أورخان الأول ثاني سلاطين آل عثمان
الدكتور أحمد عبد الحميد عبد الحق
الدكتور أحمد عبد الحميد عبد الحق
كثيرون هم من ورثوا ملكا عظيما ، ولكن القليلون من استطاعوا أن يحافظوا على ذلكم الملك ، وقلة فقط من بين هؤلاء القليلين من سعوا لتوسيع رقعة الملك الذي ورثوه ، ومن تلك القلة أورخان الأول الذي لم ترض همته بما ورثه من مجد وملك ، وإنا سعى لتوسيع ملكه وزيادة مجده ، حتى صارت مساحة الدولة التي ورثها من أبيه 6 أمثالها عند موته ..
فمن أورخان هذا صاحب تلك الهمة العالية ؟!!
إنه السلطان الغازي أورخان بن عثمان بن أرطغرل بن سليمان ، ولد أول المحرم سنة سبع وثمانين وستمائة ، ونشأ في كنف أبيه الذي حرص على إعداده لتولي المسئولية ومهام الحكام بعده ؛ حتى صار عسكريا من الطراز الأول ؛ ثم عهد إليه بقيادة الجيوش التي كان يرسلها إلى حدود الدولة البيزنطية لمواصلة الجهاد والفتوحات الإسلامية .
فافتتح العديد من المدن منها مدينة بروسا ( بورصة ) الشهيرة بعد أن ظل محاصرا لها قرابة عشر سنوات، ولما تأكد حاكمها أنها أصبحت في قبضته سلَّمها إليه، فدخلها دون قتال سنة (726هـ، 1325م)، ولم يتعرض لأهلها بسوء مما جعل حاكمها يعلن إسلامه، فمنحه أورخان لقب "بك".
ولما حضرت أباه الوفاة ، وأحس بدنو أجله أرسل إليه يستدعيه ، فجاءه على الفور فوجده في النزع الأخير ، فأوصاه قائلا : "يا بني ! أحط من أطاعك بالإعزاز، وأنعم على الجنود، لا يغرنّك الشيطان بجهدك وبمالك، وإياك أن تبتعد عن أهل الشريعة.
يا بني لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم، أو سيطرة أفراد؛ فنحن بالإسلام نحيا وللإسلام نموت، وهذا يا ولدي ما أنت أهل له ، يا بني اعلم أن غايتنا هي إرضاء رب العالمين، وأنه بالجهاد يعم نور ديننا كل الآفاق فتحدث مرضاة الله جل جلاله".
ثم لم يلبث أن فاضت روحه إلى بارئها ، وكان ذلك سنة ست وعشرين وسبعمائة للهجرة ، وبالتحديد يوم 21 من رمضان 726 هـ= 21 من أغسطس 1325م ..
ورغم أن أورخان لم يكن بكر أبيه ـ حيث سبقه أخوه علاء الدين ـ إلا أن أباه خصه بالملك لاتصافه بعلو الهمة والشجاعة والإقدام ، عكس علاء الدين الذي كان يميل إلى الورع والعزلة ..
وبالفعل كان أورخان عند حسن ظن أبيه به ، فقد تفرغ بعد وصوله للسلطنة للجهاد ومواصلة الفتوح الإسلامية ، وأناب أخاه علاء الدين على إدارة دولته
.
وكان أول عمل قام به هو نقل مقر الحكومة من "يني شهر" وهي المدينة التي رسخ فيها والده حكمه إلى مدينة "بورصا" لحسن موقعها ، و ذلك عام 726هـ/1326م، أو عام 728هـ/1328م ، ثم راسل قواد جيوشه المظفرة لفتح ما بقي من بلاد آسيا الصغرى ، ففتحوا أهم مدنها ، وقام هو بنفسه بفتح مدينة أزميد ، وهى مدينة يونانية قديمة بآسيا الصغرى ، وبذلك لم يبق خارج دولته من مدن الروم المهمة ببر آسيا غير مدينة ازنيك فقصدها بنفسه وحاصرها ، وضيق عليها الحصار حتى دخلها فاتحا بعد سنتين من الحصار ، وسقط بسقوطها نفوذ الروم في بلاد آسيا كلها ..
كما تمكن أورخان من فتح "جزيرة بيثنيا"، وقلعتي "سمندرة" و"آيدوس"، وهما قلعتان إستراتيجيتان تقعان على الطريق الحربي الواصل بين "القسطنطينية" و"نقومكيدية" ، وكذلك تمكن من فتح بلاد "قره سي" في سنة (736هـ، 1335م) وكانت معاملته الطيبة لأهل هذه المدن سببا في اعتناقهم الإسلام.
وفي سنة (756 هـ= 1355م) استنجد به الإمبراطور البيزنطي "جان باليولوج" طالبا الدعم والمساعدة لصد غارات ملك الصرب "إستفان دوشان" الذي أصبح يهدد القسطنطينية نفسها، فأجابه على الفور، وخرجت جيوشه لمقاتلة دوشان الذي عاجلته المنية قبل أن تصل إليه ، فعادت من حيث أتت دون قتال ، بعد أن زال الخطر الذي كان يتهدد الإمبراطور .
ثم أرسل ابنه سليمان فاجتاز مضيق الدرنديل سنة (758هـ= 1357م) وتمكن هو وجنوده من فتح مدينة غاليبولي التي تبعد عن القسطنطينية بحوالي 86.5 ميلا، وفتح عدة مدن أخرى منها "أبسالا" وهي تقع في شمال مضيق الدرنديل في الجانب الأوروبي، و"رودزستو" التي تقع على بحر مرمرة من الجانب الغربي ..
ويعد أورخان بذلك أول سلطان عثماني يمتد ملكه إلى داخل أوربا.
وزاع صيته بين الناس كمجاهد عظيم ، حتى قال عنه صاحب شذرات الذهب : كان شديدا على الكفار ، ففاق والده في الجهاد ..
ولم يقنع بعدها بما حققه من فتوحات وانتصارات في الجانب الأوربي ، وإنما واصل تمديد مملكته شرقا ، ولكن هذه المرة على حساب الأمراء المسلمين المتصارعين بجواره ، فقام في سنة 736 هـ الموافق سنة 1336 م بضم إمارة قره سي بعد أن وقع الخلف بين أميريها
ثم توجه بعدها إلى شبه جزيرة الأناضول التي كانت منقسمة بين ملوك الطوائف الذين قاموا بعد انقراض دولة السلاجقة ، فكان بخشى بك بن محمد بك متغلباً على مدينة قونية وتوابعها ، وكان آيدين بك وصاروخان بك ومنتشا بك وكرميان بك وحميد بك وتكه بك وقره سى بك حكاماً على ممالك صغيرة أخرى ، ويدينون بالطاعة لأمير قونية ، وكان أولاد أسفنديار حكاماً مستقلين بجهات قسطموني ، أما بقية الممالك الأخرى فكانت تحت تسلط بعض عشائر التركمان ، وكل تلك الإمارات استطاع أورخان أن يخضعها له ، ويجمع شملها تحت سلطته في مدة قياسية..
وبعد الفراغ من ضم تلك الممالك والإمارات انشغل بترتيب أمور مملكته الداخلية ، وسن الأنظمة اللازمة لإدارتها واستتباب الأمن بها..
ثم شرع في ضرب العملة التي تحمل شعار دولته ؛ لينهي اعتماد دولته على العملات الأخرى ، وليكسبها استقلالا اقتصاديا ..
ووضع نظاما للجيوش ، وجعلها دائمية ، وكانت قبل ذلك لا تجمع إلا وقت الحرب ، وتصرف بعده ..
وكان قد خشي من تحزب كل فريق من الجند للقبيلة التابع لها ؛ مما يتسبب في انفصام عرى الوحدة العثمانية التي سعى هو وآباؤه من قبل في إيجادها ، فأشار عليه أحد علماء ذلك الوقت واسمه قره خليل ـ وهو الذي صار فيما بعد وزيرا باسم خير الدين باشا ـ بأخذ الصبيان الذين كانوا يقعون سبيا في أيدي الجنود أثناء الحرب ، وفصلهم عن كل ما يذكرهم بجنسهم وأصلهم ، وتربيتهم تربية إسلامية عثمانية ، بحيث لا يعرفون أبا إلا السلطان ، ولا حرفة إلا الجهاد في سبيل الله ، ولعدم وجود أقارب لهم بين الأهالي لا يخشى من تحزبهم معهم ، فأعجب السلطان أورخان بهذا الرأي وأمر بإنفاذه ..
ولما صار عنده من هؤلاء عدد ليس بالقليل سار بهم إلى الحاج بكطاش شيخ طريقة البكطاشية بأماسية ليدعو لهم ؛ فدعا لهم هذا الشيخ بالنصر على الأعداء ، وقال : ليكن اسمهم يني تشارى ، ويرسم بالتركية هكذا يكيجارى ، أي الجيش الجديد ، ثم حرف هذا الاسم في العربية فيما بعد إلى انكشاري ..
ثم ارتقى هذا الجيش الانكشاري في النظام فيما بعد حتى صار لا يعول إلا عليه في الحروب ، وكان من أكبر وأهم عوامل امتداد سلطة الدولة العثمانية في أوربا ..
وجعل لجيشه هذا علما أو راية من قماش أحمر وسطها هلال، وتحت الهلال صورة لسيف أطلقوا عليه اسم " ذي الفقار ".
ثم اهتم بالقضاء ، وصار يولي عليه من تفرس فيه الخير ، فقد ذهب يوما إلى بيت عالم يسمى علاء الدين الأسود لأجل زيارته ، ولما دخل داره وجد تلميذا عنده يصلي في منزله ، فلما رأى فيه الخير اصطحبه معه وعينه قاضيا على عسكره .
كما اهتم بتدوين القوانين التي تنظم أمور المال والأراضي واللبس والنظام العسكري ، وأشرف على ذلك أخوه علاء الدين أيضا .
وبعد أن فرغ من التنظيمات السابقة التفت إلى أراضي البلاد المفتتحة ، فقسمها إلى قسمين ، وهما خاص وتيمار ، فكانت إيرادات الخاص للخزينة السلطانية ولأمراء العائلة الملوكية ولأعيان الحكومة ، وإيرادات التيمار لرجال الحرب.
ثم عمل أورخان بعد ذلك على انتشار العمران في البلاد ، ففتح المدارس ، وبنى الجوامع والتكايا ، وجلب العلماء والشعراء ، وأجزل لهم العطايا ..
وكان يقيم في كل مدينة يفتحها عدة مدارس لنشر تعاليم الإسلام بين أهلها ، ويجعل فيها تكايا للفقراء والمعوزين ..
وعين القائمين على المدارس من خيرة العلماء والمعلمين الذين كانوا يحظون بقدر كبير من الاحترام في الدولة، حيث تولوا تدريس القرآن الكريم وعلومه والسنة والفقه والعقائد والنحو والتراكيب اللغوية والمنطق والميتافزيقا وفقه اللغة وعلم الإبداع اللغوي والبلاغة والهندسة والفلك.
كما قام بإصلاح الطرقات والمفاوز، وشيد السبل والخانات ( الفنادق ) والقصور والجسور ، وغير ذلك من الخيرات العميمة ..
وسلك في رعيته سبيل العدل والجود والفضل والإحسان ..
وغدا بتلك الإنجازات محببا في رعيته مطاعا فيهم، وزاد من حبهم له أنه كان يعاملهم باللين والرفق ، ولم يعارض أصحاب الديانات والمعتقدات الأخرى في إقامة شعائر دينهم ، وأذن لمن يريد الهجرة منهم من دياره بأخذ كافة منقولاته وبيع عقاراته..
هذا وقد ساعدت تلك السياسية السمحة منه الغالبية العظمى من الروم البيزنطيين الذين كانوا يسكنون المناطق التي فتحها على الدخول في الإسلام طوعا.
وحتى الغرباء الذين كانوا يفدون للتجارة وغيرها لما أسلموا وطمعوا في الإقامة بمملكته ليتمتعوا بنعمة الأمن والعدل والسماحة بها أفتى لهم الفقهاء -الذين كان السلاطين يستشيرونهم في كل ما يتصل بتشريعات الدولة ونظمها- بأنهم وكل من أسلم معهم جزء من أهل الدولة يتمتعون فيها بكامل امتيازاتها .
وكان ـ رحمه الله ـ يتابع الإشراف على منشآته بنفسه ، فقد زاره الرحَّالة "ابن بطوطة" أثناء تجوله ببلاد الأناضول ، وذكر عنه : "إنه أكبر ملوك التركمان، وأكثرهم مالا وبلادا وعسكرا، وأن له من الحصون ما يقارب مائة حصن، يتفقدها ويقيم بكل حصن أياما لإصلاح شؤونه".
ومما يحسب له أيضا أنه سعى للاستفادة من خبرات أهل بيته ، ولم يتركهم عالة على الدولة فتتآكل بسببهم ، أو ينشأ بينهم التشاحن والتقاتل كما حدث فيما بعد.
وأخيرا فقد جمع ـ رحمه الله بين العزة والمنعة والتواضع والزهد ، فأما جانب عزته فتمثل في أمره للإمبراطور البيزنطي في البحث عن ابنه "خليل بك" حين وقع في الأسر ، فقاد الإمبراطور حملة حتى حرره من البلد التي أسر فيها وكانت تابعة لإدارته ثم زوجه من ابنته "إيريني" ثم أعاده لوالده .
وأما زهده وتقشفه وتواضعه فتمثل في حرصه على ملازمة الخيام في معيشته رغم ثرائه ، ولم يفكر في تركها إلى حياة القصور ، وكان ينزل بخيامه في عاصمة ملكه وضواحيها ..
وقد توفي ـ رحمه الله ـ سنة إحدى وستين وسبعمائة عن عمر يناهز ثلاثا وثمانين سنة ، بعد حكم دام 38 سنة ، قضاها في بناء وتشييد دولته الإسلامية داخل أوربا ، حتى بلغت مساحتها في عصره حوالي 95000 كم2، وهي تمثل 6 أضعاف ما كانت عليه عند جلوسه على كرسي الحكم ..
ولا عجب أن تتسع ذلك الاتساع مع رجل يمتلك همة أورخان الأول ، فبمثل هذا الرجل ينبغي أن يتأسى الرجال ..
عن موقع التاريخ