عندما بدأ إنهيار الإتحاد السوفيتي السابق عام 1991 مع سقوط الشيوعية في حصنها الحصين بروسيا عقب هزيمة قواته في أفغانستان وإنسحابها من هناك، وما واكب ذلك من إنهيار إقتصادي نتيجة فشل السوفييت فى ملاحقة برنامج حرب النجوم الذى بدأته الولايات المتحدة في الثمانينات، وكان بداية ما عرف بعد ذلك بالدرع الصاروخي الأمريكي.
وما ترتب على كل ذلك من تفكك الإتحاد السوفيتي، واستقلال بلدان آسيا الوسطى وحوض البلطيق والقوقاز، وقيام روسيا الإتحادية التي تضم بجانب روسيا سبعة أقاليم إسلامية صغيرة مجاورة لها، إلى جانب خروج دول أوروبا الشرقية عن الهيمنة الروسية. وكان من نتيجة ذلك تقديم الرئيس الروسي آنذاك بوريس يليتسن سلسلة من التنازلات للولايات المتحدة، خاصة مع استشراء الفساد وتمدد عصابات المفايا داخل المؤسسة العسكرية الروسية، ووقوع الروس في ضائقة اقتصادية لم يشهدوا مثيلا لها إبان فترة الحكم الشيوعى، وإتساع الهوة بين الفقراء وحيتان المال، أن نشطت خلية عمل من مفكرين وخبراء في الأوساط المحافظة لوضع خطة إنقاذ تطورت لاحقا إلى ما يعرف بـ “عقيدة سيرجيوس”، نسبة إلى قديس يعتبره الروس حاميا لهم في الأزمات. وتنهض هذه العقيدة الجديدة على إستعادة موقع روسيا ودورها في العالم، وذلك إستناداً إلى مشاعر قوپمية ودينية أورثوذكسية شكلت المنطلق الأيديولوجي لفريق الشباب الحاكم اليوم في موسكو، ومنهم فلاديمير بوتين رئيس الوزراء وميدفيديف رئيس الجمهورية، والحريصين على أن يبقى قرار الروس في أيديهم في منأى عن التدخلات الخارجية، خاصة الولايات المتحدة.
وفي إطار العمل بـ “عقيدة سيرجيوس” ووضع خطة لإنقاذ روسيا، برزت ثلاث تيارات مختلفة:
1- تيار الأحرار: وهم الذين يؤيدون أن تقاوم روسيا بوعي عقلية القوة الكبرى، وأن تتوقف عن استعراض مظاهر القوة الكبرى، وأن تتوقف أيضا عن منافسة الولايات المتحدة، وبدلا عن ذلك على روسيا أن تسعى إلى تنفيذ خطة أوروبا الكبرى، والدخول في تكامل مع أوروبا من منظور أوروبا الكبرى، بالنظر لكون روسيا حليف طبيعي وشريك إستراتيجي لأوروبا، وهو ما يفرض تركيز الإنتباه على الشؤون الداخلية - خاصة التنمية الداخلية، وتحسين معيشة المواطنين، وهو ما يعنى في المحصلة النهائية عدم إقامة علاقات عسكرية بين روسيا والدول الأخرى، وتجنب الدخول مرة أخرى في سباق تسلح مع الولايات المتحدة يرهق روسيا إقتصاديا.
2- تيار المتشددين: ويتمثل في مفهوم يؤكد على أن روسيا لديها قدرات اقتصادية وعلمية وتكنولوجية وعسكرية هائلة، تمكنها من مواجهة التهديدات الأمريكية التي تحاصرها. ومن ثم عليها أن تستثمر هذه القدرات الشاملة من أجل أن تستعيد مكانتها الدولية السابقة كقوة إقليمية عظمى منافسة للولايات المتحدة على قمة النظام الدولي، خاصة على رأس القارة الأوروبية والآسيوية (أوراسيا)، وأن تستعيد موقعها السابق كأحد مراكز التأثير في عالم متعدد الأقطاب. ولتحقيق ذلك ينبغى أن تعيد بناء وتطوير قواتها العسكرية، وأن تحتفظ بقواعد عسكرية في المناطق التي تتمتع بأهمية إستراتيجية في العالم. ومن هنا يمكننا أن نفهم مغزى عودة الأسطول الروسي إلى قاعدة طورطوس في سوريا في شرق البحر المتوسط، وتنشيط قواعدها السابقة في كوبا وإقامة قاعدة في فنزويلا في منطقة البحر الكاريبى في مواجهة الأساطيل الأمريكية في هذه المناطق.
3- تيار البراجماتيين: وفي مقدمتهم الرئيسان بوتين وميدفيدين، وهذا التيار يعترف بصراحة أن إجمالى الناتج القومي لروسيا يقدر بعشر (1/10) من مثيله الأمريكى، وأن روسيا أصبحت منهكة بعد سنوات من الإضطرابات، ولذلك من المستحيل عليها أن تنجز إصلاحات بشكل سلس إذا ما طبقت بلا تمييز نماذج وأنماطا أمريكية للتوسع الخارجي، وإقتصاد السوق بشكله الرأسمالي المطلق داخليا، ومن ثم فلابد لروسيا أن تبحث عن طريقها الخاص، لاسيما وأنها تمر حاليا بفترة تحول تاريخية صعبة من النظام الشيوعي الشمولي إلى نظام السوق الرأسمالي، وحتى يمكن لها أن تفلت من المضاعفات السلبية لعملية التحول هذه.
وقد تغلب التيار البراجماتي الأخير على التيارين الآخرين وحيث قد قدم بوتين ما أسماه بـ “الأفكار الروسية” والتي تهتم بإعلاء القيم الوطنية والإفتخار بالقومية الروسية وتاريخها وقدراتها الجيوبولوتيكية الضخمة وإنجازاتها، والتطلع لتحويل روسيا إلى بلد متقدم حضاريا، وبما يرفع مستوى معيشة الفرد الروسي إلى مستوى الفرد الأمريكي والأوروبي والياباني، وأن النجاح في تحقيق هذا الهدف هو الذي سيعيد لروسيا مكانتها الدولية كقوة عظمى، ويضمن أمنها القومي ومصالحها القومية على الساحة الدولية، أكثر من إعتمادها على قدراتها العسكرية. وتهتم “الأفكار الروسية” التي طرحها بوتين بتحديد دور الدولة، وأنها السلطة الفاعلة وهي المصدر والضمان للنظام، وهي التي تدافع عن الإصلاحات وتعطيها قوة الدفع، هذا بالإضافة إلى أهمية العمل لتحقيق التماسك الإجتماعى، وتغليب الإعتبارات القومية على الاعتبارات العرقية والطائفية والمذهبية.
وقد لاحظ المراقبون للشأن الروسي مؤخرا وجود معاندة في مواقف القيادة الروسية أشبه بالتناقض. ففي الوقت الذي يتحدث فيه الرئيس الروسي ميدفيديف في أحد مؤتمرات مجموعة الثمانى الأخيرة عن “هندسة أمنية أوروبية جديدة” نجده في الوقت نفسه يهدد بوضع صواريخ (اسكندر B) متوسطة المدى في جيب كالينجراد بين ليتوانيا وبولندا ليهدد به الأخيرة إذا ما سمحت بنشر قواعد صواريخ الدرع الصاروخي الأمريكي على أراضيها، وهو ما لم يجرؤ عليه الحكام السوفييت إبان حقبة الإزدهار السوفيتي. ومن مظاهر هذا التناقض أيضا وقوف الروس إلى جانب الولايات المتحدة مرتين فى مجلس الأمن لفرض عقوبات على إيران، في حين تقوم بتزويد طهران بأنظمة تسليحية متطورة تشمل وسائل دفاع جوي وصاروخي وغواصات ومقاتلات حديثة ومفاعلات نووية بمليارات الدولارات. وقد فسر المراقبون هذا التناقض بأنه تعبير عن حالة غضب تجتاح الروس جميعا بسبب عدم احترام الغرب لهم، خاصة الولايات المتحدة التي يحملونها المسؤولية الأساسية فيما لحق بالبلاد من إنهيار وفوضى سياسية وإقتصادية وإجتماعية، وإنفجارها من الداخل. وبالنسبة للروس حاليا فإنه ليست هناك ساحة معركة مشحونة بالعواطف بقدر أراضي إمبراطوريتهم الضائعة. وهو ما إنعكس في خطاب بوتين أمام البرلمان في إبريل 2005 عشية الإحتفالات الضخمة بالذكرى الستين لإنتهاء الحرب العالمية الثانية عندما قال: “إن سقوط الإتحاد السوفيتي كان الكارثة الجيوسياسية الأكبر في القرن العشرين، ومأساة حقيقية للشعب الروسي”، واشتكى من أن ملايين الروس وجدوا أنفسهم مواطنين في بلدان مختلفة، وقد تفشى وباء الإنفصالية في روسيا الإتحادية نفسها في محاولة إنفصال الشيشان عنها. وهو ما عبّر عنه ميخائيل مارجيلوف رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الإتحاد بقوله: “إن خسارة الإمبراطورية كانت مسببة للصدمة بقدر الطلاق .. فنحن لا نزال في خضم عملية الإنفصال عن أزواجنا وزوجاتنا السابقين”، فالمشاحنات التي تشهدها روسيا مع جيرانها هي أشبه بمشاهد عملية طلاق، يرمي الجميع الأطباق ويحطمون الأثاث”.
ومن هنا كان إستغلال القيادة الروسية للحرب التي شنتها جورجيا ضد أوسيتيا الجنوبية فرصة للتدخل العسكري ضد جورجيا وتأديبها على ما فعلت، ونواياها في الإنضمام للناتو، بل وجدت موسكو في ذلك فرصة للاعتراف باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا. واستعادة النفوذ الروسي في هذين الإقليمين، بل وأيضا فرصة لردع أوكرانيا عن المضى على درب جورجيا في محاولة الإنضمام للناتو، وأعلنت موسكو أن إنضمام هاتين الدولتين- جورجيا وأوكرانيا - خطا أحمر لن تسمح باجتيازه. ووجدت مبرراً لتدخلها في جورجيا بأنه يماثل تدخل الناتو في كوسوفو ضد صربيا عام 1999 لإنقاذ الألبان الذي تقمعهم صربيا، وبالمثل فإن تدخل روسيا في جورجيا هو لحماية الروس المقيمين في أوسيتيا الجنوبية من أعمال القمع التي يتعرضون لها من خلال حكومة جورجيا.
ويساعد هذا كله على شرح الأسباب التي دفعت بوتين إلى العمل بجهد كبير منذ وصوله إلى السلطة عام 2000 لاستعادة مكانة روسيا العالمية، وإعادة إرساء دورها كقوة إقليمية عظمى من دون منازع، وكقوة دولية كبرى ينبغي عدم تجاهلها من قبل الآخرين. وبذلك يمكن إعتبار كل القرارات السياسية الكبرى التي إتخذتها القيادة الروسية في العقد الأخير وحتى اليوم - بما في ذلك زيادة الإنفاق الدفاعي خمسة أضعاف، وتركيز السلطة بصورة قاسية في أيدي قادة الكرملين - بأنها وسيلة لتحقيق هذه الغايات.
العوامل المؤثرة على العقيدة العسكرية الروسية الجديدة:
1- تأثير البعد الجغرافي والدرع الصاروخي الأمريكي(1)
لذلك فإننا أمام تطور يستلزم تحليل المنظومة الحديثة للفكر الإستراتيجي الروسي، من حيث الأهداف القومية والإستراتيجية، وإدراكات التهديد التي تعوق وتعرقل تحقيق هذه الأهداف، وكيفية توظيف القدرات والإمكانات الروسية الضخمة لمواجهة هذه التحديات، وتأثير ذلك على بلورة عقيدة روسيا العسكرية، لاسيما ما يتعلق منها بالصناعة العسكرية، وتأثير العوامل الجيوبوليتيكية. خاصة الجغرافية والتقنية - بما يدعم أمن روسيا في عالم مغاير.
وإذا كان لكل دولة كبرى مسلمات جيوبوليتيكية لا يمكن التنازل عنها لأنها مصيرية، فإن لروسيا أيضا مسلماتها الجيوبوليتيكية التي لم تتغير منذ أيام القيصر الأول - إيفان الرهيب - وحتى الرئيس الحالي ميدفيديف، مروراً ببطرس الأكبر وكاثرين الكبرى، ويندرج في هذه المسلمات مايسمى “بالمحيط المباشر” بالمعنى الجيوبوليتيكي وكأنه عماد الكيان الروسي وعماد الأمن القومي. ويتمثل هذا المحيط المباشر لروسيا اليوم بعد تفكك الإتحاد السوفيتي في الخط الممتد من جورجيا وأوكرانيا وحتى بحر البلطيق مروراً بتشيكيا وبولندا، فلكل بلد من هذه البلدان ذكرى معينة في الذاكرة التاريخية الروسية - أغلبها دموية. فتعتبر أوكرانيا الخاصرة الطرية لروسيا. أما إذا خرجت جورجيا من تأثير دولة عظمى منافسة، فقد تكون منصة الإنطلاق الأخطر إلى قلب روسيا، خصوصا في ظل غياب أي مانع جغرافي طبيعي، ولذلك كانت بولندا تاريخيا ممر الغزاة إلى روسيا. ومن هنا يمكننا أن نفهم الإصرار الروسي على منع دخول جورجيا وأوكرانيا في حلف الناتو، وأيضا الرفض الروسي لنشر عناصر الدرع الصاروخي في تشيكيا وبولندا.
وتبلغ مساحة روسيا 17مليون كيلومتر مربع، وهو ما يقارب مساحة الولايات المتحدة والصين معا، وغرب روسيا يجاور دول أوروبا الشرقية، ورغم أن مساحته لا تتجاوز 4 مليون كم2 إلا أنه يتركز فيه 80% من سكان روسيا نتيجة للظروف المناخية المحتملة نوعا ما، ولأن أوروبا كانت دوما قطبا جاذبا للحضارة الروسية، وبالتالي فالمدن الروسية في مجملها والعاصمة موسكو والمنشآت الصناعية والحيوية ومنصات إطلاق الصواريخ الباليستية، وتقريبا كل حضارة روسيا تتركز في غرب البلاد أي بجوار أوروبا الشرقية. ومن هنا فإن التهديد الذي تواجهه روسيا نتيجة نشر عناصر الدرع الصاروخى الأمريكي في شرق أوروبا يعتبر تهديداً رئيسيا لهذه الحضارة، ومن هنا جاءت شراسة الرد الروسي برفض المخطط الأمريكي في هذا الشأن. أما شرق روسيا الذي هو سيبيريا فمساحته 13 مليون كم2، ويتناثر في هذا المساحة الجليدية الهائلة 20% من السكان، إلا أن معظم ثروة روسيا المعدنية - خاصة النفطية - متواجدة في سيبيريا. كما تشكل هذه المناطق مع منطقة الأورال بوسط وشمال روسيا عمقا إستراتيجيا أفاد روسيا كثيرا إبان الحرب العالمية الثانية عندما إقتربت جيوش النازي من موسكو، فانتقلت المصانع الحربية الروسية إلى منطقة الأورال لتواصل الإنتاج وإمداد الجيوش السوفيتية بإحتياجاتها من الأسلحة والمعدات والمركبات والطائرات، وحيث تشكلت في منطقة الشرق الأقصى من روسيا حوالي 50 فرقة هي التي قامت بالهجوم المضاد الواسع عام 1942، والذي استعادت به روسيا زمام المبادأة وأراضيها، بل وطورت أيضا هجومها في إتجاه الغرب وداخل ألمانيا وبما أدى إلى سقوط النازية وتحرير دول أوروبا الشرقية من الإحتلال النازي.
لذلك لم يكن غريبا أثناء فترة الحرب الباردة (من خمسينيات القرن الماضي وحتى التسعينات) أن تركز الإستراتيجية الروسية جانبا مهما من ترسانتها الصاروخية النووية في غرب روسيا الذي له حدود طويلة وممتدة مع دول أوروبا الشرقية، وذلك لتكون أوروبا الغربية بأكملها في مرمى الصواريخ الباليستية الروسية، وكان تركيز الترسانة النووية الروسية في غرب روسيا مبنيا على أساس جغرافي إستراتيجي فرضته الحرب الباردة، وهو أن دول أوروبا الشرقية كانت بالنسبة لروسيا منطقة ضخمة من الدول العازلة التي لا يمكن للغرب أن يدخل بقواته إليها، وحيث فرضت روسيا على هذه الدول النظام السياسي الشيوعي والدخول في حلف وارسو، ولتكون بمثابة (توابع) تدور في الفلك السوفيتي، لذلك لم تتردد روسيا في التدخل عسكريا في المجر عام 1956، وفي تشيكوسلوفاكيا عام 1968 عندما تعرضت الأنظمة الشيوعية الحاكمة لثورات داخلية، وحيث أخمدتها القوات السوفيتية بالقوة في حينها، ولكن بعد تفكك الإتحاد السوفيتي وخروج دول أوروبا الشرقية من الفلك الروسي، وإنضمام بعضها لحلف الناتو رغم معارضة روسيا لذلك، إلا أنه كان من الصعب لها أن تقبل بدخول قوات حلف الناتو فيها، ولا بنشر عناصر الدرع الصاروخي الأمريكي على أراضيها على مسافة 200كم فقط من الحدود الروسية، لما يشكله ذلك من تهديد للترسانة النووية والصاروخية الروسية، وإفقادها القدرة على القيام بالضربة النووية الثانية، وإنطلاقا من شرق أوروبا المجاور.
ولأن الفكرة الأمريكية بوضع رادارين فائقي التطور (إكس باند) في تشيكيا تقوم على أساس رصد أي إطلاق هجوم صاروخي من روسيا نتيجة تحليل الإشعاعات الصادرة عن الوهج الحراري لحظة إنطلاق الصاروخ أو بواسطة الأقمار الصناعية، وعلى الفور تتلقى صواريخ الإعتراض الأمريكية المقامة في بولندا (10 قواعد صواريخ) الإشارة الرادارية، وبما يؤدي إلى سرعة توجيه هذه الصواريخ لاعتراض الصواريخ الروسية المهاجمة في منتصف مسارها نحو أهدافها (أي حوالي 300-500كم بافتراض أن مدى الصاروخ الروسي المهاجم حوالي 1000كم)، فإنه يمكن إعتراض مثل هذا الصاروخ بنجاح ومنعه من الوصول إلى أهدافه في أوروبا الغربية. ولأن أقصى قدرة للرادار الأمريكي (إكس باند) هو أن يغطي فقط غرب روسيا حتى سلسلة جبال الأورال، فإن معنى ذلك أنه من المستحيل عليه رصد صواريخ روسية تنطلق من شرق الأورال في سيبيريا(2)
ومن هنا جاء القرار الإستراتيجي الروسي بتغيير قواعد اللعبة مع الولايات المتحدة، وذلك بالارتداد الجغرافي بالأجيال الجديدة والأكثر تطوراً في الترسانة النووية والصاروخية الروسية، سواء من حيث مصانع إنتاجها أو مستودعات حفظها وأيضا مواقع إطلاقها، إلى عمق سيبيريا النائي على مسافة 10.000كم من حدود روسيا مع أوروبا، وهو ما يعني تحييد مشروع الدرع الصاروخي الأمريكي، لأن الرادار (إكس باند) لن يغطى هذا العمق البعيد النائي في أقصى جنوب شرق روسيا. ومن هنا يمكننا أن نفهم مغزى المعلومات التي أوردتها وكالات الأنباء في مارس 2008م والتي أكدت قيام روسيا ببناء قاعدة جديدة لإطلاق الصواريخ والأقمار الصناعية قرب حدود روسيا مع الصين(3)، وهو ما يتيح لروسيا إطلاق جميع أنواع الصواريخ والأقمار الصناعية، وهذه القاعدة بحجم مدينة كاملة وبحيث تكون ملاذا آمنا وجاهزة لتنفيذ مهامها في عام 2016 بالنظر لكونها أبعد نقطة جغرافية في الإقليم الروسي وتتاخم المحيط الهادى، وحيث تفتقد الرادارات الأمريكية في أوروبا القدرة على رصد إطلاق الصواريخ الباليستية المتطورة من سيبيريا وبذلك يظل الردع النووي قائما. هذا فضلا عما تشكله مثل هذه القاعدة العسكرية الروسية من نواة لبناء خط دفاعي كبير ومتطور لتأمين سيبيريا التي بها أكبر مناجم النفط والثروة المعدنية والمصانع العسكرية في العالم، ذلك لأن حدود روسيا مع الصين هي البوابة إلى سيبيريا، هذا فضلا عن كون هذه القاعدة العسكرية الضخمة المتاخمة لضفاف روسيا على المحيط الهادي يتيح لها استمرار الإحتفاظ بميناء فيلاديفوستك الإستراتيجي، الذي هو مفتاح السيطرة على بحر اليابان وبما يضمن سيادة روسيا على جزر الكوريل، وهو موضوع نزاع إستراتيجي قديم بين طوكيو وموسكو، خاصة مع القلق الروسي من دعم واشنطن السياسي والتكنولوجي والعسكري لليابان وإطلاق برامج التسليح المتطور لليابان، ناهيك عما تتيحه هذه القاعدة العسكرية الروسية من تنسيق وتعاون إستراتيجي بين روسيا والصين في مواجهة التواجد الأمريكى في الباسيفيكي حيث القواعد الأمريكية في اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان فضلا عن الأسطول السابع الأمريكي.
2- روسيا قوة عالمية ثانوية4)
يقول ميشيل فوشيه عضو مجلس الشؤون الخارجية في فرنسا وسفيرها السابق في مجلس لستوار في 8/9/2009م“إن الإتحاد الروسي ليس قوة عظمى، على خلاف ما تزعم النخب الروسية، كما أنه في ذات الوقت ليس قوة عظمى في طور الأفول، على ما يقال في الغرب”. ويرجع فوشيه ذلك إلى عدة أسباب منها التحدى الديموجرافي (السكاني) الذي تعانيه روسيا، بسبب إنخفاض الخصوبة فيها وتزامنه مع إنخفاض متوسط الحظ في الحياة، حيث يقل عدد سكانها بمعدل 0.6 مليون نسمة كل عام، ومن المتوقع أن يتدنى عدد سكانها من 140 مليون نسمة في عام 2009 إلى 130 مليون نسمة في عام 2025، ولذا تنتهج السلطات الروسية سياسة توزيع جوازات السفر الروسية على رعاياها من المستقرين خارج أراضيها في القوقاز وأوكرانيا.
ورغم أن حجم الترسانة النووية الروسية، وعدد الرؤوس النووية يبلغ 2800 رأس، وهو ما يفوق حجم الترسانة النووية الأمريكية البالغ عدد رؤوسها النووية 2200 رأس، وهو ما يمكن موسكو من أن تفاوض واشنطن مفاوضة الأنداد، إلا أن حال الجيش الروسي المتدهورة والبالغ عدد أفراده المليون، وموازنته الدفاعية 70 مليار دولار، تحول دون توافر هذه الندية، فقد أماطت الحرب في جورجيا عام 2008 القناع عن ثغرات تقنية وتنظيمية وتسليحية خطيرة يعانيها الجيش الروسي.
كما يشوب الإقتصاد الروسي عيوب كثيرة، ذلك أن عائدات النفط والمناجم وغيرها من مصادر الطاقة هي نقطة ضعف إقتصاد هزيل الإنتاج وضامر الإستثمارات، والروبل لا يزال خارج تداول البورصات العالمية، وأسعار الصرف عادت إلى عام 2006. ولكن رغم ضعف روسيا الإقتصادي، فإنها لا تزال تحافظ على مكانتها الرائدة في تكنولوجيا الطاقة النووية المدنية وتكنولوجيا الفضاء، وإن كانت لا تستطيع الاستغناء عن قدرات الغرب التقنية ولا عن الأسواق الغربية.
ويعترف فوشيه بقوة الدبلوماسية الروسية وأنه لا يجب الإستهانة بها، وبمكانتها الراجحة في المؤسسات الدولية، وأولها مجلس الأمن الدولي. حيث تحسن موسكو استغلال شبكات نفوذها، وتقيم الشركات الروسية ذات الصلة الوثيقة بالسلطة السياسية، ولها علاقات وطيدة بشركاء أوروبيين، وتستغل هذه العلاقات لخدمة مصالح روسيا القومية، كما تستغل موقف دول الإتحاد الأوروبي المنقسم من العلاقات معها، وتلعب على حبل هذه الإنقسامات.
ورغم الإستقرار النسبي الذي ساد الشيشان بعد حربي 1994 - 1997، 1999 - 2006 اللتان أطاحتا بالحركة الإستقلالية الشيشانية، إلا أن التوتر لم يخب في شمال القوقاز، وداغستان، وأنجوشيا، وأوسيتيا الشمالية. فالنزاعات بين الجماعات العرقية وأصحاب المصالح المتضاربة والقوى السياسية مستفحلة، رغم نجاح روسيا في بسط هيمنتها الإستراتيجية على جزء من سهول سلسلة جبال القوقاز، وتمكنها من تطويق جمهوريات شمال هذه الجبال. أما دول البلطيق الثلاث، فإن روسيا تميل إلى الإقرار. على مضض باستقلالها، لاسيما بعد أن إنضمت في عام 2004 للإتحاد الأوروبي، ولكنها تسعى إلى إضعاف سيادة هذه الدول الثلاث، وفي تقويض دعم الدول الأوروبية الكبيرة لها.
وفي مايو 2009م أنشأ الرئيس الروسي ميدفيدف لجنة “مكافحة تزوير التاريخ” واقترح حزبه “روسيا الوحيدة” مشروع قانون يدين “بعث النازية في الجمهوريات السوفيتية السابقة”، حيث ترغب موسكو في إقرار واشنطن بنفوذها في الجمهوريات السوفيتية السابقة، ليس ذلك فقط بل الإقرار أيضا بنفوذها في دول أوروبا الشرقية وحوض بحر قزوين والبحر الأسود، والحيلولة دون إنضمام أوكرانيا وجورجيا إلى حلف الناتو، ولذلك تساند بلوغ الأحزاب الموالية لها سدة السلطة في هاتين الدولتين. ولأن روسيا تعتبر نافذة دول آسيا الوسطى الإقتصادية، وهي دول غنية بالنفط والغاز تسعى إلى تنويع منافذها إلى الأسواق الإقتصادية عن طريق الإنفتاح - خاصة نحو الصين التي تعتبر من أكبر الدول المستوردة للطاقة - فإن هذه الدول ليس أمامها سوى توثيق وتعزيز علاقاتها وتعاونها السياسي والإستراتيجي مع روسيا.
أما فيما يتعلق بعلاقات روسيا بالإتحاد الأوروبي، فأغلب الظن ألا تنضم روسيا إليه، فهي ليست مرشحة لعضويته، ولا تلتزم معايير كوبنهاجن التي تحدد شروط الانضمام إلى الإتحاد الأوروبي، ومنها: إرساء المؤسسات الديموقراطية، ودولة القانون، واقتصاد السوق، وفصل السلطات، لذلك فان التحاق روسيا بالإتحاد الأوروبي في نظره يبعث الاضطراب فيه أكثر مما قد يبعثه انضمام تركيا، وذلك رغم أن رابطة روسيا بالإتحاد الأوروبي وثيقة متبادلة، حيث تعتمد أوروبا الوسطي ودول البلطيق والبلقان على الطاقة الروسية من نفط وغاز. كما لا يستهان بحجم التبادل التجاري وقيمته 233 بليون دولار بين روسيا والإتحاد الأوروبي،
كما أن المجتمع الروسي منفتح على أوروبا، فالرحلات الجوية إلى أوروبا تنطلق من 10 مدن روسية، وتعلم حوالي 10 مليون روسي اللغة الألمانية ونصف مليون روسي اكتسبوا اللغة الفرنسية، وهو ما جعل القادة الروس ينظرون بارتياب إلى الإتحاد الأوروبي، لاسيما بعد أن أدركوا تعاظم وتيرة الاندماج الاقتصادي الأوروبي، وأن الرغبة في النموذج الأوروبي هي الغالبة في دول أوروبا الشرقية، وأن الإتحاد الأوروبي لا يرمي إلى موازنة النفوذ الأمريكي؛ ومن ثم لا ينظر إلى روسيا باعتبارها دولة غربية، بل ينظر إليها باعتبارها نموذج يحتذي به في الأنظمة الديكتاتورية بدول آسيا الوسطي.
هذا في النظرة الأوروبية لروسيا. أما نظرة القيادة الروسية لنفسها، فإنها بجانب اعتمادها البعد الأوروبي داخل دائرة المجال الحيوي لروسيا، فضلا عن كون أوروبا الشرقية خصيصاً تشكل “محيطها المباشر” كما سبق القول، فإن روسيا تعتمد أيضا الأيديولوجية الأوراسية - أي الامتداد الآسيوي بجانب الامتداد الأوروبي - باعتبار أن الجزء الأكبر من وسط وشرق روسيا يقع في القارة الآسيوية، وعلى اعتبار أن لروسيا حضارة مستقلة تقوم على التنوع الداخلي وعلى تاريخ طويل من التداخل مع شعوب آسيا. وهنا تدخل إيران كعاملي أساسي في اللعبة الروسية، ليس فقط بسبب جوارها الجغرافي، ولكن لوجود امتدادات عرقية ودينية من إيران داخل المناطق الجنوبية من روسيا، أما الأهم من ذلك فهو أن إيران أصبحت تضرب وبشكل مباشر الاستراتيجية الأمريكية الكبري، وهو ما يتمثل في التدخل الإيراني في العراق ومنطقة الخليج وأفغانستان، هذا رغم أن روسيا لا ترحب بوجود إيران نووية على حدودها الجنوبية، كما تخشى انتقال النفوذ الديني الايراني المتطرف إلى مناطق الشعوب الروسية المسلمة الملاصقة لحدود إيران. ولكن رغم كل ذلك فإن روسيا تطمع من خلال تعاونها مع إيران أن تصل بقواتها وقواعدها العسكرية إلى منطقة الخليج، وتنافس الوجود العسكري الأمريكي هناك. لذلك ليس من المتوقع أن تتخلى روسيا عن إيران في إطار أي صفقة كبري تعقدها مع الولايات المتحدة في اطار التنازل الأمريكي عن نشر عناصر الدرع الصاروخي في أوروبا الشرقية.
3 - تأثيرات خفض الميزانية الدفاعية5)
تفقد الميزانية الدفاعية الروسية 13 مليار دولار سنويا بسبب استشراء الفساد، كما تسبب خفضها في انخفاض مستوى الكفاءة القتالية للقوات الروسية في جميع أفرعها، ومن مظاهر ذلك:
أ- جعلت القوات النووية في حالة سيئة من الكفاءة والقدرة حتى أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية cia حذرت في عام 1997 من أن أنظمة القيادة والسيطرة للصواريخ متوسطة المدى وضعت بطريق الخطأ في درجة استعداد قتالي قصوي عدة مرات منذ عام 1991، فلا يجري تحديث للصواريخ ولا صيانة للأسلحة النووية ولا صيانة لأنظمة القيادة والسيطرة وتشفير هذه الأسلحة، وهو ما حذّر منه وزير الدفاع السابق رودينوف عدة مرات في 1996، 1997، ووزير الدفاع الحالي ايجور سيرجيف، ورغم أن القوات النووية الروسية كانت السبب في تصنيف روسيا دولة عظمي، فإنه تم خصم30-35? من ميزانيتها وتحصل على 64? فقط من الميزانية الدفاعية.
ب- الأسراب الجوية للقاذفات بعيدة المدى بها 40 قاذفة من 68طراز tu-95 في حاجة لإصلاحات رئيسية.
جـ- تم تمديد عمر الصواريخ 3 مرات.
د- تقادم الأسلحة التقليدية وعدم تحديثها.
هـ- ضعف التمويل المخصص للإصلاح.
و- ضعف التمويل للبحث والتطوير.
ز- يوجد 650 مقاتلة ميج 29 عاجزة عن الإقلاع لضعف الصيانة والإصلاح
حـ- توجد مشكلات في الغواصات، حيث يوجد غواصتان داورية صالحة من بين 26 غواصة.
ط- وبالنسبة للصواريخ الاستراتيجية يمكن فقط تحريك كتيبة واحدة بها 9 قواذف من بين 350 قاذف إلى مسرح العمليات.
ي- طياروا القاذفات الاستراتيجية لا يتجاوز عدد ساعات طيرانهم التدريبية 20 ساعة في العام مقارنة بمئات الساعات في الأسراب الأمريكية المماثلة.
ك- تهالك مراكز القيادة والسيطرة المسؤولة عن الأسلحة الاستراتيجية.
ل- ضعف أنشطة مراكز البحث العلمي ومعامل تصميم الأسلحة النووية.
م- تهالك هيكل الاتصالات الذي يستخدم في إرسال كود تشغيل الصواريخ الاستراتيجية، حيث أصبحت جميعها متهالكة ومعداتها عفى عليها الزمن، حتي أن الحقيبة النووية التي تصاحب الرئيس الروسي دخلت مرحلة يتعذر معها الإصلاح.
ن- سقوط مقاتلة ميج - 29 في حرب جورجيا، لذلك حرصت روسيا على شراء طائرات بدون طيار من إسرائيل.
س- ضعف المرتبات وسوء الأحوال المعيشية للجنود، مما أدي إلى ارتفاع نسبة الهروب من الخدمة، وعدم تلبية أوامر التجنيد، وسرقة الذخائر والأسلحة وحتى المواد النووية، وتعاطي المخدرات والتجارة فيها، وزيادة حالات اغتصاب النساء العاملات في الجيش، وبروز حالات تمرد عسكري في عدد من الوحدات. وقد انعكس كل ذلك بوضوح في الأداء القتالي السيئ للقوات الروسية خلال حرب جورجيا، وسبق ذلك إسقاط أعداد كبيرة من المروحيات المتقادمة في الشيشان، وكان يجري تفكيك 20 مروحية لإصلاح مروحية واحدة أثناء الحرب قادرة على التحليق إضافة إلى الكوارث الجوية والبحرية والأرضية الناتجة عن تقادم المعدات والطائرات والسفن والغواصات.
وفي دراسة أجراها (روس بلير) رئيس مركز معلومات الدفاع، أوضحت أبعاد التخلف العسكري الروسي بسبب الانهيار الاقتصادي، وقد لخص الموقف في الآتي: عدم قدرة القوات المسلحة الروسية على آداء مهامها الاستراتيجية مثل الاستطلاع الجوي، والدفاع الفضائي، والدفاع عن الأراضي الروسية في حالة تعرضها لاعتداء خارجي، وعدم المحافظة على الترابط الداخلي، والاستثناء الوحيد هو في قوة الردع النووي، ولكنها بدورها تعاني من تخلف اجراءات الأمان مما يعرضها لحوادث عديدة، خاصة في ضوء تخلف وسائل القيادة والسيطرة والانذار المبكر، وتآكل شبكة أقمارها للاستطلاع والانذار، وعدم القدرة على إصلاحها أو استبدالها بنظام انذار مبكر حديث. كما أن روسيا غير قادرة على مواكبة التقدم التكنولوجي في الولايات المتحدة وأوروبا - خاصة في المقاتلات الحديثة مثل المقاتلة الأمريكية f-22، ولا على مواجهة الدرع الصاروخي الأمريكي، وأن 1/3 ثلث المقاتلات الروسية يجب التخلص منها لتقادمها، وعجز البحوث والتطوير في روسيا حتى اليوم عن الوصول إلى تقنية الإخفاء (ستيلث).
هذا إلى جانب ثلاث مخاطر استراتيجية:
أ- فقدان الكفاءة النوعية داخل الجيش (الجيش الفارغ) خاصة في مجالات القوات الميكانيكية والمحمولة جواً والتي تجمدت منذ عام 1992، خاصة بعد أن فشل اعتماد روسيا في حرب الشيشان على قوات الحدود والشرطة الداخلية اللذان أظهرا ضعفا شديداً.
ب- سقوط العتبة النووية، وبذلك تفقد روسيا الخيارات الاستراتيجية بين العمليات منخفضة الحدة، والرد النووي الكامل، ومع التزام الدولة بعدم شن الضربة الأولى، فإن المرونة ستصبح صعبة في استخدام السلاح النووي.
جـ- السخط العسكري من جانب الأفراد مما أدى إلى شيوع حالات خطيرة من عدم الانضباط.
4- تأثيرات الحرب في القوقاز (جورجيا)6)
فرضت الأزمة الجورجية التي وقعت في أغسطس 2008 وقائع جديدة في المنطقة والعالم، كان لها تأثير مباشر في تعديل العقيدة العسكرية الروسية الجديدة التي صاغها بوتين عام 2000م. فبعد أن انقشع غبار المعارك العسكرية التي جرت فوق أرض جورجيا بين القوات الروسية من جانب والقوات الجورجية من جانب آخر، بدأت تنكشف حقائق مهمة أبرزها أن الميدان الحقيقي للصراع لم يكن أرض جورجيا وحدها، بل هو أكبر من ذلك بكثير، وهو بالتحديد ميدان المصالح الخاصة بروسيا الاتحادية من جانب في مواجهة مصالح الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من جانب آخر، وهو ميدان لا يشمل العالم بأسره فقط بل ويشمل الفضاء أيضا، وحيث بدأ كل طرف في تحريك ما لديه من قطع وأوراق على كافة الميادين أملاً في تحقيق مصالحه وتأمينها من أطماع الطرف الآخر.
ورغم العيوب ونقاط الضعف الكثيرة التي تكشفت لآداء القوات المسلحة الروسية في هذه الحرب باعتراف قادتها، سواء ما يتعلق منها بضعف القوات الجوية التي سقطت منها مقاتلتان، وعدم وجود تعاون بين القوات الجوية والقوات البرية العاملة على الأرض، وضعف المناورة وقوة الصدمة في القوات المدرعة الروسية مما كبدها خسائر كبيرة ، وسوء الإمداد اللوجيستي للوحدات المقاتلة خارج الحدود الروسية.. إلي غير ذلك من السلبيات، وهو ما واجهته القيادات العسكرية الروسية بصراحة وعملت بعد ذلك على تلافيه عند تعديل العقيدة العسكرية الروسية، لاسيما فيم يتعلق بالتطوير التقني لأنظمة التسليح وأساليب استخدامها القتالي. إلاّ أن هذه الحرب حققت عدة مكاسب استراتيجية لروسيا فرضت نفسها بعد ذلك كركائز للعقيدة العسكرية الروسية المعدلة، وأبرز هذه المكاسب الآتي
أ- استعادة روسيا عناصر القوة التي فقدتها عند مطلع تسعينات القرن الماضي، ولم تعد دولة مريضة عسكريا واقتصاديا ومضطرة بالقبول بما تعرضه علىها الولايات المتحدة المنتصرة في الحرب الباردة، كما أعادت ثقة الروس في أنفسهم وأمنهم وقدراتهم، مؤكدة أن دائرة المجال الحيوي لروسيا حاليا في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطي، لا تقل أهمية عن ذلك الذي انتزعه الإتحاد السوفييتي السابق بعد الحرب العالمية الثانية، وأنها تمتلك عناصر القوة لحماية هذا المجال. وأن عودتها كلاعب دولي فاعل في الخريطة الجيوسياسية العالمية ليس من منظور قومي تقليدي أو أيديولوجي كما كان في السابق، وإنما انطلاقا من رؤية واقعية لمصالحها الحيوية، وحضور قوي في الفضاء الأوروآسيوي، محددة لخصومها الخطوط الحمراء التي علىهم عدم تجاوزها، وإذا ما حدث العكس فإنها لن تتردد في استخدام القوة لإعادة الدول المجاورة المتحالفة مع الغرب وأمريكا إلى حظيرتها، وأنها لن تسمح لأحد أن يلعب في حديقتها الخلفية.
ب- كسر الهمينة الأمريكية الأحادية، حيث أظهرت الأحداث أن الحصن الأمريكي المتقدم في القوقاز (حيث جورجيا وأوكرانيا) بات محاصراً، وأن إعادة ترميم هذا الحصن غير ممكن من دون مشاركة روسية، لاسيما وأن رد الفعل الأمريكي كان ضعيفا جداً في مساندة جورجيا وأوكرانيا، وليس باستطاعتهما ولا غيرهما في دائرة المجال الحيوي الروسي أن يعولوا بعد ذلك على دعم أمريكي فاعل في مواجهة روسيا. وهو ما يعني ضمنيا أن عهد القطب الواحد قد انتهي، وأن نظاما دوليا جديدا يفرز بقيادة روسيا، وأن الرادع الأمريكي فقد بريقه، ولم تعد الولايات المتحدة قادرة على التفرد بشؤون العالم عموما وشؤون المنطقة الروسية خصوصا، وبالتالي باتت أمام خيارين: إما التصرف على أساس أن خياراتها محدودة ومكلفة، وأما التصعيد في مواجهة التصعيد، وهنا سيكون الرد الأمريكي قاسيا حتي لا يتوهم أحد أن النمر الأمريكي الجريح قد استسلم لقدره وقبل بالهزيمة والانزواء. وكما استعرضت روسيا قواها في جورجيا، فلابد أن تستعرض أمريكا في المقابل عضلاتها في مكان آخر وليكن الشرق الأوسط، وأن استقواء روسيا بإيران في المنطقة خطر لا تقبله أمريكا، فكل ما يضعف موسكو مطلوب، وإضعاف طهران جزء من إضعاف موسكو. من هنا نفهم الاصرار الأمريكي والإسرائيلي على منع تزويد روسيا لإيران بأنظمة تسليح متقدمة أبرزها النظام الصاروخي s-500 المضاد للصواريخ.
جـ- قلق أوروبا من تصاعد قوة روسيا المتواجدة في عقر دارها، لذلك لن تجرؤ الدول الأوروبية على تحدي روسيا، كما أثارت الحرب على جورجيا مخاوف أوروبية من أن تستخدم روسيا سلاح النفط والغاز للتأثير على محيطها الإقليمي. وأن أي عمل روسي ضد أوكرانيا (الدولة الاستراتيجية بالنسبة لامدادات الطاقة الروسية)، سيشكل كارثة حقيقية للعديد من الدول الأوروبية، خصوصا في ظل عدم اتفاق حلف الناتو على مقاربة موحدة لكيفية الرد على العمليات العسكرية الروسية في جورجيا.
د- بروز دور روسي فاعل في الملف الإيراني، سواءً من حيث المفاوضات على حل المشكلة في إطار نقل عمليات تخصيب اليورانيوم من إيران إلى روسيا ثم فرنسا وعودته كوقود نووي إلى إيران لتستخدمه في مفاعلاتها النوويه تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة النووية. أو فيما يتعلق بفرض عقوبات من مجلس الأمن على إيران إذا ما أصرت على موقفها باستمرار عمليات التخصيب على أراضيها، حيث تلزم موافقة روسيا على ذلك منعا لاستخدامها حق الفيتو الذي تتمتع به هي والصين وكلاهما على علاقات اقتصادية جيدة مع إيران.
هـ- الوجود الأمريكي في كل من العراق وأفغانستان، حيث أدت التطورات في جورجيا إلى سرعة سحب القوات الأمريكية من العراق، وتركيز الجهود الأمريكية في أفغانستان وباكستان حيث يعمل تنظيم القاعدة الإرهابي وطالبان من المناطق الحدودية للبلدين للسيطرة على أنظمة الحكم فيهما، والخوف الأمريكي والروسي من سقوط الترسانة النووية الباكستانية في أيدي منظمات دينية متطرفة (طالبان الباكستانية) المتعاونة مع القاعدة. ناهيك عن ضرورة التعاون بين أمريكا وروسيا لنقل امدادات قوات الناتو العاملة في روسيا عبر الأراضي الروسية بعد أن قطعت طالبان طرق الإمداد من ميناء كراتش الباكستاني.
و- المأزق التركي في القوقاز، حيث يمر خط أنبوب النفط من باكو إلى ميناء جيهان التركي على البحر المتوسط عبد تيليس في جورجيا، وأي عمليات عسكرية في هذه المنطقة ستهدد نقل النفط عبر هذا الخط، ولأن المواجهة في هذه المنطقة بين أمريكا وروسيا منفتحة على جميع الاحتمالات، فإن تركيا - باعتبارها عضو في الناتو - مطالبة بأن تحدد موقفها من الصراع ولأي الأطراف ستنحاز، وتحديد استراتيجيتها في منطقة القوقاز.
ز- القلق الإسرائيلي نتيجة انعكاسات الأزمة الجورجية على المنطقة، فبجانب ثبوت الدور الإسرائيلي في تسليح وتدريب قوات جورجيا، وهو ما سبب توترا في العلاقات الإسرائيلية الروسية، وكان مجال مساومة بين تل أبيب وموسكو على أساس أن توقف إسرائيل تسليح جورجيا مقابل أن تمتنع روسيا عن تسليح إيران بنظام الدفاع الجوي والصاروخيs-300، إلا أن هذه الأزمة الجورجية أفرزت قلقا لدي إسرائيل من تراجع الدور الأمريكي وصعود النفوذ الروسي، ومدى التزام واشنطن بمساندة ودعم حلفائها وأصدقائها وعلى رأسهم بالطبع إسرائيل، وهو ما انعكس في نكوص إدارة بوش عن مساندة صديقتها جورجيا في هذه الأزمة، وعلى عكس ما توقع واعتقد رئيس جورجيا ميخائيل سكاشفيللي.
ح- حشد روسيا لحلفائها، وهو ما انعكس منذ بداية الأزمة بلقاء بوتين زعماء آسيا الوسطي في دوشانيية عاصمة طاجيكستان في 28/8/2008م، حيث عقد مؤتمر قمة دول منظمة شنغهاي للتعاون، والتي تضم: الصين وكازاخستان، قارجيزيا، طاجيكستان، أوزباكستان، بالإضافة لوجود قادة كل من إيران والهند وأفغانستان وممثلين عن باكستان ومنغوليا التي تتمتع دولهم بصفة مراقب في هذا المؤتمر. وقد جاء التحرك الروسي في حشد التأييد السياسي من دول الجوار في المقام الأول استعداداً للدخول في مواجهة سياسية دبلوماسية تجارية مع الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وضمان وقوف دول الجوار في الجنوب الروسي (جمهوريات آسيا الوسطي) إلى جانب روسيا عند نشوب مواجهة مع الغرب مع تحقيق مزيد من الاقتراب الروسي من مناطق وجود القوات الأمريكية وقوات الناتو في أفغانستان والعراق، ومواجهة احتمالات تشجيع أمريكا للحركات الانفصالية داخل روسيا - مثل الشيشان - ذات حدود مشتركة مع جورجيا. هذا بالإضافة إلى تأمين طرق التجارة البرية والبحرية لروسيا مع العالم الخارجي، بعد أن تسللت قطع بحرية تابعة للناتو والولايات المتحدة إلى بحر البلطيق في الشمال والبحر الأسود في الجنوب، ووجود مضيق البوسفور في يد تركيا العضو البارز في الناتو، ووجود حالة من عدم الاستقرار في علاقات روسيا مع أوكرانيا بسبب سعي الأخيرة للانضمام للناتو، مما يهدد بمنع القطع البحرية الروسية من استخدام ميناء سيفاستيبول أحد أبرز موانئ البحر الأسود في حال نشوب مواجهة مسلحة. ومع تعزيز التحالف الروسي مع الصين، يمكن لروسيا الاعتماد على الصين في استخدام الفيتو معها في منع صدور أي قرار من مجلس الأمن بفرض عقوبات على روسيا، فضلا عن كون الصين أصبحت مصدراً مهما للتكنولوجيا المتقدمة في شرق آسيا، ولا تستطيع الدول الأوروبية وأمريكا أن يحجموا أنشطتها في تقديم المساعدات التقنية لروسيا مستقبلا إذا ما احتاجت الأخيرة إليها. هذا فضلا عن تأمين مخزون لروسيا من المواد الغذائية التي تعد دول آسيا الوسطى من أبرز المنتجين لها.
5- تأثير البعد الاقتصادي(7)
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق استثمرت روسيا الجزء الأكبر من ميزانيتها الدفاعية في صيانة أسلحتها النووية في حين أهملت قواتها التقليدية، حيث أصبح الصدأ يأكل الجزء الأكبر من أسطولها التجاري في الأحواض الجافة، وتملك حاملة طائرات واحدة مقارنة بـ12 حاملة طائرات أمريكية. أما القوة البشرية العسكرية 1.2 مليون فرد حاليا - وهو ربع (1/4) ما كانت علىه عام 1986 - فان معنوياتها منخفضة ويسودها عدم الانضباط وضعف الكفاءة القتالية. ولإصلاح هذا الوضع جمع بوتين خلال 9 سنوات حوالي 600مليار دولار من مبيعات النفط والغاز لحل المشاكل الاقتصادية للدولة أولا ثم مشاكل القوات المسلحة التي تحتاج إلى أموال طائلة. هذا في حين يبلغ حجم الاقتصاد الروسي 1.3تريليون دولار، وهو ما يوازي تقريبا حجم الاقتصاد المكسيكي أو البرازيلي، ومتأخر عن حجم الاقتصاد الصيني الذي يبلغ 3.3تريليون دولار، والاقتصاد الأمريكي 15 تريليون دولار.
مما لاشك فيه أن روسيا استفادت كثيرا من ارتفاع أسعار الطاقة منذ عام 2003، وقد انعكس ذلك في تطورها الديناميكي في المجال الاقتصادي، وبما كان له انعكاسا إيجابيا على الصعيد العسكري. ففي عام 2005 نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6.4? وانخفض معدل التضخم من 11.7? عام 2004 الي 10.9? عام 2007 (قبل نشوب الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008)، وارتفع حجم الانتاج الصناعي في البلاد بنسبة 4? ، وبلغ حجم انتاج النفط 496.6 مليون طن سنويا مسجلا بذلك زيادة تصل إلى 2.2? مقارنة بمؤشر انتاج عام2004، كما وصل حجم النفط المباع في الأسواق المحلية الروسية الى 207.4 مليون طن، وازداد هذا المؤشر مقارنة بعام 2004 بنسبة 6.2? حيث بلغ معدل الإنتاج اليومي للنفط 10 مليون برميل يوميا، وارتفع حجم الاستثمارات الأجنبية المتراكمة في الاقتصاد الروسي إلى 100 مليار دولار.
وكان من نتيجة هذه الطفرة الاقتصادية أن انخفض حجم ديون روسيا الخارجية في عام 2005 بنسبة 28? وبلغ 81.4 مليار دولار. وتقلصت نسبة الديون الخارجية المستحقة على روسيا إلى الناتج القومي الإجمالي من 23? الى 14.8? كما بلغ حجم احتياطي العملة الحرة في البنك المركزي الروسي 500 مليار دولار. ويرجع هذا النمو الاقتصادي إلى وضع خطة استهدفت تحقيق استغلال شامل للثروات الطبيعية في روسيا وتحسين إدارتها واستخدامها تحت إدارة مركزية قوية.
وإذا كان إجمالي الناتج القومي للولايات المتحدة - القوة الاقتصادية الأولي في العالم قد بلغ 15 تريليون دولار، وميزانيتها الدفاعية هي الأضخم في العالم - وصلت في عام 2010 إلى 680 مليار دولار - في حين لا تتجاوز ميزانية روسيا الدفاعية 40 مليار دولار. وبينما تحتل الولايات المتحدة المركز الأول في مبيعات الأسلحة في العالم، حيث وقَّعت اتفاقات أسلحة تبلغ قيمتها 37.8 مليار دولار في عام 2008 بنسبة تقدر بنحو 68? من جميع الأعمال التجارية في سوق السلاح العالمي، فإن روسيا تأتي في المرتبة الثالثة من حيث مبيعات السلاح برصيد 3.5 مليار دولار بعد إيطاليا التي احتلت المركز الثاني (3.7 مليار دولار مبيعات)، وهو ما يمثل انخفاضا بشكل كبير في مبيعات روسيا بعد تحقيقها 10.8 مليار دولار مبيعات أسلحة في عام 2007. وهو ما فسره المراقبون بأنه نتيجة انخفاض المستوى التكنولوجي للصناعة العسكرية الروسية بوجه عام، الأمر الذي برز في عيوب صفقة طائرات ميج 29 مع الجزائر وسقوط أعداد من هذا النوع من المقاتلات في سيبيريا وجورجيا، كما لم تعد روسيا تعطي تسهيلات في الدفع كما كان الحال في السابق بعد خصخصة معظم الصناعات العسكرية، والاهتمام الروسي بالتركيز على تطوير الصواريخ البالستية عابرة القارات ومتوسطة المدى لمواجهة الدرع الصاروخي الأمريكي، وعدم تخصيص أموال كافية للبحث والتطوير في مجال الأسلحة التقليدية، مع إصرارها على بيع مخزوناتها من الأسلحة المتقادمة.
وبرغم هذه العيوب وأوجه القصور فإن التنبؤات تشير إلى أن روسيا هي القوة القادمة، حيث يدعم قوتها الاقتصادية مخزون ضخم من النفط والغاز في وقت تمثل فيه الطاقة القوة (النفوذ) وهو ما تفتقر إليه الولايات المتحدة، حيث لا يزيد احتياطيها من النفط عن 22 مليار برميل، وتستورد 51? من احتياجاتها النفطية، ولذلك فهي متعطشة باستمرار للطاقة، ويفسر وجودها العسكري في مناطق إنتاج الطاقة مثل منطقة الخليج وسعيها إلى تواجد عسكري في آسيا الوسطى وبحر قزوين.
وكان لهذا الإزدهار الاقتصادي الروسي، انعكاسات إيجابية لم تقتصر فقط على الاستقرار السياسي الداخلي، ولكن أيضا في زيادة النفوذ والتأثير السياسي الخارجي لروسيا، خصوصا في الدائرة الإقليمية المحيطة بها. حيث تجنب كثير من الدول الأوروبية اغضاب روسيا حتي لا توقف إمدادات الغاز الطبيعي الروسي لها. ومن هنا يمكننا أن نفهم مغزى التذبذب في المواقف الأوروبية تجاه قضية استقلال كوسوفو، خاصة بعد أن أثار انضمام دول بحر البلطيق الثلاثة وبعض دول أوروبا الشرقية للناتو غضب روسيا، بعد أن كانوا في الماضي جزءاً من حلف وارسو الذي كانت تتزعمه روسيا قبل تفكك الإتحاد السوفيتي مما أدى إلى تقلص نفوذ روسيا في هذه المناطق. وهو ما ردت على روسيا بعد ذلك بإجراء مناورات عسكرية ضخمة استخدمت فيها كثير من الأسلحة الاستراتيجية في مناطق مختلفة من العالم، كما بدأت في تطوير أنظمة أسلحتها التقليدية. ففي عام 2008 أجرت أكبر مناورة عسكرية لها في المحيط الأطلنطي بعد غياب دام ربع قرن، ناهيك عما سبق الإشارة إليه من مناورات بحرية وجوية في شرق البحر المتوسط وفي البحر الكاريبي، واستمرار مرابطة قواتها في مناطق من الإتحاد الروسي تتواجد بها نزعات انفصالية مثل الشيشان وداغستان وأوسيتيا الشمالية الجنوبية شمال جورجيا، وفي أبخاريا، وترانسفيري، ومولدافيا. كما حلقت قاذفتان إستراتيجيتان من نوع (توبولوف ms-95) فوق المحيط المتجمد الشمالي قرب آلاسكا في منطقة الحدود مع الولايات المتحدة لمدة 10 ساعات، وتكرر الأمر مرة أخرى بقاذفتين من نفس الطراز فوق المحيطين الهادي والأطلنطي. كما منح رئيس فنزويلا تشافيز روسيا قاعدة عسكرية في مطار بجزيرة آرتشيل ليكون قاعدة مؤقته لسلاح الجو الروسي. كذلك درست روسيا إعادة استخدام المطارات الكوبية لهذا الهدف الردعي ضد أمريكا، حيث يتواجد في كوبا أربعة مطارات مجهزة بممرات إقلاع وهبوط بطول 4000كم - تسمح باستخدام القاذفات الاستراتيجية الروسية بعيدة المدي، كما بدأت عملية مفاوضات مع سوريا لاستخدام ميناء طرطوس، وليبيا لاستخدام ميناء طرابلس، واليمن لاستخدام ميناء سوقطرة للحصول على تسهيلات بحرية لأسطولها في شرق البحر المتوسط والمحيط الهندي، وهو ما يعد توسعا جيوسياسيا لروسيا على النطاق العالمي.
1- نظرة عامة8)
أقرت روسيا عقيدتها العسكرية اجديدة في عام 2000 مستندة إلى التغيرات التي طرأت على العالم خلال السنوات التي أعقبت انهيار الإتحاد السوفيتي، لكن التطورات المتلاحقة منذ ذلك العام أجبرت الروس على إعادة النظر في أولوياتهم. وفي حين كان الكرملين يشدد خلال الأعوام الأربعة الأولى من القرن الحالى على أن روسيا تواجه خطر الدخول في نزاعات مسلحة مع أي طرف أو دولة في العالم، فإن خطاب المسؤولين الروس تغير بشدة خلال العامين الآخيرين. فمع المحافظة على استراتيجية “عدم الدخول في صراعات، أو الانحياز إلى طرف إقليمي ضد طرف آخر”، فإن السياسيين عادوا إلى الحديث عن ضرورة الاستعداد لمواجهة أي تهديد للأمن القومي الروسي، وبرزت للمرة الأولى مسألة استعداد القوات الروسية لتوجيه ضربات استباقية ضد أعداء محتملين، فلا يكاد يخلو خطاب للرئيس بوتين أو أحد أعوانه من الإشارة إلى مسألة ارتفاع سخونة التوتر في العالم، وميل أطراف إلى استخدام القوة لحل النزاعات، ما يعتبر تهديدا مباشرا للأمن وسببا لتحديث العقيدة العسكرية الروسية في مواجهة كل الاحتمالات.
وقد وقّع الرئيس بوتين مرسوما يعتمد العقيدة العسكرية الجديدة التي أقرها مجلس الأمن القومي الروسي والتي تسمح باستخدام الأسلحة النووية - كاختيار أول - لصد أي هجوم محتمل، بالإضافة لامكانية استخدامها في حالة فشل جميع الوسائل الأخرى في تسوية أي أزمة. هذا بالإضافة للجهود التي تبذلها روسيا حاليا لتدعيم الدرع الصاروخي الموجود حاليا حول موسكو، ومناقشة توسيعه ليشمل المناطق الاستراتيجية المهمة في روسيا لمواجهة احتمالات الضربة النووية الأولى من قبل الولايات المتحدة، وزيادة قدرة روسيا على رفع درجة استعداد مئات الصواريخ العابرة للقارات في دقائق لتوجيه الضربة الثانية، وتعويض الصواريخ التي يحتمل أن ينجح نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي في اعتراضها، هذا فضلا عن تحديث المنظومة النووية الاستراتيجية، وتحويلها إلى أسلحة فضائية نووية استراتيجية ترتبط عضويا بتشكيلات الأسلحة الأخرى التقليدية في البر والبحر والجو.
ولتوضيح هذه الفكرة قال أحد المحللين الاستراتيجيين الروس: “ان قيام واشنطن مثلا بتوجيه ضربة عسكرية ضد إيران، يمكن أن يسفر عن توسيع دائرة المواجهة لتشمل بالإضافة لإيران بلدان أخرى مثل أذربيجان، وبما يعني التهديد باندلاع حرب إقليمية تصيب شظاياها المناطق الجنوبية لروسيا”. لذلك ينبغي على روسيا في البداية العمل على تفعيل سياستها العسكرية، واتخاذ اجراءات تبدأ باعتماد عقيدة عسكرية جديدة لتصل إلى اعتماد سياسة دبلوماسية أكثر نشاطا وانفتاحا، إلى جانب تنشيط العلاقات الاقتصادية، والالتفات إلى عنصر تجاهله الروس طويلا وهو الإعلام، مع توحيد التحديات العسكرية وغير العسكرية في ملف واحد وتسميته بـ”العقيدة الدفاعية”.
وبالاضافة للعقيدة العسكرية تتداول الأوساط السياسية والعسكرية الروسية ما يعرف بالعقيدة السياسية، وهي تتمحور حول الدور الذي يمكن أن تلعبه روسيا في المستوى الاقليمي، حتى لو اقتضى الأمر استعمال القوة العسكرية لحماية ثروتها الاقتصادية، حيث يشهد الاقتصاد الروسي نمواً ملحوظا في السنوات الأخيرة، وتشرف على ذلك مؤسسات مختلفة في البلاد، مما يتطلب تنسيقا كبيرا واستعداداً أكبر للتدخل عند الحاجة استجابة لمتطلبات الأمن القومي في بعده الاستراتيجي، ويشرف على تنفيذ هذه السياسة مجلس الأمن القومي الروسي.
.. دولــــــــة الإســـــــلام .. باقيــــــــــة ..
باقيــــــة..
لأنها بُنيت من أشلاء الشهداء، ورويت بدمائهم وبها انعقد سوق الجنة..
باقيــــــة ..
لأن توفيق الله في هذا الجهاد أظهر من الشمس في كبدالسماء..
باقيــــــة ..
لأنها لم تتلوث بكسب حرام أو منهج مشوه..
باقيــــــة ..
بصدق القادة الذين ضحوا بدمائهم، وصدق الجنود الذين أقاموها بسواعدهم نحسبهم والله حسيبهم..
باقيــــــة ..
لأنها وحدة المجاهدين ومأوى المستضعفين..
باقيــــــة ..
لأن الإسلام بدأ يعلو ويرتفع، وبدأت السحابة تنقشع وبدأ الكفر يندحر وينفضح ..
باقيــــــة ..
لأنها دعوة المظلوم ودمعة الثكالى وصرخة الأسارى وأمل اليتامى..
باقيــــــة ..
لأن الكفر بكل ملله ونحلها جتمع علينا وكل صاحب هوى وبدعة خوان جبان بدأ يلمز ويطعن فيها
فتيقنا بصدق الهدف وصحة الطريق..
باقيــــــة ...
لأن على يقين أن الله لن يكسر قلوب الموحدين المستضعفين ولن يشمت فينا القوم الظالمين..
باقيــــــة ..
لأن الله تعالى وعدفي محكم تنزيله فقال:
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَايُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)
وما ترتب على كل ذلك من تفكك الإتحاد السوفيتي، واستقلال بلدان آسيا الوسطى وحوض البلطيق والقوقاز، وقيام روسيا الإتحادية التي تضم بجانب روسيا سبعة أقاليم إسلامية صغيرة مجاورة لها، إلى جانب خروج دول أوروبا الشرقية عن الهيمنة الروسية. وكان من نتيجة ذلك تقديم الرئيس الروسي آنذاك بوريس يليتسن سلسلة من التنازلات للولايات المتحدة، خاصة مع استشراء الفساد وتمدد عصابات المفايا داخل المؤسسة العسكرية الروسية، ووقوع الروس في ضائقة اقتصادية لم يشهدوا مثيلا لها إبان فترة الحكم الشيوعى، وإتساع الهوة بين الفقراء وحيتان المال، أن نشطت خلية عمل من مفكرين وخبراء في الأوساط المحافظة لوضع خطة إنقاذ تطورت لاحقا إلى ما يعرف بـ “عقيدة سيرجيوس”، نسبة إلى قديس يعتبره الروس حاميا لهم في الأزمات. وتنهض هذه العقيدة الجديدة على إستعادة موقع روسيا ودورها في العالم، وذلك إستناداً إلى مشاعر قوپمية ودينية أورثوذكسية شكلت المنطلق الأيديولوجي لفريق الشباب الحاكم اليوم في موسكو، ومنهم فلاديمير بوتين رئيس الوزراء وميدفيديف رئيس الجمهورية، والحريصين على أن يبقى قرار الروس في أيديهم في منأى عن التدخلات الخارجية، خاصة الولايات المتحدة.
وفي إطار العمل بـ “عقيدة سيرجيوس” ووضع خطة لإنقاذ روسيا، برزت ثلاث تيارات مختلفة:
1- تيار الأحرار: وهم الذين يؤيدون أن تقاوم روسيا بوعي عقلية القوة الكبرى، وأن تتوقف عن استعراض مظاهر القوة الكبرى، وأن تتوقف أيضا عن منافسة الولايات المتحدة، وبدلا عن ذلك على روسيا أن تسعى إلى تنفيذ خطة أوروبا الكبرى، والدخول في تكامل مع أوروبا من منظور أوروبا الكبرى، بالنظر لكون روسيا حليف طبيعي وشريك إستراتيجي لأوروبا، وهو ما يفرض تركيز الإنتباه على الشؤون الداخلية - خاصة التنمية الداخلية، وتحسين معيشة المواطنين، وهو ما يعنى في المحصلة النهائية عدم إقامة علاقات عسكرية بين روسيا والدول الأخرى، وتجنب الدخول مرة أخرى في سباق تسلح مع الولايات المتحدة يرهق روسيا إقتصاديا.
2- تيار المتشددين: ويتمثل في مفهوم يؤكد على أن روسيا لديها قدرات اقتصادية وعلمية وتكنولوجية وعسكرية هائلة، تمكنها من مواجهة التهديدات الأمريكية التي تحاصرها. ومن ثم عليها أن تستثمر هذه القدرات الشاملة من أجل أن تستعيد مكانتها الدولية السابقة كقوة إقليمية عظمى منافسة للولايات المتحدة على قمة النظام الدولي، خاصة على رأس القارة الأوروبية والآسيوية (أوراسيا)، وأن تستعيد موقعها السابق كأحد مراكز التأثير في عالم متعدد الأقطاب. ولتحقيق ذلك ينبغى أن تعيد بناء وتطوير قواتها العسكرية، وأن تحتفظ بقواعد عسكرية في المناطق التي تتمتع بأهمية إستراتيجية في العالم. ومن هنا يمكننا أن نفهم مغزى عودة الأسطول الروسي إلى قاعدة طورطوس في سوريا في شرق البحر المتوسط، وتنشيط قواعدها السابقة في كوبا وإقامة قاعدة في فنزويلا في منطقة البحر الكاريبى في مواجهة الأساطيل الأمريكية في هذه المناطق.
3- تيار البراجماتيين: وفي مقدمتهم الرئيسان بوتين وميدفيدين، وهذا التيار يعترف بصراحة أن إجمالى الناتج القومي لروسيا يقدر بعشر (1/10) من مثيله الأمريكى، وأن روسيا أصبحت منهكة بعد سنوات من الإضطرابات، ولذلك من المستحيل عليها أن تنجز إصلاحات بشكل سلس إذا ما طبقت بلا تمييز نماذج وأنماطا أمريكية للتوسع الخارجي، وإقتصاد السوق بشكله الرأسمالي المطلق داخليا، ومن ثم فلابد لروسيا أن تبحث عن طريقها الخاص، لاسيما وأنها تمر حاليا بفترة تحول تاريخية صعبة من النظام الشيوعي الشمولي إلى نظام السوق الرأسمالي، وحتى يمكن لها أن تفلت من المضاعفات السلبية لعملية التحول هذه.
وقد تغلب التيار البراجماتي الأخير على التيارين الآخرين وحيث قد قدم بوتين ما أسماه بـ “الأفكار الروسية” والتي تهتم بإعلاء القيم الوطنية والإفتخار بالقومية الروسية وتاريخها وقدراتها الجيوبولوتيكية الضخمة وإنجازاتها، والتطلع لتحويل روسيا إلى بلد متقدم حضاريا، وبما يرفع مستوى معيشة الفرد الروسي إلى مستوى الفرد الأمريكي والأوروبي والياباني، وأن النجاح في تحقيق هذا الهدف هو الذي سيعيد لروسيا مكانتها الدولية كقوة عظمى، ويضمن أمنها القومي ومصالحها القومية على الساحة الدولية، أكثر من إعتمادها على قدراتها العسكرية. وتهتم “الأفكار الروسية” التي طرحها بوتين بتحديد دور الدولة، وأنها السلطة الفاعلة وهي المصدر والضمان للنظام، وهي التي تدافع عن الإصلاحات وتعطيها قوة الدفع، هذا بالإضافة إلى أهمية العمل لتحقيق التماسك الإجتماعى، وتغليب الإعتبارات القومية على الاعتبارات العرقية والطائفية والمذهبية.
وقد لاحظ المراقبون للشأن الروسي مؤخرا وجود معاندة في مواقف القيادة الروسية أشبه بالتناقض. ففي الوقت الذي يتحدث فيه الرئيس الروسي ميدفيديف في أحد مؤتمرات مجموعة الثمانى الأخيرة عن “هندسة أمنية أوروبية جديدة” نجده في الوقت نفسه يهدد بوضع صواريخ (اسكندر B) متوسطة المدى في جيب كالينجراد بين ليتوانيا وبولندا ليهدد به الأخيرة إذا ما سمحت بنشر قواعد صواريخ الدرع الصاروخي الأمريكي على أراضيها، وهو ما لم يجرؤ عليه الحكام السوفييت إبان حقبة الإزدهار السوفيتي. ومن مظاهر هذا التناقض أيضا وقوف الروس إلى جانب الولايات المتحدة مرتين فى مجلس الأمن لفرض عقوبات على إيران، في حين تقوم بتزويد طهران بأنظمة تسليحية متطورة تشمل وسائل دفاع جوي وصاروخي وغواصات ومقاتلات حديثة ومفاعلات نووية بمليارات الدولارات. وقد فسر المراقبون هذا التناقض بأنه تعبير عن حالة غضب تجتاح الروس جميعا بسبب عدم احترام الغرب لهم، خاصة الولايات المتحدة التي يحملونها المسؤولية الأساسية فيما لحق بالبلاد من إنهيار وفوضى سياسية وإقتصادية وإجتماعية، وإنفجارها من الداخل. وبالنسبة للروس حاليا فإنه ليست هناك ساحة معركة مشحونة بالعواطف بقدر أراضي إمبراطوريتهم الضائعة. وهو ما إنعكس في خطاب بوتين أمام البرلمان في إبريل 2005 عشية الإحتفالات الضخمة بالذكرى الستين لإنتهاء الحرب العالمية الثانية عندما قال: “إن سقوط الإتحاد السوفيتي كان الكارثة الجيوسياسية الأكبر في القرن العشرين، ومأساة حقيقية للشعب الروسي”، واشتكى من أن ملايين الروس وجدوا أنفسهم مواطنين في بلدان مختلفة، وقد تفشى وباء الإنفصالية في روسيا الإتحادية نفسها في محاولة إنفصال الشيشان عنها. وهو ما عبّر عنه ميخائيل مارجيلوف رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الإتحاد بقوله: “إن خسارة الإمبراطورية كانت مسببة للصدمة بقدر الطلاق .. فنحن لا نزال في خضم عملية الإنفصال عن أزواجنا وزوجاتنا السابقين”، فالمشاحنات التي تشهدها روسيا مع جيرانها هي أشبه بمشاهد عملية طلاق، يرمي الجميع الأطباق ويحطمون الأثاث”.
ومن هنا كان إستغلال القيادة الروسية للحرب التي شنتها جورجيا ضد أوسيتيا الجنوبية فرصة للتدخل العسكري ضد جورجيا وتأديبها على ما فعلت، ونواياها في الإنضمام للناتو، بل وجدت موسكو في ذلك فرصة للاعتراف باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا. واستعادة النفوذ الروسي في هذين الإقليمين، بل وأيضا فرصة لردع أوكرانيا عن المضى على درب جورجيا في محاولة الإنضمام للناتو، وأعلنت موسكو أن إنضمام هاتين الدولتين- جورجيا وأوكرانيا - خطا أحمر لن تسمح باجتيازه. ووجدت مبرراً لتدخلها في جورجيا بأنه يماثل تدخل الناتو في كوسوفو ضد صربيا عام 1999 لإنقاذ الألبان الذي تقمعهم صربيا، وبالمثل فإن تدخل روسيا في جورجيا هو لحماية الروس المقيمين في أوسيتيا الجنوبية من أعمال القمع التي يتعرضون لها من خلال حكومة جورجيا.
ويساعد هذا كله على شرح الأسباب التي دفعت بوتين إلى العمل بجهد كبير منذ وصوله إلى السلطة عام 2000 لاستعادة مكانة روسيا العالمية، وإعادة إرساء دورها كقوة إقليمية عظمى من دون منازع، وكقوة دولية كبرى ينبغي عدم تجاهلها من قبل الآخرين. وبذلك يمكن إعتبار كل القرارات السياسية الكبرى التي إتخذتها القيادة الروسية في العقد الأخير وحتى اليوم - بما في ذلك زيادة الإنفاق الدفاعي خمسة أضعاف، وتركيز السلطة بصورة قاسية في أيدي قادة الكرملين - بأنها وسيلة لتحقيق هذه الغايات.
العوامل المؤثرة على العقيدة العسكرية الروسية الجديدة:
1- تأثير البعد الجغرافي والدرع الصاروخي الأمريكي(1)
لذلك فإننا أمام تطور يستلزم تحليل المنظومة الحديثة للفكر الإستراتيجي الروسي، من حيث الأهداف القومية والإستراتيجية، وإدراكات التهديد التي تعوق وتعرقل تحقيق هذه الأهداف، وكيفية توظيف القدرات والإمكانات الروسية الضخمة لمواجهة هذه التحديات، وتأثير ذلك على بلورة عقيدة روسيا العسكرية، لاسيما ما يتعلق منها بالصناعة العسكرية، وتأثير العوامل الجيوبوليتيكية. خاصة الجغرافية والتقنية - بما يدعم أمن روسيا في عالم مغاير.
وإذا كان لكل دولة كبرى مسلمات جيوبوليتيكية لا يمكن التنازل عنها لأنها مصيرية، فإن لروسيا أيضا مسلماتها الجيوبوليتيكية التي لم تتغير منذ أيام القيصر الأول - إيفان الرهيب - وحتى الرئيس الحالي ميدفيديف، مروراً ببطرس الأكبر وكاثرين الكبرى، ويندرج في هذه المسلمات مايسمى “بالمحيط المباشر” بالمعنى الجيوبوليتيكي وكأنه عماد الكيان الروسي وعماد الأمن القومي. ويتمثل هذا المحيط المباشر لروسيا اليوم بعد تفكك الإتحاد السوفيتي في الخط الممتد من جورجيا وأوكرانيا وحتى بحر البلطيق مروراً بتشيكيا وبولندا، فلكل بلد من هذه البلدان ذكرى معينة في الذاكرة التاريخية الروسية - أغلبها دموية. فتعتبر أوكرانيا الخاصرة الطرية لروسيا. أما إذا خرجت جورجيا من تأثير دولة عظمى منافسة، فقد تكون منصة الإنطلاق الأخطر إلى قلب روسيا، خصوصا في ظل غياب أي مانع جغرافي طبيعي، ولذلك كانت بولندا تاريخيا ممر الغزاة إلى روسيا. ومن هنا يمكننا أن نفهم الإصرار الروسي على منع دخول جورجيا وأوكرانيا في حلف الناتو، وأيضا الرفض الروسي لنشر عناصر الدرع الصاروخي في تشيكيا وبولندا.
وتبلغ مساحة روسيا 17مليون كيلومتر مربع، وهو ما يقارب مساحة الولايات المتحدة والصين معا، وغرب روسيا يجاور دول أوروبا الشرقية، ورغم أن مساحته لا تتجاوز 4 مليون كم2 إلا أنه يتركز فيه 80% من سكان روسيا نتيجة للظروف المناخية المحتملة نوعا ما، ولأن أوروبا كانت دوما قطبا جاذبا للحضارة الروسية، وبالتالي فالمدن الروسية في مجملها والعاصمة موسكو والمنشآت الصناعية والحيوية ومنصات إطلاق الصواريخ الباليستية، وتقريبا كل حضارة روسيا تتركز في غرب البلاد أي بجوار أوروبا الشرقية. ومن هنا فإن التهديد الذي تواجهه روسيا نتيجة نشر عناصر الدرع الصاروخى الأمريكي في شرق أوروبا يعتبر تهديداً رئيسيا لهذه الحضارة، ومن هنا جاءت شراسة الرد الروسي برفض المخطط الأمريكي في هذا الشأن. أما شرق روسيا الذي هو سيبيريا فمساحته 13 مليون كم2، ويتناثر في هذا المساحة الجليدية الهائلة 20% من السكان، إلا أن معظم ثروة روسيا المعدنية - خاصة النفطية - متواجدة في سيبيريا. كما تشكل هذه المناطق مع منطقة الأورال بوسط وشمال روسيا عمقا إستراتيجيا أفاد روسيا كثيرا إبان الحرب العالمية الثانية عندما إقتربت جيوش النازي من موسكو، فانتقلت المصانع الحربية الروسية إلى منطقة الأورال لتواصل الإنتاج وإمداد الجيوش السوفيتية بإحتياجاتها من الأسلحة والمعدات والمركبات والطائرات، وحيث تشكلت في منطقة الشرق الأقصى من روسيا حوالي 50 فرقة هي التي قامت بالهجوم المضاد الواسع عام 1942، والذي استعادت به روسيا زمام المبادأة وأراضيها، بل وطورت أيضا هجومها في إتجاه الغرب وداخل ألمانيا وبما أدى إلى سقوط النازية وتحرير دول أوروبا الشرقية من الإحتلال النازي.
لذلك لم يكن غريبا أثناء فترة الحرب الباردة (من خمسينيات القرن الماضي وحتى التسعينات) أن تركز الإستراتيجية الروسية جانبا مهما من ترسانتها الصاروخية النووية في غرب روسيا الذي له حدود طويلة وممتدة مع دول أوروبا الشرقية، وذلك لتكون أوروبا الغربية بأكملها في مرمى الصواريخ الباليستية الروسية، وكان تركيز الترسانة النووية الروسية في غرب روسيا مبنيا على أساس جغرافي إستراتيجي فرضته الحرب الباردة، وهو أن دول أوروبا الشرقية كانت بالنسبة لروسيا منطقة ضخمة من الدول العازلة التي لا يمكن للغرب أن يدخل بقواته إليها، وحيث فرضت روسيا على هذه الدول النظام السياسي الشيوعي والدخول في حلف وارسو، ولتكون بمثابة (توابع) تدور في الفلك السوفيتي، لذلك لم تتردد روسيا في التدخل عسكريا في المجر عام 1956، وفي تشيكوسلوفاكيا عام 1968 عندما تعرضت الأنظمة الشيوعية الحاكمة لثورات داخلية، وحيث أخمدتها القوات السوفيتية بالقوة في حينها، ولكن بعد تفكك الإتحاد السوفيتي وخروج دول أوروبا الشرقية من الفلك الروسي، وإنضمام بعضها لحلف الناتو رغم معارضة روسيا لذلك، إلا أنه كان من الصعب لها أن تقبل بدخول قوات حلف الناتو فيها، ولا بنشر عناصر الدرع الصاروخي الأمريكي على أراضيها على مسافة 200كم فقط من الحدود الروسية، لما يشكله ذلك من تهديد للترسانة النووية والصاروخية الروسية، وإفقادها القدرة على القيام بالضربة النووية الثانية، وإنطلاقا من شرق أوروبا المجاور.
ولأن الفكرة الأمريكية بوضع رادارين فائقي التطور (إكس باند) في تشيكيا تقوم على أساس رصد أي إطلاق هجوم صاروخي من روسيا نتيجة تحليل الإشعاعات الصادرة عن الوهج الحراري لحظة إنطلاق الصاروخ أو بواسطة الأقمار الصناعية، وعلى الفور تتلقى صواريخ الإعتراض الأمريكية المقامة في بولندا (10 قواعد صواريخ) الإشارة الرادارية، وبما يؤدي إلى سرعة توجيه هذه الصواريخ لاعتراض الصواريخ الروسية المهاجمة في منتصف مسارها نحو أهدافها (أي حوالي 300-500كم بافتراض أن مدى الصاروخ الروسي المهاجم حوالي 1000كم)، فإنه يمكن إعتراض مثل هذا الصاروخ بنجاح ومنعه من الوصول إلى أهدافه في أوروبا الغربية. ولأن أقصى قدرة للرادار الأمريكي (إكس باند) هو أن يغطي فقط غرب روسيا حتى سلسلة جبال الأورال، فإن معنى ذلك أنه من المستحيل عليه رصد صواريخ روسية تنطلق من شرق الأورال في سيبيريا(2)
ومن هنا جاء القرار الإستراتيجي الروسي بتغيير قواعد اللعبة مع الولايات المتحدة، وذلك بالارتداد الجغرافي بالأجيال الجديدة والأكثر تطوراً في الترسانة النووية والصاروخية الروسية، سواء من حيث مصانع إنتاجها أو مستودعات حفظها وأيضا مواقع إطلاقها، إلى عمق سيبيريا النائي على مسافة 10.000كم من حدود روسيا مع أوروبا، وهو ما يعني تحييد مشروع الدرع الصاروخي الأمريكي، لأن الرادار (إكس باند) لن يغطى هذا العمق البعيد النائي في أقصى جنوب شرق روسيا. ومن هنا يمكننا أن نفهم مغزى المعلومات التي أوردتها وكالات الأنباء في مارس 2008م والتي أكدت قيام روسيا ببناء قاعدة جديدة لإطلاق الصواريخ والأقمار الصناعية قرب حدود روسيا مع الصين(3)، وهو ما يتيح لروسيا إطلاق جميع أنواع الصواريخ والأقمار الصناعية، وهذه القاعدة بحجم مدينة كاملة وبحيث تكون ملاذا آمنا وجاهزة لتنفيذ مهامها في عام 2016 بالنظر لكونها أبعد نقطة جغرافية في الإقليم الروسي وتتاخم المحيط الهادى، وحيث تفتقد الرادارات الأمريكية في أوروبا القدرة على رصد إطلاق الصواريخ الباليستية المتطورة من سيبيريا وبذلك يظل الردع النووي قائما. هذا فضلا عما تشكله مثل هذه القاعدة العسكرية الروسية من نواة لبناء خط دفاعي كبير ومتطور لتأمين سيبيريا التي بها أكبر مناجم النفط والثروة المعدنية والمصانع العسكرية في العالم، ذلك لأن حدود روسيا مع الصين هي البوابة إلى سيبيريا، هذا فضلا عن كون هذه القاعدة العسكرية الضخمة المتاخمة لضفاف روسيا على المحيط الهادي يتيح لها استمرار الإحتفاظ بميناء فيلاديفوستك الإستراتيجي، الذي هو مفتاح السيطرة على بحر اليابان وبما يضمن سيادة روسيا على جزر الكوريل، وهو موضوع نزاع إستراتيجي قديم بين طوكيو وموسكو، خاصة مع القلق الروسي من دعم واشنطن السياسي والتكنولوجي والعسكري لليابان وإطلاق برامج التسليح المتطور لليابان، ناهيك عما تتيحه هذه القاعدة العسكرية الروسية من تنسيق وتعاون إستراتيجي بين روسيا والصين في مواجهة التواجد الأمريكى في الباسيفيكي حيث القواعد الأمريكية في اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان فضلا عن الأسطول السابع الأمريكي.
2- روسيا قوة عالمية ثانوية4)
يقول ميشيل فوشيه عضو مجلس الشؤون الخارجية في فرنسا وسفيرها السابق في مجلس لستوار في 8/9/2009م“إن الإتحاد الروسي ليس قوة عظمى، على خلاف ما تزعم النخب الروسية، كما أنه في ذات الوقت ليس قوة عظمى في طور الأفول، على ما يقال في الغرب”. ويرجع فوشيه ذلك إلى عدة أسباب منها التحدى الديموجرافي (السكاني) الذي تعانيه روسيا، بسبب إنخفاض الخصوبة فيها وتزامنه مع إنخفاض متوسط الحظ في الحياة، حيث يقل عدد سكانها بمعدل 0.6 مليون نسمة كل عام، ومن المتوقع أن يتدنى عدد سكانها من 140 مليون نسمة في عام 2009 إلى 130 مليون نسمة في عام 2025، ولذا تنتهج السلطات الروسية سياسة توزيع جوازات السفر الروسية على رعاياها من المستقرين خارج أراضيها في القوقاز وأوكرانيا.
ورغم أن حجم الترسانة النووية الروسية، وعدد الرؤوس النووية يبلغ 2800 رأس، وهو ما يفوق حجم الترسانة النووية الأمريكية البالغ عدد رؤوسها النووية 2200 رأس، وهو ما يمكن موسكو من أن تفاوض واشنطن مفاوضة الأنداد، إلا أن حال الجيش الروسي المتدهورة والبالغ عدد أفراده المليون، وموازنته الدفاعية 70 مليار دولار، تحول دون توافر هذه الندية، فقد أماطت الحرب في جورجيا عام 2008 القناع عن ثغرات تقنية وتنظيمية وتسليحية خطيرة يعانيها الجيش الروسي.
كما يشوب الإقتصاد الروسي عيوب كثيرة، ذلك أن عائدات النفط والمناجم وغيرها من مصادر الطاقة هي نقطة ضعف إقتصاد هزيل الإنتاج وضامر الإستثمارات، والروبل لا يزال خارج تداول البورصات العالمية، وأسعار الصرف عادت إلى عام 2006. ولكن رغم ضعف روسيا الإقتصادي، فإنها لا تزال تحافظ على مكانتها الرائدة في تكنولوجيا الطاقة النووية المدنية وتكنولوجيا الفضاء، وإن كانت لا تستطيع الاستغناء عن قدرات الغرب التقنية ولا عن الأسواق الغربية.
ويعترف فوشيه بقوة الدبلوماسية الروسية وأنه لا يجب الإستهانة بها، وبمكانتها الراجحة في المؤسسات الدولية، وأولها مجلس الأمن الدولي. حيث تحسن موسكو استغلال شبكات نفوذها، وتقيم الشركات الروسية ذات الصلة الوثيقة بالسلطة السياسية، ولها علاقات وطيدة بشركاء أوروبيين، وتستغل هذه العلاقات لخدمة مصالح روسيا القومية، كما تستغل موقف دول الإتحاد الأوروبي المنقسم من العلاقات معها، وتلعب على حبل هذه الإنقسامات.
ورغم الإستقرار النسبي الذي ساد الشيشان بعد حربي 1994 - 1997، 1999 - 2006 اللتان أطاحتا بالحركة الإستقلالية الشيشانية، إلا أن التوتر لم يخب في شمال القوقاز، وداغستان، وأنجوشيا، وأوسيتيا الشمالية. فالنزاعات بين الجماعات العرقية وأصحاب المصالح المتضاربة والقوى السياسية مستفحلة، رغم نجاح روسيا في بسط هيمنتها الإستراتيجية على جزء من سهول سلسلة جبال القوقاز، وتمكنها من تطويق جمهوريات شمال هذه الجبال. أما دول البلطيق الثلاث، فإن روسيا تميل إلى الإقرار. على مضض باستقلالها، لاسيما بعد أن إنضمت في عام 2004 للإتحاد الأوروبي، ولكنها تسعى إلى إضعاف سيادة هذه الدول الثلاث، وفي تقويض دعم الدول الأوروبية الكبيرة لها.
وفي مايو 2009م أنشأ الرئيس الروسي ميدفيدف لجنة “مكافحة تزوير التاريخ” واقترح حزبه “روسيا الوحيدة” مشروع قانون يدين “بعث النازية في الجمهوريات السوفيتية السابقة”، حيث ترغب موسكو في إقرار واشنطن بنفوذها في الجمهوريات السوفيتية السابقة، ليس ذلك فقط بل الإقرار أيضا بنفوذها في دول أوروبا الشرقية وحوض بحر قزوين والبحر الأسود، والحيلولة دون إنضمام أوكرانيا وجورجيا إلى حلف الناتو، ولذلك تساند بلوغ الأحزاب الموالية لها سدة السلطة في هاتين الدولتين. ولأن روسيا تعتبر نافذة دول آسيا الوسطى الإقتصادية، وهي دول غنية بالنفط والغاز تسعى إلى تنويع منافذها إلى الأسواق الإقتصادية عن طريق الإنفتاح - خاصة نحو الصين التي تعتبر من أكبر الدول المستوردة للطاقة - فإن هذه الدول ليس أمامها سوى توثيق وتعزيز علاقاتها وتعاونها السياسي والإستراتيجي مع روسيا.
أما فيما يتعلق بعلاقات روسيا بالإتحاد الأوروبي، فأغلب الظن ألا تنضم روسيا إليه، فهي ليست مرشحة لعضويته، ولا تلتزم معايير كوبنهاجن التي تحدد شروط الانضمام إلى الإتحاد الأوروبي، ومنها: إرساء المؤسسات الديموقراطية، ودولة القانون، واقتصاد السوق، وفصل السلطات، لذلك فان التحاق روسيا بالإتحاد الأوروبي في نظره يبعث الاضطراب فيه أكثر مما قد يبعثه انضمام تركيا، وذلك رغم أن رابطة روسيا بالإتحاد الأوروبي وثيقة متبادلة، حيث تعتمد أوروبا الوسطي ودول البلطيق والبلقان على الطاقة الروسية من نفط وغاز. كما لا يستهان بحجم التبادل التجاري وقيمته 233 بليون دولار بين روسيا والإتحاد الأوروبي،
كما أن المجتمع الروسي منفتح على أوروبا، فالرحلات الجوية إلى أوروبا تنطلق من 10 مدن روسية، وتعلم حوالي 10 مليون روسي اللغة الألمانية ونصف مليون روسي اكتسبوا اللغة الفرنسية، وهو ما جعل القادة الروس ينظرون بارتياب إلى الإتحاد الأوروبي، لاسيما بعد أن أدركوا تعاظم وتيرة الاندماج الاقتصادي الأوروبي، وأن الرغبة في النموذج الأوروبي هي الغالبة في دول أوروبا الشرقية، وأن الإتحاد الأوروبي لا يرمي إلى موازنة النفوذ الأمريكي؛ ومن ثم لا ينظر إلى روسيا باعتبارها دولة غربية، بل ينظر إليها باعتبارها نموذج يحتذي به في الأنظمة الديكتاتورية بدول آسيا الوسطي.
هذا في النظرة الأوروبية لروسيا. أما نظرة القيادة الروسية لنفسها، فإنها بجانب اعتمادها البعد الأوروبي داخل دائرة المجال الحيوي لروسيا، فضلا عن كون أوروبا الشرقية خصيصاً تشكل “محيطها المباشر” كما سبق القول، فإن روسيا تعتمد أيضا الأيديولوجية الأوراسية - أي الامتداد الآسيوي بجانب الامتداد الأوروبي - باعتبار أن الجزء الأكبر من وسط وشرق روسيا يقع في القارة الآسيوية، وعلى اعتبار أن لروسيا حضارة مستقلة تقوم على التنوع الداخلي وعلى تاريخ طويل من التداخل مع شعوب آسيا. وهنا تدخل إيران كعاملي أساسي في اللعبة الروسية، ليس فقط بسبب جوارها الجغرافي، ولكن لوجود امتدادات عرقية ودينية من إيران داخل المناطق الجنوبية من روسيا، أما الأهم من ذلك فهو أن إيران أصبحت تضرب وبشكل مباشر الاستراتيجية الأمريكية الكبري، وهو ما يتمثل في التدخل الإيراني في العراق ومنطقة الخليج وأفغانستان، هذا رغم أن روسيا لا ترحب بوجود إيران نووية على حدودها الجنوبية، كما تخشى انتقال النفوذ الديني الايراني المتطرف إلى مناطق الشعوب الروسية المسلمة الملاصقة لحدود إيران. ولكن رغم كل ذلك فإن روسيا تطمع من خلال تعاونها مع إيران أن تصل بقواتها وقواعدها العسكرية إلى منطقة الخليج، وتنافس الوجود العسكري الأمريكي هناك. لذلك ليس من المتوقع أن تتخلى روسيا عن إيران في إطار أي صفقة كبري تعقدها مع الولايات المتحدة في اطار التنازل الأمريكي عن نشر عناصر الدرع الصاروخي في أوروبا الشرقية.
3 - تأثيرات خفض الميزانية الدفاعية5)
تفقد الميزانية الدفاعية الروسية 13 مليار دولار سنويا بسبب استشراء الفساد، كما تسبب خفضها في انخفاض مستوى الكفاءة القتالية للقوات الروسية في جميع أفرعها، ومن مظاهر ذلك:
أ- جعلت القوات النووية في حالة سيئة من الكفاءة والقدرة حتى أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية cia حذرت في عام 1997 من أن أنظمة القيادة والسيطرة للصواريخ متوسطة المدى وضعت بطريق الخطأ في درجة استعداد قتالي قصوي عدة مرات منذ عام 1991، فلا يجري تحديث للصواريخ ولا صيانة للأسلحة النووية ولا صيانة لأنظمة القيادة والسيطرة وتشفير هذه الأسلحة، وهو ما حذّر منه وزير الدفاع السابق رودينوف عدة مرات في 1996، 1997، ووزير الدفاع الحالي ايجور سيرجيف، ورغم أن القوات النووية الروسية كانت السبب في تصنيف روسيا دولة عظمي، فإنه تم خصم30-35? من ميزانيتها وتحصل على 64? فقط من الميزانية الدفاعية.
ب- الأسراب الجوية للقاذفات بعيدة المدى بها 40 قاذفة من 68طراز tu-95 في حاجة لإصلاحات رئيسية.
جـ- تم تمديد عمر الصواريخ 3 مرات.
د- تقادم الأسلحة التقليدية وعدم تحديثها.
هـ- ضعف التمويل المخصص للإصلاح.
و- ضعف التمويل للبحث والتطوير.
ز- يوجد 650 مقاتلة ميج 29 عاجزة عن الإقلاع لضعف الصيانة والإصلاح
حـ- توجد مشكلات في الغواصات، حيث يوجد غواصتان داورية صالحة من بين 26 غواصة.
ط- وبالنسبة للصواريخ الاستراتيجية يمكن فقط تحريك كتيبة واحدة بها 9 قواذف من بين 350 قاذف إلى مسرح العمليات.
ي- طياروا القاذفات الاستراتيجية لا يتجاوز عدد ساعات طيرانهم التدريبية 20 ساعة في العام مقارنة بمئات الساعات في الأسراب الأمريكية المماثلة.
ك- تهالك مراكز القيادة والسيطرة المسؤولة عن الأسلحة الاستراتيجية.
ل- ضعف أنشطة مراكز البحث العلمي ومعامل تصميم الأسلحة النووية.
م- تهالك هيكل الاتصالات الذي يستخدم في إرسال كود تشغيل الصواريخ الاستراتيجية، حيث أصبحت جميعها متهالكة ومعداتها عفى عليها الزمن، حتي أن الحقيبة النووية التي تصاحب الرئيس الروسي دخلت مرحلة يتعذر معها الإصلاح.
ن- سقوط مقاتلة ميج - 29 في حرب جورجيا، لذلك حرصت روسيا على شراء طائرات بدون طيار من إسرائيل.
س- ضعف المرتبات وسوء الأحوال المعيشية للجنود، مما أدي إلى ارتفاع نسبة الهروب من الخدمة، وعدم تلبية أوامر التجنيد، وسرقة الذخائر والأسلحة وحتى المواد النووية، وتعاطي المخدرات والتجارة فيها، وزيادة حالات اغتصاب النساء العاملات في الجيش، وبروز حالات تمرد عسكري في عدد من الوحدات. وقد انعكس كل ذلك بوضوح في الأداء القتالي السيئ للقوات الروسية خلال حرب جورجيا، وسبق ذلك إسقاط أعداد كبيرة من المروحيات المتقادمة في الشيشان، وكان يجري تفكيك 20 مروحية لإصلاح مروحية واحدة أثناء الحرب قادرة على التحليق إضافة إلى الكوارث الجوية والبحرية والأرضية الناتجة عن تقادم المعدات والطائرات والسفن والغواصات.
وفي دراسة أجراها (روس بلير) رئيس مركز معلومات الدفاع، أوضحت أبعاد التخلف العسكري الروسي بسبب الانهيار الاقتصادي، وقد لخص الموقف في الآتي: عدم قدرة القوات المسلحة الروسية على آداء مهامها الاستراتيجية مثل الاستطلاع الجوي، والدفاع الفضائي، والدفاع عن الأراضي الروسية في حالة تعرضها لاعتداء خارجي، وعدم المحافظة على الترابط الداخلي، والاستثناء الوحيد هو في قوة الردع النووي، ولكنها بدورها تعاني من تخلف اجراءات الأمان مما يعرضها لحوادث عديدة، خاصة في ضوء تخلف وسائل القيادة والسيطرة والانذار المبكر، وتآكل شبكة أقمارها للاستطلاع والانذار، وعدم القدرة على إصلاحها أو استبدالها بنظام انذار مبكر حديث. كما أن روسيا غير قادرة على مواكبة التقدم التكنولوجي في الولايات المتحدة وأوروبا - خاصة في المقاتلات الحديثة مثل المقاتلة الأمريكية f-22، ولا على مواجهة الدرع الصاروخي الأمريكي، وأن 1/3 ثلث المقاتلات الروسية يجب التخلص منها لتقادمها، وعجز البحوث والتطوير في روسيا حتى اليوم عن الوصول إلى تقنية الإخفاء (ستيلث).
هذا إلى جانب ثلاث مخاطر استراتيجية:
أ- فقدان الكفاءة النوعية داخل الجيش (الجيش الفارغ) خاصة في مجالات القوات الميكانيكية والمحمولة جواً والتي تجمدت منذ عام 1992، خاصة بعد أن فشل اعتماد روسيا في حرب الشيشان على قوات الحدود والشرطة الداخلية اللذان أظهرا ضعفا شديداً.
ب- سقوط العتبة النووية، وبذلك تفقد روسيا الخيارات الاستراتيجية بين العمليات منخفضة الحدة، والرد النووي الكامل، ومع التزام الدولة بعدم شن الضربة الأولى، فإن المرونة ستصبح صعبة في استخدام السلاح النووي.
جـ- السخط العسكري من جانب الأفراد مما أدى إلى شيوع حالات خطيرة من عدم الانضباط.
4- تأثيرات الحرب في القوقاز (جورجيا)6)
فرضت الأزمة الجورجية التي وقعت في أغسطس 2008 وقائع جديدة في المنطقة والعالم، كان لها تأثير مباشر في تعديل العقيدة العسكرية الروسية الجديدة التي صاغها بوتين عام 2000م. فبعد أن انقشع غبار المعارك العسكرية التي جرت فوق أرض جورجيا بين القوات الروسية من جانب والقوات الجورجية من جانب آخر، بدأت تنكشف حقائق مهمة أبرزها أن الميدان الحقيقي للصراع لم يكن أرض جورجيا وحدها، بل هو أكبر من ذلك بكثير، وهو بالتحديد ميدان المصالح الخاصة بروسيا الاتحادية من جانب في مواجهة مصالح الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من جانب آخر، وهو ميدان لا يشمل العالم بأسره فقط بل ويشمل الفضاء أيضا، وحيث بدأ كل طرف في تحريك ما لديه من قطع وأوراق على كافة الميادين أملاً في تحقيق مصالحه وتأمينها من أطماع الطرف الآخر.
ورغم العيوب ونقاط الضعف الكثيرة التي تكشفت لآداء القوات المسلحة الروسية في هذه الحرب باعتراف قادتها، سواء ما يتعلق منها بضعف القوات الجوية التي سقطت منها مقاتلتان، وعدم وجود تعاون بين القوات الجوية والقوات البرية العاملة على الأرض، وضعف المناورة وقوة الصدمة في القوات المدرعة الروسية مما كبدها خسائر كبيرة ، وسوء الإمداد اللوجيستي للوحدات المقاتلة خارج الحدود الروسية.. إلي غير ذلك من السلبيات، وهو ما واجهته القيادات العسكرية الروسية بصراحة وعملت بعد ذلك على تلافيه عند تعديل العقيدة العسكرية الروسية، لاسيما فيم يتعلق بالتطوير التقني لأنظمة التسليح وأساليب استخدامها القتالي. إلاّ أن هذه الحرب حققت عدة مكاسب استراتيجية لروسيا فرضت نفسها بعد ذلك كركائز للعقيدة العسكرية الروسية المعدلة، وأبرز هذه المكاسب الآتي
أ- استعادة روسيا عناصر القوة التي فقدتها عند مطلع تسعينات القرن الماضي، ولم تعد دولة مريضة عسكريا واقتصاديا ومضطرة بالقبول بما تعرضه علىها الولايات المتحدة المنتصرة في الحرب الباردة، كما أعادت ثقة الروس في أنفسهم وأمنهم وقدراتهم، مؤكدة أن دائرة المجال الحيوي لروسيا حاليا في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطي، لا تقل أهمية عن ذلك الذي انتزعه الإتحاد السوفييتي السابق بعد الحرب العالمية الثانية، وأنها تمتلك عناصر القوة لحماية هذا المجال. وأن عودتها كلاعب دولي فاعل في الخريطة الجيوسياسية العالمية ليس من منظور قومي تقليدي أو أيديولوجي كما كان في السابق، وإنما انطلاقا من رؤية واقعية لمصالحها الحيوية، وحضور قوي في الفضاء الأوروآسيوي، محددة لخصومها الخطوط الحمراء التي علىهم عدم تجاوزها، وإذا ما حدث العكس فإنها لن تتردد في استخدام القوة لإعادة الدول المجاورة المتحالفة مع الغرب وأمريكا إلى حظيرتها، وأنها لن تسمح لأحد أن يلعب في حديقتها الخلفية.
ب- كسر الهمينة الأمريكية الأحادية، حيث أظهرت الأحداث أن الحصن الأمريكي المتقدم في القوقاز (حيث جورجيا وأوكرانيا) بات محاصراً، وأن إعادة ترميم هذا الحصن غير ممكن من دون مشاركة روسية، لاسيما وأن رد الفعل الأمريكي كان ضعيفا جداً في مساندة جورجيا وأوكرانيا، وليس باستطاعتهما ولا غيرهما في دائرة المجال الحيوي الروسي أن يعولوا بعد ذلك على دعم أمريكي فاعل في مواجهة روسيا. وهو ما يعني ضمنيا أن عهد القطب الواحد قد انتهي، وأن نظاما دوليا جديدا يفرز بقيادة روسيا، وأن الرادع الأمريكي فقد بريقه، ولم تعد الولايات المتحدة قادرة على التفرد بشؤون العالم عموما وشؤون المنطقة الروسية خصوصا، وبالتالي باتت أمام خيارين: إما التصرف على أساس أن خياراتها محدودة ومكلفة، وأما التصعيد في مواجهة التصعيد، وهنا سيكون الرد الأمريكي قاسيا حتي لا يتوهم أحد أن النمر الأمريكي الجريح قد استسلم لقدره وقبل بالهزيمة والانزواء. وكما استعرضت روسيا قواها في جورجيا، فلابد أن تستعرض أمريكا في المقابل عضلاتها في مكان آخر وليكن الشرق الأوسط، وأن استقواء روسيا بإيران في المنطقة خطر لا تقبله أمريكا، فكل ما يضعف موسكو مطلوب، وإضعاف طهران جزء من إضعاف موسكو. من هنا نفهم الاصرار الأمريكي والإسرائيلي على منع تزويد روسيا لإيران بأنظمة تسليح متقدمة أبرزها النظام الصاروخي s-500 المضاد للصواريخ.
جـ- قلق أوروبا من تصاعد قوة روسيا المتواجدة في عقر دارها، لذلك لن تجرؤ الدول الأوروبية على تحدي روسيا، كما أثارت الحرب على جورجيا مخاوف أوروبية من أن تستخدم روسيا سلاح النفط والغاز للتأثير على محيطها الإقليمي. وأن أي عمل روسي ضد أوكرانيا (الدولة الاستراتيجية بالنسبة لامدادات الطاقة الروسية)، سيشكل كارثة حقيقية للعديد من الدول الأوروبية، خصوصا في ظل عدم اتفاق حلف الناتو على مقاربة موحدة لكيفية الرد على العمليات العسكرية الروسية في جورجيا.
د- بروز دور روسي فاعل في الملف الإيراني، سواءً من حيث المفاوضات على حل المشكلة في إطار نقل عمليات تخصيب اليورانيوم من إيران إلى روسيا ثم فرنسا وعودته كوقود نووي إلى إيران لتستخدمه في مفاعلاتها النوويه تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة النووية. أو فيما يتعلق بفرض عقوبات من مجلس الأمن على إيران إذا ما أصرت على موقفها باستمرار عمليات التخصيب على أراضيها، حيث تلزم موافقة روسيا على ذلك منعا لاستخدامها حق الفيتو الذي تتمتع به هي والصين وكلاهما على علاقات اقتصادية جيدة مع إيران.
هـ- الوجود الأمريكي في كل من العراق وأفغانستان، حيث أدت التطورات في جورجيا إلى سرعة سحب القوات الأمريكية من العراق، وتركيز الجهود الأمريكية في أفغانستان وباكستان حيث يعمل تنظيم القاعدة الإرهابي وطالبان من المناطق الحدودية للبلدين للسيطرة على أنظمة الحكم فيهما، والخوف الأمريكي والروسي من سقوط الترسانة النووية الباكستانية في أيدي منظمات دينية متطرفة (طالبان الباكستانية) المتعاونة مع القاعدة. ناهيك عن ضرورة التعاون بين أمريكا وروسيا لنقل امدادات قوات الناتو العاملة في روسيا عبر الأراضي الروسية بعد أن قطعت طالبان طرق الإمداد من ميناء كراتش الباكستاني.
و- المأزق التركي في القوقاز، حيث يمر خط أنبوب النفط من باكو إلى ميناء جيهان التركي على البحر المتوسط عبد تيليس في جورجيا، وأي عمليات عسكرية في هذه المنطقة ستهدد نقل النفط عبر هذا الخط، ولأن المواجهة في هذه المنطقة بين أمريكا وروسيا منفتحة على جميع الاحتمالات، فإن تركيا - باعتبارها عضو في الناتو - مطالبة بأن تحدد موقفها من الصراع ولأي الأطراف ستنحاز، وتحديد استراتيجيتها في منطقة القوقاز.
ز- القلق الإسرائيلي نتيجة انعكاسات الأزمة الجورجية على المنطقة، فبجانب ثبوت الدور الإسرائيلي في تسليح وتدريب قوات جورجيا، وهو ما سبب توترا في العلاقات الإسرائيلية الروسية، وكان مجال مساومة بين تل أبيب وموسكو على أساس أن توقف إسرائيل تسليح جورجيا مقابل أن تمتنع روسيا عن تسليح إيران بنظام الدفاع الجوي والصاروخيs-300، إلا أن هذه الأزمة الجورجية أفرزت قلقا لدي إسرائيل من تراجع الدور الأمريكي وصعود النفوذ الروسي، ومدى التزام واشنطن بمساندة ودعم حلفائها وأصدقائها وعلى رأسهم بالطبع إسرائيل، وهو ما انعكس في نكوص إدارة بوش عن مساندة صديقتها جورجيا في هذه الأزمة، وعلى عكس ما توقع واعتقد رئيس جورجيا ميخائيل سكاشفيللي.
ح- حشد روسيا لحلفائها، وهو ما انعكس منذ بداية الأزمة بلقاء بوتين زعماء آسيا الوسطي في دوشانيية عاصمة طاجيكستان في 28/8/2008م، حيث عقد مؤتمر قمة دول منظمة شنغهاي للتعاون، والتي تضم: الصين وكازاخستان، قارجيزيا، طاجيكستان، أوزباكستان، بالإضافة لوجود قادة كل من إيران والهند وأفغانستان وممثلين عن باكستان ومنغوليا التي تتمتع دولهم بصفة مراقب في هذا المؤتمر. وقد جاء التحرك الروسي في حشد التأييد السياسي من دول الجوار في المقام الأول استعداداً للدخول في مواجهة سياسية دبلوماسية تجارية مع الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وضمان وقوف دول الجوار في الجنوب الروسي (جمهوريات آسيا الوسطي) إلى جانب روسيا عند نشوب مواجهة مع الغرب مع تحقيق مزيد من الاقتراب الروسي من مناطق وجود القوات الأمريكية وقوات الناتو في أفغانستان والعراق، ومواجهة احتمالات تشجيع أمريكا للحركات الانفصالية داخل روسيا - مثل الشيشان - ذات حدود مشتركة مع جورجيا. هذا بالإضافة إلى تأمين طرق التجارة البرية والبحرية لروسيا مع العالم الخارجي، بعد أن تسللت قطع بحرية تابعة للناتو والولايات المتحدة إلى بحر البلطيق في الشمال والبحر الأسود في الجنوب، ووجود مضيق البوسفور في يد تركيا العضو البارز في الناتو، ووجود حالة من عدم الاستقرار في علاقات روسيا مع أوكرانيا بسبب سعي الأخيرة للانضمام للناتو، مما يهدد بمنع القطع البحرية الروسية من استخدام ميناء سيفاستيبول أحد أبرز موانئ البحر الأسود في حال نشوب مواجهة مسلحة. ومع تعزيز التحالف الروسي مع الصين، يمكن لروسيا الاعتماد على الصين في استخدام الفيتو معها في منع صدور أي قرار من مجلس الأمن بفرض عقوبات على روسيا، فضلا عن كون الصين أصبحت مصدراً مهما للتكنولوجيا المتقدمة في شرق آسيا، ولا تستطيع الدول الأوروبية وأمريكا أن يحجموا أنشطتها في تقديم المساعدات التقنية لروسيا مستقبلا إذا ما احتاجت الأخيرة إليها. هذا فضلا عن تأمين مخزون لروسيا من المواد الغذائية التي تعد دول آسيا الوسطى من أبرز المنتجين لها.
5- تأثير البعد الاقتصادي(7)
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق استثمرت روسيا الجزء الأكبر من ميزانيتها الدفاعية في صيانة أسلحتها النووية في حين أهملت قواتها التقليدية، حيث أصبح الصدأ يأكل الجزء الأكبر من أسطولها التجاري في الأحواض الجافة، وتملك حاملة طائرات واحدة مقارنة بـ12 حاملة طائرات أمريكية. أما القوة البشرية العسكرية 1.2 مليون فرد حاليا - وهو ربع (1/4) ما كانت علىه عام 1986 - فان معنوياتها منخفضة ويسودها عدم الانضباط وضعف الكفاءة القتالية. ولإصلاح هذا الوضع جمع بوتين خلال 9 سنوات حوالي 600مليار دولار من مبيعات النفط والغاز لحل المشاكل الاقتصادية للدولة أولا ثم مشاكل القوات المسلحة التي تحتاج إلى أموال طائلة. هذا في حين يبلغ حجم الاقتصاد الروسي 1.3تريليون دولار، وهو ما يوازي تقريبا حجم الاقتصاد المكسيكي أو البرازيلي، ومتأخر عن حجم الاقتصاد الصيني الذي يبلغ 3.3تريليون دولار، والاقتصاد الأمريكي 15 تريليون دولار.
مما لاشك فيه أن روسيا استفادت كثيرا من ارتفاع أسعار الطاقة منذ عام 2003، وقد انعكس ذلك في تطورها الديناميكي في المجال الاقتصادي، وبما كان له انعكاسا إيجابيا على الصعيد العسكري. ففي عام 2005 نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6.4? وانخفض معدل التضخم من 11.7? عام 2004 الي 10.9? عام 2007 (قبل نشوب الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008)، وارتفع حجم الانتاج الصناعي في البلاد بنسبة 4? ، وبلغ حجم انتاج النفط 496.6 مليون طن سنويا مسجلا بذلك زيادة تصل إلى 2.2? مقارنة بمؤشر انتاج عام2004، كما وصل حجم النفط المباع في الأسواق المحلية الروسية الى 207.4 مليون طن، وازداد هذا المؤشر مقارنة بعام 2004 بنسبة 6.2? حيث بلغ معدل الإنتاج اليومي للنفط 10 مليون برميل يوميا، وارتفع حجم الاستثمارات الأجنبية المتراكمة في الاقتصاد الروسي إلى 100 مليار دولار.
وكان من نتيجة هذه الطفرة الاقتصادية أن انخفض حجم ديون روسيا الخارجية في عام 2005 بنسبة 28? وبلغ 81.4 مليار دولار. وتقلصت نسبة الديون الخارجية المستحقة على روسيا إلى الناتج القومي الإجمالي من 23? الى 14.8? كما بلغ حجم احتياطي العملة الحرة في البنك المركزي الروسي 500 مليار دولار. ويرجع هذا النمو الاقتصادي إلى وضع خطة استهدفت تحقيق استغلال شامل للثروات الطبيعية في روسيا وتحسين إدارتها واستخدامها تحت إدارة مركزية قوية.
وإذا كان إجمالي الناتج القومي للولايات المتحدة - القوة الاقتصادية الأولي في العالم قد بلغ 15 تريليون دولار، وميزانيتها الدفاعية هي الأضخم في العالم - وصلت في عام 2010 إلى 680 مليار دولار - في حين لا تتجاوز ميزانية روسيا الدفاعية 40 مليار دولار. وبينما تحتل الولايات المتحدة المركز الأول في مبيعات الأسلحة في العالم، حيث وقَّعت اتفاقات أسلحة تبلغ قيمتها 37.8 مليار دولار في عام 2008 بنسبة تقدر بنحو 68? من جميع الأعمال التجارية في سوق السلاح العالمي، فإن روسيا تأتي في المرتبة الثالثة من حيث مبيعات السلاح برصيد 3.5 مليار دولار بعد إيطاليا التي احتلت المركز الثاني (3.7 مليار دولار مبيعات)، وهو ما يمثل انخفاضا بشكل كبير في مبيعات روسيا بعد تحقيقها 10.8 مليار دولار مبيعات أسلحة في عام 2007. وهو ما فسره المراقبون بأنه نتيجة انخفاض المستوى التكنولوجي للصناعة العسكرية الروسية بوجه عام، الأمر الذي برز في عيوب صفقة طائرات ميج 29 مع الجزائر وسقوط أعداد من هذا النوع من المقاتلات في سيبيريا وجورجيا، كما لم تعد روسيا تعطي تسهيلات في الدفع كما كان الحال في السابق بعد خصخصة معظم الصناعات العسكرية، والاهتمام الروسي بالتركيز على تطوير الصواريخ البالستية عابرة القارات ومتوسطة المدى لمواجهة الدرع الصاروخي الأمريكي، وعدم تخصيص أموال كافية للبحث والتطوير في مجال الأسلحة التقليدية، مع إصرارها على بيع مخزوناتها من الأسلحة المتقادمة.
وبرغم هذه العيوب وأوجه القصور فإن التنبؤات تشير إلى أن روسيا هي القوة القادمة، حيث يدعم قوتها الاقتصادية مخزون ضخم من النفط والغاز في وقت تمثل فيه الطاقة القوة (النفوذ) وهو ما تفتقر إليه الولايات المتحدة، حيث لا يزيد احتياطيها من النفط عن 22 مليار برميل، وتستورد 51? من احتياجاتها النفطية، ولذلك فهي متعطشة باستمرار للطاقة، ويفسر وجودها العسكري في مناطق إنتاج الطاقة مثل منطقة الخليج وسعيها إلى تواجد عسكري في آسيا الوسطى وبحر قزوين.
وكان لهذا الإزدهار الاقتصادي الروسي، انعكاسات إيجابية لم تقتصر فقط على الاستقرار السياسي الداخلي، ولكن أيضا في زيادة النفوذ والتأثير السياسي الخارجي لروسيا، خصوصا في الدائرة الإقليمية المحيطة بها. حيث تجنب كثير من الدول الأوروبية اغضاب روسيا حتي لا توقف إمدادات الغاز الطبيعي الروسي لها. ومن هنا يمكننا أن نفهم مغزى التذبذب في المواقف الأوروبية تجاه قضية استقلال كوسوفو، خاصة بعد أن أثار انضمام دول بحر البلطيق الثلاثة وبعض دول أوروبا الشرقية للناتو غضب روسيا، بعد أن كانوا في الماضي جزءاً من حلف وارسو الذي كانت تتزعمه روسيا قبل تفكك الإتحاد السوفيتي مما أدى إلى تقلص نفوذ روسيا في هذه المناطق. وهو ما ردت على روسيا بعد ذلك بإجراء مناورات عسكرية ضخمة استخدمت فيها كثير من الأسلحة الاستراتيجية في مناطق مختلفة من العالم، كما بدأت في تطوير أنظمة أسلحتها التقليدية. ففي عام 2008 أجرت أكبر مناورة عسكرية لها في المحيط الأطلنطي بعد غياب دام ربع قرن، ناهيك عما سبق الإشارة إليه من مناورات بحرية وجوية في شرق البحر المتوسط وفي البحر الكاريبي، واستمرار مرابطة قواتها في مناطق من الإتحاد الروسي تتواجد بها نزعات انفصالية مثل الشيشان وداغستان وأوسيتيا الشمالية الجنوبية شمال جورجيا، وفي أبخاريا، وترانسفيري، ومولدافيا. كما حلقت قاذفتان إستراتيجيتان من نوع (توبولوف ms-95) فوق المحيط المتجمد الشمالي قرب آلاسكا في منطقة الحدود مع الولايات المتحدة لمدة 10 ساعات، وتكرر الأمر مرة أخرى بقاذفتين من نفس الطراز فوق المحيطين الهادي والأطلنطي. كما منح رئيس فنزويلا تشافيز روسيا قاعدة عسكرية في مطار بجزيرة آرتشيل ليكون قاعدة مؤقته لسلاح الجو الروسي. كذلك درست روسيا إعادة استخدام المطارات الكوبية لهذا الهدف الردعي ضد أمريكا، حيث يتواجد في كوبا أربعة مطارات مجهزة بممرات إقلاع وهبوط بطول 4000كم - تسمح باستخدام القاذفات الاستراتيجية الروسية بعيدة المدي، كما بدأت عملية مفاوضات مع سوريا لاستخدام ميناء طرطوس، وليبيا لاستخدام ميناء طرابلس، واليمن لاستخدام ميناء سوقطرة للحصول على تسهيلات بحرية لأسطولها في شرق البحر المتوسط والمحيط الهندي، وهو ما يعد توسعا جيوسياسيا لروسيا على النطاق العالمي.
1- نظرة عامة8)
أقرت روسيا عقيدتها العسكرية اجديدة في عام 2000 مستندة إلى التغيرات التي طرأت على العالم خلال السنوات التي أعقبت انهيار الإتحاد السوفيتي، لكن التطورات المتلاحقة منذ ذلك العام أجبرت الروس على إعادة النظر في أولوياتهم. وفي حين كان الكرملين يشدد خلال الأعوام الأربعة الأولى من القرن الحالى على أن روسيا تواجه خطر الدخول في نزاعات مسلحة مع أي طرف أو دولة في العالم، فإن خطاب المسؤولين الروس تغير بشدة خلال العامين الآخيرين. فمع المحافظة على استراتيجية “عدم الدخول في صراعات، أو الانحياز إلى طرف إقليمي ضد طرف آخر”، فإن السياسيين عادوا إلى الحديث عن ضرورة الاستعداد لمواجهة أي تهديد للأمن القومي الروسي، وبرزت للمرة الأولى مسألة استعداد القوات الروسية لتوجيه ضربات استباقية ضد أعداء محتملين، فلا يكاد يخلو خطاب للرئيس بوتين أو أحد أعوانه من الإشارة إلى مسألة ارتفاع سخونة التوتر في العالم، وميل أطراف إلى استخدام القوة لحل النزاعات، ما يعتبر تهديدا مباشرا للأمن وسببا لتحديث العقيدة العسكرية الروسية في مواجهة كل الاحتمالات.
وقد وقّع الرئيس بوتين مرسوما يعتمد العقيدة العسكرية الجديدة التي أقرها مجلس الأمن القومي الروسي والتي تسمح باستخدام الأسلحة النووية - كاختيار أول - لصد أي هجوم محتمل، بالإضافة لامكانية استخدامها في حالة فشل جميع الوسائل الأخرى في تسوية أي أزمة. هذا بالإضافة للجهود التي تبذلها روسيا حاليا لتدعيم الدرع الصاروخي الموجود حاليا حول موسكو، ومناقشة توسيعه ليشمل المناطق الاستراتيجية المهمة في روسيا لمواجهة احتمالات الضربة النووية الأولى من قبل الولايات المتحدة، وزيادة قدرة روسيا على رفع درجة استعداد مئات الصواريخ العابرة للقارات في دقائق لتوجيه الضربة الثانية، وتعويض الصواريخ التي يحتمل أن ينجح نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي في اعتراضها، هذا فضلا عن تحديث المنظومة النووية الاستراتيجية، وتحويلها إلى أسلحة فضائية نووية استراتيجية ترتبط عضويا بتشكيلات الأسلحة الأخرى التقليدية في البر والبحر والجو.
ولتوضيح هذه الفكرة قال أحد المحللين الاستراتيجيين الروس: “ان قيام واشنطن مثلا بتوجيه ضربة عسكرية ضد إيران، يمكن أن يسفر عن توسيع دائرة المواجهة لتشمل بالإضافة لإيران بلدان أخرى مثل أذربيجان، وبما يعني التهديد باندلاع حرب إقليمية تصيب شظاياها المناطق الجنوبية لروسيا”. لذلك ينبغي على روسيا في البداية العمل على تفعيل سياستها العسكرية، واتخاذ اجراءات تبدأ باعتماد عقيدة عسكرية جديدة لتصل إلى اعتماد سياسة دبلوماسية أكثر نشاطا وانفتاحا، إلى جانب تنشيط العلاقات الاقتصادية، والالتفات إلى عنصر تجاهله الروس طويلا وهو الإعلام، مع توحيد التحديات العسكرية وغير العسكرية في ملف واحد وتسميته بـ”العقيدة الدفاعية”.
وبالاضافة للعقيدة العسكرية تتداول الأوساط السياسية والعسكرية الروسية ما يعرف بالعقيدة السياسية، وهي تتمحور حول الدور الذي يمكن أن تلعبه روسيا في المستوى الاقليمي، حتى لو اقتضى الأمر استعمال القوة العسكرية لحماية ثروتها الاقتصادية، حيث يشهد الاقتصاد الروسي نمواً ملحوظا في السنوات الأخيرة، وتشرف على ذلك مؤسسات مختلفة في البلاد، مما يتطلب تنسيقا كبيرا واستعداداً أكبر للتدخل عند الحاجة استجابة لمتطلبات الأمن القومي في بعده الاستراتيجي، ويشرف على تنفيذ هذه السياسة مجلس الأمن القومي الروسي.
.. دولــــــــة الإســـــــلام .. باقيــــــــــة ..
باقيــــــة..
لأنها بُنيت من أشلاء الشهداء، ورويت بدمائهم وبها انعقد سوق الجنة..
باقيــــــة ..
لأن توفيق الله في هذا الجهاد أظهر من الشمس في كبدالسماء..
باقيــــــة ..
لأنها لم تتلوث بكسب حرام أو منهج مشوه..
باقيــــــة ..
بصدق القادة الذين ضحوا بدمائهم، وصدق الجنود الذين أقاموها بسواعدهم نحسبهم والله حسيبهم..
باقيــــــة ..
لأنها وحدة المجاهدين ومأوى المستضعفين..
باقيــــــة ..
لأن الإسلام بدأ يعلو ويرتفع، وبدأت السحابة تنقشع وبدأ الكفر يندحر وينفضح ..
باقيــــــة ..
لأنها دعوة المظلوم ودمعة الثكالى وصرخة الأسارى وأمل اليتامى..
باقيــــــة ..
لأن الكفر بكل ملله ونحلها جتمع علينا وكل صاحب هوى وبدعة خوان جبان بدأ يلمز ويطعن فيها
فتيقنا بصدق الهدف وصحة الطريق..
باقيــــــة ...
لأن على يقين أن الله لن يكسر قلوب الموحدين المستضعفين ولن يشمت فينا القوم الظالمين..
باقيــــــة ..
لأن الله تعالى وعدفي محكم تنزيله فقال:
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَايُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)
التعديل الأخير: