البعد الدينى فى الصراع العربي الإسرائيلي
كان لزاما التعرض لتلك النقطة فى محور الصراع العربي الإسرائيلي عامة , لنعرف الفارق الهام من إجابة السؤال الذى تردد كثيرا عبر سنوات الصراع واختلفت إجابته بحسب الخلفية الثقافية لكل متعرض له
وهو هل الصراع دينى أم قومى ؟! إسلامى أم عربي ؟!
ورغم إختلاف الإجابات بين مؤيد ومعارض , إلا أن هذا لا يعنى أن هناك حيرة فى إجابة السؤال أصلا
بل هى حقيقة واقعة ـ على الأقل من الجانب الإسرائيلي ـ أن هناك بعدا دينيا بالصراع , وليس هذا البعد مجرد لمحة من لمحات المعارك بل هو الدافع الرئيسي والمكون الأصلي لمشكلة الصراع العربي الإسرائيلي بأكملها
وإغفال تلك النقطة ومحاولة حصر الصراع فى القومية أو الإحتلال المسلح لأرض عربية هو قصور عنيف فى الرؤية كان دافعه للأسف وجود العديد من التيارات الثقافية التى ترى فى إشراك الجانب الدينى بأى مشكلة ـ أيا كان نوعها ـ هو ضرب من التخلف , مع أن التخلف الحقيقي يتمثل فى هذا التصرف
ولكى نعرف حقيقة الصورة لابد لنا من الإطلاع على فكر الخصم فى معالجة الصراع ثم يكون رد فعلنا مبنيا على هذا التحليل
وكل ما كشفه المحللون على اختلاف مشاربهم سياسيين أو إسلاميين أو غيرهم يؤكد على حقيقة وجود البعد الدينى فى الصراع منذ أول فكرة لإنشاء وطن قومى لليهود وحتى قيام الدولة ومرورا بعمرها الذى تعدى سبعين عاما
شواهد وجود البعد الدينى
لو نظرنا إلى الفكرة الأصلية التى تبلورت قبل نيف ومائة عام وقام بقيادتها تيودور هيرتزل الذى قام بتأسيس أول مؤتمر للصهيونية العالمية فى بروكسل برعاية إنجلترا التى كانت تهدف إلى منافع سياسية جمة بتكوين الدولة اليهودية
سنجد أن الحديث كله يتبلور حول وطن قومى لليهود , ونكرر لليهود ,, بمعنى أن الهدف أصلا يخص جماعة دينية وهم اليهود المشردون فى أصقاع الأرض
ثم بدأ الإعداد الفعلى لتحديد أين يقع الوطن القومى المقترح ,
ومن مفاجآت الوثائق السرية التى تم كشفها عن تلك الفترة أن تيودور هيرتزل لم يفكر فى فلسطين بالتحديد كوطن مقترح بل إنه وضع فلسطين كحل أخير يأتى فى المركز الثالث بعد الولايات المتحدة الأمريكية التى عبر عنها هرتزل بأنها أرض المعاد الحقيقية لليهود , ثم الأرجنتين " 1 "
لكن هذا المسار لم يكن يعجب الممولين وهم قادة الصهيونية المسيحية فى إنجلترا والولايات المتحدة "2"
وأصدروا أوامرهم إلى هرتزل بأن مسار المؤتمر ونشاطه يجب أن يتركز فى البدء على تحديد فلسطين وليس غيرها باعتبارها أرض المعاد وإلا سيقوم الممثلون وعلى رأسهم أسرة روتشيلد البريطانية ودزرائيلي ثم بالمرستون رئيسا الحكومة البريطانية بسحب التمويل وعدم إكمال المشروع
وكان هذا طبيعيا لأن هدف الصهيونية العالمية لم يكن إفادة اليهود أو البحث عن وطن لهم تعاطفا مع قضيتهم وإنما هذا كان قناعا للهدف الرئيسي وهو إستغلال القومية الدينية لليهود فى إنشاء الكيان اليهودى الغريب فى تلك البقعة تحديدا لهدفين رئيسيين
* فكرة نابليون وهى فصل مصر عن الشام لضمان عدم وجود دولة إسلامية قوية تهدد مصالح الغرب بالمنطقة
* العمل على إستغلال تلك الدولة فى تحقيق هدف الصهيونية العالمية فى ضرب الإنتماءات الدينية للديانات السماوية الثلاث وعلى رأسها وأولها الإسلام
ونفذ هرتزل الأوامر الصادرة إليه بتركيز الحديث عن فلسطين وحدها باعتبارها أرض المعاد اليهودية وهو الذى يهدم بالطبع أى أساس واقعى لدعاوى اليهود فيما بعد بأن لهم حقوقا تاريخية فى فلسطين " 3 "
من هذا العرض يتضح لنا أن تأسيس إسرائيل من الأصل كان نبتا لغرضين مختلفين كلاهما يشترك فى أنه غرض دينى بحت
الأول : دعوى اليهود التى مثلت نداء لليهود بمفهوم الديانة للمطالبة بالحق الدينى فى فلسطين
الثانى : رغبة الصهيونية المؤسسة لفكرة الدولة اليهودية فى ضرب الإنتماءات الدينية التى تعوق المصالح الإقتصادية والسياسية لها فى العالم
وفيما بعد ,
وعقب التأسيس الفعلى للدولة اشترك الهدفان معا حيث صارت العداوة من الأصل للإسلام قبل أن تكون للعرب , وبدأت حركة الإستيطان اليهودى وحماسة الدولة اليهودية الجارفة لجلب المزيد من المهاجرين رغم أن الدولة لا تمتلك موارد ذاتية تؤهلها لرعاية مواطنيها , وهذا يوضح بالطبع أن الهدف الأصلي هو جلب المواطنين اليهود لا إعاشتهم أو العمل على رفاهيتهم ,
ولذلك فقد استمرت الدعاية اليهودية حتى اليوم تكافح عبر الوكالة اليهودية لجلب اليهود من كل أنحاء العالم بدعاوى كاذبة تصور لهم أن إسرائيل أصبحت بالفعل جنة الله فى الأرض , أما على الواقع فقد ندم المهاجرون ندما رهيبا على ترك بلادهم الأصلية والإستماع للمغريات اليهودية بعد إكتشافهم أن إسرائيل ليست دولة بالمعنى المفهوم وإنما هى شركة يسيطر عليها موظفون كبار , بينما يقع عامة الموظفين تحت خدمتهم بأقصي طاقة نظير أقل أجر
هذا بالإضافة إلى غياب الأمن نهائيا عن الدولة اليهودية إما لاعتبارات المجاهدين وعملياتهم الفدائية وإما لتفشي الجريمة كرد فعل طبيعى لعدم وجود ضمانات إقتصادية آمنة للمواطنين
واستمرت إسرائيل برعاية الصهيونية فى مخططها الذى يتحكم فى مواطنى الدولة كعرائس خشبية مهمتها فقط أن تشغل حيزا من الفراغ حول المسجد الأقصي بطريقة الإحلال بدلا من العرب وتغييب الهوية الإسلامية نهائيا عن المدينة كهدف أسمى يجب أن يستمر مهما كانت الضغوط
واتضح هذا الهدف جليا فى بعض الممارسات السياسية التى كانت تنم عن تناقض فى بعض الأحيان إذا تم النظر إلى القضية كقضية صراع على أرض
وكان هذا واضحا منذ عام 1977 م أو قبلها بفترة قليلة عام 1967 م فى شكل المشاهد التالية
* إنعدام الهدف من التكلفة الطائلة والعناء الرهيب من الإحتفاظ بسيناء محتلة والإصرار عليه بالرغم من أن قادة إسرائيل أنفسهم واثقين أن هذا الوضع من المستحيل أن يستمر نظرا لما تكابده القوات الإسرائيلية من الإحتفاظ بالجيش بحالة تأهب مرضي خوفا من الهجمة المصرية بالإضافة إلى التكلفة الطائلة من أثر احتلال سيناء الذى لم يدر عليها أى نفع إقتصادى فلم تقم إسرائيل باستغلال سيناء من أى وجه يعوض التكاليف العسكرية التى قصمت وسط الإقتصاد الإسرائيلي , وكأنها تعلم مسبقا أنها لن تُبقي سيناء فى قبضتها
* بعد ضربة أكتوبر ومحادثات فك الإشتباك الأول والثانى أبدت إسرائيل مرونة غير متوقعة فى الإستجابة للضغط المصري لكنها تمسكت بشرط وحيد أصرت عليه وهو إقامة معاهدة سلام أو حتى معاهدة عدم اعتداء مع مصر , وهو الأمر الذى عزاه بعض المحللين لتأثير حرب أكتوبر وهو تأثير رهيب دون شك أفقد الجيش الإسرائيلي توازنه وثقته لكن هذا لم يكن السبب الوحيد وإنما كان هذا الطلب هو الهدف الأصلي من حرب 1967 م من الأصل !
فإسرائيل لو ضمنت أن جمال عبد الناصر سيوقع معاهدة سلام تخرج بها مصر من معادلة القوة العربية لأعادت سيناء دون قيد أو شرط , لأن إحتلال سيناء لم يكن بهدف إحتلال أرض جديدة بل لوضع معادلة إسرائيلية تفاوض بها إسرائيل على السلام مقابل سيناء
* تلقي السادات قبل عقد معاهدة السلام عرضا حمله إليه إيريل شارون وكان العرض غريب الوقع على أذن السادات لأن هذا الأخير نظر إليه من منطلق سياسي بحت بينما كان عرض شارون منطقيا لو نظرنا إليه من وجهة نظر الهدف من تأسيس إسرائيل أصلا , حيث عرض شارون على السادات منحه صكا مفتوحا ليقوم السادات بالسيطرة على ليبيا وضمها لمصر بتشجيع من الولايات المتحدة نظير إنهاء أى حالة حرب مستقبلة بين مصر وإسرائيل , وبالطبع رفض السادات
وفيما بعد ,
وبعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية لم تكترث إسرائيل مطلقا بأى تأخير فى معاهدات أو حروب مع الأطراف الأخرى وكأن التهديدات الأمنية لا تقلقها بل إن الإعلام الإسرائيلي احتفي بالسادات إحتفاء مبالغا فيه عندما عرض مبادرته , وكان هذا غريبا فى عيون المحللين إذ أن الشعور الطبيعى لأى شعب فى العالم يتلقي هزيمة ساحقة على يد خصمه لا يمكن أن ينقلب حاله من منتهى الكره إلى منتهى التقدير لمجرد عقد سلام عقب حرب ضروس انتصر فيها هذا الخصم وأبكى كل بيت إسرائيلي بضحية أو مصاب
والأمر على هذه الصورة من الناحية السياسية البحتة وحدها يمثل خسارة رهيبة لإسرائيل على طول الخط بل بينما يرتفع المكسب المصري بالحرب التى قهر فيها عقدة الرهبة والخوف ثم بالمعاهدة التى استعادت كامل أرضه
غير أن الأمر من حيث صورته الأصلية يوضح العكس تماما , وهو نصر إسرائيلي يتمثل فى تحقيق مكسبها البعيد من وراء الحرب مع مصر ألا وهو إبعادها عن معادلة الصراع بكل ما تمثله من ثقل إسلامى وعربي , وهذا الهدف الذى لم يدر لحظة بمخيلة السادات أو أى قائد عربي آخر كان يمثل المقابل المنطقي للخسارة الفادحة التى منيت بها إسرائيل بإحتلال سيناء ثم الجلاء عنها دون مكسب واحد ظاهر أو خفي
ويؤكد هذا المعنى أن حرب 1967 كانت مختلقة أصلا عن طريق إستفزاز مصر بالحشد على سوريا لتسارع مصر باتخاذ إجراءات عسكرية مضادة بحشد جيشها فى سيناء , فتستغل إسرائيل الفرصة للتهليل بأن مصر تنوى العدوان أو على حد تعبير ليفي أشكول ـ رئيس الحكومة الإسرائيلية وقتها ـ أن العدوان بدأ بالفعل وأطلقت فيه مصر الطلقة الأولى بغلق خليج العقبة فى وجه الملاحة الإسرائيلية , " 4 "
وكان مبرر التمثيلية ضمان عدم تحرك المجتمع الدولى لردع العدوان كما حدث عام 1956 م بظهور صورة إسرائيل على أنها خاضت حربا دفاعية لا هجومية وهو ما تم بالفعل وقامت إسرائيل بضرب الجيش المصري فى سيناء واستقرت بها
هنا ..
لو أن هدف إسرائيل كان هدفا سياسيا فقط يتمثل فى توجيه ضربة عسكرية قاصمة لمصر لاكتفت بالضربة وانسحبت لا سيما أنها لا تمتلك الكفاءة أو القوة للسيطرة على تلك المساحة الهائلة , غير أنها احتفظت بها بتكاليف مذهلة ودون أن تمارس علي سيناء نشاط إستيطانى أو إستثمارى يوحى بنيتها الإستفادة من الأرض التى احتلتها ,
غير أن الهدف كان الإحتفاظ بسيناء كورقة ضغط دائمة تجبر مصر على إجراء تنتظره إسرائيل لتنفرد بالعرب جميعا فى غياب القائد ودوره سواء القيادة العسكرية أو القيادة الدينية اليقظة التى يمثلها الأزهر
ولهذا السبب وعلى الرغم من الهزيمة الفاضحة لإسرائيل فى عام 1973 م , والتى كانت كفيلة بالقضاء على مستقبل ومكانة جيل إسرائيل المؤسس كله إلا أن هذا الإنتصار لم ينه مستقبل أحدا منهم إلا صغار القادة فى المؤسسة العسكرية والإستخبارات
فى حين شغل موشي ديان منصب وزير الخارجية فى حكومة بيجن التالية لحكومة الهزيمة , كما شغل شارون منصب وزير الدفاع رغم كونه أحد قواد 1973 م , واستمرت جولدا مائير مستكملة مدتها كرئيسة وزارة رغم الهزيمة
الأكثر من ذلك أن مجئ مناحم بيجن كرئيس وزارة فى إسرائيل قبل بدء مفاوضات مصر معهم لم يمنع ـ كما هو متوقع ـ إستمرار المفاوضات بل على العكس تمت معاهدة السلام فى عهد بيجن اليمينى المتطرف الذى أسس حزبه نفسه على مبدأ حرب بلا نهاية !
وأيضا كان المشهد غريبا بالنسبة للنظرة السياسية بينما النظرة الأخرى وهى هدف إسرائيل البعيد لا يمثل تناقضا مع موقف بيجن كما لم يمثل تناقضا فى استمرار صعود ديان وشارون لأنهما قادا الفكرة المطلوبة بنجاح من معركة 1967 م
وفى المذكرات المنشورة لقادة إسرائيل منذ تم تأسيسها على يد بن جوريون سنلاحظ أن العبارة المتكررة التى يشير إليها كل رئيس وزارة هو مدى أهمية إبعاد مصر عن معادلة الصراع بأى وسيلة كانت
وكدليل آخر على مدى الإطمئنان الذى جلبته معاهدة السلام للإسرائيليين هو أن حركة الإستيطان وبناء المستوطنات لم تبدأ إلا بعد عام 1977 م
ونعود للفكرة الأصلية من هذا الشرح وهو سبب الرعب المستمر من وجود مصر فى بؤرة الصراع وهو ليس رعبا من دافع قوة مصر العسكرية بل هو رعب من شعار أى معركة تقودها مصر ضد إسرائيل وهو الشعار الإسلامى الصرف