القصة الكاملة لاستشهاد عبد المنعم رياضذكريات أطول يوم في حرب الاستنزاف على جبهة القناة
محمود مراد
ان أحداث مارس/ آذار 1969 العظيمة لا تزال في وجداني، فلقد كان حظي ان اكون وقتها في الجبهة وبالذات عند موقع عبدالمنعم رياض -المعدية رقم 6 على خط النار مع الرجال- رفاق السلاح.. أعيش معهم ساعات ذلك القتال الذي بدأت مقدماته ظهر يوم 8 مارس/ آذار.
وقتها كنت أجلس أمام فوهة أحد الخنادق، بجواري راديو ترانزستور يذيع موسيقا خفيفة، لا يعنيني أن أنصت اليها، لكنها بصفة عامة تشيع احساسا بالراحة، بينما عيناي تحدقان في ما حولي.. رمال صفراء تلسعها أشعة الشمس، وأشجار تتحدى بخضرتها تربة الصحراء وتعطي الأمل، ومن قرب يبدو شريط القناة، حزينة مياهها، راكدة بغير حراك، وهنا وهناك زملاء من المقاتلين، بعضهم في نوبات عمل وحراسة، وراء مدافعهم أو يمسكون ببنادقهم. أو منصتون لأجهزة اللاسلكي، أو راصدون لسكنات العدو قبل تحركاته على الشط الآخر، وبعضهم في فترة راحة يخيط ملابسه.. أو يغسل أوانيه.. أو يقرأ جريدة.. أو يداعب قطة لست أدري من أين جاء بها.
فجأة يقطع تأملي أحد المقاتلين، وكان من قبل طبيبا بيطرياً، ومع كلماته المرحة بدا متهكما على “سرحاني” يلتقط جهاز الراديو ويعبث في مؤشره باحثاً عن أغنية لكنه يتوقف على صوت مذيعة تعلن من راديو “إسرائيل” عن تهديد موشي ديان -وزير دفاع العدو- بالهجوم على جبهة القناة انتقاما من القناصة المصريين الذين يصطادون أفراد العدو.
ارتفعت ضحكات المقاتل وهو يقول معلقاً:
شوف ابن ال.. طيب ييجي يورينا شطارته. ودخلنا في نقاش ساخن واتسعت دائرة النقاش لتشمل زملاء آخرين، ولم ينته النقاش الا بوصول طعام الغداء.. فقمنا نستعد له.. وضعنا الطعام أمامنا شهيا لذيذا.. وقبل ان تمتد اليه أيدينا جاءنا الإنذار بالمعركة.
على الفور نهض الرجال كل إلى موقعه.
وبدأ القتال.. ولعبت المدافع دورها واستمرت حتى هبط الليل، ولم تفلح مشاعل العدو التي كان يطلقها في كشف مواقعنا، فلقد كان المقاتلون يصطادون المشاعل وهي في الجو.
ثم فجأة اندلعت النيران بشدة وسط انفجار عنيف في دشمة العدو أمام كوبري الفردان والتي تعتبر جزءاً مهماً من خط بارليف الذي بناه حصنا يحميه.. وفجأة أيضا وبروح عالية خرج المقاتلون المصريون من خنادقهم تحت الأرض يهتفون: “الله أكبر.. اله أكبر”.
واشتد انفعالهم وعلت أصواتهم تملأ الفضاء وهم يشهدون الانفجار الدامي الذي وقع في مخزن رئيسي لذخيرة العدو.. يحيل ظلام الليل إلى نور بفعل ألسنة اللهب المتشعبة التي تكشف من تحتها أفراد العدو يجرون، وبعد قليل رصدت مدافعنا احدى وحدات مدرعات العدو قادمة من المحور الأوسط لتعزيز قواته، وترجم الرصد إلى عملية تكتيكية اشترك في رسمها قائد التشكيل وقائد مدفعيته، ثم أعطيت الأوامر إلى مواقع المدفعية فأطلقت قذائفها تفتك بقوات العدو، وتدمر بعض مدرعاته وتهرب الأخرى عائدة من حيث أتت.
وتوقف -للأسف- إطلاق النار.
وخرج قائد التشكيل من خندق العمليات يجلس على كرسي وسط الرجال يرشف فنجانا من القهوة ومن حوله جلسنا أو وقفنا نهنئ أنفسنا ونأمل أن يتجدد القتال في التو واللحظة.
مضى جزء كبير من الليل.. وعدنا إلى خندقنا، وعندما دخلنا تذكرنا الطعام.. وكم كانت حسرتنا عندما اكتشفنا ان القطة التي يصادقها أحد الزملاء قد دعت في غيابنا بعض أسرتها لالتهام طعام الغداء والعشاء.
ضحكنا.. وقال واحد منا وصدقنا جميعا على كلامه: أقول لكم الحق.. أنا شبعت.. شبعت من السعادة.. من اللي حصل النهارده.. احنا ضربناهم ضرب.
وقال المقاتل “الطبيب”: مش قلت لك.. ييجي يورينا شطارته.
تفرع النقاش.. وطال ثم أسلمنا عيوننا للنوم.
صبح الصباح
خرجت الشمس من بيتها تغسل الكون من بقع السواد.. بقايا الليل.
حكي لنا الرجال المكلفون بالحراسة ليلا كيف كان العدو ينقل قتلاه وجرحاه ويجمع أشلاءه المتناثرة على أرض سيناء.. وبدأ كل واحد من الذين اشتركوا في القتال يروي ما فعل.
وأكدت أجهزة الرصد ان خسائر العدو أكثر مما أذاعته قيادتنا في البلاغ الرسمي.. لقد كان التنبيه مشددا بأن تأخذ القيادات المحلية الحذر ولا تبالغ ولا تذكر خسائر العدو الا اذا كانت محققة وأكيدة، ولهذا فقد أغفلت البلاغات ذكر خسائر لم يكن التأكد منها -وقت الاصدار- يصل إلى درجة مائة في المائة.
ومع الحديث عما جرى بالأمس، نشط الاستعداد لما هو متوقع حدوثه اليوم. فاليوم -9 مارس- لابد وأن يحاول العدو الانتقام من خسائره أمس 8 مارس.
جرى الاستعداد على قدم وساق.. وبعد ان عقد قائد التشكيل اجتماعا مع مساعديه، استقل سيارته الجيب ليطوف على الوحدات الرابضة على شاطئ القناة في دراسة ميدانية لساحة المعركة. أما رئيس أركان التشكيل فبقي في مكتبه يمارس مهام العمل.
......
وفي الساعة الثانية ظهرا، كان رئيس أركان التشكيل يراجع بعض التقارير، وعلى بعد خطوات أمامه وقف رقيب وفي يده دفتر الأوامر انتظارا لتوقيعها عندما دخل المكتب الفريق عبدالمنعم رياض.. ممشوق القامة، يرتدي زي الميدان، على عينيه نظارته الشمسية، وفي يده عصاه.. فوجئ من في المكتب.. انتفض رئيس الأركان واقفا مؤديا التحية العسكرية..
رد عبدالمنعم رياض التحية وسأل: انت قائد التشكيل؟
- لا يا فندم.. أنا (....) رئيس الأركان.
أمال فين القائد؟
- بيمر على الوحدات يافندم.
طيب انا عايز أمر على الوحدات.. أقابل الرجال اللي حاربوا امبارح.
- أمرك يا فندم.. أنا جاي مع سيادتك.
لا.. خليك انت هنا.. هتبقى انت والقائد مش موجودين.. أنا عايز أي ضابط ييجي معايا.
- حاضر يا فندم.. النقيب (....) هيكون مع سيادتك.
يللا بينا..
جرى الحديث من دون ان يجلس عبدالمنعم رياض.. دون ان يستريح لحظة.. دون أن يتناول حتى رشفة ماء.. كانت زيارته “مهمة عمل” تعطي مثالا رائعا للزيارات من هذا النوع مفاجئة مباشرة من دون اخطار سابق، من دون اعداد، من دون مجاملات أو ضيافة.
ركب عبدالمنعم رياض سيارة جيب يقودها رقيب أول، وجلس معه في السيارة رئيس اركان الجيش الثاني وقائد مدفعيته، وفي سيارة أخرى كان النقيب المرافق لرئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة في زيارته للوحدات المحاربة.
سلكت السيارتان طريقهما إلى الكتيبة التي يرابط افرادها عند المعدية رقم 6 وما حولها.. قابله قائد الكتيبة ورئيس عملياتها.
........
........
ان هذه الكتيبة كان لها الدور البارز في عمليات الأمس.. تركز عليها هجوم مدفعية العدو بقصف حاد كثيف، ورغم ذلك استطاع افراد الكتيبة أن يردوا على هذا الهجوم وان يدحروه.
أيضا فإن هذه الكتيبة كانت سبب المعارك..
قبل يومين
يوم 6 مارس اصطاد قناصة الكتيبة ثلاثة من جنود العدو.. وفي ذات اليوم أفلح قناصة العدو في اصابة جندي مصري.. وفي اليوم التالي 7 مارس، وانتقاما لهذا الجندي المصاب، ورغم قتل 3 من جنود العدو، تربص قناصة الكتيبة حتى شاهدوا 7 ضباط للعدو لابد أنهم جاءوا للمعاينة ورسم خطة، وخلال نقاشهم من حول خريطة ميدانية بين حراسة عدد من الجنود، انطلقت بنادق القناصة المصريين فأصابت 4 منهم تكوموا على الأرض بينما فر الثلاثة الآخرون. وعندما حاول بعض الجنود سحب الأربعة في حماية احدى المدرعات انهمر عليهم الرصاص المصري فأصاب بعضهم.
هذا الحادث يجعل للكتيبة مكانة خاصة، وهو أيضا السبب الذي دفع ديان إلى اعلان تهديده، وإلى بدء معركة الأمس 8 مارس التي تكبد العدو فيها خسائر لم يكن يتوقعها.
لهذا السبب أيضا اختيرت الكتيبة ليزورها رياض، فلقد كان هو مصرا على أن يلتقي المقاتلين أينما كانوا. وعندما طلب هذا من قائد الجيش عند لقائه به في موقع خلفي، اقترح قائد الجيش أن يزور الفريق رياض موقعا للمدفعية، ضحك رياض الذي كان من قبل قائدا للمدفعية:
أفضل أن أزور وحدة مشاة من التي اشتبكت أمس.. فلهذا السبب جئت، وأيضا لا أحب أن أبدو متعصبا للمدفعية.
وعاد قائد الجيش يقترح وحدة أخرى لأن وحدة المشاة التي قاتلت موجودة على شط القناة مباشرة، وعاد رياض يصر قائلا ان مكان القادة بين جنودهم في الميدان، ولهذا فسوف يذهب حتى ولو قطع الطريق إلى المقاتلين زحفا.
هكذا تحدد خط سير الزيارة، وكم كان الفريق رياض سعيدا وهو يزور الكتيبة التي استبسلت في معركة 8 مارس.. وطلب أن ينتقل على الفور إلى مواقع المقاتلين، وكما فعل في قيادة التشكيل، فعل هنا، طلب من قائد الكتيبة أن يبقى في غرفة عملياته انتظاراً لأي طارئ، واصطحب معه الرائد (....) من الكتيبة.
قال الرائد: سيادة الفريق.. إلى اين تريد أن تتوجه سيادتك؟
- ورد رياض: إلى أي موقع أمامي.
الرائد: أمامنا أكثر من موقع أمامي.
- قال رياض: اذن نزور أكثرها تقدما في الامام.
بالفعل توجه الفريق عبدالمنعم رياض إلى المواقع الأمامية، يلتقي جنودها يناقش قادتها، يدخل الخنادق فاحصا مدققا، يسأل الأفراد عن معركة الأمس وكيف جرت، ينتقل خلف السواتر رشيقا باسما.
ورغم أن عبدالمنعم رياض هو رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة بكل ما يتضمنه معنى المنصب من مهابة، ورغم أن الرجل قائد كبير، عسكري البنية والطالع، الا أنه أشاع في كل ما زاره من مواقع. البسمة والراحة..
لم يشعر أحد بالخوف.. لم يتلكأ لسان أحد بالحديث.
وهنا قال الرائد: سيادة الفريق.. هل تحب أن ترى بقية جنودنا في حفر مواقعنا؟
وببسمة مشرقة اجابه عبدالمنعم رياض باللغة الانجليزية التي كان يجيدها مع الفرنسية والروسية: “yes, by all means” (أي: نعم وبكل وسيلة).
اتجه الفريق رياض ومن معه وسط طريق مرصوف ضيق يخترق حديقة اشجار نادي هيئة قناة السويس، إلى الموقع نمرة 6.
هذا الموقع تابع لكتيبة المشاة، تتمركز فيه احدى سراياها وكانت فيه وقتها مدافع 85 مم.
صافح رياض الجنود واحدا واحدا.. مر عليهم في مواقعهم.. ناقشهم وناقشوه.. ضحك معهم وضحكوا معه، شعر كل منهم انه امام أخ أكبر.. أمام أب.. أمام استاذ قبل أن يسقيهم العلم يحتويهم بالحنان.
كان رئيس أركان حرب القوات المسلحة وقت هذه الزيارة في المواقع الرابضة على شط القناة مباشرة، بينه وبين المياه سبعة أمتار وبينه وبين العدو “الإسرائيلي” على الشط الشرقي نحو 150 مترا فقط.
ولقد كان عبدالمنعم رياض يدرك خطورة هذه المواقع، ويدرك أيضا أن العدو بغير شك يستعد لينتقم من معركة الأمس. لكنه قبل ذلك كان يؤمن وينادي بضرورة أن يحارب القادة من قلب الميدان ذاته لا أن يديروا المعارك من مكاتبهم.
كان عبدالمنعم رياض دائما يؤمن ويقول: “ان مكان الجنرالات الصحيح وسط جنودهم، واقرب إلى المقدمة منه إلى المؤخرة”، بهذا المفهوم الصحيح أعاد رياض إلى العسكرية المصرية شرفها وقدرتها وقيمتها على القتال والتخطيط.
وبهذا المفهوم كان لقاؤه بالمقاتلين على بعد 150 مترا فقط من العدو.
وبهذا المفهوم أيضا قام رياض بهذه الزيارة رغم الجهد الذي بذله في بغداد حيث كان مؤتمر رؤساء هيئة اركان حرب جيوش دول المواجهة. ورغم انه عاد من بغداد صباح يوم 9 مارس نفسه الا انه اتجه على الفور من المطار إلى مكتبه بالقيادة العامة ليقدم تقريره ويناقش تقريرا عن معارك يوم 8 مارس، ثم على الفور غادر مكتبه إلى حيث ركب الطائرة إلى الجبهة يلتقي الرجال.
ولقد شعر الرجال بسعادة غامرة وهم يرون القائد بينهم في أكثر المواقع الأمامية المتقدمة على مسافة أمتار من العدو.
قال العريف عوض: “التقيت به، صافحني، شد على يدي، ربت على كتفي، هنأنا على معركة الأمس، ثم قال لنا بروح عالية: “أنتم بخلاء واللا ايه.. متعملو لنا شاي.. واللا معندكوش”؟ وضحك.. ضحكنا معه من القلب.. وبدأنا في إعداد الشاي”.
وقال المدفعجي سيد: “شعرنا وأيدينا بين يديه أنه أب لنا.. كان حديثه معنا كلمات أب حنون عطوف.. سألنا وأجبناه.. لم نشعر برهبة الخوف.. لكن غمرتنا السعادة والراحة”.
وقال الجندي محمد: “لقد تنقل سيادة الفريق بيننا.. يصافحنا ويتباسط معنا.. وأعطانا تشجيعه طاقات هائلة من القوة.. لقد ملأنا بالارادة والعزم.. ولو كان أحدنا يشعر قبل زيارته بتعب.. فبعد الزيارة تلاشى التعب بما اضافه إلى كل منا من زاد الشجاعة”.
ولقد كان الجنود يسألونه بالأمل كله: سيادة الفريق.. أمتى يا فندم نطهر أرضنا.. احنا عايزين نشتبك مع العدو؟
وكان هو بحكمة القائد وتصميمه يرد: بكره مش تشتبك معاه وبس.. بكره بإذن الله تعدي الميه دي، وتدوسه برجليك.
...........
..........
هكذا كانت زيارة رياض للموقع الأمامي ذات طعم خاص.. أعطى خلال فترتها القصيرة دروسا عديدة للضباط والجنود، لم يكن في زيارة تقليدية، وانما كان في “مهمة عمل” بين مقاتليه، يمسك بنظارة الميدان يراقب ويستكشف.
فجأة فتح العدو نيرانه. تجددت المعركة، والتفت الفريق عبدالمنعم رياض إلى الرائد (....) الذي كان مكلفا بمصاحبته من الكتيبة وقال: “روح أنت.. اذهب.. حارب في كتيبتك”.
عاد الرائد فورا إلى موقع واجبه، بينما قفز هو -الفريق رياض- إلى حفرة حدثت نتيجة قذيفة منذ فترة، وبقي فيها مع رئيس الأركان.. وقفز قائد مدفعية الجيش في حفرة مجاورة.. ومن الحفرة بدأ رياض يراقب المعركة ويدرسها متتبعا سيرها.. واقفا على مدى كفاءة رجاله.
وخلال ذلك سقطت دانة غادرة شريرة تسببت في اصابة الفريق رياض ورئيس الأركان اللواء سعدي نجيب.
ورغم ان ما حدث لرياض كان صعبا وقاسيا الا انه لم يشأ ان ينادي أحدا، وأغلب ظني واعتقادي انه -بشهامته وبعسكريته الحقة- كتم آلامه في صدره من دون أن يشرك أحدا فيها حتى لا ينشغل به الرجال عن معركتهم مع العدو.
لقد كان في مقدوره أن ينادي أحدا.. أن يصرخ فيتجمع من حوله العشرات.
ومثلا كان في مقدوره ان يعود إلى الوراء ولو زحفا حتى يصل إلى سيارته فتحمله إلى نقطة اسعاف او مستشفى، لكنه -في أغلب ظني- أبى حتى لا يراه أحد من الرجال فيدب الذعر في الموقع وينجح العدو في اصطياد اكبر عدد من المقاتلين واكبر كمية من المعدات.
كان يمكن ان يفعل ذلك.. وليته فعل.. فالرجال في الموقع يفدونه بالروح.
دارت المعركة.. وانخلعت قلوب الرجال.. لم تنسهم النيران ولم تشغلهم على ان يسألوا ويتساءلوا.. ويأملوا.. أين هو؟ أين رياض؟
ليته يبتعد عن هذا المكان.. ليته ينزل في خندق داخل بطن الأرض.. ليته يسرع إلى سيارته.
وتحت حمم الدانات، وقد سقطت في المواقع اكثر من مائة قنبلة ثقيلة، انتشر عدد من الرجال بحثا عن رئيس اركان حرب القوات المسلحة المصرية.
من هؤلاء الرجال، رقيب وصل إلى الحفرة على صوت أنين خافت من رئيس اركان الجيش الذي قال فور رؤيته للرقيب:
“اسرع.. ادرك سيادة الفريق.. واتركني انا فإن اصابتي ليست الا كسرا في ساقي ويدي” لكن رياض كان قد استشهد.
كان راقدا في رجولة.. تقلصات ألم صامت تشد تقاطيع وجهه.. وخيط رفيع من الدم ينساب هادئا من بين شفتيه.. ينزل قطرة قطرة على زيه العسكري الميداني يرصعه بأعلى درجات الأوسمة والنياشين.
اسرع الرقيب بابلاغ قائده المحلي، ومنه إلى الكتيبة، ومنه إلى قائد التشكيل.
كان قائد التشكيل في غرفة العمليات تحت بطن الأرض بين مجموعة من مساعديه وخرائط ميدانية وعديد من اجهزة اللاسلكي والتليفونات.
تلقى القائد الخبر..
سقطت سماعة التليفون من يده، وجم من حوله.. ساد الحزن وهم يشاهدون القائد ساكتا هامسا.. والسماعة تترنح مدلاة بحبلها الاسود ومنها ينبعث صوت كسير متقطع: ألو.. سيادة القائد.. ألو.. ألو..
بعد لحظات، استجمع قائد التشكيل شجاعته، أمسك بسماعة التليفون وهمس:
طيب.. طيب..
ثم ومن دون ان يلتفت لأحد قال لمن حوله:
اللواء رياض.. وسكت.
ما له.. ما له.. خير.. حصل ايه.. اتكلم يا فندم.
.. استشهد.
ساد الصمت، علت أصوات بكاء.
يا رجّاله لازم نواجه الموقف بشجاعة.. احنا في معركة.
بالفعل واجه الرجال على طول خط النار، وفي عمق الجبهة المصرية كلها، الموقف بشجاعة فائقة.. واصبح استشهاد عبدالمنعم رياض -الذي رقي بعد استشهاده إلى رتبة فريق- رمزا لشخصية المقاتل المصري، قائدا وجنديا.
وفي اليومين التاليين 10 و11 مارس، وبالذات يوم 11 مارس لقن المقاتلون المصريون: عدوهم “الإسرائيلي” درسا فادحا لعبت فيه المدفعية أروع أدوارها وكادت تنبض بحماسة الرجال -مثل أي كائن حي- الكراهية للعدو.. مما كبده يومها خسائر بلغت: خمس طائرات مروحية كان يستخدمها في تصحيح نيرانه و22 دبابة و10 بطاريات مدافع ذاتية الحركة وهاون و10 مواقع صواريخ غير قتل وجرح عدد كبير من ضباطه وجنوده.
......
......
هكذا كانت عمليات مارس بداية مرحلة جديدة من مراحل المواجهة مع العدو، وهكذا كان استشهاد عبدالمنعم رياض الذي أصبح تاريخ رحيله هو “يوم الشهيد”.
ومضت الأحداث تؤكد بسالة الرجال.. وتتصاعد بالقتال إلى عمليات عبور القناة لتلاقي العدو وسط مواقعه، ولتحقيق النصر في أكتوبر المجيد.