مراحل الانحراف عن شرع الله (1-3)
رأفت صلاح
26 - 3 - 2008
من القمة الشامخة إلى الحضيض الذي تعانيه الأمة اليوم.. مسافة هائلة تبعث على الذهول .
كيف تأتىّ للأمة التي ارتفعت إلى تلك القمم السامقة التي لم تسبقها إليها أمة في التاريخ ولا أدركتها بعدها أمة في التاريخ أن تتدنى إلى هذا الدرك من الضياع والذل والهوان والهبوط المسف الذي وصلت إليه اليوم والذي لا تكاد تدانيه أمة في الواقع المعاصر.
إن هناك أمما " تاريخية " وصلت إلى أمجاد ضخمة وتمكنت في الأرض قرونا عدة وسيطرت على مساحات شاسعة من الأرض وملكت من وسائل القوة الأرضية ما يفوق الحصر.. ثم اندثرت تماما كأن لم تكن قط وكما حدث للإمبراطورية الرومانية العتيدة أكبر إمبراطوريات التاريخ والإمبراطورية الفارسية التي كانت تنازعها السيادة في الأرض وجرى ذلك كله سواء في التمكين والقوة أو الدمار والاندثار حسب سنن ربانية لا تتبدل وحسب مشيئة ربانية هي التي أجرت هذه السنن في الحياة البشرية:
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)} [سورة الرعد 13/41] {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43} [سورة فاطر 35/43] ولكن.. أمة العقيدة. هل تجرى عليها ذات السنن التي تجرى على الجاهليات؟!
يرى ابن خلدون - من دراسته للتاريخ - أن هناك " سنة " تدول الدول بمقتضاها.. هي سنة " الشيخوخة" فالدول في رأيه تولد ضعيفة ثم تقوى ويشتد عودها وتعظم قوتها ثم تهرم كما يهرم الفرد فتذبل ملكاتها وتتلاشى طاقاتها فتصير إلى الزوال..
ولكي نعرف كيف انحرفت أمة الإسلام عن شرع الله، نعود للوراء حتى نحصر محطات الانحراف التي مرت بها البشرية عن شريعة الله، وسنة الله التي جرت عليهم لما وصلوا لهذه المرحلة:
1- عشرة قرون يتحاكمون إلى شرع الله: إن آدم وذريته من بعده كانوا على التوحيد عشرة قرون، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه، فكانوا يتحاكمون إلى شرع الله .
2- ثم وقعت الأمة في الشرك بعد نوح عليه السلام ، فبعث الله النبيين وأرسل الرسل، وأنزل الله تعالى الكتب لتحكم بين الناس فيما يختلفون فيه، فلم يترك الله تبارك وتعالى الإنسانية هملاً، ولم يترك الجماعة البشرية بلا كتاب ولا شريعة تنظم حياتهم، فلا يزعم زاعم أن الكتب السماوية إنما نزلت لتنظيم ما يسمونه بالجانب الروحي فقط، وتركت للناس الاحتكام إلى الطواغيت أو الأهواء أو الشرائع الوضعية عامة.
3- كيف انحرفت البشرية عن شرع الله: أي كيف نشأت القوانين الوضعية، وكيف نشأ الحكم بغير ما أنزل الله حتى أصبح الناس يتحاكمون إلى شرع غير شرع الله؟
فأما كيف وجدت هذه الشرائع فبحسب ترتيبها.
المرحلة الأولى : الاحتكام إلى الأعراف:
أول ما وجد عند الناس من الانحراف هو الاحتكام إلى الأعراف والعادات والتقاليد وشيوخ القبائل والملوك المتسلطين المتألهين، فلم تكن القوانين مكتوبة.
فالمرحلة الأولى من مراحل الانحراف لم تكن القوانين مكتوبة، فلم يضاهوا فيها شرع الله، وهذه المرحلة موجودة في كثير من الأمم البدائية، وما تزال إلى هذه اللحظة عند الأمم البدائية التي لم تعرف الكتابة، فيحتكمون إلى هذه الأعراف والتقاليد والأوضاع المألوفة كما في البوادي، حتى في البلاد الإسلامية وجزيرة العرب .
المرحلة الثانية : بداية تدوين القانون :
التاريخ القديم سجل لنا بعض الأحكام التي وجدت والتي ربما نقشت أو كتبت، ومن أشهرها:
1- قوانين الملك الآشوري القديم حمورابي: وهو سادس ملوك بابل وأشهرهم (1792-1750 ) ق.م ، وقد دونها على حجر من الديوريت بالكتابة المسمارية ، وباللغة الأكادية البابلية ، وهذه القوانين يعتبرها القانونيون أساساً للتشريع الحديث، وهو يتألف من 300 مادة بعضها محي وباقي منها 282 ، في متحف اللوفر بباريس، ومواد هذه القوانين قصيرة موجزة ، وهى تقرر لكل حادثة حكما فتبدأ بـ "إذا" ثم تبين الحكم بعد ذلك ، وقد تضمنت أحكام للتقاضي والعقوبات والملكية والأسرة والمواريث ونظم العقود الشائعة في عصر، فالرجل إذا قتل رجلاً أو سرق ثوراً فله حكم كذا وكذا من العقوبة.
بالنسبة لهذه القوانين نحن نعتقد أن ما كان فيها من خير وحق فإنه يحتمل أن يكون أُخِذها عن شريعة نبي لم يذكر، أو من بقايا كتب ورسالات أنزلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإما أن يكون اجتهاداً ووافق بعض الصواب، ثم جاء بالباقي من عند نفسه كأي طاغوت من الطواغيت يضع من عنده تشريعات، فنجد فيها ما يوافق الحق أحياناً اتفاقاً، وأما الباقي فهو مردود عليه، ولا يعد ذلك فتحاً ولا تجديداً، وإنما يعد انحرافاً واحتكاماً إلى الطاغوت، ولو أنهم رجعوا إلى دين الله وإلى شرعه لوجدوا خيراً كثيراً، فكل أمة أنزل الله تبارك وتعالى لها من الشرع والدين ما يكفل لها صلاح حياتها ونظامها.
2- ثم في التاريخ الوسيط -كما يسمونه- القرون الوسطى، نجد أن أشهر من وجدت عندهم من الأمم التشريعات والقوانين المكتوبة هم الرومان، ولذلك إلى الآن يقولون: إن القانون الروماني هو أفضل وأوسع وأشمل أنواع القوانين المعروفة في القرون الوسطى، لأنهم لا يعدون شريعة الإسلام ودين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرعاً، ولا يعترفون به مع أنه كان يحكم الحياة جميعها، وهو تشريع مكتوب أيضاً.
* فالمقصود أن المرحلة الثانية هي مرحلة تدوين القوانين، وأنها أول ما ابتدأت بشكلها القريب من المعاصر في عصر الإمبراطورية البيزنطية أو الإمبراطورية الرومانية، وأشهر هذه القوانين قوانين الإمبراطور جوستنيان الذي ظهر في أواخر القرن السادس الميلادي(527 م )، فهو معاصر لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقريباً، وبلغت الإمبراطورية الرومانية في عصره شأناً عظيماً، وكتبت القوانين المسماة قوانين (مدونة ) جوستنيان .
وكان دينهم في ذلك الزمان هو النصرانية ؛ لأن النصرانية دخلت إلى أوروبا عام (325م) والإمبراطور الذي اعتنق النصرانية وأدخلها في بلاده هو قسطنطين، وهو الذي جمع الأساقفة واختار دين التثليث ، وترك مذهب التوحيد. وأخذ هذا الدين المنحرف من المحرف الأكبر شاؤول الذي غير اسمه إلى بولس اليهودي.
ولما لم تجد الدولة النصرانية الكفاية في تسيير شئون حياتها وتلبية احتياجات الناس بسبب النقص الحاصل في التوراة، ووجدت نفسها أنها في حاجة إلى تنظيمات وإلى تشريعات، ووجدوا أن لهم أعرافاً وقوانين وأنظمة جاء جوستنيان وأمثاله فنظموها، ثم كتب بعد ذلك عدة قوانين وانتشرت حتى سمي القانون الروماني، وهذه قصة التاريخ أو التقنين في العصور الوسطى كما يسمونها.
المرحلة الثالثة: قيام الثورة الفرنسية:
وهذه هي المعلم الفاصل في تاريخ أوروبا الذي يعتبرونه فجر العصر الحديث والإنسانية كلها، وهي الثورة الفرنسية التي قامت سنة (1789م)، فأقامت لأول مرة في تاريخ أوروبا النصرانية مبادئ لا تستند إلى الدين في شيء، وجعلت ارتكاز الحياة والاحتكام في الحياة إلى أهواء الناس، وكان شعارهم وهم يتظاهرون ويذبحون ويسفكون الدماء: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس، أي: أنهم يقضون على الإقطاع الملكي من جهة وعلى الدين من جهة أخرى، لتقوم دولة علمانية لا تحتكم إلى الدين في شيء، كذلك نحيت التوراة والإنجيل وما فيها من أحكام، وابتدأ الناس في وضع الأحكام الوضعية والقوانين الوضعية، وأخذوا يفكرون في إنشاء دساتير.
طريقة الدساتير المكتوبة :
وبعد الثورة الفرنسية ظهر نابليون الذي اجتاح معظم أوروبا ، هذا الطاغوت الكبير عندما ظهر وضع لهم القانون الأول المكتوب في أوروبا وهو المعروف بقانون "نابليون " وضعه عام (1804 م)، وهو عبارة عن مدونة في الأحكام أغلبها يتعلق في المعاملات وما أشبه ذلك، فانقسم بعد ذلك التاريخ الأوروبي التشريعي -أي: التقنيني- على فرعين:
الفرع الأول : الذي أخذ بالاتجاه الفرنسي، وهذا يضع التقنينات التفصيلية في كل شيء، وفرنسا نموذج لذلك، فهناك قانون التجارة، وقانون القضاء، ودستور البلاد.
ثم القوانين الفرعية: القانون المدني، والقانون التجاري، والقانون الإداري، وكل ذلك نما مع الزمن وتطور وتتدرج إلى أن وصل إلى المرحلة التي نراها اليوم.
الفرع الثاني: طريقة القوانين غير المكتوبة:
وهو الاتجاه الذي ساد في بريطانيا ويمثله في الدرجة الأساسية الإنجليز، وهم لا يأخذون التقنين على أنه مواد مكتوبة، وإنما أخذوا طريقة العرف المتبع أو القوانين غير المكتوبة نظام السوابق، فيأتون إلى القضاء الإنجليزي، فإذا وقعت قضية إن كان لها سابقة رجع إلى ما كان قد عمل به وحكم به الأولون، وإن كانت قضية جديدة فهذه توضع وتكون سابقة، وهكذا، فيسمى نظام السوابق، وهو نظام غير مدون على الشكل الفرنسي.
والعالم الإسلامي نقل النموذجين فتجد هنالك دولاً أخذت الطريقة الفرنسية فتكتب الدستور مائة مادة أو مائتين مادة، ثم بعد ذلك تغيره، وكل أمر من أمورها ترجع فيه إلى مادة من مواد الدستور، وبعضهم جرى على الطريقة الإنجليزية - الأنجلو سكسونية- وهي طريقة الرجوع إلى الأعراف، فيقال: قد سبق أنه في عام كذا صدر مرسوم بكذا، وهكذا تدرس اللجنة القضائية القضية وتتخذ فيها حكماً، ثم يصبح سابقة، وتأتي قضية أخرى تدرسها كذلك، فيسمى نظام السوابق.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية حصل فيها دمج بين النظامين، فمن جهة الدستور فمكتوب، وهو الذي يفخر به الأمريكيون؛ لأنهم وضعوه عند قيام اتحاد الولايات الأمريكية ، وفي نفس الوقت نجد أن الأنظمة في أمريكا كالقانون المدني والتجاري وما أشبه ذلك على الطريقة الإنجليزية ليس مكتوباً، وإنما هو حسب السوابق، فهذا مجمل للكيفية التي يحتكم بها هؤلاء المتحاكمون إلى الطواغيت وإلى القوانين.
القوانين الوضعية في بلاد الإسلام :
كانت الشريعة الإسلامية هي القانون الوحيد الذي يتحاكم إليه ويقضى به في بلاد المسلمين، وكان بعض المسلمين يتهاونون في تطبيق بعض الأحكام الشرعية، ولكن لم يحدث أن اتخذ المسلمون قانونا لهم غير الشريعة الإسلامية في تاريخهم، وبقيت الشريعة الإسلامية هي المهيمنة والحاكمة إلى منتصف القرن الثالث عشر الهجري حيث بدأت القوانين الوضعية تتحكم في رقاب المسلمين ، فكيف تم ذلك:
1- بدأ الانحراف مبكرا جدا في حياة هذه الأمة، بدأ منذ العصر الأموي أول كسر في المبادئ الإِسلامية فـي سياسة الحكم وسياسة المال، إذ بدأ "الملك العضوض" بنظامه الوراثي ومظالمه، وبدأ ما يشبه الإِقطاع في محيط الأمراء وأتباع السلطان.
ومع ذلك فقد ظل المجتمع إسلامياً فـي مجموعه. كانت العاصمة وحدها هي التي فسدت . فسدت فساداً جزئيا في سياسة الحكم والمال بالنسبة للملوك والأمراء . ولكن ما زال أولئك الحكام أنفسهم - رغم انحرافهم - يقرون بمبادئ الإِسلام ويحكمون شريعة الله في شئون الناس ، كبيرها وصغيرها ، مع التحايل عليها أحياناً فيما يختص بأشخاصهم وأقربائهم قي شئون الحكم والمال.
2- ثم جاء العصر العباسي .. ودخل الفرس في توجيه سياسة الدولة وتشكيل صورتها. ودخل في "الفكر الإِسلامي" بعض المفاهيم الغريبة عليه - وأبرزها الصوفية والفلسفة النظرية التجريدية الغريبة على التصور الإِسلامي في واقعيته المثالية - كما دخل العاصمة كثير من ألوان الفساد الخلقي ، وانتشر في قصور الخلفاء والأمراء والأتباع جو من اللهو والفسوق والتفاهة والانصراف عن الكدح والجد .. لا يعرفه الإِسلام ولا يمكن أن يسيغه . من جوارٍ ومطربين وملهين، وألوان من البذخ الفاحش، والترف الفاجر ، و " أدباء " يُمِدُّون لهذا كله ليرتزقوا ، ومع ذلك كانت الشريعة هي المهيمنة.
3- الحكم بالسياسة: كان بعض أمراء الدولة الإسلامية يخرج على أحكام الشريعة بدعوى أنه يسوس الأمة ويقودها ، ويسمى هذا الخروج سياسة ، يقول ابن تيميه رحمه الله : (( وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعا من السياسات الجائرة من أخذ أموال لا يجوز أخذها ، وعقوبات على الجرائم لا تجوز )) وقد كان الجهل بالشريعة هو الذي أدي إلي خروج الأمراء علي بعض أحكام الشريعة يقول ابن تيمية مبينا بدء العمل بالسياسة المخالفة للشريعة : (( فلما صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلي سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق , ولم يكن ما معهم من العلم كافيا في السياسة العادية احتاجوا حينئذ إلي ولاية المظالم وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع , وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال الشرع والسياسة وهذا يدعو خصمه إلي الشرع وهذا يدعو إلي السياسة سوغ حاكما أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة )) وقد أصبحت السياسة لافتة يحكم من ورائها بحكم الشيطان ويخرج علي حكم الرحمن، وباسم السياسة وضع حكام الدولة العثمانية عدة قوانين مخالفة للشريعة في وقت مبكر من قيام الدولة العثمانية.
المرحلة الرابعة:
4 - ظهر أول نموذج في العالم الإسلامي يخرج عن حدود الشرع من القوانين ، هو نموذج الياسق أو الياسا، الذي أتى به التتار، وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية تكلم في فتواه المشهورة عن التتار، وهو أكثر من فصّل في الياسق، وما هو حاله وشأنه وتاريخه.
وكذلك المقريزي في كتاب الخطط عندما تكلم عن المماليك في مصر ، وأنهم كانوا يتحاكمون إلى الياسق، قال: وهذا الياسق عبارة عن كتاب وضعه جنكيز خان.
والحافظ ابن كثير رحمه الله ذكر ذلك باقتضاب في تفسير قول الله تبارك وتعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] قال: مثل ما يتحاكم به التتار إلى كتابهم الذي يسمى الياسق. وجنكيز خان من أكبر الطواغيت في العصر الوسيط أو التاريخ الإسلامي، فقد جمع القبائل الهمجية من المغول في أواسط آسيا ثم اكتسح بهم الجانب الشرقي من العالم الإسلامي في بلاد ما وراء النهر ، وهي بلاد عظيمة فسيحة جداً، وكان في أيام الدولة الخوارزمية، وما كان أحد يأبه لهذه القبائل، واجتاحت هذه القبائل بعد حروب دامية الجانب الشرقي من العالم الإسلامي ودمرته، ثم أتوا على بلاد السند التي تسمى الآن باكستان ، وبلاد خراسان وأفغانستان ، وشمال إيران ثم بلاد فارس ، ثم وصل حفيده هولاكو إلى بغداد عام (656هـ) التي كانت فيها وقعة التتار المشهورة في بغداد ، وكانوا يعتقدون أنه إله، وأنه ابن الشمس، ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في رده عليهم يقول: ''هذه شمس، نزلت إلى الخيمة، ثم حملت به أمه ودخلت الخيمة'' كيف هذا؟! فهذا اعتراف منهم بأنهم لا يعرفون له أباً، فهو ابن غير شرعي -نعوذ بالله- والشاهد أن هذه العقيدة هي التي يعتقدها أكثر المجوس إلى الآن، حتى اليابانيون يعتقدون أن الإمبراطور من سلالة الشمس، وهي نفس العقيدة القديمة الموجودة عند البوذيين المجوس في شرق آسيا.
فقالوا إن هذا الرجل لما كان بهذه العظمة وبهذه المنـزلة جمع هذه القبائل ووضع لهم تشريعات وقوانين، وكتبها كما يقول المقريزي في ألواح من الفولاذ، وجعلها شرعاً في بنيه يحتكمون إليها، وهو أقرب إلى القوانين العسكرية المعروفة الآن.
لكن كما يقول ابن كثير رحمه الله: ''اشتمل على بعض الأحكام من المجوسية واليهودية وبعض الأحكام اقتبسها من الشريعة الإسلامية، وأحكام أخرى وضعها من عنده فجمع وغيَّر وبَدَّل كما يشاء {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82]'' .
وقد كتبه في مجلدين كبيرين بخط غليظ ، وكان يحمل عندهم على بعير ، ولما اكتمل وضعه كتبه نقشا على صفائح الفولاذ . ولما غزا هولاكو بغداد واجتاح التتار العالم الإسلامي، حصل أن بعض التتار أسلموا لكنه كان إسلاما ضعيفاً كإسلام كثير ممن يعيش في دول الغرب ليس لهم من الدين إلا الاسم، وكانت قوة الإسلام متمركزة في بلاد الشام ومصر.
وهنا تأتي فتوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في التتار ذلك الحين، التي كان سببها كما ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية أن الناس اختلفوا في شأن التتار، فقال قوم: كيف نقاتلهم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذه الشبهة القديمة الحديثة المتجددة، وقال قوم: يقاتلون قتال البغاة، وقال قوم: يقاتلون قتال الخوارج فاختلف الناس في أمرهم، وصارت ضجة ولم يحسم العلماء الموقف في شأنهم، فيقول الحافظ ابن كثير : فأصدر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله فتواه في شأنهم، فاجتمعت عليها الكلمة، واتفقت عليها الأمة والحمد لله، وهو أنه قال: إنهم يحتكمون إلى الياسق الذي وضعه الطاغوت جنكيز خان فلم يحكموا بشرع الله، فهذا مما يبرر قتالهم قتال الخارجين على شريعة الله تعالى ودينه، فبناءً على ذلك وفق الله تعالى المسلمين كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله واجتمعت كلمتهم وخرجوا ومعهم شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، لقتال التتار صفاً واحداً، وكان شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله يقاتلهم ويبشر المسلمين بالنصر، حتى كسر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شوكة التتار وخفض أمرهم وانتصر عليهم المسلمون.
رأفت صلاح
26 - 3 - 2008
من القمة الشامخة إلى الحضيض الذي تعانيه الأمة اليوم.. مسافة هائلة تبعث على الذهول .
كيف تأتىّ للأمة التي ارتفعت إلى تلك القمم السامقة التي لم تسبقها إليها أمة في التاريخ ولا أدركتها بعدها أمة في التاريخ أن تتدنى إلى هذا الدرك من الضياع والذل والهوان والهبوط المسف الذي وصلت إليه اليوم والذي لا تكاد تدانيه أمة في الواقع المعاصر.
إن هناك أمما " تاريخية " وصلت إلى أمجاد ضخمة وتمكنت في الأرض قرونا عدة وسيطرت على مساحات شاسعة من الأرض وملكت من وسائل القوة الأرضية ما يفوق الحصر.. ثم اندثرت تماما كأن لم تكن قط وكما حدث للإمبراطورية الرومانية العتيدة أكبر إمبراطوريات التاريخ والإمبراطورية الفارسية التي كانت تنازعها السيادة في الأرض وجرى ذلك كله سواء في التمكين والقوة أو الدمار والاندثار حسب سنن ربانية لا تتبدل وحسب مشيئة ربانية هي التي أجرت هذه السنن في الحياة البشرية:
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)} [سورة الرعد 13/41] {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43} [سورة فاطر 35/43] ولكن.. أمة العقيدة. هل تجرى عليها ذات السنن التي تجرى على الجاهليات؟!
يرى ابن خلدون - من دراسته للتاريخ - أن هناك " سنة " تدول الدول بمقتضاها.. هي سنة " الشيخوخة" فالدول في رأيه تولد ضعيفة ثم تقوى ويشتد عودها وتعظم قوتها ثم تهرم كما يهرم الفرد فتذبل ملكاتها وتتلاشى طاقاتها فتصير إلى الزوال..
ولكي نعرف كيف انحرفت أمة الإسلام عن شرع الله، نعود للوراء حتى نحصر محطات الانحراف التي مرت بها البشرية عن شريعة الله، وسنة الله التي جرت عليهم لما وصلوا لهذه المرحلة:
1- عشرة قرون يتحاكمون إلى شرع الله: إن آدم وذريته من بعده كانوا على التوحيد عشرة قرون، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه، فكانوا يتحاكمون إلى شرع الله .
2- ثم وقعت الأمة في الشرك بعد نوح عليه السلام ، فبعث الله النبيين وأرسل الرسل، وأنزل الله تعالى الكتب لتحكم بين الناس فيما يختلفون فيه، فلم يترك الله تبارك وتعالى الإنسانية هملاً، ولم يترك الجماعة البشرية بلا كتاب ولا شريعة تنظم حياتهم، فلا يزعم زاعم أن الكتب السماوية إنما نزلت لتنظيم ما يسمونه بالجانب الروحي فقط، وتركت للناس الاحتكام إلى الطواغيت أو الأهواء أو الشرائع الوضعية عامة.
3- كيف انحرفت البشرية عن شرع الله: أي كيف نشأت القوانين الوضعية، وكيف نشأ الحكم بغير ما أنزل الله حتى أصبح الناس يتحاكمون إلى شرع غير شرع الله؟
فأما كيف وجدت هذه الشرائع فبحسب ترتيبها.
المرحلة الأولى : الاحتكام إلى الأعراف:
أول ما وجد عند الناس من الانحراف هو الاحتكام إلى الأعراف والعادات والتقاليد وشيوخ القبائل والملوك المتسلطين المتألهين، فلم تكن القوانين مكتوبة.
فالمرحلة الأولى من مراحل الانحراف لم تكن القوانين مكتوبة، فلم يضاهوا فيها شرع الله، وهذه المرحلة موجودة في كثير من الأمم البدائية، وما تزال إلى هذه اللحظة عند الأمم البدائية التي لم تعرف الكتابة، فيحتكمون إلى هذه الأعراف والتقاليد والأوضاع المألوفة كما في البوادي، حتى في البلاد الإسلامية وجزيرة العرب .
المرحلة الثانية : بداية تدوين القانون :
التاريخ القديم سجل لنا بعض الأحكام التي وجدت والتي ربما نقشت أو كتبت، ومن أشهرها:
1- قوانين الملك الآشوري القديم حمورابي: وهو سادس ملوك بابل وأشهرهم (1792-1750 ) ق.م ، وقد دونها على حجر من الديوريت بالكتابة المسمارية ، وباللغة الأكادية البابلية ، وهذه القوانين يعتبرها القانونيون أساساً للتشريع الحديث، وهو يتألف من 300 مادة بعضها محي وباقي منها 282 ، في متحف اللوفر بباريس، ومواد هذه القوانين قصيرة موجزة ، وهى تقرر لكل حادثة حكما فتبدأ بـ "إذا" ثم تبين الحكم بعد ذلك ، وقد تضمنت أحكام للتقاضي والعقوبات والملكية والأسرة والمواريث ونظم العقود الشائعة في عصر، فالرجل إذا قتل رجلاً أو سرق ثوراً فله حكم كذا وكذا من العقوبة.
بالنسبة لهذه القوانين نحن نعتقد أن ما كان فيها من خير وحق فإنه يحتمل أن يكون أُخِذها عن شريعة نبي لم يذكر، أو من بقايا كتب ورسالات أنزلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإما أن يكون اجتهاداً ووافق بعض الصواب، ثم جاء بالباقي من عند نفسه كأي طاغوت من الطواغيت يضع من عنده تشريعات، فنجد فيها ما يوافق الحق أحياناً اتفاقاً، وأما الباقي فهو مردود عليه، ولا يعد ذلك فتحاً ولا تجديداً، وإنما يعد انحرافاً واحتكاماً إلى الطاغوت، ولو أنهم رجعوا إلى دين الله وإلى شرعه لوجدوا خيراً كثيراً، فكل أمة أنزل الله تبارك وتعالى لها من الشرع والدين ما يكفل لها صلاح حياتها ونظامها.
2- ثم في التاريخ الوسيط -كما يسمونه- القرون الوسطى، نجد أن أشهر من وجدت عندهم من الأمم التشريعات والقوانين المكتوبة هم الرومان، ولذلك إلى الآن يقولون: إن القانون الروماني هو أفضل وأوسع وأشمل أنواع القوانين المعروفة في القرون الوسطى، لأنهم لا يعدون شريعة الإسلام ودين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرعاً، ولا يعترفون به مع أنه كان يحكم الحياة جميعها، وهو تشريع مكتوب أيضاً.
* فالمقصود أن المرحلة الثانية هي مرحلة تدوين القوانين، وأنها أول ما ابتدأت بشكلها القريب من المعاصر في عصر الإمبراطورية البيزنطية أو الإمبراطورية الرومانية، وأشهر هذه القوانين قوانين الإمبراطور جوستنيان الذي ظهر في أواخر القرن السادس الميلادي(527 م )، فهو معاصر لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقريباً، وبلغت الإمبراطورية الرومانية في عصره شأناً عظيماً، وكتبت القوانين المسماة قوانين (مدونة ) جوستنيان .
وكان دينهم في ذلك الزمان هو النصرانية ؛ لأن النصرانية دخلت إلى أوروبا عام (325م) والإمبراطور الذي اعتنق النصرانية وأدخلها في بلاده هو قسطنطين، وهو الذي جمع الأساقفة واختار دين التثليث ، وترك مذهب التوحيد. وأخذ هذا الدين المنحرف من المحرف الأكبر شاؤول الذي غير اسمه إلى بولس اليهودي.
ولما لم تجد الدولة النصرانية الكفاية في تسيير شئون حياتها وتلبية احتياجات الناس بسبب النقص الحاصل في التوراة، ووجدت نفسها أنها في حاجة إلى تنظيمات وإلى تشريعات، ووجدوا أن لهم أعرافاً وقوانين وأنظمة جاء جوستنيان وأمثاله فنظموها، ثم كتب بعد ذلك عدة قوانين وانتشرت حتى سمي القانون الروماني، وهذه قصة التاريخ أو التقنين في العصور الوسطى كما يسمونها.
المرحلة الثالثة: قيام الثورة الفرنسية:
وهذه هي المعلم الفاصل في تاريخ أوروبا الذي يعتبرونه فجر العصر الحديث والإنسانية كلها، وهي الثورة الفرنسية التي قامت سنة (1789م)، فأقامت لأول مرة في تاريخ أوروبا النصرانية مبادئ لا تستند إلى الدين في شيء، وجعلت ارتكاز الحياة والاحتكام في الحياة إلى أهواء الناس، وكان شعارهم وهم يتظاهرون ويذبحون ويسفكون الدماء: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس، أي: أنهم يقضون على الإقطاع الملكي من جهة وعلى الدين من جهة أخرى، لتقوم دولة علمانية لا تحتكم إلى الدين في شيء، كذلك نحيت التوراة والإنجيل وما فيها من أحكام، وابتدأ الناس في وضع الأحكام الوضعية والقوانين الوضعية، وأخذوا يفكرون في إنشاء دساتير.
طريقة الدساتير المكتوبة :
وبعد الثورة الفرنسية ظهر نابليون الذي اجتاح معظم أوروبا ، هذا الطاغوت الكبير عندما ظهر وضع لهم القانون الأول المكتوب في أوروبا وهو المعروف بقانون "نابليون " وضعه عام (1804 م)، وهو عبارة عن مدونة في الأحكام أغلبها يتعلق في المعاملات وما أشبه ذلك، فانقسم بعد ذلك التاريخ الأوروبي التشريعي -أي: التقنيني- على فرعين:
الفرع الأول : الذي أخذ بالاتجاه الفرنسي، وهذا يضع التقنينات التفصيلية في كل شيء، وفرنسا نموذج لذلك، فهناك قانون التجارة، وقانون القضاء، ودستور البلاد.
ثم القوانين الفرعية: القانون المدني، والقانون التجاري، والقانون الإداري، وكل ذلك نما مع الزمن وتطور وتتدرج إلى أن وصل إلى المرحلة التي نراها اليوم.
الفرع الثاني: طريقة القوانين غير المكتوبة:
وهو الاتجاه الذي ساد في بريطانيا ويمثله في الدرجة الأساسية الإنجليز، وهم لا يأخذون التقنين على أنه مواد مكتوبة، وإنما أخذوا طريقة العرف المتبع أو القوانين غير المكتوبة نظام السوابق، فيأتون إلى القضاء الإنجليزي، فإذا وقعت قضية إن كان لها سابقة رجع إلى ما كان قد عمل به وحكم به الأولون، وإن كانت قضية جديدة فهذه توضع وتكون سابقة، وهكذا، فيسمى نظام السوابق، وهو نظام غير مدون على الشكل الفرنسي.
والعالم الإسلامي نقل النموذجين فتجد هنالك دولاً أخذت الطريقة الفرنسية فتكتب الدستور مائة مادة أو مائتين مادة، ثم بعد ذلك تغيره، وكل أمر من أمورها ترجع فيه إلى مادة من مواد الدستور، وبعضهم جرى على الطريقة الإنجليزية - الأنجلو سكسونية- وهي طريقة الرجوع إلى الأعراف، فيقال: قد سبق أنه في عام كذا صدر مرسوم بكذا، وهكذا تدرس اللجنة القضائية القضية وتتخذ فيها حكماً، ثم يصبح سابقة، وتأتي قضية أخرى تدرسها كذلك، فيسمى نظام السوابق.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية حصل فيها دمج بين النظامين، فمن جهة الدستور فمكتوب، وهو الذي يفخر به الأمريكيون؛ لأنهم وضعوه عند قيام اتحاد الولايات الأمريكية ، وفي نفس الوقت نجد أن الأنظمة في أمريكا كالقانون المدني والتجاري وما أشبه ذلك على الطريقة الإنجليزية ليس مكتوباً، وإنما هو حسب السوابق، فهذا مجمل للكيفية التي يحتكم بها هؤلاء المتحاكمون إلى الطواغيت وإلى القوانين.
القوانين الوضعية في بلاد الإسلام :
كانت الشريعة الإسلامية هي القانون الوحيد الذي يتحاكم إليه ويقضى به في بلاد المسلمين، وكان بعض المسلمين يتهاونون في تطبيق بعض الأحكام الشرعية، ولكن لم يحدث أن اتخذ المسلمون قانونا لهم غير الشريعة الإسلامية في تاريخهم، وبقيت الشريعة الإسلامية هي المهيمنة والحاكمة إلى منتصف القرن الثالث عشر الهجري حيث بدأت القوانين الوضعية تتحكم في رقاب المسلمين ، فكيف تم ذلك:
1- بدأ الانحراف مبكرا جدا في حياة هذه الأمة، بدأ منذ العصر الأموي أول كسر في المبادئ الإِسلامية فـي سياسة الحكم وسياسة المال، إذ بدأ "الملك العضوض" بنظامه الوراثي ومظالمه، وبدأ ما يشبه الإِقطاع في محيط الأمراء وأتباع السلطان.
ومع ذلك فقد ظل المجتمع إسلامياً فـي مجموعه. كانت العاصمة وحدها هي التي فسدت . فسدت فساداً جزئيا في سياسة الحكم والمال بالنسبة للملوك والأمراء . ولكن ما زال أولئك الحكام أنفسهم - رغم انحرافهم - يقرون بمبادئ الإِسلام ويحكمون شريعة الله في شئون الناس ، كبيرها وصغيرها ، مع التحايل عليها أحياناً فيما يختص بأشخاصهم وأقربائهم قي شئون الحكم والمال.
2- ثم جاء العصر العباسي .. ودخل الفرس في توجيه سياسة الدولة وتشكيل صورتها. ودخل في "الفكر الإِسلامي" بعض المفاهيم الغريبة عليه - وأبرزها الصوفية والفلسفة النظرية التجريدية الغريبة على التصور الإِسلامي في واقعيته المثالية - كما دخل العاصمة كثير من ألوان الفساد الخلقي ، وانتشر في قصور الخلفاء والأمراء والأتباع جو من اللهو والفسوق والتفاهة والانصراف عن الكدح والجد .. لا يعرفه الإِسلام ولا يمكن أن يسيغه . من جوارٍ ومطربين وملهين، وألوان من البذخ الفاحش، والترف الفاجر ، و " أدباء " يُمِدُّون لهذا كله ليرتزقوا ، ومع ذلك كانت الشريعة هي المهيمنة.
3- الحكم بالسياسة: كان بعض أمراء الدولة الإسلامية يخرج على أحكام الشريعة بدعوى أنه يسوس الأمة ويقودها ، ويسمى هذا الخروج سياسة ، يقول ابن تيميه رحمه الله : (( وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعا من السياسات الجائرة من أخذ أموال لا يجوز أخذها ، وعقوبات على الجرائم لا تجوز )) وقد كان الجهل بالشريعة هو الذي أدي إلي خروج الأمراء علي بعض أحكام الشريعة يقول ابن تيمية مبينا بدء العمل بالسياسة المخالفة للشريعة : (( فلما صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلي سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق , ولم يكن ما معهم من العلم كافيا في السياسة العادية احتاجوا حينئذ إلي ولاية المظالم وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع , وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال الشرع والسياسة وهذا يدعو خصمه إلي الشرع وهذا يدعو إلي السياسة سوغ حاكما أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة )) وقد أصبحت السياسة لافتة يحكم من ورائها بحكم الشيطان ويخرج علي حكم الرحمن، وباسم السياسة وضع حكام الدولة العثمانية عدة قوانين مخالفة للشريعة في وقت مبكر من قيام الدولة العثمانية.
المرحلة الرابعة:
4 - ظهر أول نموذج في العالم الإسلامي يخرج عن حدود الشرع من القوانين ، هو نموذج الياسق أو الياسا، الذي أتى به التتار، وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية تكلم في فتواه المشهورة عن التتار، وهو أكثر من فصّل في الياسق، وما هو حاله وشأنه وتاريخه.
وكذلك المقريزي في كتاب الخطط عندما تكلم عن المماليك في مصر ، وأنهم كانوا يتحاكمون إلى الياسق، قال: وهذا الياسق عبارة عن كتاب وضعه جنكيز خان.
والحافظ ابن كثير رحمه الله ذكر ذلك باقتضاب في تفسير قول الله تبارك وتعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] قال: مثل ما يتحاكم به التتار إلى كتابهم الذي يسمى الياسق. وجنكيز خان من أكبر الطواغيت في العصر الوسيط أو التاريخ الإسلامي، فقد جمع القبائل الهمجية من المغول في أواسط آسيا ثم اكتسح بهم الجانب الشرقي من العالم الإسلامي في بلاد ما وراء النهر ، وهي بلاد عظيمة فسيحة جداً، وكان في أيام الدولة الخوارزمية، وما كان أحد يأبه لهذه القبائل، واجتاحت هذه القبائل بعد حروب دامية الجانب الشرقي من العالم الإسلامي ودمرته، ثم أتوا على بلاد السند التي تسمى الآن باكستان ، وبلاد خراسان وأفغانستان ، وشمال إيران ثم بلاد فارس ، ثم وصل حفيده هولاكو إلى بغداد عام (656هـ) التي كانت فيها وقعة التتار المشهورة في بغداد ، وكانوا يعتقدون أنه إله، وأنه ابن الشمس، ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في رده عليهم يقول: ''هذه شمس، نزلت إلى الخيمة، ثم حملت به أمه ودخلت الخيمة'' كيف هذا؟! فهذا اعتراف منهم بأنهم لا يعرفون له أباً، فهو ابن غير شرعي -نعوذ بالله- والشاهد أن هذه العقيدة هي التي يعتقدها أكثر المجوس إلى الآن، حتى اليابانيون يعتقدون أن الإمبراطور من سلالة الشمس، وهي نفس العقيدة القديمة الموجودة عند البوذيين المجوس في شرق آسيا.
فقالوا إن هذا الرجل لما كان بهذه العظمة وبهذه المنـزلة جمع هذه القبائل ووضع لهم تشريعات وقوانين، وكتبها كما يقول المقريزي في ألواح من الفولاذ، وجعلها شرعاً في بنيه يحتكمون إليها، وهو أقرب إلى القوانين العسكرية المعروفة الآن.
لكن كما يقول ابن كثير رحمه الله: ''اشتمل على بعض الأحكام من المجوسية واليهودية وبعض الأحكام اقتبسها من الشريعة الإسلامية، وأحكام أخرى وضعها من عنده فجمع وغيَّر وبَدَّل كما يشاء {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82]'' .
وقد كتبه في مجلدين كبيرين بخط غليظ ، وكان يحمل عندهم على بعير ، ولما اكتمل وضعه كتبه نقشا على صفائح الفولاذ . ولما غزا هولاكو بغداد واجتاح التتار العالم الإسلامي، حصل أن بعض التتار أسلموا لكنه كان إسلاما ضعيفاً كإسلام كثير ممن يعيش في دول الغرب ليس لهم من الدين إلا الاسم، وكانت قوة الإسلام متمركزة في بلاد الشام ومصر.
وهنا تأتي فتوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في التتار ذلك الحين، التي كان سببها كما ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية أن الناس اختلفوا في شأن التتار، فقال قوم: كيف نقاتلهم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذه الشبهة القديمة الحديثة المتجددة، وقال قوم: يقاتلون قتال البغاة، وقال قوم: يقاتلون قتال الخوارج فاختلف الناس في أمرهم، وصارت ضجة ولم يحسم العلماء الموقف في شأنهم، فيقول الحافظ ابن كثير : فأصدر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله فتواه في شأنهم، فاجتمعت عليها الكلمة، واتفقت عليها الأمة والحمد لله، وهو أنه قال: إنهم يحتكمون إلى الياسق الذي وضعه الطاغوت جنكيز خان فلم يحكموا بشرع الله، فهذا مما يبرر قتالهم قتال الخارجين على شريعة الله تعالى ودينه، فبناءً على ذلك وفق الله تعالى المسلمين كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله واجتمعت كلمتهم وخرجوا ومعهم شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، لقتال التتار صفاً واحداً، وكان شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله يقاتلهم ويبشر المسلمين بالنصر، حتى كسر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شوكة التتار وخفض أمرهم وانتصر عليهم المسلمون.