سرايا الرسول وفوائدها
الدكتور راغب السرجاني
الدكتور راغب السرجاني
سرايا الرسول الأولى في المدينة
بعد نزول آية الإذن بالقتال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعداد التربوي والنفسي للصحابة حتى أصبح الصف الإسلامي جاهزًا للصدام المروع مع قريش. وهنا بدأت الدوريات العسكرية الإسلامية تجوب المنطقة بحثًا عن قوافل قريش المتجهة إلى الشام. وهنا نلاحظ شيئًا مهمًّا، وهو اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكون هذه الدوريات مكوَّنة من المهاجرين فقط، وذلك لعدة أسباب:
1- أنهم هم الذين وقع عليهم الظلم من قريش، وستكون حربهم مع قريش حربًا مفهومة لكل أهل الجزيرة العربية، وسيعذرونهم فيها تمامًا، وبذلك لا تفهم صورة الإسلام بطريقة خاطئة، وخاصة في أيام الإسلام الأولى حيث لم يسمع عنه بعدُ كل العرب.
2- أن المهاجرين سيكونون أكثر حمية وأشد قوة لكونهم يستردون حقًّا شخصيًّا لهم سلبته قريش منهم قبل ذلك، ففرصة النصر في جيش المهاجرين أكبر من فرصة الجيش المختلط من المهاجرين والأنصار.
3- معرفة المهاجرين بأهل قريش وطرق حربهم وقتالهم، فقد عاشوا بين أظهرهم ردحًا طويلاً من الزمن.
4- رفع الروح المعنوية للمهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وذكرياتهم بإعطائهم الفرصة لتعويض ما خسروه ماديًّا ومعنويًّا.
5- وهو السبب الرئيسي، حيث لم يُرِد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُحرِج الأنصار بالخروج في قتال ضد قريش خارج المدينة؛ لأنه قد بايعهم على نصرته داخل المدينة إذا قدم إليهم مهاجرًا، ولم يذكر في البيعة -بيعة العقبة الثانية- أمر القتال خارج المدينة، فهو بذلك لا يريد أن يحمِّلهم عبئًا لم يتفق معهم عليه، وسيظهر هذا واضحًا جليًّا في غزوة بدر، حيث كان متردِّدًا في القتال حتى يسمع رأي الأنصار في القتال خارج المدينة، مع العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أمر الأنصار أمرًا مباشرًا فإنهم -ولا شك- سيطيعونه، ولكنه كان وفيًّا صلى الله عليه وسلم في عهوده، لا يأخذ الناس بسيف الحياء، ولا يحمِّلهم ما لم يتفق معهم على حمله.
خلفاء رسول الله على المدينة
وإذا كنا قد وقفنا وقفة مع نوعية المقاتلين في هذه المعارك الأولى في الإسلام، فإننا نحتاج إلى أن نقف وقفة أخرى مع أولئك الذين استخلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة المنورة في المرات التي خرج فيها بنفسه مع المهاجرين في المعارك.
فقد كانت هناك عدة معارك تمت في غضون سنة واحدة، ابتداءً من شهر رمضان سنة 1 هجرية إلى رمضان سنة 2 هجرية. والمعركة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج فيها اصطلح المؤرخون على تسميتها غزوة، أما المعارك التي كان يرسل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد القادة ولا يخرج بنفسه فكانت تسمى سرية. وفي غضون هذه السنة التي نتحدث عنها خرج المسلمون للقتال ثمان مرات، أي بمعدل مرة كل شهر ونصف تقريبًا، وكانت هذه المعارك عبارة عن أربع غزوات وأربع سرايا. ومفهوم أن الذي كان يرأس المدينة حين خروج السرايا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن اللافت للنظر هو ما كان يحدث عند خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم للغزو، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه السنة أربع مرات، واستخلف على المدينة المنورة أربعة رجال مختلفين، وهم: سعد بن عبادة، ثم سعد بن معاذ، ثم زيد بن حارثة، ثم أبو سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنهم أجمعين.
أما تنوع الرجال فهذا أمر مفهوم، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربِّي قيادات تستطيع تحمل المسئولية، ويدربهم على ذلك تدريبًا حقيقيًّا واقعيًّا.
وأما قيادة سعد بن عبادة أو سعد بن معاذ للمدينة المنورة في غياب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا أمر مفهوم أيضًا، فالأول هو سيد الخزرج والثاني هو سيد الأوس، لكن اللافت للنظر حقًّا هو ولاية زيد بن حارثة رضي الله عنه في مرة، وأبي سلمة بن عبد الأسد في مرة أخرى، فهذان الصحابيان من المهاجرين وليسا من الأنصار، وولايتهم على المدينة قد تكون مستغربة، وإن كانت تدل على شيء،فإنما تدل على أمور في غاية الرقي؛ منها طاعة الأنصار الكاملة لرسول الله ، ومنها أن المدينة أصبحت كيانًا واحدًا لا فرق فيه بين مهاجريٍّ وأنصاريّ، ومنها زهد الأنصار في الدنيا وعدم رغبتهم في الرئاسة أو الملك، فإذا أضفت إلى هذا أن زيد بن حارثة رضي الله عنه كان مولًى يُباع ويشترى علمت مدى الانقلاب الهائل الذي أحدثه الإسلام في نفوس العرب حتى قَبِل أشراف الأنصار والمهاجرين بولاية زيد بن حارثة عليهم، ما دام يحكمهم بالإسلام وبأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. والجميل أن هذا التغير الهائل في طبيعة العرب لم يتطلب أعوامًا أو قرونًا، إنما كان عدة أشهر فقط؛ لأن زيد بن حارثة تولَّى قيادة المدينة عندما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غزوة سَفَوان التي كانت في ربيع الأول سنة 2 هـ، أي بعد اثني عشر شهرًا فقط من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. فما أجلَّ الإسلام! وما أرقى تربيته!
سرايا الرسول وترتيبها
أما بالنسبة لسرايا الرسول وغزواته في العام الأول والثاني من الهجرة، فكانت بالترتيب التالي:
1- سرية سِيف البحر:في رمضان سنة 1هـ بقيادة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه
2- سرية رابغ: في شوال سنة 1هـ بقيادة عبيدة بن الحارث بن المطلب رضي الله عنه.
3- سرية الخرَّار: في ذي القعدة سنة 1هـ بقيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
4- غزوة الأبواء أو وَدَّان: في صفر سنة 2هـ بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
5- غزوة بُوَاط: في ربيع الأول سنة 2هـ بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
6- غزوة سَفَوان: في ربيع الأول أيضًا سنة 2هـ بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
7- غزوة ذي العشيرة: في جُمادى الأولى سنة 2هـ بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
8- سرية نخلة: في رجب سنة 2هـ بقيادة عبد الله بن جحش رضي الله عنه.
فوائد السرايا والغزوات
وبنظرة عامة على هذه السرايا والغزوات نجد أنه لم يحدث قتال تقريبًا في المعارك السبع الأولى. ومع ذلك فهي لم تخلُ من فائدة، بل كان فيها فوائد جمَّة:
أولاً: لقد كسرت حاجزًا نفسيًّا كان عند المسلمين من جرَّاء المنع من القتال لمدة 14 سنة بالتمام والكمال، فالمسلمون أُمِرُوا بعدم حمل السيف في وجه من يظلمهم طيلة هذه المدة، وترك الدفاع عن النفس كل هذه الفترة قد يورث ضعفًا في النفس أو شعورًا بقلة الحيلة، وقد يقود إلى إلف الذل والهوان. فجاءت هذه السرايا والغزوات البسيطة نسبيًّا كوسيلة متدرجة للصعود بنفسيات الصحابة من حالة الاستكانة إلى حالة الاستنفار والنهوض، ومن حالة الصبر على عدم الدفاع إلى حالة الصبر على تبعات الهجوم. لقد نقلت هذه السرايا والغزوات جيل المهاجرين من كونهم مجرد جماعة مضطهدة إلى كونهم دولة ممكنة لها جيش ينفذ خططها، ويحافظ على أمنها، ويرهب أعداءها، ويحفظ كرامتها. لقد كانت نقلة نفسيَّة رائعة.
ثانيًا: فهذه الغزوات والسرايا درَّبت الصحابة على فنون القتال وركوب الخيل والحرب على الإبل، والمناورة والخطة والتحرك والترقب.
نَعَمْ هؤلاء من الفرسان، والعرب بصفة عامة كانوا يركبون الخيل والإبل ويحاربون بالسيف والدرع، لكن لإتقان مهارة معينة لا بد من تدريب، وخاصّةً أن المسألة ليست مجرد مسابقة أو استعراض، إنما هي حياة أو موت. والأمر إنما يتعلق ببقاء أمة وعلوِّها أو زوالها وفنائها.
ثالثًا: هذه الدوريات العسكرية عرَّفت المسلمين الدروب والطرق حول المدينة المنورة، وبذلك أدركوا نقاط القوة والضعف في المنطقة، وعرفتهم ديار القبائل المحيطة وقوتها. ولا ننسى أن المهاجرين الذين يمثِّلون العنصر الوحيد في هذه الجيوش ليسوا من أهل المدينة، وإنما عاشوا حياتهم بكاملها في مكة بعيدًا عن هذه البقاع بنحو خمسمائة كيلو متر تقريبًا.
رابعًا: أشعرت هذه الدوريَّات العسكرية المتكررة القبائل المحيطة بقوة المسلمين، وكشفت جرأتهم في مواجهة قريش أكبر القبائل العربية وأقواها، ولا شك أن هذا الأمر قد أدخل الرهبة في قلوب هذه القبائل وخاصة الأعراب، فعملت للمسلمين حسابًا، وأدركوا أن موازين القوى في المنطقة في طريقها للتغير.
خامسًا: نتيجة هذه القوة التي ظهرت للمسلمين استطاع المسلمون أن يقوموا بعقد بعض المعاهدات مع بعض قبائل المنطقة، والتي هي عبارة عن معاهدات حسن جوار، بل ودفاع مشترك. فعلى سبيل المثال عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدة مع قبيلة بني ضمرة، وذلك في غزوة الأبواء، كما عقد معاهدة مع قبيلة بني مدلج، وذلك في غزوة ذي العشيرة. ولا شك أن هذه المعاهدات زادت من قوة المسلمين، ورسخت أقدامهم في المنطقة.
سادسًا: كانت هذه الدوريات العسكرية الباحثة عن قوافل قريش التجارية بمنزلة إعلان إسلامي صريح للحرب على أهل مكة الكافرين، وكانت مكة قد أعلنت الحرب من قديم على المسلمين، لكن هذا هو الإعلان الرسمي الأول على مكة، ولا شك أنه سيلقي بظلاله على العلاقة بين الدولتين، فهي لن تستمر على وضعها السابق كعلاقة ظالم بمظلوم، أو كعلاقة مستبد بمقهور، إنما ستصبح من الآن فصاعدًا علاقة دولة بدولة أخرى تكافئها وتناظرها، ومن المؤكد أن هذا سيؤثر سلبًا في نفسيات أهل مكة، وهم يشاهدون قوة المسلمين تتنامى، وأعدادهم تتزايد، وجرأتهم تزيد.
وهذه الفائدة كانت من أعظم فوائد هذه الدوريات الإسلامية، رغم أنها -كما أسلفنا- لم تلقَ قتالاً يُذكر.
عن موقع قصة الإسلام