كفى بالموت واعظا
سليم عثمان
سليم عثمان
كنت اجلس بجانب الوالد المكلوم بفقد ولده في سرادق العزاء ،فوجدته صابرا محتسبا، رغم مرارة الفقد وهول البلاء، وفداحة المصيبة،كان حامدا مسترجعا ، لا يقول الا ما يرضى ربنا ،والمعزون يتوافدون زرافات ووحدانا وجهاز تسجيل بالقرب من المعزين، يتلو آيات بينات من كتاب الله العزيز تذكر بالموت، وتدعو إلى الصبر، وتبشر الصابرين ،نعم تتأجج المشاعر عند المرء لسببين عند الفرحة الغامرة، والمصيبة الداهمة، وهل هناك مصيبة داهمة أكثر من فقد الولد؟ بالطبع لا. ولذلك قال رسولنا الكريم إنما الصبر عند الصدمة الأولى ،ولا ينبغى للمرء المسلم أن يتسخط من قضاء الله وقدره، بل عليه أن يتجرع الصبر تجرعا ، رغم أن طعمه مر فى حالات فقد الأحبة، وهل هناك حبيب الى نفس الوالد والوالدة من الابن او الابنة ؟ففى المصيبة كفارة لذنوب المرء المسلم، والأجر والمثوبة ،فإذا علم المؤمن أن هذه ثمار المصيبة، انس وارتاح، ولم ينزعج ويقنط .
( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )
( وما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله )
( ومن يؤمن بالله يهد قلبه )
( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وانأ إليه راجعون )
ولابد ان نعلم جميعا أننا مفارقون لهذه الفانية،
( كل شئ هالك إلا وجهه )
( كل من عليها فان )
( انك ميت وإنهم ميتون ).
وسر الموت لا يعرفه إلا لله، فهو الذي حدد آجالنا وأرزاقنا ، سعداء أم أشقياء، في الدنيا والموت مصير ونهاية كل حي ، ولا يستطيع كائن من كان أن يفر منه ،
( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة )
والإنسان لا يعرف متى وكيف وأين يموت. فالمكان والزمان والسبب، في علم الله وحده
( وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأي ارض تموت )
( فإذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ).
وحقا كفى بالموت واعظا،فهو لا يترك رجلا أو امرأة، شابا أو صبية، طفلا أو كهلا ابيضا أو اسودا ، قويا أو ضعيفا، سقيما أو سليما، بعيدا أو قريبا،مؤمنا أو كافرا،أنسانا أو حيوانا أو نباتا ،الكل سيفارق هذه الحياة التي شبهت بالقنطرة،التي نعبرها وبالشجرة التي يستظل بظلها المرء سرعان ما يبارحها،،لكن اذا أحب الله عبدا ابتلاه، فالموت حق علينا جميعا
وكل ابن أنثى وان طالت سلامته * يوما على اله حدباء محمول
دقات قلب المرء قائله له * إن الحياة دقائق وثواني
من لم يمت بالسيف مات بغيره * تعددت الأسباب والموت واحد
دقات قلب المرء قائله له * إن الحياة دقائق وثواني
من لم يمت بالسيف مات بغيره * تعددت الأسباب والموت واحد
وصدق من قال :كل شئ بقضاء وقدر والمنايا عبر أي عبر.
وعلى المرء أن يتذكر دائما انه يحمل الموت، وانه يسعى إليه ،وانه ينتظر الموت صباحا ومساء، فى حال الصحة، أكثر من وقت العافية ،وما أحسن قول سيدنا على بن أبى طالب كرم الله وجهه، فى الموت ( ان الآخرة قد ارتحلت مقبلة، وان الدنيا قد ارتحلت مدبرة، فكونوا من أبناء الآخرة،ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فان اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب بلا عمل ).
فالموت لا يستأذن أحدا من الناس ولا يحابي أحدا ولا يجامل وليس له إنذار مبكر يخبر به الناس فقد يأتي بغتة .
قيل للشافعي رحمه الله: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت تطلبني ثمانية: الله تعالى بالفرض، ورسوله عليه الصلاة والسلام بالسنة، والدهر بصروفه، والعيال بقوتهم، والحفظة بما ينطق لساني، والشيطان بالمعاصي، والنفس بالشهوات، وملك الموت بقبض روحي!!.
وقال بعض الناس: دخلنا على عطاء السلمي، نعوده في مرضه الذي مات فيه، فقلنا له: كيف حالك؟ فقال: الموت في عنقي، والقبر في يدي، والقيامة موقفي، وجسر جهنم طريقي، ولا أدري ما يفعل بي، ثم بكى بكاء شديدا، حتى أغشى عليه، فلما أفاق قال: اللهم ارحمني وارحم وحشتي في القبر، ومصرعي عند الموت، وارحم مقامي بين يديك يا أرحم الراحمين.
و عن شقيق البلخي رحمه الله أنه قال: كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله يمشي في أسواق البصرة، فاجتمع الناس إليه فقالوا:يا أبا إسحاق إنَّ الله تعالى قال في كتابه ( ادعوني استجب لكم ) ونحن منذ دهر ندعوه فلا يستجيب لنا؟ قال: يا أهل البصرة ماتت قلوبكم، من عشرة أشياء، فكيف يستجاب دعاؤكم؟!
الأول : عرفتم الله تعالى، ولم تؤدوا حقه.
والثاني : قرأتم القرآن، ولم تعملوا به.
والثالث: ادعيتم حب رسول الله، وتركتم سنته.
والرابع: ادعيتم عداوة الشيطان، وأطعتموه.
والخامس: ادعيتم دخول الجنة، ولم تعملوا لها.
والسادس: ادعيتم النجاة من النار، ورميتم فيها أنفسكم.
والسابع: قلتم إنَّ الموت حق، ولم تستعدوا له.
والثامن: اشتغلتم بعيوب إخوانكم، فلا ترون عيوب أنفسكم.
والتاسع : أكلتم نعمة ربكم، ولم تشكروا له.
والعاشر: دفنتم موتاكم، ولم تعتبروا بهم
أوصى بعض الحكماء ولده، فقال: يا بُني، كن كريم القُدرة إذا قدرت، شريف الهمّة إذا ظفرت، صبوراً إذا امتُحنت، لا تردنَّ حوض لئيم لظمأك، ولا تأتينَّ دنية لضيق حالك، واستجلب النِّعم بالشُكر، واستدفع البلاء بالصبر.
قال بعض الصالحين: إني لأُصاب بالمصيبة فأشكر الله تعالى عليها أربع مرات: شكراً إذ لم تكن أعظم مما هي، وشكراً إذ رزقني الصبر عليها، وشكراً لما أرجوه من زوالها، وشكراً إذ لم تكن في ديني.
وهاهو الإمام الشافعي يتحدث عن صروف الدهر قائلا:
دع الأيام تفعل ما تشاء * وطب نفسا إذا حكم القضاء
ولا تجزع لنازلة الليالي * فما لحوادث الدنيا بقاء
ولا تجزع لنازلة الليالي * فما لحوادث الدنيا بقاء
ومن أقوال الصالحين في الصبر :
الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم وابن القيم فى مدارج السالكين يقول عن الصبر انه حبس النفس عن الجزع والتسخط ،وحبس اللسان عن الشكوى، والجوارح عن المعصية.
وختاما فلنعتبر جميعا بالموت، ونعمل لما بعده، ونسأل الله رب العرش الكريم أن يتغمد موتى المسلمين بواسع رحمته، ويسكنهم الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وأن يلهم والديهم والأهل جميعا الصبر وحسن العزاء وان لا يريهم مكروها فى عزيز لديهم، وان يكتب الشفاء العاجل لمرضى المسلمين وان يحفظ ابناء المسلمين جميعا، من كل سوء ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وانا لله وانا إليه راجعون .
مقتطعة وبتصرف عن المقالة الأصلية من موقع رابطة أدباء الشام