في الذكرى 267 لصمود الموصل بوجه غزو نادرشاه
(7431م)
صمود مدينة .. وتلاحم شعب !!
الدكتور إبراهيم خليل العلاف
تميزت ولاية الموصل أبان حكم الجليليين من سنة 1726 إلى سنة 1834 بشخصية محلية واضحة المعالم من جميع النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية والعمرانية .. وكان وراء ذلك عوامل عديدة لعل من أبرزها موقع الموصل الجغرافي ،والتنوع السكني فيها، والعمق الحضاري لها. فضلا عنجدية أهلها ،ونشاطهم ،وانضباطهم، وحبهم لأرضهم ووطنهم واستعدادهم المستمر للتضحية.
وقد برز من حكام الموصل ولاة عديدون، كان في مقدمتهم الحاج حسين باشا ألجليلي 1730_1757،والذي قاد حركة المقاومة الباسلة إثناء تعرض الموصل لغزو الفرس وحصارهم الذي ضربه حولهم الحاكم نادر شاه
(1736_1747).
وكان صمود الموصل ونجاحهم في دفع الخطر الفارسي والحيلولة دون امتداده نحو الشام والأناضول اثر كبير في التفاف الموصليين حوله، ورفع شأن مدينتهم بين مدن الدولة العثمانية.وهنا لابد من التأكيد على أن القصبات المحيطة بالموصل مثل بخد يدا (أي مدينة الله ) وهي قره قوش شاركت بمؤنها وبرجالها في الدفاع عن الموصل استجابة لنداء وجهه واليها الحاج حسين باشا الجليلي قبيل الحصار بضرورة جلب مالديهم من حنطة وسمن ودقيق وتبن وجلب النساء والاطفال إلى الموصل . ولم يبق في باخديدا سوى 80 مقاتلا يدافعون عنها ويحمون الممتلكات ويشاغلون العدو المتقدم لحصار مدينة الموصل وقد ورد كل ذلك في مخطوطة لشاهد عيان من أهاليها هو القس حبش بن الشماس جمعة من عائلة القس إيليا الباخديدي.
ويعد حصار الموصل الذي ابتدأ فجر يوم 14 أيلول-سبتمبر 1743 وانتهى يوم 23 تشرين الأول-أكتوبر 1743 من أهم الإحداث التي شهدها العام الإسلامي خلال القرن الثامن عشر ، وذلك أن نادر شاه لم يكن يريد إن يقف عند حدود الموصل بل كان يستهدف الوطن العربي والعالم الإسلامي كله وتغيير خريطته، ولئن وضع المؤرخون لهذاالغزو التوسيع أسبابا، فان نادر شاه قد زج بلاده في حروب عديدة أنهكت اقتصاد إيران،وتركت أثارها السلبية على الشعب هناك ولمدة ربع قرن من الزمان.
لقد كانت الموصل إحدى البوابات الرئيسية التي كان على الغزاة القادمين من الشرق تجاوزها للوصول إلى بلاد الشام ومصر ومنطقة الهلال الخصيب كله، يضاف إلى ذلك كله إن الموصل كانت مفتاحا إلى البحر المتوسط وقد اتضحت خطة نادر شاه التوسعية حينما طلب من السلطان العثماني محمود الثاني 1808_ 1839 وخلفاءه إعادة المناطق التي استولى عليها العثمانيون ومنها العراق منذ أواسط القرن السادس عشر ولم يكن غزو نادر شاه سنة 1743 الأول، بل سبقته غزوات صغيرة أبرزها غزوة نركز خان للموصل في آذار-مارس سنة 1733 وقد فشلت تلك الغزوات.
في أوائل سنة 1743 وردت أخبار بعزم نادر شاه على غزو العراق، وفي فصل الربيع من السنة ذاتها، تقدم نادر شاه نحو الموصل وعسكر عند قرية يارمجة، ولكن الحاج حسين باشا ألجليلي والي الموصل اعد عدة الدفاع، فحفرت الخنادق، ورممت الأسوار،وعينت المراكز للمدفعيين وملئت بالحبوب والذخائر.. وكان أول اتصال لنادر شاه بالوالي وقد بعث حينما أنفذ عند اقترابه من الموصل شخصين يحملان رسالة إلى مفتى الموصل السيد يحيى بن السيد فخر الدين الاعرجي الحسيني يخاطب فيها عن طريقه الوالي،ويطلب إليه تسليم المدينة والإذعان له بالطاعة.
عندئذ دعا الحاج حسين باشا إلى اجتماع عام في الجامع الأحمر (جامع الخضر عليه السلام)، فقرئت على المجتمعين رسالة نادر شاه، التفت الحاج حسين إلى الأهالي، وسألهم عن رأيهم فأجابه الموصليون جميعا وبصوت واحد أنهم مستعدون للقتال ولو كلفهم إراقة دمائهم جميعاً في سبيل عز وطنهم ومدينتهم . وقد تجمعت لدى الموصليين إبان الحصار وبعده قصصا وحكايات عن بطولات سطرها الوالي وعائلته وأبناء المدينة منها على سبيل المثال رفض الوالي نقل عائلته وإخراجهم من المدينة ووضعهم مع نساء المدينة وإصداره الأوامر بقتلهم جميعا إذا دخل الغزاة وكيف أن البناءين وأصحاب الحرف كانوا يهرعون للدفاع وسد الثغرات في الجدار ومشاغلة العدو .كما أن عددا من فرسان المدينة كانوا يغيرون ليلا على مخيمات العدو في مواقعه .
طوق نادر شاه المدينة وتقدم بثلاثمائة الف مقاتل ونيف وأحاط بقلعة الموصل باشطابية (أي القلعة الرئيسية) والأسوار، وبدأت مدفعية العدو بقصف المدينة قصفا شديداً ويقول احد المؤرخين وكان شاهد عيان "كانت القنابل تتساقط نهاراً على الأسوار كالمطر وليلاً تتناثر كالنجوم من أديم السماء وقد ملأ رعب صوتها تلك الآفاق " .
أستمر قصف المدينة ثمانية أيام بلياليها، ويقول احد المؤرخين وكان شاهد عيان كذلك .. ( استخدم العدو 160 مدفعا و 130 (مدفع هاون) وكان مجموع ما ألقي على المدينة في تلك المدة قد وصل إلى خمسين الف قنبلة، لكن تلك القنابل لم تزد الموصلين إلا أقداما وثباتاً على مواجهة عدوهم والذود عن حياض مدينتهم وشرفهم .
وفي فجر يوم 4 تشرين الأول 1743 أمر نادر شاه بالهجوم العام على المدينة فاخذ الألوف منجنوده يتسلقون الأسوار بواسطة السلالم .كما بدأ العدو بتفجير الألغام تحت الأسوار وحاولت المدفعية إحداث ثغرات (ثلمه) في السور عند البرج الرئيس (باشطابية) إلا أنهم فشلوا بعد أن تصدى لهم الموصليون واشتبكوا مع المهاجمين فكانت معركة رهيبة أستبسل فيها الأهالي وقاتلوا بصبر وشجاعة.
ولم تكن مقاومة القرى المسيحية التي مر بها نادر شاه بأقل من مقاومة أهل مدينة الموصل ونواحيها واقضيتها .
آنذاك.. اضطرنادر شاه إلى الكف عن الحصار وتوجه نحو جزيرة ابن عمر وهو يجر أذيال الخسران، أما الموصليون فقد بدأوا الاحتفال بالنصر وجلس الوالي يستقبل المهنئين وظلت ذكرى هذاالغزو في أذهان سكان الموصل حتى يومنا هذا ولعل من آثار ذلك أن التراث الشعبي الموصل يزخر بالقصائد والأمثال التي تؤكد صبرهم وصمودهم وتلاحمهم في تلك الأيام العصيبة..ولقد أورد المرحوم الأستاذ عبد الخالق خليل الدباغ في كتابه: (معجم أمثال الموصل العامية) الذي أصدره، بجزئين سنة 1956 مثلا يتداوله الموصليون عن حصار نادرشاه يدل على زيادة كرههم للغزاة وقذائف مدفعيتهم ويقول المثل (كنيكي "اي :كأنكي "قنبرة طهماز) وطهماز هو طهماسب أي نادر شاه .. ويضرب المثل لدميمة الخلقة التي لا ترتاح إليها النفس كما كانت يوم الحصار وما خلفته حملة نادر شاه من دمار لدور السكن والعبادة والأبراج والقلاع، ويذكر الأستاذ عبد الغني الملاح رحمه الله في بحث قدمه إلى مركز دراسات الموصل سنة 1993 أن الموصليون كانوا يرددون نوعا من الشعر الشعبي يسخرون به من قنابل نادر شاه وأحلامه التوسعية جاء فيها:
طهماز غاسك (رأسك)أقع (أقرع)
مثل الـجروالمـنقع (أي المبتل)
غــاح (أي سوف)أتعود وترجع
وأنت ذلـيل ومـنهان
طهماز غاسك غاس المخمخة
والدان (القنابل)ما يخـوف مغا (إمرأة)
فشوش (أي فارغ) يرجــع لوغا(أي الى الوراء)
والبدن عــالي البنيان
وروى لي الأستاذ سعيد الديوه جي رحمه الله أن الموصليون حينما كانوا يريدون أن يسخروا من شخص متعجرف ومتكبر يقولون له : ( اشد دعوي "أي لماذا تبالغ"قد تتطهمز علينا!! ) .
لقد اثبت الموصليون عبر التاريخ أنهم قادرون على الصمود والتماسك والتعاون أيام المحن فحبهم لمدينتهم ، وأرضهم، ووطنهم ،هو الذي يدفعهم لذلك.