بعد كشفه لتفاصيل قضية علي حمبلي، يروي ضابط المخابرات الأسبق "إيروان بيرغو" في الجزء الثاني من وثيقته المستمدة من كتابه "الملف الأحمر، المخابرات في مواجهة الأفالان" قصة توريط المخابرات المصرية ـ المخترقة من طرف عملاء الموساد ـ للزعيم أحمد بن بلة في قضية تهريب أسلحة لفائدة جبهة التحرير الوطني عام 1956 بالنظر إلى حجم التساؤلات التي تثار حول حقيقة الدور المصري في فشل العملية، وبغض النظر عن موقف المؤلف ومصداقيته في نقل الوقائع فإنها تظل شهادة جديرة بالدراسة حول المسيرة النضالية لأول رئيس للجزائر المستقلة وعلاقاته "المفترضة" مع القيادة المصرية.
عند دخوله مكتب جيرارد لارزاك في الطابق الثالث من ثكنة تورال، كشف المقدم دوغراسي عن ابتسامة فيها الكثير من الاستياء، ومرد الأمر أنه لا يدخن ولا يتحمّل أن تحيط به سحابة من دخان السجائر في غرفة صغيرة... ومع هذا اقترب مبديا امتعاضه الشديد بقوله:
ـ أنا لا أفهم لماذا تصرّون على إبقاء النوافذ موصدة، مع أننا في عز شهر جويلية والجو رائع في الخارج..
وبحركة خاطفة توحي بخفة يده، وضع دوغراسي على المكتب مجموعة من الملفات:
ـ الق نظرة! هذه قضية مهمة لكم... إنه شخص كنا نلاحقه منذ مدة وانتهى بنا الأمر إلى تحديد مكانه.
ـ من هو؟
ـ لكم الخيار ـ سحب دوغراسي وثيقة من الملفات ـ الاسم: مسعود مزياني، رعية مسلم مجهول الجنسية، جواز سفر صادر بالقاهرة، العنوان: 5 شارع إبراهيم باشا نجيب، غاردن سيتي، القاهرة.
ـ لا أعرفه!
ـ هذه وثيقة أخرى: رضا بن عمر، مقيم بفندق البرغو ديل مهاري.. طرابلس، ليبيا... وهذه هوية أخرى، معزي سعدون، جواز سفر مصري... لا تكلفوا أنفسكم عناء البحث والتقصي فالأمر يتعلق بشخص واحد: أحمد بن بلة.
وبحركة عصبية، أطفأ لارزاك ما تبقى من سيجارته ورفع رأسه مبديا دهشته:
ـ لقد طفا على السطح من جديد! كنت أعتقد أنه اختفى منذ محاولة الاغتيال الفاشلة في طرابلس.
ـ لا علم لي بهذه العملية؟
ـ أوف... لم يكن لنا ضلع في العملية، القضية تعود إلى ستة أو سبعة أشهر خلت، في منتصف ديسمبر 1955، عندما أقدم شاب مندفع يدعى هنري لويس دفيد على اقتحام غرفته في فندق ميهاري.. لكن بن بلة كان أكثر يقظة ما أدى إلى فشل العملية ووقوع المسكين في قبضة رجال الأمن الليبيين.. لقد كان واحدا من عناصر منظمة "اليد الحمراء" وأنت تعرف سر هذه المنظمة التي يقف وراءها راديكاليو الأقدام السوداء...
ـ الذين استفادوا من دعم حزب تجمّع الشعب الفرنسي... أعرف جيدا تفاصيل القضية، هؤلاء الحالمون باستعادة مجد الامبراطورية متورطون في اغتيال الليبراليين مثل لوماغر دوبروي في المغرب أو فرحات حاشد في تونس... ولكن ما شأن بن بلة في كل هذا؟
ـ يضحك لارزاك: المسكين؟ من شدة ما أصابه من ذعر، انهارت أعصابه بسرعة وفارقه النوم لفترة طويلة قبل أن يلجأ إلى المهدئات... في حين تكفلت فرقة خاصة تابعة للمخابرات المصرية بوضع حراسة لصيقة لا تفارقه حيثما حل.
ـ لا يبدو الأمر كذلك اليوم، فقد ارتاحت أعصابه كثيرا، إذ أخبرنا عملاؤنا في القاهرة بما يشبه التأكيد أن بن بلة يخطط لشيء ما؟ ومن الضروري التحرك بصورة عاجلة لمعرفة ماذا يخطط له ومتى؟ أعتقد أن الأمر يتعلق بقضية تهريب أسلحة... وهذا من اختصاصكم.
شرع لارزاك في تفحص ملفات غراسي وبالموازاة أخرج من درج مكتبه ملف "بن بلة" وعاينه بشكل دقيق ومطول... كان يمعن النظر في صورة بن بلة... رجل ممتلئ الوجه، ملامح غامضة لكنها توحي بشخصية ذات عزيمة، فم مكتنز وتجاعيد ناعمة خفيفة.
دمية جزائرية في القاهرة
شخص مثير للفضول، هذا الذي دخل غياهب النشاط السري، مسؤول عن عملية السطو على بريد وهران، بعد توقيفه وحبسه في سجن البليدة، ينجح في الفرار منه في 16مارس 1952، ويلجأ للقاهرة، من المخططين بشكل فعال لاندلاع أحداث أول نوفمبر الدموية. انقطع بعدها عن الثوار بعد أن تحوّل الى دمية تتلاعب بها المخابرات المصرية، وقد كلف ثلاثة ضباط من هذا الجهاز بمراقبته: اللواء فتحي الديب، الكولونيل سليمان عزت ـ رئيس مصلحة شؤون بلدان المغرب ـ وهاشم توراد قائد وحدات الكومندوس. رغم الانتقادات الشديدة التي لقيها من مجموعة "العقداء" وعلى رأسهم كريم بلقاسم، إلا أنه ظل مقتنعا بدوره "التاريخي" مع أنه لم يكن سوى لعبة في يد الريس: الكولونيل عبد الناصر.
إذ أن زعيم الجامعة العربية متحمس لحركة التحرر الجزائرية، لكنه لم يكن مقتنعا في قرارة نفسه بانتصارها، ما يفسر نواياه في استغلالها سياسيا لبسط نفوذه على ما تبقى من عواصم بلدان المغرب العربي. إذ أنه كان يتحكم في حجم الدعم المادي ـ المتواضع ـ للجيش الجزائري، وكان ينوى الإبقاء على هذه التبعية.
هز لارزاك رأسه في حركة توحي بعدم اقتناعه بخطورة بن بلة: لا أظنه قادرا على التحرك، والمعلومات الميدانية تشير الى تعاظم وتوسع نطاق حركة التمرد في غيابه.
يجب الاعتراف أن الجانب الفرنسي وقع مطلع صائفة 1956 في حالة إرباك شديد، نتيجة ظروف تتعلق برهانات سياسية داخلية، فقد شهدت فرنسا انتخاب حكومة غي مولي وفق برنامج انتخابي تقدمي وليبيرالي، لكنها سرعان ما وقعت في مطب التناقضات ما بين أهدافها الاشتراكية وضغط الرأي العام، فبعد أن كانت الحكومة في باريس ميالة لمبدأ التفاوض ـ في حين كانت الأوساط السياسية في العاصمة الجزائر تصف نوايا التفاوض بالمراخصة ـ أرغمت على إرسال المزيد من جنود الفرق العسكرية لاستتباب الأمن والنظام العام، وهي الوحدات التي لم تكن مدربة لهذا النمط من العمليات القتالية... كان الجيش يغرق في وحل حرب لا أحد يجرؤ على تسميتها كذلك.
بالموازاة، كانت جبهة التحرير الوطني من أكبر المستفيدين من حالة الجمود هذه، إذ سعى قادة ولايات الداخل الى بسط نفوذهم لدى سكان المداشر والقرى، وكانت عدوى اللاأمن تنتقل من مكان لآخر في كل يوم. منذ شهر ماي، اشتعلت الأوضاع في منطقة القبائل الصغرى، بينما دشن القطاع الوهراني أولى عمليات التصفية الجسدية، وفي العاصمة الجزائر، اكتملت البنية السياسية ـ الإدارية لمنطقة القصبة تأهبا لشن هجمات إرهابية مدوية في قلب المدينة.
تم استنساخ نظام الولايات وفق نظام التقسيم الإداري العسكري الفرنسي، كان غاية في الدقة، إذ تم تحديد المناطق الجغرافية ووضع هياكل مستقلة تحت إشراف قيادات أركان تتعاظم وسائلها وإمكاناتها بشكل تصاعدي، وعلى رأسها قادة مثل: كريم بلقاسم في منطقة القبائل، بوصوف في القطاع الوهراني، زيغود يوسف، لخضر بن طوبال وآخرون... كلهم عقداء، نجحوا في افتكاك رتبهم بعد تجارب ميدانية طويلة، بالإضافة الى تمتعهم بسلطة رهيبة، مطلقة وفي غالب الأمر.. بالغة الدموية.
وفيما كان الداخل يتحرك على كل الجبهات، كان الخارج جسدا بلا روح، إذ انقطع المندوبون الخارجيون مثل لامين دباغين، محمد يزيد أو بن بلة عن حقائق الميدان وصار همّهم الوحيد هو تلميع صورتهم ومصداقيتهم الخارجية أكثر من اهتمامهم بالحاجات اليومية للجنود.
سحب جيرارد لارزاك ورقة بيضاء وشرع يكتب في خاتمة التعليمة المتعلقة بالتحقيق في نشاطات بن بلة:
... "بالنظر إلى تزايد عدد العناصر المتمردة في الجزائر، نترقب أن يقدم ـ بن بلة ـ على التحرك بغية الحصول على دعم وتموينات من أسلحة، عتاد عسكري وربما تعزيزات بشرية من مخربين، مشغلي اتصال راديو أو فدائيين. أنبه على الطابع العاجل لهذه المعلومات".
تم إرسال التعليمة في نفس الليلة الى مختلف مكاتب مصلحة التوثيق الخارجي ومكافحة التجسس S.D.E.C.E في الشرق الأوسط وفي بلاد المغرب... وهي التعليمة التي لن تظل طويلا دون متابعة...
يومان بعد صدور التعليمة، يرن جرس هاتف لارزاك، يقترح عليه المتصل ـ وهو النقيب بن سين. عميل الموساد ـ موعدا في بار هادئ، لا يثير الانتباه على مقربة من شارع الشانزيليزيه:
ـ حسب معلوماتي، فإن بن بلة ـ وبمساعدة اللواء فتحي الديب ـ يخطط لتهريب كمية معتبرة من السلاح باتجاه بلدان المغرب، والرجل المكلف بعقد الصفقة مع الممونين، هو رعية سوداني يدعى إبراهيم النيال.
بدت معلومات المخبر الإسرائيلي على درجة بالغة من الجدية والخطورة، اقتنع جيرارد لارزاك وصار في حكم المؤكد لديه أن الخيط الذي سيوصله الى بن بلة أضحى في متناول يديه... ومرد هذه الجدية أن كل معلومة تتعلق بالعالم العربي هي مسألة حياة أو موت لدى الإسرائيليين. ولدوافع أمنية، اخترق الموساد جهاز المخابرات المصرية بحيث يتابع عملاؤه التطورات ساعة بساعة. فمنذ تأميم قناة السويس، اقتنعت تل أبيب أن ساعة المواجهة أضحت قريبة، ومعها ضرورة الحصول على الدعم الفرنسي والبريطاني... ما يعني أن باريس على علم بكل ما يحدث في المنطقة العربية.
في 22 جويلية، تصل برقية الى مكتب مصلحة التوثيق الخارجي ومكافحة التجسس بالقاهرة لتؤكد المعلومات السابقة، كان نص البرقية مقتضبا بحيث لا يدع مجالا للشك: "إبراهيم النيال على وشك تسلم يخت بريطاني.. الاتصالات جارية".
كشف جيرارد لارزاك عن ابتسامة عريضة، وهو الذي نجح في نسج خيوط ملفه الأحمر ساعة بساعة، إنه بصدد كشف تفاصيل مشروع خصومه...
في 25 جويلية، تصل معلومات بالغة الدقة من لدن مندوب الاستخبارات الفرنسية في سويسرا، الكولونيل ميرسي ـ والذي ينشط تحت غطاء مندوب تجاري في بيرن: "نعلمكم أنه تم تحويل مبلغ من مصدر مجهول الى حساب في بنك بزوريخ لفائدة إبراهيم النيال، القيمة: 7 ملايين ليرة مصرية".
وجد جيرارد لارزاك في التخمين بأن غاية "التاجر" السوداني في اقتناء اليخت هي نقل كميات معتبرة من السلاح أمرا مغريا للغاية لكنه يفضل الانتظار أكثر... على أي حال وإن كان الوضع يستدعي التفكير في إعطاء أوامر لمصلحة أكسيون ACTION ـ وهي فرقة كومندوهات تابعة للمخابرات الفرنسية ـ فإن ذلك يستدعي وضع إمكانيات ضخمة، ولن يتم إسناد الأمور لهذه المصلحة إلا إذا كانت هنالك ضمانات بالنجاح من أول ضربة.
يجب التحلي بمزيد من الصبر إذن.
يتبع