ما أن تسأل أي مواطن عربي عن توقعاته لمصير السودان بعد يوم 9 يناير 2011 اليوم المخصص لاستفتاء تقرير مصير الجنوب حتي يقول لك وهو متشائم :"أنها الحرب" ، وأن الجنوب سينفصل طوعا أو كرها في هذا اليوم أو بعده بشهور لو تأخر الاستفتاء ، ولكن سيعقب هذا حرب بين الشمال والجنوب .. ولكن الغريب أنك عندما تسأل المواطن السوداني نفسه هذا السؤال تجده غير مهتم كثيرا أو لا يعيش هاجس هذا اليوم باستثناء القليل، والأمر نفسه مع المسئولين وقيادات حزب المؤتمر الوطني الحاكم حتي أنني عندما سألت الدكتور ربيع عبد العاطي مستشار وزير الإعلام السوداني والقيادي بحزب المؤتمر الوطني السوداني عن توقعاته لما سيجري هذا اليوم ، رد ببساطة قائلا : (لو جاء يوم 9 يناير لن تقوم القيامة .. ) !!.
هذا الهدوء السوداني الداخلي ، برغم أن أسواق الخرطوم تأثرت خلال الأسبوعين الماضيين وارتفعت أسعار السلع وكذا سعر صرف الدولار من 2.15 جنية سوداني إلي قرابة 3 جنية قبل أن تنخفض ثانية لقرابة 2.38 بفعل أنباء عن تصفية جنوبيين في الشمال تجارتهم والهجرة للجنوب ، له تفسير ومغزي هام يلخصه كبار السياسيين والقياديين في الحزب الحاكم ممن ألتقيت بهم وسمعت تصريحاتهم ، يتلخص في أن الحرب لن تقوم لأن الطرفين الشمالي والجنوبي ذاقوا ويلات الحرب طوال 20 عاما ويدركون أنها – رغم استعداد كل طرف لها – لن تأتي بالسلام أو أي مكاسب خصوصا لقادة الحركة الشعبية الجنوبيين الذين سيخسرون الامتيازات التي حصلوا عليها بعد توقيع اتفاق السلام .
ويكفي للتدليل علي الخسائر الاقتصادية فقط تأكيد الخبير الإقتصادى الدولي د. إبراهيم البدوي أن تكلفة الحرب الأخيرة -1984-2002م- قد فاقت الـ(46) مليار دولار أمريكي ، وتأكيده - فى ندوة أقامها منبر السودان الديمقراطي بولاية فرجينيا الأمريكية أن الحرب مستبعدة بعد الانفصال "لان تكلفة الدخول في حرب بينهما عالية جدا، ولن يقدما عليها " ، إذ أن كل الإحصائيات الاقتصادية تقول بان اقتصاد دولة الشمال- بعد انفصال الجنوب- سوف يتعرض إلى (صدمة) لن يتعافى منها حتي عام 2020م، وعزا ذلك:" لان دولة الشمال سوف تفقد 40% من موارد البترول، لاسيما أن أكثر من 70% من البترول المنتج يأتي من حقول الجنوب" ، أما الجنوب فسوف يخسر بدوره عائدات النفط التي كان يحصل عليها من الشمال وتنهار كل مشاريع التنمية التي بدأت وتعود حركة التمرد للأحراش .
وقد ألمح لهذه الخسارة الشمالية في كل الأحوال نتيجة الحرب أو الانفصال ، وزير المالية السوداني علي محمود بتأكيده : "سنفقد 70% من نصيبنا في احتياطي النفط و50% من عائدات النفط إذا انفصل الجنوب ، ودعوته الشعب السوداني "للعودة إلى منتجاتنا المحلية، إلى الذرة والدخن، إلى الكسرة (خبز سوداني من الذرة الرقيقة) والعواسة (عملية تقليدية لطهي الكسرة)" !.
فالجميع يدرك بالتالي أن الحرب ليست هي الحل ، ويدرك أن تهديدات الطرف الأخر ، خصوصا تهديدات الحركة الشعبية بالانفصال من طرف واحد لو تأجل الاستفتاء عبر تصويت برلمان الجنوب علي الانفصال ، ليست سوي وسيلة للضغط وإنها ليست تهديدا حقيقيا ولا تستطيع الحركة تنفيذه ، لأنه سينزع عن دولة الجنوب الانفصالية في هذه الحالة الشرعية بحكم اتفاقية السلام التي تنص فقط علي تقرير المصير عبر الاستفتاء فقط .
بل أن هناك في الخرطوم من يعتقد أن حزب المؤتمر الوطني في الشمال ينصب فخا للحركة الشعبية الجنوبية ، مع ضيق الفترة الزمنية لحل المشكلات المتعلقة بالاستفتاء ، ويستدرجها عبر التصريحات الاستفزازية برفض إجراء الاستفتاء ما لم يتم حل المشكلات المتعلقة به ، بهدف دفعها لإعلان الاستقلال من طرف واحد بما يجعل الانفصال غير شرعي ويرفع الحرج عن الخرطوم فيما يخص موافقتها علي انفصال جزء من البلاد ويقولون أن الحركة الشعبية تدرك هذا الفخ الذي تستدرجها الحكومة له ، خصوصا أن هناك نصائح سياسية أمريكية تنقل لحكومة الجنوب ، ما يعني في المحصلة النهائية أن الحركة الجنوبية سترضخ في نهاية المطاف لشروط الخرطوم المنطقية ، فيما يخص الاستفتاء خصوصا ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب قبل وليس بعد الاستفتاء ، والسماح لكل القبائل العربية في آبيي بالتصويت في الاستفتاء ، ومن ثم تأجيل استفتاء 9 يناير لعدة اشهر أخري وربما أكثر خصوصا لو أعلن الجنوب انفصاله من طرف واحد ليبقي الوضع أشبه بانفصال واقعي ولكن غير معترف به من قبل الخرطوم !.
فالسيناريوهات المطروحة في هذه الحالة هي :
- إما استفتاء بموافقة الطرفين بعد حل المشكلات العالقة ومن ثم الانفصال رسميا ، وهو ما يفتح الباب لنقل الصراع للجنوب ليصبح جنوبي جنوبي بين القبائل المتطاحنة هناك .
- وإما استفتاء من طرف واحد تقوم به حكومة الجنوب يشبه ما جري في الانتخابات الأخيرة من تزوير إرادة الجنوبيين واختيار الانفصال بنسبة تفوق الـ 80 أو 90% كما يروج قادة الحركة ، وهو ما قد يستتبعه مناوشات حدودية واشتباكات لا ترقي لمستوي الحرب الشاملة ، وتبادل طرد الجنوبيين والشماليين بين الطرفين وحملات عنصرية ضد المسلمين الجنوبيين في الجنوب خصوصا من ليس لهم قبائل قوية تحميهم.
- وإما بقاء الوضع علي ما هو عليه، بمعني انفصال الجنوب فعليا كما هو حاليا دون استفتاء ودون إعلان رسمي للانفصال ، وبقاء المشكلة علي حالها ولكن بدون حرب لفترة من الوقت لحين وقوع اي تغييرات مستقبلية في معادلة الصراع .
أمريكا تحرك الجنوبيين
ويقول مثقفون وإعلاميون سودانيين ألتقيتهم في الخرطوم أن الانفصال قادم قادم لا محالة ، ولكنه يشككون فيما تقوله الحركة الشعبية من أن هذا الانفصال هو (وليد إرادة شعب الجنوب) لأن شعب الجنوب ليس له إرادة ويعيش سكانه عرايا كما هم في الجنوب دون خدمات حكومية بسبب الفساد وإنفاق أعضاء الحكومة والجيش الشعبي الجنوبي أموال النفط علي التسلح ووسائل رفاهيتهم ، ومن يعيشون منهم (الجنوبيين) في الخرطوم لا يكترثون كثيرا للاستفتاء أو هم مع الوحدة ، ولذلك يؤكد هؤلاء الخبراء السودانيين أن من سيحدد مصير الجنوب ليس الحركة الشعبية وإنما الولايات المتحدة الأمريكية والغرب !.
والأغرب أن البعض يتصور أن الولايات المتحدة لم تحسم أمرها بعد مع انفصال الجنوب أم مع الوحدة ، لأن هناك فريق داخل الإدارة الأمريكية بدأ يعارض انفصال الجنوب خشية أن يؤثر الانفصال علي إشاعة الفوضى في هذه المنطقة وفي كل منطقة شرق أفريقيا (برغم الرغبة الأمريكية في تفتيت السودان وإضعافه سلميا وفق نظرية شد الأطراف) وهو ما سيضر في هذه الحالة المصالح الأمريكية أكثر ولا يخدمها ، خصوصا المخاوف من عودة ظهور ونشاط تنظيم (القاعدة) في السودان التي كانت أول دولة تحتضن زعيم القاعدة أسامة بن لادن في التسعينات والتي يقال أن خلاياها هناك موجودة ولكن نائمة بدليل تحريرهم !.
وهذا السيناريو ألمح له الرئيس الأمريكي باراك أوباما الأسبوع الماضي عندما قال إن السودان من بين أولوياته الرئيسية وحذر من عدم إجراء الاستفتاء في موعده ، حيث قال عبارة ذات مغزي هي أنه يريد أن يمنع حربا وأن يتفادى (خطر أن يفتح الصراع مرتعا جديدا للنشاط الإرهابي في المنطقة) في قراءة أمريكية واضحة تنم عن مخاوف من أن ياتي الانفصال والتوتر في المنطقة وربما الحرب لدخول القاعدة علي الخط ومن ثم ربطها بين نشاط القاعدة في شرق أفريقيا وبين نشاطها في الوسط والغرب (اليمن والصومال والصحراء الغربية ...) !!.
ولهذا يطرح البعض – مثل الهندي عز الدين رئيس تحرير صحيفة (الأهرام اليوم) السودانية الخاصة الجديدة – سيناريوهات صعبة تمنع انفصال الجنوب مثل استقرار أمريكا علي أن الانفصال ضار أكثر مما هو نافع وبالتالي الضغط علي الحركة الشعبية لتبني خيار الوحدة ، أو وقوع انقلاب أو اضطرابات في أوغندا نفسها التي تعتبر القاعدة الخلفية للحركة الشعبية وظهرها القوي ، ومجئ من يرفضون انفصال الجنوب ، أو أي سيناريو أخر يؤثر علي الحركة الجنوبية ومنعها من اتخاذ قرار الانفصال علي اعتبار أنها هي التي تسيطر علي نتيجة الاستفتاء وتزويره لا رجل الشارع الجنوبي نفسه في الشارع كما يقال !.
ويزيد من حيرة هذا التخبط الأمريكي أن واشنطن التي تؤيد طلب سلفاكير رئيس جنوب السودان شبه المستقل إقامة منطقة عازلة بعمق 16 كيلومترا تديرها الأمم المتحدة على طول الحدود سيئة الترسيم ونشر قوات دولية ، رفضت الخرطوم طلبها واعتبرته تدخلا في استقلالها ، في الوقت الذي تؤكد فيه كل الدلائل أن واشنطن لن تتدخل عسكريا في السودان ، فاحتمالات التدخل العسكري الأمريكي - وفق القيادي في حزب المؤتمر الوطني الحاكم – مستبعده تماما ، وحتي تقديم أمريكا أي مساعدة للجنوبيين "فهي تحاول أن تخرج من العراق وأفغانستان" ، ولذلك تقتصر في تعاملها مع السودان علي رفع الجزرة وكلما نصل لها يقذفون بها بعيدا عنا " !.
عقبات الاستفتاء
ولكن ما هي عقبات الاستفتاء الرئيسية ؟ هناك عشرات المشاكل المثارة التي تعرقل الاستفتاء ، ولكن أهمها علي الإطلاق هي مسألة ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب ، وأن يكون الاستفتاء مراقب ونزيهة ، بخلاف إعطاء القبائل العربية حق التصويت في أبيي علي تقرير المصري ، إذ يطالب قادة الحركة الشعبية بتأجيل ترسيم مناطق الحدود المتنازع عليها لما بعد الاستفتاء ، ولكن الخرطوم ترفض هذا لأنه من غير المنطقي إجراء استفتاء وقبول الانفصال مثلا ثم ترك الحركة الشعبية تقول ان تلك المنطقة جنوبية تابعة لها أو تلك !.
وعلي حد قول القيادي في الحزب الحاكم "ربيع عبد العاطي": "لن نقبل أي استفتاء ما لم يكن نزيه أصلا ولن نفرط في ضرورة أن تكون الإرادة الجنوبية حرة تماما في التصويت في الاستفتاء ولن نقبل أي سيناريو للحركة الشعبية يهدف لتزوير استفتاء الجنوب كما فعلوا في الانتخابات الأخيرة وإلا كنا قلنا لهم من الأول أذهبوا وافعلوا ما تشاءون " ،و "لن نقبل بآي استفتاء تجريه الحركة الشعبية وحدها ولن نقبل به إلا في ظل حرية الجنوبيين كلهم في التصويت لان الصناديق لابد أن تكون محروسة ومؤمنة .
فهو يري أن الحركة الشعبية تريد "استفتاء علي هواهم "بحيث يقولوا أننا وافقنا علي الاستفتاء وعلينا أن نقبل بنتائجه .. ثم بعد هذا يقولون لنا أن آبيي هي ضمن الجنوب وجبال النوبة ضمن الجنوب (!).. هذا غير مقبول ولابد من ترسيم الحدود أولا " بحسب قوله .
ويشرح الدكتور ربيع عبد العاطي طبيعة وصعوبة الصراع فيما بين مناطق التماس بين الشمال والجنوب معتبرا أنها مشكلة اجتماعية بسبب التداخل القبلي ، مؤكدا أنه ما لم يتم حسم النزاع اجتماعيا فلن يحسم سياسيا ولا عسكريا ، لأن لدينا 2000 كم من الحدود والقبائل العربية تذهب جنوب بحر العرب 400 كم من 100 سنة ، وهي (القبائل العربية) سيدة الموقف ويصعب أن تأتي أمريكا مثلا بقوات عسكرية كي تنفذ انفصال اجتماعي فالأمر لا يحتاج لجيوش ( إلا في حالات الإبادة) وانما حسم النزاع اجتماعيا .
ويتساءل : "هل الحركة الشعبية وأمريكا مستعدة لإبادة القبائل العربية (الرزيقات والمسيرية ..ألخ) في مناطق النزاع وخلق حرب إبادة جديدة ؟ ، مستغربا ما يطرحونه من أفكار لحل هذه المشاكل في استفتاء ابيي مثل قول الجنرال جريشون الوسيط الأمريكي : "إننا نعطي الحق في الرعي للأبقار والأغنام في الجنوب ولا نعطي الحق للراعي نفسه !! " ، وتسائل : كيف هذا ؟ وأين حقوق الإنسان في حين أنهم في أمريكا يعطون الجنسية لمن يبقي في بلادهم فترة معينة " ، أي أن الخرطوم لن تقبل "ولن نوافق أبدا علي الاستفتاء دون تصويت كل سكان آبيي بما فيهم القبائل العربية في الاستفتاء .
وأحد أسباب رفض الخرطوم تزوير إرادة ناخبي الجنوب هو وجود أكثر من مليون مسلم جنوبي ، إذ يقول مستشار وزير الإعلام السوداني والقيادي بحزب المؤتمر الوطني السوداني أن هناك في الجنوب قبائل جنوبية مسلمة بالكامل ولا يمكن أن نضحي بها ولو قبلنا باستفتاء علي هوي الحركة الشعبية بدون أي ضمانات لإرادة انتخابية حرة فمعناه أننا سنقبل بإبادة أكثر من مليون مسلم في الجنوب كما حدث في زنجبار " .
فكرة اندلاع حرب مباشرة في السودان بين الشمال والجنوب بعد 9 يناير 2011 في حالة لم يجر استفتاء تقرير المصير في موعده لن تحدث بالتالي بصورة فورية، وإنما سيضطر الجنوب للتفاوض مع الشمال لحل مشاكل الاستفتاء أولا قبل إجراءه أو المغامرة بانفصال غير شرعي من طرف واحد يجعل الصراع مستمرا، بصرف النظر عن احتمالات وقوع الانفصال في نهاية المطاف كما يري كثيرون
رابط الموضوع الاصلى:
http://www.africaalyom.com/web/Details/1466-1/news.htm