الثورة الإيرانية
تواجه الثورة الإسلامية الإيرانية في أيامنا هذه أصعب تحدٍ داخلي. حتى لو استطاعت أن تتغلب على هذا التحدي فلا بد أن أسسها ودعائمها قد اهتزت بشكل مريع. فالاضطرابات والتظاهرات المتكررة من قبل الإصلاحيين وأعضاء المعارضة التي حصلت في العاصمة طهران وفي العديد من المدن الإيرانية الرئيسية منذ الانتخابات الرئاسية في شهر حزيران / يونيو 2009 أصبحت أشد عنفاً مع مرور الوقت. ومطالب قادة لإصلاحيين بقلب نتائج الانتخابات وإخراج الرئيس محمود أحمدي نجاد بدأت تتغير. وبدأت الصرخات المدوية ترتفع في مسيرات المعارضة في الشوارع تطالب بسقوط نظام الحكم . كان الصراع الداخلي على السلطة يحدث على خلفية النزاع بين طهران والمجتمع الدولي على البرنامج النووي الإيراني المثير للجدل. ورفض إيران وقف عملية تخصيب اليورانيوم قد يعرضها لجولة جديدة من العقوبات الدولية ويزيد من خطر المجابهة العسكرية بينها وبين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية. وكان التوتر العرقي – الطائفي بين السنة والشيعة وبين العرب والفرس ناشطاً، خلال السنوات القليلة الماضية، نتيجة للدور الإيراني الكبير في العراق ولبنان وفي أراضي السلطة الفلسطينية وفي اليمن وأماكن أخرى.
التطورات الداخلية والخارجية التي تواجه الثورة الإسلامية الإيرانية قد تجعل هذه الثورة تأخذ المسار الطبيعي الذي خبرته كافة الثورات عبر القرون الماضية. فقد كانت للثورات الناجحة عبر التاريخ نهايات محتومة، إما عبر حركات إصلاحية داخلية أو حركات تصحيحية، أو عبر الحروب مع قوى خارجية. إن مسيرة تطور كل ثورة من الثورات معقود بالطريقة التي يستطيع بها قادتها المحافظة على توقعات وتطلعات الجماهير. على كل حال، فإن الثورات لا يمكن أن تنجح سوى بدعم كلي من قبل الجماهير، ويظل بقاؤها رهناً بالدعم الكامل من قبل هذه الجماهير.
هذا ومن الضروري عدم المزج بين الثورات والانقلابات التي يقوم بها القادة العسكريون الذين يتحولون في الغالب إلى دكتاتوريين. فخلال الثورات يتولى الشعب الإطاحة بالحكومة، تطلعاً منه إلى نظام حكم أفضل يقوم على أساس إيديولوجية معينة يطرحها زعيم أو زعماء الحركة الثورية. وعندما يصبح هؤلاء في سدة السلطة، عليهم مواجهة الواقع مع المشكلة الكبرى بالنسبة لهؤلاء، المتمثلة بالوفاء للتطلعات السامية الجماهير. وفي غالب الأحيان، يجدون القضايا الإيديولوجية أوالحروب أفضل الطرق للمحافظة على دعم الجماهير. في بعض الحالات يقوم قادة الثورة بتحويل التركيز من التطلعات الأيديولوجية العريضة الكبرى، التي تعد بخلق عالم مثالي، إلى الاحتياجات الضيقة والأكثر تركيزاً التي يحتاج إليها المجتمع نفسه.
المثال الصيني
مثال جيد من الثورات التي شهدت حركة داخلية قامت بتصحيح أيديولوجيتها وحولت تركيزها نحو الداخل هي الثورة الصينية التي قادها ماو تسي تونغ. ففي سنوات حكم ماو، أبو الثورة الصينية، كان الحراس الحمر يرفضون كافة أشكال الليبرالية والرأسمالية، وقاموا بتصدير النموذج الماوي للشيوعية إلى الدول الآسيوية المجاورة وإلى أوروبا. وكانوا في كثير من الأحيان متورطين، بشكل مباشر أو غير مباشر، في حروب مع الغرب في كوريا الشمالية وفيتنام وكمبوديا. وكانت الصين ترى نفسها كقاعدة لكافة الشيوعيين في صراعاتهم مع الغرب. ولكن بعد وفاة ماو، شهدت الصين صراعاً داخلياً على السلطة أتى بعده الرئيس دنغ شياوبينغ، في العام 1978 .
عند تسلم دنغ للسلطة، تباعدت العلاقات بين الصين والدول الشيوعية الآسيوية الأخرى، لأن تركيز الثورة تحول نحو الداخل. وكانت أهداف دنغ موجهة نحو الصين فقط، لدرجة أن الكثيرين رأوا في ذلك خروجاً عن تعاليم ماو. لقد عمد دنغ إلى إبقاء الشعب سعيداً، إذ استطاع أن يحسن أحوال غالبية الشعب الصيني؛ فقد أعاد إنشاء شكل من أشكال الرأسمالية، لكنه أبقى على السلطة الفاشية للدولة. لقد ساعدت حركة دنغ الصين، على مدى العقود الثلاثة الماضية، على تحقيق الازدهار والرخاء واعتناق العولمة، وساعدتها على مضاعفة وتنويع قدراتها الاقتصادية وعلى زيادة نموها إلى حدّ بعيد. نتيجة لذلك غدت الصين من أسرع الدول العالمية الكبرى نمواً، وهي تتمتع بتوقعات مستقبلية أفضل من العديد من الدول الغربية.
المثال الفرنسي
في الثورات الأخرى كالثورة الفرنسية، نجد أن حركتها التصحيحية ذهبت إلى النقيض الأقصى، بالبحث عن التوسع عبر العالم. وحاولت تصدير عقائدها الأيديولوجية ونشر هيمنة فرنسا على كامل أوروبا وإلى ما وراء ذلك. حدثت الحركة التصحيحية بعد 10 سنوات من قيام الثورة، وكانت بقيادة نابليون بونابرت، عندما قام بإسقاط ما كان يسمى بالمجلس الثوري أو Directorate في العام 1799، وقام بإنشاء ما يسمى بالقنصلية Consulate حيث تم تعيينه قنصلاً مدى الحياة. في العام 1804 قام مجلس الشيوخ الفرنسي بتتويج نابليون كإمبراطور، الأمر الذي ضعضع كافة الإنجازات الكبرى التي حققتها الثورة، مثل الحرية والديمقراطية، لأن الهيئة التشريعية أصبحت من الأمور الزائدة عن الحاجة. ولكن الروح الوطنية القوية، والكبرياء والفخر التي استطاع نابليون أن يبثها في الجماهير الفرنسية عبر إلغاء نظام الإقطاع وإحراز الانتصارات في ساحات الوغى في أوروبا، مكنته من أن يحتكر قيادة الثورة بطريقة حصرية بحيث قام بتوجيهها لصالحه. وكان من شأن احتلال الممالك الأوروبية المجاورة، والتدخل في شؤونها الداخلية والإطاحة بالممالك الأخرى وإلغاء الأنظمة الإقطاعية أن أكسب فرنسا الكثير من الأعداء عبر القارة الأوروبية برمتها. وكان لسنوات الحروب الطويلة تأثيرات كبرى على اقتصاد فرنسا وعسكرييها مما جردها من الكثير من حلفائها في أوروبا. وقد بقيت الحال على هذا المنوال حتى هزيمة نابليون في موقعة " واترلو" عندما انتصر عليه الجيش الإنكليزي، في العام 1815، وتم نفيه إلى جزيرة سانت هيلينا حيث توفي بعد ذلك بعدة سنوات. وبالرغم من أن الثورة الفرنسية كان لها وقع عظيم على مستقبل الأنظمة السياسية في أوروبا والعالم في القرن التاسع عشر، إلا أنها انتهت باحتلال البروسيين لجزء من فرنسا وبإعادة الملكية إلى الصدارة وتركت الاقتصاد في الحضيض.
إيران اليوم
يبدو أن إيران في هذه الأيام تقف على مفترق الطرق. إذ إن الصراع الداخلي فيها قد أصبح أكثر عنفاً وعلانية. ويبدو أن الطرفان، أي المحافظين والإصلاحيين، أصبحا غير قادرين على التعايش مع بعضهما البعض، بالرغم من أنه تم إقصاء طرف منهما كلياً عن المناصب الحكومية. فما يسمى بالإصلاحيين بقيادة رؤساء الجمهورية السابقين؛ علي أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي ورئيس الوزراء السابق مير حسين موسوي ورئيس مجلس النواب السابق محمد مهدي كروبي، المعروفين بدعمهم القوي للثورة الإسلامية ليسوا من دعاة الإطاحة بنظام الحكم الحالي، ولكنهم يطعنون بنتائج الانتخابات الأخيرة، ويفضلون إصلاحات داخلية تولي الأحوال الاجتماعية- الاقتصادية المزيد من الاهتمام وتضع قيوداً أقل على حرية الناس، وانتهاج مقاربة أكثر كياسة بالنسبة للسياسة الخارجية الإيرانية. من ناحية أخرى، نجد أن المعسكر المحافظ قد اكتسب طابعاً عسكرياً صلباً، إذ إن فيلق الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، الذي كان يتولى افتراضياً المسائل الأمنية والعسكرية، أصبح يمسك بزمام أمور المؤسسات الحكومية والمنظمات الاقتصادية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وبالتالي كلما أصبحت القيادة اقل تسامحاً مع المعارضة واعتمدت إجراءات فائقة القسوة حيال الإصلاحيين، كلما ازدادت جرأة حركات المقاومة. ويبدو أن هنالك حركة متنامية مضادة للحكم تحاول الاستفادة من فقدان الإصلاحيين للأمل من حكم الجمهورية الإسلامية وتسعى الآن للإطاحة به. فإذا ما تم اعتقال أو قتل أحد قادة الإصلاحيين الحاليين، فإن هناك إمكانية عالية لبزوغ قيادة راديكالية شابة تؤيد الإطاحة بالحكم بدلاً من إصلاحه.
وتشهد الثورة الإسلامية الإيرانية الآن أقسى التحديات منذ تأسيسها. فهل تنزلق نحو الفوضى الداخلية والانهيار التام، أم نحو المجابهة العسكرية مع الغرب، أو تقوم بعملية إصلاح ذاتية على غرار الحركة التصحيحية الصينية؟. وهنا يجب ألا ننسى زخم الضغوط الخارجية التي تؤثر على إيران مثل البرنامج النووي المثير للجدل، وإمكانية فرض عقوبات اقتصادية عليها، أو خطر وقوع حرب. فالضغوط الخارجية قد أثرت على إيران بطرق عدة، بالرغم من أن ذلك لم يكن كافياً لإجبار طهران على الكف عن السياسات التي تتبعها حالياً، مثل البرنامج النووي ودعم المنظمات التي تعتبر إرهابية. فإن عسكرة نظام الحكم ودعم العديد من الحركات المسلحة التي تشن حروباً بالوكالة في المنطقة، تستنزف قدرات الخزينة الإيرانية في أوج الأزمات الاقتصادية التي تجتاح العالم.
كذلك، فإن تهديدات الحرب تجبر إيران على إنفاق بلايين الدولارات للحصول على ترسانتها العسكرية. ولكن إلى أي مدى سوف يتمكن نظام الحكم الإسلامي من تحمل تبعات الضغوط الخارجية وتلك المتأتية من الداخل، ذلك ليس سوى مسألة وقت. ولكن السؤال هنا، هل لدى اللاعبين الكبار في المنطقة أو اللاعبين الدوليين القدرة على الصبر لرؤية نظام طهران يتهاوى أو ينصاع للضغوط ويبحث عن حل وسط؟. هل ستمشي الثورة الإسلامية الإيرانية على خطى الثورة الصينية أو سوف تنحو إلى المنحى الفرنسي، أم إنها ستختار طريقاً غير مسبوق في التاريخ الطويل للثورات العالمية التي شهدها العالم على مر العصور؟ يراهن بعض المسؤولين في الغرب على أن نظام الحكم الإسلامي هذا لن يكون موجوداً بعد خمس سنوات من الآن. ويتوقع مراقبون آخرون أن يظل الصراع الداخلي دائراً لسنوات. ولكن هناك أمر واحد يُجمِع عليه كافة المحللين، وهو أن هنالك تغييرات جذرية تحصل في إيران نتيجة لعوامل داخلية وخارجية، وأن نظام الحكم، على كل حال، لن يبقى كما كان قبل حزيران / ينويو 2009. فإن رياح التغيير قد عصفت بالثورة الإسلامية الإيرانية.
تواجه الثورة الإسلامية الإيرانية في أيامنا هذه أصعب تحدٍ داخلي. حتى لو استطاعت أن تتغلب على هذا التحدي فلا بد أن أسسها ودعائمها قد اهتزت بشكل مريع. فالاضطرابات والتظاهرات المتكررة من قبل الإصلاحيين وأعضاء المعارضة التي حصلت في العاصمة طهران وفي العديد من المدن الإيرانية الرئيسية منذ الانتخابات الرئاسية في شهر حزيران / يونيو 2009 أصبحت أشد عنفاً مع مرور الوقت. ومطالب قادة لإصلاحيين بقلب نتائج الانتخابات وإخراج الرئيس محمود أحمدي نجاد بدأت تتغير. وبدأت الصرخات المدوية ترتفع في مسيرات المعارضة في الشوارع تطالب بسقوط نظام الحكم . كان الصراع الداخلي على السلطة يحدث على خلفية النزاع بين طهران والمجتمع الدولي على البرنامج النووي الإيراني المثير للجدل. ورفض إيران وقف عملية تخصيب اليورانيوم قد يعرضها لجولة جديدة من العقوبات الدولية ويزيد من خطر المجابهة العسكرية بينها وبين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية. وكان التوتر العرقي – الطائفي بين السنة والشيعة وبين العرب والفرس ناشطاً، خلال السنوات القليلة الماضية، نتيجة للدور الإيراني الكبير في العراق ولبنان وفي أراضي السلطة الفلسطينية وفي اليمن وأماكن أخرى.
التطورات الداخلية والخارجية التي تواجه الثورة الإسلامية الإيرانية قد تجعل هذه الثورة تأخذ المسار الطبيعي الذي خبرته كافة الثورات عبر القرون الماضية. فقد كانت للثورات الناجحة عبر التاريخ نهايات محتومة، إما عبر حركات إصلاحية داخلية أو حركات تصحيحية، أو عبر الحروب مع قوى خارجية. إن مسيرة تطور كل ثورة من الثورات معقود بالطريقة التي يستطيع بها قادتها المحافظة على توقعات وتطلعات الجماهير. على كل حال، فإن الثورات لا يمكن أن تنجح سوى بدعم كلي من قبل الجماهير، ويظل بقاؤها رهناً بالدعم الكامل من قبل هذه الجماهير.
هذا ومن الضروري عدم المزج بين الثورات والانقلابات التي يقوم بها القادة العسكريون الذين يتحولون في الغالب إلى دكتاتوريين. فخلال الثورات يتولى الشعب الإطاحة بالحكومة، تطلعاً منه إلى نظام حكم أفضل يقوم على أساس إيديولوجية معينة يطرحها زعيم أو زعماء الحركة الثورية. وعندما يصبح هؤلاء في سدة السلطة، عليهم مواجهة الواقع مع المشكلة الكبرى بالنسبة لهؤلاء، المتمثلة بالوفاء للتطلعات السامية الجماهير. وفي غالب الأحيان، يجدون القضايا الإيديولوجية أوالحروب أفضل الطرق للمحافظة على دعم الجماهير. في بعض الحالات يقوم قادة الثورة بتحويل التركيز من التطلعات الأيديولوجية العريضة الكبرى، التي تعد بخلق عالم مثالي، إلى الاحتياجات الضيقة والأكثر تركيزاً التي يحتاج إليها المجتمع نفسه.
المثال الصيني
مثال جيد من الثورات التي شهدت حركة داخلية قامت بتصحيح أيديولوجيتها وحولت تركيزها نحو الداخل هي الثورة الصينية التي قادها ماو تسي تونغ. ففي سنوات حكم ماو، أبو الثورة الصينية، كان الحراس الحمر يرفضون كافة أشكال الليبرالية والرأسمالية، وقاموا بتصدير النموذج الماوي للشيوعية إلى الدول الآسيوية المجاورة وإلى أوروبا. وكانوا في كثير من الأحيان متورطين، بشكل مباشر أو غير مباشر، في حروب مع الغرب في كوريا الشمالية وفيتنام وكمبوديا. وكانت الصين ترى نفسها كقاعدة لكافة الشيوعيين في صراعاتهم مع الغرب. ولكن بعد وفاة ماو، شهدت الصين صراعاً داخلياً على السلطة أتى بعده الرئيس دنغ شياوبينغ، في العام 1978 .
عند تسلم دنغ للسلطة، تباعدت العلاقات بين الصين والدول الشيوعية الآسيوية الأخرى، لأن تركيز الثورة تحول نحو الداخل. وكانت أهداف دنغ موجهة نحو الصين فقط، لدرجة أن الكثيرين رأوا في ذلك خروجاً عن تعاليم ماو. لقد عمد دنغ إلى إبقاء الشعب سعيداً، إذ استطاع أن يحسن أحوال غالبية الشعب الصيني؛ فقد أعاد إنشاء شكل من أشكال الرأسمالية، لكنه أبقى على السلطة الفاشية للدولة. لقد ساعدت حركة دنغ الصين، على مدى العقود الثلاثة الماضية، على تحقيق الازدهار والرخاء واعتناق العولمة، وساعدتها على مضاعفة وتنويع قدراتها الاقتصادية وعلى زيادة نموها إلى حدّ بعيد. نتيجة لذلك غدت الصين من أسرع الدول العالمية الكبرى نمواً، وهي تتمتع بتوقعات مستقبلية أفضل من العديد من الدول الغربية.
المثال الفرنسي
في الثورات الأخرى كالثورة الفرنسية، نجد أن حركتها التصحيحية ذهبت إلى النقيض الأقصى، بالبحث عن التوسع عبر العالم. وحاولت تصدير عقائدها الأيديولوجية ونشر هيمنة فرنسا على كامل أوروبا وإلى ما وراء ذلك. حدثت الحركة التصحيحية بعد 10 سنوات من قيام الثورة، وكانت بقيادة نابليون بونابرت، عندما قام بإسقاط ما كان يسمى بالمجلس الثوري أو Directorate في العام 1799، وقام بإنشاء ما يسمى بالقنصلية Consulate حيث تم تعيينه قنصلاً مدى الحياة. في العام 1804 قام مجلس الشيوخ الفرنسي بتتويج نابليون كإمبراطور، الأمر الذي ضعضع كافة الإنجازات الكبرى التي حققتها الثورة، مثل الحرية والديمقراطية، لأن الهيئة التشريعية أصبحت من الأمور الزائدة عن الحاجة. ولكن الروح الوطنية القوية، والكبرياء والفخر التي استطاع نابليون أن يبثها في الجماهير الفرنسية عبر إلغاء نظام الإقطاع وإحراز الانتصارات في ساحات الوغى في أوروبا، مكنته من أن يحتكر قيادة الثورة بطريقة حصرية بحيث قام بتوجيهها لصالحه. وكان من شأن احتلال الممالك الأوروبية المجاورة، والتدخل في شؤونها الداخلية والإطاحة بالممالك الأخرى وإلغاء الأنظمة الإقطاعية أن أكسب فرنسا الكثير من الأعداء عبر القارة الأوروبية برمتها. وكان لسنوات الحروب الطويلة تأثيرات كبرى على اقتصاد فرنسا وعسكرييها مما جردها من الكثير من حلفائها في أوروبا. وقد بقيت الحال على هذا المنوال حتى هزيمة نابليون في موقعة " واترلو" عندما انتصر عليه الجيش الإنكليزي، في العام 1815، وتم نفيه إلى جزيرة سانت هيلينا حيث توفي بعد ذلك بعدة سنوات. وبالرغم من أن الثورة الفرنسية كان لها وقع عظيم على مستقبل الأنظمة السياسية في أوروبا والعالم في القرن التاسع عشر، إلا أنها انتهت باحتلال البروسيين لجزء من فرنسا وبإعادة الملكية إلى الصدارة وتركت الاقتصاد في الحضيض.
إيران اليوم
يبدو أن إيران في هذه الأيام تقف على مفترق الطرق. إذ إن الصراع الداخلي فيها قد أصبح أكثر عنفاً وعلانية. ويبدو أن الطرفان، أي المحافظين والإصلاحيين، أصبحا غير قادرين على التعايش مع بعضهما البعض، بالرغم من أنه تم إقصاء طرف منهما كلياً عن المناصب الحكومية. فما يسمى بالإصلاحيين بقيادة رؤساء الجمهورية السابقين؛ علي أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي ورئيس الوزراء السابق مير حسين موسوي ورئيس مجلس النواب السابق محمد مهدي كروبي، المعروفين بدعمهم القوي للثورة الإسلامية ليسوا من دعاة الإطاحة بنظام الحكم الحالي، ولكنهم يطعنون بنتائج الانتخابات الأخيرة، ويفضلون إصلاحات داخلية تولي الأحوال الاجتماعية- الاقتصادية المزيد من الاهتمام وتضع قيوداً أقل على حرية الناس، وانتهاج مقاربة أكثر كياسة بالنسبة للسياسة الخارجية الإيرانية. من ناحية أخرى، نجد أن المعسكر المحافظ قد اكتسب طابعاً عسكرياً صلباً، إذ إن فيلق الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، الذي كان يتولى افتراضياً المسائل الأمنية والعسكرية، أصبح يمسك بزمام أمور المؤسسات الحكومية والمنظمات الاقتصادية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وبالتالي كلما أصبحت القيادة اقل تسامحاً مع المعارضة واعتمدت إجراءات فائقة القسوة حيال الإصلاحيين، كلما ازدادت جرأة حركات المقاومة. ويبدو أن هنالك حركة متنامية مضادة للحكم تحاول الاستفادة من فقدان الإصلاحيين للأمل من حكم الجمهورية الإسلامية وتسعى الآن للإطاحة به. فإذا ما تم اعتقال أو قتل أحد قادة الإصلاحيين الحاليين، فإن هناك إمكانية عالية لبزوغ قيادة راديكالية شابة تؤيد الإطاحة بالحكم بدلاً من إصلاحه.
وتشهد الثورة الإسلامية الإيرانية الآن أقسى التحديات منذ تأسيسها. فهل تنزلق نحو الفوضى الداخلية والانهيار التام، أم نحو المجابهة العسكرية مع الغرب، أو تقوم بعملية إصلاح ذاتية على غرار الحركة التصحيحية الصينية؟. وهنا يجب ألا ننسى زخم الضغوط الخارجية التي تؤثر على إيران مثل البرنامج النووي المثير للجدل، وإمكانية فرض عقوبات اقتصادية عليها، أو خطر وقوع حرب. فالضغوط الخارجية قد أثرت على إيران بطرق عدة، بالرغم من أن ذلك لم يكن كافياً لإجبار طهران على الكف عن السياسات التي تتبعها حالياً، مثل البرنامج النووي ودعم المنظمات التي تعتبر إرهابية. فإن عسكرة نظام الحكم ودعم العديد من الحركات المسلحة التي تشن حروباً بالوكالة في المنطقة، تستنزف قدرات الخزينة الإيرانية في أوج الأزمات الاقتصادية التي تجتاح العالم.
كذلك، فإن تهديدات الحرب تجبر إيران على إنفاق بلايين الدولارات للحصول على ترسانتها العسكرية. ولكن إلى أي مدى سوف يتمكن نظام الحكم الإسلامي من تحمل تبعات الضغوط الخارجية وتلك المتأتية من الداخل، ذلك ليس سوى مسألة وقت. ولكن السؤال هنا، هل لدى اللاعبين الكبار في المنطقة أو اللاعبين الدوليين القدرة على الصبر لرؤية نظام طهران يتهاوى أو ينصاع للضغوط ويبحث عن حل وسط؟. هل ستمشي الثورة الإسلامية الإيرانية على خطى الثورة الصينية أو سوف تنحو إلى المنحى الفرنسي، أم إنها ستختار طريقاً غير مسبوق في التاريخ الطويل للثورات العالمية التي شهدها العالم على مر العصور؟ يراهن بعض المسؤولين في الغرب على أن نظام الحكم الإسلامي هذا لن يكون موجوداً بعد خمس سنوات من الآن. ويتوقع مراقبون آخرون أن يظل الصراع الداخلي دائراً لسنوات. ولكن هناك أمر واحد يُجمِع عليه كافة المحللين، وهو أن هنالك تغييرات جذرية تحصل في إيران نتيجة لعوامل داخلية وخارجية، وأن نظام الحكم، على كل حال، لن يبقى كما كان قبل حزيران / ينويو 2009. فإن رياح التغيير قد عصفت بالثورة الإسلامية الإيرانية.