بعد محاولات حثيثة للاتصال به، نجحت صحيفة الـ«غارديان» البريطانية في تدبير موعد سرّي معه في بلجيكا. وفي أحد مقاهي العاصمة بروكسل، التقى ممثل عن الصحيفة بالشخص المختفي عن الأنظار منذ أشهر والملاحق من البنتاغون والاستخبارات الأميركية. استمع ممثل الـ«غارديان» إلى ما قاله ذاك الشخص بدقّة، أبرم اتفاقاً أولياً معه، ثم خرج من المكان وفي حوزته منديل المقهى الورقي كتبت عليه بعض الأحرف. اللقاء الأولي ذاك تبعه لقاء ثان في استوكهولم، حيث جرى الاتفاق النهائي على تفاصيل العملية. بالأمس، اتضح أنّ الشخص المختفي ليس إلا جوليان أسانج، صاحب موقع «ويكيليكس»، والأحرف المكتوبة على منديل المقهى ليست سوى كلمة السر للدخول إلى الـ«داتا» الخاصة بأكبر عملية تسريب في تاريخ الجيش الأميركي.
... فعلها جوليان أسانج، صاحب موقع «ويكيليكس» الإلكتروني الذي نشر في نيسان الماضي شريطاً مصوّراً يظهر جنوداً أميركيين يقتلون مدنيين ومصوّراً صحافياً في العراق، والذي تلاحقه الأجهزة الأمنية الأميركية بسبب ما يملك من معلومات عن حربي أفغانستان والعراق. أسانج أخرج أخيراً بعض خباياه إلى العلن: 92201 من السجلات الداخلية السرية للعمليات العسكرية والاستخبارية الأميركية في أفغانستان منذ كانون الثاني 2004 حتى كانون الأول 2009.
هذه المرّة، قرر أسانج أن تشاركه في «الحفلة» بعض الصحف العالمية، فاتفق مع «نيويورك تايمز» الأميركية و«غارديان» البريطانية و«دير شبيغل» الألمانية، وسمح لها بالاطلاع على ما لديه من سجلات مسرّبة من داخل غرف عمليات الحرب، للتدقيق فيها ونسخها بغية النشر. وهكذا، على مدى أسابيع، فكّت مجموعات من الاختصاصيين العسكريين وخبراء في قراءة الداتا الإلكترونية والصحافيين الاستقصائيين رموز المصطلحات الحربية في اللغة العسكرية المستخدمة، وتأكدت من صحة المعلومات ومقاطعتها مع مصادر أخرى، فنجحت بترتيب الداتا الضخمة، ما جعل أكثر من 400 مصطلح عسكري حربي قابل للقراءة والفهم. وعندما انتهى العمل التدقيقي والاستقصائي، اتفقت الصحف الثلاث على النشر معاً، وهنا لم يكن لأسانج سوى شرط واحد: أن لا تنشر أيّ من الصحف المعلومات قبل يوم الأحد (الماضي)، حين يضع موقع «ويكيليكس» تلك السجلات على الإنترنت. وهكذا كان، فاستفاق قرّاء الصحف الثلاث أمس على مانشيتات شبه موحّدة ومقالات وخرائط وأرقام ومعلومات بالجملة تروي تفاصيل الحرب الأميركية على أفغانستان على مدى 6 سنوات.
وتحفّظت كل من الصحف المذكورة على كشف بعض المعلومات الاستخبارية وبعض أسماء المواقع والأشخاص الذين لا يزالون في ميدان الحرب، كذلك امتنعت عن نشر معلومات عسكرية قد تعرض قوات التحالف الموجودة حالياً في أفغانستان للخطر. كذلك أكّدت الصحف عدم اطلاعها المباشر على مصدر تلك المعلومات الأصلي.
وعن «المصدر الأصلي» للمعلومات قصّة أخرى ظهرت إلى العلن منذ أشهر، تقول إنّ أحد الجنود الأميركيين المسؤولين عن قراءة المعلومات العسكرية السرية وتحليلها، نسخ سجلات حربي أفغانستان والعراق وأرسلها إلى مسؤول موقع «ويكيليكس». وفي شهر أيار الماضي، بعد سلسلة أحداث غير متوقعة تتعلق بالقضية، اعتقل الجندي، المحلل العسكري، برادلي مانينغ واقتيد من قاعدته في العراق إلى سجن عسكري في الكويت، حيث يقبع من دون محاكمة، ولا أحد يعرف عنه شيئاً ولا عن ملابسات اعتقاله أو التهم الموجهة إليه.
وفي مقابلة مع الـ«غارديان» و«دير شبيغل»، يفسر أسانج دوافع نشره لهذه المعلومات السرية وتعريض نفسه للخطر، فيقول إنّ «العمل الصحافي الحقيقي هو العمل المثير للجدل الذي يفضح استغلال أصحاب السلطة للأمور، وعندما يكشف الاستغلال يمكن الأمور أن تصحّح». ويضيف «أنّ المعلومات التفصيلية الدقيقة، التي تصف مجريات الحرب، من شأنها أن تسلّط الضوء على حقيقة تلك الحرب وما رافقها من عنف يومي وقتل للمدنيين. وهي ستغيّر نظرة العالم تجاه المسؤولين السياسيين والدبلوماسيين وأصحاب القرار».
وعن إمكان ملاحقته أو محاكمة موقع «ويكيليكس»، أكّد أسانج أنّ «الطريقة الوحيدة لملاحقتي هي عبر القانون، لا عبر المؤسسات والجنرالات. وقد خضعنا لمحاكمات قضائية في بلدان عدّة وربحنا أمام القانون». فما الذي أراد أسانج أن يكشفه للعالم في حرب أفغانستان؟
استهداف المدنيين والأطفال والقصف العشوائي، قتل رفاق السلاح بعضهم بعضاً في ميادين المعارك، دور باكستان وإيران، أسامة بن لادن والعمل الاستخباري، وأشياء كثيرة أخرى في الجزء الذي استطاعت الصحف كشفه بعد اطلاعها على السجلات.
وتفسر السجلات كيف أنّه، بعد تسع سنوات وثلاثمئة مليار دولار صرفت على الحرب في أفغانستان، لا تزال واشنطن وحلفاؤها في حلف شمالي الأطلسي بعيدين عن الربح الذي يتحدثون عنه دائماً. وتوضح ما كسبته «طالبان» على الأرض وكيف أصبحت هجماتها أكثر تنسيقاً وتركيزاً، موقعة خسائر كبيرة في صفوف التحالف، لتصبح أقوى من قبل بكثير.
كذلك يبدو من خلال هذه المستندات تخبط الجنود الأميركيين في المعارك. وتُظهر شكاوى المارينز من عدم وجود أموال كافية لتدريب الأفغان والحفاظ على ولائهم.
وتبرهن الوثائق أيضاً أنّ الجيش الأميركي أعطى أحياناً معلومات مضللة، مثل قوله إنّ مروحية أميركية أُسقطت بأسلحة تقليدية، فيما كانت «طالبان» تستخدم صواريخ حديثة (تبحث عن مصادر الحرارة وتقضي عليها) أو القول إنّ الأفغان حققوا إنجازاً ما في إحدى المهمات، فيما الفضل يعود للأميركيين. كذلك تكشف المستندات عن وجود فرقة كوماندوس سرية أميركية تدعى «فرقة 373» تضم عناصر من الجيش والبحرية تقضي مهمتهم باعتقال أشخاص محددين يُعَدّون من الأهم عند المقاتلين أو قتلهم. وتكشف الوثائق كيف نجحت هذه الفرقة أحياناً وفشلت أحياناً أخرى، مسببة قتل المدنيين. هكذا حصل في 11 حزيران 2007، حين كانت الفرقة تطارد، مع الأفغان، قائداً في «طالبان» يدعى قار الرحمانين قرب جلال آباد، وانتهت المهمة بهربه ومقتل 7 من القوات الأفغانية. وتقول جريدة «دير شبيغل» إنّ وجود الفرقة على قاعدة «مخيم مرمل» الألمانية في مزار الشريف يسبب حرجاً للحكومة الألمانية بسبب الأخطاء القاتلة المتكررة التي ترتكبها.
وتعطي المستندات دليلاً على الشكوك في ازدياد عمليات وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) شبه العسكرية داخل أفغانستان. فهي شنت غارات ليلية عدّة، وكمائن، وموّلت بين 2001 و2008 وكالة الاستخبارات الأفغانية وإدارتها كفرع لها.
وتوحي بعض الوثائق أنّ الجيش الأميركي كان متفائلاً وساذجاً أحياناً، وخصوصاً في ما يتعلق بالتقويم الداخلي لإمكان الربح في الحرب. كذلك تظهر الوثائق أنّ المقاتلين المناهضين لواشنطن كبّدوا الجيش الأميركي وقوات التحالف خسائر كبيرة عبر هجمات صغيرة قد تبدو غير فعالة. وهم من حددوا إيقاع الحرب عبر اختيارهم مكان المعارك، على أراضٍ يعرفونها جيداً، ثم اختفوا.
وتعطي الوثائق دليلاً على الشكوك المتعلقة بحقيقة الدور الباكستاني في أفغانستان. فتقول إنّ الاستخبارات الباكستانية أدت دوراً مزدوجاً كحليف وعدو للولايات المتحدة. فهي تعاونت مع واشنطن في بعض الأمور، فيما كانت تحاول، عبر علاقاتها مع شبكات المقاتلين الذين يحاربهم حليفها الأميركي، بسط نفوذها في أفغانستان. وتسمي إحدى الوثائق، التي تعود إلى آب 2008، عقيداً من الاستخبارات الباكستانية (ISI) على أنّه الرأس المدبر مع مسؤول في «طالبان» للتخطيط لاغتيال الرئيس الأفغاني حميد قرضاي. كذلك تكشف المستندات عن أنّ الجنرال حميد غول، الذي كان رئيساً للاستخبارات الباكستانية بين 1987 و1989، عمل على إعادة تفعيل علاقاته السابقة مع المجاهدين الأفغان الذين تحولوا إلى «طالبان» وأعاد إحياء صلاته بجلال الدين حقاني وقلب الدين حكمتيار اللذين تعدّهما واشنطن مسؤولين عن العنف في البلاد والهجمات عليها.
وتصف إحدى الوثائق لقاء غول مع ثلاثة قادة أفغان من طالبان و«ثلاث رجال عرب قد يكونون من القاعدة» في مدينة وانا عاصمة وزيرستان الجنوبية. وتضيف الوثيقة أنّ المجتمعين ناقشوا الانتقام لأحد المقاتلين الذين قضوا في هجوم من طائرة أميركية بلا طيار، وأنّ غول طلب من قادة «طالبان» العمل في أفغانستان فقط في مقابل غض السلطات في إسلام آباد النظر عن وجودهم في مناطق باكستان القبلية. وتقول وثائق أخرى إنّ الاستخبارات الباكستانية تشرف على عمل الانتحاريين الذين تكثف عملهم في أفغانستان في 2006 وأرسلت ألف دراجة نارية إلى حقاني في نيسان 2007 لاستخدامها في العمليات الانتحارية في خوست ولوغار.
أسامة بن لادن
ماذا عن العدو الرقم واحد، أسامة بن لادن؟ رغم اعتراف الاستخبارات الأميركية الشهر الماضي على لسان مدير «سي آي إيه» ليون بانيتا بأنّه منذ 2000 لم يكن لدى واشنطن معلومات دقيقة عن مكان وجوده، تظهر المستندات أنّه بين الحين والآخر كان لدى الأميركيين معلومات عن بن لادن وزياراته لباكستان. وتقول وثيقة تعود لآب 2006 إنّه كان موجوداً في كيتا في باكستان، حيث عقد اجتماعاً لستة انتحاريين لتنفيذ هجمات. وتضيف الوثيقة أنّ الملا عمر والملا داد الله والملا برادار كانوا في هذا الاجتماع. وتدّعي الوثائق أنّ بن لادن هو المسؤول المباشر عن تنفيذ العمليات الانتحارية التي يقوم بها مقاتلون غير أفغان. وتوضح وثيقة أخرى أنّ بن لادن مثلاً كلف «ثلاثة إرهابيين يتمتعون بتدريب عالٍ قتل الرئيس قرضاي» في أيلول 2004. وتقول وثيقة تعود لكانون الأول 2005 إنّ مستشار بن لادن المالي سافر بأوامر منه مع قلب الدين حكمتيار إلى كوريا الشمالية عبر إيران لشراء صواريخ.
وتربط مستندات عدّة بين بن لادن وتنظيم «القاعدة» وعدد من العمليات، مثل تهريب الصواريخ في قندهار، ومحاولة صناعة أسلحة كيميائية وغيرها. وتؤكد أنّ نفوذ بن لادن تزايد وينتشر على نحو كبير بين المقاتلين، حتى استطاع إقناع بعضهم بتسميم طعام قوات التحالف وشرابها، كما تقول وثيقة تعود لأيار 2008.
وتوضح المستندات زيادة أهمية العبوات المتفجرة لدى «طالبان»، إذ كان عددها 308 في 2004 وأصبحت 7155 العام الماضي، فوصل عددها في خمس سنوات إلى 16000.
وتظهر المستندات العقبات التي يواجهها الجيش الألماني أيضاً، على عكس التقارير التي تصدر عن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. ويبدو أنّ قوات الجيش الألماني لم تشهد تقدماً في عملها منذ 2002، تاريخ وجودها في المنطقة. وتشير «دير شبيغل» إلى وجود سذاجة عند قيادة الجيش التي اختارت المناطق الشمالية في أفغانستان لوجودها لأنّها هادئة لتواجه التفجيرات والعمليات الانتحارية ضد مهندسيها لاحقاً، رغم أنّ معظم عملها يقوم على إعادة الإعمار. إذاً، تعطي الوثائق المسربة صورة واقعية عن سير المعارك على الأرض في أفغانستان، وتظهر حقيقة غير منمقة، صادمة أحياناً، لحرب ابتعدت كثيراً عن هدفها، ويبدو أنّها لن تنتهي قريباً.
--------------------------------------------------------------------------------
أبرز الوثائق
ـــــ 11 تشرين الأول 2009، مقاطعة بلخ: ضرب عناصر من الشرطة الأفغانية والجيش الأفغاني عدداً من المدنيين لرفضهم التعاون خلال تفتيش. حاول ضابط في الشرطة اغتصاب فتاة في السادسة عشرة من العمر، فاعترض أحد المدنيين الموجودين. فطلب الضابط من حارسه الشخصي أن يطلق النار على المدني. رفض الحارس، فأطلق الضابط النار على حارسه الشخصي أمام المدني.
ـــــ 4 كانون الأول 2009، مقاطعة أوروزغان: بعد حادث سير، تصاعد النقاش بين عناصر من الجيش وآخرين من الشرطة الأفغانية، ثم بدأوا بإطلاق بعضهم النار على بعض. أُصيب جندي أفغاني وثلاث من الشرطة، فيما قتل مدني واحد وجرح ستة.
ـــــ 3 أيلول 2009: سرق المتمردون شاحنتين محملتين وقوداً. لاحقت الطائرات الشاحنتين. بعد التأكد من عدم وجود مدنيين، أُعطي الأمر من المسؤول الألماني عن منطقة كوندوز بضربهما. أُطلقت قنبلتان تزن كلّ واحدة منهما 500 باوند من طائرة إف 15. قتل 56 متمرداً.
ـــــ 4 أيلول 2009: قتلت طائرة «إف 15» 60 مدنياً أفغانياً في كوندوز
ـــــ 6 نيسان 2006: تعرضت قافلة بريطانية لإطلاق نار وتدهورت إحدى الشاحنات العسكرية. طلب البريطانيون مساندة جوية من الأميركيين، وبدأوا بإطلاق النار باتجاه التلال المحيطة بهم. تبين أنّ مطلقي النار هم من الشرطة الأفغانية التي لم تعرف بمرور موكب بريطاني.
ـــــ 2008: استهدفت القوات الفرنسية حافة مدرسية تقلّ أطفالاً فجرحت ثمانية منهم، وقصفت القوات الأميركية حافلة أخرى للركاب مسببة جرح وقتل 15 شخصاً على الأقلّ.
ـــــ كانون الأول 2007: هاجمت قوة بولندية قرية أفغانية وأطلقت النيران على حفلة زفاف فقتلت كل الموجودين، من بينهم امرأة حامل. واتضح أنّ دوافع العملية العسكرية البولندية كانت انتقامية بحتة.
ـــــ 13 أيلول 2009: فقد أحد الطيارين الأميركيين السيطرة على طائرة بدون طيار كان يوجهها من قاعدة داخل الولايات المتحدة، ولم تُسترجع.
ـــــ 9 كانون الأول 2008، قندهار: طائرة بريداتور تشاهد رجالاً يحاولون زرع قنبلتين على جانب إحدى الطرقات. أطلقت الطائرة كلّ الأسلحة والقنابل الموجودة فيها. حين وصلت القوات الأرضية إلى المكان لم تجد سوى معول. هرب الرجال ولم تستطع العملية التي كلفت ستين ألف دولار جرحهم حتى.
(الاخبار)