لقد كشفت عودة آلاف الجنود إلى الولايات المتحدة, بعد اشتراكهم في الحرب في العراق وأفغانستان عن حجم الأعباء الاجتماعية للحرب التي بدأت ملامحها في الظهور.
كما ألقت أحدث تقارير الحرب الضوء على انهيار الصحة البدنية والعقلية للجنود العائدين, وازدياد معدلات الانتحار بينهم, ومعاناتهم من التشرد وإدمان المخدرات, والاعتقال بسبب جرائم مدنية ارتكبوها, وما ارتبط بذلك من النقص الحاد في حجم المساعدات المالية والطبية التي يحتاجونها, وحالة الفقر المدقع الذي يعانونه.
جيش أمريكا العظيم - حسب إحصاءاتهم - فقد أربعة آلاف قتيل في العراق! وأصيب منه أكثر من ستين ألف جندي في العراق وأفغانستان, منذ عام 2001م! والجديد هنا هو أن التقدم الطبي والتكنولوجيا الحديثة, ساهمتا في بقاء آلاف الجنود أحياء في هذه الحرب الحالية, أكثر من أي حرب مضت في التاريخ الحديث, ولكنها حياة ارتبطت بإصابات بدنية ودماغية, لا يمكن علاجها؛ فحينما يعود هؤلاء الجنود إلى بلادهم, يواجهون صعوبات عدة؛ منها انتظار دورهم في العلاج الطبي, وهو علاج يحتاج إلى انتظار طويل, بالإضافة إلى أنه علاجٌ غير منظم ومزدحم, وغير ممول ماليا؛ مما يؤدي بالجنود العائدين إلى حالة من البؤس الاجتماعي الشديد.
وباء المرض العقلي
تشهد إحصائيات الهيئات المعنية بهؤلاء الجنود, أن هناك 264000 مقاتل عائد من الحرب - عولجوا في العيادات والمستشفيات - رفعوا دعاوى قضائية ضد الهيئات التابعين لها؛ بسبب معاناتهم هذه. ومن المتوقع في عام 2008 أن يعالج 300000 جندي عائد من العراق وأفغانستان, وتقدر الحكومة الأمريكية تكاليف علاجهم بـ 650 بليون دولار, كما أن التقديرات المحافظة للجيش الأمريكي, تشير إلى انتشار ما تسميه بـ "وباء المرض العقلي" بين الجنود العائدين, وتشهد الإحصائيات كذلك, أن 38 % من جنود الجيش, ونصف الحرس الوطني العائدين, يعانون اضطرابات عقلية ونفسية.
وتعتبر الإصابات الدماغية, أكثر الإصابات الشائعة بين الجنود العائدين, وهي إصاباتٌ يصعب تشخيصها, كما يصعب علاجها, وتتراوح أعراضها من سرعة الغضب, إلى الإحساس بالدوار الكامل, وتصل إلى حالة نسيان طريقة المشي وكيفية الكلام, وتسوء الحالة عبر الزمن.
وطبقا لتقارير مركز علاج الإصابات الدماغية للجنود العائدين, هناك أكثر من 4200 جندي عائد دخلوا المستشفيات العسكرية هذا العام, ويعتقد الأطباء أن هناك عدة آلاف أخرى من الجنود, يعانون هذه الإصابات, لكنهم غير مسجلين, وأن واحدا من كل خمسة جنود عائدين, يعانون هذه الإصابات الدماغية, التي يعود أغلبها إلى اقترابهم من المتفجرات, التي تزرع على جانبي الطريق.
وتشير التقارير كذلك, إلى أن الطبيعة القاسية للحرب؛ أدت إلى إصابة نسبة عالية من الجنود باضطرابات ما بعد ضغوط الصدمة, وأوضحت مسوح هيئة "والتر ريد" أن هذا النوع من الإصابات, قد لحق بما يقرب من 22000 جندي عائد, وأن أربعة من كل خمسة جنود, إما صدرت لهم الأوامر باستخدام سلاحهم للقتل, أو شاهدوا أحدا قد قتل أو جرح. وترتفع هذه النسب سواء بين جنود الخدمة الفعلية, أو جنود الاحتياط الذين خدموا في العراق وأفغانستان.
كما تضاعفت حالات الاكتئاب الحاد, أما حالات الصراع مع العائلة والأصدقاء, فقد ارتفعت من 3.5 % إلى 14% عند أفراد الخدمة الفعلية, ومن 4% إلى 21% عند جنود الاحتياط العائدين من الحرب. وترى هيئة "والتر ريد" أن التقديرات المشار إليها, قد تكون غير دقيقة؛ بمعنى أنها قد تكون أعلى مما هي عليه؛ بسبب النقص في الإمكانيات, وعدم توافر العدد الكافي من الأطباء المعالجين.
وأشار مكتب الإحصاء الحكومي, إلى أن نصف ما يعرف بالوحدات القتالية الانتقالية, لديها قصورٌ شديدٌ في الهيئة الطبية, تزيد نسبته عن 50%, كما أن أعدادا كبيرة من الجنود, تحملوا - هم وأسرهم - أعباء العلاج الطبي؛ بسبب عجز الجيش عن ذلك.
من ميدان الحرب إلى التشرد
غالبية أفراد جيش أمريكا العظيم, ينتمي إلى بيئات فقيرة اقتصاديا, ومن رجع منهم إلى هذه البيئة, بعد خدمته القتالية؛ رجع بأمراض بدنية ونفسية. يقول أحد تقارير "هيئة التحالف الوطني للقضاء على التشرد": "إن آلاف الجنود العائدين من العراق وأفغانستان, دخلوا في نطاق الملايين الأمريكيين الذين يعيشون بلا مأوى؛ ففي عام 2006 م, كان هناك 194254 جنديا عائدا بلا مأوى, يعيشون في الشوارع, وفي عام 2007 م, قدرت إدارة الجنود المسرحين, أن واحدا من كل ثلاثة مشردين, هومن الجنود العائدين من الحرب؛ هنا تقدم الحكومة 15 ألف مأوى, أما التنظيمات غير الربحية, فقد قدمت ثمانية آلاف؛ هذا يعني أن آلافا أخرى من العائدين, على حافة التشرد؛ بسبب الفقر, والافتقاد إلى الدعم الأسري, والأصدقاء, ويعيشون في ظروف سيئة, ومنازل رخيصة ودون المستوى.
إن الجنود الشبان الذين يلتحقون بالجيش, في سن السابعة عشرة والثامنة عشرة؛ رغبة في تحسين ظروفهم الاقتصادية والمعيشية السيئة - يخرجون من الجيش فيجدون أنفسهم في نفس هذه الظروف, إن لم يكن أسوأ".
أما إحصائيات وزارة العدل, فتبين أن 12% من مجموع 7 ملايين سجين, كانوا قد خدموا في الجيش, وأن أربعة من كل خمسة مساجين مسرحين من الخدمة, هم من المدمنين على المخدرات, وأن ربع المعتقلين في السجون, هم من المشردين لمدة عام على الأقل, قبل دخولهم السجن, أومن المصنفين على أنهم مرضى عقليون.
هناك نصف مليون عائد من الحرب يعيشون بلا مأوى, هناك 467877 من العائدين, غير قادرين على دفع إيجارات المنازل التي يسكنونها, ويدفعون أكثر من نصف دخولهم؛ إيجارا لهذه المساكن؛ وهذا يعني أنهم على حافة التشرد, وأن أكثر من نصف العائدين من الحرب تحت خط الفقر؛ فهناك 43% من العائدين يحصلون على تذاكر طعام من الحكومة.
إن مشاكل الجنود العائدين من حرب جيش أمريكا العظيم, في العراق وأفغانستان - لا تقف عند حدود الاضطرابات العقلية التي يعانونها، ومحاولة إعادة تكيفهم مع مجتمعاتهم مرة أخرى, فهناك مشكلةٌ كبرى أخرى تواجههم, إنها مشكلة إعادة تعبئتهم مرة أخرى للقتال, رغم ما يعانونه من هذه الاضطرابات.
جنود ذوو تاريخ إجرامي
لم تعد الحرب تحظى بشعبية بين الشباب الأمريكي؛ لهذا فإن الجيش لم يعد يتمسك بمستويات صارمة, لا بد أن تتوفر فيمن يريد الالتحاق به؛ حيث سمح الجيش للأفراد الذين يعانون بعض الاضطرابات النفسية والعقلية, وحتى من ذوي التاريخ الإجرامي بالالتحاق به, وانتهك الجيش والحرس الوطني معايير التجنيد بوضوح, حينما سمحا لهذه الفئة من الشباب بالالتحاق بهما, إذا ثبت لهما أن حالة هذا الشباب, كانت مستقرة قبل ثلاثة أشهر من التجنيد.
وعمد البنتاجون إلى إطالة فترة الخدمة في الميدان, فلم يعد يسمح بالتسريح من الخدمة بسهولة؛ الأمر الذي جعل الجيش يعاني عدم الإقبال على التجنيد وهذا يمثل عائقا في وجه الإدارة الأمريكية, إذا ما حاولت توسيع نطاق عملياتها العسكرية في مناطق أخرى من العالم.
يفضلون الانتحار
هذا هو جيش أمريكا العظيم الذي يقاتل في العراق وأفغانستان, كما وصفته "ناعومي سبنسر" في مقالتها, عما أسمته" بالكارثة الاجتماعية للجنود المسرحين من الخدمة القتالية". ولعل أبلغ التعبيرات عن حالة هذا الجيش العظيم - جاء على لسان والدة الجندي "داميان فيرانديز" الذي قالت عنه أمه: "إن عمره لا يزيد عن خمسة وعشرين عاما, ويعاني اضطرابا عقليا, تزيد نسبته عن 70%". قال "فيرانديز" لأمه: "أعيش في العام ثلاثمائة وخمسة وستين يوما, تحت وطأة القنابل والألغام الأرضية في الشوارع, أشاهد زملائي يقتلون, كل يوم أعيش في قلق أكثر وأكثر, إني أفضل أن أقتل نفسي, ولا أعود مرة أخرى إلى الحرب". أما الجندي "مايكل دي فلايجر", الذي جاءته الأوامر من قيادته, بالعودة إلى وحدته, بعد يوم واحد من خروجه من المستشفى العسكري, حيث كان يتلقى العلاج من أزمة اضطراب حادة كان يعاني منها - فقد قال لأمه: "يا أمي, إني ذاهبٌ لأموت, أنا لن أعود مرة أخرى حيا, أنا أشعر بالموت, أحلم به دائما".
هؤلاء هم جنود جيش أمريكا العظيم, فيهم من سمات المنافقين الذين يتفوهون بالإسلام الكثير, **وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم, وإن يقولوا تسمع لقولهم, كأنهم خشبٌ مسندةٌ, يحسبون كل صيحة عليهم} ( المنافقون 4). جيش أمريكا العظيم, نرى فيه قوله تعالى: **وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله؛ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا, وقذف في قلوبهم الرعب, يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} (الحشر2), **لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أومن وراء جدر} (الحشر14). إذا خرجوا من هذه الجدر, ومعهم أحدث التكنولوجيا, يحملونها على ظهورهم؛ تلقفهم الموت بالقنابل والألغام المزروعة على جانبي الطريق, وإذا احتموا بهذه الجدر المحصنة, والمزودة بأحدث التكنولوجيا؛ نجوا من الموت السريع, هنا يأتيهم الله بالموت البطيء من حيث لم يحتسبوا, وإن لم يموتوا انتحروا.
فعلام الدنية في ديننا إذا ؟! وهذه هي حقيقة العدو وجيشه العظيم!!!
-------------
** دكتوراه في علم الاجتماع العسكري، وعضو هيئة التدريس السابق بجامعات القاهرة, والأزهر, وأم درمان الإسلامية, والملك عبد العزيز.