قصة النكسة

إنضم
22 أغسطس 2010
المشاركات
136
التفاعل
2 0 0
قصة النكسة


لا يمكننا التصدى لقراءة حرب أكتوبر العظيمة , ببداية أحداثها باعتبارها نقطة البدء ,
لأن حرب أكتوبر كانت ـ ولا زالت ـ مجرد حلقة من حلقات الصراع الساخن بيننا وبين الغرب ,
وهذا الصراع الساخن مر بمراحل متفاوتة عبر التاريخ جنبا إلى جنب مع الصراع الثقافي والصراع الإجتماعى فيما يمكن أن نسميه بالصراع الإستراتيجى بين الإسلام والغرب ,

وقد بدأت المواجهات الساخنة المعاصرة بحرب 1948 م ,
وتكونت حلقات هذا الصراع فيما بعد لتفضي إلى حرب العدوان الثلاثي عام 1956 م وحرب يونيو1967 وحرب أكتوبر 1973 م وهى آخر الحلقات الكبري حتى اليوم ,
لهذا ففهم حرب أكتوبر يستلزم له إدراك جزئية هامة وهى أنها حلقة أو معركة فى حرب ساخنة طويلة المدى بدأت سخونة الصراع فيها قديما بالحملات الصليبية حتى تكونت الحلقات المعاصرة بحروب ما يسمى بالصراع العربي ـ الإسرائيلي والذى هو فى حقيقته صراع إسلامى ـ غربي
وهى الحقيقة التي تمكن الغرب من تغييبها بواسطة بعض كُتابنا ومفكرينا ممن استنسخوا الثقافة الغربية وجلبوها بنصرة الإعلام الموجه لتقلب الصراع إلى حوار حضارات مزعوم !
فلم يدخل الغرب علينا بالحوار
بل دخل بالسلاح والفتن وسياسة ( فرق تسد )

والذى يريد أن يقرأ أكتوبر ويقرأ فيها ويفهم معجزتها ويستخرج الفائدة الحقيقية منها ..
لابد له أن يراجع أولا أساليب الصراع العسكري الحديث منذ عام 1948 م وحتى أكتوبر , ويستفيض فى التركيز على الحلقة الثالثة ـ المرتبطة ارتباطا مباشرا بأكتوبر ـ وهى معركة يونيو 1967 م ,
لأن المعركتان كانتا عبارة عن وجهين متناقضين لعملة واحدة ,
وفهم أحداث التاريخ ـ لكى لا تتكرر الأخطاء ـ يقتضي تدارس أسباب القصور ومسبباته فى حرب يونيو والإطلاع الواعى عليها فى سائر المجالات عسكريا واجتماعيا وسياسيا للوقوف على الدروس المستفادة التى أنجبت الحلقة الرابعة من حلقات الصراع وهى حرب أكتوبر المجيدة ,

وقبل هذا وبعده ..
فالذى يريد فهم حقائق الصراع الساخن ومراحله الحديثة المتمثلة فى الحروب العربية ـ الإسرائيلية ,
لابد له أن يشمل بنظرته جوانب الصراع الإستراتيجى بيننا وبين الغرب ,
فالمواجهة بيننا وبين إسرائيل لم تكن أبدا مواجهة محدودة بإسرائيل وحدها ,
بل كانت إسرائيل ولا زالت مجرد أداة من أدوات الصراع وتمثل قوة الغرب فى حربه ضد الحضارة الإسلامية فى المنطقة العربية ,
كذلك فإن المواجهة بيننا وبين الغرب ولم تكن مواجهة مسلحة فى صراع ساخن فحسب ,
بل إن المواجهات الساخنة صاحبتها ومشت معها مواجهات حرب باردة أيضا شملت بجوانبها صراعات حضارية إجتماعية وسياسية واقتصادية وفكرية ,

ولتلخيص هذا كله .. نقول ..
إنه من أسباب القصور الشديد فى التفكير أن نتدارس المواجهات العسكرية باعتبارها لب الصراع وجوهره الوحيد ,
بل يجب أن نشمل بالمعالجة والدراسة قصة المواجهة الشاملة بيننا وبين الغرب ,
والأهم من هذا وذاك :
أن نتيقن أن إسرائيل ليست طرفا مواجها فى صراع ,
بل هى مخلب القط ,
والمخلب وراءه يد مليئة بالمخالب
واليد ورائها جسم القط وعقله الذى يدير به الصراع ,
فإذا تم التركيز على المخلب الظاهر وحده ـ وهو إسرائيل ـ فمعنى هذا أننا سنظل إلى الأبد نحاول تدمير هذا المخلب بلا فائدة , لأن الصراع أكبر من هذه الأداة البسيطة ,
وحتى لو سلمنا جدلا بأنه يمكننا تدمير المخلب فلا يعتبر هذا نصرا من أى وجه من الوجوه ,
فالمخلب المدمر له بدائل متعددة متمثلة فى عشرات المخالب الأخرى ,
ووراء كل هذا جسم كامل يمتلك من أسباب الحياة ما يؤهله لإنتاج عشرات المخالب بعشرات الوجوه ليستمر النصر حليفا للغرب فى مواجهة الأمة الإسلامية التى تتعامل مع الصراع بمحدودية تفكير لا مزيد عليها ,

وفى هذا الشأن يقول مفكرنا الكبير الدكتور عبد الله النفيسي[1] :
( إن إسرائيل هى المرحلة الخامسة من مراحل الصراع بيننا وبين الغرب ـ فلا تصدقوا أن إسرائيل دولة مستقلة يساندها الغرب مجرد مساندة لكسب المصالح ـ
بل هى الذراع الطويلة التى يستخدمها الغرب لمحاربتنا وهى مجرد أداة وهراوة تستجيب للأوامر
فالغرب هو الذى أنشأ إسرائيل فى المفصل بين مصر والشام وهو الذى أمدها بأسباب الحياة , وإسرائيل لا تستطيع العيش بعيدا عن الغرب ولو رفع الغرب يده عنها لذبل هذا الكيان الصهيونى )

ويتحدث أيضا عن المراحل السابقة لحرب الغرب على الإسلام والتى تمثلت أولا فى الصراع العسكري المسلح بالحملات الصليبية التى فشلت عندما كانت دولة الإسلام تدرك أين حقيقة قوتها المبنية على وحدتها الإسلامية ,
وتلتها الحملات العسكرية فى الصراع الحديث التى قوضت الخلافة كهدف أول لها فى كسب الصراع ,
ونجحت فى ذلك ,
ثم قامت بتقسيم وترسيم الحدود بين أبناء المنطقة العربية التى ما شهدت عبر التاريخ ترسيما للحدود يقسمها إلى شظايا جغرافية تفصل بين أبناء الوطن الواحد والدين والحضارة الواحدة بعد أن كان العالم العربي الإسلامى من المحيط إلى الخليج أرضا واحدة لشعب متحد على التوحيد ,
ثم جاءت المرحلة التالية بغرس الفكر الغربي القومى العنصري فى أذهان بعض المتغربين وأنصار التوجه نحو المذاهب الإنسانية المختلقة ,
وهؤلاء هم الذين حظوا برعاية الغرب وبسط لهم قوة الإعلام وآلته الجبارة ليمسخ عقولهم ويمحو منها أى انتماء للإسلام والحضارة الإسلامية ويدمغها بطابع التخلف ليتسنى للغرب استخدام هؤلاء المفكرين فى تقويض المجتمع الإسلامى من داخله عن طريق ضرب العلاقة بين المسلمين والإسلام ,
وقد تمكن من السيطرة على مفكري المذاهب الإنسانية بأساليب بالغة التعقيد ,
فمنهم من استقطبه بعمالة صريحة وواضحة , مثل على سالم وفرج فودة ومحمد خلف الله وغيرهم في العصر الحديث
وأغلبهم تم استقطابهم عن طريق الإيقاع النفسي المتمثل في المدح والتقدير المبالغ فيه والجوائز العريضة ذات المسميات الشهيرة التي يتم منحها لهؤلاء المفكرين وتصويرهم في الإعلام الغربي الجبار باعتبارهم أساطير تمشي على الأرض !
وبالطبع كلما كانت مساهمات هؤلاء المفكرين تحمل طعنا في ثوابت الإسلام الرئيسية كلما كان احتفاء الغرب أوفر وأقدر , وهؤلاء منذ مطلع القرن العشرين وهم يملئون الساحة في مصر وتقترن أسماؤهم بألفاظ وألقاب التفخيم والتعظيم بشكل مذهل ,
مثل طه حسين ـ قبل تراجعه عن أفكاره قبل وفاته ـ ومثل أحمد لطفي السيد وسلامة موسي وغيرهم عشرات من مفكرى اليسار الماركسي والعلمانية والفلسفة الوجودية
وهذا هو المخطط البريطانى الشهير الذى نجح الإستعمار فى تطبيقه مصداقا للحقيقة التى عبر عنها المندوب البريطانى فى العراق عندما قال :
( إننا لن نستطيع السيطرة عليهم فى وجود هذا القرآن )
وقد كان ..


الهوامش
[1] ـ محاضرة للدكتور النفيسي بعنوان ( حال العرب بعد غزة )
 
رد: قصة النكسة

نجح الغرب فى تصدير أفكاره إلى رعاة الرأى العام من المفكرين ودفعهم إلى التوجه للمذاهب الإنسانية واعتبار القرآن والسنة والحضارة الإسلامية تاريخا غير مُلزم ولا يناسب التوجه العصرانى الحديث
فظهر مبشرو العلمانية والشيوعية والوجودية والقومية ,
وهى كلها مذاهب تتفق ـ على اختلافها الظاهرى ـ فى مبدأ واحد
وهو ضرب الإنتماء للثقافة الإسلامية وضرب الإيمان بأن دين الإسلام منهج سماوى كامل لسائر جوانب الحياة والإكتفاء بحصر الدين ومبادئ الدين فى دور العبادة فقط !

ثم جاءت المرحلة الأخيرة من مراحل الصراع وهى غرس الكيان الصهيونى فى قلب الأمة العربية الإسلامية وتحديدا فى المفصل الشامى المصري لمنع أى اتحاد بين مصر والشام بعد أن ذاق الغرب الويلات من اتحادهما القديم ,
وهذه الفكرة الرهيبة ـ فكرة الفصل بجسم غريب بين مصر والشام ـ ابتكرها نابليون بونابرت وسعى لتنفيذها فعلا فى حملته على مصر والشام , وجاءت من بعده السلطات البريطانية فوضعت الفكرة موضع التنفيذ[1]

ومع ابتداء حركات التحرر الوطنى بالإنقلابات العسكرية , والتى بدأت في مصر عام 1952 ,
بدأت عهود الحكم الديكتاتورى المطلق القائم على القوة العسكرية الجبرية والحكم الفردى والحكومات البوليسية , وانتهى العصر الدستورى القائم على المشاركة الشعبية والثورات الجماهيرية الحقيقية التي تمثلت في ثورة 1919 م مثلا
ومع بداية هذا النوع من الحكم انتهى عمليا دور الجماهير والمفكرين والمثقفين ليخلو الجو لمفكرى ومثقفي السلطة وتدور الأوطان في فلك شخص واحد يمثل النظام ,
وبالتالى أصبحت السيطرة على شخص الحاكم بأى وسيلة تعنى مباشرة السيطرة على بلاده بأكملها لأن الصورة القديمة التي كانت تعتمد على جمهور واع يجبر حكامه على الإلتزام بالخط الوطنى برقابة شعبية فاعلة ,
هذه الصورة أصبحت في ذمة التاريخ عمليا
وليس من الضرورى أن يتجه الغرب لتجنيد الحكام تجنيدا مباشرا للسيطرة ,
بل تعددت الأساليب التي يتمكن بها الغرب من بسط النفوذ المطلق على أوطاننا بالسيطرة على الحكام ـ حتى الوطنيين منهم ـ بإدارة سياسية للصراع تعتمد اعتمادا تاما على أن الحاكم في أى قطر عربي هو موطن تركيز القوة ,
وبالتالى فهزيمته أو خداعه أو توجيهه يصبح أمرا أيسر بكثير من ممارسة هذه السيطرة على الشعوب إذا كانت شعوبا حرة ديمقراطية تتحكم في حكامها وتراقبهم
ولهذا مثلا سقط حكام وطنيون في شبكة الغرب دون أن يبذل الغرب جهدا لاستمالتهم بدافع الخيانة ,
بل على العكس استغل وطنيتهم التي اقترنت بصفات الأنا والإنفراد بالذات في تحقيق أهدافه كاملة ,

ولعل أبرز الأمثلة الحديثة صدام حسين الذى ركزت عليه الولايات المتحدة حربا نفسية ماهرة وأوحت له عبر مخطط مرسوم باجتياح الكويت وتلقي من الإدارة الأمريكية تنويها عابرا أن الولايات المتحدة لا تنوى التدخل في أى خلافات عربية ـ عربية
وتم المراد واجتاح صدام الكويت تحت رقابة وتشجيع الولايات المتحدة التي كانت تراقب التحركات العراقية رقابة تامة إلى الحد الذى سمح لها أن تنقذ العائلة الحاكمة في الكويت بالوقت المناسب وتنقلهم للسعودية قبيل الغزو مباشرة ! [2]
دون أن يتساءل صدام حسين أو يكتشف اللعبة ودون أن يكتشفها حتى بقية الحكام العرب , وأولهم أمراء الكويت الذين أنقذتهم الفرقة الأمريكية بشكل يشي بأنها كانت تعلم التفاصيل الكاملة للغزو
فلماذا لم تتدخل الولايات المتحدة بشكل مباشر ـ لو كانت النوايا مخلصة ـ لمنع صدام من الغزو
ولماذا كان الصوت الأمريكى غائبا تماما عن ساحة الصراع على النفط بين العراق والكويت ولم تتدخل السياسة الأمريكية في الأمر ولو بتصريح واحد !!
بينما عندما وقع الغزو فعلا ,
لم نجد الحضور الأمريكى يقتصر على الصوت أو التصريحات فقط ,
بل قامت العاصفة الأمريكية في المنطقة وبسرعة محمومة لتقلع القوات الأمريكية إلى المنطقة وتحتل أماكن شاسعة كقواعد عسكرية دائمة قرب مناطق النفط ,
وفق ما كانت تخطط له من البداية عن طريق استخدام صدام حسين لتحقيق الذريعة الكافية ,
ونفذها صدام حسين بشكل تام الدقة وبأفضل مما يفعله أى عميل مأجور يؤدى دورا مرسوما له
رغم أنه كان مثالا في وطنيته !

فهذه اللعبة مع صدام حسين ما كانت لتنجح لولا أن النظام العراقي ـ والعربي بشكل عام ـ منذ مطلع الثورة المصرية لم يتحول إلى النظام الأتوقراطى ( نظام ما هو أقوى من الديكتاتورية حيث أن الأوتوقراطية معناها تعلق الحكم بشخص واحد يملك كافة شئون الحكم , ويكون شخص الحاكم هو نفسه النظام , بينما الديكتاتورية هى تسلط نظام حكم متعدد الأشخاص في الحكم الجبري على الشعوب )
وهكذا ..
عندما بزغت بوادر الحكم العسكري في مصر وقامت مصر بتصدير هذا النمط لدول الجوار العربي
وجد الغرب أن الفرصة جاءته على طبق من فضة دون أى مجهود ,
ذلك أن الثورة المصرية بعد أن صعد إلى سدتها جمال عبد الناصر وتمكن من إزاحة محمد نجيب , قام بتحقيق هذا الهدف ـ دون أن يدرى ـ عندما اعتمد التوجه القومى والقومية العربية كأساس للتوحد بين أبناء المنطقة العربية
وتم استبعاد الإسلام كرابط مشترك من عوامل الصراع نهائيا
وليت أن الأمر اقتصر على الإستبعاد ,
فقد جاءت القومية بحرب فكرية عنيفة ضد التوجه الإسلامى لمنع ظهوره لما يمثله من خطورة تقضي على دعاوى القومية باعتبار أن الإسلام نبذ التعصب للعرق والجنس نبذا تاما ,
والأهم ..
أن الإسلام قائم على الشورى ورفض تسلط الفرد وعلى العدالة التامة بين الحكام والمحكومين مما يمثل خطورة بالغة على أى نظام حكم متسلط
فخاضت السلطة في مصر حربا عنيفة ضد الثقافة الإسلامية والإنتماء للإسلام وتم إعادة اختراع التاريخ على أساس قومى يجمع العرب وحدهم في الصراع مع الغرب
ثم ضاق الصراع أكثر ليخرج للوجود مصطلح بالغ الخطورة وهو مصطلح ( الصراع العربي ـ الإسرائيلي )
وهذا المصطلح تمكن من تحقيق أكبر أهداف الغرب دون أن يطلق طلقة واحدة !!
فقد تم استبعاد الشعوب الإسلامية من رابطة الصراع ضد الصهيونية رغم أن أساس الصراع هو أساس دينى في المقام الأول لأن الدولة اليهودية قامت أصلا على هذا الأساس ,
بالإضافة إلى أن القدس ـ وهو الحرم الإسلامى الثالث ـ يربط القضية بالمسلمين ارتباطا عضويا لا مجرد ارتباط شكلى كما نجم عن تيار القومية وأصبحت العلاقة بين العرب القوميين وبين الدول الإسلامية عبارة عن علاقة ظاهرية بين أقطار لا يجمعها جامع إلا الدين !
وهو رابط ـ وفق التوجه القومى ـ لا يمنح الدول الإسلامية دورا في هذا الصراع من الأصل




الهوامش :
[1] ـ المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل ـ الجزء الأول ـ محمد حسنين هيكل ـ دار الشروق
[2] ـ حرب الخليج ـ محمد حسنين هيكل ـ مركز الأهرام للترجمة والنشر
 
رد: قصة النكسة

بخلاف أن التيار القومى جعل الصراع مع إسرائيل حصرا ,
ولم تصبح المواجهة مع الغرب إلا مواجهة الداعم لإسرائيل , مجرد داعم يمكن استقطابه أو تحييده لا طرفا أصيلا في المعركة
أما الطرف الحقيقي في الصراع فأصبح الدولة اليهودية ,
وهذا الأمر كانت له أخطر الآثار إذ أن العلاقة العربية ـ الغربية لم تصبح علاقة صراع وعلى قدم المساواة في المواجهة مع إسرائيل بل أصبحت قضية صراع سياسي يقبل الحلول السياسية ولا يجد تناقضا بين أن تكون لنا أقوى العلاقات مع دول الغرب باعتبار أنهم طرف ثالث محايد أو شبه محايد !
وهكذا رتع الغرب ممثلا في أوربا والولايات المتحدة بين عناصر الثروة العربية واستبدل الغرب الإحتلال العسكري بالإحتلال الفكري والإقتصادى والسياسي
والأثر التطبيقي المباشر لهذا الأمر ,
هو اعتبار الولايات المتحدة مجرد طرف يميل بمصالحه إلى إسرائيل ,
وعليه ظهرت بعض وجهات النظر الخيالية التي تقول بإمكانية تحييد الولايات المتحدة عن الصراع مع إسرائيل أو استقطابها لصالحنا دون أن يدرك القوميون المغيبون أن أصل المواجهة هى مواجهة مع الولايات المتحدة كممثلة للغرب وليست مواجهة مع إسرائيل !!

وعليه ..
بدأت علاقة عبد الناصر رائد القومية العربية بعلاقة حميمية وحسنة مع الطرف الأمريكى في بداية الأمر ,
وسعت مصر في قيادتها الجديدة إلى اكتساب الولايات المتحدة !
لا سيما بعد أن انحازت السياسة الأمريكية إلى مصر فقامت بحماية الثورة الوليدة من التدخل البريطانى , وكان التدخل البريطانى عن طريق قواته في القناة والبالغة 80 ألف جندى كفيلة بالقضاء على النظام الجديد في ساعات ,
لولا أن مد النظام الجديد علاقته مع الولايات المتحدة عن طريق علىّ صبري الذى قابل الملحق الجوى الأمريكى وشرح أهداف الثورة وأنها لا تهدف للمساس بمصالح الأجانب في مصر ,
ونظرا لأن الصراع الغربي بين الحيتان كان مشتعلا , وكانت الولايات المتحدة تتطلع في طمع إلى تركة البريطانيين , فقد تدخل الأمريكيون لحماية الثورة الوليدة
وبالفعل لم يتدخل البريطانيون لتنفيذ الخطة ( روديو ) والذي حصلت على موافقة رئيس الوزراء البريطانى وينستون تشرشل وكان الغرض منها استغلال أزمة الخلافات والتدخل في مصر عسكريا وإعادة احتلال القاهرة والدلتا

كما تدخلت الولايات المتحدة في صراع مجلس قيادة الثورة مع محمد نجيب إلى جوار عبد الناصر على نحو ما ورد في مذكرات أحد أبرز قادة ثورة يوليو وهو خالد محيي الدين !
ثم كانت الخاتمة بتدخل الولايات المتحدة لصالح مصر في حرب العدوان الثلاثي وتمكنت من رد الإعتداء ووقف احتلال بريطانيا وفرنسا لمصر في مقابل اتفاقية بين جمال عبد الناصر وأيزنهاور يضمن فيها أيزنهاور لإسرائيل حرية الملاحة في خليج العقبة وعدم تدخل مصر عسكريا بأى عمل ضد إسرائيل لمدة عشر سنوات تمهيدا لاتفاقية سلام نهائية ! [1]
وتم تنفيذ الإتفاق كاملا ..
وتجمد الصراع مع إسرائيل لعشر سنوات تمتعت فيها إسرائيل بالحماية في وجود قوات الطوارئ الدولية بينها وبين مصر , وتمتعت كذلك بحرية الملاحة في خليج العقبة ووجود قوات الطوارئ في قلب سيناء عند شرم الشيخ ! بالإضافة لنقاط الحدود الدولية
وهذه الأمور ما كان لها أن تحدث لو كان الأساس الذى يحكم عبد الناصر هو الأساس التاريخى والحضاري المعتمد على معادلة الإسلام والصراع المستميت بينه وبين الغرب ,
ذلك لأن التوجه القومى قفز فوق التاريخ وطمس حقائق المواجهة واعتبرها من منتجات المتاحف وظن بنفسه القدرة على إنشاء علاقات وطيدة بالغرب ممثلا في أكبر طغاته الجدد .. الولايات المتحدة الأمريكية
بينما كان التوجه الإسلامى المستند إلى حقائق التاريخ يمنح معتنقيه إيمانا كاملا بأن الصراع مع الغرب هو المعادلة التي لا تنتهى وأنها مستمرة إلى قيام الساعة

ثم أعادت الولايات المتحدة النظر إلى العلاقة بعد أن استدعى عبد الناصر النفوذ السوفياتى للمنطقة
مما استدعى معه إعادة النظر في نظام عبد الناصر القومى الذى أخذ الجانب السوفياتى كاملا في المجالات السياسية والإقتصادية والعسكرية ,
فأصبحت مصر شيوعية السياسة والإقتصاد , ولكن بعد تخفيف وقع الشيوعية بمسمى آخر لا يغير شيئا من المضمون وهو مسمى الإشتراكية !
واستخدم عبد الناصر الجهاز الإعلامى المنفرد لفرض التغيير على عقيدة الشعب إجتماعيا ودينيا وثقافيا ,
وكتم أى صوت مخالف ليتمكن من فرض هذا التغيير !
عن طريق فرض التأميم على الصحف وضرب معاقل الفكر الإسلامى والسيطرة على مؤسسة الأزهر سيطرة تامة بقانون إصلاح الأزهر ثم السيطرة العسكرية على البلاد بقبضة حديدية ليتغنى الشعب ببستان الإشتراكية !
وأصبح الحديث في الخطب الرنانة يتحدث ( باسم الأمة ) و ( باسم الشعب ) !!
واختفت بسم الله من الخطاب الرسمى إلا على سبيل البركة ودفع الحرج !
وحل ( الميثاق) محل القرآن وأصبح الميثاق ( وهو كتاب يحتوى ما يسمى بالمبادئ الإشتراكية كتبه محمد حسنين هيكل رائد التنظير لعصر عبد الناصر ) أصبح هو المرجعية وهو الدليل
وحلت كلمات مثل ( القومية ـ التقدمية ) محل التوجه والإنتماء الإسلامى !
وأصبح ( الإتحاد القومى ) الذى تغير إلى ( الإتحاد الإشتراكى ) هو القبلة الجديدة التي يجب أن يتبرك بها المواطنون من تحالف قوى الشعب العامل ضد الإمبرالية والإستعمار !
وأصبح الدين ـ كما عبر عنه محمد حسنين هيكل ـ عبارة عن شيئ في الضمير وليس من الضرورى أن يُتخذ أساسا لأى إدارة في أى شأن من شئون الوطن
وعمت الصراعات المستحيلة في المنطقة العربية بين التوجه القومى الذى تمثله مصر وبين الدول الملكية القديمة التي رأت في الملكية عالم من الرجعية ,
واتخذ الصراع جانبا دمويا ولم يقتصر على الشتائم المتبادلة في الصحف أو الإذاعات , والتى كانت بحق ملهاة مضحكة في العالم كله على العلاقات العربية التي تدعى التضامن
وتورطت مصر بجيشها في اليمن لمحاربة قوات الملكية التي تدعمها السعودية هناك ,
لتصبح المعركة الهجومية الوحيدة التي خاضها الجيش المصري في عصر عبد الناصر ضد السعودية !
وكانت بريطانيا هى الداعم الأكبر لهذا التوريط وهى التي تولت استقطاب عشرات الآلاف من المرتزقة ليحاربوا الجيش المصري في اليمن بحرب العصابات التي أفلست الإقتصاد المصري ودفعت بنصف الجيش المصري وقوته الضاربة إلى متاهات الجبال اليمنية ليحارب طواحين الهواء
وسادت ـ بناء على نتائج التيار القومى ـ نظرية تقول أن الطريق إلى القدس يمر ببعض العواصم العربية !
في محاولة لفرض القناعة بأن الصراع الرئيسي ليس صراعا بيننا وبين الغرب أو بيننا وبين إسرائيل بل هو صراع بين التقدمية والرجعية في العالم العربي ويجب أن تسود الوحدة التقدمية بلاد العرب جميعا !!
ثم نلفت بعد ذلك للصراع مع إسرائيل !




الهوامش :
[1] ـ لمراجعة التفاصيل يرجى العودة إلى ( نحو حكم الفرد ـ دراسة فى مذكرات قادة يوليو ) ـ د. محمد الجوادى ـ دار الخيال
 
رد: قصة النكسة

حدث كل هذا ..
والغرب يتأمل بسخرية وتأن وهدوء ..
ولا مانع بالطبع من زيادة سخونة الصراع عن طريق استفزاز العرب إعلاميا ليزدادوا تورطا في الصراعات القومية ويصدق الزعماء أنفسهم !
وكانت الكارثة الـمُرة يوم أن صدق زعماء العرب في تلك المرحلة ما يروجونه من شعارات !
فانطلقت التصريحات الخيالية التي تثير الدهشة حقا ,
فقد روجت القيادة المصرية مثلا أن قواتنا هى أقوى قوة ضاربة في الشرق والأوسط , كما تضمنت تصريحات جمال عبد الناصر كثير من العبارات التي تلهب حماس الجماهير وتؤكد زعامته للعالم العربي ويصفق لها المغيبون
فسمعت الجماهير من عبد الناصر عبارة ( أمريكا إن لم يعجبها البحر الأحمر تشرب من البحر الأبيض ! )
وغير ذلك من العبارات التي توهم الجماهير العربية بأن فناء إسرائيل وتدميرها هو أمر رهن الإرادة العربية , وأن جمال عبد الناصر سيلقن الغرب كله ـ وليس إسرائيل فقط ـ درسا قاسيا إذا فكرت في التعرض له ,
ولم تكن غيبة عبد الناصر عن واقع حاله بسبب أنه صدق انتصاره في حرب 1956 م وظن بالفعل أنه انتصر على إنجلترا وفرنسا فحسب
بل كان السبب الرئيسي أن مغامرات عبد الناصر بالتدخل في اليمن والكونغو أغرته بالمزيد , وظن أنه بالفعل قادرا على تحدى القوى العظمى التي باتت تخشي سطوته !
دون أن يدرك للحظة واحدة أن مغامراته كلها تمت بتدبير غربي , على نحو ما فعلت بريطانيا معه في اليمن وكان يسعدها أن ترى القوات المصرية تتضاعف كل يوم في جبال اليمن ,
وعلى نحو ما فعلت معه الولايات المتحدة عندما سمحت له بتفريغ شحنات الإستفزاز عبر خطب رنانة تأكل قلوب الجماهير وتجعلها في قمة السعادة ,
وتركته حتى تمت طبخة يونيو ..
ليصحو على الحقيقة المرة وهى أن الزعيم الذى أرسل جيشه ليحمى الثورة اليمينية ويتدخل في الصراع على السلطة في الكونغو لصالح ( لومومبا ) ويطلق التصريحات الرنانة عن حمايته لثورة العراق وحمايته لسوريا وأن أى اعتداء على أى منهما هو اعتداء على الجمهورية العربية المتحدة , وكل هذا في تهديدات صريحة
هذا الزعيم بكل جلالته تلك اصطاد الإسرائيليون جنوده وسلاح جيشه الذى تكلف المليارات كما يصطادون العصافير !
وظهرت مجلات التايم والنيوزويك وهى تحمل صور مئات الجثث التي نهشتها الكلاب في سيناء , وصور للجنود المصريين بملابسهم الداخلية وهم يفرون من طائرات الهليوكوبتر الإسرائيلية التي كانت تستمتع بمطاردتهم حتى ينهكوا تعبا ,
ثم أعلنت إسرائيل أنها لن تأسر أى جندى مصري بعد أن اكتظت الوحدات الإسرائيلية بمئات وآلاف منهم ولم يعد لمزيد مكان !
ثم أعلن الجيش الإسرائيلي أنه سيحتفظ بالخمسة آلاف أسير المصري ليبادلوهم جميعا بالجندى الإسرائيلي الوحيد الذى أسره المصريون !
وظهرت الإذاعة العبرية بعد إتمام احتلال سيناء والسيطرة على خليج العقبة , بممارسات هدفها شن حرب إذلال حقيقي على الجماهير العربية ,
فكانت تضع صوت عبد الناصر وهو يعلن بقوة ( لن يمر العلم الإسرائيلي من خليج العقبة )
ثم تعقبه ضحكة ساخرة من المذيع الإسرائيلي وهو يقول ( بدون تعليق ! )
وكانت هذه المشاهد هى الرد العملى من الغرب على صراعات عبد الناصر معهم في الخطب الرنانة , فلم يردوا عليه في حينها ولم يكلفوا أنفسهم جهد بذل الصوت , بل تركوه يتوغل ويتمادى أكثر حتى هزم نفسه بنفسه قبل أن يهزمه القتال !

ولابد لنا أن ندرك حقيقة هامة وتاريخية :
أن ضربة صهيون ( الاسم الرسمى لعمليات حرب يونيو ) لم تكن هى السبب في أحداث يونيو ,
فالتدبير الأمريكى ـ الإسرائيلي لم يكن له أن ينجح إلا في هزيمة قواتنا عسكريا في معركة متكافئة ,
لكن ما حدث في يونيو لم يكن هزيمة , لأنه لم تكن هناك حرب في الأصل !
وقد فقدت مصر جيشها هى والأردن وسوريا دون قتال يذكر !
وكانت الأسباب الرئيسية من جانبنا نحن , لأن الأنظمة العربية ـ كما سنرى في التفاصيل ـ هزمت بنفسها وتخلت بنفسها عن أسلحتها المعنوية والحضارية ووقعت في فخ الإستنساخ الغربي ودعاوى القومية التي هدمت جذور العقيدة الإسلامية التي حركت الجبال فيما مضي
والتفت إلى الظواهر بدلا من العمق والعمل الجاد ,
وهذا أمر طبيعى لأن القومية تطلبت أن يسعى كل امرؤ للزعامة , وغاب الإخلاص بغياب الإسلام , وتقاصرت الأوطان وتم اختزالها ,
ودخلت الجماهير العربية دوامة من غيبة الوعى !
وحرص القوميون ـ بحب الذات ـ على تأكيد غياب الوعى فأصبحت الجماهير في الخمسينات والستينيات بالفعل أشبه بقطعان الغنم التي تقودها العصي إلى حيث تريد !
وهذا هو التفسير الوحيد الذى يوضح لنا حقيقة هذا التغييب الذى صدقته الأمة
وانقلب إلى كابوس مرعب بوقوع نكسة يونيو 67

ولم تتعلم الجماهير أو تستعيد ذاكرتها الحضارية الإسلامية لتتعلم كيف تكون الوحدة الحقيقية ؟
والوحدة هى الركيزة الأساسية التي ينبغي أن ينبنى عليها الصراع ,
ولكن أية وحدة يا ترى
هل هى وحدة العرب المبنية على أساس عرقي والتى أطاحت بكل مقدراتنا في القرن العشرين ؟!
أم الوحدة الإسلامية المبنية على حقائق التاريخ البعيد والقريب ؟!
 
رد: قصة النكسة

إن إنتقادنا للقومية ليس انتقادا لمبدأ التكاتف وضرورة التوحد في الصراع مع الغرب ,
بل لا زلت أقول أن اتحاد الدول العربية والإسلامية في مواجهتها هو السبيل الوحيد ـ وأكرر الوحيد ـ لتنتهى المواجهة لصالحنا ,
فانتقادنا للقومية لم يكن في هذا السبيل بل كان في طريقة تطبيق القومية لمبدأ الوحدة ,

ما نقوله وقاله علماء المسلمين على اختلاف صنوفهم أن القومية تتخذ من الجنس أساسا للوحدة ,
فتنادى بالوحدة العربية في مواجهة الصراع مع إسرائيل بما مفهومه ( الصراع العربي ـ الإسرائيلي )
وبهذا أخرجت القضية من تصنيفها الأصلي باعتبارها قضية صراع إسلامى ـ صهيونى , أو إسلامى ـ غربي
فالقدس ليست قضية تخص العرب وحدهم أو الفلسطينيين وحدهم كما تردد دعاوى القومية بل هى تخص مجمل الدول الإسلامية التي يعتبر القدس فيها حرما ثالثا ,

نقطة الإنتقاد الثانية ,
هى فشل النظرية القومية عند التطبيق ,.
فهم أرادوا من الجنس أساسا للتوحد يعضده اللغة والتاريخ والتلاصق الجغرافي ,
بينما نجم عن التطبيق أن ظهرت دعاوى القومية الضيقة والنعرات الوطنية التي قسمت المنطقة العربية إلى شظايا جغرافية ,
وهذا أمر طبيعى لأن القومية في طبيعتها تعصب صرف للأرض والعرق ولابد له أن يؤدى في النهاية إلى الفرقة بدلا من أن يؤدى إلى الوحدة ,
ويكفي من مثالب القومية أن القوميون الذين يدعون الإنتصار للوحدة اعتمدوا حدود وخطوط اتفاقية سايكس بيكو التي صنعتها بريطانيا وفرنسا وجعلوها تقسيما معتمدا للحدود بين الدول العربية !
بينما المنطق يقول أن القوميين من المفترض فيهم ألا يعترفوا بوجود هذه الحدود أصلا , لا أن يعترفوا بها وينتصروا لها ويعتمدوا الجامعة العربية كجامعة بين دول مختلفة تسعى للتوحد !
وأخيرا :
اعتماد القومية كأساس للوحدة في المنطقة العربية تسبب في ظهور الظواهر الصوتية والشعارات التي عانينا منها في حقب الخمسينيات والستينات مما أدت في النهاية إلى مزايدات رخيصة تسببت في كارثة 67 ,
وهذا أمر طبيعى
لأن القومية مبنية على أساس عرقي ومصالح دنيوية ,
بينما الأساس الدينى للوحدة ينبذ التعصب ويعتبر الانتصار للجنس أو للأرض جاهلية جديدة ,
ولهذا عندما اتخذت المنطقة العربية قديما دين الإسلام أساسا للوحدة تمكنت من أن تكون قوة عظمى طيلة أربعة عشر قرنا ,

خلاصة القول
أن الوحدة هى أساس الإنتصار الذى لا سبيل دونه ,
لكن المهم هو على أى أساس نبنى هذه الوحدة ,
وما تهدف إليه الدراسة هو إثبات أن اعتماد الإسلام كعامل مشترك للوحدة بين سائر المسلمين هو الطريق الصحيح لا اعتماد العروبة والقومية ,
ويكفي أن توفر لنا الوحدة الإسلامية ما يلي ,
أولا : قيام الوحدة الإسلامية على أساس إسلامى صحيح أمر ثابت ونظرية أثبتت نجاحها على مدى ثلاثة عشر قرنا بينما فشلت القومية فشلا ذريعا في التطبيق ,

ثانيا : تقوم الوحدة الإسلامية على أساس إخلاص العمل لله والجهاد في سبيله وهى بذلك تضمن الصدق في القول والعمل وبذل الجهد الأقصي في مقابل القدر الأدنى من الكلام ,
كما أنها ـ وهو الأهم ـ تعتمد على بذل النفس في سبيل الله دون انتظار عائد مادى أو معنوى ودون بحث عن الزعامة أو الأدوار السياسية ,
بينما تعتمد القومية على الإنتصار للأشخاص والمذاهب الإنسانية وبهذا يغيب منها الصدق وتقع في مبدأ ( الغاية تبرر الوسيلة ) لأن أساس القومية قائم على أساس العمل الدنيوى
وباستبعاد الدين تم استبعاد الإخلاص تلقائيا !
لأن الإخلاص معناه العمل دون انتظار أجر في انتظار ثواب الآخرة , فإذا غاب ثواب الآخرة يصبح الثواب الدنيوى هو الهدف وإلا أصبح العمل غير ذى معنى

ثالثا : نجحت الوحدة الإسلامية في احتواء الأقليات داخلها وتمكنت الخلافة الإسلامية من استيعاب الأقليات الدينية دون أن يكون لها تأثير سلبي على دولة الخلافة , لما يحمله الإسلام من صدر رحب بالأديان السماوية فعاش النصاري واليهود تحت ظل دول الخلافة المتوالية بلا أى اضطهاد عرقي
وعلاقة المسلمين تحت مظلة الخلافة بغيرهم من أهل الملل الأخرى كاليهود والنصاري .. معلوم من الدين بالضرورة حيث تشهد صفحات التاريخ للمسلمين أنهم كانوا أشد الناس حرصا على أهل الذمة ولم يتمتع اليهود والنصاري تحت الحكم الرومانى بحرية دينية كتلك التي تمتعوا بها تحت حكم الإسلام بدليل أن النصاري من أهل مصر والشام كانوا صفا واحدا مع المسلمين في مواجهة الحملات الصليبية الغربية رغم كونها حملت شعار الصليب
فالعلاقة بين المسلمين وبين الملل هى العلاقة المعروفة باسم أحكام أهل الذمة وهى متواترة الذكر في سائر كتب الفقه تحمل مدى سماحة الإسلام مع المخالفين في العقيدة طالما كانوا من غير أهل الحرب
ويكفينا للتدليل على ذلك رفض عمر بن الخطاب للصلاة في الكنيسة عند افتتاحه لبيت المقدس حتى لا يتصور أحد من الحكام بعده أن الإعتداء على أرض وكنائس النصاري وإيذاء مشاعرهم جائزا في الإسلام وهو تطبيق عملى للنهى والوعيد الشديد الذى توعد به النبي عليه الصلاة والسلام من خالف وصيته في أهل الذمة ..
بينما فشلت القومية في استيعاب غير العرب من الدول الإسلامية رغم أن القضية بالأصل هى قضية القدس وليست مجرد قضية أرض محتلة

رابعا : نجحت الوحدة الإسلامية في الحفاظ على أراضي المسلمين لأن مبدأ الإسلام يقوم على أن أرض المسلمين كلها واحدة يقع عبء تحريرها على سائر المسلمين كواجب شرعي غير قابل للنقض
بينما القومية جعلت لكل دولة عربية أرض مستقلة مسئولة عنها حكومتها وبقية الدول عليها المعاونة النسبية فقط دون أن يكون الصراع يخصها بشكل مباشر
 
رد: قصة النكسة

ماذا يعنى غياب البعد الدينى عن الطرف العربي


لم نعان فى العالم العربي بصفته الرافد الأصلي للعالم الإسلامي قدر ما عانينا من أبواق الغرب الفكرية التى مسخت معظم التوجهات الدينية عبر تيارات مختلفة , وأحيانا مختلقة لمحو فكرة أن الغرب به ترصد للإسلام !
ورغم الشواهد التى كشفت عن نفسها فى إدارة الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية والتى أفسحت المجال لتقديم دليل قطعى على أن الغرب يستهدف الإسلام قبل الأرض ــ عبر تصريحه بالحرب الصليبية التى نفذها فعلا ــ إلا أن نفس الأبواق لا زالت تكرر أن المسلمين بهم عقدة اضطهاد !
ولست أدرى هل ينتظر أولئك المتعالمون بخفايا الأمور أدلة أكثر من التاريخ والحاضر والكتابات الفكرية والأعمال السياسية إضافة للعقل ـ كلها تقر بوجود هذا الترصد ــ حتى يعترفوا به !
فمن ناحية التاريخ فلا حاجة بنا للتذكير بالحملات الصليبية التى جعلت مسماها وفعلها مبنيا على محاربة الإسلام , ولا ننسي ـ بعد فشل الحملات الصليبية ـ ظهور الجانب الفكرى المتمثل فى قرون طويلة قضاها المستشرفون فى حركة فكرية معلنة الأهداف لضرب الإسلام عن طريق خلق تناقضات من داخله واستمرت هذه الحركة حتى منتصف القرن العشرين فاعلة وقائمة ,

بل إن الجهد الذى بذله المستشرقون ـ برأيي ـ يفوق جهد الأساطيل والحملات العسكرية بعد أن قاموا بدراسة الإسلام من مختلف جوانبه بعملية تمحيص مذهلة قاربت الجهد الذى بذله فقهاء وعلماء المسلمين فى حفظ السنة وإستخراج الأحكام !
بل إنهم قدّموا ـ دون أن يتعمدوا ـ خدمة خرافية للمحدثين فى الحفاظ على السنة النبوية عندما قاموا بتأليف وإعداد الفهارس للأحاديث النبوية بغية تسهيل عملية الفحص عليهم فوقعت نسخة من تلك الفهارس فى يد علماء العراق ونشروها , وكانت ضربة قاصمة لجهد المستشرقين عندما وفروا جهد أعوام طويلة على المحدثين ويسروا عليهم السعى فى تحقيق السنة
وفى الحاضر فإن الغرب عمد إلى نشر العلمانية بالرواج الفكرى بعد فشل خيار الإحتلال العسكري وبذلت القوى الغربية جهدا جهيدا لهدم أى صلة بين المسلمين ودينهم وتراثهم حتى أصبحت النظم القائمة لا ترى فى إسرائيل خطرا يفوق خطر التيار الدينى

وفى مجال الأعمال السياسية فأمامنا تاريخ عريق للولايات المتحدة الأمريكية لم تترك فيه جهدا إلا وأعلنت نيتها المستمرة بالأعمال السياسية وبالنشر العلنى للأفكار عن ترصدها للإسلام أينما حل , ووقف رونالد ريجان يقول كلمته الشهيرة عقب سقوط الإتحاد السوفياتى ـ فرغنا من الشيوعية ولم يبق إلا الإسلام ـ
وعن طريق العقل , لنا أن نتأمل ببساطة كيف أن الولايات المتحدة والإتحاد الأوربي لا يتناسون عهودهم بحقوق الإنسان وحرية الفكر إلا فى مواجهة كل ما هو إسلامى ويعمدون بإلحاح مستمر إلى عقد المؤتمرات التى تبشر بالعلمانية وبغيرها باذلين فى ذلك أقصي جهد مادى ومعنوى !
وكان آخر التصرفات ما قامت به ملكة بريطانيا العظمى من تكريم لسلمان رشدى بمنحه أرفع وسام بريطانى على الإطلاق وهو وسام الفارس { لقب سير } والذى لا يصل إليه من البريطانيين أنفسهم إلا من أدى خدمة جليلة عم أثرها سائر الإمبراطورية , ولا تمنح للأجانب إلا من زمرة المفكرين والعلماء الندرة الذين قدموا للعالم فنا أو أدبا أو علما عميم الأثر ,
ثم يخرج قائل فيقول أن بريطانيا لم تمنح لقب السير لسلمان رشدى عقب إسباغها الحماية عليه بهدف النيل من الإسلام وإنما جاء هذا الإجراء فى إطار رعاية بريطانيا للعلوم والفنون ,
وحق لنا أن نتعجب بالفعل !
فما هى القيمة الفكرية التى مثلها سلمان رشدى يا ترى وأين هى الإضافة التى عم أثرها سائر أصقاع الأرض أو استفادت منها بريطانيا , ولماذا لم يمنح هذا الوسام لمن هم أعلى قامة من سلمان رشدى بفارق يتسع لما بين السماء والأرض
مثل محمد حسنين هيكل الذى تعتبر لندن إحدى محطات نشر كتبه الرئيسية والتى يحتفظ لها برحلة سنوية قبل شروعه فى كتابة أى مؤلف جديد وله من الأثر الفكرى والسياسي ما تمكن به من الجلوس على عرش المحللين السياسيين فى الشرق الأوسط منفردا , وأثر هيكل بلندن ممتد عبر أربعين عاما , وحين استفتى النقاد أولى الإختصاص فى أبرع عشر محللين سياسيين بالعالم كان هيكل هو الوحيد من منطقة الشرق الأوسط ,
بل إن دار النشر التى تنشر كتب سلمان رشدى هى ذاتها دار النشر التى تعامل معها هيكل قبل أربعين عاما وأكثر , فلماذا لم يتم منح هيكل الوسام لو أن الأمر بالأثر
لكن كيف يتم منحه الوسام وقد كان الكاتب الوحيد الذى رفض التوقيع على وثيقة مناصرة سلمان رشدى من سائر الكتّاب المتعاملين مع هذه الدار ؟
الأمر ليس بحاجة إلى كثير توقف ,
 
رد: قصة النكسة

ويمكننا القول بإطمئنان كامل ,
أن جحافل العسكرية الغربية ومعها جحافل المستشرقين الفكرية لم تزد الإسلام إلا عزا , فقد فشلت الحملات الصليبية فشلا ذريعا أمام أبواب الشام ومصر التى أسرت قائد آخر الحملات لويس التاسع بدار بن لقمان ,
وفى المجال الفكرى أهدى المستشرقون ـ كما سبق القول ـ هدية لا تقدر بثمن بتصنيفهم فهارس الحديث , بالإضافة إلى أثر أعظم عندما تصدى الفقهاء والمفكرون لشبهات المستشرقين فاستنبطوا ـ بسبب الشبهات ـ أروع آيات الإعجاز والبلاغة فى القرآن والسنة
ولكن الجهة الوحيدة التى تمكنت من النيل من المسلمين ـ ولا أقول من الإسلام ـ كانت الجبهة الأخيرة التى أثبتت نجاحا فى مواجهة الإسلام وهى عينة عملاء القلم والفكر الذين بذلوا الجهود فى تقويض أى التفات للحضارة الإسلامية داعين المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها إلى ترك هذه المواريث طواعية وهى التى بذلنا فيها الدماء عبر أجيال لنحافظ عليها فأتى هؤلاء ليكون نصحهم أن نهديها للغرب بلا مقابل !
وكان نجاحهم النسبي ليس لأنهم برعوا فى التنفيذ بل لأنهم سلكوا طريق التسطيح والجهل وبرعوا فيه وساعدهم لجوء أغلب الحكومات العربية بالذات إلى النظم العلمانية وفتح الباب لمحاربة التيار الإسلامى المناهض
فهؤلاء الزمرة لم تدخل لمعركة الفكر حجة بحجة ـ كما فعل المستشرقون ـ وإنما لجئوا إلى الآلة الإعلامية والإنفراد بها على ساحة الجماهير عبر عشرات المقالات والدراسات والتبشيرات بل والمسلسلات والأفلام التى تؤكد أن الحضارة معدنها أوربي , والتقدم فكرة أمريكية !

ناسين أو متناسين أن يقفوا قليلا أمام تصريحات الغرب وإعلانه لنواياه عبر ألف تصريح وتصريح !
ولعلنا نذكر ما فعله القائد البريطانى الذى دخل القدس ووقف أمام قبر صلاح الدين قائلا في شماتة :
( ها قد عدنا يا صلاح الدين )
ولعلنا نذكر زميله الآخر القائم بالأعمال في العراق في بداية القرن الماضي عندما قال في مذكرة رسمية :
( إننا لن نستطيع السيطرة ما دام هذا القرآن موجودا في أيديهم )[1]
ولعلنا نقف أمام تصريح رونالد ريجان بعد سقوط الإتحاد السوفياتى :
( فرغنا من الشيوعية ولم يبق أمامنا إلا الإسلام )
ولعلنا نتذكر تصريح شيمون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ورئيس إسرائيل الحالى عندما قال :
( إن أخطر ما يواجه إسرائيل اليوم هو المقاومة الإسلامية ! )[2]

والسؤال الآن لأصحاب العقول ..
كيف يمكن أن يفشل الغرب طيلة ثلاثة عشر قرنا فى نيل أهدافه بطمس الهوية والمرجعية الإسلامية عن الشعوب العربية سواء بالسلاح أو الحرب الفكرية ,
ثم يأتى تيار القومية ـ الذى يعتبر الصراع مع الغرب من أدبياته ـ ويُهدى للغرب أكبر أهدافه .. وبلا مقابل ! ؟!
وكيف يتخلى تيار القومية فى بساطة مذهلة عن الأساس الوحيد الذى يرتكز عليه لإثبات حق العرب فى الأرض المحتلة , وهو الأساس الإسلامى الصرف القائم على فتح المسلمين للشام فى عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؟!

ورغم أن قضية الصراع مع إسرائيل هى في الأصل قضية صراع دينى وحضاري بيننا وبين الغرب
ورغم أن إسرائيل أقامها الغرب أصلا على مبدأ دينى وهوية دينية في المقام الأول , [3]
ورغم أن إسرائيل أطلقت أخيرا مشروعها القائل بنص صريح بيهودية الدولة كأساس للمواطنة
ورغم أننا هنا نعالج غياب البعد الدينى عند العرب وحدهم , لأنه بُعد موجود وفاعل بل ورئيسي فى الناحية الأخرى
إلا أن اللعبة الغربية نجحت نجاحا تاما فى جعلها قضية وطن وساعد على ذلك ـ بجهل أو بقصد ـ تيار القومية العربية الذى ظن أنه بنسبة القضية لتيار القومية فإنه بذلك جعلها قضية العرب جميعا وقضية أمن قومى عربي , وتلك منتهى الخفة فى المعالجة
ففضلا على فشل تيار القومية فشلا ذريعا منذ عام 1967 م , وانتهائه إلى الأبد عام 1990 بالعدوان العراقي على الكويت ..
كان هناك أثر آخر أدى إلى قتل قضية الصراع العربي الإسرائيلي فى مهدها ,
السبب فى ذلك أن من فتح الباب للتفاوض والإعتراف بإسرائيل لم يكن يضع بذهنه مطلقا أهمية قضية القدس وإنما كان تركيزه على الفوز بدولة فلسطينية ترتكز أساسا على نتائج المفاوضات , حتى لو كانت ورقة القدس مجرد ورقة يمكنها أن تكسب ما على الطاولة إذا ما تم قبول تقسيم القدس بين العرب وإسرائيل

بينما التوجه الإسلامى للقضية كان سيضع قضية القدس ـ كما هو واجب ـ فى إطارها الصحيح بعيدا عن أى نتائج تخص الأرض أو الضحايا , فلا فارق بين الضحايا التى وقعت فى فلسطين وبين الضحايا فى سائر الأقطار العربية التى بذلت أضعاف هذا العدد فى سبيل حريتها
هذا بالإضافة إلى أن تيار القومية العربية الذى كان يتحدث عن فلسطين باعتبارها قضية أمن قومى عربي , أخذ فى التضاؤل حتى انتهى شعاعه تماما عام 1992 م وفى العام التالى وقف عرفات فى مفاوضات أوسلو ليعلن أن القضية الفلسطينية آن لها أن تعود إلى أصحابها الأصليين !
وهو نتيجة طبيعية لركام القومية الذى أعطى الأرض والجنس أساسا للحق , فامتلك عرفات حق التفاوض والتنازل كما يشاء باعتباره الممثل القانونى القومى لقضية فلسطين بعد أن أصبحت قضية قومية !
وهى نتيجة نالت منها إسرائيل من المكاسب ما لم يتحقق لها بالسلاح طيلة ثلاث حروب مع العرب !
فأول الكوارث أن إنتهاء تيار القومية .. دفع بالقضية إلى حيز التضييق حتى انقلبت من قضية عربية إلى قضية تخص فلسطين وأرضها وشعبها
مع الوضع فى الإعتبار أن التيار القومى أصلا حصر القضية من قضية إسلامية تعالج ثالث أقدس مساجد المسلمين إلى قضية عربية فقط فضلا على أنه لم يكن بأجندته المبادئ الإسلامية التى تُعلى قيم الجهاد ولا تقبل الإخلال بالثوابت نتيجة الضعف أو قوة العدو , ولنا أن نتخيل الفارق الشاسع بين البعدين الدينى والقومى عندما نلقي نظرة واحدة على تجربة أفغانستان مع الإتحاد السوفياتى والولايات المتحدة الأمريكية
بل وتجربة الشيشان التى قادها جوهر دوادييف وخلدت اسمه فى مواجهة القوة السوفيتية الغاشمة ,
وأيضا تجربة باكستان مع الهند , والتى وقفنا فيها إلى جوار الهند ـ كعرب ـ وتناسينا الإنتماء الإسلامى بسبب وجود التيار القومى الذى كان يعتبر الهند حليفا إستراتيجيا فى حركة عدم الإنحياز , ورغم ذلك نجحت باكستان نجاحا مبهرا بالبعد الدينى وحده



الهوامش :
[1]ـ الثورة البائسة ـ د. موسي الموسوى ـ طبعة حرة
[2]ـ المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل ـ الجزء الثالث ـ محمد حسنين هيكل ـ دار الشروق
[3]ـ اليهود واليهودية والصهيونية ـ د. عبد الوهاب المسيري ـ دار الشروق
 
رد: قصة النكسة

بل إن حرب أكتوبر التى افتتحت بصيحة الله أكبر كان مسببها الأصلي والعامل الفاعل فيها هو البعد الدينى وحده,
وهذا بشهادة كافة المشاركين فيها والذين ضربوا بإيمانهم أروع أمثلة البطولة ,
وذلك بعد أن تسببت النكسة وأحداثها في صحوة دينية طبيعية , ورغم أنها كانت صحوة مؤقتة أشعلت حرب أكتوبر وخبت بالفعل السياسي , إلا أن هذه الصحوة كانت إثباتا كافيا لأثر غياب البعد الدينى
ولو أن مصر واجهت فى حرب أكتوبر عدوها بغير هذا العامل لما كان للمعركة الكبري هذا الدوى العظيم والمعجزات التى غيرت بعض المفاهيم العسكرية فى العالم وحتى اليوم
ولو أن هذا العامل لم يكن هو الفاعل الأصلي لرأينا الصور المذهلة لبطولات أكتوبر تتكرر في مناطق أخرى , لكن ظلت هذه الصور بعيدة الأثر مرهونة بالعقيدة الإسلامية الصحيحة
ولو لم يكن هناك أثر لغياب البعد الدينى مطلقا إلا أنه منح القيادة المصرية حق التفاوض المنفرد بعد الحرب ـ بسبب أن القضية أصبحت قضية قوميات ـ والإبتعاد , لكفانا كارثة !
ولولا تيار القومية ما استطاعت مصر تقديم قضية أرضها على قضية القدس ,
ولو كان تيار الإسلام هو الفاعل في المنطقة العربية بدلا من التيار القومى لما استطاع السادات أن يغير وجهته مستندا إلى الحجة الذهبية وهى أن عرب التيار القومى ظواهر صوتية تريد جر مصر إلى خراب مماثل لخراب يونيو 67

ورغم كل هذا البيان الواضح لمدى خطورة حصر القضية فى تيار القومية ,
إلا أنه وللأسف لم يقتصر الأمر على ذلك !
بل إستمر حاجز التضييق مع مفاوضات أوسلو التى هلل لها الإعلام العربي على نحو مضحك , رغم أن الشواهد كانت بادية الوضوح فى أن الجلوس إلى المفاوضات قبل الحصول على مكاسب واقعية على الأرض بقوة السلاح , لا تعتبر مفاوضات بل مهاترات , فالطرفان فى التفاوض ـ أى تفاوض ـ يتحدث كل منهما وهو يستند إلى ما يملكه فيفاوض به , فما الذى كان يملكه عرفات ـ غير الكلام الإنشائي طبعا ـ ليحتج به فى مفاوضات قوة لا مفاوضات مبادئ
أى أنهم فشلوا حتى فى تطبيق جيد للتيار القومى ولم يستطيعوا الإتحاد على كلمة واحدة تستثمر نتائج حرب أكتوبر كنقطة قوة أمام نقاط القوة التى تتمتع بها إسرائيل فيحققوا مكاسب مرحلية منها
فرفضوا الإنضمام للسادات ثم عادوا بعده منفردين كقوميين , تطبيقا لمبدأ ( كلٌ يغنى على ليلاه ! ) , وتفاوض كل منهم في طريق منفرد سعيا للمكاسب الشخصية في المقام الأول

وضاقت القضية أكثر مع مسلسل التفاوض الرسمى لتصبح قضية غزة وأريحا بدلا من قضية فلسطين ,
وبالطبع إنتهت من الصورة نهائيا قضية القدس , ثم جاء عام 2000 م ليصبح التفاوض حول وقف المستوطنات لا إنشاء الدولة , ثم ضاق أكثر وأكثر حتى أتى شارون على البقية الباقية من قضية فلسطين بضربة واحدة عندما أعلن انتهاء الشرعية عن عرفات كممثل تفاوض وقام بالإنسحاب المنفرد من غزة تاركا عرفات يثير سخرية العالم أجمع وهو يحتج أمام الكاميرات على الإنسحاب المنفرد لإسرائيل من غزة !!
وجاء مسلسل حماس فى الحكومة الإسرائيلية على نفس النسق لتنقلب دوامات الصراع من قضية مستوطنات ومفاوضات إلى قضية صراع فصائل عربي لا دخل لإسرائيل فيه ,
والتى وقفت تراقبه وتنتظر النتيجة الطبيعية له وهى خسارة الطرفين لصالح إسرائيل , بالضبط كما وقفت الولايات المتحدة قبل خمس عشرة سنة تنظر للحرب المستعرة بين العراق وإيران فتتركها دون تدخل بقرار وقف إطلاق نار معتاد من مجلس الأمن لمدة ثمان سنوات كاملة , طحن فيها الخصمان بعضهما البعض , ووقف وزير الخارجية الأمريكى وقتها يقول :
{ هذه هى المعركة الوحيدة التى نتمنى فيها ألا يخرج منها منتصر بل تنال الخسارة من الجانبين }
وقد كان ,
والمثير للسخرية المريرة أن تصريح وزير الخارجية الأمريكى لم يطلقه بجلسة خاصة أو يسجله فى دفتر أوراقه السرية بل قابله علنا فى الصحف , ومع ذلك استمرت الحرب وتورطت إيران بفضيحة ( إيران ـ كونترا ) التى موّلت فيها إسرائيل الجيش الإيرانى بالسلاح ! وبتمويل عربي ! في مجاملة لإدارة بوش الأب التي أرادت تنفيذ العملية بتمويل خارجى بعيدا عن رقابة الكونجرس فتكفلت بمبلغ العملية دولة عربية كبيرة [1]

ورغم التصريح استمرت الحرب , ولا غرابة فى ذلك , فالغرب مقتنع إلى الثمالة أننا شعوب بلا ذاكرة , وجماجم بلا عقول ! ويثق أن لنا عيون لا تقرأ , وإن قرأت لا تفهم , وإن فهمت لا تدرك , وإن أدركت لا تتصرف بناء على هذا الإدراك !

ثم جاءت كارثة غزة الأخيرة لتضيق القضية أكثر وأكثر فتصبح قضية حماس فى غزة !
ثم تم الإختزال أكثر لتصبح القضية قضية المعابر بين مصر وغزة , ثم تضيق أكثر فتصبح قضية معبر رفح !
وإذا نظرنا للساحة الآن بعد كل هذه الإختزالات الرهيبة التى سحقت قضية الصراع سحقا , نجد أن أفواه المحذرين من هذا الضياع كلت وملت من لفت النظر لضيق الأفق الذى يحكم الجماهير ـ كما يحكم المفكرين ـ ويدفعهم للمضي قدما فى السيناريو الإسرائيلي بالحرف فتقول :
{ حدثونا الآن عن غزة , عن القضية الحالية ! }
وها هى الجهود تتوالى لحل معضلة غزة !
وغاية المراد من رب العباد , والتى يتمناها العرب الآن أن ينصلح الحال بين فتح وحماس وتعود حماس لممارسة مهامها على غزة وأريحا معا وأن يتم معالجة آثار الحرب الأخيرة ثم ضمان أن إسرائيل ستلتزم بعدم تكرار الإعتداء العسكري مع وعد صارم من حماس بمكافحة الإرهاب ! ( وهو مصطلح صكه الغرب وأجبر العرب على الإلتزام به لوصف أعمال المقاومة المسلحة ! )
وأصبحت من قبيل النكات السخيفة أن نتذكر أشياء وتعبيرات مثل , القدس , وقضية الحفر تحت أساس المسجد الأقصي , وقضية اللاجئين , وحدود 1967 م ومن قبلها حدود 1948 م !




الهوامش :
[1] ـ حرب الخليج ـ محمد حسنين هيكل ـ مركز الأهرام للترجمة والنشر
 
رد: قصة النكسة

وهذه هى النتيجة الطبيعية لإهمال البعد الدينى فى الصراع ,
والتخلى طواعية عن حضارة أربعة عشر قرنا تراكمت فيها جذور الحضارة الإسلامية , وذلك فى سبيل الوقوع تحت تأثير المذاهب الإنسانية وثقافة الإلحاد المستتر التى حكمت فترة ظهور تيار القومية فى منتصف الخمسينيات ,

ولا يفوتنا بالطبع أن نشير إلى دفاع القوميين عن أنفسهم عن طريق تشويه صورة الإسلام والحضارة الإسلامية ,
وتعمد حصر الإسلام في بوتقة الإرهاب أو التخلف الحضاري أو حصره في جماعات معينة ,
فيكون دفاعهم مبنيا على أن الدعوة للعودة للإسلام هى ترسيخ لثقافة الإرهاب ورفض الآخر !
ولسنا ندرى في الواقع عن أى إرهاب ورفض يتحدثون وقد كانت المعتقلات عبارة عن سلخانات بشرية للمعارضين في العهد القومى البائد !
وبلغ بهم رفض الآخر أن القوميين ـ حتى يومنا هذا ـ يعتبرون كل من يخالفهم عميل للمخابرات الأمريكية !
ولسنا في حاجة للرد على أمثال تلك الدعاوى فأول من يعرف تهافتها هم مطلقوها من القوميين أنفسهم , لأن معظمهم من كبار المثقفين العارفين بطبيعة الحال أى إسلام نقصد .. وإلى أى حضارة نشير !
وعملا بثقافة التغريب التي تروق لهم فلن ندلهم على مصادر التاريخ الإسلامى ليعرفوا أى حضارة هى تلك التي ندعو لترسم طريقها ,
بل يمكننا أن نعطى لهم مصادر التاريخ الغربي التي اعتبرت النبي عليه الصلاة والسلام أكثر شخصيات العالم تأثيرا عبر التاريخ ,
واعتبرت عمر بن الخطاب أنبغ حاكم في العالم ..
واعتبرت خالد بن الوليد واحد من كبار العسكريين في تاريخ العالم
بل من الممكن أن ندلهم على التاريخ القريب حيث كانت الخلافة العثمانية هى القوة العظمى المنفردة على العالم أجمع طيلة ثمانية قرون , وتمكن الخلفاء العثمانيون من اجتياح أوربا والسيطرة عليها كل هذه الفترة الزمنية ,
وكانت الكنائس في قلب أوربا تصمت أجراسها إذا جاء رسول من خليفة المسلمين إلى أحد حكامها !
فما الذى غنمناه يا ترى من تيار القومية ؟!!
لا شك أن القارئ الكريم أدرى بالجواب ,

فالإسلام الذى ندعو للعودة لأصوله هو إسلام العوام ,
هذا الذى قال فيه السلف الصالح ( اللهم إنى أسألك إيمانا كإيمان العوام )
فلسنا ندعو للوحدة الإسلامية كأيديولوجية سياسية تخضع لجماعة معينة أو مذهب محدد أو تيار سياسي محكوم ,
فالإسلام السياسي الذى تورط فيه الإخوان المسلمون وسائر التنظيمات الإسلامية التي ادعت الإنتساب إليه , هذا إسلامهم هم وليس الإسلام الذى نعنيه ,
لأن الإسلام كان عند هذه التنظيمات ـ على اختلاف ألوانها ـ وسيلة .. مجرد وسيلة للوصول إلى السلطة ,
بينما الإسلام عندنا غاية , غاية ليس بعدها بعد ..
غاية لا ترتهن بتنظيم يتخذ له مسمى معين أو حزب محدد بل يشمل الجماهير البسيطة التي عرفت ربها فأطاعته بجوارحها تلقائيا , ورفضت فطرتها الطبيعية أى تغيير في عقيدتها ,
غاية ترتهن بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وثوابت الإسلام من غير تفريط ولا إفراط ,
غاية تتطلع إلى الثقافة العربية والآداب العربية والفكر الإسلامى العريض الذى حمل مشاعل النور في شتى المجالات إلى سائر أنحاء العالم قبل أن يلفظه محدثي السلطة !

فالإسلام الذى ندعو للعودة إليه هو المبادئ والقيم العامة التي حددها الله سبحانه وتعالى ـ لا تلك التي حددها ماركس ولينين وآدمز وسارتر ـ للبشر ودعاهم لمراعاتها في العموم والتصرف في الخصوصيات كما يشاءون ,
فالإسلام عندنا هو برواز عام يشمل المبادئ العريضة للعقيدة الإسلامية التي تخضع لها أى قوانين نضعها لتسيير شئون دنيانا ,
فليس معنى أننا ندعو للإسلام أننا ندعو لنظام حكم معين مثلا
فليكن نظام الحكم وفق ما تشاء الجماهير ,
لكن المهم أن يكون ولى للأمر يلتزم في سن القوانين وفى سياسة الدولة بما تقره المبادئ العامة للدين الإسلامى ,
وفق القاعدة الفقهية العريضة التي تقول ( الأصل في الأشياء الإباحة ) وقاعدة ( أنتم أعلم بشئون دنياكم )

هذه المبادئ التي تخلينا عنها طواعية استجابة للقومية ومذاهب القومية والإشتراكية ,
ومن أغرب أوجه التناقض في هؤلاء القوميين أنهم يحتفون بشدة بالأمم التي تقدس تاريخها ومبادئ دعاتها في حين أنهم لا يطبقون هذا الأمر على أنفسهم , رغم الفارق الشاسع بين مبادئ الإسلام ومبادئ تلك الأمم ,
فنجد مثلا محمد حسنين هيكل في كتابه ( أحاديث في آسيا ) يشيد أيما إشادة بالطاغية الصينى ماو تسي تونج ويشير في إلحاح مستفز إلى أنه إله في الصين الآن !!
ويعتبر مبادئ ماوتسي تونج وعباراته عبارة عن إلهام تسبب في تفوق الشعب الصينى عندما التف حول هذه الشعارات وطبقها بعمل ودأب وجهد وصبر
ثم يزيد في الإشادة عندما يستشهد هو نفسه بأحد عبارات ماو تسي تونج ويأخذها كمدخل لأحد موضوعات كتابه ,
وكانت العبارة تقول ,
( احملوا السلاح دفاعا عن حدودكم .. وتأملوا ما وراء هذه الحدود .. وافهموا )
ولم يسأل هيكل نفسه ـ وهو الحصيف الخبير ـ كيف أعجبك تمسك الصينيين بعقيدتهم الوثنية في نفس الوقت الذى تعتبر فيه العقيدة الإسلامية بشكلها العام عبارة عن قيود ضد الحضارة !
وكيف أعجبتك عبارات ماوتسي تونج ولم تعط لنفسك الفرصة لتأمل آيات كتاب الله ! وأحاديث النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام ! وأقوال الصحابة والتابعين !
رغم أن تاريخ هؤلاء العميق منذ ظهور الإسلام تاريخا كان ـ ولا يزال ـ يعتبر أسطورة الأمم !
فما الذى يساويه ماوتسي تونج أمام هؤلاء ؟!
ولماذا اعتبرت الإستشهاد بماوتسي تونج قيمة حضارية , بينما تعتبر الإستشهاد بدليل من القرآن والسنة واتخاذه أساسا في القضايا .. عبارة عن تخلف وتمسك بالأسمال البالية !
والعبارة التي أعجبتك من ماوتسي تونج , ومؤداها ألا ينطلق السلاح إلا دفاعا عن قضايا الوطن والحدود , وتقتصر المعالجة بعد ذلك على مجرد التأمل
فلماذا لم تنقل هذه الحكمة إلى عبد الناصر قبل أن يتورط في مغامرات اليمن !
 
رد: قصة النكسة

والأهم من ذلك :
لماذا لم تعط نفسك الفرصة للبحث عن أصل هذه الحكم في الحضارة الإسلامية وهى موجودة بعشرات الصياغات في آيات القرآن والسنة وأقوال السلف الصالح ,
فقد بوب الفقهاء بابا كاملا في الجهاد مؤداه ( إذا ديس شبر من أرض المسلمين فالجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة )
وإذا تأملنا نظام الشورى الإسلامى والديمقراطية التي تعتمد على القرآن والسنة لوجدنا أنه من أدبيات السلطة في الإسلام أن الحاكم خادم للجماهير يتقاضي راتبا تحدده له صفوة الأمة
ويخضع للحساب العسير منها بل ومن أفراد الشعب والبسطاء أيضا
ولعلنا نستدعى للذاكرة قول عمر بن الخطاب ـ وهو أعدل الخلفاء بعد أبي بكر ـ قوله
( ماذا تقولون إذا ملت برأسي هكذا { يعنى الإنحراف عن الطريق القويم } )
فقال له أحد الأعراب : ( إذا نقول بسيفنا هكذا )
فرد عمر : الحمد لله الذى جعل من بينكم من يقوّم اعوجاجى

فهذه الأمثلة لم يصغها المؤرخون لكى تصبح حدوتة قبل النوم !
بل لكى تصبح مثلا ومثالا لما ينبغي أن تكون عليه دولة الإسلام , وهذه المبادئ هى الأولى بالإتباع بدلا من مبادئ كارل ماركس وأنجلز وأقوال ماو تسي تونج وأضرابه من ملحدى الشيوعية !
فهى مبادئ الوحى الذى هو تنزيل من عزيز مقتدر ,

والأخطر من ذلك :
أن هناك مرحلة من حياة الأستاذ هيكل توقف فيها مليا أمام ثراء الحضارة الإسلامية , ومع ذلك لم يتراجع ,
فمع غرامه الشديد بالإشتراكية والقومية ذكر أنه طالع عبارة لأحد الصحابة ( أبو ذر الغفاري رضي الله عنه ) وهذه العبارة التي أعجبته كانت في نظره حاملة للمبادئ الإشتراكية بصورتها المثلي ,
رغم أن عمر هذه العبارة أربعة عشر قرنا ,
هذه العبارة التي اعتبرها هيكل أصل الإشتراكية قبل مجيئ ماركس بأربعة عشر قرنا تقول
( ثلاث للناس جميعا .. النار والماء والكلأ )
وقال هيكل تعليقا عليها أنها توضح تأميم الدولة لوسائل الإنتاج الرئيسية ( الطعام والمياه ومصادر الطاقة ) قبل خروج النظرية الإشتراكية ب 14 قرن [1]
ومن المؤسف والمؤلم أن أستاذا ومفكرا في حجم هيكل وعبقريته لم يلتفت لنقطتين بالغتى الأهمية :
الأولى : أن العبارة ليست من أقوال الصحابي أبي ذر ! بل هى حديث للنبي عليه الصلاة والسلام وأبو ذر هو راوى هذا الحديث فحسب !
الثانية : أن الاشتراكية في الإسلام تختلف عن اشتراكية ماركس بفارق يستوعب المسافة من الأرض إلى السماء , لأن اشتراكية ماركس كانت تنكر حق الملكية الفردية بتاتا , وتجعل الدولة هى المسيطرة على السوق الإنتاجى سيطرة تامة ,
بينما اشتراكية الإسلام أوصت بنظام اقتصادى لا مثيل له وهو ضرورة تحكم الدولة في وسائل الإنتاج الرئيسية التي تتحكم في القوت الرئيسي لجماهير الناس وعدم منح الفرصة لجشع التجار أن يتحكم في المواد الضرورية للمجتمعات
لكنها في نفس الوقت تشجع الإستثمار والتجارة الحرة في ظل ضوابط الإسلام , فيقول النبي عليه السلام
( تسعة أعشار الرزق في التجارة )
وكان معظم كبار الصحابة من التجار الكبار , كعبد الرحمن بن عوف وأبي بكر وعثمان بن عفان
وهكذا تفادى النظام الإقتصادى الإسلامى عيوب الإشتراكية المتمثلة في قتل الطموح الفردى بتأميم جميع الممتلكات ذات الطبيعة الإنتاجية , مما أدى إلى الركود الإقتصادى الهائل الذى سقط بسببه الإتحاد السوفياتى ,
وفى نفس الوقت تفادى النظام الإسلامى عيوب الرأسمالية التي فتحت الباب على مصراعيه أمام الملكية الفردية وجعلت نظام السوق حرا إلى حد الفوضي فنجم عن ذلك تحكم فئة قليلة من أباطرة الإقتصاد في أقوات الناس ومعاشهم وأصبح أصحاب المليارات هم أصحاب الرأى في الدولة فعليا واختفت سلطة الدولة عليهم مما أدى للأزمة الإقتصادية التي يعانيها الغرب الآن بعد انهيار نظام البنوك الربوى في أسواقهم

فلنا أن نتخيل لو أن هيكل ـ وهو في موقعه الفريد بقرب السلطة في عهد عبد الناصر ـ اعتمد الفكر الإسلامى لا الإشتراكى كأساس لتنظيم الدولة ,
ما الذى كان يمكن أن يحدث ؟!
لا شك أن جمال عبد الناصر ساعتها كان سيملك من المكانة أضعاف ما امتلكه فعليا في تلك الفترة ,
ليس هذا فحسب ,
بل كانت المنطقة العربية ستتحول لقوة عظمى فاعلة في النظام العالمى لأن اعتماد الفكر والعقيدة الإسلامية أساسا لمنهج الحكم كان سيقف أمام أى محاولة مظهرية للزعامة ,
فالإسلام لا يعترف بالأقوال بل بالأفعال فحسب ,
وبالتالى ..
كان يمكن لنظام جمال عبد الناصر أن يبنى فعلا وعلى أساس متين وحدة بين دول المنطقة العربية قائمة على العمل والجهد والكد والتطبيق الفعلى لمبادئ القوة لا التطبيق المظهرى بالشعارات والخطب الرنانة التي لا أصل لها في الواقع !
فكارثة نظام القومية جاءت بسبب أنه نظام اعتمد صاحبه على ضرورة خلق زعامة عامة له على المحيط العربي
ولأن الزعامة يلزم لها أسباب من القوة لم تكن متوافرة لمصر في ذلك الحين
فلم يتوقف حتى يبني تلك القوة تدريجيا ,
بل عمد إلى الحصول على الزعامة اعتمادا على التظاهر بالقوة ,
فلما اصطدمت الظواهر ـ ذات الأساس المعدوم ـ بحقائق الواقع ,
هوت كبيت من رمال ودفنت تحتها الواقع العربي الكسير !




الهوامش :
[1] ـ مدافع آية الله .. محمد حسنين هيكل ـ دار الشروق
 
رد: قصة النكسة

وكانت النتيجة أن ترسخت منذ عهد عبد الناصر وحتى اليوم ظواهر في العالم العربي أطاحت به من معادلة القوة العالمية تماما وهذه الظواهر لم يكن العالم العربي يعرفها حتى في عهد الإحتلال الغربي نفسه !
وهذه الظواهر هى محصلة الأسباب الحقيقية لما جرى في نكسة عام 1967 ,
ومن التسطيح بمكان أن نظن بالنكسة أسبابا فرعية كحالة الجيش المصري وقتها أو التفوق النوعى الإسرائيلي أو الدعم الأمريكى , فهذه العناصر جميعا تمكن الجيش المصري في أكتوبر من دحرها كاملة !
رغم أن الجيش الإسرائيلي في أكتوبر كان أقوى بمراحل عن حالته في يونيو 67 ويكفي أن إسرائيل لم تحصل على طائرات الفانتوم الأمريكية إلا بعد نكسة 67 وليس قبلها ,
وإسرائيل لم تستخدم السلاح الأمريكى المتفوق في النكسة بل استخدمته فقط في أكتوبر ,
والظرف الدولى أيام أكتوبر كان لصالح إسرائيل بأفضل مما كان لها عام 67 , لتزايد النفوذ الأمريكى في العالم ومعاناة الإتحاد السوفياتى من حالته الإقتصادية التي أثرت سلبا على مكانته في معادلة الصراع العالمى
ومع هذا تفوق الجيش المصري باكتساح ولم تعطله هذه العوامل
ومن هنا نخلص إلى أن كل ما قيل عن تلك الأسباب الفرعية ليس في حقيقته أسبابا بل هو محض نتائج للأسباب الحقيقية التي أدت إلى كارثة يونيو 67 ,
فالتقصير العسكري الحاصل في يونيو على الجانب المصري لم يكن سببا في النكسة بقدر ما كان نتيجة طبيعية للأسباب التي وقفت خلف حالة المجتمع المصري والعربي في تلك الفترة ..
وبداية ترسيخ ظواهر جديدة نسفت روح الإرادة والجدية في المجتمع العربي ومسخته وأبعدته عن خطى التطور ..
وفى حديثنا عن هذه الظواهر لن نعتمد إلا على المصادر الناصرية نفسها , ولن نأت بأى واقعة إلا إذا كان الناصريون هم رواتها وموثقيها عبر كتابات مفكريهم ومذكرات قادتهم

ومن هذه الظواهر :
أولا : ظهور وتنامى ظاهرة الحكم العسكري وحكم الفرد عقب استقلال أغلب الأوطان العربية بحركات جيوش لا ثورة شعوب ,
وخطورة الانقلابات العسكرية تكمن في أنها تستبعد من ذهنها صورة الإرادة الشعبية تماما لأن العقلية العسكرية قائمة على إصدار الأوامر وطاعتها المطلقة ,
مما أدى لترسيخ هذه الظاهرة ـ حتى في الدول الملكية ـ وعاش العالم العربي منذ ذلك الحين وحتى اليوم رهنا لقبضة حكم حديدية فعلت بشعوبها أعتى مما فعلت به جيوش الإحتلال الأجنبي ,
مثل أفاعيل نظام عبد الناصر بمعارضيه ـ بالذات من الإخوان المسلمين ـ كذلك أفاعيل نظام حافظ الأسد بالإخوان المسلمين في سوريا لدرجة أنه قام بضرب معقل الإخوان في مدينة حماة بالدبابات في مجزرة لم ترتكبها حتى قوات الإحتلال البريطانى !

ثانيا : ظهرت إلى السطح طموحات الزعامة لدى كل حاكم عربي بمجرد ظهور زعامة عبد الناصر التي أثارت الغيرة مما أدى إلى اتباع معظم الحكام سياسة التظاهر بالنضال لمحاولة حصد الشعبية ,
مما جعل الفوارق هائلة بين الشعوب ومعاناتها والحكام وأحلامهم ,
ولم يعد الحكام في العالم العربي يلقون أهمية إلى شعور الجماهير مهما تسرب للإعلام بعض تصرفاتهم , بل استمرت بطانة كل حاكم تصور له أنه يسكن في قلوب الشعب بمقعد دائم شبيه بمقعد الولايات المتحدة في مجلس الأمن !
هذا فضلا على أن ظاهرة الغيرة والتنافس على الزعامة المظهرية أفرزت ظاهرة التبادل السوقي للشتائم بين الحكام العرب وبين بعضهم البعض لدرجة لا يمكن أن تجدها حتى في أحط المناطق الشعبية !
ومن يعود إلى أرشيف الصحف وإذاعة صوت العرب في تلك الفترة ويتابع الصراعات الإعلامية بين مصر والسعودية أو بين مصر والأردن أو بين مصر والعراق أو بين مصر وسوريا يجد شتائم بالأم والأب ومعايرات بالأصول العائلية على ألسنة حكام المنطقة في خطابات إذاعية معلنة !!
ثم بعد هذا تعزف الإذاعات ألحان القومية العربية وأحلام الوحدة !!

ثالثا : ظهرت إلى الوجود في العالم العربي ظاهرة الإعلام الموجه , بعد أن قام عبد الناصر بتسخير الإعلام له بأعتى مما فعله جوبلز وزير الدعاية النازية لهتلر ,
وبالتالى صار من المسلم به أن الإعلام الرسمى وظيفته الرئيسية هى تجميل صورة الحاكم وتصويره على أنبغ عصره .. بغض النظر عن حقيقة حكمه أو نظامه ,
وقد تم هذا بعد تأميم الصحف وانتزاع ملكيتها من أصحابها الأصليين وإحالة الملكية إلى الدولة ممثلة في الإتحاد الإشتراكى ,
وعليه أصبح الصحفيون ورجال الإعلام مجرد موظفين يخضعون لرقابة عسكرية معلنة يقوم بها مكتب الرقيب لا يسمح بشاردة أو واردة حتى لو كانت كلمة عادية عابرة أو نكتة !!
وقد تم اعتقال عدد لا محدود من الكتاب والصحفيين وفُصل بعضهم الآخر وتشريدهم نتيجة لنكتة عابرة قالها أحدهم في جلسة خاصة ـ تم تسجيلها قطعا ـ أو بسبب مقال يَــشْـتم فيه الرقيب معارضة لظاهرة من ظواهر الفساد في الحكم ,
ويكفينا أن نمثل لحادثة واحدة تخص محمد حسنين هيكل وهو زعيم الناصرين المبرّز ,
فقد وجدناه يروى واقعة اعتقال الدكتور جمال العطيفي وهو أستاذ جامعى وقانونى بارز وعالم فذ , كان يعمل في الأهرام مع هيكل ,
وجمعته جلسة خاصة مع بعض رفاقه وتناولوا في هذه الجلسة الخاصة تحليلا لملابسات قرار عبد الناصر بتعيين هيكل وزيرا للإعلام , وثار النقاش حول ما إذا كان هذا القرار تمهيدا لنزعه من فوق عرش الأهرام الذى يشغل فيه منصب رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير ,
وبالطبع احتوت الجلسة على بعض الإنتقادات لعبد الناصر وللإتحاد الإشتراكى ,
وتم تسجيل الجلسة بأجهزة التصنت التي تبثها المباحث في كل مكان وتم رفعها لعبد الناصر ليصدر قراره باعتقال الثلاثة فورا !!
وهنا ثار هيكل وقاطع عبد الناصر حتى تدخل السادات بينهما بالصلح وذهب هيكل لمقابلة عبد الناصر وتحدثا حديثا طويلا يصفه هيكل بكل معانى الإجلال والإكبار ثم يثنى على عبد الناصر في أنه أصدر قراره بالإفراج عن العطيفي ورفاقه !
والسؤال هنا :
كيف فات على هيكل أنه لم يعترض على مبدأ الإعتقال ومبدأ التصنت على الحياة الخاصة التي كان النظام يتوسع فيها في ذلك العهد ويفرض الرقابة على الشعب بأكمله !
وكيف فاته أن يعترض على مبدأ كتم الحريات لهذه الدرجة المهينة التي تسمح باعتقال أستاذ جامعى في قامة العطيفي لمجرد أنه أبدى اعتراضا سياسيا عابرا على إحدى قرارات الرئيس !
والأهم من ذلك ..
كيف يعتبر هيكل تدخله لإنقاذ العطيفي أمرا محمودا في نفس الوقت الذى عاش فيه صحفيو مصر ومفكروها حقبة إرهاب مستمرة ودخلوا المعتقلات دون أن يجد أيا منهم هيكل آخر يتدخل بنفوذه فينقذهم !!

رابعا : صدّرت مصر للعالم العربي أسلوب السيطرة البوليسية على الجمهور وضغط المعارضين أو الخلاص منهم مما كثف من ثقافة الخوف الجماهيري ,
وأصبحت الجماهير المصرية ـ ومن بعدها الجماهير العربية ـ أسيرة لعقدة الخوف من القتل أو الإعتقال بعد أن كانت هذه الجماهير ـ تحت نير الإحتلال ـ تملك إرادتها وتملك فرضها عبر زعمائها الشعبيين ,
ولعلنا نذكر تجربة عرابي وتجربة مصطفي كامل وتجربة سعد زغلول وغيرها من التجارب التي أحيت يقظة الحركة الوطنية الشعبية على أساس حقيقي لا أساس موجه ومبرمج من الإعلام

خامسا : كانت مصر في ظل نظام عبد الناصر هى صاحبة السبق في اختراع نسبة 99.99 % ,
مما جلب لنا سخرية العالم أجمع على هذه الشعوب التي يقبل حكامها هذا النفاق الفج من السلطة ويصورون أنفسهم آلهة تحظى بالإجماع المطلق من شعوبها !
بينما خلق الله البشر على الأرض وفى طبيعتهم سنة الإختلاف ولم يحدث أن أجمعت أمة من الأمم بمثل هذه النسبة على شيئ !
بل إنهم لم يجمعوا على توحيد الله سبحانه وتعالى وهو خالقهم , وظل هناك في كل أمة من يكفر به
وكان هيكل ـ وهو على رأس تحرير الأهرام ـ هو الذى روج لهذه النسبة الخيالية في أول انتخابات خاضها جمال عبد الناصر على مقعد رئيس الجمهورية , واعتبرها إنجازا غير مسبوق في التاريخ !!
ولم يستح النظام أن يعلنها رغم أن قطاعات عريضة من الشعب كان مؤكدا أنها ستقول لا , وأقلها جماهير ملاك الأراضي مثلا وجماهير الإخوان المسلمين وحزب الوفد صاحب الشعبية الكاسحة , الذى تم حله وتحديد إقامة زعيمه النحاس باشا
فكيف ساغ لهيكل أن يمرر هذه النسبة وهو يعلم علم اليقين أن هذه القطاعات لابد لها من أصوات !!

سادسا : كانت مصر عبد الناصر هى التي اخترعت أيضا ظاهرة المجالس النيابية الموقرة التي لا تكف عن تكرار الموافقة على أى إشارة تصدر من أصغر اصبع للحاكم ,
وظهرت للوجود معارضة فريدة في تلك المجالس وهى المعارضة المستأنسة ,
وشهدت البرلمانات العربية أعضاء في مجلس الشعب يبدو على سيماهم أنهم في الأصل من رجال المباحث !
وبالطبع كانت جلسات البرلمان المصري ( مجلس الأمة ) تشهد التسبيح بحمد النظام ولو كانوا بصدد مناقشة كارثة حقيقية ,
ولهذا كان طبيعيا أن يجتمع مجلس الأمة بقيادة أنور السادات لمناشدة الرئيس عبد الناصر بالعدول عن قرار التنحى عقب كارثة 67 م ..
وعندما قبل الرئيس هذه المناشدة نقلت عدسات الإعلام صورة لأحد أعضاء المجلس الموقر وهو يرقص فرحا على تراجع الرئيس عن قرار التنحى !!

 
رد: قصة النكسة

سابعا : ظهرت فى العالم العربي لأول مرة ظاهرة الإنتخابات لمدد متكررة للمناصب الرئيسية في الدولة وعلى رأسها منصب رئيس الجمهورية ,
وانتهت إلى الأبد ظاهرة تبادل السلطة السلمى وأصبح العالم العربي يعرف رئيس الجمهورية الراحل لكنه لم يعرف أبدا رئيس الجمهورية السابق ( إلا إذا كان الرئيس السابق ترك منصبه بناء على انقلاب عسكري )
كما ظهرت تبعا لهذه الظاهرة ظاهرة أخرى أشد سخرية وهى ظاهرة الجمهوريات الملكية , فحكم سوريا بشار الأسد نجل حافظ الأسد بعد أن قاموا بتغيير الدستور خلال ساعات ليسمحوا لبشار الأسد بالترشيح لمنصب الرئيس !
وعلى إثر ذلك يسعى جمال مبارك في مصر والقذافي الإبن في ليبيا وبوتفليقه شقيق الرئيس الجزائري الحالى عبد العزيز بوتفليقة
وهذه الظاهرة ـ كما قلت ـ أسس لها عبد الناصر ,
فهيكل يذكر في كتابه ( خريف الغضب ) ملابسات تعيين السادات نائبا في نهاية عصر عبد الناصر فيحكى عن طريقة تعيين عبد الناصر للسادات فيقول ,
إن عبد الناصر اختار السادات نائبا قبيل رحلته للمغرب بعد النكسة وكانت مبررات هذا القرار كما حكاها عبد الناصر لهيكل أنه آن الأوان لأنور السادات أن يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية
لأنه الوحيد في مجلس قيادة الثورة الذى لم ينل نصيبه من هذا المنصب !!
أى أن هيكل يروى ـ ببساطة مذهلة ـ كيف أن عبد الناصر ورفاقه في مجلس قيادة الثورة اعتبروا مصر إقطاعية كبري لهم ـ وهم الذين أقاموا الدنيا على الإقطاع ـ وقسموها فيما بينهم وأصبحت السلطة على الدولة مرهونة بسياسة الدور !
لا بالكفاءة ولا بالقانون !
ما الذى يمكن أن يعلق به المرء على هذا الكلام ؟!
الواقع أنه يحضرنى الآن واقعة حدثت في أثناء تولى النحاس باشا لرياسة الوزارة , وقام الملك بتعيين أحد كبار الموظفين ـ دون علم النحاس ـ ككبير لموظفي القصر الملكى نفسه
أى أن هذا الموظف في الأصل يخص القصر الملكى وإن كان القانون يحتم تعيينه عن طريق الحكومة
فأقام النحاس باشا الدنيا ولم يقعدها حتى تم له ما أراد والتزم الملك بالقانون !

ثامنا : ظهر على الساحة السياسية العربية لأول مرة ظاهرة ارتباط سياسة الدولة بمزاج الحاكم وتوجهاته !
ففرض عبد الناصر النظام الإشتراكى في مصر وتغنت الجماهير المأجورة والمغيبة ببستان الإشتراكية ومحاربة الإمبريالية والإستعمار .. إلى غير ذلك من تعبيرات المرحلة !!
ولما جاء السادات , ولكونه صاحب توجه غربي آخر يختلف عن الإشتراكية واختار الرأسمالية ,
انقلبت الساحة في الحال للعزف على بستان الرأسمالية ومهاجمة السوفيات الملحدين !!
ولنا أن نتحسر على النظام البرلمانى المصري في ظل الإحتلال الإنجليزى نفسه , والذي كان مقياسا لحرية الرأى والعمل رغم كل مساوئ العهد الملكى
لكن الملك نفسه لم يكن يجرؤ على مخالفة الدستور ! .. صراحة على الأقل
وكانت ظاهرة استقالة الوزارات من الظواهر المعروفة في مصر إذا مس أداء أى وزارة أى تقصير أو إهمال !
وعندما انقلب مكرم عبيد باشا على الوفد وصنف كتابه ( الكتاب الأسود ) وذكر فيه ما اعتبره عشرات من جرائم استغلال النفوذ ارتكبتها حكومة الوفد !
أثار الكتاب أزمة كبري عصفت بالحكومة رغم الشعبية الساحقة للنحاس !
ولو أننا فتحنا الكتاب الأسود اليوم وطالعنا ما اعتبره مكرم عبيد جرائم كبري , لوجدنا أن الكتاب الأسود ينقلب إلى كتاب ناصع شديد البياض إذا قارناه بأفعال أصغر موظف حكومى منذ عصر الثورة وحتى يوم الناس هذا !!
وكان الشعب هو أساس الحياة السياسية ,
لم يكن الشعب مشاركا فحسب , بل كان يملك حكومته ولا تملكه ,
ويكفي للتدليل على ذلك أن الوفد ظل غصة في حلق الملك فاروق والإحتلال الإنجليزى بسبب أن يستند إلى شعبيته الحقيقية بين الجماهير فحسب !
فلم يكن الوفد يمتلك قوة عسكرية أو أى نوع من ألوان القهر لكنه كان يملك مشاعر الناس ,
فالجماهير في تلك الفترة كانت ترزخ تحت الإحتلال , لكن إرادتها الحرة أبدا لم تكن تحت سيف القهر والإذلال !
وكان الوزراء في الحكومات , وزراء بمعنى الكلمة , لا كما هم الآن منذ عصر القومية مجرد سكرتارية لرئيس الجمهورية مهمتها العمل بناء على توجيهات السيد الرئيس !!
كان كل وزير شديد الإعتزاز بمكانه ومكانته لا يقبل تدخل أحد في محيط اختصاصه أيا كانت الظروف ,
وكانت المعارضة عبارة عن ميزان العدل الذى يضبط الأداء ,
فكان من المستحيل أن يتخذ أى سياسي قرارا يخص أمته لمجرد الرغبة أو لمجرد القرار !
ومضي الزمان وجاء القوميون لتخرج المظاهرات الموجهة في أحداث 15 مارس في مصر تنادى بسقوط الديمقراطية !
هل يمكن لأى عاقل أن يستوعب خروج مظاهرات شعبية تهتف بسقوط الديمقراطية والحياة النيابية !
وهى المظاهرات الموجهة ـ كما سبق القول ـ والتى أخرجها مجلس قيادة الثورة ردا على المظاهرات التي خرجت لتأييد محمد نجيب في نيته إعلان عودة الحياة النيابية وعودة الجيش إلى ثكناته !

تاسعا : أما أخطر الظواهر التي نجمت عن النظام القومى الإشتراكى بشكله القمعى الذى تم تطبيقه في مصر وصدرته إلى العالم العربي ,
فكان ظاهرة الحاكم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه !!
والتى استتبعت اختصار الأوطان في شخص الحاكم ,
فمصر كانت صاحبة السبق أيضا في هذا , والذين يعيبون على منافقي عصر الرئيس مبارك الذين يهتفون الآن أن مصر ليس فيها من يصلح للرياسة إلا الرئيس مبارك !
عليهم أن يعودوا للتاريخ ليعرفوا أنها ظاهرة قومية في الأصل ,
فقد دشن الإعلام الناصري لظاهرة اعتبار عبد الناصر نصف إله , وبأن وجوده هو سبب الحياة لهذا الوطن , وأن غيابه يعنى أن الأمة كلها ستعانى الضلال بعده !
وقد عبر أحد عوام الجمهور السورى عن هذا الأمر بقوله :[1]
( عبد الناصر .. أبو خالد .. يا سلام .. هذا هو الذى أعبده بعد الله ! )
وسبحان الله ..
أمة الإسلام التي لم تتوقف فيها الحياة لوفاة النبي عليه الصلاة والسلام نفسه ! جاءنا في آخر الزمان من يقول أن مصر بلا عبد الناصر لن تكون مصر باعتباره الزعيم الملهم !
وقد ظهر هذا جليا واضحا في عشرات الظواهر لعل أبرزها ما حدث عندما استشار عبد الناصر وزير خارجيته الشهير د. محمود فوزى عن الطريقة المناسبة التي تتبعها مصر إذا قامت القوات الأمريكية بالتدخل في لبنان ,
فرد الدكتور فوزى : إن هذا أمر فوق حدود الإختصاص وأنه يحتاج إلى رؤية قائد ملهم لا إلى رؤية وزير !!
ومن العجيب أن هيكل بعد هذا عاب على السادات قوله أنه يفضل اللجوء للاستراحات البعيدة كى ينفرد بنفسه كلما أراد اتخاذ قرار هام أو مصيري للبلاد
وعلق هيكل ساخرا على هذا القول بأن السادات كان ينتظر الوحى وكأن قرارات الدولة تأتى بالوحى لا باستشارة المسئولين
ومناقشة الوزراء والمستشارين !
ونسي هيكل ـ وكثيرا ما ينسي ـ أن عبد الناصر نفسه هو مبتكر هذا الأسلوب الذى أخذه السادات منه , فكيف يعيب على التلميذ ما لم يعبه على الأستاذ المبتكر !
وهل نسي هيكل أنه حضر جلسة محادثات الوحدة بين مصر وسوريا والتى رواها في كتابه ( سنوات الغليان ) واجتمع فيها عبد الناصر منفردا مع الوفد السورى المطالب بالوحدة ,
وفى نفس الجلسة ودون أن يناقش عبد الناصر مستشارا أو غفيرا ,
أصدر قراره بقبول الوحدة وفرض شروطه على الوفد السورى الذى قبل الشروط وانعقدت الوحدة فعلا !!
بالإضافة إلى كلمات عبد الناصر نفسه في خطاب التنحى الذى كتبه له محمد حسنين هيكل وفيه من الإيحاءات بهذا المعنى ما فيه !
وخرجت الجماهير التي خضعت لغسيل المخ الإعلامى طيلة الفترة من عام 1956 حتى 1967 م تهتف ببقاء عبد الناصر بينما دماء شهدائنا التي راحت هدرا في سيناء لم تجف بعد !
وقد كانت المظاهرات حقيقية لا كما ردد البعض أنها مظاهرات مصنوعة من الإتحاد الإشتراكى ,
أى نعم قام الإتحاد الإشتراكى بتنظيمها وصدر قرار وزير النقل بإتاحة السفر بالمجان للجماهير إلى القاهرة من مختلف المحافظات لكى يشاركوا في مناشدة الرئيس العدول عن قراره !
إلا أن أصل المظاهرات كان حقيقيا وجماهيريا ,
والذين ظنوا ـ من منتقدى الناصرية ـ أن القول بمظهرية وتدبير هذه المظاهرات يمكن أن يعيب النظام في ذلك الوقت , فهذا قصور في التفكير ,
لأن الإدانة الحقيقية للنظام تتمثل في قيام الشعب بهذه المظاهرات بإرادته فعلا ,
لأنها تحمل الدلالة القاطعة على ما صنعه الإعلام الناصري من تجريف لوعى الأمة عبر هذه السنوات , حتى استجابت الجماهير لغسيل المخ واقتنعت بالفعل أنها بدون عبد الناصر لا تساوى شيئا !!
وقيام المظاهرات المليونية بهذا الشكل لكى تتمسك بقادة الهزيمة , وتهتف الهتافات الحارة لهم وتناشدهم عدم ترك مواقعهم ـ رغم الكارثة التي حلت بالبلاد ـ هى في رأيي أكبر إدانة للعصر الناصري كله !
إذ كيف يمكن أن يقبل عاقل هذه النتيجة من الجماهير المصرية التي كانت تحرك الحياة السياسية وتقتلع الحكومات وتنصبها وتشارك في الحياة السياسية مشاركة فاعلة عن وعى وإدراك رغم الأمية !
كيف يمكن أن نقبل من هذه الجماهير أن تعترف علانية بأنها أمة خاوية لم تستطع أن تنجب قيادة بديلة لقيادة مهزومة !
لكنه أمر طبيعى أن تخرج هذه الجماهير بهذا الشكل بعد تجريف الوعى السياسي وربطه بشخص الحاكم على هذا النحو ,
ولو كان الناصريون يعقلون حقا لتدخلوا لمنع هذه المظاهرات التي فضحت أمة العرب في وسائل الإعلام العالمى عندما كتبت الصحف العالمية ( الشعب يتمسك بقادة الهزيمة ويهتف للقائد المهزوم ! )[2]
ولست أدرى ما الذى كان متوقعا أن تفعله هذه الجماهير لو أن عبد الناصر انتصر في يونيو 67 , ما داموا في ظل الهزيمة قد قاموا بكل هذا التأييد الجارف والهتاف بحياة من قذفوا بالأمة إلى مهاوى الضياع
فصارت الجماهير المصرية على حد قول أمير الشعراء ..
اسمع الشعب يغنى .. بحياتىْ قاتليه !
أثّر البهتان فيه .. وانطلى الزور عليه
ياله من ببغاء .. عقله في أذنيه !!

عاشرا : تسبب هذا العصر في ظاهرة عمت أرجاء العالم العربي , وهذه الظاهرة وحدها كفيلة بأنها تمحو أى أمة من على خريطة الوجود الحضاري !
ألا وهى ظاهرة تجريف مواهب الأمة ومفكريها وعلمائها
وهى لازم طبيعى من لوازم الحكم الأتوقراطى , وعندما تسلم عبد الناصر حكم مصر , كانت مصر تعج بالعباقرة في شتى المجالات , لا سيما في عالم الفكر السياسي والإجتماعى والإسلامى ,
ولو أردنا أن نذكر أمثلة عنهم فقط لضاق بنا المقام !
ونظرا لأن وجود هذا الكم من المفكرين والعلماء من أساتذة الجامعات والكتاب والأدباء , يمثل خطورة تقليدية على النظم الشمولية , فقد طبق عبد الناصر مبدأ جوبلز ـ وزير الدعاية النازى ـ والذي صاغ الحل بقوله :
( كلما سمعت كلمة مثقف .. تحسست مسدسي ! )
فتم تجريف المفكرين والعلماء الأحرار لصالح الضباط الأحرار , واكتست مصر كلها , وفى كافة المؤسسات واللجان والوزارات باللون الكاكى ـ على حد قول محمد نجيب في مذكراته ـ إذ تولى الضباط كل شيئ حتى المجلس الأعلى للثقافة الذى كان من أعضائه العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم , ورأس مجلسهم ضابط شاب برتبة ملازم أو نقيب !
وتم تصنيف كبار المفكرين المصريين في ذلك الوقت إلى ثلاثة أقسام ,
قسم تولاه الله برحمته الواسعة ! ـ وقسم آخر تكفلت به المعتقلات ـ وقسم ثالث فر بجلده للهجرة الخارجية
ولم يتبق إلا القسم الأخير الذى سمحت به الحكومة وهو قسم المفكرين الصامتين أو المستأنسين , فإما أن يكتبوا في تأييد النظام وإما أن يقنعوا من الغنيمة بالإياب فيعتزلوا الكتابة في الشأن العام
ولعل أبرز مثال على القسم الأخير كان عباس محمود العقاد المفكر العريق الذى كان له حضور سياسي هائل في عهد الملكية , قام بالإعتكاف في بيته حتى وفاته وغير وجهة كتابته إلى قضايا التاريخ الإسلامى ولم يكتب حرفا في المجال السياسي العام رغم أن مؤلفاته في سابق العهد كان أغلبها مؤلفات في الفكر السياسي لدرجة أن الألمان ـ وهم على مشارف مصر في الحرب العالمية الثانية ـ أعلنوا أنهم سيعدمون العقاد في ميدان عام إذا انتصروا ودخلوا مصر فعلا , بسبب كتابات العقاد التي كانت تحفز الجماهير على عدم التعاطف مع الألمان واعتبارهم كالإنجليز دول محتلة وغاصبة

ولسنا في حاجة إلى بيان مدى خطورة هذه الظاهرة التي صدرتها مصر أيضا إلى بقية الدول العربية , ولو أنها خفت في عالمنا المعاصر بمصر إلا أنها لا زالت على نفس الأسلوب القديم في أغلب الأوطان العربية ,
ويعود السبب الرئيسي إلى العداء المستحكم بين النظم الشمولية والمثقفين والعلماء إلى خطورة دور المثقفين كرعاة لتربية الرأى العام وهم قادة التغيير السياسي الحقيقي في كل العصور ,
فصحوة الحركة الوطنية المعاصرة قامت على أكتاف المثقفين في مصر وزعمائهم مثل الرافعى والمازنى والعقاد وسعد زغلول ومصطفي كامل وغيرهم , [3]
والتصدى للإحتلال قام في الأصل على أكتاف العلماء البارزين , بالذات علماء الأزهر الشريف الذين كانوا دائما غصة في حلق مستعمر , ويكفيهم أنهم تصدوا لخدعة نابليون بونابرت عندما جاء إلى مصر وهو يردد أنه يهدف إلى تحرير مصر وتعمد التقرب والتزلف إلى جماعات الجماهير بأساليب مختلفة ,
وكان من الطبيعى جدا أن تنساق الجماهير خلفه نظرا لما يعانونه على يد المماليك ,
لكن هذا لم يحدث بعد أن قام علماء الأزهر بدورهم التاريخى في تنمية الوعى وكشف حقيقة نابليون , وقاد العلماء ثورة القاهرة الأولى والثانية وحفزوا الناس على الجهاد حتى خرج الفرنسيون بخفي حنين
لكن مصر في فترة التجريف المتعمد لعلماء والمثقفين لم تجد من يعيد لها وعيها أو يعلى فيها قيم الفكر والعلم , فكان من الطبيعى أن تستسلم الأغلبية لغسيل المخ الإشتراكى وتصدق أن الأمة المصرية الولادة لم تعرف تاريخا حقيقيا إلا مع بداية ثورة يوليو ,
وأصبح من قبيل الثقافة المنتشرة أن يظن الجمهور بأن ثورة يوليو هى بداية التاريخ الحقيقي وما خلفها هو العهد البائد !!
وتعبير ( العهد البائد ) هذا كان من أدبيات الثورة الشهيرة , حتى أن النظام كان يضع ستارة على أى لوحة تذكارية لأى إنجاز تم في العهود السابقة على الثورة باعتباره من العهد البائد !
وتم إهمال ثورة 1919 م , الثورة الوطنية الكبري التي قال عنها المهاتما غاندى وهو في طريقه للهند مارا بقناة السويس , أنه ـ وشعب الهند ـ تعلموا كيف تكون ثورة التحرر من جماهير ثورة 1919 م , في خطبة شهيرة بحضور النحاس باشا ,
وكل هذا لمحاولة تقليص شعبية حزب الوفد الجارفة , فضلا على أن التاريخ المدرسي الرسمى في تلك الفترة يمكن اعتباره كارثة قومية حقيقية لمدى ما فيه من إهمال وتشويه لعهد ما قبل ثورة يوليو ,
وهكذا نجح النظام في أن يجعل من مصر رهينة لهذه الثورة وهذه المرحلة ,




الهوامش :
[1] ـ قصة الجولان ـ فيلم وثائقي من إنتاج قناة الجزيرة
[2] ـ الإنفجار ـ محمد حسنين هيكل ـ مركز الأهرام للترجمة والنشر
[3] ـ تاريخ الحركة الوطنية ـ عبد الرحمن الرافعى ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب
 
رد: قصة النكسة

حادى عشر : كانت مصر في ذلك العهد أيضا هى صاحبة السبق في صك تعبير ( أهل الثقة وأهل الخبرة ) ..
ولهذا صعد إلى سدة الحكم أشباه البشر من أمثال عبد الحكيم عامر وشمس بدران وسامى شرف وعلى شفيق وغيرهم من أذاقوا الشعب الويلات ,
ولأن النظام الإشتراكى بطبيعته ضد العقل الإنسانى على طول الخط ,
ولأنه نظام قائم على تحييد المبادئ الدينية , فقد صدرت من هؤلاء الثوار تصرفات أثناء توليهم المسئولية تجعل المرء في حيرة كيف تمكنت هذه العصابة من السيطرة على مقدرات مصر والشعب العربي !
ولأن مجموعة السلطة بطبيعتها مجموعة طفيلية منعدمة الفكر والتفكير , فقد كانوا ظلالا للنظام ممثلا في عبد الحكيم عامر وجمال عبد الناصر ,
وأصبح لكل منهما مجموعته ونفوذه ,
وهما المجموعتان اللتان دخلتا في صراع مرير على السلطة والنفوذ عانى منه الجيش والشعب معا , وتم إبعاد أهل الخبرة في جميع المجالات لصالح أصحاب الوساطة والمحسوبية , على النحو الذى أدى إلى مهزلة يونيو 67 عندما دخلت مصر الحرب وعلى رأس قيادة الجيش فيها مجموعة أقل ما يقال عنها أنهم من خريجى مستشفي الأمراض النفسية !
واستغل عبد الناصر واقعة النكسة ليتمكن أخيرا من إزاحة عبد الحكيم عامر ومجموعته بعد أن استعصت عليه طويلا منذ عام 1962 م نظرا لقوتها واستنادها إلى الجيش
وهكذا جنت مجموعة عبد الناصر المتمثلة في ( سامى شرف ـ شعراوى جمعة ـ محمد فائق ـ على صبري ـ محمد فوزى ) أكبر المكاسب بوقوع النكسة , إذ تضاعف نفوذهم وسيطروا على أجهزة الدولة سيطرة تامة ,
لا سيما بعد أن تكفل عبد الناصر بفضح عبد الحكيم عامر ومجموعته وسماهم ( دولة المخابرات ) وحملهم مسئولية النكسة ليخرج منها سالما ,
وكأنى بعبد الناصر كان يخاطب قطيعا من الغنم لن يسأل فيه أحد سؤال منطقي مؤداه ,
إذا كان هؤلاء هم رموز دولة المخابرات فأين كنت أنت يا زعيم الأمة !
وإذا كان هؤلاء جميعا ـ بحكم الوظيفة ـ تحت رياستك , فكيف ساغ لك تحمليهم المسئولية دونك !

ولأن النظام الإشتراكى ـ كما قلنا ـ نظام ضد العقل ,
فكان من الطبيعى أن تكون المجموعات قرينة السلطة منعدمة الموهبة والكفاءة في أى مجال ,
إلا أن مجموعة عبد الناصر التي كانت تحكم مصر فاقت جميع التوقعات في هذا الصدد !
وظهر هذا واضحا عندما اختلفوا ,
وعندما يختلف اللصوص يظهر المسروق على الفور ,
ولهذا ما كان لنا ولا لغيرنا أن يعرف شيئا من فضائح هذا العهد ـ بسبب التكتم الشديد والسيطرة المطلقة ـ لولا أن تكفل أصحاب هذا العهد نفسه بفضح بعضهم البعض في مراحل صراعاتهم على السلطة
فقد تولى عبد الناصر كشف حكومة المخابرات التي حكم بها عبد الحكيم عامر البلاد وأشاع فيها الفساد في كل مكان , وتولت صراعات مراكز القوى في كشف بعضهم البعض فتسببت مجموعة شعراوى جمعة وسامى شرف ومحمد فوزى بكشف على صبري , ثم جاء السادات ففضح ممارسات مجموعة الثلاثي المرح !
ثم تكفل السادت نفسه بإتاحة الفرصة لكشف عصر عبد الناصر كله عبر كتابات الضحايا
ثم جاء محمد حسنين هيكل فكشف فضائح عهد السادات بكتابه ( خريف الغضب ) ..
وهكذا مضت الدائرة الجهنمية لتظهر الصورة الكاملة لنظام ثورة يوليو ..
ورغم ظهورها إلا أن الناس لا تقرأ ولا تستوعب !

وعودة إلى مجموعة على صبري ورفاقه من أباطرة الحكم الناصري والذي قلنا أنها تفوقت على نفسها في حماقة الأداء وتسرعه فعندما دخلت المجموعة صراعا مع السادات على السلطة تآمرت عليه بهدف إزاحته ,
فإنها لم تستطع الإستفادة من عوامل القوة الرهيبة التي كانت تتيح لها الإطاحة بالسادات بغمضة عين , ومنحت الفرصة للسادات على طبق من ذهب لكى يطيح بهم دفعة واحدة إلى غياهب السجون جنبا إلى جنب مع ضحايا العهد الناصري
فقد كانت المجموعة ـ للغرابة ـ تمتلك الجيش ممثلا في الفريق أول محمد فوزى وزير الدفاع , وتمتلك التنظيم السياسي الوحيد في البلاد ممثلا في على صبري أمين اللجنة المركزية , وتمتلك الشرطة ممثلة في وزير الداخلية شعراوى جمعة , وتمتلك الحرس الجمهورى وشئون معلومات الرياسة ممثلة في سامى شرف وزير الدولة لشئون الرياسة , وتمتلك وزارة الإعلام ممثلة في محمد فائق وزير الإعلام , وتمتلك جهاز المخابرات العامة ممثلا في اللواء أحمد كامل مدير المخابرات !
أى أن السادات ببساطة لم يكن يمتلك من السلطة أو يمارسها في الدولة إلى على زوجته !

ورغم هذا وعندما فكرت المجموعة في الإنقلاب على السادات , وبدلا من اعتقاله أو عزله ـ وكان هذا متاحا ـ دخلوا مع السادات في مواجهة شعبية وأرادوا أن يحرجوه بطريقة ساذجة عندما قدموا جميعا استقالاتهم في وقت واحد ,
وكانوا يهدفون من وراء ذلك إلى إحداث انقلاب دستورى في البلاد ينجم عنه ثورة للجماهير !!!

وبالقطع كانت عقول هؤلاء الزمرة في إجازة دائمة !
فقد صدقوا أنفسهم وظنوا أنهم بالفعل في دولة دستورية يمكن أن تهتز باستقالة كبار المسئولين , لكن دافعهم إلى هذا التصرف كان بسبب محدودية التفكير المطلقة التي كانت تتحكم فيها ,
فجميعهم تعود أن يعيش في ظل عبد الناصر ولهذا لجئوا إلى تكرار ما ظنوه الطريقة المجربة , وقدموا استقالاتهم على أمل أن الشعب سيخرج للهتاف بعودتهم كما فعل مع عبد الناصر في خطاب التنحى !
وبالطبع انتهز السادات الفرصة ووقوف هيكل إلى جواره وقام باستمالة قائد الحرس الجمهورى الفريق الليثي ناصف والفريق محمد صادق رئيس أركان حرب القوات المسلحة وتمكن من اعتقالهم جميعا ثم أعلن في مجلس الشعب بطريقة سياسية ماكرة ما سماه بحكم مراكز القوى وقام بفضح ملفاتهم جميعا في خطاب علنى ليخرج السادات منتصرا في هذه الجولة , [1]
فقد كان صاحب دهاء سياسي متمرس وتمكن من الحفاظ على عقله وطموحاته في عصر عبد الناصر عن طريق الصبر والصمت والطاعة العمياء حتى حانت اللحظة المناسبة ليكشف عن وجهه الحقيقي !

والسؤال أو الهدف من هذه القصة هو معرفة سبب الغباء اللامحدود الذى تصرفت به مجموعة مراكز القوى , والسبب يقع في المقام الأول أنهم كانوا تلاميذ مرحلة الإشتراكية !
والمرء يكفيه أن يكون اشتراكيا في الصباح لكى لا يأتى عليه المساء إلا ومصاب بالحماقة
فكانوا مفرغين عقليا تماما من القدرة على التصرف المنفرد , ولهذا جاءت وفاة عبد الناصر ضربة قاضية كادت تطيح بعقولهم ووجهتهم بعد ذلك إلى تصرف لا يرتكبه إلا القرويون السذج ,
وقد كشفت تحقيقات النيابة العامة في قضية مجموعة 15 مايو أن سامى شرف ومحمد فوزى وشعراوى جمعة كانوا يحضرون بانتظام جلسات تحضير أرواح يقوم بها وسيط روحانى يقوم بتحضير روح عبد الناصر لكى يسألها المجموعة كيف يتصرفون وعلى أى وجه يتعاملون مع الأحدث !!
ولك الله يا مصر !
فهؤلاء الذين يفعلون ذلك هم أعمدة وأركان الحكم في مصر بتلك الفترة , ومن يطالع محاضر التحقيقات التي احتوت على تفريغ لأشرطة التسجيل التي تمت لجلسات تحضير الأرواح يصاب بالذهول مما يسمع ,
لأن التسجيلات توضح بشكل قاطع أن هذه المجموعة كانت مبرمجة بوجود عبد الناصر وغير قادرة على استيعاب رحيله
فعلى سبيل المثال كان الفريق أول محمد فوزى وزير الدفاع في تلك الفترة والقائد العام للقوات المسلحة والذي من المفروض أن يعد الجيش لقيادته في معركة التحرير يسأل الروح بعد أن حضرت فيقول : [2]
( هل خطة الحرب التي وضعتها بذهنى صالحة للمعركة وما هو التوقيت المناسب لها !! )
ولنا أن نتخيل أى مصير كان ينتظر الجيش المصري لو تولى قيادته في حرب أكتوبر الفريق محمد فوزى !!!
ومن عجائب التصرفات حقيقة أن هيكل كان أحد المصادر التي فضحت حكاية تحضير الأرواح نظرا لأنه وقف مع السادات ضد مجموعة مراكز القوى وكان هذا في بداية تضامنه مع السادات في بداية حكمه قبل أن ينقلبا على بعضهما البعض في عام 1974 م ,
وداعى الدهشة هنا ..
أن هيكل لم ينتبه أن يفضح عبد الناصر بفضح رموز عهده بهذا الكلام ,
ولم ينتبه لهيكل لذلك وهو يحاول أن يبرئ عبد الناصر بطريقة بالغة السذاجة عن طريق الطعن في رموز الحكم في عهده سواء مجموعة عبد الحكيم عامر أو مجموعة على صبري ,
إذ كيف كان عبد الناصر بريئا وهؤلاء جميعا من أركان حكمه ,
فإما أنه كان رئيسا بالإسم , ( وهذا صحيح بالنسبة لموقف مجموعة عبد الحكيم عامر إذ لم يملك عبد الناصر سلطانا فعليا للخلاص منهم )
وإما أنه كان متواطئا وعارفا وسامحا بهذه التجاوزات في نظير ولاء هذه المجوعة له وضمانه بعدم خيانتهم له , ( وهذا ما تحقق أيضا في حالة مجموعة على صبري التي كان يطمئن لها عبد الناصر واستمرت تحكم البلاد حتى وفاته )
وعليه ..
فإن النظام الإشتراكى القومى العسكري في مصر , تمكن من إحداث تغييرات إجتماعية وسياسية وأخلاقية رهيبة في المجتمع , وتحول المجتمع بكل صنوفه إلى نوع من مضحكى السلاطين وشاع النفاق السياسي لدرجة مرعبة ,
وفرغت الساحة تماما من ذوى العقول وأهل الخبرة لصالح أركان النظام الحاكم
ومع شيوع النفاق والقهر بالمقابل ..
ضاعت الإرادة وضاعت معها الأخلاق , فالأخلاق لا تتجزأ ,
وعاشت مصر في ظل هذا العصر رهينة في يد أبنائها , حتى أفاقت على نكسة مروعة ,
نكسة لم تكن في صورتها الواضحة هزيمة عسكرية أو سياسية فحسب ,
بل كانت النتيجة الطبيعية للخيار الإنقلابي الذى فرضته ثورة يوليو وتوجهات القومية والإشتراكية ,
وهذه هى الأسباب الأصلية والرئيسية التي تنبنى عليها أحداث النكسة ,
لأنه من السطحية الشديدة أن نظن بأسباب النكسة مجرد أسباب عسكرية أو تفوق نوعى للعدو ,
وهذه الأسباب والإدراك الكامل لخبايا الصراع بيننا وبين الغرب , هى الأصول الواجب مراعاتها عند معالجة وقراءة أحداث النكسة , وأحداث حرب أكتوبر 1973 م
فلولا أن النظام المصري في هذا العهد كان على هذه الشاكلة لما حدثت النكسة بهذا الشكل المروع ,
وهو ما أفصحت عنه أحداث وتفاصيل يوميات النكسة نفسها ,
فإسرائيل ـ في أصل خطتها ـ ما كانت تطمح أو تظن بنفسها القدرة على اجتياح سيناء كلها بلا مقاومة , بل كانت الخطة مقصورة على الوصول للمضايق والسيطرة على شرم الشيخ
لكنها فوجئت بالإنهيار المزرى للجيش وانسحابه الفوضوى جريا إلى القناة فأتمت احتلال سيناء !
ولم يكن بظنها ولا ضمن خطتها أن تُتم تدمير الجيش المصري وتسليحه في مثل هذا الوقت القياسي ولهذا وجدت في نفسها القدرة والكفاءة لاجتياح الجولان السورية أيضا رغم أن الجولان لم تكن في الخطة أصلا وصدر قرار وقف إطلاق النار يوم 9 يونيو والجولان بعيدة عن الأحداث ,
حتى أصدر موشي ديان أمره باقتحام الجولان لتتم القوات الإسرائيلية احتلالها في 24 ساعة ,
وفى الجانب الأردنى استولت إسرائيل على الضفة الغربية بلا خسائر تقريبا وبنفس الطريقة !!
في نفس الوقت الذى كانت الجرائد المصرية الكبري ـ بوق النظام ـ وإذاعة صوت العرب الشهيرة تبث طيلة الأيام من 5 إلى 9 يونيو بيانات خيالية عن المعارك الضارية التي تخوضها الجيوش العربية الموحدة تحت قيادتها القومية الرشيدة !
وظهرت عناوين الأخبار والأهرام والجمهورية تقول ( إنه يوم التضامن العربي والقومية العربية )
وأسقطت البيانات من الطائرات الإسرائيلية أسرابا وأسرابا !!
حتى ظنت الجماهير أن القوات المصرية على أبواب تل أبيب كما كانت تبشرها دعاية نظام عبد الناصر والإتحاد الإشتراكى الذى ملأ الشوارع في القاهرة والمحافظات بلافتات كثيفة تبشر بالنصر المنتظر وتقول :
( عند العقبة .. قطع الرقبة ) و ( حنحارب .. حنحارب ) و ( إلى تل أبيب .. ) و ..... الخ

ولهذا نقول أن الإنجاز الإسرائيلي لا يُحتسب لتفوقه بل يُحتسب في الأصل للحالة المزرية التي وصلت إليها المنطقة العربية تحت قيادة النعرات القومية ,
وكانت الصدمة بشعة .. بل بالغة البشاعة على المجتمع العربي الذى هانت فيه بوقوع النكسة .. كل القيم ,
فعندما اكتشفت الجماهير الكذبة الكبري التي عاشتها طيلة هذه الأعوام ..
كان من الطبيعى أن تهون كل القيم وتسقط كل المبادئ وتصبح الشعارات الزائفة دليلا قاطعا على زيف الحياة بأكملها ,
وتحول المجتمع تحولا أخلاقيا بالغ الخطورة عندما انتشر بين الناس يقين دامغ أن كل من يدعى المبادئ والأخلاق والنضال والصمود والتصدى .. هو باهت كاذب مدعى ,
وهذه ردة فعل طبيعى تطبيقا للمثل المصري الشائع ( اللى اتلسع من النار .. ينفخ في الزبادى )
ومع غياب القيم الدينية التي كانت تُعلى قيم الصدق وعدم اتخاذ فساد المجتمع ذريعة لممارسة الفساد ,
عمت أزمة الأخلاق مصر والعالم العربي بعد نكسة يونيو التي لا زالت آثارها باقية حتى يومنا هذا !


وللحديث بقية


الهوامش :

[1] ـ خريف الغضب ـ محمد حسنين هيكل ـ الطبعة المصرية الكاملة للأهرام

[2]ـ لمطالعة محاضر التحقيق يرجى مراجعة كتاب ( الحكومة الخفية )ـ اللواء جمال حماد ـ دار الزهراء للإعلام

 
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )

لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة ؟!


عندما نحب أن نتقصي فترة الخط الناصري فلا يوجد طريق إلا عبر كتابات الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل ,
وهذا لسبب جوهرى ..
فهو ـ لمن لا يعلم ـ صانع الصياغة الفكرية لثورة يوليو ومؤسس الفكر الناصري ومهندس التحولات الكبري التي جرت في عهد عبد الناصر بلا منازع ,
كما أنه الصانع الحقيقي لبرنامج الثورة عبر مراحله المختلفة وهو الذى تمكن من سد النقص الهائل في الفكر بعد اكتشاف الثوار الجدد أن البلد سقطت في أيديهم كثمرة طازجة ,
فكان هو المؤلف الأصلي لكتاب ( فلسفة الثورة ) والذي تم نشره باسم جمال عبد الناصر واحتوى على بعض القوميات الحماسية التي تشرح فكر عبد الناصر , وهو الأمر الذى جذب النقد اللافت من بعض المفكرين , إذ كيف يشرح أى زعيم برنامجه علنا أمام أعدائه وأصدقائه وكأنما يدعوهم لمعرفة خطه الفكرى ويعاونهم على ذلك !
ولهذا قال توفيق الحكيم أنه في بداية الخمسينيات كانت الجهات التي تتولى توزيع كتاب ( فلسفة الثورة ) في الخارج سفارتان هما السفارة المصرية والسفارة الإسرائيلية ,
وهذه الأخيرة
كانت توزعه لتنبيه الغرب الأوربي أن زعيما جديدا من طراز هتلر قد ظهر في الشرق ! [1]
كما كان هيكل هو مؤلف وصانع ( الميثاق ) وهو بمثابة قرآن الإشتراكيين الجدد , كذلك كان هيكل هو صائغ بيان 30 مارس الذى خرج به عبد الناصر على الشعب عقب النكسة !
كذلك كان هيكل هو كاتب خطب سائر خطب الرئيس عبد الناصر , وصانع توجهاته السياسية بلا مبالغة , وأخيرا كان هو المهندس الإعلامى لشخصية عبد الناصر وصانع هالته الأسطورية في العالم

ولأستاذنا الكبير هيكل كتاب عن ثورة يوليو بعنوان ( سقوط نظام ـ لماذا كانت ثورة يوليو لازمة ) وهو الكتاب الذى تأخر عن موعده قرابة الخمسين عاما !
كتب فيه الأستاذ مبررات قيام الثورة ودمغ كتابه كعادته بالوثائق اللازمة للبحث والذي ينتهى بالقارئ إلى إدراك أوضاع مصر في تلك الفترة الحرجة التي سبقت قيام الثورة واتسمت باضطراب وعدم استقرار الحكم ,
ولا يصل الكتاب لتقييم التجربة , بل اكتفي الأستاذ هيكل بالوقوف عند نقطة البداية , وكنا نطمح منه أن نرى منه التقييم المنطقي للتجربة ونتائجها , لا سيما وأن كتابه عن النكسة وحرب السويس كان معالجة للأحداث بأكثر مما هو نقد تقييمى
والذين يكتبون عن بدايات يوليو عامة يتلاشون أخطائها أو أكبر أخطائها ويركزون على ما يعتبرونه انجازا يسمح باعتبار قيام ثورة يوليو العسكرية نقطة تحول إيجابية في حياة هذا الوطن المكدود ,

لكن فاتهم جميعا نقطتان ,
وهما كفيلتان بقلب الميزان لنصل إلى الحكم الصحيح وهو أن السلبيات طمست أى معالم تبدو للإيجابيات مهما كانت في عيون أصحابها إنجازا ,
ذلك أن النتائج السياسية والإجتماعية والإقتصادية والفكرية لنظام يوليو ـ المستمر إلى يومنا هذا بصبغة الحكم العسكري ـ تعتبر تحولات نزعت العالم العربي من موضع التأثير في العالم لتدفعه إلى موضع التأثر من طوب الأرض !
ومن ثم ..
فالذى يكتب عن أحداث ما قبل الثورة ويقف عند نقطة الإنجاز المتمثلة في إنهاء عصر الإضطراب السياسي , لا شك أن معالجته تفتقر إلى الموضوعية تماما ,
ذلك أن العبرة بالخواتيم ..
فربما صلحت البدايات .. ولكن العبرة بالنهايات ..
فطالب العلم يُحاسب على ما تضمنته ورقة إجابته من إجابات صحيحة , لا على جهده في الإستذكار طيلة العام !
ولهذا فالحديث عن تأميم القناة وبناء السد العالى والمن بهما على الأمة في مقابل سكوتها عن الآثار الفادحة التي خلفتها الثورة , يعتبر حديثا يليق بمعتنقي الخيال وعُبّاد الأشخاص لا مفكرى الشعوب
ذلك أن المقابل كان أكبر مما يحتمله أى شعب وأغلى من أى انجاز ,
ومن غريب الأمور ..
أن أستاذنا الكبير هيكل ـ على عادته ـ عند الحديث عن أنظمة ما بعد عبد الناصر يُـغفل المقارنة والصلة بين العصور المتوالية المترابطة
فقد وقف مثلا وقفة صحيحة لمحاولة منافقي العصر الحالى تصوير حرب أكتوبر على أنها كانت متمثلة في الضربة الجوية وحسب واعتبارها هى مفتاح النصر أو النصر كله لمجرد أن مبارك كان قائد الطيران في حرب أكتوبر !
وعلق هيكل بأن هذا اختزال للأحداث فضلا على أنه لا يمثل أى فضل , لأن ضربة الطيران مهما بلغت براعتها لا تعدو كونها تنفيذا محكما لأداء وظيفي !
أداء واجب وظيفي حتمى لا يُشكر مؤديه بينما يُلام المقصر فيه ,
وهذه بلا شك هى طبائع الأشياء ,

لكن الكارثة أن الأستاذ هيكل يتجاهل هذا المقياس عند تقييم الثورة والفترة الناصرية ,
فليت أنه اكتفي بعزو كل إنجاز لشخص عبد الناصر , بل إنه تكفل بإختراع بعض الإنجازات للعهد الناصري عن طريق اقتلاع وصف الإنجاز وسحبه على تصرفات كارثية مثل حرب اليمن وقوانين الإصلاح الزراعى وغيرها
أما بقية منجزات العصر..
فتأميم القناة وبناء السد العالى وحفظ حقوق مصر الإقتصادية كلها ـ وفق مقياس هيكل الأول ـ واجبات لازمة على نظام الحكم في أى مرحلة , فإن أداها على أكمل وجه فقد أدى واجبه وإن قصر فيها فليس له عذر أو اعتذار ,
وبالتالى ليس من المنطق في شيئ أبدا أن يكون الرد على انتقاد نظام يوليو مشفوعا بالمن في قناة السويس أو بناء السد العالى ,
فمصر لن تموت لو أن السد العالى لم يبن أو أن القناة لم يتم تأميمها ,
لكنها ماتت بالفعل في نكسة يونيو بضياع ثلث أراضيها وشرف جيشها العسكري , وماتت بتغيير التركيبة الإجتماعية وترسيخ حكم الفرد وقتل المعارضين في المعتقلات والسجن الحربي وتحكم زمرة لا تزيد عن العشرات في مصير البلاد والعباد
وماتت إلى اليوم إرادة التغيير والتبادل السلمى للسلطة ـ بسبب ما أرسته فترة العسكريين ـ وأصبح الحديث عن تبادل للسلطة في عصرنا الحالى ضرب من ضروب الخيال كالحديث عن الغول والعنقاء والخل الوفي !
وهذه وحدها تكفي ..

فالعبرة ـ كما قلنا ـ للحكم على أى تجربة بالفشل أو النجاح إنما يكون بالنظر إلى النهايات ,
فلن تجد أحدا في العالم يذكر هتلر ولا يستدعى إلى الذاكرة سقوط برلين في يد الحلفاء !
ولو أن ألمانيا قام بتمجيد هتلر اعتمادا على أنه غزا فرنسا فسيتهمونه بالجنون حتما لأن غزو فرنسا لم يكن نهاية المطاف بل كانت نهاية المطاف سقوط ألمانيا نفسها وتدميرها وانتحار هتلر !
كذلك لن تجد من يذكر نابليون ولا يستدعى للذاكرة معركة ووترلو ,
بينما بالعكس ,
لن تجد أحدا يستدعى للذاكرة ونستون تشرشل إلا ويذكر معه نصر بريطانيا في الحرب العالمية الثانية رغم دمارها الماحق بفعل الطيران الألمانى طيلة أعوام الحرب
ولن تجد بريطانيا ينتقد تشرشل لأن بداياته كانت بالهزيمة والانسحاب من فرنسا .. فالعبرة بالخاتمة ,
وبالمثل ..
كيف يمكن أن يُذكر عبد الناصر دون أن تذكر معه نكسة يونيو !
وكيف يمكن أن يذكر عبد الناصر دون أن يذكر معه الظروف الضاغطة التي خلفتها فترة حكمه حتى يومنا هذا ؟!
فالأمر لم يقتصر على الهزيمة العسكرية المروعة , بل كانت الهزيمة العسكرية أهون الكوارث كما سنرى ..
فالهزيمة تم ردها بنصر عسكري مؤزر ـ وللغرابة أن الناصريين يشككون فيه لمجرد أن عبد الناصر لم يشهده ـ ولكن ماذا عن بقية العوامل التي تسببت في النكسة ,
هل انتهت من البلاد ؟!
ولو لم يكن للنكسة ونظامها غير جريمة تحويل المجتمع المصري فكريا وإعادة تدوير العقول لتصبح كعقول السائمة .. لكفي

إذا تأملنا مصر اليوم في ظل تجربة يوليو ,
سنجد أن السلبية الوحيدة التي ارتفعت هى رد الأرض المحتلة باسترداد سيناء ,
وحتى هذا الإنجاز لم يتم على يد عبد الناصر أو الناصريين أو العهد الإشتراكى بل تم في عهد السادات ألد أعدائهم
لكن حكم الفرد لا زال قائما لليوم وتتحرك جموع الشعب بشتى أنواع التحرك السلمى بلا فائدة ,
ولا زالت مظهرية الأحزاب وهشاشتها تعكس واقعا سياسيا رديئا لم تفلح الأصباغ في تجميله ,
ولا زالت البلاد تحت حكم عصبة من نفر معدود لا تتجاوز نسبتهم خمسة بالمائة والباقي تحت خط الفقر
ولا زال القرار يؤخذ في غيبة المؤسسات الدستورية التي تعمل كخاتم اعتماد فقط لقرارات مسبقة ,
ولا زال هناك حزب واحد يسيطر على مقاليد الأمور دون منازعة أو أمل في منازعة ,
ولا زالت صحف الدولة تعمل كدوائر حكومية تابعة للسلطة تلف وتدور حولها .. وتتحدث عن إنجازات تبدو لنا كالفيروسات لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة ,
ومصر في البيانات الحكومية الرسمية تجعل المرء يظن أنها أقوى اقتصادا من الولايات المتحدة !!
فأين هذه المظاهر مما بشرت به الثورة من إقامة عدالة إجتماعية أو إقامة نظام ديمقراطى ؟!
وربما قال قائل أن هذه التغيرات سببها السادات وسياسته , ونحب أن نذكر القائل بهذا أن هذه المظاهر جميعا كانت بأفدح صورة في عصر عبد الناصر ,


الهوامش :
[1] ـ عودة الوعى ـ توفيق الحكيم ـ دار الشروق
 
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )

بل على العكس فعصر السادات ومبارك اتسمت فيه الأجواء بكثير من الهدوء وها هى صحف المعارضة تناولت نظام الحكم بالتشريد والتجريح ومع ذلك لم يُعتقل أصحابها أو يقتلوا أو يصلبوا إلى جذوع النخل باعتبارهم من المفسدين في الأرض !
بل أين هذه المظاهر من عهد الإحتلال الإنجليزى نفسه , وعهد الملكية الذى قامت عليه ثورة يوليو ونعتته بشتى أوصاف الإحتقار باعتباره العهد البائد !
فنظرة واحدة إلى تاريخ مصر الدستورى منذ نوبار باشا ومقارنته بعهد يوليو تكشف عن كثير !


فأين هى الثورة التي جاء هيكل بعد خمسين عاما ليتحدث عن مبرر لزومها وضرورة حدوثها !
إن الأحداث التي شرحها هيكل لا تنم إلا عن نظام سياسي فاسد استوجب التغيير ,
لكن الكارثة أن التغيير لم يأت بالشعب ولم يقتصر على النظام الفاسد بل امتد التغيير إلى انقلاب شامل إلى الأسوأ ,
فبدلا من أن تعانى مصر من نظام سياسي فاسد أصبحت تعانى من نظام فاسد .. ولكن بلا أى سياسة !!
لهذا نقول أن هزيمة يونيو ـ لهذه الأسباب ـ كانت هى اللازمة , وليست ثورة يوليو ,
لأن حدوث النكسة ليس هو المفاجأة ـ كما تُصوره بعض الكتابات ـ بل على العكس كان عدم حدوثها هو المفاجأة الحقيقية , لأن ظواهر توقعها كانت بادية للعيان لولا العمى السياسي الذى فرضته أجواء الحظر ! ولولا تجريف العقول عبر جرافات الإعلام في تلك الفترة
وألم النكسة مهما كان عميقا ..
إلا أنه كان لازما لضرورة اليقظة , فالألم الحاد رغم الأوجاع التى يتسبب فيها للجسم إلا أنه يقوم بالدور الجوهرى للحفاظ على الحياة لكونه يحمل الإنذار فى الوقت المناسب كى يتخذ المريض التدابير بمعالجة نفسه قبل فوات الأوان


وربما وصل للقارئ انطباع ـ بعد حديثنا عن نهايات يوليو ـ أن البدايات كانت مشرقة ,
لكن هذا ضد المنطق أيضا وضد وقائع الأحداث ,
فالبدايات بشرت بالكثير لكن الآذان كانت مغلقة , والعيون استبدلت الرمد بالرماد !
وهيكل يغضب كثيرا لذكر النكسة ومناقشتها ويحلل ما يراه من استعادة هذه الأحداث على أنه ـ عقدة هزيمة ـ وعقدة الهزيمة ـ كما تحدث عنها هيكل ـ مرض يسعى إليه أى شعب لإيقاع الشعب العدو فيه وإسقاط أرادته
وبالتالى يعتبر هيكل أن الحديث عن النكسة الآن والألم الشديد لوقائعها واستعادتها للذاكرة هو شيئ من عقدة الهزيمة التي يجب أن ترتفع عن هذه الأمة كى تتقدم ,


وفى الواقع فقد فاتت عدة نقاط على الأستاذ الكبير نبينها فيما يلي ..
أولا : عقدة الهزيمة بالفعل مرض نفسي عضال يصيب بعض الشعوب إزاء مواجهة أعدائها المزمنين ,
وبالتالى فإن أى شعب يستسلم للهزيمة ويصاب بعقدة منها يعطى لعدوه أكبر المكاسب ,
لكن من قال أصلا إننا نعانى من عقدة الهزيمة لمجرد حديثنا عن النكسة وتحليلنا لوقائعها ؟!
إن هيكل يتعمد ـ في سبيل الحفاظ على صورة عبد الناصر ـ في الخلط بين ما يفعله الكُتاب والمحللون وبين عقدة الهزيمة التي يتحدث عنها , لأن الشعب المصري رفع هذه العقدة فعليا بانتصار أكتوبر , ولو كانت عقدة الهزيمة موجودة فظواهرها وأعراضها لا يمكن أن تكون بحديثنا عن مساوئ نظام عبد الناصر ,
بل على العكس يكون الحديث ـ عندئذ ـ من جراء العقدة التي أصابتنا حديث عن تفوق العدو وتضخم قدراته إلى الحد الذى يجعلنا نتخوف من أى مواجهة معه
فهل حدث هذا ؟!
لا يوجد كاتب واحد تحدث ـ مع ذكر النكسة ـ بتمجيد إسرائيل أو المبالغة في قدرتها بل على العكس نعانى في العالم العربي استهانة بقدرات العدو تتمثل في مطالبة الشعب ـ مع أى تطور في الأحداث ـ بالحرب العاجلة مع إسرائيل
فأين العقدة إذا ؟!
ويؤمن الشعب المصري والعربي بل ـ والإسرائيلي ـ أنه تلقي هزيمة مريرة لا يزال مصابا بعقدة منها هى هزيمته في حرب أكتوبر وتعبر عن ذلك في وضوح كتابات الإسرائيليين في ذكرى انتصار أكتوبر كل عام ؟!
فمن الذى أصابته العقدة .. نحن أم هم ؟!


ومن عجائب القوميين أنهم يقفون مع الإسرائيليين جنبا إلى جنب في إصابة كليهما بعقدة نفسية من جراء انتصار أكتوبر , أما الإسرائيليين فموقفهم مفهوم , وأما القوميين فبسبب أن القائمين على هذا النصر كانوا من نظام معاد للتوجه الناصري !
ولهذا فهيكل وحسين الشافعى وسامى شرف وغيرهم يعتبرون نصر أكتوبر نصرا مخذولا ! , وقد كتبوا بالفعل في اعتبار أكتوبر هزيمة لمصر والعرب .. هكذا بدون حياء لمجرد غياب عبد الناصر عن صورة الحدث !
ولا يستغرب هذا الإتجاه منهم وهذا الموقف من أول وآخر انتصار عربي حقيقي , لأن القوميين من الأصل يعبدون الشعارات ولا يهمهم التنفيذ , ولا يبحثون إلا عن المكاسب الإعلامية دون مقابل .. هكذا تعلموها في مدارس الستينات


ثانيا : يضرب هيكل المثل بسقوط فرنسا في الحرب العالمية الثانية , وكيف أنها لم تقع رهنا لعقدة الهزيمة ـ رغم السقوط المدوى ـ واستمرت الحرب حتى تحررت وانتهت تلك الحقبة ,
لكن هيكل هنا أغفل بندا شديد الوضوح يصنع فارقا ضخما فى المقارنة , ولهذا فهذا المثال لا يجوز القياس عليه ,
ففرنسا سقطت بعد أن أدت قيادتها وجنودها واجباتهم كاملة , ولم تنلهم الهزيمة عن ضعف أو خور أو خيانة أو تآمر ..
ولم يبشروا الشعب الفرنسي بأنهم سيفنون ألمانيا من الوجود .. ثم فروا من المواجهة كقطيع الماعز ,
بل نالتهم الهزيمة بسبب التفوق الألمانى في ميدان القتال , ونالتهم وهم حاملين لأسلحتهم ,
وهذا التفوق أمر نسبي ..
فلا توجد جيوش منتصرة على طول الخط ولا توجد أيضا جيوش منهزمة على طول الخط
فاستمرار المقاومة بفرنسا دون إعادة التذكير بما حدث من سقوط سببه أن كل فرد أدى واجبه كاملا ,
لكن عندنا في مصر وفى نكسة يونيو لم تحدث حرب أصلا .. فكيف جاءت الهزيمة ؟!
جاءت الهزيمة من أنفسنا وبمسئولية القيادة السياسية والعسكرية التي مرغت أنف الأمة في التراب , من هنا كان من اللازم والضرورى تمحيص الأسباب وتذكرها دائما أبدا .. لا سيما وبعض ظواهرها لا زال موجودا إلى اليوم ,
فهل ـ لأجل خاطر الناصريين ـ نغض الطرف عن هذه الظواهر رغم تعلقها بالماضي والحاضر ؟!
كيف يكون هناك أمل في إصلاح المستقبل إذا ؟!
وما هى فائدة مراجعة التاريخ التي لا يمل الأستاذ هيكل من ترديدها والحض عليها ؟!
وكيف نفعل ـ حتى يرضي الأستاذ ـ إذا ما جاء الدور لتذاكر النكسة ووقائعها ؟
هل نقول مثلا أننا انتصرنا أو تعادلنا في الحرب لكى لا نكون مصابين بعقدة الهزيمة ؟!
أم نقول مثلما قال هو في أيامها .. أنها نكسة عابرة وليست هزيمة !!


ثالثا : الحديث عن أى هزيمة مرحلية في حياة الشعوب لا يعنى أبدا أن هذه الأمة مصابة بعقدة هزيمة , لا سيما إن كانت الجولة الأخيرة في صالح تلك الأمة ,
وقد غفل الأستاذ هيكل أنه في إحدى مقالاته بمجلة وجهات نظر تحدث عن بعض الكتب الجديدة التي وصلت إليه مع بدايات الألفية الجديدة وكان منها كتاب لمحلل فرنسي خصصه لفترة سقوط فرنسا في يد الألمان ضمن أحداث الحرب العالمية الثانية ,
ولم يتهم هيكل هذا المؤلف أنه مصاب بعقدة الهزيمة رغم أنه يتحدث عن هزيمة فرنسية أعقبها نصر فرنسي ساحق !
كذلك لم يعب عليه هيكل تأثره وتخصيصه الكتاب لتلك الفترة وحدها ـ دون أى ذكر لفترة النصر ـ رغم مرور ستين عاما على تلك الهزيمة , !
فلماذا يعيب هيكل الحديث عن النكسة وقد أعقبها إنتصار أكتوبر ؟!
ولماذا يعيب هيكل هذا الحديث رغم أن النكسة لم يمض عليها إلا أقل من أربعين عاما ؟!
والأهم من ذلك :
فالكاتب الفرنسي كان يتحدث عن هزيمة انتهت أسبابها من أرض الواقع الفرنسي نهائيا منذ ستين عاما , بينما نعانى نحن في عالمنا اليوم من آثار النكسة ونظام يوليو
ومع ذلك فلم يعب عليه هيكل , وعاب على من ينبه ويستقصي ,


رابعا : غفل هيكل عن أهم مبرر يدفعنا للحض الدائم للبحث في تاريخنا المعاصر , لا سيما تاريخ الإنهزامية , ليس فقط لأننا نعانى في واقعنا الحالى من آثاره وحسب ,
بل للسبب الأكثر أهمية ,
وهو أن هيكل نفسه ـ مع الأسف الشديد ــ وبقية كُتّاب العهد الناصري صاغوا التاريخ وقدموه مشفوعا بتحليلات جعل للمصائب والكوارث غلاف من السكر يدارى مرارتها ,
ويطلب من الأجيال الحالية أن تبتلع هذا التاريخ الـمُـعلب لمجرد أنه اقترن باسم عبد الناصر ,
وفى المقابل جاء كُتاب النظام الساداتى ففعلوا نفس الشيئ فجمّلوا وبرروا ..
وهكذا ورثنا ـ نحن الأجيال المعاصرة ـ تاريخا عجيبا بين وقائع تاريخ الأمم , تجد فيه الرأى ونقيضه عند كُتاب نفس الجيل , وليس هذا على سبيل الإستثناء مثلا ,, بل كان هذا هو الأصل ,
فلا يوجد على الساحة ـ حتى يومنا هذا , كتاب واحد تعرض لمعالجة التاريخ المعاصر بتجرد وحيادية وقدم الحقائق للتاريخ , بل شملت الكتابات جميعا آفة الهوى والتحليل
فصار لزاما على هذا الجيل المعاصر ـ هذا الجيل البائس الذى ورث النكبات وحُرم الجوائز ـ أن يستقصي لنفسه ويعيد كتابة التاريخ المعاصر بتحليلات حيادية بعيدا عن الإنتماءات الفردية لعبد الناصر أو للسادات أو غيرهما
ومن العجائب أن هيكل يتباكى على جيلنا ـ كما قال في مقدمة كتابه بين الصحافة والسياسة ـ لأن الحقائق تضيع عن هذا الجيل بسبب أنهم لم يكونوا في قلب الحدث ويروا بأنفسهم ليكتشفوا تزوير الأحداث !!
سبحان الله .. هذا كلام هيكل !
والذي لولا وجوده في فترة العهد الناصري لما خفت الحقائق عن الشعب العربي كله , ولما سلم هذا الشعب المقهور نفسه إلى أيدى الحواة المهرة الذين أقنعوه بالأمجاد الوهمية في كذب مفضوح , ولما سرقوا منه عقيدته وإيمانه وأسلموه للإلحاد !
ولقد اكتشفنا الأكاذيب واكتشفنا كيف كان عبد الناصر يحكم مصر والعرب , من خلال كلام هيكل نفسه وليس من كلام أعدائه , غير أننا عندما قرأنا هيكل كنا نقرؤه ونحن نرتل المعوذتين حتى نكتشف من خلال السطور ما يحاول تجميله !
وعدنا ـ في نفس الوقت ـ إلى أرشيف جريدة الأهرام وطالعنا العناوين التي كانت تخرج على الناس طيلة 15 عاما تبشرهم بأن مصر أقوى ضاربة في الشرق الأوسط وأن تقدمنا أذهل العالم ! , وتبشر الناس بالأسلحة والصواريخ الفتاكة التي تمتلكها مصر , ويعلن أحد العناوين قبيل النكسة بشهور قائلا عن فترة حكم الثورة ( 14 عاما مجيدة ) !!
بخلاف العناوين في أيام 5 و6 يونيو التي خرجت تضلل الناس وتوهمهم بالقتال المستعر في جميع الجبهات , وبالتقدم العربي , وبهجوم بريطانيا وأمريكا مع إسرائيل بجيوشهما !
إن كان هيكل نسي دوره في كل هذا التضليل فنحن لن ننساه
 
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )

خامسا : يتناسي هيكل أنه وبقية القوميين ـ بعد هذا الذى أورثوه للأمة ـ لا زالوا يخرجون من كهوفهم بنفس الأفكار العقيمة وبنفس الإصرار الغريب على تدمير العلاقة بين المسلمين والإسلام والوقوف بشكل عدائي في وجه أى محاولة يقظة تنبه الناس لجوهر دينهم الحقيقي بعيدا عمن يستغلون الدين للظهور .. وبعيدا عمن يريدون إبعاد الدين عن الصورة ,
فماذا يفعل مفكرو الإسلام إلا أن يُذكروا الأمة بمخازى عهد القومية وآثار تجربتها حتى ينتبه الناس في عالم لا يقرأ .. وحتى لا تتكرر المأساة فيجيئ الإصلاح على دبابة بانقلاب عسكري لتدخل مصر الدائرة الجهنمية مرة أخرى !
لا سبيل إلا تذاكر النكسة وأحداثها للرد على دعاوى القوميين التي أصبحت بحق تثير حيرة الحليم , وكأن بينهم وبين الإسلام ثأرا يفوق ثأر اليهود ,
ونحن نجدهم في كتاباتهم يعادون الإسلام الأصيل بالذات , فلا يقفون هذا الموقف من سائر الملل الزائغة مثلا , بل بالعكس يدافعون باستماتة عن الإتجاهات المنحرفة كالتشيع والصوفية الطرقية في نفس الوقت الذى يسنون الرماح على أى دعوة حقيقية للفكر الإسلامى الأصيل

سادسا : ومن الغريب والعجيب أن الأستاذ هيكل لم يطبق على نفسه هذا الأمر عندما أفرد كتابا من جزءين للحديث عن حرب 48 م ..
ولست أدرى ما الذى يميز حرب 67 لكى يحيطها بخصوصية التحذير من ذكرها ؟!
وربما كان حديث الأستاذ هيكل يبدو متدثرا بشيئ من المنطق لو كان عبد الناصر قد حارب بشرف وانهزم في معركته أمام تفوق العدو أو استعانته بالقوى العظمى ,
عندئذ ما كان لنا ولا لغيرنا أن يعيبه بهذه الهزيمة لأنه قاتل وبذل جهده ؟
فهل فعل عبد الناصر ذلك في عام النكسة ؟!
هل كان أمينا مع الشعب المصري والعربي وهو يطمئنهم إلى قوة جيشه بينما هو في الواقع جيش بلا عسكرية !
هل كان أمينا في سياسته وهو يضفي الحماية العنترية على أقطار الوطن العربي ثم يعجز عن حماية حدود بلاده ولو لساعات معدودة أو ينسحب بهزيمة مشرفة ؟!
هل كان أمينا مع أمته وهو يقامر بمستقبل أمة ويعلن الحرب ـ وهو يعلم يقينا أنه غير مستعد لها ـ في سبيل الحفاظ على صورته في الشارع العربي وحتى لا يتهمه الناس بالجبن ؟!
هل كان أمينا مع أمته وهو يتوغل بالجيش في الحرب تلو الحرب خارج الحدود وأمامه العدو الرئيسي بلا أى دفاع في مواجهته وبلا أى تخطيط لهذه المواجهة ؟!
هل كان أمينا مع أمته وهو يولى أهل الثقة مقاليد الأمور في الجيش والبلاد ويسكت عن كل ذلك فلا يتنحى عن سلطته ما دام غير قادر على الحكم ولا يقوم بتنحية العناصر الفاسدة لو كان قادرا عليها ؟!
ومن يتحمل مسئولية عشرين ألف شهيد لم يفتك بهم طيران العدو بل فتك بهم الانسحاب المزرى الذى صدرت به الأوامر تحت رحمة طيران العدو بلا أى دفاع جوى !
وكيف غامر عبد الناصر أصلا بالدخول في مواجهة مع عدو يعتمد على تفوقه الجوى بصفة أساسية بدون أن يمتلك حائطا للصواريخ ؟!!
وهل كان لزاما للنكسة أن تحدث حتى يفيق عبد الناصر فيبدأ ببناء حائط الصواريخ الذى دمرت إسرائيل مراحله الأولى عند الشروع في بنائه وتجاوزت الخسائر 1500 فرد من عمال البناء والعسكريين , وهم يعملون دون غطاء جوى تحت رحمة طيران العدو حتى تم البناء بتضحيات رهيبة
وأخيرا ..
كيف نحكم نحن بحكم التاريخ على قائدٍ .. هذا تاريخه .. وهذا فعله ؟!
وهل يمكن أن يقبل عاقل مبرر حسن النية أو الترصد الخارجى كصك براءة لعبد الناصر كما يفعل القوميون ؟!
وكم تبلغ نسبة الدور الخارجى في خروج سيناريو النكسة على النحو الذى خرجت به ؟!
وبالمقابل كم تبلغ نسبة سياسة عبد الناصر في هذا السيناريو ؟!
ويتباكى القوميون اليوم على القدس .. فمن أضاعها مع سيناء والجولان يا قوم ؟!
وكيف يعيبون على من فشل في استردادها ويغضون الطرف عمن فتح الطريق لاحتلالها من الأصل !
فعبد الناصر الذى تسبب في ضياع سيناء والقدس والجولان والضفة .. نبي من أنبياء القومية ,
بينما السادات الذى قاد على الأقل إحدى معارك النصر .. خائن لأنه اكتفي بإعادة سيناء وحدها ؟!
فالقوميون يشبهون مدمنى المخدرات في هذه الناحية , حيث أنهم يعشقون من يخدرهم ويغيبهم عن الوعى في نفس الوقت الذى يكرهون فيه من يجاهد لعلاجهم ويمنع عنهم المخدر !
ورحم الله الإمام علىّ زين العابدين بن الحسين الذى نجا من وقعة كربلاء بعد أن فتك الشيعة العراقيون بالبيت النبوى ثم جاءوا يتباكون على الحسين , فقال للناس ..
( إن هؤلاء يبكون علينا .. فمن قتلنا غيرهم؟! )[1]

فالخلاصة ..
أن الحكم على نظام يوليو إنما ينبع من خلال تتبع تحقيقها لأهدافها المعلنة التى التزمت بها , وتتبع النهايات والإلتزامات ومن خلال استقراء الإنجازات والأفعال نستطيع الحكم بجلاء ووضوح بعيدا عن الطبول الزاعقة ..
فقد أعلنت الثورة لنفسها أهدافا ستة تتمثل فى القضاء على الإستعمار والإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم , وإقامة جيش وطنى قوى وإقامة حياة ديمقراطية سليمة وإقامة عدالة إجتماعية ,

وبالنظر إلى النتائج نجد ما يلي ,
أولا : تم إخراج الإنجليز ولكن فى مقابل صفقة خسرت مصر بسببها السودان لأول مرة فى تاريخها الحديث منذ عهد محمد على , ومصر وهى تحت الإحتلال الإنجليزى لم يتمكن الإنجليز من انتزاع السودان كدولة مستقلة وظل العرش يضم مصر والسودان فى مملكة واحدة ,
ليس هذا فقط , بل انتهت التجربة وثلث مساحة مصر تحت الإحتلال الإسرائيلي .. والطريق مفتوح أمام العدو إلى القاهرة مباشرة لا يمنعه شيئ إلا اكتفاؤه بما حقق !
ثانيا : تم القضاء على الإقطاع الظاهر وظهر الإقطاع الباطن حيث تم فرض المصادرة العشوائية وتجريف ثروات العائلات شريفها ووضيعها وتركيز هذا كله فى يد زمرة ضيقة من أهل الحكم ,
ثالثا : تم القضاء على السوق الحر وإنشاء المذهب الإشتراكى الذى أوصل مصر إلى مهاوى سحيقة من الفقر لكون الإشتراكية تقتل رغبة الربح ورغبة العمل الحر فصار القطاع العام أشبه بالتكية المجانية ويحتوى على عشرات الآلاف من الموظفين لا هم إلا قبض مرتباتهم بغض النظر عن الإنتاج وهو الطبع الذى عبرت عنه الدراسات الإقتصادية باسم ( البطالة المقنعة ) فضلا على انتشار الروتين الإدارى بشكل ساحق تسبب في معاناة المواهب ونزوحها من بلادها في بلاد لا تعترف بالتفوق العلمى إلا إذا كان مقرونا بالأقدمية !
وأصبح المثل الشائع ( اربط الحمار في المكان الذى يريده صاحبه ) هو التعبير الشعبي عن حال الروتين الحكومى في طلباته غير المنطقية واهتمام الدوائر الإدارية بالإجراءات الشكلية على حساب الجوهر ,
وقد عبر الشعب المصري بالنكات عن هذه الظاهرة فروى أحد الظرفاء أن ثلاثة موظفين في هيئة المواسير كانت وظيفة أحدهم حفر مكان الماسورة في الأرض والثانى مهمته وضع الماسورة والثالث مهمته ردم التراب على الماسورة ,
وذات يوم غاب العامل الذى يضع الماسورة في الحفرة فلم يلتفت زميلاه واستمر أحدهما يحفر والثانى يردم !!
رابعا : تكلفت مصر المليارات من ميزانيتها لإنشاء جيش حديث وذهبت هذه الأسلحة هباء مرتين متتاليتين ,
أولهما عام 56 ـ التي يعتبرها هيكل أكبر وأكمل انتصار في التاريخ الحديث !! ـ حيث تم تدمير الطيران المصري وانسحب الجيش من سيناء تاركا أسلحته الثقيلة وبضع مئات من الشهداء , والمرة الثانية صورة طبق الأصل من عام 56 , تدمير الطيران المصري كله وفقد الأسلحة بنسبة ثمانين في المائة ومعها عشرون ألف قتيل فى سيناء بخلاف عدد مماثل فى حرب اليمن فضلا على خسارة اقتصادية ركّعت الإقتصاد المصري فى يونيو 67
خامسا : باعتراف رجال الثورة ومفكريها دمرت الثورة فرصة الديمقراطية ومشاركة الشعب فى قرارات حكومته تدميرا تاما , وحتى لو سلمنا بوجهة نظر هيكل أن الديمقراطية قبل الثورة كانت صورية ومضغوطة بالإحتلال والملك , فعلى الأقل كانت هذه الصورة شيئا ملموسا أفضل من العدم الذى أفضت إليه أوتوقراطية الثورة
سادسا : أما العدالة الإجتماعية فقد كان هناك شبه تكافل اجتماعى فى مصر قبل الثورة , وكانت هناك طبقة متوسطة عريضة جدا تحمل أصحاب التجارات الصغيرة والحرف وهى الطبقة التى تم محوها من الوجود المصري بعد الثورة بفضل قرارات التأميم العشوائية التى لم تدع ملكية فردية إلا نهبتها , وبفضل سياسة الإشتراكية التى أغلقت الأسواق أمام أصحاب الحرف والتجارات فاندحرت عشرات العائلات من جراء ذلك لم يكن لها مصدر رزق إلا التجارة البسيطة


بهذه النتائج المبنية على نهايات التجربة الناصرية .. كيف يمكننا تقييمها يا ترى ؟!



الهوامش :
[1] ـ البداية والنهاية ـ بن كثير ـ دار الفجر للتراث
 
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )

علامات القيامة ..

إذا دهمت الساعة جماهير الخلق في آخر الزمان بغتة , فليس لهم إلا أن يلوموا أنفسهم إذ أن الله عز وجل أنزل مع الساعة أشراطها وعلاماتها الصغري والكبري وجاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مبشرة بذلك بشكل قطعى محدود ,
فلم تترك عذرا لمعتذر ,
وإذا جاز لنا أن نتساءل في حيرة عن سبب حدوث المفاجأة لجماهير الناس عند قيامها رغم أن العلامات الكبري مذكورة بالتحديد وفى عشرات الأحاديث النبوية ,
إذا جاز لنا ذلك ,
جاز لنا أن نتساءل أيضا عن سبب الاندفاع الذى شهدته بدايات الثورة من بعض المفكرين نتيجة لقيامها , رغم أن الثورة ومنذ أيامها الأولى أظهرت معدنها بعدة تصرفات لا شك أنها لا تغيب عن اللبيب ,
ولكن أين هو اللبيب ؟!
وإن وُجد .. فمن سيسمعه .. ومن سيعطيه الفرصة ليتكلم ؟!

إن جماهير آخر الزمان التي ستفاجئ بقيام يوم القيامة رغم وجود علاماتها في عشرات الآلاف من الكتب إنما هم فى الواقع آخر أحفاد القوميين ومن شاكلهم , من هؤلاء الذين اعتبروا القرآن والسنة من قبيل الموروثات التي ينبغي الثورة عليها بالتجديد كما تنبغي الثورة على الإستعمار والملكية !
فكيف يمكن الثقة بالخير في زمرة تعتمد هذه المبادئ كنظام حياة لشعب عاش متدينا بالفطرة ؟!
وكيف تمكن القمع والإعلام الموجه من قتل أصول الإرث العظيم من الإسلام فكرا وعقيدة والذي ترسخ منذ عشرات القرون في قلوب الشعب المصري والعربي ؟!

كان الأمر على ما يبدو غيبة جماعية للوعى ..
ساعد عليها ومهد لها تربص النظام العسكري الجديد بأى صوت معارض واستمرار نظام غسيل المخ بسرعة وإتقان , ولأن العصر كان بطبيعته عصر الإعلام المنغلق , فقد تكرست غيبة الوعى على نحو ما عبر عنها توفيق الحكيم [1]
وقد تكرست غيبة الوعى من بدايات قام الثورة ومن أيامها الأولى ـ وهذا هو داعى الدهشة ـ إذ أن هناك عددا من الظواهر اللافتة التى كان ينبغي أن تضعها الزمرة المثقفة فى الحسبان لتتبصر بها أى مستقبل ينتظر الأمة بالضبط !

من هذه الظواهر :
أولا : خرج علينا نظام يوليو وهو يحمل فى واجهته ثلاثة عشر ضابطا فى ريعان الشباب , لم يتعد عمر أكبرهم خمسة وثلاثين عاما , وليس من بينهم من له خبرة أو دراية بالسياسة وأحوالها من أى نوع ,
بل كانوا جميعا من ضباط الجيش بعيدا عن السياسة وحياتهم لا تعرف إلا الأوامر العسكرية ومنتهى طموحهم الترقي فى حدود وظائفهم ,
ولثقتهم فى أنهم لا يمثلون أى قيمة أو ثقة سياسية تجمع الشعب حول حركتهم , قاموا باختيار اللواء محمد نجيب كواجهة يحركونها من خلف ستار حتى تثق الناس وتشجع الحركة , فى سبيل تنفيذ مطالب متواضعة جدا تتعلق بإصلاح الجيش لا أكثر ولا أقل
غير أن الصورة الحقيقية لم تستغرق طويلا للظهور , عندما اكتشف مجلس قيادة الثورة أنه فى إمكانه الإستيلاء بسهولة على السلطة وأن العرش يتهاوى بالفعل دون أن يمسه أحد
عند هذا الحد ..
بدأت الألاعيب الصبيانية التى تشي بمستوى تفكير مجلس الثورة عندما كانوا يأخذون القرار ونقيضه فى بحر ساعات , ولا شك أن هذه الظاهرة وحدها كانت دليلا كافيا على طبيعة الحركة وطبيعة القائمين بها
فكيف قامت الثورة لتغيير حكومات تتغير كل بضعة أشهر لتضع بدلا منها ملوكا يتغيرون كل ساعة !
ففي البداية كان مطلبهم إصلاح الجيش ثم تنحى الملك عن العرش , وتم هذا فعلا وتم اعتماد ابنه الطفل أحمد فؤاد ملكا بوصاية مجلس للعرش اختاره مجلس قيادة الثورة ,
وبعدها بأيام تم التخلص من رشاد مهنا أحد الضباط المشاركين فى الثورة وأعلاهم رتبة وأحد أوصياء العرش ثم اقتصرت الوصاية على شخص واحد ,
ثم انقلب القرار مرة أخرى إلى طرد الملك وإعلان قيام الجمهورية !
ثم أعلنوا فى البداية فترة انتقالية لمدة ثلاثة شهور تنتهى بإجراء انتخابات تشريعية ويعود الضباط إلى ثكناتهم , ثم تطورت الفترة من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات !
ثم فجأة صدر القرار بإلغاء الأحزاب أصلا وإلغاء الألقاب وتم تعيين محمد نجيب رئيسا للجمهورية ,
ولم يلبث الرجل فى مقعده شهورا ..
حتى دبروا عليه انقلابا ونحوه عن السلطة بل وتم اعتقاله بالمرج وإهانته بشتى أنواع الإهانات التى تطفح بها مذكراته , ثم تم تعيين مجلس الثورة بديلا لرئيس الجمهورية وأصبحت القيادة جماعية ,
وقد اختاروا نجيب من البداية لكونه قبل شروطهم فى أن يصبح قائدا فى الظاهر فقط , بينما رفض هذا الأمر اللواء محمد صادق الذى اشترط عليهم قيادتهم فعليا .. مما يشي بأنهم كانوا يصنعون مجدا شخصيا لا وطنيا
ثم بدأت التصفيات الداخلية وأكل الثوار بعضهم بعضا فمنهم من خرج إلى المعتقل ومنهم من اعتزل أو حوكم على جرائم وهمية ,
ثم انتهى مجلس الثورة أخيرا وتم تعيين عبد الناصر رئيسا للجمهورية ,
كل هذا التذبذب كان واضحا شديد الوضوح ومعبرا عن كنه هؤلاء الشبان المغامرين الذين يعبثون بمقدرات بلد فى حجم مصر , ورغم ذلك لم يتحرك أحد أو ينتبه !

ثانيا : كان من البداية واضحا أن هؤلاء الشباب لا يريدون وجه الله بفعلهم ولم تحركهم الوطنية أو الفساد بقدر ما حركتهم الأغراض , ولا شك أنه كان من بينهم من هو مخلص لقضية وطنه ومقتنع بها ,
لكن قائدها الفعلى ـ جمال عبد الناصر ـ لم يكن كذلك لأن نيته كانت من البداية هى البحث عن السلطة والزعامة والصدارة
وليس هذا كلامنا ـ بل هو اعتراف هيكل نفسه ـ فقد روى هذا الأخير فى إحدى حلقاته ببرنامجه ( مع هيكل ) وقد أوضح فيه مدى تشوّف عبد الناصر للزعامة الجماهيرية والتمس له العذر فيها باعتباره طموحا مشروعا وأن هذا الأمر من ضروريات الضعف الإنسانى , وأنه من المبالغة اعتقاد خلو شخص منه , رغم مبالغة عبد الناصر فى استجداء الجماهير كى تهتف له بقوله فى إحدى خطبه المبكرة جدا ..
( أنا لن أستجدى هتافا أو تصفيقا ) !!
ويعلق هيكل بأن الرجل كان حزينا لأن الجماهير لا تعرفه وليست له شعبية نجيب رغم أنه القائد الفعلى للثورة
وفات هيكل الكثير بهذا التعليق ..
فاته أن استجداء عبد الناصر للهتاف والتصفيق ومبالغته فى وصف دور البطولة , لدرجة أنه وقف يهتف ـ أثناء حادث المنشية ـ أن يثبت كل الرجال فى أماكنهم وأنه إن مات فهو يقبل الموت لأنه علمهم العزة وعلمهم الكرامة !!
هذه المبالغة الفاضحة فى استجداء دور البطولة لدرجة أن يقصر العزة والكرامة المصرية علي شخصه باعتباره المؤسس لهما , معناها أنه لم يخطط ولم يقم بإنشاء تنظيم الضباط الأحرار إلا فى سبيل مجده الشخصي
ويؤكد ذلك كثرة ترداده لاسمه فى خطبه وحديثه عن نفسه بضمير الغائب مثل قوله فى خطاب النكسة ـ والذى كان من المفروض أن يكون أبعد الناس فيه عن الزهو الظاهر أو المبطن ـ قال فيه مثلا
( إن قوى الإستعمار تظن أن جمال عبد الناصر هو عدوها !! )
فهل هذا هو وقت الزهو بترصد الإستعمار لك ؟!!



الهوامش :
[1]ـ عودة الوعى ـ توفيق الحكيم ـ دار الشروق
 
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )

بل وتؤكد هذه القضية شهادة أقرانه من الناصريين الذين لا غبار على ناصريتهم , مثل عبد الحكيم عامر رفيق دربه الحميم والذى قال لمراد غالب ـ السفير المصري بموسكو ـ فى معرض تعليق له قبل النكسة ..
( ماذا نفعل وهذا الرجل فى مصر لا يرضي
إلا عندما يري صوره وأخباره فى الصحف كل يوم ؟! ) [1]
وشهادة رفاق كفاحه مثل عبد اللطيف البغدادى وكمال الدين حسين وعلوى حافظ وجمال حماد وغيرهم كثير
فالرجل من البداية كان واضحا أنه يعمل لنفسه لا لمصر , حتى انتهت هذه السياسة للنهاية المفجعة باضطراره إلى المزايدة السياسية لتغطية موقفه فى الشارع العربي وتحريك الحشود إلى سيناء فى مظاهرة عسكرية للتهويش , وهى الأمور التى اتخذتها إسرائيل كذريعة ممتازة لتدمر الجيش المصري عن بكرة أبيه !

ثالثا : يحتج هيكل فى تبرير هذه الذات المتضخمة باعتبار أنها من عوامل الضعف الإنسانى !!
وأنه ضد المنطق من يتصور إمكانية شخص يتمكن من تحييد نفسه فى إطار دوره بقضية عامة ,
ومن الغريب أن مفكرنا الكبير مخطئ فى الحالتين ..
ففي الحالة الأولى .. فما عند عبد الناصر لم يكن من قبيل نقطة الضعف الإنسانى التى يمكن قبول تجاوزها , بل كانت ذاته نقطة محورية فى الأحداث ومحرك رئيسي لها ,
والدليل من كتابات هيكل نفسه , حيث أن عبد الناصر صرح قبل النكسة أنه لا يملك خطة لتحرير القدس فثارت الجماهير وجاءت الوفود تطلب سحب تصريحه الواقعى ـ رغم واقعيته ـ فى سبيل تهدئة الجماهير ,
فاستجاب وسحب التصريح !
وفى سبيل صورته كما قدمنا بادر إلى اليمن والكونغو وسيناء وهو يعلم تمام العلم بحدود قدرت الجيش وأحواله !
وفى سبيل السلطة سكت عن جبروت عبد الحكيم عامر , وقًبِل ـ وهو الزعيم ـ أن يكون تحت ضرس الجيش بدلا من أن يكون الجيش تحت قيادته , وكل هذا فى سبيل التخوف من قوة عبد الحكيم عامر !
فكيف يقول هيكل بعد ذلك أن هذه الذات المتضخمة ذات تأثير محدود يمكن قبوله فى إطار الضعف الإنسانى ؟!

وفى الحالة الثانية .. يقول هيكل ما معناه أن تصورنا لإمكانية وجود شخص يتمكن من تحييد ذاته فى قضية عامة أمر فوق المنطق ,
فهذا أمر مما يُؤسف له .. وبشدة ,
فهيكل واحد من أعرق المثقفين فى عصره , ويبدو غريبا جدا على ثقافته ألا تتسع لبعض مبادئ الدين الإسلامى التى يحفظها أطفال الكتاتيب عن ظهر قلب ,
وأولها إخلاص النية لله فى كل قول وعمل ,
والقرآن الكريم والسنة النبوية حافلة بعقوبة الرياء أو تزكية النفس لدرجة اعتبارهما من الشرك المحرم , والشرك هو المعصية الوحيدة التى لا يغفر الله لفاعلها ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ,
يقول تعالى :
[إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا] {النساء:48}
والسنة النبوية حافلة بالتحذير من الرياء حتى لو كان بعمل فى سبيل الله ..
ففي الحديث ( تُسعّر ـ أى توقد ـ النار بعالم وشهيد )
أما العالم فقد طلب رياء الناس بعلمه ولم يطلب وجه الله وأما الشهيد فقد قاتل وقتل للسمعة .. فكانت النتيجة أن تم اعتبار عملهما شركا يستوجب أن تستفتح النار حطبها بهم ,
فلهذه الدرجة جاء الإسلام محذرا من داء النفس وفارضا لفضيلة الإخلاص التام الذى لا تشوبه شائبة , وهو الأمر الذى شهدناه فى آلاف التجارب التاريخية لعظماء الإسلام من العلماء والمجاهدين ,
فمعظم هؤلاء النجوم كانوا بعصرهم من آحاد الناس لا يتكلفون أحدا ولا يدعون إلى زعامة ولا يمنون بأفعالهم على أحد , والأجيال التى تلتهم هى التى حفظت سيرتهم وعظمت أفعالهم وجعلت من تلك الأساطير التى نقرأ عنها فى الكتب ,
ليس هذا فقط ..
بل كان هؤلاء العظماء الذين كانت حياتهم لأجل الأمة , ينكرون على الناس أشد الإنكار إذا امتدحهم أحد , ويفرون من المدح كما يفر المرء فى عصرنا هذا من الذم والفضائح ,
وكان أحمد بن حنبل ـ أتقي أهل زمانه ـ يقول :
( وددت لو أن ما معى من العلم وصل للناس ولا يذكرنى أحد بشيئ ! )
فالرجل كان يتمنى من أعماقه أن يفيد الناس بعلمه وأن ينسوا أنه صاحب الفضل فيه ؟!
وهم فى هذا يتتبعون سيرة معلمهم الأول النبي عليه الصلاة والسلام , ولا غرابة ..
إنما الغرابة من قول هيكل أن المطالبة بالإخلاص التام فى أى قضية بعيدا عن مدح الذات أمر ضد المنطق !
عن أى منطق تتحدث يرحمك الله ؟!
وأين غابت عنك هذه الـمُـثل ؟!

رابعا : كان من الظواهر الكاشفة لحقيقة الثوار الجدد , بعض الممارسات التى تسربت للجماهير والإعلام وانتشرت على نطاق واسع تبشر بما يمكن أن ينال مصر على أيديهم ..
فكيف سكتت أو أسكتت الجماهير عن تصرفات صلاح سالم أحد أبرز قادة الثورة بعد أن تسبب هو ومجلسه فى ضياع السودان من مصر فى سبيل التخلص من محمد نجيب !
وكيف غاب عن الجماهير جزاء سنمار الذى نال اللواء نجيب ؟!
وكيف غاب عنهم إجراء مثل ترقية عبد الحكيم عامر من رتبة صاغ ( رائد ) إلى رتبة ( لواء ) دفعة واحدة بشكل غير مسبوق حتى فى الشرطة المدرسية !
وكل هذا ليكون لعبد الناصر قدم ثقة فى قيادة الجيش تمكنه من السيطرة بعد ذلك ؟!
وهذه الترقية الفضيحة كانت أحد أهم أسباب الكوارث الكبري فيما بعد حيث تم تعيين قائد برتبة رائد يقود أقوى جيوش المنطقة رغم أن علمه العسكري توقف عند رتبته الأصلية !
ثم جاء القرار العنترى بإخراج جميع الرتب العليا من القوات المسلحة للتقاعد , فخرج من الجيش كل من كان فى رتبة لواء ليفقد الجيش المصري قادته فى ضربة واحدة , تحت زعم ولائهم للملك رغم أن قيادات الثورة نفسها كانت تتلمس خطى بعض لواءات الجيش وتتعلم من وطنيتهم !
هذا بخلاف الصراع الدامى على السلطة بين أسلحة الجيش والذى دب بين سلاح الفرسان وبقية الأسلحة عندما ثارت أزمة محمد نجيب فى قصة مروعة تحكيها مذكرات خالد محيي الدين ومحمد نجيب وغيرهم ! [2]

خامسا : إهمال الحياة النيابية تماما وفرض العزل السياسي على سائر السياسيين فى عهد ما قبل الثورة دون النظر لوطنيتهم حتى وضعوا زعيم الأمة النحاس باشا رهن الإعتقال فى منزله ! وتم حل جميع الأحزاب ,
أى أنهم فرغوا الجيش من قادته وفرغوا الساحة السياسية من قادتها وأنشئوا هم قيادات جديدة تتشكل منهم كمكافآت على القيام بالثورة والتى أصبحت هى الغاية والنهاية بعد أن كانت وسيلة لتحقيق حياة ديمقراطية ,
فتم إنشاء تنظيم وحيد هو هيئة التحرير والذى تطور فيما بعد للاتحاد القومى ثم الإشتراكى وهلم جرا !
وفى الجيش تم اعتماد سياسة الولاء المطلق كشرط لتولى أماكن القيادة بغض النظر عن الكفاءة فجاء شمس بدران وعلى شفيق وهم من خريجى دفعة 1948 م عام النكبة , وحديثي الرتب جدا ليتولوا هم أمور وزارة الحربية حتى تحققت النكبة الجديدة على أيديهم عام 1967 م !
أما الضباط المحترفون ـ حتى من رجال الثورة أنفسهم ـ فقد تم إخراجهم من الجيش للوظائف المدنية رغم أنهم استمروا فى حيازة الدرجات العلمية فى أرقي المعاهد السوفياتية العسكرية , وبدلا من أن يأتى هؤلاء كقادة لفرق الجيش خرجوا من الخدمة لمناصب تنفيذية مدنية وتولى بدلا منهم القادة المرضيون منعدمى الكفاءة ,
وهذا الملف العامر تحدث عنه طويلا اللواء جمال حماد والذى كان هو بنفسه كاتب البيان الأول للثورة وأحد القادة المؤهلين الذين تم إبعادهم لصالح دفعة شمس بدران التى تولت القيادة فى كافة أفرع القوات المسلحة !![3]
لهذا كان أول إجراء لعبد الناصر ـ بعد النكسة وسقوط عبد الحكم عامر ـ هو إخراج دفعة شمس بدران جميعا من الجيش وإحالتهم للمحاكمة أو التقاعد !
فأين كان هذا الإجراء منذ فضيحة 1956 م والتى أفصحت عن مستوى هؤلاء القادة ؟! .. لا أحد يدرى

سادسا : نظرة واحدة من أى متأمل إلى طبيعة الصراع بين مجلس قيادة الثورة وبين محمد نجيب , ومن زاوية محددة , كان كفيلا يأن يُظهر النية الحقيقية لهذه المجموعة من الضباط ,
وأعنى بالزاوية المحددة موضوع السودان ,
فقد كان كاشفا وموضحا بجلاء سلوك مجلس القيادة الذى رفع فيما بعد شعار الوحدة العربية أن يكون أول أفعاله هو اتخاذ القرار الذى لم يجرؤ سياسي مصري على اتخاذه منذ عام 1923 م , وهو الموافقة على فصل السودان عن مصر ,
بل إن الوحدة العربية ـ التي كانت أحلاما في ذلك الوقت .. وقد ظلت كذلك على أية حال ـ لم يكن لها على أرض الواقع تجربة إلا ما للسودان من ارتباط حقيقي وفاعل بمصر ولا يحتاج إنشاء ,
بل كانت ضمن الإنتماءات الجارفة التي يعرفها ويفهمها السياسيون المصريون ولذلك فشلت جميع المفاوضات مع بريطانيا قبل الثورة بسبب إصرار المفاوضين على التمسك بالقطر السودانى ,
وجاء محمد نجيب ذو الشعبية الهائلة بين أهل السودان , ليصبح الطريق مفروشا بالورود أمام وحدة وادى النيل كما كان تسميها أدبيات تلك الأيام ,
حتى أن محمد نجيب نفسه في مذكراته عن مرحلة حرب 1948 م ,
يذكر لنا واقعة تكشف لنا مدى الإرتباط الذى كان يشعر به الجيش المصري وجماهير الشعب مع السودان باعتباره العمق الإستراتيجى المصري , حيث أن نجيبا أصيب في الحرب ثلاث مرات , وكان منها إصابة فادحة أيقن معها بالموت , فطلب كتابة وصيته , وكان من بين سطورها بالحرف :
( تذكروا يا أبنائي أن أباكم مات بشرف وكانت رغبته الأخيرة أن ينتقم من الهزيمة , ويجاهد لوحدة وادى النيل )

وبعد الثورة ..
ومع التواصل الفعال بين تحالف الأحزاب السودانى بقيادة الأزهرى وبين محمد نجيب كانت الخطى تسرع حثيثة لاستقلال الجمهورية المصرية وجنوبها الطبيعي ,
ثم جاءت واقعة تسليم ملف السودان لأكثر أعضاء مجلس القيادة تطرفا وهوائية وهو صلاح سالم والذي حاول أن يتألف القبائل في السودان عن طريق المال ! فضلا على معاملته الدونية لهم بشكل جلب عليه وعلى مصر غضب السودانيين بشكل حتمى نظرا لاعتزازهم الجنوبي المعهود ,
وجاءت الضربة القاصمة عندما أقيل محمد نجيب وتمت إهانته ـ حتى على مستوى الإعلام ـ بواسطة صلاح سالم وآخرين واتهامه في ذمته المالية واعتقاله في فيلا المرج لتصبح هذه الأحداث هى نقطة الفصل الحقيقية بين مصر والسودان ,
فلم يكن السودان على استعداد للثقة بهؤلاء الشبان بعد ما رأوا جزاء قائدهم أمامهم , وإذا كان هؤلاء الشباب فعلوا هذه الأفاعيل بقائدهم الذى لولاه لما انطلقت الجماهير واثقة خلف الحركة , فما هو المتوقع للسودان في ظل حكمهم ؟!
وبالتالى رفض إسماعيل الأزهرى الإنضمام بعد إسقاط نجيب
وأصبح السودان قطرا منفصلا !! [4]
فكيف غابت هذه الأمثلة وهذه الممارسات الكاشفة عن توغل عميق لمرض السلطة في نفوس هؤلاء الشبان ؟!
وكيف غابت الحكمة العربية القائلة ( وما في الظلم .. مثل تحكم الضعفاء )
والمقصود منها أن الضعيف ـ لضعف بدنه أو قوته ـ عندما يكون تواقا للسلطة وللقوة ولا يجدها فإنه إذا امتلكها بتغير الظروف يصبح أشد ظلما من الفراعنة , وهذا أمر نفسي طبيعى لعقدة الضعف عنده ,
وقد وجد هؤلاء الشباب أنفسهم بين يوم وليلة يملكون البلاد ,
فكيف يمكن أن يستجيبوا لنداء العودة للثكنات ـ بعد أن أدوا واجبهم المفترض ـ ويسلموا حكم البلاد لغيرهم ؟!
بل بلغت بهم الدرجة أثناء الخلاف مع محمد نجيب أن اقترح جمال سالم قتل محمد نجيب والخلاص من صداعه !
فأى دليل أعظم من هذه الظواهر كى تدل على شهوة الحكم المتأصلة في نفوسهم



الهوامش :
[1]ـ مذكرات مراد غالب ـ دراسة بعنوان ( مذكرات اليسار فى عصر اليمين ) ـ محمد الجوادى ـ الهيئة المصرية للكتاب
[2] ـ ملفات ثورة يوليو بشهادة صانعيها ـ محاورات لطارق حبيب ـ مطبوع ـ مركز الأهرام للترجمة والنشر
[3]ـ شهادة جمال حماد عن العصر ـ قناة الجزيرة
[4]ـ مذكرات محمد نجيب ( كنت رئيسا لمصر ) ـ ومذكرات خالد محيي الدين ( والآن أتكلم ) ـ مع شهادة جمال حماد على العصر
 
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )

سابعا : كان من المفروض أن الحركة قامت في الأصل لأجل تطهير الجيش ! وهذا هو الهدف الرئيسي الذى أعلنته قيادتها بصوت أنور السادات , عن طريق إجبار الملك على الإستماع لطلبات الضباط بتولية الضباط الوطنيين للمسئولية ,
وبمجرد نجاح الحركة ,
انقلب مطلب التطهير الوظيفي إلى تطهير ولائي , وانقلبت مطالب الإصلاح إلى تواطؤ مكشوف على الجيش بأكمله !
فبعد أن تصاعدت نبرة الإحتجاجات العنيفة بين مختلف ضباط الجيش نظرا للممارسات المستفزة لأعضاء مجلس قيادة الثورة من ترقية الأقرباء ومجاملتهم بالتنقلات الإستثنائية والبدلات وغيرها ,
قام عبد الناصر عن طريق عبد الحكيم عامر ومجموعته بتطهير الجيش تماما ـ ليس من اللواءات هذه المرة ـ بل من الثوار أنفسهم ومن بقية ضباط الجيش الذين بدرت منهم اعتراضات على ممارسات رجال الثورة المهينة للتقاليد العسكرية ! فتم إبعاد 800 ضابط من المشاة والبحرية والطيران وأحيل بعضهم إلى المحاكمات الثورية والبعض الآخر إلى الاستيداع [1]
كما أبعدوا كافة الضباط الموالين لمحمد نجيب , وظهرت على السطح بعض الممارسات التي لا تمت للأخلاق بصلة فضلا عن العسكرية والإنضباط العسكري ,
فقد روى نجيب في مذكراته عن صلاح سالم أنه ضرب أحد ضباط الجيش واسمه محمد وصفي بالحذاء على وجهه في اجتماع عام أثناء التحقيق معه , ثم تكفل التعذيب بالقضاء على الضابط الشاب تماما !
بخلاف واقعته الشهيرة مع الأميرة فوزية ومطاردته المسفة لها واستيلائه على فيلا بجوار قصرها لتستنجد الأميرة السابقة باللواء نجيب كى ينقذها من ممارسات الضابط الثائر !
بخلاف انتشار النهب والسلب لمحتويات القصور الملكية وعلى رءوس الأشهاد بلا حسيب أو رقيب !
ثم كانت الطامة الكبري عندما أنشئوا محكمة استثنائية باسم محكمة الثورة ورأسها أعضاء من المجلس الميمون نفسه لتصدر أحكاما عشوائية على مجموعة كبيرة جدا من ضباط الجيش بتهمة التمرد والإنقلاب العسكري , وهى القضية المعروفة باسم قضية المدفعية ,
فضلا على محاكمة عشوائية مماثلة وبأحكام جنائية ثقيلة تراوحت بين الإعدام وبين الأشغال الشاقة المؤبدة لقيادات الحياة السياسية قبل الثورة ! وللأعضاء البارزين في جماعة الإخوان المسلمين بل وحتى للعمال والفلاحين الذين قامت الثورة ـ كما هو مفترض ـ من أجلهم فتم إعدام خميس والبقري صاحبي قضية عمال غزل المحلة الشهيرة والذين اعتصموا بمصنعهم وقاموا بمظاهرات مناهضة , فكان جزاؤهم الإعدام وهو ما لم يتم حتى في عهد الإحتلال الإنجليزى !
وكل هذه المحاكمات تمت في غيبة القانون والقضاء الطبيعى , وغياب أى تأهيل عن أعضاء المحكمة التي ترأسها أمثال صلاح سالم وحسين الشافعى وغيرهم من قيادات الحركة !
ولنا أن نستدعى من الذاكرة قضية (محاكمة دنشواى ) والتى وفر فيها الإحتلال الإنجليزى ضمانات قانونية واضحة للمتهمين ـ ورغم مظهريتها ـ إلا أنها كانت أكثر حبكة
وقام بها رجال قانون محترفون مثل بطرس غالى باشا والهلباوى بك أشهر المحامين في زمانه وممثل الإدعاء في القضية وغيرهم , وقد أقام مصطفي كامل الدنيا ولم يقعدها في أوربا تشنيعا على الأحكام التي صدرت بإعدام بعض المتهمين ونجحت حملته الصحفية في صدور القرار بإقالة اللورد كرومر المندوب السامى في مصر !
بينما لم يستطع رجال الإعلام في مصر أن يفتحوا فمهم بكلمة في مواجهة هذه الممارسات وهذه المحاكمات !
ومن أغرب الغرائب أن أحكام الإعدام تم تنفيذها في فرادى أبناء الشعب وعلى تهم باطلة , بينما تدخل جمال عبد الناصر بحسم عندما اقترح بعض زملائه محاكمة الملك فاروق نفسه وإعدامه , وأصر على طرده سالما !
فإذا كان هذا جزاء أس الفساد في البلاد فكيف ـ وعلى أى أساس ـ تمت محاكمة بقية السياسيين وهم مجرد منفذين لسياسته ؟!

ثامنا : بدأت ظاهرة تسلسل رفاهيات المجتمع المدنى للعسكرية منذ وقت مبكر ,
فعندما جرفت القيادات الشابة سائر الكفاءات من جميع المجالات , قفز الضباط وأصهارهم وأقربائهم إلى المواقع المدنية حتى اصطبغت البلاد باللون الكاكى ـ على حد تعبير محمد نجيب ـ ثم زاد عبد الحكيم عامر من سطوته فتدخل ليتولى الجيش اختصاصات مدنية بحتة مثل الإعتقالات والتحقيق مع العناصر غير الموالية للثورة وأصبح جهاز الشرطة مجرد جهاز تنفيذى للبوليس الحربي ــ والذي كان اختصاصه مقصور على جرائم العسكريين وحدهم ! ـ فانقلب إلى شرطة مدنية !
ثم أعطى جمال عبد الناصر لرفيق عمره عامر باقي الصلاحيات المتبقية مثل لجان تصفية الإقطاع وتعيين الوظائف المدنية الشاغرة ورياسة شركات قطاع الأعمال العام بل حتى الإشراف على الرياضة ككرة القدم ورياسة النوادى الكبري كالأهلى والزمالك والتى ترأسها ضباط جيش أيضا !
فبدا الأمر من اللحظة الأولى أن الثوار الجدد لم يأتوا ثوارا على الوضع القائم بل أتوا لاستبدال طبقة الحكام فحسب , فبدلا من أن يكون الملك والأحزاب هم الصفوة أصبح الضباط الشبان هم أساس الحكم في البلاد وبدلا من فاروق واحد كان يكفي البلاد فسادا أتى مكانه 13 فاروق آخر على حد تعبير أحد ضباط يوليو أنفسهم
الكارثة أن هذا الأمر لم يقتصر على مجرد نظرة الثوار الجدد لمصر على أنها مكافأة وإقطاعية كبري يستحقونها ما داموا قبلوا مخاطرة الثورة , بل تعدى الأمر إلى ترسيخ مكانة العسكريين على قمة الشرائح الإجتماعية , فلم تعد الوظيفة العسكرية وظيفة ملتزمة بدور محدد في المجتمع ,
بل أصبحت هى الطبقة الراقية الجديدة بديلا لأهل الفكر والعلم والسياسة وتم بث عشرات الأفلام السينمائية والأعمال الفنية التي تروج لهذه النظرية الإجتماعية ,
فأصبح فتى الأحلام وفارس الميدان هو ضابط الجيش وحده , وأصبحت أكبر المكافآت المعنوية لأى بطل رياضي أن يتم منحه رتبة شرفية في الجيش المصري !
وتمت مصادرة القصور والفيلات والشقق الفاخرة التي كانت ملكا لطبقات ما قبل الثورة ليتسلمها الجيش ويوزعها على الضباط المقربين وذوى الحظوة !
باختصار ..
اهتمت القيادة الجديدة بالجيش في كل شيئ , عدا التدريب الجدى أو التسليح الفعال !
مما استدعى عبد الناصر عقب النكسة أن يولى الفريق فوزى بالذات قيادة الجيش ـ بسبب قسوته وغلظته ـ لتكون مهمته قاصرة فقط على إعادة الإنضباط العسكري المفقود ورد الجيش إلى ثكناته وإعادة القيادة للقواد المحترفين !!

وحق لهذا الوطن أن يتألم ويسخر من نفسه قبل أن يسخر منه الآخرون ,
فقد أصبح قدرا أن تعتبر الواجبات الجوهرية للوظائف العامة هى من قبيل المن على الأوطان والشعوب , فيكون لازما على الشعب التسبيح ليلا ونهارا بإنجازات القواد كما لو كانت هبة أو تضحية !
فأصبحت مهمة الثوار الجدد بعد إتمام الثورة أن يجلسوا للحكم والغنيمة , باعتبار أن المشاركة في هذه الثورة هى المؤهل النهائي وختم الوطنية الذى يجب أن يحصل فاعله على المقابل طيلة عمره ,
بل أصبحت المؤهلات الرسمية المعترف بها للتعيين في الوظائف الكبري هى مجرد الإنتماء للتنظيم الثورى , ولهذا اعترض حسين الشافعى على تولية السادات باعتبار أنه يسبق الأخير في عضوية مجلس الثورة !
والسادات نفسه تم تعيينه نائبا لرئيس الجمهورية بناء على هذا العامل وحده , وهو أنه لم يحصل على حقه كالآخرين !..
والأمر يبدو كما لو أنهم قد اعتبروا القيام بالثورة كنزول الدعوة الإسلامية , فالسابقون الأولون من الثوار والأحرار هم أولى بالأمة من نفسها , وحق الأفضلية يعتبر مقرونا بسابقة الإنضمام للرسالة الجديدة !
لهذا ..
تضخمت ذواتهم بطريقة بشعة , ورأوا أنهم بثورتهم هذى فاقوا الأقدمين والآخرين , ونظرة واحدة إلى مذكرات الضباط الأحرار تنبئك عن كثير ,
والطريف أنهم كانوا يستلهمون ثقافة التقديس الإسلامى فيضفونها على أنفسهم , فجمال منصور ـ أحد أعضاء الثورة البارزين ـ فى مذكراته يصف رفاقه عند ذكرهم بلفظ ( الصحابة ) فيقول ( اتفقت والصحابة على كذا أو قررت والصحابة قول كذا )
بينما يعرف كل طالب فى المدرسة الإبتدائية أن هذا المصطلح مقصور على وصف أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ولا يجوز استخدامه لغيرهم , تماما كمصطلح ( القرآن ) فهو فى اللغة كل شيئ مقروء ولكن ليس مقبولا من مسلم أن يطلق على ديوانه الشعري مثلا اسم قرآنى الخاص !
وبعد النكسة عندما اتفق عبد الناصر وعبد الحكيم عامر على التنحى وتعيين شمس بدران , ثم خالف عبد الناصر الإتفاق ورشح زكريا محيي الدين , هاج عبد الحكيم للخدعة وسماها ( خدعة أبي موسي الأشعري )
وهى إشارة إلى واقعة شهيرة فى التاريخ الإسلامى هى واقعة التحكيم بين على ومعاوية رضي الله عنهما , وتقول الرواية أن الحكمين أبي موسي وعمرو بن العاص اتفقا على تنحية على ومعاوية وتولية غيرهما على الأمة , غير أن عمرو بن العاص غدر بالإتفاق وأعلن أنهما اتفقا على معاوية !!
وهى رواية مكذوبة وباطلة ولم يحدث منها شيئ قط وأثبت المؤرخون كذبها وتلفيقها ـ رغم انتشارها ـ لكن ثوار الإشتراكية لا يميزون صحيحا من سقيما حتى فى مجرد الإستشهاد بشيئ من التاريخ الإسلامى [2]
وانتهت ثقافة السياسة المصرية التي كانت تعامل الحكومات بعامل المحاسبة , ولا يأتى السياسي لمنصبه التنفيذى إلا لإثبات استحقاقه لهذا المنصب الذى يُلام من قصر فيه , ولا يُشكر من أدى واجبه ,
ولم يسأل ضابط واحد من هؤلاء ـ عدا علوى حافظ [3] ـ نفسه سؤالا وحدا ..
لماذا قاموا بالثورة أصلا ؟! هل لتعديل أوضاع فاسدة أم لترسيخ أوضاع أشد عنفوانا من الممارسات أى ملكية على وجه الأرض ؟!

فهل عرفنا الآن لماذا كانت هزيمة يونيو لازمة ؟!



الهوامش :
[1]ـ مذكرات محمد نجيب ـ مصدر سابق
[2] ـ لمراجعة حقيقة الرواية يرجى مطالعة ( العواصم من القواصم ) للقاضي أبو بكر بن العربي ـ دار الإعتصام
[3]ـ المنصة ـ علوى حافظ ـ طبعة غير معروفة المصدر
 
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )

صناعة الفرعون

فى ظنى أن الفراعنة القدماء تعرضوا لظلم وتشويه كبير , عندما استخدمهم المصريون المعاصرون للتدليل على أن الشعب المصري ينزع إلى تشجيع قادته على التسلط وإصابتهم بما يُطلق عليه داء الفرعون !
فالشاهد الواضح يوحى لنا أن ممارسات قدماء المصريين فى إعلاء ( الأنا ) لدى الحكام وتأليههم , هى مجرد ممارسات ـ رغم فداحتها ـ قاصرة عن إدراك منهج صناعة الفرعون الذى تم استخدامه فى العصر القومى !
فما قام به الجهاز الإعلامى لعصر عبد الناصر تتقاصر أمامه أفاعيل الكهنة , بل وأفاعيل هامان نفسه مع فرعون موسي !
فكان من اللازم رد الإعتبار إلى عصر الفراعنة واعتبارهم تلاميذ لمدرسة العهد الناصري التى علّمت الشعوب بحق , كيف يكون تأليه الحكام !

وربما اعتبر البعض هذا الكلام من قبيل المبالغة لكن الشعور بالمبالغة سينتفي إذا تأملنا النقاط الفارقة بين الأسلوب الإعلامى فى كلا العصرين ,
فإعلام المرحلة الفرعونية لم يكن ليقنع الشعب بألوهية الحاكم الفعلية , فكان الشعب ينطق بها أمام الفرعون دون تصديق أو إقرار بل ويكتم فى نفسه الإحتقار الشديد للفرعون ويحتفظ بالإيمان الخالص لله عز وجل ,
ولهذا ألقي السحرة ساجدين عندما ظهرت لهم نبوة موسي ورفعوا صوت المعارضة ونبذوا الفرعون فى وجهه ,
بينما شياطين الإعلام فى العصر الناصري عن طريق الخطب الحماسية والتركيز الإعلامى المتكرر , والأغانى الحماسية التى قام بها نخبة النخبة من أهل الفن والموسيقا , تمكنوا من غرس داء العبودية للفرعون فى قلب الشعب المصري بل والعربي بشكل كامل !!
ويدل على هذا مدى صدق العاطفة فى أغنيات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وشادية وصباح وفريد الأطرش وعبد الوهاب وغيرهم من هؤلاء الأساطير الذين ألهبوا حماس الجماهير لتلتف حول التجربة الناصرية !
وبهذا نجح هؤلاء فيما فشل فيه هامان ورفاقه !!
وإلا فليبحثوا لنا عن تبرير منطقي واحد لهذه الجماهير والجحافل التى كانت تلتف حول عبد الناصر لمجرد الخطابة ! بينما فى مقياس الأفعال لم يترك للجماهير شيئا إيجابيا واحدا وعد بتحقيقه ونفذه ؟!
وتكفي كارثة خروج الجماهير باكية لتنحى عبد الناصر وهى التي ما دمعت للنكسة بعد !

كذلك فإن الشعب المصري أيام الفراعنة ما كان مقتنعا بأن حاكمه إله مقدس أو يملك من أمر نفسه شيئا أو يستطيع عمل المعجزات , ويدل على ذلك قول كبير سحرة فرعون لأحد رفاقه ( لا يغير طبائع الأشياء إلا صانع الأشياء ) وذلك فى معرض الدلالة عن ظنهم بأن موسي مجرد ساحر ولو كان يغير الحبل إلى ثعبان فعليا لكان رسولا ونبيا حتما ,
وماشطة بنت فرعون عندما سقط منها المشط , قالت فى تعبير تلقائي ( بسم الله )
فعقبت ابنة فرعون قائلة ( تقصدين أبي ؟! )
فقالت الماشطة ( بل أعنى الله خالقى وخالق أبيك )
فى نفس الوقت الذى نجد فيه سدنة مفكرى الناصرية يستخدمون ألفاظا موحية عند الحديث عن عبد الناصر وتجربته ويكثرون من هذه الألفاظ حتى انتشرت بين الجماهير , ومن تلك الألفاظ تعبيرات مثل ( الإيمان بعبد الناصر ) و ( الإيمان بالتجربة الناصرية ) و ( العقيدة الإجتماعية والإشتراكية ) ثم ختمها نزار قبانى عندما قال فى رثائه :
( قتلوك يا آخر الأنبياء ! )
ونسأل الله ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا !

وهو الأمر الذى بثه الإعلام الناصري ونجح فى غرسه بين الجماهير فعليا , ولهذا التفت الجماهير حول شخص عبد الناصر راضية به وموقنة بأنها فى أمان بجواره فى نفس الوقت الذى ضاعت فيه الأرض ومعها الكرامة بسبب السياسة الناصرية ,
لكن الجماهير الملقنة لا تلتفت ولا تهتم ,
فالمهم هو بقاء عبد الناصر بغض النظر عن أى إنجازات أو كوارث , فكأنى بهم جعلوا من بقاء عبد الناصر صمام أمان لهذه الأمة , وهو ما عبر عنه سامى شرف وغيره عندما قالوا أن عبد الناصر لم يمت وكلنا جمال عبد الناصر !
وعلى حد علمى أن حديث النبي عليه الصلاة والسلام عن صمامات أمان الأمة لم يشمل جمال عبد الناصر !!
فالحديث يقول :
( النجوم أمنة السماء .. فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما تُوعد .. وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون .. وأصحابي أمنة لأمتى فإذا ذهب أصحابي أتى أمتى ما يوعدون )
وإذا كانت الأمة لم تلتف بكاملها حول الصحابة وشذ عن الأمة فرق الشيعة والمعتزلة والعصرانيين ممن يسفهون الصحابة ولا يوقرون لهم مكانا , رغم وضوح الأحاديث والآيات فى فضائلهم وفى اعتبارهم صمام أمان الأمة ,
فكيف نجح الإعلام الناصري فى إقناع هذه الآلاف بأن جمال عبد الناصر هو أمنة العرب فإذا ذهب عبد الناصر أتى الأمة العربية ما توعد .. لست أدرى ,
وكيف اقتنعت الجماهير بهذا فى ظل ما فعلته السياسة الناصرية من تحقيق لأعلى مكاسب اليهود والغرب , لست أدرى ؟!

وربما نعثر على المبرر المنطقي عندما نتناول بعض الأغنيات التى روجت للتجربة الناصرية ,
وقد فاق عدد هذه الأغانى كل ما غنته أمم الأرض لأوطانها , على نحو يرشح اسم ( شعب المليون أغنية ) ليكون لقبا رسميا للشعب المصري في تلك الفترة !
ولهذا فسنلقي الضوء على مجرد أمثلة لا تعدو كونها واحد فى الألف من طبيعة تأثير ورسائل هذه الأغنيات التى كانت تغزو عقول العامة والدهماء ليلا ونهارا ,
ولا توجد أمة لها موطئ قدم فى رقعة الحضارة فعلت بنفسها ما فعلته السياسة الإعلامية بجماهيرها فى العصر الناصري , على نحو يجعل أى غريب يسمع بهذه الأغانى يظن أن عبد الناصر حتما حقق لهذه الأمة ما لم يتحقق لها على الأرض منذ فجر التاريخ وإلا كيف يمكن أن يرفعوه إلى مثل هذه الدرجة !
والأغانى الوطنية فى العصر الناصري لم تكن ـ كما فى أى أمة تحترم نفسها ـ متناسبة مع حجم العمل أو حتى قاصرة عنه بعض الشيئ بل أصبحت هذه الأغانى هى ما تبقي من منجزات هذا العصر ,
وسيذكر التاريخ لعبد الناصر هذه النهضة الغنائية في الزمن الجميل , لا سيما أن عبد الناصر أيضا كان هو الذى بين القطبين اللدودين أم كلثوم وعبد الوهاب بعد أن ظلا يرفضان التعاون معا طيلة عشرين عاما , إلى أن طلب عبد الناصر وأصر فتم تنفيذ رغبة الزعيم وقامت أم كلثوم بغناء ( إنت عمرى ) من ألحان عبد الوهاب فيما عُرف باسم لقاء السحاب !!
أما من ناحية كمية الأغنيات .. فحدث ولا حرج , بعد أن أصبحت تلك الأغانى حرفة ينال بها المطرب والملحن والمؤلف صك الوطنية!

ولا يمكن بأى حال من الأحوال قبول هذه الأغنيات على أنها مبالغات الشعراء أو المطربين , لأنها لم تكن وسيلة بل كانت هذه الأغنيات غاية فى حد ذاتها , تتم برعاية على أعلى مستويات الدولة
ولنا أن نضع بذهننا ـ ونحن نطالع أغانى الناصرية ـ ما حض عليه الإسلام من التحذير والوعيد الشديد من النفاق والمنافقين حتى أن الله عز وجل جعلهم فى الدرك الأسفل من النار ,
كذلك نستدعى للذاكرة الوعيد والنهى المتمثل فى الإسلام عن المدح فى المطلق وعن أى نوع من الإطراء , فقد جاء الإسلام محرما لكل المبالغات فى هذا الشأن ولو كانت بحق النبي عليه الصلاة والسلام نفسه , فقال عليه الصلاة والسلام
( لا تطرونى كما أطرت النصاري عيسي بن مريم ولكن قولوا عبد الله ورسوله )
كما نهى عن المدح والتفخيم كأصل من الأصول له استثناء وذلك فى قوله عليه الصلاة والسلام لرجل بالغ فى مدح صاحبه :
( قطعت عنق صاحبك مرارا ـ أى أهلكته بهذا المدح ـ فمن كان منكم مادحا لأخيه لا محالة ـ أى للاضطرار ـ فليقل أحسب فلانا كذا والله حسيبه ولا أزكى على الله أحدا )
وهذا الفكر الإسلامى الرشيد هو الذى بلغ بالأمة مبلغ العظمة , فحكم الإسلام العالم , ودانت له أقطار الأرض , ذلك أن المدح والرياء هى قاصمة الظهر لأى إنجاز
فما بالنا إن كانت هذه الأغانى ـ بكثافتها الهائلة هذى ـ تمت بلا إنجازات !
كيف يكون الحكم يا ترى ..
 
عودة
أعلى