تأملات تربوية في سورة النور
القسم الأول
د.عثمان قدري مكانسي
القسم الأول
د.عثمان قدري مكانسي
سُمّيَتْ سورةَ النور لأحد سببين أو لكليهما . فهي أولاً : تحوي قوانين اجتماعية ونظماً تربوية تملأ حياة من التزمها نوراً وسعادة . وفيها ثانياً : قوله تعالى في الآية الخامسة والثلاثين " الله نور السماوات والأرض " . وقد جاءت تسميات السور الكريمة حسب ما ورد فيها من أسماء مميزة كـ " آل عمران ، والأنبياء ، والضحى . " أو ما جاء من قصص صبغت السورة بصِبغتها كـ " البقرة ، والأحقاف ، وهود . "
ومن المفارقات الذكية أن الشاعر " أبا تمام " مدح الأمير الواثق بالله قبل أن يرث الخلافة عن أبيه المعتصم بالله ، فكان مما قاله فيه يستعير صفات بعض الرجال المشهورين :
إقدام عمرو في سماحة حاتمٍ * في حلم أحنف في ذكاء إياس
وقد كان عمرو بن معديكرب مشهوراً بالقوة والشجاعة . وحاتم الطائي معروفاً بالكرم والجود . والأحنف بن قيس علماً في الحلم وسعة الصدر . وإياس القاضي الذكي الألمعيّ عادلاً تقياً ... فجمع للواثق صفاتهم جميعاً في البيت السابق .... فقال الحاسدن يبغون الكيد له : الأمير فوق ما ذكرتَ – قاصدين إحراجه والنيل منه – فلا هو قادر أن ينفي ذلك ، فيجعلهم فوق الأمير- فالمشبه به فوق المشبه - فيغضبه . وإن أقر لهم بالدونيّة فسوف يُقالُ له : كيف تشبهه بمن هم دونه ؟! إنك إذ ذاك تقدح فيه ذماً ولاتقول مدحاً !! فارتجل بيتين رائعين يدلان على ذكائه وعبقريته ، ألقم بهما الحاسدين أحجاراً :
لا تعجبوا ضربي له مَن دونَه * مثلاً شَروداً في الندى والباس
فالله قـد ضرب الأقـلَّ لنـوره * مثلاً من المشكـاة والنبـراس !
فنال لذكائه في حسن التخلص الجائزة مضاعفة . ونظروا في قرطاس القصيدة فلم يجدوا هذين البيتين . فعرفوا أنه الذكي الأريب قالهما ابتداءً من قافية القصيدة ووزنها. فعلا ذكره وذاع صيته.
والسورة الكريمة – كبقية السور – آفاق تربوية راقية ، ولا يدّعي لبيب الإحاطة بها إلا كما يغرف الناهل من النهر الدفّاق ، وينحت المثّال في الجبل العملاق ، أو يجول الفلكيّ بمنظاره في أُوْلى السبع الطباق .وأول معْلم تربوي:
1ـ التعظيم :
فيتلقّاها السامع والقارئ بالهيبة والإجلال . فهي " سورة ". والسورة : المنزلة العظيمة التي يتطلع إليها كل ذي همة ، ويتشوف إلى بلوغها أصحاب العزائم ...مدح النابغة الذبياني النعمان بن المنذر بالمنزلة العالية والمكانة الرفيعة فقال :
ألم تر أن الله أعطاك سورة * ترى كلَّ ملْك دونها يتذبذب
فإنك شمس والملوك كواكب * إذا طلَعَتْ لم يبدُ منهن كوكب
ولإبراز عظَمتها جعلها المبتدأَ وهي نكرة .واستهل بها السورة للتهويل في قدرها وشرفها . واستعمل ضمير العظمة " نا " في الأفعال الثلاثة التي تلت كلمة " سورة " " أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكّرون " . وقد جعل آياتها بيّنات وهذا من التفخيم والعظمة كذلك.
2ـ الترتيب – وهو أسلوب تربوي رائع - في الحديث عنها :
فقد أنزل الله سبحانه سورة النور من السماء إلى الارض ، وفرضها لتكون النور الذي يضيء للسالكين طريقهم وأنزل فيها الأيات الساطعة والبراهين الواضحة لتكون المعالم المضيئة للناس أجمعين . فكان إنزالها وفرضها وبيانها متتابعاً مرتباً . والترتيب يساعد على الفهم وحسن التنفيذ ... ونجد الترتيب ثانية في غض البصر الذي يؤدي إلى حفظ الفرج " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ،... ويحفظوا فروجهم وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن " .كما نجده في :
ذكر الأهم ثم الأقل أهمية في إظهار محاسن المرأة للمحارم :فتظهر المرأة زينتها لزوجها ثم لأبيها ثم لأبي زوجها ثم لأبنائها ثم لأبناء زوجها ثم لإخوتها ثم لبني إخوتها ثم لبني أخواتها ثم لنساء المسلمين ثم لملك اليمين من الرجال ثم لمن لايرغب في النساء لعلة قاهرة ثم للأطفال غير المميزين . ونجد الترتيب وذكر الأهم ثم الأقل أهمية أيضاً في عدم الحرج في الأكل في الآية الحادية والستين إذ تتحدث بالتفصيل المرتب عن دخول بيوت المذكورين منهم .
ولاننس أن نشير إلى أن التفصيل في آيتي الحجاب 31 والأريحية في التواصل مع الأهل والأصدقاء 61 أسلوب تربوي راق . لأنه يجلّي الأمور ويوضحها ويزيل الإبهام، ويضع النقاط على الحروف ، ويشير إلى المهم من الأشياء والأقل أهمية سوء بسواء .
3ـ ذكر الأهم ليتنبه المتلقي إليه :
على سبيل المثال في هذه السورة الكريمة تقديم الزانية على الزاني " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة .. " لأن المرأة هي الداعي الأول إلى جريمة الزنا ، فلو تعففت تعفف الرجل ، أو ضعفت ولانت جرؤ الرجل . أما في السرقة فالرجل يذكر أولاً " والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما .. " إذ الرجل مكلف بالصرف على الأسرة والحصول على المال ... ولعل في إنهاء آية الحجاب بنصيحتين غاليتين هما " ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهنّ وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون... " نهي النساء عن عادة ذميمة لاستجلاب انتباه الرجال ومِن ثَم الفتنة ، وأمر الرجال والنساء معاً بالتوبة والعودة إلى الله فهو – سبحانه – كهف التائبين ...وقد ذكرت قبل قليل ذكر الأهم في آيتي الحجاب وتواصل الاهل والأصدقاء ، ففيهما الدليل على ذلك .
4ـ المماثلة :
أو قل ( إن الطيور على أشكالها تقع ) . فـ " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين " فقد طلب مرثد ابن أبي مرثد من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن يتزوج عناقاً فهو مايزال يحبها ، وهي بغيٌّ كان يأتيها في الجاهلية ،وما زالت على فجورها وجاهليّتها فنزلت هذه الآية الكريمة تحدد العلائق بين المؤمنين أهل الطهر والعفاف وبين المشركين وأهل الفسق والفجور ... كما أن آيات الملاعنة 04- 10 تفصل بين الزوجين حين يكون الزوج عفيفاً طاهراً والزوجة غير ذلك .. إن البيت لا تقوم دعائمه إلا على الفضيلة والطهارة . وما أجمل قولَ النبي صلى الله عليه وسلم في اختيار الزوجة الصالحة " الدنيا متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة " وحديثَه صلى الله عليه وسلم في اختيار ذات الدين مشهور " تنكح المرأة لأربع ...فاظفر بذات الدين تربت يداك " ، يؤيده قول الله تعالى " الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات " . ولن يرتاح الزوجان إلا حينما يكونان متطابقين أخلاقاً وديناً وإلا كانت الحياة قاسية ومتعبة . ولعل في أمر الله تعالى لكلا الفريقين أن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم مماثلة في الطيب والطهارة والحياة النظيفة .
5ـ حسن الظن بالمسلم :
على المسلمين حين يسمعون القذف بحق الأطهار الشرفاء أن ينفوا القذف ، وينكروا الطعن فالأصل في المجتمع المسلم الطهارة " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين " وهذا ما فعلته أم أيوب وزوجها رضوان الله عليهما حين سمعا المنافقين وضعاف الإيمان من المسلمين يتحدثون بشأن عائشة رضي الله عنهما وصفوان بن المعطل رضي الله عنه ذلك الصحابي الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالفضيلة والطهر فقالت أم أيوب : أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟! قال : نعم ، وذلك الكذب ، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ؟! قالت : لا والله . قال : فعائشة خير منك ، وصفوان خير مني . فإذا رُمي اثنان أو أحدهما بالزنا قيل للقاذف هات شهداءَك الأربعة وإلا كنت عند الله كاذباً ، فأعراض المسلمين غالية . وما ينبغي لأحد أن يرميهم دون بيّنة " لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ، فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " إن هذا طعن بطهر المجتمع ونشر للفحشاء فيه ، وإفساد للأخلاق يستحق صاحبه به – لولا رحمة الله بعباده في دنياهم وأخراهم - العذاب العظيم " ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم " وتصور معي أخي المسلم الحالة التي وقع فيها كثير من المسلمين- وما يزالون يقعون حين تغيب شفافية الإيمان – فأخذوا يتناقلون الفرية دون إنكار أو تمحيص ، فانتشرت القالة السيئة بينهم انتشار النار في الهشيم . والعادة أن الإنسان يفهم الفكرة بعقله وقلبه . لكنه حين يهتم بالأقاويل دون تفكير وفهم فكأنه يستقبل الخبر بلسانه فقط لا يتجاوزه ، ثم يلقيه كما يلقي القيء فيؤذي نفسه ومن حوله " إذ تلقّوْنه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم " فعاتبهم الله تعالى في هذه الآية بأمور ثلاثة :
الأول : تلقيه بالألسنة دون السؤال عنه .
الثاني : التكلم به ونشره بين المسلمين .
الثالث : استصغار الذنب حيث حسبوه هيّناً وهو عند الله عظيم .وكان عليهم حين سمعوه أن ان ينكروه ويؤكدوا نزاهة بيوت الأطهار من المسلمين ، ولا سيما بيت النبوّة ، فلا يغوصوا في نشر الإفك لأنه كذب وافتراء شديد " ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم " .
وهنا ننبه إلى الحذر من الإشاعات المغرضة التي تبلبل الصفوف ، وعلينا أن نتثبت من الأمر كي نصون المجتمع المسلم مما يسيء إليه ويضعفه .
6ـ الخطأ المعلِّم:
يخطئ بنو البشر كثيراً ، ويصيبون كثيراً . والعاقل من اتعظ بأخطائه ، واللبيب من اتعظ بأخطاء غيره . والطامّة الكبرى أن يتكرر الخطأ ونعيش حياتنا أخطاء متوالية ، فنقع فيما كنا نقع فيه ، ونستمر على هذا ... أما إذا عرفنا الخطأ وأسبابه ودواعيَه ، ونتائجه علينا وعلى مجتمعنا وأمتنا ، واحترزنا الوقوع فيه مرة أخرى ، ونبهنا الآخرين إليه كان درساً مفيداً وتربية راقية .. هذا ما يقرره القرآن الكريم حين يقول :"إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم ، بل هو خير لكم " فلِمَ لم يكن شراً مع أن المجتمع تأذّى منه؟ ولِمَ كان خيراً ؟
فالجواب :
أولاً : أن الخطأ قد يحصل حتى في المجتمع النقي المتماسك لأننا بشر.
ثانياً : أن الأشرار في المجتمع لا يفتؤون يكيدون له ليحرفوه عن الحق .
ثالثاً : أن بعض الصالحين قد ينجرّون إلى الخطأ ويقعون فيه دون أن يشعروا .
رابعاً: أن من ثبت خطؤه يعاقب أيّاً كان ، ويتوب الله عليه فكل امرئ بما كسب رهين .
خامساً: أن من اجترح الذنب الكبير ونجا من العقوبة في الدنيا لعدم ثبوت الجرم المادي عليه فلن ينجو في اليوم الآخر من العقوبة الشديدة المناسبة.
7ـ الإثارة :
وقد يسميها بعضهم التهييج وهو أسلوب – كما نرى – يحمِّس المتلقّي للتفاعل مع المطلوب منه إيجاباً قبولاً وامتناعاً ، وكلاهما إذا حصل كما نريد إيجابيٌ . ومن أمثلته الكثيرة في هذه السورة الكريمة : أن الله تعالى يقول بعد الأمر بجلد الزاني والزانية غير المحصنين " ولا تأخذْكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " فلو تمعنا في الشرط " إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " في معرض الأخذ بالشدة في معاقبة الزناة لقلنا متحمسين : نعم يارب نحن نؤمن بك وباليوم الآخر، ولسوف نشتد بعقوبتهم دون رأفة حتى نكون ممن يؤمن بك وبيوم القيامة . ألا ترى معي أن هذا الشرط أثار فينا الالتزام بما أمر الله تعالى لنكون عند حسن ظن الله بنا؟
ومنه في قوله تعالى " .. وحُرّم ذلك على المؤمنين " في منع زواج المؤمن من الزانية أو المشركة وإلا كان من صنفهما قلنا جازمين: أجلْ يا رب نحن مؤمنون ننأى بأنفسنا أن نتزوج الفاسدين. وحين يعاتب المؤمنين في نقل الشائعة دون بصيرة " إذ تلَقَّوْنه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم " يحذر من عقوبته الشديدة " وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم " نسرع في القول : نعوذ بالله أن نغضب ربنا فنقع في سخطه . وحين يعلمنا الأدب في قوله تعالى " ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثل هذا إن كنتم مؤمنين ... " نردد فوراً : سبحانك يا رب تبنا إليك ، لن نعود إلى ما يغضبك فنحن مؤمنون .... وحين تأخذنا العزة ونعاقب من يسيء إلينا قادرين ينبهنا الله تعالى إلى فضيلة العفو والغفران قائلاً " ولْيعفوا ولْيصفحوا ألا تحبون ألا تحبون أن يغفر الله لكم " نسرع إلى القول :بلى يارب ، نحب أن تغفر لنا . وما دمنا نخطئ ونحن نرجو الله أن يرحمنا فلنرحم من يسيء إلينا . وحين يأمرالحق تعالى عباده أن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ثم يعقب بأن " ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون " اشتدت رغبتهم في الزكاء ، وعلموا أن الله تعالى مطّلع عليهم خبير بهم وقالوا راغبين خائفين : زكّ نفوسنا يا رب ، فأنت خير من زكّاها ، ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا .
ثم نجد الإثارة الرائعة للفتيات أن يبتعدن عن الفواحش ويلزمن غرز التقوى حين يأمرهن بالتحصن عن الفساد ، بأن ترك لهن الخيار ظاهراً بأسلوب الشرط وهو سبحانه يحثهن على الطهر والعفاف متلطفاً بهنّ لأنهنّ ضعيفات ،ومعنفاً أهل الدياثة من الرجال في قوله تعالى "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهْهن فإن الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم " فما يكون من الفتيات المسلمات إلا أن يقلن : بل نبغي التقوى والطهر يارب ، رضي من رضي وأبى من أبى .
8ـ مَنُّ المتفضل :
أنْ أمُنّ على غيري ضياع للفضل والثواب ، وسوء في التصرّف . أما مَنّ الوالدين على أولادهما فتربية وتعليم وتذكير بالفضل ، ودفع إلى ردّ الجميل ... وأعظم من ذلك منُّ الله تعالى على عباده " يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان أن كنتم صادقين " وهو الذي يقول سبحانه " ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده " . فمنّ العباد على العباد إذلال واستكبار . ومَنُّ الأبوين على أولادهما تربية وتهذيب . ومنُّ الله على عباده إسعاد لهم ورحمة .
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى " ولولا فضل الله عليكم ورحمته وان الله تواب حكيم " إن حذف خبر لولا لتهويل الأمر ، تقديره : لهلكتم أو لفضحكم أو لعاجلكم بالعقوبة . ورُبَّ مسكوت عنه أبلغ من المنطوق . وكذلك نجد المنّ في قوله تعالى : " ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم " وكذلك نجده في قوله تعالى " ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم " إن الذي يزكي هو الله تعالى . ألا يقول الله في ذلك " فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى " ؟ فهنا يؤكد الله تعالى المعنى في قوله سبحانه " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم " .
9ـ العقوبة :
وهو أن ينال الإنسان جزاء ما اقترفت يداه من قول مخلٍّ أو فعل مؤذٍ يضر الآخرين ففيه:
أولاً : العدل الذي ينصف المظلوم ويردع الظالم .
ثانياً :لأن الإنسان خلق ينازعه الخير والشر . فإن بغى الشر على الخيروجب كبحه .
ثالثاً : والعقوبة عنوان القوة ، والحق بغير قوة يضعف ويضيع .فلا بد من عقوبة ضعيف النفس حتى يرعوي هو وغيره .
فكانت عقوبة القذف ثلاثة أنواع . أولاها جسدية : ثمانين جلدة . وثانيها مدنية : لا يعامل كبقية الناس إذ لا تقبل شهادته فيتصاغر أمام المجتمع . وثالثها أخروية : فهو في عداد الفسقة من أهل جهنم .لكن إن اعترف بخطئه وتاب عنه وأصلح ما أفسده تاب الله عليه وغفر له .
" والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة
ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم "
وكانت عقوبة الزنا لغير المحصن نوعين أولاهما جسدية مئة جلدة لكل منهما . وثانيهما التشهير . – وهي عقوبة نفسية - إذ يحضر العقوبة رهط من المؤمنين حتى يعرف الناس بهذه العقوبة فيرعوي ذوو النفوس الضعيفة أن يقعوا فيها .
10ـ التوثيق :
ومن فوائد التوثيق :
أولاً : التنبيه إلى أهمية الأمر والتركيز عليه .
ثانياً : الاحتكام إليه واتخاذه قاعدة في الحكم .
من الأمثلة على التوثيق قوله تعالى :" وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " ففيه تأكيد على وقوع العقوبة أمام أنظار فئة من المؤمنين . ثم وجود أربعة شهداء يشهدون على واقعة الزنا وإلا جلد الرامي مئة جلدة " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " ويؤكد الحكم في معرض عتاب المؤمنين الذين جازت عليهم الشائعة " لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " كما أن الزوج في ملاعنته زوجته وليس هناك شهود أربعة يقسم أربع مرات إنه لصادق في دعواه " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين " وفي رد دعواه تشهد الزوجة أربع مرات أنه كاذب فيما ادّعاه في حقها " ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين " .كما أن في هذا التوثيق أسلوباً تربوياً آخر هو:
11ـ الوقاية :
وقد قالوا قديماً : درهم وقاية خير من قنطار علاج . فما التشديد في وجود الشهداء الأربعة وفي الأَيْمان الأربعة للزوجين إلا وقاية للمجتمع من كثرة القذف واسترخاص أعراض المسلمين .وهناك أمثلة أخرى للوقاية في هذه السورة الكريمة منها قوله تعالى : " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ..... وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهنّ .. " الم يقل النبي الكريم عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه في النظر : " يا علي لك الأولى وليست لك الثانية ؟! " وغض البصر وعدم رؤية المفاتن يريح القلوب . كما أن في قوله تعالى " ولا يضربن بأرجلهنّ ليُعْلم ما يخفين من زينتهنّ " حماية للنساء من وسوسة الشياطين في جلب انتباه الذكور ، وحماية للرجال من تتبُّع اصوات الخلاخيل !!
إن تزويج الذكور من الإناث أحراراً وعبيداً يحفظ الجنسين من الرذيلة والفساد " وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم .. " ألم يقل النبي الكريم في هذا المعنى " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّجْ ، فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " ؟ فالزواج حصن من الفحشاء حصين ، والصوم كسر لحدة الشبق مؤقت ريثما يسهل الله زواجاً ولو بعد حين ... يؤكده قوله تعالى " ولْيستعْفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله " كما أن الله تعالى شنّع على تجار النخاسة والديايثة الذين يقدّمون النساء لفرش الرجال ، والعياذ بالله من افعالهم . وعفا عن الفتيات اللواتي اضطررن إلى ذلك ثم تبن في أول بارقة خلاص ، وشجعهن على ذلك بأن يكن عفيفات " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصُّناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهْهنّ فإن الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم " .وعلى الرغم أن القرآن سمح للعجائز اللاتي لا يرجون نكاحاً أن يضعن ثيابهنّ غير متبرجات بزينة فقد حثهن على العفة والستر " وأن يستعفِفْن خير لهنّ .." ثم إن عدم التكلم فيما يضر نوع مفيد من أنواع الوقاية " ما يكون لنا أن نتكلم بهذا " إن صون اللسان عن القيل والقال يئد الإشاعة في مهدها .ويقطع دابر الفتنة .
12ـ الواقعية :
وقل : الدقة في التعبير وإن كان من هذه الناحية يدخل في البلاغة إلا أنه تعويد للمتعلم على الفهم السليم والتحليل المحيط .
مثال ذلك قوله تعالى " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنّ ويحفظن فروجهنّ " لا يستطيع الإنسان أن يمشي في طريقه مغمض العينين ، لا بد من الرؤية كي يتحاشى المآزق والمخاطر ، فهو لا يغض بصره بل يغض منه، فلا يرى المفاسد والمفاتن ويمتنع عن النظرات الزائغة . لكنه يحفظ فرجه كله أن يقع في المحرمات . ومثال آخر نجده في آية المحارم فـ "أبناء " جمع قلة يناسب أبناء المرأة وأبناء زوجها مهما كثروا . وبنين – بنون – جمع كثرة يناسب بني الإخوة والأخوات على الأغلب . وهذا يعلمنا الدقة في الحديث أو التعبير .
13ـ ترك مجال الإصلاح مفتوحاً :
فمن يئس من الخلاص تمادى في غيه ، وازدادت نقمته ، وألّب غيره ، وتهوّر فآذى نفسه وغيره . ومن وجد منفذاً للإصلاح والنجاة ، فكّر وتدبّر وارعوى . ولا نريد لأبنائنا وأهلنا ومجتمعنا سوى الهداية ما استطعنا ، وهذه مهمتنا التربوية . وفي هذه السورة كغيرها من السور الكريمة أمثلة على ذلك ، منها مانراه في التعقيب على من رمى المحصنات دون وجه حق " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " فمن تاب واعترف بخطئه غفر الله تعالى له .ثم اقرأ معي تذييل بعض الآيات " وأن الله تواب حكيم " " وأن الله رؤوف رحيم " " وأن الله غفور رحيم " . والله تعالى الكريم الرحيم يدعونا إلى التوبة فهو الإله الودود الذي يقبل توبة عباده مهما ابتعدوا ثم عادوا " وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون " أفلا نتوب إليه ونستغفره؟! بلى إن باب التوبة مفتوح ، فهلمّ أخي نسارع إلى الله إنه حبيبنا وسيدنا يفرح لتوبتنا ويسارع إلينا إن سارعنا إليه ، ويقبلنا مهما ارتكبنا من ذنوب ثم لجأنا إليه " ففروا إلى الله "
ياسيدي ومولاي :
أفر إليك منك ، وأين إلاّ * إليك يفر منك
يتبع