محمد سيد بركة
15 - 3 - 2008
حينما احتلت فرنسا الجزائر سنة 1830م، أخذ الاحتلال في تصفية معظم مراكز الثقافة العربية الإسلامية، وعمل على عرقلة تدريس الثقافة العربية الإسلامية في هذه الأجواء المظلمة بزغ نور يدعو إلى العودة إلى منابع الإسلام الصافية وإلى لغة القرآن العظيم، فجاء ابن باديس الذي ولد في الخامس من ديسمبر سنة 1889م بمدينة قسنطينة، ونشأ عبد الحميد بن باديس نشأة دينية؛ حيث درس اللغة العربية والقرآن الكريم ومبادئ الإسلام، ثم التحق بجامع الزيتونة بتونس فأكمل دراسته الدينية ثم عاد إلى مدينة قسنطينة مسقط رأسه، واتخذها مركزًا لجهاده ومنطلقًا لدعوته التي حدد معالمها ورسم منهاجها في إطار يمكن وصفه بأنه إحياء الماضي بأسلوب الحاضر أو بعث السلفية بمناهج عصرية.
ولما كان الحج فريضة على كل مسلم إن استطاع إليه سبيلا، قام عبد الحميد بن باديس برحلته إلى الحجاز، وهناك التقى بعلماء ومفكري العالم الإسلامي، فالتقى بشيخه حمدان الونيسي الذي كان قد هاجر إلى الحجاز فرارًا من اضطهاد السلطة له، وعرض على تلميذه عبد الحميد أن يبقى إلى هناك مقيمًا مثله، كما التقى هناك بالشيخ البشير الإبراهيمي، والشيخ حسين أحمد الهندي الذي أشار عليه بالرجوع إلى بلاده حيث تستفيد من علمه وعمله الجزائر، وقبل عودته إلى الجزائر زار سوريا ولبنان ومصر، واجتمع هناك برجال العلم والأدب والفكر، كما زار الأزهر الشريف بمصر ووقف على أساليب الدراسة فيه.
والتقت فلول الصليبية العالمية في احتفال كبير عام 1930 بالجزائر بمناسبة مرور مائة عام على احتلالها وقد دُعِيَ لهذه الاحتفالات الدنيا كلها على حد وصف الشيخ البشير الإبراهيمي، وفي العام التالي فكر ابن باديس مع ثلة من العلماء من إنشاء جمعية العلماء، حيث رأوا أن العامل القوي لتوحيد الشعب الجزائري هو الإسلام، وكانت أهم أهداف هذه الجمعية هي أن الإسلام دين الله الذي وضعه لهداية عباده، وأرسل به جميع رسله وأكمله على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا نبي بعده، وأن الإسلام دين البشرية الذي لا تسعد إلا به، وأن القرآن كتاب الإسلام والسنة الصحيحة تفسير وبيان للقرآن وسلوك السلف الصالح تطبيق صحيح لهدي الإسلام، وأن دعوتنا هي ما دعا إليه الإسلام وما بيناه من العمل بالكتاب والسنة وهدي السلف الصالح من الأئمة.
لقد قامت دعوة ابن باديس على أساس فهمه الدقيق لعقيدته الإسلامية وتجارب إخوانه المجاهدين السلفيين، فباسم العقيدة الصافية انتشر الإسلام في ربوع الدنيا وملك القلوب، وكلما ران عليها ما يكدر صفاءها قيّض الله لها رجالاً يكشفون النقاب عن وجهها المشرق من أمثال: ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم.
ووضع ابن باديس لتحقيق دعوته منهجًا قائمًا على أساس من وعيه العميق ـ أيضًا ـ بطبيعة شعبه وروح عصره وواقع بيئته وظروفها.. لقد مارس ابن باديس نشاطه بإلقاء الدروس في الجامع الأخضر بقسنطينة صباحًا مع الصغار ومساءً مع الكبار، كما خص الفتيات بوقت يفقهن في الدين ويعدهم لشؤون خطيرة في تربية النشء.
وأعاد ابن باديس أسلوب الإعلام الذي استخدمه المسلمون الأوائل، فكانت منابر المساجد تعلن القرارات الخطيرة في شؤون الدين والدنيا، كما استعان بالكلمة المكتوبة فأنشأ الصحافة فكانت مجلة المنتقد والسنة والشريعة والصراط والشهاب والبصائر، وراح ابن باديس يكافح وينادي بحرية الجزائر كما أخذ يخاطب أمّته بالقرآن والسنة مفسِّرًا وشارِحًا، موجِّهًا وواعظًا بمنهج عصري فكان يربط في شرحه بين الدين والدنيا ويتخذ من الدين أساسًا لبناء المجتمع والنهوض به.
كما اتخذ من الشعر طريقًا لتعبئة نفوس الشباب، حيث تغنى ابن باديس مع الشبيبة من طلائع الكشافة الإسلامية بالجزائر بهويته وهوية كل مواطن جزائري.
شعب الجزائر مسلم ... وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله ... أو قال مات فقد كذب
ثم راح يرسم صور التعامل مع مختلف طوائف الناس في بيئته، فالمستعمرون الظالمون لا تنفع معهم مهادنة، وإنما الموت والهلاك:
وأذق نفوس الظالمين ... السم يمزج بالرهب
أما الخائنون فهم كالشجرة الخبيثة داؤوها أن تجتث من فوق الأرض:
وأقلع جذور الخائنين ... فهم كل العطب
أما السلبيون الجامدون فإنهم يحتاجون إلى تغيير يوقظهم وإلى هزة تنبههم، فربما تستجيب الخشب المسندة:
واهزز نفوس الجامدين ... فربما حيى الخشب
بهذا المنهج الملائم لروح العصر استطاع ابن باديس أن يعيد السلفية الصحيحة إلى شعب الجزائر، ولم يغادر دنيانا في الثامن من ربيع الأول 1359هـ الموافق 16 أبريل 1940م إلا وقد اشتعلت الجذوة وتهيّأت أسباب الثورة التحريرية
15 - 3 - 2008
حينما احتلت فرنسا الجزائر سنة 1830م، أخذ الاحتلال في تصفية معظم مراكز الثقافة العربية الإسلامية، وعمل على عرقلة تدريس الثقافة العربية الإسلامية في هذه الأجواء المظلمة بزغ نور يدعو إلى العودة إلى منابع الإسلام الصافية وإلى لغة القرآن العظيم، فجاء ابن باديس الذي ولد في الخامس من ديسمبر سنة 1889م بمدينة قسنطينة، ونشأ عبد الحميد بن باديس نشأة دينية؛ حيث درس اللغة العربية والقرآن الكريم ومبادئ الإسلام، ثم التحق بجامع الزيتونة بتونس فأكمل دراسته الدينية ثم عاد إلى مدينة قسنطينة مسقط رأسه، واتخذها مركزًا لجهاده ومنطلقًا لدعوته التي حدد معالمها ورسم منهاجها في إطار يمكن وصفه بأنه إحياء الماضي بأسلوب الحاضر أو بعث السلفية بمناهج عصرية.
ولما كان الحج فريضة على كل مسلم إن استطاع إليه سبيلا، قام عبد الحميد بن باديس برحلته إلى الحجاز، وهناك التقى بعلماء ومفكري العالم الإسلامي، فالتقى بشيخه حمدان الونيسي الذي كان قد هاجر إلى الحجاز فرارًا من اضطهاد السلطة له، وعرض على تلميذه عبد الحميد أن يبقى إلى هناك مقيمًا مثله، كما التقى هناك بالشيخ البشير الإبراهيمي، والشيخ حسين أحمد الهندي الذي أشار عليه بالرجوع إلى بلاده حيث تستفيد من علمه وعمله الجزائر، وقبل عودته إلى الجزائر زار سوريا ولبنان ومصر، واجتمع هناك برجال العلم والأدب والفكر، كما زار الأزهر الشريف بمصر ووقف على أساليب الدراسة فيه.
والتقت فلول الصليبية العالمية في احتفال كبير عام 1930 بالجزائر بمناسبة مرور مائة عام على احتلالها وقد دُعِيَ لهذه الاحتفالات الدنيا كلها على حد وصف الشيخ البشير الإبراهيمي، وفي العام التالي فكر ابن باديس مع ثلة من العلماء من إنشاء جمعية العلماء، حيث رأوا أن العامل القوي لتوحيد الشعب الجزائري هو الإسلام، وكانت أهم أهداف هذه الجمعية هي أن الإسلام دين الله الذي وضعه لهداية عباده، وأرسل به جميع رسله وأكمله على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا نبي بعده، وأن الإسلام دين البشرية الذي لا تسعد إلا به، وأن القرآن كتاب الإسلام والسنة الصحيحة تفسير وبيان للقرآن وسلوك السلف الصالح تطبيق صحيح لهدي الإسلام، وأن دعوتنا هي ما دعا إليه الإسلام وما بيناه من العمل بالكتاب والسنة وهدي السلف الصالح من الأئمة.
لقد قامت دعوة ابن باديس على أساس فهمه الدقيق لعقيدته الإسلامية وتجارب إخوانه المجاهدين السلفيين، فباسم العقيدة الصافية انتشر الإسلام في ربوع الدنيا وملك القلوب، وكلما ران عليها ما يكدر صفاءها قيّض الله لها رجالاً يكشفون النقاب عن وجهها المشرق من أمثال: ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم.
ووضع ابن باديس لتحقيق دعوته منهجًا قائمًا على أساس من وعيه العميق ـ أيضًا ـ بطبيعة شعبه وروح عصره وواقع بيئته وظروفها.. لقد مارس ابن باديس نشاطه بإلقاء الدروس في الجامع الأخضر بقسنطينة صباحًا مع الصغار ومساءً مع الكبار، كما خص الفتيات بوقت يفقهن في الدين ويعدهم لشؤون خطيرة في تربية النشء.
وأعاد ابن باديس أسلوب الإعلام الذي استخدمه المسلمون الأوائل، فكانت منابر المساجد تعلن القرارات الخطيرة في شؤون الدين والدنيا، كما استعان بالكلمة المكتوبة فأنشأ الصحافة فكانت مجلة المنتقد والسنة والشريعة والصراط والشهاب والبصائر، وراح ابن باديس يكافح وينادي بحرية الجزائر كما أخذ يخاطب أمّته بالقرآن والسنة مفسِّرًا وشارِحًا، موجِّهًا وواعظًا بمنهج عصري فكان يربط في شرحه بين الدين والدنيا ويتخذ من الدين أساسًا لبناء المجتمع والنهوض به.
كما اتخذ من الشعر طريقًا لتعبئة نفوس الشباب، حيث تغنى ابن باديس مع الشبيبة من طلائع الكشافة الإسلامية بالجزائر بهويته وهوية كل مواطن جزائري.
شعب الجزائر مسلم ... وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله ... أو قال مات فقد كذب
ثم راح يرسم صور التعامل مع مختلف طوائف الناس في بيئته، فالمستعمرون الظالمون لا تنفع معهم مهادنة، وإنما الموت والهلاك:
وأذق نفوس الظالمين ... السم يمزج بالرهب
أما الخائنون فهم كالشجرة الخبيثة داؤوها أن تجتث من فوق الأرض:
وأقلع جذور الخائنين ... فهم كل العطب
أما السلبيون الجامدون فإنهم يحتاجون إلى تغيير يوقظهم وإلى هزة تنبههم، فربما تستجيب الخشب المسندة:
واهزز نفوس الجامدين ... فربما حيى الخشب
بهذا المنهج الملائم لروح العصر استطاع ابن باديس أن يعيد السلفية الصحيحة إلى شعب الجزائر، ولم يغادر دنيانا في الثامن من ربيع الأول 1359هـ الموافق 16 أبريل 1940م إلا وقد اشتعلت الجذوة وتهيّأت أسباب الثورة التحريرية