اسمه ونشأته
هو أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي، كان أبوه مولى لرسول الله، ويكنى أبا محمد، وهو مولى رسول اللهمن أبويه، وكان يسمى "حِبّ رسول الله". ولدبمكة سنة 7 قبل الهجرة، ونشأ حتى أدرك ولم يعرف إلا الإسلام لله تعالى ولم يدن بغيره، وهاجر مع رسول اللهإلى المدينة، وكان رسول اللهيحبه حبًّا شديدًا، وكان عنده كبعض أهله.
وأمه هي أم أيمن رضي الله عنها، واسمها بركة مولاة رسول اللهوحاضنته، وكان زيد بن حارثة لخديجة فوهبته لرسول اللهفأعتقه رسول اللهوزوّجه أم أيمن بعد النبوة، فولدت له أسامة بن زيد.
أثر الرسول في تربيته
في العام السادس من بعثة النبيوُلد لأمّ أيمن أسامة بن زيد، فنشأ وتربىفي أحضان الإسلام، ولم تنل منه الجاهلية بوثنيتها ورجسها شيئًا، وكانقريبًا جدًّا من بيت النبوة، وملازمًا دئمًا للنبي؛ ففي مسند الإمام أحمد عن أسامة بن زيدقال: كنت رديف رسول الله(أي كان يركب خلفه) بعرفات، فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته فسقط خطامها. قال: فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافع يده الأخرى. ومن ثَمَّ كان تأثره شديدًا برسول الله، وكان النبييحبه حبًّا شديدًا؛ ففي البخاري بسنده عن أسامة بن زيدحدَّث عن النبيأنه كان يأخذه والحسنفيقول: "اللهم أحبهما؛ فإني أحبهما".
بل وكان النبييأمر بحبِّ أسامة بن زيد؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لا ينبغي لأحد أن يبغض أسامة بعد ما سمعت رسول اللهيقول: "من كان يحب الله ورسوله فليحب أسامة". وكان نقش خاتم أسامة بن زيد: (حِبّ رسول الله). وقد زوّجه النبيوهو ابن خمس عشرة سنة.
أتشفع في حد من حدود الله ؟!
روى البخاري بسنده عن عروة بن الزبير -رضي الله عنهما- أن امرأة سرقت في عهد رسول اللهفي غزوة الفتح، ففزع قومها إلى أسامة بن زيديستشفعونه. قال عروة: فلما كلمه أسامةفيها، تلوّن وجه رسول اللهفقال: "أتكلمني في حد من حدود الله؟!" قال أسامة: استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشي قام رسول اللهخطيبًا، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد، فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". ثم أمر رسول اللهبتلك المرأة فقطعت يدها، فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت. قالت عائشة: فكانت تأتي بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله.
دور أم أيمن في تربية أسامة بن زيد
أم أيمن -رضي الله عنها- هي حاضنة النبي، وهي إحدى المؤمنات المجاهدات اللاتي شاركن في المعارك الإسلامية مع رسول الله، فقد شهدت أُحدًا، وكانت تسقي المسلمين، وتداوي الجَرْحَى، وشهدت غزوة خيبر. وقد روت أم أيمن -رضي الله عنها- بعضًا من أحاديث رسول الله. قال ابن حجر في الإصابة: كان النبييقول عنها: "هذه بقية أهل بيتي". هذه المرأة المؤمنة التقية الورعة المجاهدة كانت أحد المحاضن التربوية التي تخرَّج فيها أسامة بن زيد.
وقد استشهد زيد بن حارثةزوج أم أيمن ووالد أسامة في مُؤْتة، واستشهد أيمن ابنها وأخو أسامة من أمه في حُنين، ففي هذه الأسرة المؤمنة المجاهدة نشأ هذا القائد الفارس الفذّ، وتربى على معاني الجهاد والدفاع عن الإسلام؛ مما جعل رسول اللهيوليه إمارة الجيش الإسلامي وهو في الثامنة عشرة من عمره وفي الجيش كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار وأصحاب السبق في الإسلام.
قائد جيش المسلمين في غزو الروم
ولاَّه النبي-على صغر سنِّه- قيادة جيش المسلمين المتوجه لغزو الروم في الشام، وقال له: "يا أسامة، سر على اسم الله وبركته حتى تنتهي إلى مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد وليتك على هذا الجيش، فأغر صباحًا على أهل أُبْنَى وحرق عليهم، وأسرع السير تسبق الخبر، فإن أظفرك الله فأقلل اللبث فيهم، وخذ معك الأدلاء، وقدم العيون أمامك والطلائع". ثم عقد الرسوللأسامة اللواء، ثم قال: "امض على اسم الله". وقد اعترض بعض الصحابة على استعمال هذا الغلام على المهاجرين الأولين، ولما علم رسول اللهبذلك، غضبغضبًا شديدًا، فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، يا أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة بن زيد؟ والله لئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله، وايم الله إن كان للإمارة لخليقًا، وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ، وإنهما لمخيلان لكل خير، فاستوصوا به خيرًا؛ فإنه من خياركم".
وقبل الخروج مع أسامة جاء المسلمون يودعون رسول الله، فأمرهمبإنفاذ بعث أسامة. وركب أسامة إلى معسكره وصاح في الناس أصحابه باللحوق بالعسكر، فانتهى إلى معسكره ونزل وأمر الناس بالرحيل وقد مَتَعَ النهار، فبينا أسامة يريد أن يركب من الجُرْف أتاه رسول أم أيمن -وهي أمه- تخبره أن رسول اللهيموت، فأقبل أسامة إلى المدينة معه عمر وأبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنهما- فانتهوا إلى رسول اللهوهو يموت، فتُوفِّي رسول اللهحين زاغت الشمس يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول، ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجُرْف المدينة.
وبعد وفاة النبيبويع لأبي بكر، وقد ارتدَّ من العرب من ارتد عن الإسلام، دخل على أبي بكر كبارُ الصحابة، فقالوا: "يا خليفة رسول الله، إن العرب قد انتقضت عليك من كل جانب، وإنك لا تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئًا، اجعلهم عُدَّة لأهل الردة ترمي بهم في نحورهم، وأخرى لا نأمن على أهل المدينة أن يغار عليها وفيها الذراري والنساء، فلو استأنيت لغزو الروم حتى يضرب الإسلام بِجِرَانِه[1]، وتعود الردة إلى ما خرجوا منه أو يفنيهم السيف، ثم تبعث أسامة، حينئذٍ فنحن نأمن الروم أن تزحف إلينا". ولكن الصديق أصر على إنفاذ بعث أسامة قائلاً: "والذي نفسي بيده، لو ظننت أن السباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البعث".
وبالفعل خرج جيش أسامة، واستطاع هذا الجيش أن يقوم بمهمته على خير وجه، ويعود ظافرًا إلى المدينة. وظهرت موهبة أسامة الفذة في قيادة الجيش، وأثبت أنه كان -على صغر سنِّه- جديرًا بهذه القيادة.
أهم ملامح شخصيته
الجانب القيادي
تربّى أسامةعلى يد رسول الله، وقد ربّاه النبيعلى أن يكون قائدًا، واكتشف عناصر هذه القيادة في شخصيته، وقد كاندقيقًا في تنفيذ أوامر رسول الله، ويظهر ذلك من مواقفه المتعددة، ومنها عندما كان قائدًا للجيش الذي غزا الروم في الشام، ومدى الدقة التي التزم بها في تنفيذ تعليمات رسول الله، فضلاً عن ذلك فقد شهد له رسول اللهأنه خليق بالولاية وأنه أهلٌ لها، وقد نجحفي مهمته التي انتدب لها أعظم نجاح، وأدى دوره على أفضل ما يكون الأداء؛ فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول اللهبعث بعثًا وأمَّر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمارته، فقام رسول اللهفقال: "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقًا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده".
بعض المواقف من حياته مع الرسول
عن محمد بن أسامة بن زيد، عن أبيه قال: كساني رسول اللهقُبطيَّة كثيفة أهداها له دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي، فقال رسول الله: "ما لك لا تلبس القبطية؟" قلت: كسوتها امرأتي. فقال: "مرها فلتجعل تحتها غلالة؛ فإني أخاف أن تصف عظامها".
وعن أسامة بن زيد قال: قلت يا رسول الله، لمْ أرَكَ تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان. قال: "ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين؛ فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم".
بعض المواقف من حياته مع الصحابة
مع عمر بن الخطاب
عن هشام بن عروة، عن أبيه: لما فرض عمر بن الخطابللناس فرض لأسامة بن زيدخمسة آلاف ولابن عمر ألفين، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: فضلت عليَّ أسامة وقد شهدتُ ما لم يشهد!! فقال: "إن أسامة كان أحب إلى رسول اللهمنك، وأبوه أحب إلى رسول اللهمن أبيك".
مع خلاد بن السائب
عن خلاد بن السائبقال: دخلت على أسامة بن زيدفمدحني في وجهي، فقال: إنه حملني أن أمدحك في وجهك أني سمعت رسول اللهيقول: "إذا مُدح المؤمن في وجهه ربا الإيمان في قلبه".
من مواقفه مع التابعين
مع مروان بن الحكم
عن عبيد الله بن عبد الله قال: رأيت أسامة بن زيد يصلي عند قبر رسول الله، فخرج مروان بن الحكم فقال: تصلي إلى قبره؟! فقال: إني أحبه. فقال له قولاً قبيحًا ثم أدبر، فانصرف أسامةفقال: يا مروان، إنك آذيتني، وإني سمعت رسول اللهيقول: "إن الله يبغض الفاحش المتفحش"، وإنك فاحش متفحش.
أثره في الآخرين
روى عنه أحاديثَ النبيثلاثون من الصحابة والتابعين، وممن روى عنه من الصحابة سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة (رضي الله عنهم أجمعين). وممن روى عنه من التابعين سعيد بن المسيب، وإبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، وعامر بن شرحبيل، وشقيق بن سلمة، وغيرهم.
ويعلم مولاه عمليًّا
عن مولى أسامة بن زيد أنه انطلق مع أسامة إلى وادي القرى في طلب مال له، فكان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس، فقال له مولاه: لمَ تصوم يوم الاثنين ويوم الخميس وأنت شيخ كبير؟ فقال: إن نبي اللهكان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس، وسئل عن ذلك فقال: "إن أعمال العباد تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس".
الأثر العالمي لبعث أسامة
كان لهذا البعث أثرٌ كبير في تثبيت وتوطيد دعائم الدولة الإسلامية بعد وفاة النبيوارتداد الكثير من القبائل، وكان من شأنه أن ألقى الفزع والهلع في قلوب القبائل العربية التي مرَّ عليها في شمال الجزيرة العربية، وكانوا يقولون: لو لم يكن للمسلمين قوة تحمي المدينة وما حولها ما بعثوا جيشًا إلى هذه المسافات البعيدة. وقد وصل جيش أسامة إلى تخوم الروم؛ ومن أجل ذلك كانت حركة الردة في تلك المناطق أضعف منها بكثير من غيرها من المناطق الأخرى.
بعض الأحاديث التي رواها عن الرسول
روى البخاري بسنده عن أسامة بن زيد، عن النبيقال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء".
وروى مسلم في صحيحه عن أسامة بن زيدأن النبيقال: "لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم".
وفاته
اعتزل أسامة بن زيدالفتن بعد مقتل عثمانإلى أن مات في أواخر خلافة معاوية، وكان قد سكن المِزّة غرب دمشق، ثم رجع فسكن وادي القرى، ثم نزل إلى المدينة فمات بها بالجُرْف.
هو أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي، كان أبوه مولى لرسول الله، ويكنى أبا محمد، وهو مولى رسول اللهمن أبويه، وكان يسمى "حِبّ رسول الله". ولدبمكة سنة 7 قبل الهجرة، ونشأ حتى أدرك ولم يعرف إلا الإسلام لله تعالى ولم يدن بغيره، وهاجر مع رسول اللهإلى المدينة، وكان رسول اللهيحبه حبًّا شديدًا، وكان عنده كبعض أهله.
وأمه هي أم أيمن رضي الله عنها، واسمها بركة مولاة رسول اللهوحاضنته، وكان زيد بن حارثة لخديجة فوهبته لرسول اللهفأعتقه رسول اللهوزوّجه أم أيمن بعد النبوة، فولدت له أسامة بن زيد.
أثر الرسول في تربيته
في العام السادس من بعثة النبيوُلد لأمّ أيمن أسامة بن زيد، فنشأ وتربىفي أحضان الإسلام، ولم تنل منه الجاهلية بوثنيتها ورجسها شيئًا، وكانقريبًا جدًّا من بيت النبوة، وملازمًا دئمًا للنبي؛ ففي مسند الإمام أحمد عن أسامة بن زيدقال: كنت رديف رسول الله(أي كان يركب خلفه) بعرفات، فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته فسقط خطامها. قال: فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافع يده الأخرى. ومن ثَمَّ كان تأثره شديدًا برسول الله، وكان النبييحبه حبًّا شديدًا؛ ففي البخاري بسنده عن أسامة بن زيدحدَّث عن النبيأنه كان يأخذه والحسنفيقول: "اللهم أحبهما؛ فإني أحبهما".
بل وكان النبييأمر بحبِّ أسامة بن زيد؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لا ينبغي لأحد أن يبغض أسامة بعد ما سمعت رسول اللهيقول: "من كان يحب الله ورسوله فليحب أسامة". وكان نقش خاتم أسامة بن زيد: (حِبّ رسول الله). وقد زوّجه النبيوهو ابن خمس عشرة سنة.
أتشفع في حد من حدود الله ؟!
روى البخاري بسنده عن عروة بن الزبير -رضي الله عنهما- أن امرأة سرقت في عهد رسول اللهفي غزوة الفتح، ففزع قومها إلى أسامة بن زيديستشفعونه. قال عروة: فلما كلمه أسامةفيها، تلوّن وجه رسول اللهفقال: "أتكلمني في حد من حدود الله؟!" قال أسامة: استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشي قام رسول اللهخطيبًا، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد، فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". ثم أمر رسول اللهبتلك المرأة فقطعت يدها، فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت. قالت عائشة: فكانت تأتي بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله.
دور أم أيمن في تربية أسامة بن زيد
أم أيمن -رضي الله عنها- هي حاضنة النبي، وهي إحدى المؤمنات المجاهدات اللاتي شاركن في المعارك الإسلامية مع رسول الله، فقد شهدت أُحدًا، وكانت تسقي المسلمين، وتداوي الجَرْحَى، وشهدت غزوة خيبر. وقد روت أم أيمن -رضي الله عنها- بعضًا من أحاديث رسول الله. قال ابن حجر في الإصابة: كان النبييقول عنها: "هذه بقية أهل بيتي". هذه المرأة المؤمنة التقية الورعة المجاهدة كانت أحد المحاضن التربوية التي تخرَّج فيها أسامة بن زيد.
وقد استشهد زيد بن حارثةزوج أم أيمن ووالد أسامة في مُؤْتة، واستشهد أيمن ابنها وأخو أسامة من أمه في حُنين، ففي هذه الأسرة المؤمنة المجاهدة نشأ هذا القائد الفارس الفذّ، وتربى على معاني الجهاد والدفاع عن الإسلام؛ مما جعل رسول اللهيوليه إمارة الجيش الإسلامي وهو في الثامنة عشرة من عمره وفي الجيش كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار وأصحاب السبق في الإسلام.
قائد جيش المسلمين في غزو الروم
ولاَّه النبي-على صغر سنِّه- قيادة جيش المسلمين المتوجه لغزو الروم في الشام، وقال له: "يا أسامة، سر على اسم الله وبركته حتى تنتهي إلى مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد وليتك على هذا الجيش، فأغر صباحًا على أهل أُبْنَى وحرق عليهم، وأسرع السير تسبق الخبر، فإن أظفرك الله فأقلل اللبث فيهم، وخذ معك الأدلاء، وقدم العيون أمامك والطلائع". ثم عقد الرسوللأسامة اللواء، ثم قال: "امض على اسم الله". وقد اعترض بعض الصحابة على استعمال هذا الغلام على المهاجرين الأولين، ولما علم رسول اللهبذلك، غضبغضبًا شديدًا، فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، يا أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة بن زيد؟ والله لئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله، وايم الله إن كان للإمارة لخليقًا، وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ، وإنهما لمخيلان لكل خير، فاستوصوا به خيرًا؛ فإنه من خياركم".
وقبل الخروج مع أسامة جاء المسلمون يودعون رسول الله، فأمرهمبإنفاذ بعث أسامة. وركب أسامة إلى معسكره وصاح في الناس أصحابه باللحوق بالعسكر، فانتهى إلى معسكره ونزل وأمر الناس بالرحيل وقد مَتَعَ النهار، فبينا أسامة يريد أن يركب من الجُرْف أتاه رسول أم أيمن -وهي أمه- تخبره أن رسول اللهيموت، فأقبل أسامة إلى المدينة معه عمر وأبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنهما- فانتهوا إلى رسول اللهوهو يموت، فتُوفِّي رسول اللهحين زاغت الشمس يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول، ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجُرْف المدينة.
وبعد وفاة النبيبويع لأبي بكر، وقد ارتدَّ من العرب من ارتد عن الإسلام، دخل على أبي بكر كبارُ الصحابة، فقالوا: "يا خليفة رسول الله، إن العرب قد انتقضت عليك من كل جانب، وإنك لا تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئًا، اجعلهم عُدَّة لأهل الردة ترمي بهم في نحورهم، وأخرى لا نأمن على أهل المدينة أن يغار عليها وفيها الذراري والنساء، فلو استأنيت لغزو الروم حتى يضرب الإسلام بِجِرَانِه[1]، وتعود الردة إلى ما خرجوا منه أو يفنيهم السيف، ثم تبعث أسامة، حينئذٍ فنحن نأمن الروم أن تزحف إلينا". ولكن الصديق أصر على إنفاذ بعث أسامة قائلاً: "والذي نفسي بيده، لو ظننت أن السباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البعث".
وبالفعل خرج جيش أسامة، واستطاع هذا الجيش أن يقوم بمهمته على خير وجه، ويعود ظافرًا إلى المدينة. وظهرت موهبة أسامة الفذة في قيادة الجيش، وأثبت أنه كان -على صغر سنِّه- جديرًا بهذه القيادة.
أهم ملامح شخصيته
الجانب القيادي
تربّى أسامةعلى يد رسول الله، وقد ربّاه النبيعلى أن يكون قائدًا، واكتشف عناصر هذه القيادة في شخصيته، وقد كاندقيقًا في تنفيذ أوامر رسول الله، ويظهر ذلك من مواقفه المتعددة، ومنها عندما كان قائدًا للجيش الذي غزا الروم في الشام، ومدى الدقة التي التزم بها في تنفيذ تعليمات رسول الله، فضلاً عن ذلك فقد شهد له رسول اللهأنه خليق بالولاية وأنه أهلٌ لها، وقد نجحفي مهمته التي انتدب لها أعظم نجاح، وأدى دوره على أفضل ما يكون الأداء؛ فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول اللهبعث بعثًا وأمَّر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمارته، فقام رسول اللهفقال: "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقًا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده".
بعض المواقف من حياته مع الرسول
عن محمد بن أسامة بن زيد، عن أبيه قال: كساني رسول اللهقُبطيَّة كثيفة أهداها له دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي، فقال رسول الله: "ما لك لا تلبس القبطية؟" قلت: كسوتها امرأتي. فقال: "مرها فلتجعل تحتها غلالة؛ فإني أخاف أن تصف عظامها".
وعن أسامة بن زيد قال: قلت يا رسول الله، لمْ أرَكَ تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان. قال: "ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين؛ فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم".
بعض المواقف من حياته مع الصحابة
مع عمر بن الخطاب
عن هشام بن عروة، عن أبيه: لما فرض عمر بن الخطابللناس فرض لأسامة بن زيدخمسة آلاف ولابن عمر ألفين، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: فضلت عليَّ أسامة وقد شهدتُ ما لم يشهد!! فقال: "إن أسامة كان أحب إلى رسول اللهمنك، وأبوه أحب إلى رسول اللهمن أبيك".
مع خلاد بن السائب
عن خلاد بن السائبقال: دخلت على أسامة بن زيدفمدحني في وجهي، فقال: إنه حملني أن أمدحك في وجهك أني سمعت رسول اللهيقول: "إذا مُدح المؤمن في وجهه ربا الإيمان في قلبه".
من مواقفه مع التابعين
مع مروان بن الحكم
عن عبيد الله بن عبد الله قال: رأيت أسامة بن زيد يصلي عند قبر رسول الله، فخرج مروان بن الحكم فقال: تصلي إلى قبره؟! فقال: إني أحبه. فقال له قولاً قبيحًا ثم أدبر، فانصرف أسامةفقال: يا مروان، إنك آذيتني، وإني سمعت رسول اللهيقول: "إن الله يبغض الفاحش المتفحش"، وإنك فاحش متفحش.
أثره في الآخرين
روى عنه أحاديثَ النبيثلاثون من الصحابة والتابعين، وممن روى عنه من الصحابة سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة (رضي الله عنهم أجمعين). وممن روى عنه من التابعين سعيد بن المسيب، وإبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، وعامر بن شرحبيل، وشقيق بن سلمة، وغيرهم.
ويعلم مولاه عمليًّا
عن مولى أسامة بن زيد أنه انطلق مع أسامة إلى وادي القرى في طلب مال له، فكان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس، فقال له مولاه: لمَ تصوم يوم الاثنين ويوم الخميس وأنت شيخ كبير؟ فقال: إن نبي اللهكان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس، وسئل عن ذلك فقال: "إن أعمال العباد تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس".
الأثر العالمي لبعث أسامة
كان لهذا البعث أثرٌ كبير في تثبيت وتوطيد دعائم الدولة الإسلامية بعد وفاة النبيوارتداد الكثير من القبائل، وكان من شأنه أن ألقى الفزع والهلع في قلوب القبائل العربية التي مرَّ عليها في شمال الجزيرة العربية، وكانوا يقولون: لو لم يكن للمسلمين قوة تحمي المدينة وما حولها ما بعثوا جيشًا إلى هذه المسافات البعيدة. وقد وصل جيش أسامة إلى تخوم الروم؛ ومن أجل ذلك كانت حركة الردة في تلك المناطق أضعف منها بكثير من غيرها من المناطق الأخرى.
بعض الأحاديث التي رواها عن الرسول
روى البخاري بسنده عن أسامة بن زيد، عن النبيقال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء".
وروى مسلم في صحيحه عن أسامة بن زيدأن النبيقال: "لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم".
وفاته
اعتزل أسامة بن زيدالفتن بعد مقتل عثمانإلى أن مات في أواخر خلافة معاوية، وكان قد سكن المِزّة غرب دمشق، ثم رجع فسكن وادي القرى، ثم نزل إلى المدينة فمات بها بالجُرْف.