المبادئ العامة للحروب التقليدية
الحرب التقليدية (الكلاسيكية)
تمهيد
يقصد بالحرب التقليدية ذلك النوع من الحروب الذي تخوضه - بصفة أساسية - القوات النظامية لدولة أو أكثر ضد دولة أو أكثر.
ولقد عرفت البشرية هذا النوع من الحروب منذ أقدم العصور. ومن اللافت للنظر أن الأساس الفلسفي لهذه الحروب لم يتغير رغم توالي العصور عليها.
فهذه الحروب - عسكريا - تعتمد على أربعة عناصر هي الاستراتيجية، والتكتيك، والتقدم العلمي المناسب زمانا ومكانا، ثم الخطة.
كما أنها - سياسيا- تستهدف كسر إرادة العدو، وفرض الإرادة الأخرى عليه.
ولم يضف العصر الحديث لهذه الحروب إلا أبعادا جديدة في متطلبات الإعداد لها، وذلك تحت تأثير عوامل لم يكن للأقدمين فيها خوض من مثل: ظهور الخرائط السياسية الحديثة التي تبلورت تماما بظهور عصبة الأمم ثم الأمم المتحدة، ومن مثل: شمولية الحرب الحديثة بحيث صار الإعداد لها يتطلب - فضلاً عن الجوانب العسكرية -جوانب أخرى اقتصادية واجتماعية وإعلامية وسياسية.
وسنتناول في الفرعين التاليين عناصر هذه الحروب، وقواعد الإعداد لها.
عناصر الحرب التقليدية
وتنقسم هذه العناصر-كما قلنا- إلى أربعة عناصر هي: الاستراتيجية، والتكتيك، والتقدم العلمي والخطة.
وتتميز مبادئ الاستراتيجية بالثبات، ولم يؤثر فيها التقدم العلمي ولا التطور إلا من ناحية التطبيق فقط وكذا الأمر بالنسبة لعنصر الخطة.
وأما مبادئ التكتيك، فقد كان لظهور النار أثر ملموس عليها، سواء منها ما تعلق بالصدم أو بالحركة.
وفيما يلي سنتناول كل عنصر من هذه العناصر في مبحث مستقل.
الإستراتيجية
وقد قيل في الاستراتيجية إنها: « استخدام الاشتباك كوسيلة للوصول لهدف الحرب» أو أنها: « فن توزيع واستخدام مختلف الوسائل العسكرية لتحقيق هدف السياسة » أو أنها: « فن استخدام القوة للوصول إلى أهداف السياسة».
ونكتفي في مجال الإحاطة الثقافية -هنا- بمعرفة أن الإستراتيجية كلمة لاتينية الأصل، تشتمل على مقطعين Stra ومعناها الميدان، Tigومعناها الجبل، وقد غلب في الاصطلاح استعمالها للدلالة على القواعد العامة التي تتعلق بمجمل التخطيط للعمليات العسكرية.
وللاستراتيجية بهذا المعنى مبادىء عدة عرفت منذ أقدم العصور، ولم يكن عباقرة القواد هم الذين عرفوها وإنما كانوا هم الذين استطاعوا مراعاة هذه المبادئ وتطبيقها التطبيق المناسب والسليم.
ومن هذه المبادئ ما يعد رئيسيا لا يتصور أن تخلو الاستراتيجية منها، ومنها ما يعد ثانويا، بالنظر إلى أنه لا قيمة لها ما لم تكن المبادئ الرئيسية قد روعيت قبل مراعاتها. ونتناول فيما يلي كلا من هذين النوعين من المبادئ.
أولا - المبادئ الرئيسية للاستراتيجية
1 - المباداة
والمبادأة هي: المبادرة إلى العمل في الاتجاه الصحيح وبأدنى تأمل، فإن المبادأة بهذا المعنى تمتد جذورها إلى لحظة ظهور الهدف السياسي لدى القادة السياسيين، إلا أنه حين يقف الأمر عند الناحية العسكرية البحتة، فإننا نجد أن القادة العسكريين لا يبدأون في العمل في الاتجاه الصحيح إلا بعد وضوح الهدف العسكري أمامهم. ذلك أن تحديد الهدف العسكري في الإطار السياسي العام، يعد من صميم اختصاص القيادة السياسية ولو عاونها في تحديده العسكريون، وأما تحقيق الهدف السياسي في إطاره العسكري، فيعد من صميم اختصاص العسكريين وحدهم.
وأول خطوة عند المبادرة بالعمل في الاتجاه الصحيح هي: تقدير الموقف، حيث يقوم القادة بدراسة أوضاعهم وأوضاع العدو دراسة شاملة لتحديد جوانب القوة والضعف في كل من الموضعين.
ويستعين العسكريون في ذلك بالمعلومات عن حجم وطبيعة القوات المعادية، والإمكانيات المتاحة والمنتظرة لها، وعوامل السلب والإيجاب في تشكيل وتدريب وتسليح وأوضاع هذه القوات.
ثم يلي ذلك تحديد الهدف المطلوب تحقيقه إزاء هذه القوات، ثم دراسة طاقة القوات على تحقيق هذا الهدف في ظل الظروف الطبوغرافية والجوية التي ينتظر أن تعمل فيها، وبعد ذلك يقوم القادة بتهيئة قواتهم قتاليا ومعنويا وإداريا وفق خطط زمنية محددة لضمان استيعابهم لهذا الهدف، وقدرتهم على تحقيقه عندما يستمر القتال.
2 - المفاجأة (المباغتة )
وإذا كان جوهر المبادأة هو المبادرة بالعمل في الاتجاه الصحيح، فإن جوهر المفاجأة هو المبادرة بالعمل في الاتجاه الصحيح بطريقة تخالف توقع وتقدير العدو.
وتعتبر المفاجأة أهم مبدأ من مبادئ الحرب، ويؤدي إحرازها غالبا إلى انهيار العدو معنويا، فضلا عن ارتباكه وعدم قدرته على اتخاذ إجراءات مضادة فعالة، بل إنه غالبا ما سيتخذ قرارات قتالية لا تتفق والموقف الحادث فعلا مما يؤدي في النهاية إلى شل عزيمته عن المقاومة تماما.
ولا تؤتي المفاجأة هذه الثمرة إلا إذا تم استغلال الموقف الابتدائي المواتي الناجم عنها في الوقت وبالأسلوب المناسبين، ذلك أن عدم تطوير الهجوم واستغلال النجاح الأولي إلى أقصى حد ممكن يتيح للعدو غالبا استعادة سيطرته ونظامه، وتفهم معطيات الموقف الجديد وابتداع الوسائل المكافئة له.
وليست هناك وسيلة واحدة لإحراز المفاجأة، فالوسائل متنوعة ومتعددة، ويكمن جوهرها جميعا في الابتكار الخلاق، وتجنب النمطية والتكرار.
ويرى بعض الباحثين، أن المفاجأة الاستراتيجية تتحقق فقط بأساليب معينة من مثل التعبئة السريعة لجيش، والحركة السباقة الحاسمة قبل إعلان الحرب رسميا، والنقل السريع للقوات من مسرح لآخر. بينما يرى بعض آخر، أن من الممكن تحقيق المفاجأة الاستراتيجية بزمان أو مكان أو قوة الهجوم كذلك.
ولا تعليق لنا على هذا الخلاف النظري إذ ليست له أهمية عملية على أرض الواقع، ولهذا سنشير هنا إلى كيفية إحراز المفاجأة بالوسائل الأخيرة المتعلقة بزمان أو مكان أو قوة الهجوم لحاجة هذه الوسائل إلى المزيد من البيان.
فالمفاجأة بزمان الهجوم تعتمد على وسائل متعددة كالإعلام المخادع، والتضليل بالمعلومات، والهجوم من الحركة، وتأخير حشد القوات إلى آخر لحظة ممكنة، فضلا عن الهجوم في الأوقات التي يقل استعداد العدو فيها كالليل أو قبيل الفجر أو في الصباح المبكر أو حتى في وضح النهار كما حدث في حرب أكتوبر سنة 1973.
وأما المفاجأة بمكان الهجوم فغالبا ما تتم بالأعمال التظاهرية، وإخفاء اتجاه المجهود الرئيسي، واتباع طرق الاقتراب غير المتوقعة، أو بدء الحرب بالهجوم على مطارات العدو المختلفة أو موانيه الرئيسية.
وقد يكون زمان ومكان الهجوم معروفين للعدو، ومع ذلك يتبين عند بدء القتال أنه مفاجئ تماما بقوة الهجوم، سواء من حيث عدد القوات، أو الإمكانيات التي أتيحت لها، أو الروح المعنوية التي ظهرت بها.
وتؤتى المفاجأة ثمارها المرجوة بالوسائل السابقة إذا واكبها روح معنوية عالية، واتصاف القوات بصفات وقدرات قتالية مناسبة، فضلا عن الاستطلاع النشط والمستمر للعدو، وكذا معرفة الأرض التي يقيم عليها استحكاماته، مع مراعاة السرية التامة في التحضير للهجوم، وإعداد السلاح المستخدم فيه، مع محاولة بدء الهجوم في وقت واحد على كافة الجبهات المتاحة، مع استغلال كل العوامل المساعدة، بما فيها مفاجأة العدو بالخيانة بين قواته.
ومن أمثلة الحروب الحديثة التي تم إحراز المفاجأة فيها: حرب الألمان ضد الفرنسيين في أثناء الحرب العالمية الثانية، فقد عمد الألمان بالأعمال التظاهرية، والإعلام المخادع، إلى إقناع القيادة البريطانية الفرنسية المشتركة بأن الضربة آتية من الشمال، مما حدا بهذه القيادة إلى نقل قواتها الرئيسية إلى شمال فرنسا في مواجهة الحدود مع هولندا، وحينذاك، حشد الألمان - في وقت محدود نسبيا - قوة ضاربة في الجنوب، وجهوا بها ضربة مفاجئة للدفاع الفرنسي الضعيف هناك، ثم استغلوا نتائج ذلك بمهارة وحذق وأنهوا الموقعة لصالحهم.
وفي صيف سنة 1967 طبقت إسرائيل الوسائل الألمانية بطريقة مناسبة، فعمدت إلى التضليل بالديبلوماسية إلى الحد الذي تحدد فيه يوم الأربعاء الموافق 7/6/1967 موعدا لاجتماع زكريا محي الدين نائب رئيس الجمهورية المصرية في ذلك الوقت بالرئيس الأمريكي حينذاك ليندون جونسون وذلك لإنهاء النـزاع بالوسائل السلمية.
ثم استغلت إسرائيل الأعمال التظاهرية الأرضية لتشتيت الفرقة الرابعة المدرعة المصرية، وجذبها ناحية جنوب سيناء بعيدا عن اتجاه ضربتهم الرئيسية بمحاذاة الساحل الشمالي، مستخدمة في ذلك الطلعات الجوية الكثيفة صوب الجنوب، والدبابات الهيكلية في منطقة الكونتلا.
وإثر ذلك قامت إسرائيل بمفاجأة أخرى، هي المبادرة بالهجوم على جميع المطارات المصرية المدنية والعسكرية في الساعة الثامنة وخمسين دقيقة، وهو وقت كان فيه الجزء الأكبر من قادة القوات الجوية لا يزالون في الطريق إلى وحداتهم، أو يتناولون فيه الإفطار!!
وقد ساعد على تجاوز هذه الضربة لحدودها- التي يرجونها-أن كانت طائرة المشير عامر وبرفقته بعض القادة في طريقها إلى مطار "المليز" بسيناء، وبالتالي كانت المدفعية المضادة للطائرات مقيدة، وغير مسموح لها بالضرب، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الطائرات المغيرة قد اقتربت إلى أهدافها على ارتفاعات منخفضة، ومن فوق البحر ووسط الضباب، ثم قامت بمهاجمة أهدافها من الأجناب والخلف، لتبين لنا كم كسبت إسرائيل من هذه المفاجأة!
وفي عام 1973، لم نكن نحن بأقل كفاءة من إسرائيل في الاستفادة من دروس التاريخ العسكري، وابتكار الوسائل المبدعة والخلاقة لتحقيق المفاجأة إلى الحد الذي جعل الإسرائيليين ومن ورائهم أعتى أجهزة المخابرات في العالم يبصرون ولا يفقهون، حتى لكأنما غشيتهم غاشية، أو سكرت عقولهم فهم لا يعقلون بها، فإذا بهم، وحتى يوم الجمعة 5 أكتوبر سنة 1973، ينفض سامر قيادتهم السياسية، والعسكرية، والجزم على أشده بالأخطر وشيك لاشتعال القتال، وقد استغرق الأمر من الأركان العامة الإسرائيلية - فيما بعد - حتى فجر السادس من أكتوبر، لكي ترجح احتمال الحرب. ثم يمضي الوقت في موازنة بين سامر الأمس وترجيح اليوم حتى تبلغ الساعة الواحدة ظهر يوم السبت 6 أكتوبر سنة 1973 حين يهرول موشي ديان إلى مبنى القيادة العسكرية لينظر ماذا يمكن فعله في الساعات الأربع التي ظنوها باقية على بدء القتال حيث يفاجؤون مرة أخرى بأن الحرب وقعت بعد ساعة فقط وفي تمام الساعة الثانية ظهرا، وهو توقيت عد وحده مفاجأة، إذا لم يعهد في التاريخ العسكري من قبل الهجوم في مثل هذا التوقيت.
ولم تتحقق هذه المفاجأة، وبالقدر الذي تحققت به على الجبهتين، المصرية والسورية، إلا باتباع إجراءات طويلة ومعقدة، اشترك في الإعداد لها وزارات الحربية والخارجية والإعلام، وبجميع الأجهزة التابعة لهم.
وكان من بين الإجراءات التي اتبعت لتحقيق المفاجأة الاستراتيجية ما يلي:
- أولا، وابتداء من أول عام 1973، عمدت القوات المسلحة المصرية بالاشتراك مع أجهزة الإعلام المختلفة إلى ترويض العدو على رؤية بعض التحركات الواسعة، والاستعدادات القوية، في الأوقات (المجاميع) الصالحة للعبور، ودون أن يعني ذلك نية القتال.
- ثم يلي ذلك، الاستمرار على مدار العام في استكمال متطلبات الدفاع لإيهام العدو بأن تفكيرنا لا يتجاوز الدفاع بحال من الأحوال.
وحين صارت المدة الباقية على الحركة حوالي أربعة أشهر، بدأ تجميع القوات والاحتياجات تباعاً في الجبهة مع مراعاة تصغير حجمها إلى الحد الذي لا يثير انتباه العدو أو شكوكه، وزيادة في الحيطة روعي في تحريك القوات والمعدات -وخصوصا معدات العبور- تحريكها في اتجاهات مختلفة، ثانوية وعرضية داخل الجبهة، وعكسية، من وإلى الجبهة، وذلك تحت ستار التدريب، كما روعي في نفس الوقت التغيير المستمر في حجم وأوضاع القوات البرية، وأماكن تمركز القطع البحرية.
- ولما تبقى على المعركة ثلاثة أسابيع، تم دفع القوات الرئيسية من العمق إلى الجبهة تحت زعم القيام بمناورة استراتيجية كبرى، وافقت ما تعود عليه العدو من قيام القوات المصرية بمناورتها التدريبية الختامية في الخريف من كل عام. وزيادة في تضليل العدو، ولتخفيف أثر هذه التحركات على ظنونه، عمد المسئولون إلى إلقاء بعض التصريحات المخادعة، من مثل: تحديد يوم 8 أكتوبر موعد لزيارة وزير حربية رومانيا لمصر، وموافقة القيادة على سفر الضباط المصريين للعمرة.
- وقبل المعركة ب 48 ساعة بالضبط، تم التأكيد على النية التدريبية بتسريح 20 ألفا من جنود الاحتياط، مما أدى إلى زيادة بلبلة القيادة الإسرائيلية، خصوصا وأنها- بتوفيق الله -كانت في هذه الآونة غارقة لأذنيها في حادث الفدائيين بالنمسا، وما تلاه من إغلاق معسكر شوناو هناك، وقد أحسنت القيادة المصرية صنعا إذ أسرعت إلى استغلال هذا الموقف الطارئ المواتي فسربت إلى الديبلوماسيين الأجانب معلومات تفسر استعدادات مصر العسكرية على أنها - حتى إذا كانت قد تجاوزت متطلبات التدريب - فإنها بغرض - الاحتياط ضد أي هجوم قد يفكر فيه الإسرائيليون انتقاما لحادث النمسا هذا، وقد بدا هذا منطقيا وقتها مما ساعد على ابتلاع إسرائيل لهذا الطعم، وقد زاد من فاعليته، أن دافيد العازار كان قد اقترح بالفعل شيئا من هذا القبيل وإن لم يؤخذ به.
- وأما حين لم يبق على المعركة إلا ساعات، فقد دفعت إلى حافة القناة جماعات من مصاصي القصب والسابحين من الجنود في الماء، بحيث لم تستطع قوات الملاحظة الأمامية المعادية أن تشك في اللمسات الأخيرة التي جرت استعدادا للهجوم.
- وأما على الجبهة السورية، فقد روعيت إجراءات خداع مماثلة، كان من بينها حشد المدرعات السورية منكسة المدافع، وموجهة المواسير إلى داخل سوريا، بحيث يبدو كأنها تستعد للدفاع لا للهجوم، وبالإضافة لهذا، فقد تم إبلاغ العدو بطريقة ما أن سحب سوريا لبعض قواتها من الحدود الأردنية إلى الجبهة في الجولان لم يكن إلا مصالحة للملك حسين بعد اجتماع القاهرة الذي أعاد العلاقات.
وبالطبع لم تكن تلك هي كل إجراءات الخداع التي بلغت خمسا وستين بندا، وإنما كانت تلك بعض البنود الهامة والمعروفة التي آثرنا ذكرها بترتيبها الزمني لنبين فكرة التخطيط الدقيق والمتأنى في القيادة العربية للحصول على المفاجأة، والتي بلغت في براعتها أن طائراتنا المغيرة كانت تنقض على أهدافها في الثانية وخمس دقائق ظهر السادس من أكتوبر بينما جنود إسرائيل في هذه الأهداف يلعبون الكرة، ويلعنون قادتهم الذين حرموهم من الاحتفال بعيد التكفير بين ذويهم بغير مدعاة.
3 - الحشد
ويقصد بالحشد - في الاصطلاح العسكري - ضمان التفوق في النقطة أو النقط الحاسمة في مسرح العمليات، وبديهي أن الحشد بهذا المعنى يعتمد على التأليف الصحيح بين القوات والعتاد المتيسر.
ولا يخفى- بأدنى تأمل - أن الحشد بهذا المعنى لا علاقة له بعدد سكان الدولة المحاربة، أو تعداد جيشها في مسرح الحرب كله، اللهم إلا من ناحية المعاونة على توفير العدد المطلوب من القوات.
وقد أثبتت التجارب أن الخطط السليمة في مجال الحشد ليست بديلا عن تنفيذ الحشد بواقعية وكفاءة واقتدار.
ويتبع في تحقيق الحشد طرق عدة، أهم ما يراعى فيها عدم الإخلال بالمبادئ الأخرى للحرب، كما يراعى فيها، كلما أمكن، الاستفادة من الخطوط الداخلية، والموقع المركزي، كما تفعل إسرائيل دائما، وكما فعلت الهند في حربها الأخيرة مع باكستان بشطريها الشرقي والغربي قبل أن ينفصل الشطر الشرقي ويصير دولة بنجالادش.
ومن أمثلة السنن المتبعة لتحقيق الحشد، استخدام الاحتياطي الاستراتيجي في النقط المطلوب تحقيق التفوق فيها، وكذا إجراء الهجوم التثبيتي (الثانوي ) بعيدا عن اتجاه - المجهود الرئيسي، منعاً لعدو من تحريك قواته في اتجاه النقط الحاسمة في مسرح العمليات.
ولاشك أن مثل هذا الهجوم التبيتي يحتاج إلى تخطيط بارع، وقادة مهرة يعرفون ما يجب عليهم فعله، ويدركون مدى ما ستتعرض له قواتهم حتى ينجح المجهود الرئيسي في المكان المخطط له. وفي حرب أكتوبر سنة 1973 استخدمت القوات المحمولة جوا على الجبهة المصرية، بكثافة ملحوظة نسبيا، لإجراء الهجوم التثبيتي خلف وعلى أجناب خطوط القتال. ففي الشمال قاتلت هذه القوات لمنع قوات العدو المدرعة من التدخل لصالح المعركة الدائرة عند خط القتال، كما أن هذه القوات، وقد أسقطت فوق خط الممرات، لم تسمح للعدو بتجاوز المضايق الجبلية إلا بخسائر ملحوظة، وأما في الجنوب، فقد كفى قوات الصاعقة المصرية شرفا، أن قواعد دورياتها هناك قد أجبرت مجموعة من قوات العدو، من بينها لواءين مدرعين، على البقاء في أماكنها، وبالتالي تخفيف الضغط على القوات المقتحمة لقناة السويس.
ولم تكن تلك بالطبع هي كل قوات المجهود الثانوي فقد كانت هناك نسبة من هذه القوات تعمل على قناة السويس كذلك، ولعل هذا هو أساس اختيار الهجوم على كل مواجهة القناة حتى لا يفطن العدو إلى اتجاه المجهود الرئيسي، ويضطر بالتالي إلى توزيع قواته على كافة المواجهة وهو ما حدث منه، وأدى إلى ضعف هجماته المضادة على طول المواجهة، تطبيقاً لقاعدة: « إن القائد إذا حاول أن يكون قويا في كل ميدان فسوف يكون ضعيفاً في كل مكان ».
4 - خفة الحركة
وخفة الحركة تعني في المنطق العسكري أمرين: أولهما التحرك بالسرعة المطلوبة في الزمان والمكان الصحيحين، وثانيهما سهولة التحرك في أي اتجاه، أي المرونة في إجراء المناورة الاستراتيجية.
ولاشك أن إحراز التفوق في خفة الحركة ليس أمراً مطلقاً، بل هو أمر نسبي يتم بالمقارنة بالقوات المعادية.
على أنه في إطار الحرب التقليدية، فإن خفة الحركة تتحقق في الوقت الحاضر بوسائل عدة، منها: ميكنة القوات واستخدام الوسائط السريعة للنقل جوا وبحرا، ووضع القوات في أماكن تمركز مختارة، وكذا تدريب القوات على معطيات الاختراق السريع، والحرب الخاطفة.
المبادئ الثانوية للاستراتيجية
وللاستراتيجية مبادئ أخرى، يثور الجدل أحيانا حول الاعتراف بأهميتها الاستراتيجية، إلا أن الذي يعنينا هنا، أن نؤكد أنه لا قيمة لهذه المبادئ الأخرى بمفردها، فهي لا تعني شيئا بدون المبادئ الرئيسية التي سبق الإشارة إليها.
ومن هذه المبـادئ « البساطـة » والتي تتطلب من القـائد - إذا توافرت له عدة خطط سليمة - أن يختار أبسطها، فكلما اتسمت الخطة بالبساطة، قلت الأخطاء التي لابد أن تصاحب كل حرب.
فالقادة المهرة يعرفون أن الحرب التقليدية بطبيعتها غنية بالمشاكل، سواء أكانت هذه المشاكل إدارية تتعلق بمتطلبات الإعاشة والإمداد بالذخيرة والعتاد والوقود واستعواضهم، أو مشاكل قتالية تتعلق بوصول القوات إلى المحلات المختارة في إطار من السرية والأمن، ثم قدرتها على تنفيذ المهام الموكلة إليها بنجاح، سواء كانت هذه المهام معدة من قبل، أم متغيرة وفقا للمواقف المتحددة للقتال وليست هذه المشاكل وحدها بالأمر اليسير لكي يضيف إليها القائد خطة معقدة.
ومن المبادئ الأخرى كذلك « التعاون » فطابع الحرب التقليدية وخصوصا الحديثة منها، هو التعاون بين الأسلحة المختلفة في تقسيماتها الرئيسية إلى برية وبحرية وجوية ودفاع جوي، أو في تقسيمات الأسلحة الفرعية التابعة لكل قسم من الأقسام السابقة.
ولم يعد ممكنا في الوقت الحاضر كسب الحرب إلا إذا عملت القوات المسلحة كلها بنغمة واحدة، وبإيقاع واحد سواء في البر، أو في البحر، أو في الجو.
ولا يكفي التعاون وحده لتحـقيق الغرض المنشود إلا إذا صاحبه تنسيق دقيـق كذلك، فقد كان سـر نـجاح الألمـان - مثلا - في الحرب العالمية الثانية، هو قدرتهم على التنسيق بين طاقم (قاذفة القنابل - الدبابة- المشاة الميكانيكية).
ويتطلب تحقيق التنسيق بنجاح وصول المعلومات الصحيحة باستمرار، ذلك أن التنسيق بين القوات قي الجيوش الحديثة يتم في مركز القيادة العليا، ومن على الخرائط المبسوطة، نظرا لاتساع مسارح العمليات في الوقت الحاضر.
كما أنه لضمان نجاح التعاون والتنسيق بالمفهومين السابقين، لابد من توافر وسائل الاتصال الكافية، رئيسية وتبادلية، وعلى أن تتميز جميعها بالكفاءة والتنوع فضلا عن سريتها بالطبع.
ومن المبادئ الأخرى للاستراتيجية كذلك « توحيد القيادة ».
فالتحركات الاستراتيجية تتم في كثير من الأحيان بناء على معلومات ظنية الثبوت أو الدلالة، حيث تتعلق هذه المعلومات بتصميم العدو، ومكان قواته، ومواعيد تحركها، وحجم هذه التحركات، ولا يتم اتخاذ القرارات المناسبة لهذه المعلومات إلا على بساط الافتراض، مما يتطلب عزما وحسما شديدين.
ولا ضير في توحيد القيادة، مادام القائد مختارا من بين أقرانه لبعد نظره، وصوابية حكمه، وسلامة بصيرته وعقله اللماح، وشخصيته الفذة.
فالقيادة وفق هذه الميزات أفضل بكثير من مجالس الحرب، التي تتألف من أنداد، يستطيع كل منهم عند اللزوم أن يحمل زميله مغبة النتائج التي غالباً ما تكون كارثة، فالعدو غالبا ما يعقبهم من اتخاذ القرار بعد أن تطول مناقشاتهم.
ويتبقى لدينا بعد ذلك من المبادئ الأخرى للاستراتيجية أربعة مبادئ على جانب كبير من الأهمية، وهذه المبادئ هي: الاقتصاد في القوة، والمحافظة على الهدف، وضمان الشئون الإدارية، وارتفاع الروح المعنوية.
ويعني مبدأ « الاقتصاد في القوة »، الاكتفاء عند دفع القوات للاشتباك الفعلي بالقدر الملائم منها للظروف، مع الاحتفاظ بالقوات المتبقية دون دفع، فبعد حشد القوات للنقط الحاسمة من مسرح العمليات، لا يشترط دفع هذه القوات جميعها، وإنما يتقيد الدفع الفعلي لهذه القوات بمبدأ الاقتصاد في القوة.
وتعتبر مراعاة هذا المبدأ ضمانة هامة لتحقيق المرونة في التنفيذ، وتحقيق القدرة على مواجهة المواقف الطارئة.
وأما مبدأ « المحافظة على الهدف » فيعني التزام - القادة كل في موقعه بالهدف المحدد له في الخطة، حيث لا يصح أن يلهيه عن هذا الهدف وقائع الحرب مهما كانت، أو مغريات التنكب مهما عظمت.
وليس معنى ذلك أن هذا المبدأ يعني الجمود التام، أو التنكر لمعطيات الواقع أثناء القتال، فللقادة أن يتصرفوا عند التنفيذ بمرونة وذكاء، على أن يراعوا دائما مع تعدد الحركة ثبات الهدف، أو كما قال القائد الروماني الشهير رومونوس: « لا يهم ما دامت كل الطرق توصل إلى روما ».
وأما عن « الشئون الإدارية »، فقد تناسبت أهميتها طرديا مع تعاظم الاحتياجات القتالية في الحرب الحديثة، فالجند، لا يستمرون في القتال بمعدة خاوية، أو خزنة فارغة، كما أنهم لا يتنقلون بعربات خالية من الوقود، فضلا عن أنهم لا يقاتلون بدبابة لم يتم إصلاحها أو طائرة لم تتحقق صيانتها.
ونحن سنسلم أكثر بأهمية الشئون الإدارية، إذا عرفت أن كل المشاكل السابقة ليست إلا قليلا من كثير، وغيضاً من فيض من مشاكل الشئون الادارية، تلك المشاكل التي تمتد لتشمل كل ما يساعد على تحلي الجنود بالرغبة المتجددة للقتال، بالغة ما بلغت احتياجاتهم الإدارية في هذا الشأن، حتى لو تعلقت بعلاج مرضاهم، وإخلاء جرحاهم، أو حتى الترفيه عن الأصحاء منهم، ولهذا ذاع القول المأثور: « إن الصحراء جنة رجال التكتيك ونار رجال الشئون الإدارية ».
وأما « الروح المعنوية »، فقد كان أحسن ما قيل فيها: « أن السلاح بالرجل ». فالجندي الشجاع تتجنبه الطلقة، ويرتعش أمامه السونكي. وكم من حروب كانت الروح المعنوية أساس الهزيمة فيها.
وليست هناك وسيلة واحدة لرفع الروح المعنوية، فهناك وسائل متعددة، أهمها بث الإيمان بين الجنود، واختيار قادة العمليات من بين القادة الصالحين والمعروفين بالحرفية اللازمة لكسب الحرب، وكذا التأكيد الدائم على استمرار الاستعداد العالي للقوات ورئاستها، وكذا على الاحتفاظ دائما باللياقة البدنية العالية.
والروح المعنوية في المجال الاستراتيجي، تتوقف في كذلك على محبة الجنود لقائدهم الأعلى، وتمتع الأخير بثقتهم فيه، وذلك إنما يكون باحتفاظه الدائم بوضوح الرؤية أثناء الحرب.
التكتيك
تحدثنا من قبل عن المبادئ الاستراتيجية، وتبين مما قلناه أن الاستراتيجية ترتبط بتحرك القوات وأوضاعها قبل المعركة، وبالتأمل، لا يخفى أن الغرض من تطبيق مبادئ الاستراتيجية هو إجبار العدو على القتال في الوضع الذي لا يلائمه عند الاتصال به بهدف الفوز بالنصر في مواجهته.
لكن إحراز هذا النصر لن يتأتى بتطبيق المبادئ الاستراتيجية وحدها، بل يجب أن يتوج التطبيق المبدع لهذه المبادئ الاستراتيجية بنجاح تكتيكي كذلك، إذ لا تغني الاستراتيجية الناجحة عن اتباع التكتيكات السليمة داخل المعارك المختلفة التي تنظمها الحرب، فالتكتيك الفاشل لن تجدي معه الاستراتيجية المنتهجة مهما كانت درجة تفوقها.
ويقصد بالتكتيك في مجالنا هذا: القواعد التي تستخدم لتحقيق التأليف الصحيح بين النار والحركة بغرض إحراز قوة الصدم المطلوبة، وكذا الاستفادة التامة من الخصائص الفنية للسلاح المستخدم.
ولا يؤثر في بقائنا في نطاق تطبيق القواعد التكتيكية أن تكون الوحدة المستخدمة من النطاق التعبوي، فمبادئ التكتيك التي ستمر بنا بعد حين تشمل ما دون الاستراتيجية ولو كان تعبويا.
وللتكتيك عنصران رئيسيان هما: النار، والحركة. وينتظم هذين العنصرين مبادئ عامة هي بعينها مبادئ الاستراتيجية وإن تبلورت لتلائم المجال التكتيكي بالطبع. وفضلا عن هذه المبادئ العامة فهناك مبادئ خاصة لكل عنصر من عنصري التكتيك.
وسنتناول في القسمين التاليين مبادئ كل عنصر من عنصري التكتيك، أي مبادئ النيران ومبادئ الحركة.
مبادئ النيران
ويعتبر استخدام النيران في المعارك التقليدية الحديثة هو الأساس، ويستثنى من ذلك حالات قليلة قد ستخدم فيها السلاح الأبيض. ويتوقف النجاح التكتيكي كثيرا على التخطيط الدقيق للنيران.
ويكون التخطيط النيراني دقيقا ومحكما إذا ما روعي فيه المبادئ العامة التالية:
أولا الحشد:
ويقصد بالحشد في هذا المجال تجميع أكبر قدر ممكن لمصادر النيران في المراكز الرئيسية للمعركة التكتيكية.. ويتطلب تحقيق هذا الحشد مراعاة التأليف الصحيح بين السلاح المتيسر والمحلات المختارة له بعناية، وهذا بالطبع مع مراعاة التنسيق الكامل مع المستوى الاستراتيجي والمستويات التكتيكية الأخرى.
ثانيا - المفاجأة :
فلا قيمة لهذا الحشد إذا أتى بطريقة يتوقعها العدو، ويعد لها الوسائل المضادة المناسبة، فلابد لكي نجني الثمرة المرجوة من أن نحرم العدو من الوقت الكافي والاستعداد المناسب لمواجهة التخطيط النيراني المعد ولن يتحقق هذا إلا بمفاجأته بالنيران.
ثالثا - الدقة والمرونة
فلن يكلل الحشد، ولن تتوج المفاجأة بالنجاح، إلا إذا كانت النيران معهما دقيقة ومرنة، خصوصا وأن التقدم العلمي الهائل قد أدى إلى ضمان سقوط النيران في البقعة المطلوبة بالضبط، كما أنه أدى كذلك إلى تحقيق القدرة على المناورة بالنيران بالطريقة المطلوبة تماما.
رابعا - الاستمرار:
فقد تتوافر للقائد المحلي كل العوامل السابقة، إلا أن ذخيرته تنفذ دون أن تكون هناك خطط موضوعة لضمان استعراضها واستمرارها، وهنا يتكفل العدو غالبا بحل هذا الأشكال.
مبادئ الحركة
وتتحرك القوات في الميدان تحركات متعددة، إلا أن هذه التحركات مهما تعددت لا تخرج عن إطارين هما: التحرك للهجوم، والتحرك للدفاع.
ولكل من الهجوم والدفاع مزايا معروفة تكتيكيا، فالمهاجم يتمتع باختيار وقت ومكان المعركة، بينما المدافع يتمتع في مواجهة ذلك بميزتين رئيسيتين هما: دراسة الأرض، وتجهيزها هندسيا، وقد يتمتع المدافع إلى جوار ذلك بميزات أخرى قد لا تتوافر في كل معركة ونعني بذلك دعم الشعب، والميل الغريزي للجند نحو الوله بتراب الأرض، وكذا الموانع الطبيعية الصعبة.
هذا، وليس من الميسور الجزم مسبقا بتفوق الشكلين السابقين في المجال التكتيكي، فالفصل في ذلك ليس مطلقا ومجردا، وإنما هو يتم بناء على عوامل فنية كثيرة، يدرس القادة المهرة معطياتهم، ثم يحددون على أثرها الشكل الذي يرونه محققا أقصى القوة لقواتهم على أرض الواقع.
وعلى أية حال فسنتناول فيما يلي كلا من الدفاع والهجوم.
أولا - ا لهجوم:
وللهجوم أشكال ثابتة، ومعروفة، هي: الالتفاف، والتطويق، والاقتحام بالمواجهة.
ويتوقف اختيار الشكل المناسب منها على عوامل فنية كثيرة، أهمها: الظروف الطبوغرافية، ونظم دفاعات العدو، وأسلوبه في العمل، فضلا عن الموعد المطلوب تحقيق الهجوم فيه ليلا أم نهارا.
ويقصد بالالتفاف: التقدم على أجناب العدو ومؤخرته المباشرة، مع معاونة ذلك بهجوم تثبيتي (ثانوي) آخر على المواجهة.
ولا يختلف التطويق عن الالتفاف إلا في عمق المدى، فالتطويق لا يتم على الأجناب والمؤخرة مباشرة، وإنما يتم بعيدا عنهما، كما قد لا يكون هناك تعاون مباشر دائما بين قوات الأجناب وقوات المواجهة في مجال التطويق.
وقد يتم الالتفاف بجناح واحد على جنب واحد وهنا يسمى بالالتفاف المفرد، وقد يتم بجناح واحد على كل جنب من الجنبين وهنا يسمى بالمزدوج، كما قد يكون الالتفاف بجناحين على كل جنب من الجنبين وهنا يسمى بالمركب، ونفس الشيء تماما بالنسبة للتطويق.
وأما الاقتحام بالمواجهة فيقصد به أحد شكلين: إما الهجوم على مواجهة واسعة، وإما الهجوم على مواجهة ضيقة واختراقها ثم الاتجاه إلى خلف أجناب العدو وإلى مؤخرته، وفي هذه الحالة تكون تسميته الدقيقة هي الاختراق بالمواجهة.
ويتم اختيار الشكل الأول (الاقتحام بالمواجهة) إذا أريد إجبار العدو على توزيع مجهوده، وتضليله على اتجاه المجهود الرئيسي للضربة. بينما يتم اختيار الشكل الثاني (الاختراق بالمواجهة) في حالة ما إذا كانت أجناب العدو قوية ومحمية بدرجة مناسبة، بينما تكون دفاعات الوسط ضعيفة إما لعدم حمايتها بدرجة كافية، وإما لوقوعها بين فواصل الوحدات.
وأيا ما كان الشكل المتخذ للهجوم، فإن القادة المهرة لا يهملون فيه السرية، وإحماء القوات للقتال بحسم وعزيمة، وكذا المحافظة على القوة الدافعة للهجوم، والمبدأ الأخير ليس بالأمر الهين لما يتطلبه من استعواض مستمر لكميات في الذخيرة والعتاد تتعاظم بتعاظم مواجهة المعركة وعقمها.
وقد يلحق بالهجوم شكلان آخران يسمى أولهما بالمعركة التصادمية، وهي تنشأ من فجاءة القوات المتضادة كل منها بالأخرى. والنجاح في هذا الشكل للخصم العنيد المصمم، الذي يسرع بالفتح المناسب في تشكيل المعركة، وبعد أن يكون قد أخذ حذره واحتياطه من قبل بدفع مفارز متقدمة أثناء السير مهمتها التنبيه إلى العدو وأوضاعه فور ظهوره، ثم تعطيله حتى تسرع القوة الرئيسية بالفتح للمعركة.
وثاني هذين الشكلين يسمى بالمطاردة وتعزيز الأراضي المكتسبة، ويؤتى هذا النوع ثماره بالمحافظة المستمرة على الاتصال بفلول العدو المنسحبة، لما يعنيه هذا الاتصال من استمرار الضغط على العدو، وحرمانه من أية فرصة لتجميع قواته أو التقاط أنفاسه.
وفي الختام، يجدر التنويه إلى أن التنفيذ العملي لأي من أشكال الهجوم السابقة يصاحبه اختيارات كثيرة، سواء في نقطة الفتح للهجوم، والتي قد تكون من الاتصال القريب أو من العمق، وهذا يتوقف بدوره على طبيعة دفاعات العدو (مجهزة أو غير مجهزة)، ونوع دفاعه (ثابت - متحرك) وشكل دفاعه (خطي –صندوقي –دائري)، كما يتوقف كذلك على مسرح المعركة، هل هو صحراوي أم يقع في المدن؟ وهل أي منهما به موانع أو بدون موانع؟ وكذا تتوقف نقطة الفتح للهجوم على وقت المعركة، هل هو ليلا أم نهارا؟.
وهناك كذلك اختبارات أخرى تتعلق بنوع القوات المستخدمة لتحقيق شكل الهجوم، والغالب الآن - استجابة لمعطيات معركة الأسلحة المشتركة - أن يتم التنسيق بين كافة أنواع القوات، سواء البحرية، أم البرية، أم الجوية وبالأفرع المناسبة من كل منها بالطبع.
وبالإضافة إلى هذه الاختبارات، فهناك أيضا الاختبارات التي تتعلق بالأنساق التي تدفع للمعركة، وأسلوب دفعها.
وللهجوم الليلي اختيارات خاصة تتعلق بدرجة الصخب المسموح بها، فهل يكون صاخبا؟ وفي هذه الحالة يبدأ بالتمهيد النيراني المناسب بالأسلحة الثقيلة وبالأضاءة المناسبة، أم يكون صامتا؟ وهنا لا تستخدم نيران الأسلحة الثقيلة ولا تضاء أرض المعركة إلا بعد اكتشاف العدو للهجوم، أم يكون جامعا بين النوعين السابقين بحيث يكون صامتا/ صاخبا؟ وهنا لا يصدر القائد أوامره بصخب الهجوم إلا بعد مرور قواته، المناطق الأكثر تعرضا لنيران العدو.
وغني عن البيان أنه لا يتصور أن يبدأ الهجوم - صاخبا ثم ينقلب صامتا كما يظهر بأدنى تأمل.
الدفاع
ولا يعني الدفاع قط التخلي عن المبادئ الصحيحة لاستخدام القوات، بل ولا يعني حتى مجرد ترك المبادأة. فالدفاع لا يعني فقط سوى الانتظار، وفرق بين الانتظار والسلبية الظاهرة، والقادة المهرة يعرفون ذلك، ولهذا تجدهم ما أن يتعين الدفاع شكلا للمعركة المرتقبة، إلا ويعمدون إلى المبادرة بانتخاب المحلات المختارة، وتوزيع القوات عليها توزيعا مناسبا ثم موالاة التبصر بأحوال العدو، والترقب له حتى يقع في الفخ المنصوب له، وهنا تجد المدافعين وقد عمدوا فورا إلى الهجوم المضاد المعد له من قبل، ثم يستمرون في المحافظة على هذا الهجوم حتى يتحقق لهم الحسم.
أما لماذا يتعين الدفاع كأمر حتمي أحيانا؟ فدون ذلك أسباب متعددة منها: تعذر القيام بالهجوم، أو عدم ضمان نتائجه، أو كون دفاعات العدو قوية ومتفوقة بحيث لا يكون مناسبا مهاجمته إلا بعد تكبيده خسائر كبيرة في معركة دفاعية ناجحة، كما قد يتحتم الدفاع أحيانا عند توفير القوات لحشدها في الاتجاهات الرئيسية أو عند الاحتفاظ بإحدى الهيئات الحاكمة.
هذا، وللدفاع شكلان رئيسيان، دفاع ثابت، ودفاع متحرك، ويتميز الأخير بوجود احتياطات تكتيكية تتولى الدخول مع العدو المقتحم في معركة تصادمية، أو تتولى القيام بالهجوم المضاد عليه في أماكن معدة له بعناية من قبل.
وأما الشكل الذي تقبع فيه القوات في وضعها الدفاعي، فقد يكون خطيا، وفيه تكون القوات في الغالب على خطين أمامي وخلفي، وقد يكون صندوقيا، وفيه تتخذ القوات وضعها على شكل مستطيل، كما قد يكون دائريا تقبع فيه القوات في شكل دائري يتيح لها الدفاع في جميع الاتجاهات.
ومع أي من هذه الأشكال قد يكون التجهيز الهندسي قويا ومجهزا، أو على عجل وغير مجهز، والغالب الآن نظرا لميوعة العمليات العسكرية وسرعة إيقاعها أن يبدأ المدافع معركته من دفاعات مجهزة ثم تتداخل القوات بعد ذلك ويضطر كل منها إلى اتخاذ مواقف دفاعية كثيرة وسريعة لا تسمح سرعتها غالبا بأي تجهيز.
وجدير بالختام أن نشير فيه إلى أن هناك حالتين تلحقان بالدفاع ألا وهما القتال داخل الحصار، والقتال بقصد التخلص من المعركة والانسحاب.
ولكل من هاتين الحالتين خواص مميزة، ويجمع بينهما أن النجاح فيهما مكتوب للقوات المدربة تدريبا عاليا، والممهدة نفسيا للعمل في أحلك الظروف.
التقدم العلمي
وقد أضحى التقدم العلمي عنصرا من عناصر الحرب لا يمكن إغفاله، أو التهوين من شأنه، فحينما تتمكن الدولة من اختراع سلاح جديد، فإن ذلك يعطيها ميزة واضحة على أعدائها. ولهذا، فقديما عد اختراع القوس بعيد المدى والبارود في القرن الرابع عشر الميلادي أمرين لهما أهميتهما وأما الآن، فها نحن نلحظ الجديد الذي تحظى به الأسلحة كل يوم، من مدفعية وقطع بحرية، إلى دبابات وطائرات، وما يتبع كلا من هذه الأسلحة من قنابل وصواريخ ومقذوفات وألغام تتطور بدورها كل يوم.
وبالإضافة إلى ذلك، فهناك اللاسلكي، والرادار، والتليفزيون، ووسائل الاستطلاع والمراقبة. والرؤية. سواء منها اليدوية أو الالكترونية، وسواء منها ما كان في باطن الأرض، أو على سطحها، أو تشق طريقها في عنان السماء محمولة على متن الطائرات، أو تقطع الليل والنهار في جوف الفضاء الخارجي محمولة ببطن الأقمار الصناعية.
وهذه الاختراعات ولاشك قد صارت ملموسة آثارها على المعارك والحروب، وصارت معروفة أهميتها في تجاوز الموانع المكانية والزمانية (المسافات - الوقت). وهذا يؤكد ما قلناه من أهمية التقدم العلمي كعنصر من عناصر الحرب.
ونحب أن نؤكد أن التقدم العلمي لا يقاس في أي دولة إلا بمقدار قدرتها على تنمية واستثمار العقول العلمية فلا يكفي الاعتراف بالتقدم العلمي لدولة ما، أن تكون قادرة على استيعاب ما أنتجته الدول الأخرى من وسائط علمية، فالعبرة في مجال التقدم العلمي رهينة بتوافر المناخ الملائم لتنمية العقول تنمية علمية، ثم استثمار هذه العقول - فيما بعد - بما يحقق أقصى استفادة منها.
وليست هناك حدود للمجالات العلمية العسكرية، فكل الظواهر المختلفة يمكن الاستفادة منها عسكريا، سواء أكانت هذه الظواهر طبيعية، أم كميائية، أم بيولوجية، وسواء أكانت المادة الوسيطة في الموضوع صلبة أم غازات، أم سوائل.
وفي حرب أكتوبر سنة 1973 أكدت الأقمار الصناعية وطائرات التجسس والاستطلاع، والقنابل، التلفزيونية، والدبابات المجهزة للرؤية الليلية، ووسائل الاستطلاع الإلكترونية، أهمية التقدم العلمي كعنصر حاسم في الحروب. ولهذا تحرص الدول حديثا على الحصول على التفوق العلمي النسبي على عدوها قبل الدخول معه في حرب وذلك حتى تضمن لنفسها حسماً ملموسا في هذه الحرب.
الخطة
وبديهي أن العناصر الثلاثة السابقة للحرب لا قيمة لها ما لم تتوظف في النهاية في خطة عسكرية مناسبة زمانا ومكانا.
وحين يضع القائد خطته، فإنه يبدأ أولا بالإجابة على الأسئلة التالية:
- ما هو الهدف المطلوب بالضبط؟
- أفي طاقة قواتي أن تحقق هذا الهدف؟
- ما هو الأسلوب المناسب لتحقيق هذا الهدف؟
- ماهي أبعاد معركة المفاوضات ومتطلباتها بعد أن تننهي المعركة العسكرية وإلى أن تنتهي الحرب؟
والإجابة على هذه الأسئلة هي المفتاح الصحيح لأي خطة عسكرية، وأما التفصيلات التقليدية من مثل: طريق التقدم والمناورة، والهيئات الحاكمة المطلوب الإستيلاء عليها فليست إلا تقليدا ينشغل به القادة النمطيون لا المبدعون، فالأخيرون يهتمون فقط بالتصور لهم للخطة، وأما مثل هذه التفصيلات الفنية، فإنهم يتركونها للأركان العامة التي أحسنوا اختيارها من قبل.
وتخضع الإجابة على هذه الأسئلة السابقة لأسس دقيقة، نشير فيما يلي إلى طرف منها:
أولا - الهدف:
وهدف الحرب تضعه الحكومات الآن، ويشترك في وضعه كل أو جل أعضائها، وسواء منهم من كان مدنيا أو عسكريا. ولا غرابة في ذلك، وقد استقر منذ زمن أن الحرب ليست إلا سياسة كلماتها الطلقات، ومفاوضاتها العمليات.
وتعمد الحكومات قبل وضع الهدف المرجو من الحرب إلى تقييم الوضع السياسي بشكل دقيق، مقدرة فيه جوانب القوة والضعف لديها ولدى عدوها، قاصدة بذلك أن تتجاوز مثالب سياستها نسبيا في مواجهة هذا العدو، وذلك حتى تضمن لنفسها وضعا سياسيا قويا، فبضمانة هذا الوضع السياسي القوي، ومع بديهية التأثير المتبادل بين الوسائل السياسية والوسائل العسكرية، سوف تضمن الحكومات لنفسها وضعا حربيا قويا بالتالي.
وكلما كان الهدف العسكري متلائما مع النوايا السياسية، كان هدفا مثاليا، يعبر اختياره عن فطنة تبشر بالنجاح على أرض العمليات.
وكلما زاد اعتماد العدو على الوسائل العسكرية لخدمة معركته السياسية ضدنا، زاد بالتالي حجم الجهد العسكري المطلوب تحقيقه، والعكس صحيح تماما، ولهذا ليس أمامنا إذا كانت سياسة العدو عسكرية في أسسها وتوسيعة عدوانية في أهدافها، إلا أن ننزع منه وسيلته العسكرية باعتبارها مركز الثقل في وسائله السياسية.
وأما كيف يتحقق حرمان العدو من سلاح القوة العسكرية؟ فدون ذلك طرق متعددة:
أولاها: تدمير قوات العدو بإنزال درجة مناسبة من الخسائر بها، ثم تشتيت البقية الباقية منها إلى حيث تصبح عديمة الفاعلية والقيمة.
وثانيهما: إقناع العدو بعدم فاعلية قواته في المحافظة على أهدافه السياسية، فإذا كان العدو يعتقد –مثلا - أن حصونه العسكرية تحقق له الأمن والاستقرار، فإن الاستيلاء على بعض من هذه الحصون يعد هدفا مثاليا في هذه الحالة، ولمن شاء يتدبر مثلا تطبيقيا لذلك فأمامه معركة أكتوبر سنة 1973.
وغني عن الذكر أن بين الطريقتين الأولى والثانية مساحة هامشية مغطاة - ولاشك –ببدائل عدة، يتوقف الالتقاء منها على الظروف الواقعية لكل حالة.
وأما ثالثة هذه الطرق، فتتحقق بالاكتفاء بإحراج قوات العدو، واستغلال هذا الإحراج في تليين موقفه السياسي. وتلجأ الحكومات في سبيل تحقيق ذلك إلى وسائل عدة قد يكتفي فيها بالمظاهرات العسكرية، أو المضايقات البحرية، وقد يزاد على ذلك قليلا بالاستيلاء على شريط من الأرض لا أهمية له.
والحق أن هذه الأعمال وإن كانت عسكرية، وتدخل في زمرة أعمال الحرب، إلا أن الأساس الوحيد لإقحامها في الدراسة الفلسفية لاستراتيجية الحسم هو التحمل والاستطراد، إذ أنها في الأصل داخلة في وسائل استراتيجية الردع لا الحسم، تلك الاستراتيجية التي تستهدف إرهاب العدو لمنعه من التفكير في الحرب، وهي تخرج عن نطاق دراستنا هنا، لأننا نتحدث عن خطة الحرب بافتراض أننا مضطرون للقتال بالفعل.
ثانيا - الطاقة
وقد يتبادر الذهن وقد تدنينا - ولو بالتعسف- في الأهداف العسكرية للحرب إلى حد المضايقات البحرية، أننا سوف ننحي باللائمة على أي قائد يتعلل بطاقة قواته، لكن ذلك غير صحيح تماما. فالقائد حين يدرس طاقة قواته ليس عليه أن يدرس طاقتها على استيعاب الهدف المزمع فقط، وإنما عليه كذلك، أن يدرس قدرتها على استيعاب رد الفعل المحتمل للعدو، بل إنه سوف يلقى تقديرنا أكثر إذا درس إلى جوار القدر المحتمل من رد الفعل تلك النسبة الثابتة للقدر غير المتوقع من العدو. وقديما قيل إننا نضع ثلاثة احتمالات ليأتي منها العدو إلا أنه يأتينا دائما من الاحتمال الرابع.
ويحدد لنا فيلسوف الحرب كارل فون كلاوز فيتز[1] الضمانات التي إذا توافرت اطمأننا إلى طاقة قواتنا في ثلاثة ضمانات هي :
1 - أن تكون القوات العسكرية كافية لتحقيق نصر حاسم على قوات العدو.
2 - أن تستطيع هذه القوات تقديم الخسائر اللازمة من القوات إذا تم تتبع النصر حتى النقطة التي تصبح معها عملية استعادة التوازن غير محتملة.
3 - التأكد من أن الوضع السياسي - مع تحقيق الهدف العسكري.. سيكون متينا بشكل لا يجعل هذه النتيجة طريقا لإثارة أعداء جدد يجبروننا على التراجع حتى عن العدو الأول.
ويؤكد كلاوزفيتز على ضرورة توافر هذه الشروط الثلاثة، حتى لا يضطرنا تخلف أحدها - وخصوصا الأخيرة - إلى إضاعة ما ربحناه بالشرطين الأخريين، بحيث لا نستفيد في النهاية إلا دفع تكاليف الثلاثة معا.
ثالثا - الأسلوب:
فبعد أن يعرف القائد هدفه، ويطمئن إلى أنه داخل في استطاعة قواته، فانه يبدأ بعد ذلك في تحديد الأسلوب المناسب لتحقيق أقصى المواءمة بين الهدف والطاقة.
ويتدخل في تحديد هذا الأسلوب ثلاثة عوا مل هي: الوقت، والقدرة، وطبيعة مسرح العمليات.
ونشير فيما يلي إلى أثر كل من هذه العوامل على الأسلوب المختار:
1- بالنسبة للوقت:
ولا يقصد بالوقت هنا الفترة الزمنية اللازمة لتنفيذ العملية العسكرية، فهذه الفترة - مع اعترافنا بأهميتها القصوى في ظل الظروف الدولية السائدة الآن - لها أهميتها بصفة أساسية في المجال التكتيكي لا في المجال الاستراتيجي الذي نتحدث عنه ونحن نتحدث عن الخطة وإن كان لا يخفى بالطبع أن هناك درجة من التأثير المتبادل بين المجالين.
وأما الوقت المقصود هنا، فهو وقت الترقب والانتظار الذي يسبق بدء تنفيذ العملية، فهذا الوقت هو صاحب الأثر في المجال الذي نتحدث عنه الآن.
ومع التسليم بأن التبسيط النظري يخل دائما بجوهر الواقع المتشابك، إلا أنه يمكن - مع ذلك - ملاحظة أثر الوقت على الأسلوب المختار من خلال معادلة بسيطة مؤداها، أنه كلما كان الوقت يجري لصالح دولة معينة، كان عليها أن تركن إلى الانتظار أي أسلوب الدفاع، وعكس ذلك صحيح تماما، فإن على الدولة التي يجري الوقت ضدها أن تبادر فورا إلى الهجوم حتى ولو كانت أقل قدرة من الدولة الخصم، باعتبار أن الانتظار لن يكسبها إلا مزيدا من السوء، ما دمنا نفترض أن الوقت يجري ضدها. وأما إذا كان تطور الوقت ذا أثر واحد على الطرفين أولا أثر له على الإطلاق، فإن على الطرف المهاجم سياسيا أن يستمر في الاحتفاظ بالمبادأة متخذا من الهجوم العسكري وسيلة لتنويع وسائله السياسية.
2 - بالنسبة للقدرة:
وكما كان للقدرة أثر على تحديد الهدف، فإن لها أثرا كذلك في تحديد أسلوب تحقيق هذا الهدف.
فحينما نكون أقوياء بدرجة كافية سياسيا وعسكريا فعلينا أن نبادر فورا إلى الهجوم، وأما إذا لم تكن قوتنا بهذه الدرجة، فليس أمامنا إلا أسلوب الدفاع لنستفيد من مميزاته فيما بعد في هجوم مضاد ناجح وقوي.
وحتى في داخل أسلوب الهجوم والدفاع فإن القدرة تلعب دورا حاسما في جزئيات الاستراتيجية المنتهجة.
فمثلا في إطار الهجوم، إذا لم تكن لدينا قدرة كافية للوصول إلى مركز الثقل المعادي الذي قد يكون العاصمة السياسية أو القوات الرئيسية للعدو، فليس أمامنا - في هذه الحالة - إلا أسلوب الهجوم غير المباشر.
ونظير ذلك في التاريخ العسكري ما فعلته بريطانيا في السنين الأولى من الحرب العالمية الثانية، إذ كانت تعتبر أن معركتها مع الألمان تجري في الشرق الأوسط وإيران والعراق، وأما حين دخلت الولايات المتحدة الحرب - وهي دولة غنية بالإمكانيات والموارد - فإن سيمفونية الاستراتيجية البريطانية الأمريكية في اتجاهها إلى مركز الثقل بألمانيا ذاتها.
وأما أثر القدرة على أسلوب التنفيذ المتبع لتحقيق الاستراتيجية الهجومية، فيمكن أن نلحظه إذا تذكرنا أن هناك أساليب متعددة للهجوم، من مثل: الاختراق الخاطف، والاستراتيجية الجوية، واستراتيجية القوة الدافعة (أي الكتلة مضروبة في سرعة التحرك). ويتوقف انتقاء أي من هذه الأساليب على عاملين متساوين في الأهمية والتأثير، أولهما: القدرة، والتقاليد الاستراتيجية المستقرة للدولة المحاربة.
وأما في إطار الدفاع، فالمعروف أن الطرف المدافع ينتظر دائما للإيقاع بعدوه في إحدى لحظتين:
- لحظة تجاوز العدو لنقطة الذروة في هجومه.
- لحظة اضطرار العدو المهاجم لوقفات دفاعية.
ففي أي من هاتين اللحظتين لا يتردد المدافع - على فرض سلامة العوامل الأخرى من العوارض -في التحول من الدفاع إلى الهجوم العام المضاد. وأما أي اللحظتين ننتهزهما لشن الهجوم العام المضاد، فهذا بدوره يتوقف على عاملين كذلك:
- القدرة- وهنا تظهر أهميتها كما قلنا.
- العمق المسموح بتوغل العدو فيه، إذ أنه كلما كان عمقنا الدفاعي قادرا على الاحتفاظ بالتوازن رغم توغل العدو، كان من الأفضل إرجاء الهجوم العام المضاد إلى لحظة تجاوز المهاجم لنقطة ذروة هجومه، وتكون المرحلة الأولى من استراتيجيتنا المنتهجة معتمدة على المقاومة مضروبة في العمق والمسافة. وأما إذا كان الاتزان الدفاعي عندنا هشا، لا يسمح بتوغل العدو لما بعد الحد الأمامي للدفاعات فليس أمامنا، إلا أن نقاوم عدونا بعناد وإصرار عند الخط الأول للقتال، ثم نبادر فورا إلى الهجوم العام المضاد عند أول وقفة دفاعية للعدو المهاجم.
3 - بالنسبة لطبيعة مسرح العمليات :
ويقصد بمسرح العمليات، ذلك الجزء من مسرح الحرب الذي يتمتع باستقلال محدود، وينتظر جريان العمليات العسكرية عليه.
وبأدنى تأمل، فإن طبيعة مسرح العمليات تفرض نفسها على أسلوب التحرك المتاح. ذلك أنه إذا كان العدو يحتل ذلك الجزء المحمي من مسرح العمليات، فليس أمام الطرف الآخر إلا أن يغريه ليخرج من مكمنه ثم يلاقيه في مقتله بعد ذلك، وأما إذا كان الطرف الآخر هو الذي يحتل الجزء المحمي من مسرح العمليات، فعليه، والحال كذلك، أن يوازن بكل دقة، بين الانتظار في محلاته المختارة، وبين الاتجاه إلى عدوه في موضعه الهش.
ومما لاشك فيه، أن هذه الاختيارات الدقيقة تتم في إطار من المعطيات الموضوعية الأخرى، وأهمها الوقت والقدرة كما سبق.
رابعا - وضع القوات في معركة المفاوضات.
حين سئل المشير أحمد إسماعيل علي، بعد حرب أكتوبر سنة 1973، عن دواعي البطء الذي صاحب العمليات المصرية في هذه الحرب، وخصوصا في فترة الوقفة التعبوية في المدة من 10 -13 أكتوبر، قال: « لا علي إن كنت بطيئا بعض الشيء، فقد تركت بضعة كيلومترات على الأرض ولكني خرجت بقواتي سليمة من المعركة ».
وما قاله المشير أحمد إسماعيل، صوابا، يتفق مع مبدأ هام من مبادئ التخطيط للحرب. فالحرب لا تنتهي بمجرد توقف العمليات العسكرية في المعارك، وإنما الحرب تنتهي بعد فاصل المفاوضات الذي يعقب- حتما - هذه العمليات.
وتتأثر هذه المفاوضات تماما بالأوضاع العسكرية التي تنتهي إليها المعارك، بل لا نبالغ إن قلنا، أن هذه المفاوضات تتم لتقنين هذه الأوضاع العسكرية في صورة وثائقية، ولهذا يحرص عباقرة القواد على الاحتياط لهذه المرحلة بانتهاج الخطة التي تكفل لقواتهم الخروج في المعارك بصورة متوازنة، فهذا التوازن، هو الضمانة الحقيقية لكسب مرحلة المفاوضات التي تنتهي بها الحرب.
وليست هناك صورة مطلقة للتوازن الذي نرجوه لقواتنا بعد انتهاء المعارك، فالتوازن المستهدف غالبا ما يكون نسبيا، يقوم القادة بالتخطيط له في إطار من تخيلهم للتوازن المتوقع للقوات المعادية، لأن من البداهة، أن عدونا يحاول بدوره أن يخرج بقواته متوازنة من المعركة، إذ أن كلنا ولاشك، يعلم أن معركة التوازن هذه هي المرآة الصادقة التي سنرى فيها معركة المفاوضات حتى قبل أن تبدأ الأخيرة.
ويمكن التدليل على تأثير معركة التوازن على معركة المفاوضات -حتى في مراحلها العسكرية البحتة - بما جرى في الاجتماعات الستة للجنة العسكرية المصرية الإسرائيلية المشتركة، والتي تمت في المدة من 26/12/1973 وحتى 9/1/1974 تحت إشراف الأمم المتحدة في مقرها بجنيف. ففي هذه المفاوضات حاول الجانب الإسرائيلي إقناع الوفد المصري إما بقبول فكرة الانسحاب المتبادل، وإما بقبول فكرة الفاصل المحدود بين القوات بحيث لا يزيد هذا الفاصل عن ( 3- 4 كيلومترات)، وقد سبب الجانب الإسرائيلي محاولته هذه بمحاولة إيهام الجانب المصري بأن انسحاب إسرائيل إلى شرق القناة يعد تضحية استراتيجية كبيرة.
وقد كسب الوفد المصري معركة هذه الجزئية، حين رفض أن يبتلع الطعم الإسرائيلي، موضحا للجانب الإسرائيلي - بغير مواربة - أن وضعه العسكري غرب القناة يعد وضعا استراتيجيا سيئا، ولا أثر فيه للتوازن العسكري على الإطلاق بل إنه لا يمثل - إن مثل –إلا عبئا عسكريا واقتصاديا وسياسيا على إسرائيل، وبالطبع فقد انتهت المفاوضات -فيما بعد - إلى قبول رأي الوفد المصري في هذه الجزئية، وانسحبت إسرائيل وحدها إلى الشرق، بل وبمسافة كافية سمحت بمنطقة عازلة مناسبة بين القوات.
الإعداد للحرب التقليدية
تمهيد:
يعتبر الإعداد للحرب التقليدية أمرا معقدا بالمقارنة للإعداد لحرب العصابات مثلا، صحيح أن الإعداد لحرب العصابات يعتبر أمرا شاقا وخطرا إلا أن هناك فرقا كبيرا بين التعقيد والخطورة.
ويرجع التعقيد الذي يصاحب الإعداد للحرب التقليدية إلى تعدد الجوانب التي لابد من تهيئة إيقاعها لينضبط مع إيقاع الحرب التي نخطط لها. فهناك الجبهة الداخلية، والجبهة السياسية، والجبهة الإعلامية، والجبهة الاقتصادية، ولابد من إعداد كل هذه الجبهات باعتبار أنها في مجموعها تشكل الجبهة العامة للحرب التقليدية.
وسنتناول فيما يلي إعداد كل جبهة من هذه الجبهات في مبحث مستقل.
إعداد الجبهة الداخلية
والجبهة الداخلية هي ذلك الشق المدني من الدولة وينتظم في هذا الشق كافة الأفراد المدنيين الذين يعملون في الأعمال غير العسكرية. وقديما لم يكن لإعداد هؤلاء الأفراد أهمية تذكر، إذ لم يكن لهم في الحرب ناقة ولا جمل رغم أن الملوك في ذلك الوقت كانوا يمثلون السلطتين المدنية والعسكرية معا.
وقد تطور الأمر إلى النقيض من ذلك بعد انفصال السلطتين المدنية والعسكرية، خصوصا وأن السيطرة في أغلب الأحوال كانت للأولى ( المدنية ) لا للثانية (العسكرية ).
فحينما كان الملك يتولى وحده السلطتين معا، وكانت الحرب لا تقوم - في حقيقة أمرها- إلا من أجل المليك المفدى، لم يكن مهما إلا إعداد النبلاء المقربين وأتباعهم المحاربين الذين كان حشدهم يتم على أسس شخصية. وعوامل محلية قلما تجاوزتها أهداف الحرب نفسها.
وأما حين انفصلت السلطتان، وبدأت الأماني الشعبية تفرض نفسها على أهداف الحرب، فلم يعد من الممكن خوض الحروب إلا بعد إعداد الشعب لها إعدادا يؤهله لأن يكون أمينا على ظهر الطلائع العسكرية المحاربة في الميدان لتكون هذه الطلائع بدورها أمينة على أمانيه الشعبية المستهدفة من الحرب. ولهذا صار من الواجب إعداد الجبهة الداخلية وهو الأمر الذي يتحقق بثلاثة أمور هي:
1 - بلورة الأماني الشعبية.
2 - إعداد الغرف اللازمة لإدارة العمليات المدنية.
3 - تكوين فصائل المقاومة الشعبية والدفاع المدني.
ونشير فيما يلي إلى معنى كل أمر من هذه الأمور.
أولا : بلورة الأماني الشعبية
ويقصد بذلك، تحديد هذه الأماني، وتبويبها تبويبا زمنيا يتناسب والإمكانيات القائمة والمنتظرة ثم ضبط انفراج هذه الأماني ليتوازى انفراجها مع الإمكانيات المتاحة بالفعل وذلك تجنبا لإضاعة الممكن في طلب المستحيل.
فالملاحظ دوما أن الأماني الشعبية تتجاوز في حدودها العليا القدرات الواقعية للخطة التي تستلهم فيها الأماني الشعبية، ولا غرو فالأماني الشعبية تتغذى من العوامل العاطفية أكثر مما تتغذى من العوامل الواقعية، ولا ضير، فهذا أساس الأمل واستمراره لدى الشعوب. إلا أن الضير كل الضير أن نخلط بين الواقع والمأمول إذ يؤدي بنا ذلك لا إلى أن نفقد واقعنا فقط بل وإلى أن نفقد آمالنا كذلك. ولهذا يعمد القادة الملهمون إلى المكافأة بين الأماني الشعبية والقدرات الواقعية لدولتهم تجنبا للخلط بين الواقع والمأمول، أو الحقيقة وأشباه الخيال.
ثانيا: إعداد غرف العمليات المدنية
وتنقسم هذه الغرف نوعيا إلى قسمين: غرفة رئيسية ترتبط ارتباطا مباشرا بكل من قيادة القوات المسلحة والقيادة السياسية العليا. ومجموعة أخرى من الغرف بكل وزارة ومرفق، ومحافظة ومدينة، وتخضع هذه الغرف جميعا للغرفة الرئيسية الأولى بالأسلوب التدريجي المعروف.
وبالطبع يوجد لكل غرفة من هذه الغرف غرفة أخرى تبادلية تستخدم عند اللزوم.
وتقوم هذه الغرف كل في مكانها بالسيطرة على فصائل المقاومة الشعبية، وتوجيه الدفاع المدني ليستطيع حماية المنشآت الحيوية، مثل منشآت الري والصرف والمياه والمجاري والكهرباء والسكك الحديدية، فضلا عن المعاونة على استمرار هذه المنشآت فيما لو تعطلت بفعل فاعل.
ثالثا: تكوين فصائل المقاومة الشعبية والدفاع المدني
وتتكون فصائل المقاومة الشعبية ممن فاتهم أو لم يصبهم الدور الالتحاق بالقوات النظامية، حيث يلحق هؤلاء الأفراد بتنظيمات شبه عسكرية تتولى تدريبهم على أعمال المقاومة الشعبية مثل: مقاومة الهابطين بالمظلات، والكشف عن الجواسيس والعملاء، وتقدم المعاونة للقوات النظامية .
وأما فصائل الدفاع المدني فتتكون من كل القادرين على أعمال الدفاع المدني المتعلقة بإنشاء المخابئ، وإطفاء الحرائق، وإسعاف الجرحى، وقيادة المواطنين عند الغارات، بل وحتى حياكة الملابس العسكرية المطلوبة للمحاربين.
إعداد الجبهة السياسية
فالحرب الناجحة محصلة أمرين: إعداد سياسي جيد، وخطة عسكرية متقنة. ويعتمد الإعداد السياسي أول ما يعتمد على تهذيب أهداف الحرب لتكون متوافقة مع القانون الدولي العام، فهذا التوافق بين أهداف الحرب وبين القانون الدولي العام هو الأساس الذي تستند إليه الدول المحاربة حين تنادي بحقها في الحرب، كما أنه طريقها الواسع للحصول على تأييد الغالبية العظمى من دول العالم، فكما أنه لا قيمة لحق لا تحميه القوة، فإنه لا قيمة لقوة تتجه إلى غير حق، ولا يغرنا في هذا تقلب بعض الغاشمين في بعض البلاد فمثل هذا مصيره إلى زوال، إذ لا يصح إلا الصحيح ولو بعد حين.
وبعد أن تثق الدول في مشروعية أهدافها، فإنها تتجه إلى المحافل الدولية حيث تقوم بعرض قضيتها هناك، قاصدة بذلك إظهار مالها من حق، وما عليه عدوها من باطل، إذ بذلك تزداد قوتها بازدياد المؤيدين، وتنقص قوة عدوها بانصراف المشايعين.
وتعتبر هذه المرحلة من أهم مراحل الإعداد السياسي للحرب، فيها تحفز الدولة المحاربة كل الهمم الدولية حتى تمارس الضغط المطلوب على العدو قبل وبعد المعركة معه. وبقدر ما تنجح الدولة في عرض قضيتها، وفي كسب المؤيدين لها، بقدر ما ستجني - فيما بعد - ثمارا طيبة للحرب التي ستخوضها.
ولا تكتفي- الدول في مجال الإعداد السياسي للحرب -بتلقي البركات من غالبية الدول، بل إنها تقوم بعد ذلك بتصنيف هذه الدول لتخرج من بينها الدول التي تتعدى مرحلة التأييد الرسمي إلى مرحلة التحالف. فلكل دولة حلفاؤها، سواء تدنى هؤلاء الحلفاء إلى مرحلة التأييد الشعبي والرسمي، أم ارتفعوا إلى مرحلة الاشتراك في العمليات العسكرية.
والدول الماهرة هي التي تعد هؤلاء الحلفاء بأسلوب مدروس ليكونوا سندها وعمقها حين يبدأ القتال.
وليست هناك وسيلة واحدة لإعداد كل هؤلاء المتحالفين فدول التأييد الرسمي والشعبي لابد لها من عدد كاف من الديبلوماسيين والإعلاميين المهرة الذين يعرفون طريقهم لتنمية واستثمار هذا التأييد، وأما دول العمق المكاني والتسليحي والاقتصادي، فلابد لها من لجان متخصصة تعرف كيف تسيل الماء في القنوات الجافة، وأما الحلفاء المقاتلون فيتم التنسيق معهم على أعلى مستويات التنسيق حتى نضمن لأنفسنا إيقاعا موافقا في العمليات العسكرية يخدم في نهاية الأمر هدفنا الاستراتيجي العام .
إعداد الجبهة الاقتصادية
وقد تعاظمت أهمية هذه الجبهة بظهور الدول التدخلية واضطرار - حتى الدول اللاتدخلية - إلى التدخل في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وذلك لضمان حل المشكلة الاقتصادية (نسبة الكثافة السكانية إلى نسبة الموارد الاستراتيجية) والمشكلة الاجتماعية (نسبة التكافل الاجتماعي المطلوب إلى نسبة العمالة المنتجة).
ويعبر عن إعداد الجبهة الاقتصادية بتحويل الاقتصاد من مدني إلى حربي، ويتم ذلك بوسائل عدة منها توجيه معظم الموارد للمجهود الحربي بما يعينه ذلك من تعطيل جزئي لبعض الخطط الاقتصادية المدنية. وكذلك توجيه السياسات المالية والسعرية والنقدية والادخارية لتخدم من الإنتاج إلى الإنتاج الحربي المباشر، وكذا الحد من الاستهلاك وبناء المخزون الاستراتيجي اللازم.
وبالإضافة إلى هذا يتم وضع الوسائل الاقتصادية اللازمة لتجاوز أثر الحرب على الميزان التجاري نظرا لما سيصاحب الحرب من انخفاض في الصادرات وزيادة في الواردات. وأثرها على النفوس العاملة، نظرا لما سيصاحب الحرب من امتصاص جانب كبير من العمالة والخبرات والمهارات لصالح الأغراض العسكرية، وأثرها على الدخل العام، لما سيصاحب الحرب من تأثير عل قطاع الخدمات من نقل ومواصلات وسياحة.. إلخ ..
إعداد الجبهة الإعلامية
والتأكيد على أهمية هذه الجبهة وأنها أحد ركائز الحرب الناجحة، قد صار من نافلة القول الآن.
وأول الطريق لإعداد هذه الجبهة هو إعداد الكوادر الإعلامية الحرفية، فهذه الكوادر المؤهلة والواعية هي العنصر الحي الذي يحيل الأجهزة والسياسات الإعلامية إلى واقع حي مثر.
ثم يأتي بعد ذلك دور الأجهزة الإعلامية، وهي على نوعين رئيسيين: أجهزة الكلمة المقروءة، وأجهزة الكلمة المسموعة.
ويتم التعبير عن الكلمة المقروءة بوسائل عدة تنقلب من البسيط إلى المركب حين ننتقل من حيز النشرات والكتيبات إلى حيز الكتب والصحف والمجلات المحلية والعالمية.
وأما التعبير عن الكلمة المسموعة فيتم بطرق عدة من مثل: الإذاعة، مرئية وغير مرئية، والأفلام التسجيلية التي تبثها قوافل الاستعلامات مصحوبة بشرح سياسي واف، والندوات والمحاضرات واللقاءات السياسية التي تنظمها وسائل الثقافة الجماهيرية والتثقيف السياسي، وأخيرا فهناك المسرح السياسي أو الوطني الذي يتعاظم دوره في زمن الحرب خصوصا إذا كان مرتكزا على أصول دينية كالمسرح الإسلامي في مصر وبعض البلاد الإسلامية.
وتعتبر هذه الأجهزة المختلفة وسيلة مماثلة للأجهزة الديبلوماسية ولكن في المجال الإعلامي، فإنه إذا كان مجال الديبلوماسية هو الأشخاص الرسميون وأصحاب القرار فإن مجال الأجهزة الإعلامية هو قطاعات الرأي العام والمراكز المؤثرة على صناع القرار، فالمعنى واحد وإن اختلف المجال.
ولا قيمة لهذه الأجهزة ما لم تتبع سياسة إعلامية ناجحة، لا تلتزم، إن التزمت، إلا بالواقعية، وعرض الحقائق، فلم يعد ممكنا إخفاء الحقيقة الآن كما أن الناس لم يعودوا يقبلون التلون بأذواق النفعيين الذين يجيدون فن الإعلان لا الإعلام.
وحين تقوم الدولة على استكفاء الكوادر الإعلامية، والأجهزة التعبيرية، والسياسات السليمة، فإنها تضمن لمقاتليها، إذ يحاربون، ظهرا محميا من الإشاعات الفتاكة والآراء الهدامة التي تبثها أجهزة الحرب النفسية المعادية طوال فترة الحرب.
في الحرب النووية
تمهيد
يرى بعض المحللين أن الحرب النووية لا تعد حربا بالمعنى الفلسفي للحرب، ويصدرون في ذلك عن أن الحرب عمل منظم بطبيعته، بينما الحرب النووية ليست إلا نوعا من الفوضى ليس إلا.
ولعل مما يؤيد هذا الرأي، أن الأساس الفكري لاستخدام الأسلحة النووية الشاملة - فيما لو استخدمت - لن يكون إلا الجنون في حالة الهجوم، أو التشفي والانتقام في حالة الرد بالهجوم المضاد. إذ لا يعقل أن يكون استخدام مثل هذه الأسلحة نوعا من السياسة بوسائل أخرى!!..
ولا يخل بهذا الرأي ظهور الأسلحة النووية التكتيكية، إذ ما زلنا ننظر بعين الشك والريبة إلى إمكانية استخدام هذه الأسلحة بأسلوب العمليات التقليدية (هجوم ويلحق به المعارك التصادمية والمطاردة والتعزيز، ودفاع ويلحق به القتال داخل الحصار والقتال بقصد التخلص والارتداد لإعادة التجميع)، وقنبلتا هيروشيما ونجازاكي أصدق شاهد على ما نقول.
كما لا يثنينا عن تأييد هذا الرأي، ما تعارفت عليه الجيوش الحديثة من تدريب قواتها على أساليب الوقاية من الأسلحة النووية، إذ غاية ما نسلم به مع هذه الأدلة المناهضة هو اعتبار الحرب النووية - خصوصا في صورتها الشاملة - نوعا من الحرب التهديدية ليس إلا.
ولعل تأييدنا لمن ينكرون على الصدام النووي صفة الحرب، هو الذي دفعنا إلى دراسة هذه الحرب - إذا جاز تسميتها حربا- في فصل خاص نكتفي فيه بالإشارة إلى المبدأين اللذين يحكمان هذه الحرب، ألا وهما الصدقية، والقدرة على توجيه الضربة الثانية.
ونتناول فيما يلي كلا من هذين المبدأين:
أولا : مبدأ القابلية للتصديق
وأساس هذا المبدأ ما ذكرناه من أن الحرب النووية ليست إلا حربا تهديدية تخاض بالتهديد الجدي لا بالتنفيذ الفعلي. ولهذا فلا يتصور أن تحسم هذه الحرب إلا بأسلوب واحد هو إقناع العدو- ليس فقط بامتلاكنا للمتفجرات النووية - وإنما كذلك بامتلاكنا للوسائط اللازمة لنقل هذه المتفجرات إلى الأهداف المختارة، ولن يتحقق هذا الاقتناع لدى العدو إلا إذا كانت الشواهد كلها تدل على صدق ما نهدد به. فعند هذا القدر من التصديق تحسم الحرب، وتؤتي ثمارها المرجوة، بالرغم من أنها ستبقى في إطارها المرجو لها ألا وهو إطار اللاتنفيذ.
ثانيا: مبدأ القدرة على الضربة التالية
وإذا اعتبرنا أن المبدأ الأول « القابلية للتصديق » هو أساس الهجوم في الحرب النووية، فإن هذا المبدأ « اعتقاد العدو بقدرتنا على توجيه الضربة التالية » هو أساس الدفاع في هذه الحرب.
فالمبدأ المكافئ للمبدأ الأول، يتحقق بإحساس العدو بقدرتنا على رد ضربته بضربة مماثلة في القوة ومضادة في الاتجاه. فعند هذا القدر من القناعة يتحقق التوازن المطلوب للرعب النووي لدى الطرفين، وتخرج بالتالي الوسائل النووية من حلبة التأثير في الصراع السياسي بينهما.
خاتمة
وبعد.. فقد كانت تلك رسالتنا عن المبادئ العامة للحوب التقليدية، وقد توخينا فيها التأصيل مادام مفيدا، والإيجاز مادام كافيا. كما كان حسبنا من هذه الرسالة أن نحيط إحاطة ثقافية بالقواعد الأصولية للحروب وكيفية الإعداد لها، ولهذا فقد راعينا في هذه الإحاطة الثقافية اجتناب التفصيلات الفنية إلا بالقدر الذي نحتاجه لشرح قاعدة أصولية، بل لقد استبعدنا - أحيانا - بعض النظريات الأساسية ما دامت ستجرنا إلى تفصيلات تزيد عن حاجة هذه الدراسة كثيرا، وكان من هذا الذي استبعدناه ما يلي:
1 - نظريات الأمن، وقد استبعدناها عند الحديث عن الحرب التقليدية، نظرا لتعدد هذه النظريات واحتياجها لدراسة خاصة مستقلة توضح النظريات المختلفة للأمن من مثل: نظرية الضمانات الدولية، نظرية الاعتماد على الحلفاء الأقوياء، نظرية الحدود الآمنة، نظرية القوة الرادعة.
2 - الاستراتيجيات المختلفة للعمليات الفعلية من مثل: إستراتيجية المناورة المباشرة، والتي تعتمد على البدء بالتمهيد النيراني المدمر، ثم التقدم لاكتساح الدفاعات مع التوقف بعد إقامة رؤوس الكبارى، وبعد كل استيلاء على خط دفاعي لتأمين الأوضاع، وصد وتدمير الضربات المضادة في مناطق قتل محددة سلفا، ثم تطوير الهجوم لمرحلة تالية، وهكذا.
ويقابل هذه الاستراتيجية استراتيجية الاقتراب غير المباشر التي تعتمد على اختراق قطاعات محدودة بثلاثي (الطائرة - الدبابة - المشاة الميكانيكية)، وتطوير هذا الخرق في العمق التعبوي بقطع خطوط المواصلات، وبث الاضطراب في القيادات الخلفية، ومراكز الشئون الإدارية.
وإلى جوار هاتين الاستراتيجيتين هناك استراتيجية السلاح الحاسم، والتي تعتمد على سلاح معين بصفة أساسية في حسم المعركة، وقد كان هذا السلاح الحاسم في أول الأمر هو السلاح البحري، ثم حل محله فيما بعد السلاح الجوي، وبالاعتماد على هذا السلاح يتم دفع الخطوط الجوية دائما للأمام، ثم تتولى هذه الخطوط بدورها التمهيد لاستيلاء القوات الأخرى على الخطوط التالية، ثم تبدأ عملية دفع جديدة للخط الجوي، وهكذا.
3 - ومن ناحية أخرى فقد استبعدنا بعض التفريعات الفنية، من مثل عناصر الصدم والسيطرة والشئون الفنية في التكتيك، ومن مثل كيفية التجهيز الفني لمسرح العمليات سواء في جانبه الإيجابي المتمثل في تجهيز المسرح لخدمة قواتنا، أو في جانبه السلبي المتمثل في إعداد الوسائل الكفيلة بالحيلولة دون استفادة العدو من تجهيزاته لمسرح العمليات، ومن مثل أنواع الأسلحة النووية وأنواع الوسائط الحاملة لها سواء في الهجوم أو في الشبكات المضادة.
وقد كان أساس استبعادنا لهذه التفريعات الفنية هو احتياجها لدراسة تفصيلية تجاوز الغرض المنشود، فضلا عن أنها تفوق طاقتنا في الوقت الحاضر، وإن كان أملنا كبيرا في العودة لهذه التفريعات بدراسة تفصيلية إن لم يكفنا غيرنا مشقة الكتابة فيها بالطبع.
وبقيت كلمة أخيرة.. أننا مطالبون بالأخذ بكل أسباب القوة، ولكننا مطالبون كذلك بأن نستيقن بأن النصر من عند الله.
أقول ذلك مهما ظن الدهريون أنهم قادرون على ما يريدون.
{وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله}
صدق الله العظيم
الحرب التقليدية (الكلاسيكية)
تمهيد
يقصد بالحرب التقليدية ذلك النوع من الحروب الذي تخوضه - بصفة أساسية - القوات النظامية لدولة أو أكثر ضد دولة أو أكثر.
ولقد عرفت البشرية هذا النوع من الحروب منذ أقدم العصور. ومن اللافت للنظر أن الأساس الفلسفي لهذه الحروب لم يتغير رغم توالي العصور عليها.
فهذه الحروب - عسكريا - تعتمد على أربعة عناصر هي الاستراتيجية، والتكتيك، والتقدم العلمي المناسب زمانا ومكانا، ثم الخطة.
كما أنها - سياسيا- تستهدف كسر إرادة العدو، وفرض الإرادة الأخرى عليه.
ولم يضف العصر الحديث لهذه الحروب إلا أبعادا جديدة في متطلبات الإعداد لها، وذلك تحت تأثير عوامل لم يكن للأقدمين فيها خوض من مثل: ظهور الخرائط السياسية الحديثة التي تبلورت تماما بظهور عصبة الأمم ثم الأمم المتحدة، ومن مثل: شمولية الحرب الحديثة بحيث صار الإعداد لها يتطلب - فضلاً عن الجوانب العسكرية -جوانب أخرى اقتصادية واجتماعية وإعلامية وسياسية.
وسنتناول في الفرعين التاليين عناصر هذه الحروب، وقواعد الإعداد لها.
عناصر الحرب التقليدية
وتنقسم هذه العناصر-كما قلنا- إلى أربعة عناصر هي: الاستراتيجية، والتكتيك، والتقدم العلمي والخطة.
وتتميز مبادئ الاستراتيجية بالثبات، ولم يؤثر فيها التقدم العلمي ولا التطور إلا من ناحية التطبيق فقط وكذا الأمر بالنسبة لعنصر الخطة.
وأما مبادئ التكتيك، فقد كان لظهور النار أثر ملموس عليها، سواء منها ما تعلق بالصدم أو بالحركة.
وفيما يلي سنتناول كل عنصر من هذه العناصر في مبحث مستقل.
الإستراتيجية
وقد قيل في الاستراتيجية إنها: « استخدام الاشتباك كوسيلة للوصول لهدف الحرب» أو أنها: « فن توزيع واستخدام مختلف الوسائل العسكرية لتحقيق هدف السياسة » أو أنها: « فن استخدام القوة للوصول إلى أهداف السياسة».
ونكتفي في مجال الإحاطة الثقافية -هنا- بمعرفة أن الإستراتيجية كلمة لاتينية الأصل، تشتمل على مقطعين Stra ومعناها الميدان، Tigومعناها الجبل، وقد غلب في الاصطلاح استعمالها للدلالة على القواعد العامة التي تتعلق بمجمل التخطيط للعمليات العسكرية.
وللاستراتيجية بهذا المعنى مبادىء عدة عرفت منذ أقدم العصور، ولم يكن عباقرة القواد هم الذين عرفوها وإنما كانوا هم الذين استطاعوا مراعاة هذه المبادئ وتطبيقها التطبيق المناسب والسليم.
ومن هذه المبادئ ما يعد رئيسيا لا يتصور أن تخلو الاستراتيجية منها، ومنها ما يعد ثانويا، بالنظر إلى أنه لا قيمة لها ما لم تكن المبادئ الرئيسية قد روعيت قبل مراعاتها. ونتناول فيما يلي كلا من هذين النوعين من المبادئ.
أولا - المبادئ الرئيسية للاستراتيجية
1 - المباداة
والمبادأة هي: المبادرة إلى العمل في الاتجاه الصحيح وبأدنى تأمل، فإن المبادأة بهذا المعنى تمتد جذورها إلى لحظة ظهور الهدف السياسي لدى القادة السياسيين، إلا أنه حين يقف الأمر عند الناحية العسكرية البحتة، فإننا نجد أن القادة العسكريين لا يبدأون في العمل في الاتجاه الصحيح إلا بعد وضوح الهدف العسكري أمامهم. ذلك أن تحديد الهدف العسكري في الإطار السياسي العام، يعد من صميم اختصاص القيادة السياسية ولو عاونها في تحديده العسكريون، وأما تحقيق الهدف السياسي في إطاره العسكري، فيعد من صميم اختصاص العسكريين وحدهم.
وأول خطوة عند المبادرة بالعمل في الاتجاه الصحيح هي: تقدير الموقف، حيث يقوم القادة بدراسة أوضاعهم وأوضاع العدو دراسة شاملة لتحديد جوانب القوة والضعف في كل من الموضعين.
ويستعين العسكريون في ذلك بالمعلومات عن حجم وطبيعة القوات المعادية، والإمكانيات المتاحة والمنتظرة لها، وعوامل السلب والإيجاب في تشكيل وتدريب وتسليح وأوضاع هذه القوات.
ثم يلي ذلك تحديد الهدف المطلوب تحقيقه إزاء هذه القوات، ثم دراسة طاقة القوات على تحقيق هذا الهدف في ظل الظروف الطبوغرافية والجوية التي ينتظر أن تعمل فيها، وبعد ذلك يقوم القادة بتهيئة قواتهم قتاليا ومعنويا وإداريا وفق خطط زمنية محددة لضمان استيعابهم لهذا الهدف، وقدرتهم على تحقيقه عندما يستمر القتال.
2 - المفاجأة (المباغتة )
وإذا كان جوهر المبادأة هو المبادرة بالعمل في الاتجاه الصحيح، فإن جوهر المفاجأة هو المبادرة بالعمل في الاتجاه الصحيح بطريقة تخالف توقع وتقدير العدو.
وتعتبر المفاجأة أهم مبدأ من مبادئ الحرب، ويؤدي إحرازها غالبا إلى انهيار العدو معنويا، فضلا عن ارتباكه وعدم قدرته على اتخاذ إجراءات مضادة فعالة، بل إنه غالبا ما سيتخذ قرارات قتالية لا تتفق والموقف الحادث فعلا مما يؤدي في النهاية إلى شل عزيمته عن المقاومة تماما.
ولا تؤتي المفاجأة هذه الثمرة إلا إذا تم استغلال الموقف الابتدائي المواتي الناجم عنها في الوقت وبالأسلوب المناسبين، ذلك أن عدم تطوير الهجوم واستغلال النجاح الأولي إلى أقصى حد ممكن يتيح للعدو غالبا استعادة سيطرته ونظامه، وتفهم معطيات الموقف الجديد وابتداع الوسائل المكافئة له.
وليست هناك وسيلة واحدة لإحراز المفاجأة، فالوسائل متنوعة ومتعددة، ويكمن جوهرها جميعا في الابتكار الخلاق، وتجنب النمطية والتكرار.
ويرى بعض الباحثين، أن المفاجأة الاستراتيجية تتحقق فقط بأساليب معينة من مثل التعبئة السريعة لجيش، والحركة السباقة الحاسمة قبل إعلان الحرب رسميا، والنقل السريع للقوات من مسرح لآخر. بينما يرى بعض آخر، أن من الممكن تحقيق المفاجأة الاستراتيجية بزمان أو مكان أو قوة الهجوم كذلك.
ولا تعليق لنا على هذا الخلاف النظري إذ ليست له أهمية عملية على أرض الواقع، ولهذا سنشير هنا إلى كيفية إحراز المفاجأة بالوسائل الأخيرة المتعلقة بزمان أو مكان أو قوة الهجوم لحاجة هذه الوسائل إلى المزيد من البيان.
فالمفاجأة بزمان الهجوم تعتمد على وسائل متعددة كالإعلام المخادع، والتضليل بالمعلومات، والهجوم من الحركة، وتأخير حشد القوات إلى آخر لحظة ممكنة، فضلا عن الهجوم في الأوقات التي يقل استعداد العدو فيها كالليل أو قبيل الفجر أو في الصباح المبكر أو حتى في وضح النهار كما حدث في حرب أكتوبر سنة 1973.
وأما المفاجأة بمكان الهجوم فغالبا ما تتم بالأعمال التظاهرية، وإخفاء اتجاه المجهود الرئيسي، واتباع طرق الاقتراب غير المتوقعة، أو بدء الحرب بالهجوم على مطارات العدو المختلفة أو موانيه الرئيسية.
وقد يكون زمان ومكان الهجوم معروفين للعدو، ومع ذلك يتبين عند بدء القتال أنه مفاجئ تماما بقوة الهجوم، سواء من حيث عدد القوات، أو الإمكانيات التي أتيحت لها، أو الروح المعنوية التي ظهرت بها.
وتؤتى المفاجأة ثمارها المرجوة بالوسائل السابقة إذا واكبها روح معنوية عالية، واتصاف القوات بصفات وقدرات قتالية مناسبة، فضلا عن الاستطلاع النشط والمستمر للعدو، وكذا معرفة الأرض التي يقيم عليها استحكاماته، مع مراعاة السرية التامة في التحضير للهجوم، وإعداد السلاح المستخدم فيه، مع محاولة بدء الهجوم في وقت واحد على كافة الجبهات المتاحة، مع استغلال كل العوامل المساعدة، بما فيها مفاجأة العدو بالخيانة بين قواته.
ومن أمثلة الحروب الحديثة التي تم إحراز المفاجأة فيها: حرب الألمان ضد الفرنسيين في أثناء الحرب العالمية الثانية، فقد عمد الألمان بالأعمال التظاهرية، والإعلام المخادع، إلى إقناع القيادة البريطانية الفرنسية المشتركة بأن الضربة آتية من الشمال، مما حدا بهذه القيادة إلى نقل قواتها الرئيسية إلى شمال فرنسا في مواجهة الحدود مع هولندا، وحينذاك، حشد الألمان - في وقت محدود نسبيا - قوة ضاربة في الجنوب، وجهوا بها ضربة مفاجئة للدفاع الفرنسي الضعيف هناك، ثم استغلوا نتائج ذلك بمهارة وحذق وأنهوا الموقعة لصالحهم.
وفي صيف سنة 1967 طبقت إسرائيل الوسائل الألمانية بطريقة مناسبة، فعمدت إلى التضليل بالديبلوماسية إلى الحد الذي تحدد فيه يوم الأربعاء الموافق 7/6/1967 موعدا لاجتماع زكريا محي الدين نائب رئيس الجمهورية المصرية في ذلك الوقت بالرئيس الأمريكي حينذاك ليندون جونسون وذلك لإنهاء النـزاع بالوسائل السلمية.
ثم استغلت إسرائيل الأعمال التظاهرية الأرضية لتشتيت الفرقة الرابعة المدرعة المصرية، وجذبها ناحية جنوب سيناء بعيدا عن اتجاه ضربتهم الرئيسية بمحاذاة الساحل الشمالي، مستخدمة في ذلك الطلعات الجوية الكثيفة صوب الجنوب، والدبابات الهيكلية في منطقة الكونتلا.
وإثر ذلك قامت إسرائيل بمفاجأة أخرى، هي المبادرة بالهجوم على جميع المطارات المصرية المدنية والعسكرية في الساعة الثامنة وخمسين دقيقة، وهو وقت كان فيه الجزء الأكبر من قادة القوات الجوية لا يزالون في الطريق إلى وحداتهم، أو يتناولون فيه الإفطار!!
وقد ساعد على تجاوز هذه الضربة لحدودها- التي يرجونها-أن كانت طائرة المشير عامر وبرفقته بعض القادة في طريقها إلى مطار "المليز" بسيناء، وبالتالي كانت المدفعية المضادة للطائرات مقيدة، وغير مسموح لها بالضرب، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الطائرات المغيرة قد اقتربت إلى أهدافها على ارتفاعات منخفضة، ومن فوق البحر ووسط الضباب، ثم قامت بمهاجمة أهدافها من الأجناب والخلف، لتبين لنا كم كسبت إسرائيل من هذه المفاجأة!
وفي عام 1973، لم نكن نحن بأقل كفاءة من إسرائيل في الاستفادة من دروس التاريخ العسكري، وابتكار الوسائل المبدعة والخلاقة لتحقيق المفاجأة إلى الحد الذي جعل الإسرائيليين ومن ورائهم أعتى أجهزة المخابرات في العالم يبصرون ولا يفقهون، حتى لكأنما غشيتهم غاشية، أو سكرت عقولهم فهم لا يعقلون بها، فإذا بهم، وحتى يوم الجمعة 5 أكتوبر سنة 1973، ينفض سامر قيادتهم السياسية، والعسكرية، والجزم على أشده بالأخطر وشيك لاشتعال القتال، وقد استغرق الأمر من الأركان العامة الإسرائيلية - فيما بعد - حتى فجر السادس من أكتوبر، لكي ترجح احتمال الحرب. ثم يمضي الوقت في موازنة بين سامر الأمس وترجيح اليوم حتى تبلغ الساعة الواحدة ظهر يوم السبت 6 أكتوبر سنة 1973 حين يهرول موشي ديان إلى مبنى القيادة العسكرية لينظر ماذا يمكن فعله في الساعات الأربع التي ظنوها باقية على بدء القتال حيث يفاجؤون مرة أخرى بأن الحرب وقعت بعد ساعة فقط وفي تمام الساعة الثانية ظهرا، وهو توقيت عد وحده مفاجأة، إذا لم يعهد في التاريخ العسكري من قبل الهجوم في مثل هذا التوقيت.
ولم تتحقق هذه المفاجأة، وبالقدر الذي تحققت به على الجبهتين، المصرية والسورية، إلا باتباع إجراءات طويلة ومعقدة، اشترك في الإعداد لها وزارات الحربية والخارجية والإعلام، وبجميع الأجهزة التابعة لهم.
وكان من بين الإجراءات التي اتبعت لتحقيق المفاجأة الاستراتيجية ما يلي:
- أولا، وابتداء من أول عام 1973، عمدت القوات المسلحة المصرية بالاشتراك مع أجهزة الإعلام المختلفة إلى ترويض العدو على رؤية بعض التحركات الواسعة، والاستعدادات القوية، في الأوقات (المجاميع) الصالحة للعبور، ودون أن يعني ذلك نية القتال.
- ثم يلي ذلك، الاستمرار على مدار العام في استكمال متطلبات الدفاع لإيهام العدو بأن تفكيرنا لا يتجاوز الدفاع بحال من الأحوال.
وحين صارت المدة الباقية على الحركة حوالي أربعة أشهر، بدأ تجميع القوات والاحتياجات تباعاً في الجبهة مع مراعاة تصغير حجمها إلى الحد الذي لا يثير انتباه العدو أو شكوكه، وزيادة في الحيطة روعي في تحريك القوات والمعدات -وخصوصا معدات العبور- تحريكها في اتجاهات مختلفة، ثانوية وعرضية داخل الجبهة، وعكسية، من وإلى الجبهة، وذلك تحت ستار التدريب، كما روعي في نفس الوقت التغيير المستمر في حجم وأوضاع القوات البرية، وأماكن تمركز القطع البحرية.
- ولما تبقى على المعركة ثلاثة أسابيع، تم دفع القوات الرئيسية من العمق إلى الجبهة تحت زعم القيام بمناورة استراتيجية كبرى، وافقت ما تعود عليه العدو من قيام القوات المصرية بمناورتها التدريبية الختامية في الخريف من كل عام. وزيادة في تضليل العدو، ولتخفيف أثر هذه التحركات على ظنونه، عمد المسئولون إلى إلقاء بعض التصريحات المخادعة، من مثل: تحديد يوم 8 أكتوبر موعد لزيارة وزير حربية رومانيا لمصر، وموافقة القيادة على سفر الضباط المصريين للعمرة.
- وقبل المعركة ب 48 ساعة بالضبط، تم التأكيد على النية التدريبية بتسريح 20 ألفا من جنود الاحتياط، مما أدى إلى زيادة بلبلة القيادة الإسرائيلية، خصوصا وأنها- بتوفيق الله -كانت في هذه الآونة غارقة لأذنيها في حادث الفدائيين بالنمسا، وما تلاه من إغلاق معسكر شوناو هناك، وقد أحسنت القيادة المصرية صنعا إذ أسرعت إلى استغلال هذا الموقف الطارئ المواتي فسربت إلى الديبلوماسيين الأجانب معلومات تفسر استعدادات مصر العسكرية على أنها - حتى إذا كانت قد تجاوزت متطلبات التدريب - فإنها بغرض - الاحتياط ضد أي هجوم قد يفكر فيه الإسرائيليون انتقاما لحادث النمسا هذا، وقد بدا هذا منطقيا وقتها مما ساعد على ابتلاع إسرائيل لهذا الطعم، وقد زاد من فاعليته، أن دافيد العازار كان قد اقترح بالفعل شيئا من هذا القبيل وإن لم يؤخذ به.
- وأما حين لم يبق على المعركة إلا ساعات، فقد دفعت إلى حافة القناة جماعات من مصاصي القصب والسابحين من الجنود في الماء، بحيث لم تستطع قوات الملاحظة الأمامية المعادية أن تشك في اللمسات الأخيرة التي جرت استعدادا للهجوم.
- وأما على الجبهة السورية، فقد روعيت إجراءات خداع مماثلة، كان من بينها حشد المدرعات السورية منكسة المدافع، وموجهة المواسير إلى داخل سوريا، بحيث يبدو كأنها تستعد للدفاع لا للهجوم، وبالإضافة لهذا، فقد تم إبلاغ العدو بطريقة ما أن سحب سوريا لبعض قواتها من الحدود الأردنية إلى الجبهة في الجولان لم يكن إلا مصالحة للملك حسين بعد اجتماع القاهرة الذي أعاد العلاقات.
وبالطبع لم تكن تلك هي كل إجراءات الخداع التي بلغت خمسا وستين بندا، وإنما كانت تلك بعض البنود الهامة والمعروفة التي آثرنا ذكرها بترتيبها الزمني لنبين فكرة التخطيط الدقيق والمتأنى في القيادة العربية للحصول على المفاجأة، والتي بلغت في براعتها أن طائراتنا المغيرة كانت تنقض على أهدافها في الثانية وخمس دقائق ظهر السادس من أكتوبر بينما جنود إسرائيل في هذه الأهداف يلعبون الكرة، ويلعنون قادتهم الذين حرموهم من الاحتفال بعيد التكفير بين ذويهم بغير مدعاة.
3 - الحشد
ويقصد بالحشد - في الاصطلاح العسكري - ضمان التفوق في النقطة أو النقط الحاسمة في مسرح العمليات، وبديهي أن الحشد بهذا المعنى يعتمد على التأليف الصحيح بين القوات والعتاد المتيسر.
ولا يخفى- بأدنى تأمل - أن الحشد بهذا المعنى لا علاقة له بعدد سكان الدولة المحاربة، أو تعداد جيشها في مسرح الحرب كله، اللهم إلا من ناحية المعاونة على توفير العدد المطلوب من القوات.
وقد أثبتت التجارب أن الخطط السليمة في مجال الحشد ليست بديلا عن تنفيذ الحشد بواقعية وكفاءة واقتدار.
ويتبع في تحقيق الحشد طرق عدة، أهم ما يراعى فيها عدم الإخلال بالمبادئ الأخرى للحرب، كما يراعى فيها، كلما أمكن، الاستفادة من الخطوط الداخلية، والموقع المركزي، كما تفعل إسرائيل دائما، وكما فعلت الهند في حربها الأخيرة مع باكستان بشطريها الشرقي والغربي قبل أن ينفصل الشطر الشرقي ويصير دولة بنجالادش.
ومن أمثلة السنن المتبعة لتحقيق الحشد، استخدام الاحتياطي الاستراتيجي في النقط المطلوب تحقيق التفوق فيها، وكذا إجراء الهجوم التثبيتي (الثانوي ) بعيدا عن اتجاه - المجهود الرئيسي، منعاً لعدو من تحريك قواته في اتجاه النقط الحاسمة في مسرح العمليات.
ولاشك أن مثل هذا الهجوم التبيتي يحتاج إلى تخطيط بارع، وقادة مهرة يعرفون ما يجب عليهم فعله، ويدركون مدى ما ستتعرض له قواتهم حتى ينجح المجهود الرئيسي في المكان المخطط له. وفي حرب أكتوبر سنة 1973 استخدمت القوات المحمولة جوا على الجبهة المصرية، بكثافة ملحوظة نسبيا، لإجراء الهجوم التثبيتي خلف وعلى أجناب خطوط القتال. ففي الشمال قاتلت هذه القوات لمنع قوات العدو المدرعة من التدخل لصالح المعركة الدائرة عند خط القتال، كما أن هذه القوات، وقد أسقطت فوق خط الممرات، لم تسمح للعدو بتجاوز المضايق الجبلية إلا بخسائر ملحوظة، وأما في الجنوب، فقد كفى قوات الصاعقة المصرية شرفا، أن قواعد دورياتها هناك قد أجبرت مجموعة من قوات العدو، من بينها لواءين مدرعين، على البقاء في أماكنها، وبالتالي تخفيف الضغط على القوات المقتحمة لقناة السويس.
ولم تكن تلك بالطبع هي كل قوات المجهود الثانوي فقد كانت هناك نسبة من هذه القوات تعمل على قناة السويس كذلك، ولعل هذا هو أساس اختيار الهجوم على كل مواجهة القناة حتى لا يفطن العدو إلى اتجاه المجهود الرئيسي، ويضطر بالتالي إلى توزيع قواته على كافة المواجهة وهو ما حدث منه، وأدى إلى ضعف هجماته المضادة على طول المواجهة، تطبيقاً لقاعدة: « إن القائد إذا حاول أن يكون قويا في كل ميدان فسوف يكون ضعيفاً في كل مكان ».
4 - خفة الحركة
وخفة الحركة تعني في المنطق العسكري أمرين: أولهما التحرك بالسرعة المطلوبة في الزمان والمكان الصحيحين، وثانيهما سهولة التحرك في أي اتجاه، أي المرونة في إجراء المناورة الاستراتيجية.
ولاشك أن إحراز التفوق في خفة الحركة ليس أمراً مطلقاً، بل هو أمر نسبي يتم بالمقارنة بالقوات المعادية.
على أنه في إطار الحرب التقليدية، فإن خفة الحركة تتحقق في الوقت الحاضر بوسائل عدة، منها: ميكنة القوات واستخدام الوسائط السريعة للنقل جوا وبحرا، ووضع القوات في أماكن تمركز مختارة، وكذا تدريب القوات على معطيات الاختراق السريع، والحرب الخاطفة.
المبادئ الثانوية للاستراتيجية
وللاستراتيجية مبادئ أخرى، يثور الجدل أحيانا حول الاعتراف بأهميتها الاستراتيجية، إلا أن الذي يعنينا هنا، أن نؤكد أنه لا قيمة لهذه المبادئ الأخرى بمفردها، فهي لا تعني شيئا بدون المبادئ الرئيسية التي سبق الإشارة إليها.
ومن هذه المبـادئ « البساطـة » والتي تتطلب من القـائد - إذا توافرت له عدة خطط سليمة - أن يختار أبسطها، فكلما اتسمت الخطة بالبساطة، قلت الأخطاء التي لابد أن تصاحب كل حرب.
فالقادة المهرة يعرفون أن الحرب التقليدية بطبيعتها غنية بالمشاكل، سواء أكانت هذه المشاكل إدارية تتعلق بمتطلبات الإعاشة والإمداد بالذخيرة والعتاد والوقود واستعواضهم، أو مشاكل قتالية تتعلق بوصول القوات إلى المحلات المختارة في إطار من السرية والأمن، ثم قدرتها على تنفيذ المهام الموكلة إليها بنجاح، سواء كانت هذه المهام معدة من قبل، أم متغيرة وفقا للمواقف المتحددة للقتال وليست هذه المشاكل وحدها بالأمر اليسير لكي يضيف إليها القائد خطة معقدة.
ومن المبادئ الأخرى كذلك « التعاون » فطابع الحرب التقليدية وخصوصا الحديثة منها، هو التعاون بين الأسلحة المختلفة في تقسيماتها الرئيسية إلى برية وبحرية وجوية ودفاع جوي، أو في تقسيمات الأسلحة الفرعية التابعة لكل قسم من الأقسام السابقة.
ولم يعد ممكنا في الوقت الحاضر كسب الحرب إلا إذا عملت القوات المسلحة كلها بنغمة واحدة، وبإيقاع واحد سواء في البر، أو في البحر، أو في الجو.
ولا يكفي التعاون وحده لتحـقيق الغرض المنشود إلا إذا صاحبه تنسيق دقيـق كذلك، فقد كان سـر نـجاح الألمـان - مثلا - في الحرب العالمية الثانية، هو قدرتهم على التنسيق بين طاقم (قاذفة القنابل - الدبابة- المشاة الميكانيكية).
ويتطلب تحقيق التنسيق بنجاح وصول المعلومات الصحيحة باستمرار، ذلك أن التنسيق بين القوات قي الجيوش الحديثة يتم في مركز القيادة العليا، ومن على الخرائط المبسوطة، نظرا لاتساع مسارح العمليات في الوقت الحاضر.
كما أنه لضمان نجاح التعاون والتنسيق بالمفهومين السابقين، لابد من توافر وسائل الاتصال الكافية، رئيسية وتبادلية، وعلى أن تتميز جميعها بالكفاءة والتنوع فضلا عن سريتها بالطبع.
ومن المبادئ الأخرى للاستراتيجية كذلك « توحيد القيادة ».
فالتحركات الاستراتيجية تتم في كثير من الأحيان بناء على معلومات ظنية الثبوت أو الدلالة، حيث تتعلق هذه المعلومات بتصميم العدو، ومكان قواته، ومواعيد تحركها، وحجم هذه التحركات، ولا يتم اتخاذ القرارات المناسبة لهذه المعلومات إلا على بساط الافتراض، مما يتطلب عزما وحسما شديدين.
ولا ضير في توحيد القيادة، مادام القائد مختارا من بين أقرانه لبعد نظره، وصوابية حكمه، وسلامة بصيرته وعقله اللماح، وشخصيته الفذة.
فالقيادة وفق هذه الميزات أفضل بكثير من مجالس الحرب، التي تتألف من أنداد، يستطيع كل منهم عند اللزوم أن يحمل زميله مغبة النتائج التي غالباً ما تكون كارثة، فالعدو غالبا ما يعقبهم من اتخاذ القرار بعد أن تطول مناقشاتهم.
ويتبقى لدينا بعد ذلك من المبادئ الأخرى للاستراتيجية أربعة مبادئ على جانب كبير من الأهمية، وهذه المبادئ هي: الاقتصاد في القوة، والمحافظة على الهدف، وضمان الشئون الإدارية، وارتفاع الروح المعنوية.
ويعني مبدأ « الاقتصاد في القوة »، الاكتفاء عند دفع القوات للاشتباك الفعلي بالقدر الملائم منها للظروف، مع الاحتفاظ بالقوات المتبقية دون دفع، فبعد حشد القوات للنقط الحاسمة من مسرح العمليات، لا يشترط دفع هذه القوات جميعها، وإنما يتقيد الدفع الفعلي لهذه القوات بمبدأ الاقتصاد في القوة.
وتعتبر مراعاة هذا المبدأ ضمانة هامة لتحقيق المرونة في التنفيذ، وتحقيق القدرة على مواجهة المواقف الطارئة.
وأما مبدأ « المحافظة على الهدف » فيعني التزام - القادة كل في موقعه بالهدف المحدد له في الخطة، حيث لا يصح أن يلهيه عن هذا الهدف وقائع الحرب مهما كانت، أو مغريات التنكب مهما عظمت.
وليس معنى ذلك أن هذا المبدأ يعني الجمود التام، أو التنكر لمعطيات الواقع أثناء القتال، فللقادة أن يتصرفوا عند التنفيذ بمرونة وذكاء، على أن يراعوا دائما مع تعدد الحركة ثبات الهدف، أو كما قال القائد الروماني الشهير رومونوس: « لا يهم ما دامت كل الطرق توصل إلى روما ».
وأما عن « الشئون الإدارية »، فقد تناسبت أهميتها طرديا مع تعاظم الاحتياجات القتالية في الحرب الحديثة، فالجند، لا يستمرون في القتال بمعدة خاوية، أو خزنة فارغة، كما أنهم لا يتنقلون بعربات خالية من الوقود، فضلا عن أنهم لا يقاتلون بدبابة لم يتم إصلاحها أو طائرة لم تتحقق صيانتها.
ونحن سنسلم أكثر بأهمية الشئون الإدارية، إذا عرفت أن كل المشاكل السابقة ليست إلا قليلا من كثير، وغيضاً من فيض من مشاكل الشئون الادارية، تلك المشاكل التي تمتد لتشمل كل ما يساعد على تحلي الجنود بالرغبة المتجددة للقتال، بالغة ما بلغت احتياجاتهم الإدارية في هذا الشأن، حتى لو تعلقت بعلاج مرضاهم، وإخلاء جرحاهم، أو حتى الترفيه عن الأصحاء منهم، ولهذا ذاع القول المأثور: « إن الصحراء جنة رجال التكتيك ونار رجال الشئون الإدارية ».
وأما « الروح المعنوية »، فقد كان أحسن ما قيل فيها: « أن السلاح بالرجل ». فالجندي الشجاع تتجنبه الطلقة، ويرتعش أمامه السونكي. وكم من حروب كانت الروح المعنوية أساس الهزيمة فيها.
وليست هناك وسيلة واحدة لرفع الروح المعنوية، فهناك وسائل متعددة، أهمها بث الإيمان بين الجنود، واختيار قادة العمليات من بين القادة الصالحين والمعروفين بالحرفية اللازمة لكسب الحرب، وكذا التأكيد الدائم على استمرار الاستعداد العالي للقوات ورئاستها، وكذا على الاحتفاظ دائما باللياقة البدنية العالية.
والروح المعنوية في المجال الاستراتيجي، تتوقف في كذلك على محبة الجنود لقائدهم الأعلى، وتمتع الأخير بثقتهم فيه، وذلك إنما يكون باحتفاظه الدائم بوضوح الرؤية أثناء الحرب.
التكتيك
تحدثنا من قبل عن المبادئ الاستراتيجية، وتبين مما قلناه أن الاستراتيجية ترتبط بتحرك القوات وأوضاعها قبل المعركة، وبالتأمل، لا يخفى أن الغرض من تطبيق مبادئ الاستراتيجية هو إجبار العدو على القتال في الوضع الذي لا يلائمه عند الاتصال به بهدف الفوز بالنصر في مواجهته.
لكن إحراز هذا النصر لن يتأتى بتطبيق المبادئ الاستراتيجية وحدها، بل يجب أن يتوج التطبيق المبدع لهذه المبادئ الاستراتيجية بنجاح تكتيكي كذلك، إذ لا تغني الاستراتيجية الناجحة عن اتباع التكتيكات السليمة داخل المعارك المختلفة التي تنظمها الحرب، فالتكتيك الفاشل لن تجدي معه الاستراتيجية المنتهجة مهما كانت درجة تفوقها.
ويقصد بالتكتيك في مجالنا هذا: القواعد التي تستخدم لتحقيق التأليف الصحيح بين النار والحركة بغرض إحراز قوة الصدم المطلوبة، وكذا الاستفادة التامة من الخصائص الفنية للسلاح المستخدم.
ولا يؤثر في بقائنا في نطاق تطبيق القواعد التكتيكية أن تكون الوحدة المستخدمة من النطاق التعبوي، فمبادئ التكتيك التي ستمر بنا بعد حين تشمل ما دون الاستراتيجية ولو كان تعبويا.
وللتكتيك عنصران رئيسيان هما: النار، والحركة. وينتظم هذين العنصرين مبادئ عامة هي بعينها مبادئ الاستراتيجية وإن تبلورت لتلائم المجال التكتيكي بالطبع. وفضلا عن هذه المبادئ العامة فهناك مبادئ خاصة لكل عنصر من عنصري التكتيك.
وسنتناول في القسمين التاليين مبادئ كل عنصر من عنصري التكتيك، أي مبادئ النيران ومبادئ الحركة.
مبادئ النيران
ويعتبر استخدام النيران في المعارك التقليدية الحديثة هو الأساس، ويستثنى من ذلك حالات قليلة قد ستخدم فيها السلاح الأبيض. ويتوقف النجاح التكتيكي كثيرا على التخطيط الدقيق للنيران.
ويكون التخطيط النيراني دقيقا ومحكما إذا ما روعي فيه المبادئ العامة التالية:
أولا الحشد:
ويقصد بالحشد في هذا المجال تجميع أكبر قدر ممكن لمصادر النيران في المراكز الرئيسية للمعركة التكتيكية.. ويتطلب تحقيق هذا الحشد مراعاة التأليف الصحيح بين السلاح المتيسر والمحلات المختارة له بعناية، وهذا بالطبع مع مراعاة التنسيق الكامل مع المستوى الاستراتيجي والمستويات التكتيكية الأخرى.
ثانيا - المفاجأة :
فلا قيمة لهذا الحشد إذا أتى بطريقة يتوقعها العدو، ويعد لها الوسائل المضادة المناسبة، فلابد لكي نجني الثمرة المرجوة من أن نحرم العدو من الوقت الكافي والاستعداد المناسب لمواجهة التخطيط النيراني المعد ولن يتحقق هذا إلا بمفاجأته بالنيران.
ثالثا - الدقة والمرونة
فلن يكلل الحشد، ولن تتوج المفاجأة بالنجاح، إلا إذا كانت النيران معهما دقيقة ومرنة، خصوصا وأن التقدم العلمي الهائل قد أدى إلى ضمان سقوط النيران في البقعة المطلوبة بالضبط، كما أنه أدى كذلك إلى تحقيق القدرة على المناورة بالنيران بالطريقة المطلوبة تماما.
رابعا - الاستمرار:
فقد تتوافر للقائد المحلي كل العوامل السابقة، إلا أن ذخيرته تنفذ دون أن تكون هناك خطط موضوعة لضمان استعراضها واستمرارها، وهنا يتكفل العدو غالبا بحل هذا الأشكال.
مبادئ الحركة
وتتحرك القوات في الميدان تحركات متعددة، إلا أن هذه التحركات مهما تعددت لا تخرج عن إطارين هما: التحرك للهجوم، والتحرك للدفاع.
ولكل من الهجوم والدفاع مزايا معروفة تكتيكيا، فالمهاجم يتمتع باختيار وقت ومكان المعركة، بينما المدافع يتمتع في مواجهة ذلك بميزتين رئيسيتين هما: دراسة الأرض، وتجهيزها هندسيا، وقد يتمتع المدافع إلى جوار ذلك بميزات أخرى قد لا تتوافر في كل معركة ونعني بذلك دعم الشعب، والميل الغريزي للجند نحو الوله بتراب الأرض، وكذا الموانع الطبيعية الصعبة.
هذا، وليس من الميسور الجزم مسبقا بتفوق الشكلين السابقين في المجال التكتيكي، فالفصل في ذلك ليس مطلقا ومجردا، وإنما هو يتم بناء على عوامل فنية كثيرة، يدرس القادة المهرة معطياتهم، ثم يحددون على أثرها الشكل الذي يرونه محققا أقصى القوة لقواتهم على أرض الواقع.
وعلى أية حال فسنتناول فيما يلي كلا من الدفاع والهجوم.
أولا - ا لهجوم:
وللهجوم أشكال ثابتة، ومعروفة، هي: الالتفاف، والتطويق، والاقتحام بالمواجهة.
ويتوقف اختيار الشكل المناسب منها على عوامل فنية كثيرة، أهمها: الظروف الطبوغرافية، ونظم دفاعات العدو، وأسلوبه في العمل، فضلا عن الموعد المطلوب تحقيق الهجوم فيه ليلا أم نهارا.
ويقصد بالالتفاف: التقدم على أجناب العدو ومؤخرته المباشرة، مع معاونة ذلك بهجوم تثبيتي (ثانوي) آخر على المواجهة.
ولا يختلف التطويق عن الالتفاف إلا في عمق المدى، فالتطويق لا يتم على الأجناب والمؤخرة مباشرة، وإنما يتم بعيدا عنهما، كما قد لا يكون هناك تعاون مباشر دائما بين قوات الأجناب وقوات المواجهة في مجال التطويق.
وقد يتم الالتفاف بجناح واحد على جنب واحد وهنا يسمى بالالتفاف المفرد، وقد يتم بجناح واحد على كل جنب من الجنبين وهنا يسمى بالمزدوج، كما قد يكون الالتفاف بجناحين على كل جنب من الجنبين وهنا يسمى بالمركب، ونفس الشيء تماما بالنسبة للتطويق.
وأما الاقتحام بالمواجهة فيقصد به أحد شكلين: إما الهجوم على مواجهة واسعة، وإما الهجوم على مواجهة ضيقة واختراقها ثم الاتجاه إلى خلف أجناب العدو وإلى مؤخرته، وفي هذه الحالة تكون تسميته الدقيقة هي الاختراق بالمواجهة.
ويتم اختيار الشكل الأول (الاقتحام بالمواجهة) إذا أريد إجبار العدو على توزيع مجهوده، وتضليله على اتجاه المجهود الرئيسي للضربة. بينما يتم اختيار الشكل الثاني (الاختراق بالمواجهة) في حالة ما إذا كانت أجناب العدو قوية ومحمية بدرجة مناسبة، بينما تكون دفاعات الوسط ضعيفة إما لعدم حمايتها بدرجة كافية، وإما لوقوعها بين فواصل الوحدات.
وأيا ما كان الشكل المتخذ للهجوم، فإن القادة المهرة لا يهملون فيه السرية، وإحماء القوات للقتال بحسم وعزيمة، وكذا المحافظة على القوة الدافعة للهجوم، والمبدأ الأخير ليس بالأمر الهين لما يتطلبه من استعواض مستمر لكميات في الذخيرة والعتاد تتعاظم بتعاظم مواجهة المعركة وعقمها.
وقد يلحق بالهجوم شكلان آخران يسمى أولهما بالمعركة التصادمية، وهي تنشأ من فجاءة القوات المتضادة كل منها بالأخرى. والنجاح في هذا الشكل للخصم العنيد المصمم، الذي يسرع بالفتح المناسب في تشكيل المعركة، وبعد أن يكون قد أخذ حذره واحتياطه من قبل بدفع مفارز متقدمة أثناء السير مهمتها التنبيه إلى العدو وأوضاعه فور ظهوره، ثم تعطيله حتى تسرع القوة الرئيسية بالفتح للمعركة.
وثاني هذين الشكلين يسمى بالمطاردة وتعزيز الأراضي المكتسبة، ويؤتى هذا النوع ثماره بالمحافظة المستمرة على الاتصال بفلول العدو المنسحبة، لما يعنيه هذا الاتصال من استمرار الضغط على العدو، وحرمانه من أية فرصة لتجميع قواته أو التقاط أنفاسه.
وفي الختام، يجدر التنويه إلى أن التنفيذ العملي لأي من أشكال الهجوم السابقة يصاحبه اختيارات كثيرة، سواء في نقطة الفتح للهجوم، والتي قد تكون من الاتصال القريب أو من العمق، وهذا يتوقف بدوره على طبيعة دفاعات العدو (مجهزة أو غير مجهزة)، ونوع دفاعه (ثابت - متحرك) وشكل دفاعه (خطي –صندوقي –دائري)، كما يتوقف كذلك على مسرح المعركة، هل هو صحراوي أم يقع في المدن؟ وهل أي منهما به موانع أو بدون موانع؟ وكذا تتوقف نقطة الفتح للهجوم على وقت المعركة، هل هو ليلا أم نهارا؟.
وهناك كذلك اختبارات أخرى تتعلق بنوع القوات المستخدمة لتحقيق شكل الهجوم، والغالب الآن - استجابة لمعطيات معركة الأسلحة المشتركة - أن يتم التنسيق بين كافة أنواع القوات، سواء البحرية، أم البرية، أم الجوية وبالأفرع المناسبة من كل منها بالطبع.
وبالإضافة إلى هذه الاختبارات، فهناك أيضا الاختبارات التي تتعلق بالأنساق التي تدفع للمعركة، وأسلوب دفعها.
وللهجوم الليلي اختيارات خاصة تتعلق بدرجة الصخب المسموح بها، فهل يكون صاخبا؟ وفي هذه الحالة يبدأ بالتمهيد النيراني المناسب بالأسلحة الثقيلة وبالأضاءة المناسبة، أم يكون صامتا؟ وهنا لا تستخدم نيران الأسلحة الثقيلة ولا تضاء أرض المعركة إلا بعد اكتشاف العدو للهجوم، أم يكون جامعا بين النوعين السابقين بحيث يكون صامتا/ صاخبا؟ وهنا لا يصدر القائد أوامره بصخب الهجوم إلا بعد مرور قواته، المناطق الأكثر تعرضا لنيران العدو.
وغني عن البيان أنه لا يتصور أن يبدأ الهجوم - صاخبا ثم ينقلب صامتا كما يظهر بأدنى تأمل.
الدفاع
ولا يعني الدفاع قط التخلي عن المبادئ الصحيحة لاستخدام القوات، بل ولا يعني حتى مجرد ترك المبادأة. فالدفاع لا يعني فقط سوى الانتظار، وفرق بين الانتظار والسلبية الظاهرة، والقادة المهرة يعرفون ذلك، ولهذا تجدهم ما أن يتعين الدفاع شكلا للمعركة المرتقبة، إلا ويعمدون إلى المبادرة بانتخاب المحلات المختارة، وتوزيع القوات عليها توزيعا مناسبا ثم موالاة التبصر بأحوال العدو، والترقب له حتى يقع في الفخ المنصوب له، وهنا تجد المدافعين وقد عمدوا فورا إلى الهجوم المضاد المعد له من قبل، ثم يستمرون في المحافظة على هذا الهجوم حتى يتحقق لهم الحسم.
أما لماذا يتعين الدفاع كأمر حتمي أحيانا؟ فدون ذلك أسباب متعددة منها: تعذر القيام بالهجوم، أو عدم ضمان نتائجه، أو كون دفاعات العدو قوية ومتفوقة بحيث لا يكون مناسبا مهاجمته إلا بعد تكبيده خسائر كبيرة في معركة دفاعية ناجحة، كما قد يتحتم الدفاع أحيانا عند توفير القوات لحشدها في الاتجاهات الرئيسية أو عند الاحتفاظ بإحدى الهيئات الحاكمة.
هذا، وللدفاع شكلان رئيسيان، دفاع ثابت، ودفاع متحرك، ويتميز الأخير بوجود احتياطات تكتيكية تتولى الدخول مع العدو المقتحم في معركة تصادمية، أو تتولى القيام بالهجوم المضاد عليه في أماكن معدة له بعناية من قبل.
وأما الشكل الذي تقبع فيه القوات في وضعها الدفاعي، فقد يكون خطيا، وفيه تكون القوات في الغالب على خطين أمامي وخلفي، وقد يكون صندوقيا، وفيه تتخذ القوات وضعها على شكل مستطيل، كما قد يكون دائريا تقبع فيه القوات في شكل دائري يتيح لها الدفاع في جميع الاتجاهات.
ومع أي من هذه الأشكال قد يكون التجهيز الهندسي قويا ومجهزا، أو على عجل وغير مجهز، والغالب الآن نظرا لميوعة العمليات العسكرية وسرعة إيقاعها أن يبدأ المدافع معركته من دفاعات مجهزة ثم تتداخل القوات بعد ذلك ويضطر كل منها إلى اتخاذ مواقف دفاعية كثيرة وسريعة لا تسمح سرعتها غالبا بأي تجهيز.
وجدير بالختام أن نشير فيه إلى أن هناك حالتين تلحقان بالدفاع ألا وهما القتال داخل الحصار، والقتال بقصد التخلص من المعركة والانسحاب.
ولكل من هاتين الحالتين خواص مميزة، ويجمع بينهما أن النجاح فيهما مكتوب للقوات المدربة تدريبا عاليا، والممهدة نفسيا للعمل في أحلك الظروف.
التقدم العلمي
وقد أضحى التقدم العلمي عنصرا من عناصر الحرب لا يمكن إغفاله، أو التهوين من شأنه، فحينما تتمكن الدولة من اختراع سلاح جديد، فإن ذلك يعطيها ميزة واضحة على أعدائها. ولهذا، فقديما عد اختراع القوس بعيد المدى والبارود في القرن الرابع عشر الميلادي أمرين لهما أهميتهما وأما الآن، فها نحن نلحظ الجديد الذي تحظى به الأسلحة كل يوم، من مدفعية وقطع بحرية، إلى دبابات وطائرات، وما يتبع كلا من هذه الأسلحة من قنابل وصواريخ ومقذوفات وألغام تتطور بدورها كل يوم.
وبالإضافة إلى ذلك، فهناك اللاسلكي، والرادار، والتليفزيون، ووسائل الاستطلاع والمراقبة. والرؤية. سواء منها اليدوية أو الالكترونية، وسواء منها ما كان في باطن الأرض، أو على سطحها، أو تشق طريقها في عنان السماء محمولة على متن الطائرات، أو تقطع الليل والنهار في جوف الفضاء الخارجي محمولة ببطن الأقمار الصناعية.
وهذه الاختراعات ولاشك قد صارت ملموسة آثارها على المعارك والحروب، وصارت معروفة أهميتها في تجاوز الموانع المكانية والزمانية (المسافات - الوقت). وهذا يؤكد ما قلناه من أهمية التقدم العلمي كعنصر من عناصر الحرب.
ونحب أن نؤكد أن التقدم العلمي لا يقاس في أي دولة إلا بمقدار قدرتها على تنمية واستثمار العقول العلمية فلا يكفي الاعتراف بالتقدم العلمي لدولة ما، أن تكون قادرة على استيعاب ما أنتجته الدول الأخرى من وسائط علمية، فالعبرة في مجال التقدم العلمي رهينة بتوافر المناخ الملائم لتنمية العقول تنمية علمية، ثم استثمار هذه العقول - فيما بعد - بما يحقق أقصى استفادة منها.
وليست هناك حدود للمجالات العلمية العسكرية، فكل الظواهر المختلفة يمكن الاستفادة منها عسكريا، سواء أكانت هذه الظواهر طبيعية، أم كميائية، أم بيولوجية، وسواء أكانت المادة الوسيطة في الموضوع صلبة أم غازات، أم سوائل.
وفي حرب أكتوبر سنة 1973 أكدت الأقمار الصناعية وطائرات التجسس والاستطلاع، والقنابل، التلفزيونية، والدبابات المجهزة للرؤية الليلية، ووسائل الاستطلاع الإلكترونية، أهمية التقدم العلمي كعنصر حاسم في الحروب. ولهذا تحرص الدول حديثا على الحصول على التفوق العلمي النسبي على عدوها قبل الدخول معه في حرب وذلك حتى تضمن لنفسها حسماً ملموسا في هذه الحرب.
الخطة
وبديهي أن العناصر الثلاثة السابقة للحرب لا قيمة لها ما لم تتوظف في النهاية في خطة عسكرية مناسبة زمانا ومكانا.
وحين يضع القائد خطته، فإنه يبدأ أولا بالإجابة على الأسئلة التالية:
- ما هو الهدف المطلوب بالضبط؟
- أفي طاقة قواتي أن تحقق هذا الهدف؟
- ما هو الأسلوب المناسب لتحقيق هذا الهدف؟
- ماهي أبعاد معركة المفاوضات ومتطلباتها بعد أن تننهي المعركة العسكرية وإلى أن تنتهي الحرب؟
والإجابة على هذه الأسئلة هي المفتاح الصحيح لأي خطة عسكرية، وأما التفصيلات التقليدية من مثل: طريق التقدم والمناورة، والهيئات الحاكمة المطلوب الإستيلاء عليها فليست إلا تقليدا ينشغل به القادة النمطيون لا المبدعون، فالأخيرون يهتمون فقط بالتصور لهم للخطة، وأما مثل هذه التفصيلات الفنية، فإنهم يتركونها للأركان العامة التي أحسنوا اختيارها من قبل.
وتخضع الإجابة على هذه الأسئلة السابقة لأسس دقيقة، نشير فيما يلي إلى طرف منها:
أولا - الهدف:
وهدف الحرب تضعه الحكومات الآن، ويشترك في وضعه كل أو جل أعضائها، وسواء منهم من كان مدنيا أو عسكريا. ولا غرابة في ذلك، وقد استقر منذ زمن أن الحرب ليست إلا سياسة كلماتها الطلقات، ومفاوضاتها العمليات.
وتعمد الحكومات قبل وضع الهدف المرجو من الحرب إلى تقييم الوضع السياسي بشكل دقيق، مقدرة فيه جوانب القوة والضعف لديها ولدى عدوها، قاصدة بذلك أن تتجاوز مثالب سياستها نسبيا في مواجهة هذا العدو، وذلك حتى تضمن لنفسها وضعا سياسيا قويا، فبضمانة هذا الوضع السياسي القوي، ومع بديهية التأثير المتبادل بين الوسائل السياسية والوسائل العسكرية، سوف تضمن الحكومات لنفسها وضعا حربيا قويا بالتالي.
وكلما كان الهدف العسكري متلائما مع النوايا السياسية، كان هدفا مثاليا، يعبر اختياره عن فطنة تبشر بالنجاح على أرض العمليات.
وكلما زاد اعتماد العدو على الوسائل العسكرية لخدمة معركته السياسية ضدنا، زاد بالتالي حجم الجهد العسكري المطلوب تحقيقه، والعكس صحيح تماما، ولهذا ليس أمامنا إذا كانت سياسة العدو عسكرية في أسسها وتوسيعة عدوانية في أهدافها، إلا أن ننزع منه وسيلته العسكرية باعتبارها مركز الثقل في وسائله السياسية.
وأما كيف يتحقق حرمان العدو من سلاح القوة العسكرية؟ فدون ذلك طرق متعددة:
أولاها: تدمير قوات العدو بإنزال درجة مناسبة من الخسائر بها، ثم تشتيت البقية الباقية منها إلى حيث تصبح عديمة الفاعلية والقيمة.
وثانيهما: إقناع العدو بعدم فاعلية قواته في المحافظة على أهدافه السياسية، فإذا كان العدو يعتقد –مثلا - أن حصونه العسكرية تحقق له الأمن والاستقرار، فإن الاستيلاء على بعض من هذه الحصون يعد هدفا مثاليا في هذه الحالة، ولمن شاء يتدبر مثلا تطبيقيا لذلك فأمامه معركة أكتوبر سنة 1973.
وغني عن الذكر أن بين الطريقتين الأولى والثانية مساحة هامشية مغطاة - ولاشك –ببدائل عدة، يتوقف الالتقاء منها على الظروف الواقعية لكل حالة.
وأما ثالثة هذه الطرق، فتتحقق بالاكتفاء بإحراج قوات العدو، واستغلال هذا الإحراج في تليين موقفه السياسي. وتلجأ الحكومات في سبيل تحقيق ذلك إلى وسائل عدة قد يكتفي فيها بالمظاهرات العسكرية، أو المضايقات البحرية، وقد يزاد على ذلك قليلا بالاستيلاء على شريط من الأرض لا أهمية له.
والحق أن هذه الأعمال وإن كانت عسكرية، وتدخل في زمرة أعمال الحرب، إلا أن الأساس الوحيد لإقحامها في الدراسة الفلسفية لاستراتيجية الحسم هو التحمل والاستطراد، إذ أنها في الأصل داخلة في وسائل استراتيجية الردع لا الحسم، تلك الاستراتيجية التي تستهدف إرهاب العدو لمنعه من التفكير في الحرب، وهي تخرج عن نطاق دراستنا هنا، لأننا نتحدث عن خطة الحرب بافتراض أننا مضطرون للقتال بالفعل.
ثانيا - الطاقة
وقد يتبادر الذهن وقد تدنينا - ولو بالتعسف- في الأهداف العسكرية للحرب إلى حد المضايقات البحرية، أننا سوف ننحي باللائمة على أي قائد يتعلل بطاقة قواته، لكن ذلك غير صحيح تماما. فالقائد حين يدرس طاقة قواته ليس عليه أن يدرس طاقتها على استيعاب الهدف المزمع فقط، وإنما عليه كذلك، أن يدرس قدرتها على استيعاب رد الفعل المحتمل للعدو، بل إنه سوف يلقى تقديرنا أكثر إذا درس إلى جوار القدر المحتمل من رد الفعل تلك النسبة الثابتة للقدر غير المتوقع من العدو. وقديما قيل إننا نضع ثلاثة احتمالات ليأتي منها العدو إلا أنه يأتينا دائما من الاحتمال الرابع.
ويحدد لنا فيلسوف الحرب كارل فون كلاوز فيتز[1] الضمانات التي إذا توافرت اطمأننا إلى طاقة قواتنا في ثلاثة ضمانات هي :
1 - أن تكون القوات العسكرية كافية لتحقيق نصر حاسم على قوات العدو.
2 - أن تستطيع هذه القوات تقديم الخسائر اللازمة من القوات إذا تم تتبع النصر حتى النقطة التي تصبح معها عملية استعادة التوازن غير محتملة.
3 - التأكد من أن الوضع السياسي - مع تحقيق الهدف العسكري.. سيكون متينا بشكل لا يجعل هذه النتيجة طريقا لإثارة أعداء جدد يجبروننا على التراجع حتى عن العدو الأول.
ويؤكد كلاوزفيتز على ضرورة توافر هذه الشروط الثلاثة، حتى لا يضطرنا تخلف أحدها - وخصوصا الأخيرة - إلى إضاعة ما ربحناه بالشرطين الأخريين، بحيث لا نستفيد في النهاية إلا دفع تكاليف الثلاثة معا.
ثالثا - الأسلوب:
فبعد أن يعرف القائد هدفه، ويطمئن إلى أنه داخل في استطاعة قواته، فانه يبدأ بعد ذلك في تحديد الأسلوب المناسب لتحقيق أقصى المواءمة بين الهدف والطاقة.
ويتدخل في تحديد هذا الأسلوب ثلاثة عوا مل هي: الوقت، والقدرة، وطبيعة مسرح العمليات.
ونشير فيما يلي إلى أثر كل من هذه العوامل على الأسلوب المختار:
1- بالنسبة للوقت:
ولا يقصد بالوقت هنا الفترة الزمنية اللازمة لتنفيذ العملية العسكرية، فهذه الفترة - مع اعترافنا بأهميتها القصوى في ظل الظروف الدولية السائدة الآن - لها أهميتها بصفة أساسية في المجال التكتيكي لا في المجال الاستراتيجي الذي نتحدث عنه ونحن نتحدث عن الخطة وإن كان لا يخفى بالطبع أن هناك درجة من التأثير المتبادل بين المجالين.
وأما الوقت المقصود هنا، فهو وقت الترقب والانتظار الذي يسبق بدء تنفيذ العملية، فهذا الوقت هو صاحب الأثر في المجال الذي نتحدث عنه الآن.
ومع التسليم بأن التبسيط النظري يخل دائما بجوهر الواقع المتشابك، إلا أنه يمكن - مع ذلك - ملاحظة أثر الوقت على الأسلوب المختار من خلال معادلة بسيطة مؤداها، أنه كلما كان الوقت يجري لصالح دولة معينة، كان عليها أن تركن إلى الانتظار أي أسلوب الدفاع، وعكس ذلك صحيح تماما، فإن على الدولة التي يجري الوقت ضدها أن تبادر فورا إلى الهجوم حتى ولو كانت أقل قدرة من الدولة الخصم، باعتبار أن الانتظار لن يكسبها إلا مزيدا من السوء، ما دمنا نفترض أن الوقت يجري ضدها. وأما إذا كان تطور الوقت ذا أثر واحد على الطرفين أولا أثر له على الإطلاق، فإن على الطرف المهاجم سياسيا أن يستمر في الاحتفاظ بالمبادأة متخذا من الهجوم العسكري وسيلة لتنويع وسائله السياسية.
2 - بالنسبة للقدرة:
وكما كان للقدرة أثر على تحديد الهدف، فإن لها أثرا كذلك في تحديد أسلوب تحقيق هذا الهدف.
فحينما نكون أقوياء بدرجة كافية سياسيا وعسكريا فعلينا أن نبادر فورا إلى الهجوم، وأما إذا لم تكن قوتنا بهذه الدرجة، فليس أمامنا إلا أسلوب الدفاع لنستفيد من مميزاته فيما بعد في هجوم مضاد ناجح وقوي.
وحتى في داخل أسلوب الهجوم والدفاع فإن القدرة تلعب دورا حاسما في جزئيات الاستراتيجية المنتهجة.
فمثلا في إطار الهجوم، إذا لم تكن لدينا قدرة كافية للوصول إلى مركز الثقل المعادي الذي قد يكون العاصمة السياسية أو القوات الرئيسية للعدو، فليس أمامنا - في هذه الحالة - إلا أسلوب الهجوم غير المباشر.
ونظير ذلك في التاريخ العسكري ما فعلته بريطانيا في السنين الأولى من الحرب العالمية الثانية، إذ كانت تعتبر أن معركتها مع الألمان تجري في الشرق الأوسط وإيران والعراق، وأما حين دخلت الولايات المتحدة الحرب - وهي دولة غنية بالإمكانيات والموارد - فإن سيمفونية الاستراتيجية البريطانية الأمريكية في اتجاهها إلى مركز الثقل بألمانيا ذاتها.
وأما أثر القدرة على أسلوب التنفيذ المتبع لتحقيق الاستراتيجية الهجومية، فيمكن أن نلحظه إذا تذكرنا أن هناك أساليب متعددة للهجوم، من مثل: الاختراق الخاطف، والاستراتيجية الجوية، واستراتيجية القوة الدافعة (أي الكتلة مضروبة في سرعة التحرك). ويتوقف انتقاء أي من هذه الأساليب على عاملين متساوين في الأهمية والتأثير، أولهما: القدرة، والتقاليد الاستراتيجية المستقرة للدولة المحاربة.
وأما في إطار الدفاع، فالمعروف أن الطرف المدافع ينتظر دائما للإيقاع بعدوه في إحدى لحظتين:
- لحظة تجاوز العدو لنقطة الذروة في هجومه.
- لحظة اضطرار العدو المهاجم لوقفات دفاعية.
ففي أي من هاتين اللحظتين لا يتردد المدافع - على فرض سلامة العوامل الأخرى من العوارض -في التحول من الدفاع إلى الهجوم العام المضاد. وأما أي اللحظتين ننتهزهما لشن الهجوم العام المضاد، فهذا بدوره يتوقف على عاملين كذلك:
- القدرة- وهنا تظهر أهميتها كما قلنا.
- العمق المسموح بتوغل العدو فيه، إذ أنه كلما كان عمقنا الدفاعي قادرا على الاحتفاظ بالتوازن رغم توغل العدو، كان من الأفضل إرجاء الهجوم العام المضاد إلى لحظة تجاوز المهاجم لنقطة ذروة هجومه، وتكون المرحلة الأولى من استراتيجيتنا المنتهجة معتمدة على المقاومة مضروبة في العمق والمسافة. وأما إذا كان الاتزان الدفاعي عندنا هشا، لا يسمح بتوغل العدو لما بعد الحد الأمامي للدفاعات فليس أمامنا، إلا أن نقاوم عدونا بعناد وإصرار عند الخط الأول للقتال، ثم نبادر فورا إلى الهجوم العام المضاد عند أول وقفة دفاعية للعدو المهاجم.
3 - بالنسبة لطبيعة مسرح العمليات :
ويقصد بمسرح العمليات، ذلك الجزء من مسرح الحرب الذي يتمتع باستقلال محدود، وينتظر جريان العمليات العسكرية عليه.
وبأدنى تأمل، فإن طبيعة مسرح العمليات تفرض نفسها على أسلوب التحرك المتاح. ذلك أنه إذا كان العدو يحتل ذلك الجزء المحمي من مسرح العمليات، فليس أمام الطرف الآخر إلا أن يغريه ليخرج من مكمنه ثم يلاقيه في مقتله بعد ذلك، وأما إذا كان الطرف الآخر هو الذي يحتل الجزء المحمي من مسرح العمليات، فعليه، والحال كذلك، أن يوازن بكل دقة، بين الانتظار في محلاته المختارة، وبين الاتجاه إلى عدوه في موضعه الهش.
ومما لاشك فيه، أن هذه الاختيارات الدقيقة تتم في إطار من المعطيات الموضوعية الأخرى، وأهمها الوقت والقدرة كما سبق.
رابعا - وضع القوات في معركة المفاوضات.
حين سئل المشير أحمد إسماعيل علي، بعد حرب أكتوبر سنة 1973، عن دواعي البطء الذي صاحب العمليات المصرية في هذه الحرب، وخصوصا في فترة الوقفة التعبوية في المدة من 10 -13 أكتوبر، قال: « لا علي إن كنت بطيئا بعض الشيء، فقد تركت بضعة كيلومترات على الأرض ولكني خرجت بقواتي سليمة من المعركة ».
وما قاله المشير أحمد إسماعيل، صوابا، يتفق مع مبدأ هام من مبادئ التخطيط للحرب. فالحرب لا تنتهي بمجرد توقف العمليات العسكرية في المعارك، وإنما الحرب تنتهي بعد فاصل المفاوضات الذي يعقب- حتما - هذه العمليات.
وتتأثر هذه المفاوضات تماما بالأوضاع العسكرية التي تنتهي إليها المعارك، بل لا نبالغ إن قلنا، أن هذه المفاوضات تتم لتقنين هذه الأوضاع العسكرية في صورة وثائقية، ولهذا يحرص عباقرة القواد على الاحتياط لهذه المرحلة بانتهاج الخطة التي تكفل لقواتهم الخروج في المعارك بصورة متوازنة، فهذا التوازن، هو الضمانة الحقيقية لكسب مرحلة المفاوضات التي تنتهي بها الحرب.
وليست هناك صورة مطلقة للتوازن الذي نرجوه لقواتنا بعد انتهاء المعارك، فالتوازن المستهدف غالبا ما يكون نسبيا، يقوم القادة بالتخطيط له في إطار من تخيلهم للتوازن المتوقع للقوات المعادية، لأن من البداهة، أن عدونا يحاول بدوره أن يخرج بقواته متوازنة من المعركة، إذ أن كلنا ولاشك، يعلم أن معركة التوازن هذه هي المرآة الصادقة التي سنرى فيها معركة المفاوضات حتى قبل أن تبدأ الأخيرة.
ويمكن التدليل على تأثير معركة التوازن على معركة المفاوضات -حتى في مراحلها العسكرية البحتة - بما جرى في الاجتماعات الستة للجنة العسكرية المصرية الإسرائيلية المشتركة، والتي تمت في المدة من 26/12/1973 وحتى 9/1/1974 تحت إشراف الأمم المتحدة في مقرها بجنيف. ففي هذه المفاوضات حاول الجانب الإسرائيلي إقناع الوفد المصري إما بقبول فكرة الانسحاب المتبادل، وإما بقبول فكرة الفاصل المحدود بين القوات بحيث لا يزيد هذا الفاصل عن ( 3- 4 كيلومترات)، وقد سبب الجانب الإسرائيلي محاولته هذه بمحاولة إيهام الجانب المصري بأن انسحاب إسرائيل إلى شرق القناة يعد تضحية استراتيجية كبيرة.
وقد كسب الوفد المصري معركة هذه الجزئية، حين رفض أن يبتلع الطعم الإسرائيلي، موضحا للجانب الإسرائيلي - بغير مواربة - أن وضعه العسكري غرب القناة يعد وضعا استراتيجيا سيئا، ولا أثر فيه للتوازن العسكري على الإطلاق بل إنه لا يمثل - إن مثل –إلا عبئا عسكريا واقتصاديا وسياسيا على إسرائيل، وبالطبع فقد انتهت المفاوضات -فيما بعد - إلى قبول رأي الوفد المصري في هذه الجزئية، وانسحبت إسرائيل وحدها إلى الشرق، بل وبمسافة كافية سمحت بمنطقة عازلة مناسبة بين القوات.
الإعداد للحرب التقليدية
تمهيد:
يعتبر الإعداد للحرب التقليدية أمرا معقدا بالمقارنة للإعداد لحرب العصابات مثلا، صحيح أن الإعداد لحرب العصابات يعتبر أمرا شاقا وخطرا إلا أن هناك فرقا كبيرا بين التعقيد والخطورة.
ويرجع التعقيد الذي يصاحب الإعداد للحرب التقليدية إلى تعدد الجوانب التي لابد من تهيئة إيقاعها لينضبط مع إيقاع الحرب التي نخطط لها. فهناك الجبهة الداخلية، والجبهة السياسية، والجبهة الإعلامية، والجبهة الاقتصادية، ولابد من إعداد كل هذه الجبهات باعتبار أنها في مجموعها تشكل الجبهة العامة للحرب التقليدية.
وسنتناول فيما يلي إعداد كل جبهة من هذه الجبهات في مبحث مستقل.
إعداد الجبهة الداخلية
والجبهة الداخلية هي ذلك الشق المدني من الدولة وينتظم في هذا الشق كافة الأفراد المدنيين الذين يعملون في الأعمال غير العسكرية. وقديما لم يكن لإعداد هؤلاء الأفراد أهمية تذكر، إذ لم يكن لهم في الحرب ناقة ولا جمل رغم أن الملوك في ذلك الوقت كانوا يمثلون السلطتين المدنية والعسكرية معا.
وقد تطور الأمر إلى النقيض من ذلك بعد انفصال السلطتين المدنية والعسكرية، خصوصا وأن السيطرة في أغلب الأحوال كانت للأولى ( المدنية ) لا للثانية (العسكرية ).
فحينما كان الملك يتولى وحده السلطتين معا، وكانت الحرب لا تقوم - في حقيقة أمرها- إلا من أجل المليك المفدى، لم يكن مهما إلا إعداد النبلاء المقربين وأتباعهم المحاربين الذين كان حشدهم يتم على أسس شخصية. وعوامل محلية قلما تجاوزتها أهداف الحرب نفسها.
وأما حين انفصلت السلطتان، وبدأت الأماني الشعبية تفرض نفسها على أهداف الحرب، فلم يعد من الممكن خوض الحروب إلا بعد إعداد الشعب لها إعدادا يؤهله لأن يكون أمينا على ظهر الطلائع العسكرية المحاربة في الميدان لتكون هذه الطلائع بدورها أمينة على أمانيه الشعبية المستهدفة من الحرب. ولهذا صار من الواجب إعداد الجبهة الداخلية وهو الأمر الذي يتحقق بثلاثة أمور هي:
1 - بلورة الأماني الشعبية.
2 - إعداد الغرف اللازمة لإدارة العمليات المدنية.
3 - تكوين فصائل المقاومة الشعبية والدفاع المدني.
ونشير فيما يلي إلى معنى كل أمر من هذه الأمور.
أولا : بلورة الأماني الشعبية
ويقصد بذلك، تحديد هذه الأماني، وتبويبها تبويبا زمنيا يتناسب والإمكانيات القائمة والمنتظرة ثم ضبط انفراج هذه الأماني ليتوازى انفراجها مع الإمكانيات المتاحة بالفعل وذلك تجنبا لإضاعة الممكن في طلب المستحيل.
فالملاحظ دوما أن الأماني الشعبية تتجاوز في حدودها العليا القدرات الواقعية للخطة التي تستلهم فيها الأماني الشعبية، ولا غرو فالأماني الشعبية تتغذى من العوامل العاطفية أكثر مما تتغذى من العوامل الواقعية، ولا ضير، فهذا أساس الأمل واستمراره لدى الشعوب. إلا أن الضير كل الضير أن نخلط بين الواقع والمأمول إذ يؤدي بنا ذلك لا إلى أن نفقد واقعنا فقط بل وإلى أن نفقد آمالنا كذلك. ولهذا يعمد القادة الملهمون إلى المكافأة بين الأماني الشعبية والقدرات الواقعية لدولتهم تجنبا للخلط بين الواقع والمأمول، أو الحقيقة وأشباه الخيال.
ثانيا: إعداد غرف العمليات المدنية
وتنقسم هذه الغرف نوعيا إلى قسمين: غرفة رئيسية ترتبط ارتباطا مباشرا بكل من قيادة القوات المسلحة والقيادة السياسية العليا. ومجموعة أخرى من الغرف بكل وزارة ومرفق، ومحافظة ومدينة، وتخضع هذه الغرف جميعا للغرفة الرئيسية الأولى بالأسلوب التدريجي المعروف.
وبالطبع يوجد لكل غرفة من هذه الغرف غرفة أخرى تبادلية تستخدم عند اللزوم.
وتقوم هذه الغرف كل في مكانها بالسيطرة على فصائل المقاومة الشعبية، وتوجيه الدفاع المدني ليستطيع حماية المنشآت الحيوية، مثل منشآت الري والصرف والمياه والمجاري والكهرباء والسكك الحديدية، فضلا عن المعاونة على استمرار هذه المنشآت فيما لو تعطلت بفعل فاعل.
ثالثا: تكوين فصائل المقاومة الشعبية والدفاع المدني
وتتكون فصائل المقاومة الشعبية ممن فاتهم أو لم يصبهم الدور الالتحاق بالقوات النظامية، حيث يلحق هؤلاء الأفراد بتنظيمات شبه عسكرية تتولى تدريبهم على أعمال المقاومة الشعبية مثل: مقاومة الهابطين بالمظلات، والكشف عن الجواسيس والعملاء، وتقدم المعاونة للقوات النظامية .
وأما فصائل الدفاع المدني فتتكون من كل القادرين على أعمال الدفاع المدني المتعلقة بإنشاء المخابئ، وإطفاء الحرائق، وإسعاف الجرحى، وقيادة المواطنين عند الغارات، بل وحتى حياكة الملابس العسكرية المطلوبة للمحاربين.
إعداد الجبهة السياسية
فالحرب الناجحة محصلة أمرين: إعداد سياسي جيد، وخطة عسكرية متقنة. ويعتمد الإعداد السياسي أول ما يعتمد على تهذيب أهداف الحرب لتكون متوافقة مع القانون الدولي العام، فهذا التوافق بين أهداف الحرب وبين القانون الدولي العام هو الأساس الذي تستند إليه الدول المحاربة حين تنادي بحقها في الحرب، كما أنه طريقها الواسع للحصول على تأييد الغالبية العظمى من دول العالم، فكما أنه لا قيمة لحق لا تحميه القوة، فإنه لا قيمة لقوة تتجه إلى غير حق، ولا يغرنا في هذا تقلب بعض الغاشمين في بعض البلاد فمثل هذا مصيره إلى زوال، إذ لا يصح إلا الصحيح ولو بعد حين.
وبعد أن تثق الدول في مشروعية أهدافها، فإنها تتجه إلى المحافل الدولية حيث تقوم بعرض قضيتها هناك، قاصدة بذلك إظهار مالها من حق، وما عليه عدوها من باطل، إذ بذلك تزداد قوتها بازدياد المؤيدين، وتنقص قوة عدوها بانصراف المشايعين.
وتعتبر هذه المرحلة من أهم مراحل الإعداد السياسي للحرب، فيها تحفز الدولة المحاربة كل الهمم الدولية حتى تمارس الضغط المطلوب على العدو قبل وبعد المعركة معه. وبقدر ما تنجح الدولة في عرض قضيتها، وفي كسب المؤيدين لها، بقدر ما ستجني - فيما بعد - ثمارا طيبة للحرب التي ستخوضها.
ولا تكتفي- الدول في مجال الإعداد السياسي للحرب -بتلقي البركات من غالبية الدول، بل إنها تقوم بعد ذلك بتصنيف هذه الدول لتخرج من بينها الدول التي تتعدى مرحلة التأييد الرسمي إلى مرحلة التحالف. فلكل دولة حلفاؤها، سواء تدنى هؤلاء الحلفاء إلى مرحلة التأييد الشعبي والرسمي، أم ارتفعوا إلى مرحلة الاشتراك في العمليات العسكرية.
والدول الماهرة هي التي تعد هؤلاء الحلفاء بأسلوب مدروس ليكونوا سندها وعمقها حين يبدأ القتال.
وليست هناك وسيلة واحدة لإعداد كل هؤلاء المتحالفين فدول التأييد الرسمي والشعبي لابد لها من عدد كاف من الديبلوماسيين والإعلاميين المهرة الذين يعرفون طريقهم لتنمية واستثمار هذا التأييد، وأما دول العمق المكاني والتسليحي والاقتصادي، فلابد لها من لجان متخصصة تعرف كيف تسيل الماء في القنوات الجافة، وأما الحلفاء المقاتلون فيتم التنسيق معهم على أعلى مستويات التنسيق حتى نضمن لأنفسنا إيقاعا موافقا في العمليات العسكرية يخدم في نهاية الأمر هدفنا الاستراتيجي العام .
إعداد الجبهة الاقتصادية
وقد تعاظمت أهمية هذه الجبهة بظهور الدول التدخلية واضطرار - حتى الدول اللاتدخلية - إلى التدخل في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وذلك لضمان حل المشكلة الاقتصادية (نسبة الكثافة السكانية إلى نسبة الموارد الاستراتيجية) والمشكلة الاجتماعية (نسبة التكافل الاجتماعي المطلوب إلى نسبة العمالة المنتجة).
ويعبر عن إعداد الجبهة الاقتصادية بتحويل الاقتصاد من مدني إلى حربي، ويتم ذلك بوسائل عدة منها توجيه معظم الموارد للمجهود الحربي بما يعينه ذلك من تعطيل جزئي لبعض الخطط الاقتصادية المدنية. وكذلك توجيه السياسات المالية والسعرية والنقدية والادخارية لتخدم من الإنتاج إلى الإنتاج الحربي المباشر، وكذا الحد من الاستهلاك وبناء المخزون الاستراتيجي اللازم.
وبالإضافة إلى هذا يتم وضع الوسائل الاقتصادية اللازمة لتجاوز أثر الحرب على الميزان التجاري نظرا لما سيصاحب الحرب من انخفاض في الصادرات وزيادة في الواردات. وأثرها على النفوس العاملة، نظرا لما سيصاحب الحرب من امتصاص جانب كبير من العمالة والخبرات والمهارات لصالح الأغراض العسكرية، وأثرها على الدخل العام، لما سيصاحب الحرب من تأثير عل قطاع الخدمات من نقل ومواصلات وسياحة.. إلخ ..
إعداد الجبهة الإعلامية
والتأكيد على أهمية هذه الجبهة وأنها أحد ركائز الحرب الناجحة، قد صار من نافلة القول الآن.
وأول الطريق لإعداد هذه الجبهة هو إعداد الكوادر الإعلامية الحرفية، فهذه الكوادر المؤهلة والواعية هي العنصر الحي الذي يحيل الأجهزة والسياسات الإعلامية إلى واقع حي مثر.
ثم يأتي بعد ذلك دور الأجهزة الإعلامية، وهي على نوعين رئيسيين: أجهزة الكلمة المقروءة، وأجهزة الكلمة المسموعة.
ويتم التعبير عن الكلمة المقروءة بوسائل عدة تنقلب من البسيط إلى المركب حين ننتقل من حيز النشرات والكتيبات إلى حيز الكتب والصحف والمجلات المحلية والعالمية.
وأما التعبير عن الكلمة المسموعة فيتم بطرق عدة من مثل: الإذاعة، مرئية وغير مرئية، والأفلام التسجيلية التي تبثها قوافل الاستعلامات مصحوبة بشرح سياسي واف، والندوات والمحاضرات واللقاءات السياسية التي تنظمها وسائل الثقافة الجماهيرية والتثقيف السياسي، وأخيرا فهناك المسرح السياسي أو الوطني الذي يتعاظم دوره في زمن الحرب خصوصا إذا كان مرتكزا على أصول دينية كالمسرح الإسلامي في مصر وبعض البلاد الإسلامية.
وتعتبر هذه الأجهزة المختلفة وسيلة مماثلة للأجهزة الديبلوماسية ولكن في المجال الإعلامي، فإنه إذا كان مجال الديبلوماسية هو الأشخاص الرسميون وأصحاب القرار فإن مجال الأجهزة الإعلامية هو قطاعات الرأي العام والمراكز المؤثرة على صناع القرار، فالمعنى واحد وإن اختلف المجال.
ولا قيمة لهذه الأجهزة ما لم تتبع سياسة إعلامية ناجحة، لا تلتزم، إن التزمت، إلا بالواقعية، وعرض الحقائق، فلم يعد ممكنا إخفاء الحقيقة الآن كما أن الناس لم يعودوا يقبلون التلون بأذواق النفعيين الذين يجيدون فن الإعلان لا الإعلام.
وحين تقوم الدولة على استكفاء الكوادر الإعلامية، والأجهزة التعبيرية، والسياسات السليمة، فإنها تضمن لمقاتليها، إذ يحاربون، ظهرا محميا من الإشاعات الفتاكة والآراء الهدامة التي تبثها أجهزة الحرب النفسية المعادية طوال فترة الحرب.
في الحرب النووية
تمهيد
يرى بعض المحللين أن الحرب النووية لا تعد حربا بالمعنى الفلسفي للحرب، ويصدرون في ذلك عن أن الحرب عمل منظم بطبيعته، بينما الحرب النووية ليست إلا نوعا من الفوضى ليس إلا.
ولعل مما يؤيد هذا الرأي، أن الأساس الفكري لاستخدام الأسلحة النووية الشاملة - فيما لو استخدمت - لن يكون إلا الجنون في حالة الهجوم، أو التشفي والانتقام في حالة الرد بالهجوم المضاد. إذ لا يعقل أن يكون استخدام مثل هذه الأسلحة نوعا من السياسة بوسائل أخرى!!..
ولا يخل بهذا الرأي ظهور الأسلحة النووية التكتيكية، إذ ما زلنا ننظر بعين الشك والريبة إلى إمكانية استخدام هذه الأسلحة بأسلوب العمليات التقليدية (هجوم ويلحق به المعارك التصادمية والمطاردة والتعزيز، ودفاع ويلحق به القتال داخل الحصار والقتال بقصد التخلص والارتداد لإعادة التجميع)، وقنبلتا هيروشيما ونجازاكي أصدق شاهد على ما نقول.
كما لا يثنينا عن تأييد هذا الرأي، ما تعارفت عليه الجيوش الحديثة من تدريب قواتها على أساليب الوقاية من الأسلحة النووية، إذ غاية ما نسلم به مع هذه الأدلة المناهضة هو اعتبار الحرب النووية - خصوصا في صورتها الشاملة - نوعا من الحرب التهديدية ليس إلا.
ولعل تأييدنا لمن ينكرون على الصدام النووي صفة الحرب، هو الذي دفعنا إلى دراسة هذه الحرب - إذا جاز تسميتها حربا- في فصل خاص نكتفي فيه بالإشارة إلى المبدأين اللذين يحكمان هذه الحرب، ألا وهما الصدقية، والقدرة على توجيه الضربة الثانية.
ونتناول فيما يلي كلا من هذين المبدأين:
أولا : مبدأ القابلية للتصديق
وأساس هذا المبدأ ما ذكرناه من أن الحرب النووية ليست إلا حربا تهديدية تخاض بالتهديد الجدي لا بالتنفيذ الفعلي. ولهذا فلا يتصور أن تحسم هذه الحرب إلا بأسلوب واحد هو إقناع العدو- ليس فقط بامتلاكنا للمتفجرات النووية - وإنما كذلك بامتلاكنا للوسائط اللازمة لنقل هذه المتفجرات إلى الأهداف المختارة، ولن يتحقق هذا الاقتناع لدى العدو إلا إذا كانت الشواهد كلها تدل على صدق ما نهدد به. فعند هذا القدر من التصديق تحسم الحرب، وتؤتي ثمارها المرجوة، بالرغم من أنها ستبقى في إطارها المرجو لها ألا وهو إطار اللاتنفيذ.
ثانيا: مبدأ القدرة على الضربة التالية
وإذا اعتبرنا أن المبدأ الأول « القابلية للتصديق » هو أساس الهجوم في الحرب النووية، فإن هذا المبدأ « اعتقاد العدو بقدرتنا على توجيه الضربة التالية » هو أساس الدفاع في هذه الحرب.
فالمبدأ المكافئ للمبدأ الأول، يتحقق بإحساس العدو بقدرتنا على رد ضربته بضربة مماثلة في القوة ومضادة في الاتجاه. فعند هذا القدر من القناعة يتحقق التوازن المطلوب للرعب النووي لدى الطرفين، وتخرج بالتالي الوسائل النووية من حلبة التأثير في الصراع السياسي بينهما.
خاتمة
وبعد.. فقد كانت تلك رسالتنا عن المبادئ العامة للحوب التقليدية، وقد توخينا فيها التأصيل مادام مفيدا، والإيجاز مادام كافيا. كما كان حسبنا من هذه الرسالة أن نحيط إحاطة ثقافية بالقواعد الأصولية للحروب وكيفية الإعداد لها، ولهذا فقد راعينا في هذه الإحاطة الثقافية اجتناب التفصيلات الفنية إلا بالقدر الذي نحتاجه لشرح قاعدة أصولية، بل لقد استبعدنا - أحيانا - بعض النظريات الأساسية ما دامت ستجرنا إلى تفصيلات تزيد عن حاجة هذه الدراسة كثيرا، وكان من هذا الذي استبعدناه ما يلي:
1 - نظريات الأمن، وقد استبعدناها عند الحديث عن الحرب التقليدية، نظرا لتعدد هذه النظريات واحتياجها لدراسة خاصة مستقلة توضح النظريات المختلفة للأمن من مثل: نظرية الضمانات الدولية، نظرية الاعتماد على الحلفاء الأقوياء، نظرية الحدود الآمنة، نظرية القوة الرادعة.
2 - الاستراتيجيات المختلفة للعمليات الفعلية من مثل: إستراتيجية المناورة المباشرة، والتي تعتمد على البدء بالتمهيد النيراني المدمر، ثم التقدم لاكتساح الدفاعات مع التوقف بعد إقامة رؤوس الكبارى، وبعد كل استيلاء على خط دفاعي لتأمين الأوضاع، وصد وتدمير الضربات المضادة في مناطق قتل محددة سلفا، ثم تطوير الهجوم لمرحلة تالية، وهكذا.
ويقابل هذه الاستراتيجية استراتيجية الاقتراب غير المباشر التي تعتمد على اختراق قطاعات محدودة بثلاثي (الطائرة - الدبابة - المشاة الميكانيكية)، وتطوير هذا الخرق في العمق التعبوي بقطع خطوط المواصلات، وبث الاضطراب في القيادات الخلفية، ومراكز الشئون الإدارية.
وإلى جوار هاتين الاستراتيجيتين هناك استراتيجية السلاح الحاسم، والتي تعتمد على سلاح معين بصفة أساسية في حسم المعركة، وقد كان هذا السلاح الحاسم في أول الأمر هو السلاح البحري، ثم حل محله فيما بعد السلاح الجوي، وبالاعتماد على هذا السلاح يتم دفع الخطوط الجوية دائما للأمام، ثم تتولى هذه الخطوط بدورها التمهيد لاستيلاء القوات الأخرى على الخطوط التالية، ثم تبدأ عملية دفع جديدة للخط الجوي، وهكذا.
3 - ومن ناحية أخرى فقد استبعدنا بعض التفريعات الفنية، من مثل عناصر الصدم والسيطرة والشئون الفنية في التكتيك، ومن مثل كيفية التجهيز الفني لمسرح العمليات سواء في جانبه الإيجابي المتمثل في تجهيز المسرح لخدمة قواتنا، أو في جانبه السلبي المتمثل في إعداد الوسائل الكفيلة بالحيلولة دون استفادة العدو من تجهيزاته لمسرح العمليات، ومن مثل أنواع الأسلحة النووية وأنواع الوسائط الحاملة لها سواء في الهجوم أو في الشبكات المضادة.
وقد كان أساس استبعادنا لهذه التفريعات الفنية هو احتياجها لدراسة تفصيلية تجاوز الغرض المنشود، فضلا عن أنها تفوق طاقتنا في الوقت الحاضر، وإن كان أملنا كبيرا في العودة لهذه التفريعات بدراسة تفصيلية إن لم يكفنا غيرنا مشقة الكتابة فيها بالطبع.
وبقيت كلمة أخيرة.. أننا مطالبون بالأخذ بكل أسباب القوة، ولكننا مطالبون كذلك بأن نستيقن بأن النصر من عند الله.
أقول ذلك مهما ظن الدهريون أنهم قادرون على ما يريدون.
{وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله}
صدق الله العظيم
منقووول