيان الصهيوني، الذى وضع السودان على رأس قائمة استهدافاته، والتى بدت ملامحها فى الوضوح مع قيام سلاح الطيران الصهيوني فى مارس 2009 بقصف قافلة سيارات على الأراضي السودانية، يُزعم أنها كانت تحمل شحنة أسلحة تنقلها من إيران إلى المقاومة الفلسطينية فى قطاع غزة. كما أنه من غير المستبعد تورط الكيان الصهيوني بضلوعه فى إصدار مذكرة اعتقال دولية فى حق الرئيس عمر البشير لإرتكابه جرائم حرب فى إقليم دارفور، إلى جانب ضلوعه فى إشعال قضية دارفور على المستوى الدولي، وبخاصة بعد استقبالها عدد من لاجئ دارفور على أراضيها.
لذا فإن إنهيار السودان وتقسيمه يحقق لـ" إسرائيل" الكثير من المكاسب سواء السياسية أو الاقتصادية، والتى تتمثل أساساً فى أطماع الكيان الصهيوني فى ثروات السودان الطبيعية. تلك المكاسب يمكن إجمالها فى المحاور التالية:
المحور السياسي: تقسيم السودان من خلاله تستطيع "إسرائيل" كسر حلقة قوية من حلقات دعم المقاومة الفلسطينية، وهى السودان. فتوريطها فى صراعات داخلية يجعلها تنشغل عن دعم المقاومة الفلسطينية، سواء كان دعماً معنوياً أو مادياً. كما أن إغراق السودان فى تلك الصراعات سيسمح بالتغلغل المخابراتي الصهيوني إلى قلب الأراضي السودانية لرصد لتحركات الإيرانية داخل السودان، بعد أن تحولت فى الآونة الأخيرة إلى ساحة صراع جديدة بين طهران وتل أبيب.
المحور الاقتصادي: بدأت الأطماع الصهيونية فى الثروات الطبيعية للسودان فى الظهور مع بروز الدور الصيني فى القارة الأفريقية عموماً، وفى السودان على وجه الخصوص، لاسيما بعد توقيع الصين لعدد من الصفقات والاتفاقيات الاقتصادية والاستثمارية مع حكومة الخرطوم تقدر بمليارات الدولارات، خاصة وأن منطقة جنوب السودان تمتع بثروات نفطية ضخمة واعدة ، لذا فإن إقامة دولة جديدة مسيحية في جنوب السودان والتي سبق لها وأن استعانت في الماضي بـ "إسرائيل"، ستساعدها كثيراً فى حل مشكلة النقص في مجال الطاقة الذي تعاني منه دوماً. بالإضافة إلى ذلك فإن إقامة دولة فى جنوب السودان على علاقات قوية مع "إسرائيل" سيفتح الباب أمام تل أبيب للحصول على مياه نهر النيل وتزيد من فرض سيطرتها عليها، عبر بناء المزيد من السدود وإقامة المشروعات المائية، كما سبق وأن فعلت فى أثيوبيا، لتكون ورقة جديدة تلاعب بها مصر، لتضييق الخناق عليها وإيتزازها هذه المرة، سيكون سياسياً واقتصادياً.
المحور الأمني: فلدى "إسرائيل" فى منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل وهى الدول المجاورة للسودان مصالح أمنية وعسكرية من خلال صفقات بيع الأسلحة التى تدر مبالغ طائلة على الكيان الصهيوني، والتى تنعش خزينته السنوية بمليارت الدولارات، وليس خافياً على أحد الدعم العسكري الذى قدمته "إسرائيل" للمتمردين فى جنوب السودان عبر إحدى الدول الأفريقية المجاورة، ويكفى أن نشير هنا إلى ما ذكرته صحفية أمريكية بشأن نجاح جنوب الســودان فـي تخزين كمية كبيرة من الأسلحة العسكرية المتطورة من دبابات وغيرها وهي كمية كفيلة بأن تكسر معايير التوازن بين الجنوب والشمال، مؤكدة على وجود أموال غربية تقف وراء مشتريات الأسلحة فى جنوب السودان، وأن هناك تدخل من جانب عناصر "إسرائيلية" فى عدد كبير من تلك الصفقات، وهذا أيضا ما أكدت عليه صحيفة هاآرتس العبرية بتاريخ 13/1/2009 فى تقرير خاص أعده الصحفى يوسي ميلمان تحت عنوان "القراصنة يخطفون سفينة أسلحة يمتلكها إسرائيليون".
علاقات مشبوهة
ومما يؤكد على التغلغل الصهيوني فى جنوب السودان هو ما قاله خبير الشؤون الأفريقية الصهيوني متساريا موننا، بأن العلاقات بين "إسرائيل" وجنوب السودان ليست جديدة، وتاريخها الحقيقي يعود إلى عام 1967، عندما عرض الجنرال جوزيف لاجو لونجا - مؤسس حركة جنوب السودان - على "إسرائيل" فى ذاك الوقت استعداده لتقديم المساعدة لتل أبيب للحيلولة دون اشتراك الجيش السوداني مع الجيش المصري في محاربتها. وعلى الفور وجهت رئيسة الوزراء الصهيونية جولدا مائير الدعوة له لزيارة تل أبيب وقامت بتكليف جيش الاحتلال بتدريب أتباعه، وزودتهم بالأسلحة التي يحتاجونها، وتم تنسيق عملية المساعدات "الإسرائيلية" لجنوب السودان مع كل من كينيا وأثيوبيا. ويبدو أن العبث الصهيوني فى الساحة السودانية لم يتوقف منذ هذا التاريخ، حيث اعترف عاموس يادلين الرئيس السابق للمخابرات العسكرية الصهيونية المعروفة اختصاراً بـ"امان" قبل نحو الشهر خلال تسليمه لمهام منصبه لخليفته، بدور "إسرائيل" الكبير فى مساعدة الحركات الانفصالية بالجنوب السودانى، قائلاً :"لقد أنجزنا خلال السنوات الأربع والنصف الماضية كل المهام التى أوكلت إلينا، واستكملنا العديد منها والتى بدأ فيها الذين سبقونا"، وأضاف :"أنجزنا عملاً عظيماً للغاية فى السودان، نظمنا خط إيصال السلاح للقوى الانفصالية فى جنوبه، ودربنا العديد منها، وقمنا أكثر من مرة بأعمال لوجستية، لمساعدتهم، ونشرنا فى الجنوب ودارفور شبكات رائعة وقادرة على الاستمرار بالعمل إلى ما لا نهاية، ونشرف حالياً على تنظيم "الحركة الشعبية" هناك، وشكلنا لهم جهازاً أمنياً استخبارياً".
دولة جنوب السودان من "إسرائيل"
على ضوء ما سبق، وبكل ما تمثله السودان (المنقسمة) من أهمية استرتيجية، تؤكد إسرائيل، من خلال تقارير وسائل إعلامها ومراكزها البحثية على أن انفصال الجنوب عن الشمال آت لا محالة، وأن الاستفتاء الشعبي المقرر له فى التاسع من يناير المقبل ما هو إلا إجراء لحفظ ماء وجه النظام السوداني، الذي رضخ للإبتزازت والضغوط الغربية من أجل الموافقة على إجراء هذا الاستفتاء، ويبدو أن هذا ما أكده خبير الشؤون العربية تسيفى برئيل فى تقريره الذى نشره مؤخراً بصحيفة هاآرتس بتاريخ 22/12/2010 والذي قال فيه إن هناك دولة أفريقية مستقلة جديدة ستعلن قريباً (جنوب السودان) وبالطبع سيكون لإسرائيل ممثلين بها. مشيراً إلى تصريحات وزير الإعلام في الحكومة المؤقتة بجنوب السودان التى أكد فيها أن الجنوب المستقل سيقيم علاقات مع جميع دول العالم ولن يكون معادي لأحد، وفى ذات الوقت لم يستبعد أن تكون لبلاده الجديدة علاقات مع تل أبيب، مؤكداً بقوله :"هناك علاقات دبلوماسية تربط بين عدد من الدول العربية و"إسرائيل"، فما الذي يمنع إقامة جنوب السودان لعلاقات كهذه مع إسرائيل؟".
ولعل برئيل قد قرأ السيناريو الذى ذكرناه فى مستهل مقالنا، لذا أشار فى تقريره إلى أن "إسرائيل" سوف تعترف – بشكل غير مباشر- بدولة جنوب السودان المستقلة، حتى قبل قيامها، منوهاً لما قامت به "إسرائيل" مؤخراً - ونشرته بعض التقارير الصحفية - من نقل عدد من اللاجئين السودانيين في "إسرائيل"، إلى جنوب السودان، سواء بنقلهم عبر دولة ثالثة، أو من خلال نقلهم مباشرة إلى مطار جوبا، فى جنوب السودان. وأوضح برئيل فى تقريره أنه إذا ما صحت تلك التقارير فإن هذا الإجراء يُعد بمثابة إعتراف ضمني من قبل "إسرائيل" بتلك الدولة التي لم تقم بعد.
طائرات صهيونية فى جوبا
كما استعرض برئيل فى تقريره الأنباء التى ترددت بشأن اجتماع مسئولين "إسرائيليين" مع مندوبين عن حكومة جنوب السودان، والاتفاق على أن يستقبل مطار جوبا رحلات شركة الطيران الصهيونية (العال) بداية من العام المقبل، بالإضافة إلى إعتزام رجال أعمال "إسرائيليين" بناء فندق سياحي ضخم في جنوب السودان، وأن شركة "إسرائيلية" أخرى قامت بالفعل بتدشين مكتب سمسرة مالية وتجارية هناك.
هذه الأنباء التى يتم تسريبها فى الأساس من خلال وسائل الإعلام العبرية تهدف فى المقام الأول إلى جس نبض العالم العربي حيال الدولة الجديدة فى جنوب السودان وعلاقاته المرتقبة مع "إسرائيل" من جهة، وتكشف لنا استعدادات الكيان الصهيوني لاحتواء تلك الدولة المزعومة والسيطرة عليها لتكون ورقة جديدة في يده يستعين بها فى حربه ضد العرب من جهة أخرى.
وكعادة الإعلام الصهيوني الموجه، حاول برئيل الإيحاء عبر تقريره المشبوه، بأن "إسرائيل" تتمتع بتعاطف وتأييد شعبي من جانب السودانيين الجنوبيين، زاعماً بأن معظم سكان الجنوب السوداني يحملون مشاعر إيجابية تجاه "إسرائيل" ويرحبون يإقامة علاقات معها، مبرزاً مثالاً على ذلك من خلال تعليقات القراء في احدى المواقع الإلكترونية السودانية على خبر يتحدث عن تعميق العلاقات بين "إسرائيل" وجنوب السودان، حيث علق أحدهم على ذلك قائلاً :"عقب الانفصال عن السودان، ستكون "إسرائيل" من أولى الدول التي سيدعوها الجنوب إلى إقامة سفارة لها هنا. فـ"إسرائيل" لم تقتل 2.5 مليون شخص من شعبنا مثلما فعل النظام السوداني، ونحن السودانيون الجنوبيون لا تهمنا حرب 1967 ولا حرب 1973. لأنه ماذا تنتظرون من "إسرائيل" فعله عندما تُهاجم من عدة جبهات".
ها هي السودان فى ظل الخريطة الجيو سياسية الجديدة تتهاوى أمام أعيننا وسط عجز عربي مخجل ينذر بسقوط مزيد من الدول العربية فى براثن التقسيم والتفتت لتتحول إلى دويلات لا حول بها ولا قوة، وتفسح المجال أكثر أمام القوى المتربصة بها، لتزيد من سطوتها وشهوتها الاستعمارية.
المصدر
هذا السيناريو قد يعتبره البعض من القراءة الأولى درب من الخيال، إختلقه كاتب هذه السطور من ثنايا عقله الباطن، كمحاولة منه لتسلية القراء بقصة مثيرة جذابة. لكن بعد تأمل عميق وقراءة متأنية ستدرك من الوهلة الأولى بشاعة الخطورة التى يحملها هذا السيناريو المرتقب، والذي ستتجاوز تداعياته ودلالاته حدود السودان، التى لا تزال حتى كتابة هذه السطور أكبر دولة عربية من ناحية المساحة.
لا شك فى أن السيناريو سالف الذكر بكل أبعاده يحمل العديد من المؤشرات والدلالات لما قد يواجه الوطن العربي من مخططات الفتنة والتقسيم، وتفتيته لدويلات صغيرة يمكن التحكم فيها وفرض السيطرة عليها، فالنموذج العراقي واللبناني واليمني ليس عنا ببعيد، وها هي السودان تتهاوى لتكون أحدث حلقات مسلسل "السقوط العربي" المخزي.
محاور صهيونية
إن المتابع للساحة السياسية السودانية يمكنه أن يدرك بسهولة مدى ارتباط تطوراتها بما يحدث داخل الكيان الصهيوني، الذى وضع السودان على رأس قائمة استهدافاته، والتى بدت ملامحها فى الوضوح مع قيام سلاح الطيران الصهيوني فى مارس 2009 بقصف قافلة سيارات على الأراضي السودانية، يُزعم أنها كانت تحمل شحنة أسلحة تنقلها من إيران إلى المقاومة الفلسطينية فى قطاع غزة. كما أنه من غير المستبعد تورط الكيان الصهيوني بضلوعه فى إصدار مذكرة اعتقال دولية فى حق الرئيس عمر البشير لإرتكابه جرائم حرب فى إقليم دارفور، إلى جانب ضلوعه فى إشعال قضية دارفور على المستوى الدولي، وبخاصة بعد استقبالها عدد من لاجئ دارفور على أراضيها.
لذا فإن إنهيار السودان وتقسيمه يحقق لـ" إسرائيل" الكثير من المكاسب سواء السياسية أو الاقتصادية، والتى تتمثل أساساً فى أطماع الكيان الصهيوني فى ثروات السودان الطبيعية. تلك المكاسب يمكن إجمالها فى المحاور التالية:
المحور السياسي: تقسيم السودان من خلاله تستطيع "إسرائيل" كسر حلقة قوية من حلقات دعم المقاومة الفلسطينية، وهى السودان. فتوريطها فى صراعات داخلية يجعلها تنشغل عن دعم المقاومة الفلسطينية، سواء كان دعماً معنوياً أو مادياً. كما أن إغراق السودان فى تلك الصراعات سيسمح بالتغلغل المخابراتي الصهيوني إلى قلب الأراضي السودانية لرصد لتحركات الإيرانية داخل السودان، بعد أن تحولت فى الآونة الأخيرة إلى ساحة صراع جديدة بين طهران وتل أبيب.
المحور الاقتصادي: بدأت الأطماع الصهيونية فى الثروات الطبيعية للسودان فى الظهور مع بروز الدور الصيني فى القارة الأفريقية عموماً، وفى السودان على وجه الخصوص، لاسيما بعد توقيع الصين لعدد من الصفقات والاتفاقيات الاقتصادية والاستثمارية مع حكومة الخرطوم تقدر بمليارات الدولارات، خاصة وأن منطقة جنوب السودان تمتع بثروات نفطية ضخمة واعدة ، لذا فإن إقامة دولة جديدة مسيحية في جنوب السودان والتي سبق لها وأن استعانت في الماضي بـ "إسرائيل"، ستساعدها كثيراً فى حل مشكلة النقص في مجال الطاقة الذي تعاني منه دوماً. بالإضافة إلى ذلك فإن إقامة دولة فى جنوب السودان على علاقات قوية مع "إسرائيل" سيفتح الباب أمام تل أبيب للحصول على مياه نهر النيل وتزيد من فرض سيطرتها عليها، عبر بناء المزيد من السدود وإقامة المشروعات المائية، كما سبق وأن فعلت فى أثيوبيا، لتكون ورقة جديدة تلاعب بها مصر، لتضييق الخناق عليها وإيتزازها هذه المرة، سيكون سياسياً واقتصادياً.
المحور الأمني: فلدى "إسرائيل" فى منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل وهى الدول المجاورة للسودان مصالح أمنية وعسكرية من خلال صفقات بيع الأسلحة التى تدر مبالغ طائلة على الكيان الصهيوني، والتى تنعش خزينته السنوية بمليارت الدولارات، وليس خافياً على أحد الدعم العسكري الذى قدمته "إسرائيل" للمتمردين فى جنوب السودان عبر إحدى الدول الأفريقية المجاورة، ويكفى أن نشير هنا إلى ما ذكرته صحفية أمريكية بشأن نجاح جنوب الســودان فـي تخزين كمية كبيرة من الأسلحة العسكرية المتطورة من دبابات وغيرها وهي كمية كفيلة بأن تكسر معايير التوازن بين الجنوب والشمال، مؤكدة على وجود أموال غربية تقف وراء مشتريات الأسلحة فى جنوب السودان، وأن هناك تدخل من جانب عناصر "إسرائيلية" فى عدد كبير من تلك الصفقات، وهذا أيضا ما أكدت عليه صحيفة هاآرتس العبرية بتاريخ 13/1/2009 فى تقرير خاص أعده الصحفى يوسي ميلمان تحت عنوان "القراصنة يخطفون سفينة أسلحة يمتلكها إسرائيليون".
علاقات مشبوهة
ومما يؤكد على التغلغل الصهيوني فى جنوب السودان هو ما قاله خبير الشؤون الأفريقية الصهيوني متساريا موننا، بأن العلاقات بين "إسرائيل" وجنوب السودان ليست جديدة، وتاريخها الحقيقي يعود إلى عام 1967، عندما عرض الجنرال جوزيف لاجو لونجا - مؤسس حركة جنوب السودان - على "إسرائيل" فى ذاك الوقت استعداده لتقديم المساعدة لتل أبيب للحيلولة دون اشتراك الجيش السوداني مع الجيش المصري في محاربتها. وعلى الفور وجهت رئيسة الوزراء الصهيونية جولدا مائير الدعوة له لزيارة تل أبيب وقامت بتكليف جيش الاحتلال بتدريب أتباعه، وزودتهم بالأسلحة التي يحتاجونها، وتم تنسيق عملية المساعدات "الإسرائيلية" لجنوب السودان مع كل من كينيا وأثيوبيا. ويبدو أن العبث الصهيوني فى الساحة السودانية لم يتوقف منذ هذا التاريخ، حيث اعترف عاموس يادلين الرئيس السابق للمخابرات العسكرية الصهيونية المعروفة اختصاراً بـ"امان" قبل نحو الشهر خلال تسليمه لمهام منصبه لخليفته، بدور "إسرائيل" الكبير فى مساعدة الحركات الانفصالية بالجنوب السودانى، قائلاً :"لقد أنجزنا خلال السنوات الأربع والنصف الماضية كل المهام التى أوكلت إلينا، واستكملنا العديد منها والتى بدأ فيها الذين سبقونا"، وأضاف :"أنجزنا عملاً عظيماً للغاية فى السودان، نظمنا خط إيصال السلاح للقوى الانفصالية فى جنوبه، ودربنا العديد منها، وقمنا أكثر من مرة بأعمال لوجستية، لمساعدتهم، ونشرنا فى الجنوب ودارفور شبكات رائعة وقادرة على الاستمرار بالعمل إلى ما لا نهاية، ونشرف حالياً على تنظيم "الحركة الشعبية" هناك، وشكلنا لهم جهازاً أمنياً استخبارياً".
دولة جنوب السودان من "إسرائيل"
على ضوء ما سبق، وبكل ما تمثله السودان (المنقسمة) من أهمية استرتيجية، تؤكد إسرائيل، من خلال تقارير وسائل إعلامها ومراكزها البحثية على أن انفصال الجنوب عن الشمال آت لا محالة، وأن الاستفتاء الشعبي المقرر له فى التاسع من يناير المقبل ما هو إلا إجراء لحفظ ماء وجه النظام السوداني، الذي رضخ للإبتزازت والضغوط الغربية من أجل الموافقة على إجراء هذا الاستفتاء، ويبدو أن هذا ما أكده خبير الشؤون العربية تسيفى برئيل فى تقريره الذى نشره مؤخراً بصحيفة هاآرتس بتاريخ 22/12/2010 والذي قال فيه إن هناك دولة أفريقية مستقلة جديدة ستعلن قريباً (جنوب السودان) وبالطبع سيكون لإسرائيل ممثلين بها. مشيراً إلى تصريحات وزير الإعلام في الحكومة المؤقتة بجنوب السودان التى أكد فيها أن الجنوب المستقل سيقيم علاقات مع جميع دول العالم ولن يكون معادي لأحد، وفى ذات الوقت لم يستبعد أن تكون لبلاده الجديدة علاقات مع تل أبيب، مؤكداً بقوله :"هناك علاقات دبلوماسية تربط بين عدد من الدول العربية و"إسرائيل"، فما الذي يمنع إقامة جنوب السودان لعلاقات كهذه مع إسرائيل؟".
ولعل برئيل قد قرأ السيناريو الذى ذكرناه فى مستهل مقالنا، لذا أشار فى تقريره إلى أن "إسرائيل" سوف تعترف – بشكل غير مباشر- بدولة جنوب السودان المستقلة، حتى قبل قيامها، منوهاً لما قامت به "إسرائيل" مؤخراً - ونشرته بعض التقارير الصحفية - من نقل عدد من اللاجئين السودانيين في "إسرائيل"، إلى جنوب السودان، سواء بنقلهم عبر دولة ثالثة، أو من خلال نقلهم مباشرة إلى مطار جوبا، فى جنوب السودان. وأوضح برئيل فى تقريره أنه إذا ما صحت تلك التقارير فإن هذا الإجراء يُعد بمثابة إعتراف ضمني من قبل "إسرائيل" بتلك الدولة التي لم تقم بعد.
طائرات صهيونية فى جوبا
كما استعرض برئيل فى تقريره الأنباء التى ترددت بشأن اجتماع مسئولين "إسرائيليين" مع مندوبين عن حكومة جنوب السودان، والاتفاق على أن يستقبل مطار جوبا رحلات شركة الطيران الصهيونية (العال) بداية من العام المقبل، بالإضافة إلى إعتزام رجال أعمال "إسرائيليين" بناء فندق سياحي ضخم في جنوب السودان، وأن شركة "إسرائيلية" أخرى قامت بالفعل بتدشين مكتب سمسرة مالية وتجارية هناك.
هذه الأنباء التى يتم تسريبها فى الأساس من خلال وسائل الإعلام العبرية تهدف فى المقام الأول إلى جس نبض العالم العربي حيال الدولة الجديدة فى جنوب السودان وعلاقاته المرتقبة مع "إسرائيل" من جهة، وتكشف لنا استعدادات الكيان الصهيوني لاحتواء تلك الدولة المزعومة والسيطرة عليها لتكون ورقة جديدة في يده يستعين بها فى حربه ضد العرب من جهة أخرى.
وكعادة الإعلام الصهيوني الموجه، حاول برئيل الإيحاء عبر تقريره المشبوه، بأن "إسرائيل" تتمتع بتعاطف وتأييد شعبي من جانب السودانيين الجنوبيين، زاعماً بأن معظم سكان الجنوب السوداني يحملون مشاعر إيجابية تجاه "إسرائيل" ويرحبون يإقامة علاقات معها، مبرزاً مثالاً على ذلك من خلال تعليقات القراء في احدى المواقع الإلكترونية السودانية على خبر يتحدث عن تعميق العلاقات بين "إسرائيل" وجنوب السودان، حيث علق أحدهم على ذلك قائلاً :"عقب الانفصال عن السودان، ستكون "إسرائيل" من أولى الدول التي سيدعوها الجنوب إلى إقامة سفارة لها هنا. فـ"إسرائيل" لم تقتل 2.5 مليون شخص من شعبنا مثلما فعل النظام السوداني، ونحن السودانيون الجنوبيون لا تهمنا حرب 1967 ولا حرب 1973. لأنه ماذا تنتظرون من "إسرائيل" فعله عندما تُهاجم من عدة جبهات".
ها هي السودان فى ظل الخريطة الجيو سياسية الجديدة تتهاوى أمام أعيننا وسط عجز عربي مخجل ينذر بسقوط مزيد من الدول العربية فى براثن التقسيم والتفتت لتتحول إلى دويلات لا حول بها ولا قوة، وتفسح المجال أكثر أمام القوى المتربصة بها، لتزيد من سطوتها وشهوتها الاستعمارية.
المصدر