نهاية التاريخ.. أم بداية أفول نجم الإمبراطورية الأمريكية..؟!

JUGURTHA

عضو
إنضم
26 أغسطس 2009
المشاركات
3,441
التفاعل
4,784 1 0
  1. نهاية التاريخ.. أم بداية أفول نجم الإمبراطورية الأمريكية..؟! ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة؟!! ودوام الحال من المحال..
إن انهيار الإمبراطورية الأمريكية، ليس رجمًا بالغيب، ولا ضربًا من الشعوذة، أو آليةً للتخفيف من معاناة الأمة الإسلامية، ولكنه –ولا شك في ذلك– سنةٌ من سنن التدافع القرآني الحضاري، طبقًا لما جاء في الآيات القاطعة والقاصمة لكل معتد ظالم: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]، أما مبدأ نهاية عمر الدولة فيتمثل في آيات أخرى من الكتاب العزيز، فمن ذلك قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ} [الأنبياء: 11]، ولكن في هذه الورقة لن أركز على الجانب الأخلاقي كعامل من عوامل النهوض والهبوط، بل سأركز - إن شاء الله- على مخاطبة "العقلانيين" المرجفين والمغرضين من أبناء أمتنا وممن يسمون بأسمائنا.. وما أروعَ كلامَ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله؟" [رواه البخاري]، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت بمحدِّثٍ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" [رواه مسلم].

ونهاية التاريخ مثل بدايته لهما نسق فكري معقد عند بني البشر في الأزمنة التاريخية والأمكنة الجغرافية المختلفة، إذ بدأت في الآونة الأخيرة تنهال علينا مخالب النهايات بشكل لافت للنظر، في زمن استأسد فيه أهل القوة والجبروت، واستعانوا بكل الأسلحة، ولعل أخطرها الإعلام الذي جسد ما يسمى بنهاية الجغرافيا، يقول أحد المفكرين اليهود: "في عهد (المركانتلية) من يملك الذهب يملك العالم، وفي العصر الحالي من يملك الإعلام يملك العالم"، ومن ثم الكلمة التي تثخن الجراح وتجعله غائرًا يقول Albert camus: "الكلمات أقوى من الطلقات"...

ولكن الإجماع يكاد يكون واقعًا بين مختلف المفكرين الغربيين حول نهاية التاريخ بدءًا من هيجل وكارل ماركس ورستو... إلى فرانسيس فوكوياما؛ تعني نهاية لمرحلة تاريخية سابقة بقضها وقضيضها، وبداية لمرحلة تاريخية أخرى لاحقة أو لعهد جديد "حداثي".

إذن ما الأحداث التاريخية الدافعة والمجسدة لفكرة نهاية التاريخ؟ لماذا فكرة نهاية التاريخ؟ هل تنم عن هستيريا وجنون العظمة أو أن هناك إطارًا وسياقًا تاريخيا يؤيد ذلك ويزكيه؟

من جهة أخرى: هل النوازل والإملاءات التي تتوالى في كل مرحلة تاريخية، تحتم توسيع "المجال الحيوي" –على حد تعبير أدولف هتلر– لإنهاء التاريخ، بضربات متلاحقة وخناجر تسفك دم الأبرياء والراغبين في النِّدّية (توازن الرعب)، من منطلق التصور الصهيوني الميكافيلّي "الغاية تسوغ الوسيلة"، أي أن توسيع مجال النفوذ غاية، ولا يهم الوسائل المتبعة من إبادة جماعية وعمليات اغتصاب وتدمير للبنى التحتية...

هل بدأ انفلاق الفجر لانحطاط الإمبراطورية الأمريكية وانقشاع ظلام ظلمها بمشاريع تحاول من خلالها حماية الطفل المدلل (إسرائيل) باستخدام القوات الرادعة من قوة نفوذها في مجلس الأمن (الفيتو) والترسانة العسكرية التي يرتاع لها المتملقون والمتزلفون من المنخدعين المسلمين وحلفائها الاستعماريين (النيوكلاسيكيين) [بريطانيا..] الراغبين في الحصول على جزء من كعكة "الرجل المريض" (العالم العربي والإسلامي)...

إن ما يدفع منتقدي النظام الأمريكي إلى هذا النوع من التكهن، هو استنادهم لعِبر التاريخ الذي تطور على أساس سقوط حضارات ونشوء حضارات جديدة محلها. ومن أهم ما يميز الإمبراطوريات هو أن نهايتها تأتي عندما تبلغ أقصى توسعها، وتعجز عن حمل عبء هذا التوسع.

أخيرًا -وتحديدًا بعد حرب العراق- بدأت الموازنات بين الإمبراطورية الأمريكية الراهنة، والإمبراطورية الرومانية التي نشأت في القرن الأول قبل الميلاد واستمرت ألف عام. ولعل أحد أوجه الموازنة هو اعتبار روما إمبراطورية كبيرة جدًّا، سيطرت على "العالم" على أساس قوة عسكرية واقتصادية هائلة، ومع ذلك سقطت، ولو على امتداد مرحلة زمنية طويلة، حتى تحوّلت إلى إقطاعيات منفصلة خاضعة للكنيسة الكاثوليكية.

وكانت روما بحاجة للمستعمرات لاستيراد العبيد، الذين كانوا الأيادي العاملة "الرخيصة" في ذلك الحين. وكان حرمان الإنسان من الحرية أساس النظام الاقتصادي القديم الذي سُمي بنظام العبودية. كانت هذه وسيلة الإنتاج الأساسية التي بنت عليها الأرستقراطية الرومانية كل ثروتها.

فإذا كان بيل غيتس -صاحب شركة "ميكروسوفت" يؤسس ثروته على احتكاره للتكنولوجيا الحديثة واليد العاملة الرخيصة، ففي روما كانت الأرض هي مصدر الثروة الرئيس، وكانت العبودية الطريقة التي تم بها الإنتاج الزراعي.

ويجتهد العلماء لفهم الأسباب التي أدت لسقوط روما، وتمكن كل منهم من اكتشاف جانب منها. وكذلك للماركسيين تحليلهم الخاص، وهو تحليل جدلي (دياليكتيكي)، يتم فيه فهم الحاضر من خلال فهم الماضي. ويرى الماركسيون أن ما يربط روما بأمريكا هو الطبيعة الاستغلالية للنظام، والسعي للهيمنة على العالم كشرط أساس لوجوده.

نهاية التاريخ فكرة (نيوكلاسيكية):
فحديث النهايات حديث ذو شجون، قد تقبلته العقول وتناولته الأقلام، تفصيلا وإجمالا، مؤذنة بالموت والنهاية. فكل شيء تقريبا يصير إلى نهايته وموته؛ نهاية التاريخ مع هيجل، وموت الإله -والعياذ بالله- مع نيتشه، وموت الإنسان مع فوكو، وصولا إلى النهايات المتلاحقة في العقدين الأخيرين؛ للتاريخ مرة ثانية مع فوكوياما والكاتب رولان بارت، تكر السبحة معلنة نهاية الأيديولوجيا والدولة والجغرافيا.. علاوة على موت المثقف والمؤلف و...

فالنهاية -بحسب ما يقول علي حرب- ليست إيذانًا بتأبيد اللحظة والراهن أو وصول ذي النهاية، أيا تكن، إلى اكتماله وتمامه، وليست نهاية الأفول والانهيار أو الزوال والاندثار، بل تعبير عن انقلاب وجودي وفتح كوني يخضع العالم فيه "لتحولات تنقلب معها القيم والمفاهيم، وتتغير المشروعيات والمهمات، بقدر ما تتجدد القوى والوسائل والمؤسسات"

وبإطلالة سريعة على سلسلة من الأحداث التاريخية الغربية، نستخرج منها تعفناتها ونستحلب نتنها، لكشف الغشاوة وإماطة اللثام، ونفض الغبار عن حقب مضت، نتبين جذور فكرة نهاية التاريخ:
تعود فكرة نهاية التاريخ إلى حوالي قرنين من الزمان مع الفيلسوف الألماني هيجل الذي حكم على التاريخ بنهايته عام 1806م، إثر تضعضع وانهزام القوات البروسية من قبل نابليون بونابرت وتحقيق ما يسمى بالمواطنة العالمية (وتعني عدم التقيد بالانتماء إلى وطن معين).

ثم رأى كارل ماركس -أشهر من روجوا فكرة نهاية التاريخ-: "أن التاريخ سيصل نهايته بتحقيق اليوتوبيا الشيوعية التي ستحل في النهاية جميع التناقضات السابقة وسيكون مركزها إنجلترا.

أما عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر فرأى "أن الأخلاق البروتستنتانية هي روح الرأسمالية، وأن الرأسمالية هي نهاية التاريخ".

- في عام 1992م، أصدر فرانسيس فوكوياما (ياباني الأصل وأمريكي الجنسية) كتابًا بعنوان "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، لقي ذيوعًا وانتشارًا من طرف الساسة والمثقفين، وفكرة الكتاب الجوهرية أن الصراعات الأيديولوجية وما يتبعها من جوانب اقتصادية (النظام الرأسمالي) واجتماعية وثقافية.. في العالم ستتلاشى لصالح النظام الليبرالي، وبذاك يبلغ التاريخ نهايته... والسؤال المطروح: هل فعلا وصل التاريخ إلى سقف يستحيل الرجوع به إلى القهقرى، أو بداية نكوص هذه المرحلة والاستعداد لمولود إمبراطوري جديد يمحو آثار المجال الحيوي الأمريكي كما أقر فوكوياما بنفسه في حديث لجريدة (Le MONDE) الفرنسية؟!

أهم النظريات المفسرة لصعود وانهيار القوى والحضارات العظمى:
إن تعددت النظريات المفسرة لنشوء وصعود الإمبراطوريات في جميع مناطق العالم بدءًا من النظرية الحلزونية (العمرانية) للمؤرخ المغربي ابن خلدون الذي شبه عمر الدول في العصر الوسيط بعمر الإنسان (الفتوة، الشباب ثم الشيخوخة) إلى نظرية شبنجلر (سقوط الغرب) ونظرية أرنولد توينبي (نظرية التحدي والاستجابة) إلى رستو الذي شبه النمو الاقتصادي للبلدان العظمى بتحركات الطائرة (من الاقلاع إلى التحليق ثم الهبوط)... فإننا سنركز على نظريتين: واحدة علمية (رياضية) وأخرى مستنبطة من الواقع التاريخي:

نظرية التفسير الرياضي (الصعود والنزول):
إذا ما تدبرنا مسيرة الحضارات الكبيرة في جميع الحقب التاريخية للبشر (بلاد الرافدين، وادي النيل، الحضارة الصينية، اليابانية، الهندية، الفارسية، الإغريقية، الرومانية، الفينيقية، الأوربية الحديثة) تجد أن لها صعوداً إلى القمة ثم تدحرجًا وانهيارًا لأسباب عدة منها داخلية وأخرى خارجية يمكن إجمالها بأنها سياسية اقتصادية، وخلقية اجتماعية، وعسكرية.

هذا الصعود والنزول يشبه إلى حد كبير المنحنى الطبيعي في علم الإحصاء أو دالة التوزيع الاحتمالي، إذ يكون الانتقال من منحنى مرتفع إلى القمة ثم منحنى تنازلي، الذي يذكر بعض العلماء أنه يفسر كل الظواهر حولنا.

ولا يمكن استثناء حالة أو دولة من هذا القانون صغرت أو كبرت، على مستوى الأفراد في داخل الدولة أو على مستوى الدول العظمى عبر التاريخ أو ما يعرف بالإمبراطوريات، ولكل أمة أو إمبراطورية مدة زمنية وأجل محتوم تصعد فيه لتسود وفق شروط عامة وخاصة ومن ثم تنزل لتعود القهقري فتسود عليها أمة أخرى جاء أجل صعودها لنفس الأسباب.

ولو أردنا أن نطبق هذا القانون على كل مراحل التاريخ البشري لوجدناه قانوناً مطردا لا يتخلف، فها هي ذي حضارات خمس عظيمة تنهار في القرن العشرين الميلادي وحده، وهي العثمانية، والبريطانية، والفرنسية، والألمانية، وأخيراً السوفياتية...

النظرية المعاصرة: الانهيار الإمبراطوري سببه الحروب:
كانت الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية الثانية قوة نامية، لكنها لم تكن تتصدر القوى الموجودة على الساحة آنذاك، فالإمبراطورية البريطانية لم تكن الشمس قد غابت عن مستعمراتها بعد، وكذلك كانت ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى ترسخ أقدامها كإمبراطورية أوربية لها مطامعها التي ظهرت بعد ذلك على يد هتلر، وكانت مقاصده ظاهرة من خلال الحرب العالمية الثانية، أما اليابان فكانت كذلك لها هيمنتها في شرق الدنيا كإمبراطورية قديمة. وكما قضت الحرب العالمية الأولى على أكثر من إمبراطورية، مثل الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية النمساوية، فقد قضت الحرب العالمية الثانية على أكثر من إمبراطورية كذلك، منها الإمبراطورية اليابانية والبريطانية والمشروع الألماني للهيمنة على العالم، وبرزت كذلك قوتان جديدتان هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي الذي انهار مع نهاية الثمانينيات من القرن الماضي كقصر من ورق على حد تعبير عبد الله العروي، لتبدأ الولايات المتحدة هيمنتها على العالم كقوة وحيدة لا منافس لها في الوقت الراهن على الأقل. ومن يرجع إلى تاريخ نشوء أو انتهاء القوى العظمى يجد الحروب دائما تولد من بعدها قوى وتنتهي أخرى، ولعل الحربين العالميتين اللتين نشبتا خلال القرن الماضي كانتا خير مثال على ذلك، وقد استطاعت الولايات المتحدة التي لم تشارك في الحرب إلا في نهايتها أن تبني إمبراطوريتها وقوتها من حيث انتهى الآخرون، فقد تركت القوى التي كانت منافسة لها آنذاك وهي بريطانيا وألمانيا والاتحاد السوفياتي واليابان والقوى المتحالفة تبيد بعضها على مدى سنوات الحرب، ولم تعلن الولايات المتحدة حربها ضد ألمانيا إلا بعد تدمير الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر، حتى بريطانيا الحليفة القريبة للولايات المتحدة رفض الكونغرس آنذاك أن يقدم لها أي مساعدات إلا بثمن باهظ تمثل في الموافقة على استبدال خمسين مدمرة بريطانية بأخرى حديثة، مقابل استئجار قواعد بريطانية في نيوهامبشاير تمتد إلى تسعة وتسعين عاما. وحين حطمت الحرب القوى الكبرى آنذاك وأنهتها عام 1945م بدأت الولايات المتحدة تجني الثمار في مرحلة جديدة على العالم

يطرح سؤال من جديد: هل الحروب الاستباقية الطائشة التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية بداية لانهيارها،بدءًا من مستنقع العراق الآسن الذي تعمل جاهدة للخروج منه مرفوعة الرأس إلى حروب أخرى محتملة مع إيران وسوريا والسعودية ثم كوريا الشمالية؟ هذا ما ستفصح عنه الأيام القادمة!!!

الإمبراطوريات التاريخية: حقائق القوة ومؤذنات الانهيار:
شهد التاريخ قيام إمبراطوريات عظمى، وشهد أيضا انحلالها واضمحلالها وتفككها. فهل سيحمل المستقبل مشهدًا مماثلا بعد أن انفردت الولايات المتحدة الأمريكية بالقوة والهيمنة في عالم ما بعد القرن العشرين؟

بداية يمكن تلمس فكرة المجتمع البشري ذات الصفة الإمبراطورية أو المظاهر العالمية في الفكر الرواقي في القرن الثالث قبل الميلاد عند زعيم هذه المدرسة المفكر زينون (zenon) الذي دعا إلى مدينة عالمية يكون فيها جميع البشر متساوين، ومواطنين إخوة تجمعهم حياة واحدة ونظام واحد للأشياء على قاعدة القانون الطبيعي الذي يتسق ويتآلف مع القواعد والمبادئ الأساسية للعدل والعقل؛ وترى الرواقية أن القانون الطبيعي فوق القوانين الوضعية وأنه يسمو عليها

وفي الواقع تعد الدعوة الرواقية من هذه الوجهة ردة فعل إزاء تفرق المدن اليونانية وتبعثرها وعدم اتساق علاقاتها في ظل تعدد وتنوع الأنظمة الوضعية والقوانين الوثنية المادية التي كانت تحكمها.

كانت الإمبراطورية الرومانية النصرانية قوة عظيمة هيمنت على الحياة الدولية في عصورها، واستعبدت شعوب المناطق التي احتلتها مما أدى إلى اندحارها وظهورها في شكل إقطاعات مع النظام (الفيودالي)..

وقد جاء الإسكندر الأكبر الذي كان مثل الإعصار الذي هز أركان العالم، ثم انتهى أمره وأمر الإمبراطورية المقدونية وقامت إمبراطورية فارس. ثم جاء العرب يحملون في البداية حضارة الإسلام السامقة والشامخ وبنوا إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس إلى أن تضعضع كيانها لانحرافها عن دين ربها..

وفي القرن السادس عشر عرف العالم صراعًا بين ثلاث إمبراطوريات وهي:
- الدولة العثمانية التي كانت قوة إسلامية عظيمة، نجحت في فرض إرادتها على مساحات واسعة من أوربا. لكن انتشار الظلم، وانهيار الاقتصاد وتضرر المجتمع وتفسخ دعائم الدولة.. أدى إلى التفكك. وخلال القرن السابع عشر حققت النمسا والدول المتحالفة معها انتصارات عسكرية عدة أدت إلى توقيع اتفاقية كارلوفيتز سنة 1699م. وفي القرن الثامن عشر تمكنت روسيا من دحر القوات العثمانية في عدة مواقع أدت إلى توقيع اتفاقية كوجك قينارجة سنة 1744م مما ساعد في تعاظم التكالب الاستعماري على الإمبراطورية العثمانية بين فرنسا وإنجلترا وروسيا، ويجسد هذا الوضعَ تصريحُ نيقولا الأول قيصر روسيا للسفير الإنجليزي في حفل رسمي سنة 1853م: "..نحن أمام رجل مريض جدًّا.. لنتفاهم بيننا لتقاسم تركته. وبكل صراحة سوف تحدث مصيبة كبرى إذا تمكن هذا الرجل ذات يوم من الإفلات من أيدينا..".

- والإمبراطوريتان البرتغالية والإسبانية: اللتان استفادتا من المقومات العسكرية والتقنية والجغرافية للقيام بحركة الاكتشافات الجغرافية، ومن ثم تكوين إمبراطوريات شاسعة في مناطق العالم الجديد، لكن جشعهما دفع بالبرتغال خاصة إلى خوض مغامرة غير محسوبة العواقب أدت إلى تلاشيها وانضمامها إلى إسبانيا خاصة إثر هزيمتها أمام المغرب في عهد السعديين في معركة وادي المخازن سنة 1578م.

لكن ما إن أطل القرن السابع عشر حتى أصبحت فرنسا القوة الأوربية العظمى، وهي مع نابليون فيما بعد كادت توحد أوربا تحت رايتها.

ولم يطل الأمر حتى برزت بريطانيا كقوة عظمى منافسة ضيقت على فرنسا الخناق في مواقع متعددة (مصر، المغرب...)، ثم انتهت لحظة الهيمنة لبريطانيا الفيكتورية بصعود قوى جديدة ممثلة في ألمانيا والولايات المتحدة واليابان. وكانت الإمبراطورية البريطانية ممن لا تغيب عن مستعمراتها الشمس، وكانت مثلا للجشع الإمبريالي في استعباد الشعوب ونهب خيراتها، فلم يتقبلها أحد من شعوب هذه المستعمرات ولم تحظ بأي احترام خارج حدود الجزر البريطانية، حتى وصل الأمر بالأيرلنديين إلى رفض الهيمنة الإنجليزية ومقاومة هذه الهيمنة بقوة السلاح، فدفع ذلك بهذه الإمبراطورية العجوز أن تقوقعت على نفسها، لا تملك من أمرها في السياسة الدولية إلا المواقف الذيلية التابعة للولايات المتحدة الأمريكية، إذ إن بريطانيا على الصعيد الأوربي بمثابة مسمار جحا في القارة الأوربية تتبع الولايات المتحدة أكثر من كونها جزءًا من النسيج السياسي للاتحاد الأوربي

وبعد الحرب العالمية الثانية نشأ وضع ثنائي القطبية تجاذب فيه الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة النفوذ، وبدأت الحرب البادرة، التي انتهت بما يشبه الأحادية القطبية مع مطلع التسعينيات من القرن المنصرم.

وحتى الأمس القريب كان الاتحاد السوفياتي (أكبر إمبراطورية إلحادية عرفها التاريخ) قريبًا من هذه الصورة قبل أن يسقط بالسكتة القلبية، ويتفكك إلى جمهوريات، راحت تتشظى إلى دويلات ولا تزال، واليوم يحتل النفوذ الأمريكي المشهد العالمي ويمارس هيمنته وانفراديته بصلافة وتعال.

ومع أن رياح التسعينيات وتداعيات السقوط المدوي للاتحاد السوفياتي الذي جر جدار برلين، أظهر أن الولايات المتحدة قد خرجت منتصرة ومنفردة بقيادة العالم، إلا أن الشك عند البعض، داخل مراكز البحث الأمريكية والغربية عمومًا، بقي يلقي بظلاله، ذلك أن هزيمة الخصم لا تعني بالضرورة انتصارًا مطلقًا، خاصة إذا كانت هزيمة هذا الخصم ناتجة عن اختلالات بنيوية داخلية حادة كان يعانيها. ومما زاد في هذه الشكوك أن الميزانية الأمريكية، في عهدي ريغان وبوش الأب، سجلت تراجعًا إذا ما ووزنت بحلفائها، وهو تراجع أدى إلى مضاعفة العجز الفيدرالي ثلاث مرات.

وعادت الكرّة من جديد؛ هل الولايات المتحدة بقدراتها وإمكانياتها "مؤهلة" لقيادة العالم وإعادة رسم خرائطه وحدوده من جديد بما يضمن إعادة إنتاج هذه القوة، وإطالة عمر الإمبراطورية الصاعدة؟ وإلى متى وكيف؟ وهل سيستمر الواقع الدولي الراهن بحيث لا تبدو في المستقبل المنظور قوى أخرى قادرة على المنافسة أو المشاركة؟ وما هذه القوى المرشحة للقيام بهذا الأمر وتولي منصب قوى المستقبل الصاعدة؟ وما مقوماتها؟ ومتى تبدأ لعبة التنافس الحقيقي وكيف؟ ثم ما الذي ستفعله الولايات المتحدة الأمريكية بقوتها، وما صورة العالم الذي تريده؟ فعلى ضوء استراتيجيتها وأدائها يطول أو يقصر حلمها الإمبراطوري؟

هذه بعض الأسئلة الصعبة والشائكة التي تتصدى لمناقشتها مراكز البحث الدولية، ومستودعات الأفكار وبيوت الخبرة الأمريكية، وهي أسئلة بات بعضها يؤرق الإدارات الأمريكية منذ ما قبل 11 من سبتمبر 2000. ربما كانت عبارة (كرمويل) شديدة الدلالة حين قال: تسعة يكرهونني؟ وما هم إذا كنت العاشر الوحيد المسلح. وهي عبارة تستوحي ما قاله فيلسوف روما قديما: "دعهم يكرهونك ما داموا يخشونك". وهو قول استرشد به الأباطرة الرومان واستخدموه في المحافظة على هيبة الإمبراطورية، وفي البطش والإرهاب وإبادة الشعوب، وهو ما حرك ضدها جميع أنواع المقاومة التي أدت في النهاية إلى تفككها وتضعضعها.

ومع ذلك، بقي القلق كامنا في الأوساط السياسية والأكاديمية الأمريكية فيما يتعلق بحقائق القوة، وخاصة من منافسيها على المستوى الاقتصادي والتكنولوجي الذين ظهروا كقوى عالمية صاعدة، وقد عبر عن هذا القلق بوضوح المؤرخ والمفكر الأمريكي البارز "بول كينيدي" في كتابه الضخم الصادر عام 1988م (صعود وسقوط القوى العظمى)، الذي رأى فيه أن الولايات المتحدة تتراجع على المستوى الاقتصادي موازنة بثلاث قوى هي اليابان وأوربا الغربية والدول الصناعية الجديدة (كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ والبرازيل والأرجنتين...)، وإن هذا التراجع إذا ما استمر سينعكس على الأبعاد الأخرى لعناصر القوة الأمريكية، وخلص إلى أن الإنفاق العسكري الكبير، فضلا عن الالتزامات الإنفاقية الواسعة، أصبح فوق طاقة الولايات المتحدة، وانتهى إلى التحذير من أن الاتجاه الحالي سيؤدي إلى أن تواجه أمريكا نفس المشكلات والمصير الذي واجهته قوى إمبريالية سابقة.

الجرد التاريخي لإمبريالية إمبراطورية العم سام الشرسة:
لم يكن الحلم بأن تصبح الولايات المتحدة إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس حلمًا جديدًا، بل نستطيع القول إنه حلم سمحت كل القيادات السياسية الأمريكية لنفسها أن تحلم به، وقد قدم الساسة الأمريكيون تجربتهم التاريخية على أساس أنها التجربة الأفضل والأكمل في تاريخ البشرية، وقد تحدث الرئيس الأمريكي "توماس جيفرسون" عن دستور الولايات المتحدة بوصفه الدستور الصالح لتكوين إمبراطورية عالمية، إذ يقول: "مقتنع أنا بعدم وجود أي دستور سبق له أن درس بعمق وفصل بشكل جيد مثل دستورنا ليكون صالحا لإمبراطورية واسعة للحكم الذاتي"

التطور من قطعة صغيرة من المستعمرات إلى "إمبراطورية" لا مثيل لها حاليا:
كان الهنود الحمر يعمرون البلاد قبل مجيء الأوربيين. وخلال القرن 17 تزايد عدد الأوربيين النازحين وجلهم من أصل إنجليزي، فأصبحت المناطق الشرقية الواقعة بين المحيط الأطلنتي والأبلاش مستعمرات إنجليزية ويبلغ عددها 13 مستعمرة، واستقلت عن بريطانيا سنة 1776م، بعد هزمها في معركة "ترانطون" في سبتمبر 1776م مكونة دولة فيدرالية.

ومنذ هذا التاريخ عمل الأمريكيون على غزو أراض جديدة نحو الغرب والجنوب. ونتيجة لهذا التوسع، أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية بعد شراء ألاسكا وضم جزر هاواي تتكون من 50 دولة.

ولكنها الآن تمتد في القارة الأمريكية من المحيط الأطلنطى شرقا إلى المحيط الهادئ غربًا ومن البحر الكاريبي جنوبًا إلى المحيط المتجمد الشمالي شمالا. ناهيك عن انتشار تأثيراتها العسكرية والسياسية والاقتصادية في كل العالم. وفي أثناء الحرب الباردة انقسم العالم إلى ثلاثة أقسام هي: الكتلة الشرقية، والعالم الغربي، ودول عدم الانحياز. وكانت الدعاية الغربية تصف دول الكتلة الشرقية بأنها دول ما وراء الستار الحديدي، بالمقابل يصفون عالمهم بأنه العالم الحر، وأصبح نُصُب الحرية رمزًا لأمريكا. ودار الزمان دورته التاريخية وسقط الاتحاد السوفياتي وكتلته، وبرزت أمريكا وحيدة في العالم، وبشر الرئيس الأسبق بوش الأب بالنظام العالمي الجديد، وإن صح التعبير "العصر الإمبراطوري الأمريكي" (أو كما سماه العلماء الغربيون: إمبراطورية كل العالم). ويعد هذا المشروع المحور الأساس لحركة رؤساء الإدارات الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فقول الرئيس السابق جورج بوش الأب في أوائل التسعينيات "إن القرن القادم ينبغي له أن يكون أمريكيا"هو امتداد لقول الرئيس روزفلت في الأربعينيات: إن قدرنا هو (أمركة) العالم. إنه ببساطة: صياغة أمريكية للاقتصاد الأمريكي (منظمة التجارة العالمية) واجتماعية مؤتمرات الأسرة...، واتسع شعار "من ليس معنا فهو ضدنا" ليتعدى محاربة الإرهاب إلى قضايا مثل مسارات خطوط أنابيب النفط، تعويم العملة الصينية، والقيام بمناورات عسكرية في جميع مناطق العالم، ومحاولة تضييق الخناق على الدول القوية المنافسة واستمالة الضعيفة رغم أنفها!!!

وعلى ضوء ما سبق، يقسم، أحد المؤرخين الأمريكيين، تاريخ التوسع اللإمبريالي الأمريكي إلى أربع مراحل:
1- مرحلة التوسع في القارة: تمتد مرحلة التوسع في القارة من تأسيس الولايات المتحدة سنة 1776م إلى عشية الحرب الأمريكية الإسبانية. وفى نهاية القرن 19م اتسعت الأراضي الأمريكية من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ.

2- مرحلة التوسع لما وراء البحار: تمتد من الحرب الأمريكية الإسبانية إلى انتهاء الحرب العالمية الثانية. وفى هذا الوقت اتسع النفوذ الأمريكي بسرعة من القارة في شمال أمريكا إلى منطقة الباسفيك وشرق آسيا وأمريكا اللاتينية.

3- مرحلة التنازع من أجل الهيمنة على كل العالم: وتمتد من عام 1946م إلى 1991م أي في وقت الحرب الباردة.
إذ أصبح التنازع من أجل الهيمنة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أو كبح الولايات المتحدة جماح الاتحاد السوفياتي خاصية رئيسة في هذا الوقت. جعلت الولايات المتحدة أوربا تعتمد عليها اقتصاديا عن طريق تقديم المساعدات الاقتصادية (مشروع مارشال). وأرسلت قواتها العسكرية عن طريق إقامة التحالف الأطلنطى، لتصبح أوربا شركة صغيرة لها. كما أقامت الولايات المتحدة علاقات للتحالف العسكري مع أستراليا ونيوزيلندا وجمهورية كوريا واليابان والفليبين. ثم تنازعت الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفياتي من أجل منطقة النفوذ في الشرق الأوسط وإفريقيا وأماكن أخرى في كل العالم.

4- مرحلة السيطرة على العالم: انتهت الحرب الباردة مع انحلال الاتحاد السوفياتي. فاشتد الاستبداد الأمريكي يوما بعد يوم فعمل ما يحلو له. بعد ضجة 11 من سبتمبر، لقيت نظرية إقامة القرن الأمريكي والإمبراطورية الجديدة رواجا أكثر. إذ يعتقد هؤلاء الناس أن إقامة الإمبراطورية الأمريكية مسؤولية لا مفر عنها للولايات المتحدة.

الانهيار الأمريكي بين الواقع والاستشراف: قراءة لبعض الآراء الغربية وخاصة الأمريكية:
بدأت التحليلات تتحدث عن انهيار أمريكي؛ هذه التحليلات قدمها كتَّابٌ لهم وزنهم عالمياً مثل (بول كينيدي) في كتابه (نهوض وسقوط القوى العظمى)، والمحللان الاقتصاديان (هاري فيجي وجيرالد سوانسون) في كتابهما (سقوط أمريكا قادم فمن يوقفه؟)، وكذلك (رونالد هوايت) في كتابه (صعود وهبوط أمريكا كقوة عظمى)، و(بريجنسكي) في كتابه (خارج نطاق السيطرة أو الانفلات)، والبروفيسور الفرنسي (روجيه غارودي) في كتابه (أمريكا طليعة الانحطاط) والخبير الفرنسي (إيمانويل تود) في كتابه (ما بعد الإمبراطورية)؟!..‏ لكن سأركز على موقفين أكثر جاذبية وموضوعية:

- يفتتح (إيمانويل تود) كتابه باستهلال يقول فيه: إن الولايات المتحدة أصبحت مشكلة بالنسبة للعالم، بعد أن كنا نراها تقدم الحل لمشاكله، وكانت تضمن الحرية السياسية والنظام الاقتصادي خلال نصف قرن مضى، أما اليوم فقد بدأت تظهر كعامل فوضى.. فهي تستفز اليوم دولاً كالصين وروسيا، وتحتم على العالم أن يعترف بأن هناك دولاً تمثل محوراً للشر، وتضع حلفاءها في موقف حرج باستهدافها المناطق المجاورة لهم التي لهم فيها مصالح حيوية كاليابانيين والأوربيين.‏

وبيَّن (إيمانويل تود) انزعاج الأوربيين من الولايات المتحدة لكونها تريد بقاء منطقة الشرق الأوسط منطقة نزاعات حارة وبؤرة توتر، وهذا يجعل الشعب العربي ينظر بعدائية نحو الغرب؛ وهي القادرة على تسوية القضية الفلسطينية...

ويثير (تود) نقطة بالغة الأهمية إذ يؤكد أن اهتمام الولايات المتحدة المتزايد بنفط الخليج العربي والشرق الأوسط ليس ناتجاً عن أغراض استهلاكية مع حاجتها المتزايدة للنفط من هذه المنطقة، بل للتحكم بمصادر الطاقة التي تعتمد عليها أوربا واليابان بشكل أساسي، التي تمكنها من ممارسة ضغوط عليهما

- ريتشارد هاس كتب في مقاله الافتتاحي الخاص بعدد تشرين الثاني - كانون الأول 2006م، لمجلة ((شؤون خارجية)) (FOREIGN AFFAIRS) الشهيرة، وتحت عنوان: ((الشرق الأوسط الجديد)) بشأن ((انتهاء الحقبة الأمريكية))، أكد فيه بعد استعراض الأهمية الاستراتيجية لمنطقة ((الشرق الأوسط)) والحقب السياسية التي مرّ بها بعد أكثر من قرنين على غزو نابليون لمصر، وبعد حوالي 80 عاماً على زوال الإمبراطورية العثمانية، و50 عاماً على نهاية الاستعمار، وأقل من 20 عاماً على انتهاء الحرب الباردة.. ((انتهاء الحقبة الأمريكية في الشرق الأوسط، وهي الحقبة الرابعة في تاريخ المنطقة الحديث)).

ويعترف هاس بأنه إذا كانت الحقب الأربع قد تم تحديدها من خلال التفاعل بين القوى الداخلية والخارجية الطامحة والمتنافسة مع اختلاف قدراتها وتأثيراتها ونفوذها وتوازناتها في الشرق الأوسط، فإن الحقبة التالية تبشّر بتأثير ضعيف ومتواضع للقوى الخارجية، مقابل تنامي أثر القوى الداخلية، إذ تصبح عملية تشكيل الشرق الأوسط الجديد من الخارج أمراً بالغ الصعوبة.. وهو ما يُعَدّ التحدّي الأكبر لسياسة الولايات المتحدة الخارجية في العقود المقبلة بموازاة التعامل مع الديناميكية الآسيوية. ‏

كما يعترف هاس بأن من أبرز أسباب ((انتهاء الحقبة الأمريكية)) قرار إدارة بوش (الابن) غزو العراق عام 2003م، واستفحال الفوضى وأشكال العنف المختلفة، والإخفاق في إقامة الديمقراطية مسبقة الصنع، إضافة إلى تنامي مشاعر العداء تجاه الولايات المتحدة وسياساتها في العالم وفي الشرق الأوسط خصوصاً. ‏

من جهة أخرى، يطرح هاس توقعاته لكيفية تكوُّن الحقبة الخامسة والعوامل المؤثرة فيها، إذ ستواجه الولايات المتحدة مزيداً من المنافسة من جانب قوى أخرى أبرزها الصين وروسيا وإيران، في حين إن ((إسرائيل)) -مع أنها هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي تملك أسلحة نووية وقوة عسكرية متطورة وكبيرة- سيجب عليها -والكلام ما زال لهاس- أن تتحمل تكاليف احتلالها للضفة الغربية، وأن تتعامل مع تحديات أمنية متعددة الأبعاد على أكثر من جبهة... أما استراتيجياً، فإن ((إسرائيل)) اليوم في وضع أضعف مما كانت عليه قبل حربها الأخيرة في لبنان هذا الصيف. ‏

كما يؤكد ريتشارد هاس عدم جدوى الجهود الأمريكية الهادفة إلى فرض إصلاحات خارجية وتغييرات سياسية في دول المنطقة؛ لأن ذلك التوجه ثبت إخفاقه، وهو يحتاج إلى عقود كثيرة. ‏
((وعلى المدى القصير –كما يقول هاس- فإن على الحكومة الأمريكية أن تواصل العمل مع كثير من الحكومات غير الديمقراطية، إضافة إلى أن الديمقراطية ليست جواباً للإرهاب)). ‏

وإذا كان هذا هو رأي ريتشارد هاس، وهو مَنْ هو في فريق العمل الرئاسي الأمريكي منذ حوالي عشرين عاماً، فمن الطبيعي أن تكون لمراجعته لتوجهات السياسة الأمريكية أصداء واسعة ودلالات كبيرة، ولا سيّما من خلال ربطها بجملة الانتقادات الجذرية والقراءات الجديدة الصادرة عن مراكز الدراسات والبحوث السياسية والاستراتيجية الأمريكية وعدد من الشخصيات المعروفة، مثل الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، وزبغينيو بريجنسكي، ومادلين أولبرايت وغيرهم.. ويظهر ذلك بشكل جلي من خلال النكسة التي مني بها حزب المحافظين الجدد (عفوا النصارى الجدد) أمام الحزب الديمقراطي، سعيًا من هذا الأخير إلى لملمة جراحات الحزب الجمهوري، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من خلال الزيارة التي قامت بها بيلوسي إلى دول الشرق الأوسط...

مؤشرات الانحدار الأمريكي:
- إذا كانت الولايات المتحدة الأولى في الإنفاق العسكري والتكنولوجي والرؤوس النووية والطائرات المقاتلة في العالم، فإنها في الوقت نفسه الثامنة في متوسط عمر الفرد، والثامنة في الإنفاق على الصحة العامة، والثامنة عشر في معدل وفيات الأطفال، بل أظهر الفحص الإحصائي بما يتعلق بالكسب واليد العاملة والتعليم والجريمة، أن الولايات المتحدة تبدو وكأنها تتكون من أمتين منفصلتين (تبين ذلك واضحًا إثر إعصار كاترينا الذي كشف القناع عن العنصرية المستمرة بين السود والبيض)..

- خسائر الحرب..البداية من هنا: كلفت الحرب الولايات المتحدة الأمريكية حتى ديسمبر /كانون الأول 2007م حوالي 474 مليار دولار وفقًا للأرقام الرسمية الأمريكية. أما مكتب الميزانية التابع للكونغرس فقدر هذه التكلفة بـ24 تريليون دولار على المدى الطويل منها 19 تريليون من أموال دافعي الضرائب. والتكاليف في ازدياد مستمر بسبب التضخم العالمي.

- الهزيمة النفسية للجيش الأمريكي: في تقرير نشرته وكالة رويترز في 15 من مارس 2008 عن مسح أجراه الجيش الأمريكي، جاء فيه أن أكثر من جندي من بين كل أربعة جنود أمريكيين في مدة خدمتهم الثالثة أو الرابعة يعانون اضطرابات في الصحة العقلية، كما أشار التقرير إلى ارتفاع نسبة الطلاق بين الجنود، وأن نسبة الاضطرابات في العلاقات الزوجية للجنود وصلت إلى 85% منذ اجتياح العراق. وأشار تقرير نشرته وكالة الأنباء الفرنسية في 19 من مارس إلى أن عدد الجنود الذين يعانون آثارًا نفسية عميقة منذ بداية الحرب على العراق وحتى الآن، بلغ أكثر من مليون جندي، وقد سعى كثير منهم إلى الانتحار. وحسب دراسة أعدها مركز "نيو أمريكان سيكيورتي" على عينة من الضباط الأمريكيين، خلال شهري ديسمبر ويناير الماضيين، فإن 60% من ضباط الجيش يرون أن الجيش الأمريكي اليوم أضعف مما كان عليه قبل خمسة أعوام..

إن الهزيمة الحقيقية للجيوش ليست الهزيمة العسكرية، فكم من جيوش هزمت عسكريا ثم استعادت قوتها ومجدها وحولت الهزائم إلى انتصارات، لكن الهزائم النفسية للجيوش لا يمكن إلا أن تصنع هزائم عسكرية متتالية تقود في النهاية إلى نهاية دولها، يبدو أن الولايات المتحدة تسير على هذا الدرب

- ظهور قوى دولية منافسة: وإذا كانت الولايات المتحدة الممثل الأول على المسرح العالمي -بما يسمح لها بهذا التوجه الإمبراطوري- فإنه في المقابل، هناك أخطبوط يعمل في صمت ودهاء، وهو الممثل الصيني الذي يتأكد كل يوم وجوده الاقتصادي الفاعل على المسرح العالمي كله، بل إن وجوده العسكري بدأ هو أيضا يتحرك وراء وجوده الاقتصادي.

وإلى الشرق من الصين وإلى الغرب من الولايات المتحدة الأمريكية نفسها يوجد ممثل آخر هو اليابان التي خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمرة اقتصاديا ومعنويا، وأصبحت الآن بعد نصف قرن من الزمان قوة اقتصادية جبارة تؤثر في موازين القوى في العالم تأثيرًا غير قليل.

وإذا تركنا الشرق، واتجهنا نحو الغرب، سنجد قوتين أخريين بازغتين: الاتحاد الأوربي الذي يعرف تطورًا متناميا ومذهلا وتزايدًا في عدد أعضائه (27 عضوا بعد انضمام رومانيا وبلغاريا في سنة 2007م)، ولعل الإشارة الأكثر وضوحا والتي لا تحتمل المراوغة ما دعت إليه المستشارة الألمانية ميركل، من ضرورة التفكير في إحداث جيش أوربي مشترك. وروسيا، التي بدأت تصحو من جديد. وكل منهما –الاتحاد الأوربي وروسيا– يمثل قوة اقتصادية وثقافية وعسكرية -وأيضًا على المسرح العالمي- لا يستهان بها.
وكذلك، على نحو أقل، علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بكثير من دول العالم الثالث

- أمريكا والخشية من إمكانية الاستمرار: مع كل الإمكانات التي تحظى بها الولايات المتحدة اليوم والتي جعلت منها قطبًا أحاديًّا منفردًا يتربع على عرش الكرة الأرضية، إلا أنها ما زالت تستشعر أن لديها الكثير من النقص الذي يهدد بقاءها واستمرارها ضمن هذا الوضع الحالي، وهذا الشك في إمكانات الاستمرار والبقاء السياسي القوي والفاعل لا يحمله أولئك الذين يكرهون أمريكا ويتمنون زوالها فحسب، بل هو يسري حتى في عروق أولئك الذين ساعدوا بكل ثقل في رسم سياسات أمريكا على مدى عقود من الزمن، ففي كتاب (رقعة الشطرنج الكبرى) يفصح زبغنيو بريجنسكي عن هذا الهاجس الذي يجعله لا يرتقي بطموحه لبقاء أمريكا حتى لأكثر من جيل واحد، إذ يقول: "لسوء الحظ كانت الجهود المبذولة من أجل تحديد هدف مركزي وعالمي جديد للولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب الباردة وإلى حد الآن، ذات بعد واحد. فقد أخفقت في ربط الحاجة إلى تحسين الوضع الإنساني بضرورة المحافظة على مركزية القوة الأمريكية في الشئون العالمية

الإمبراطورية الأمريكية إلى أين؟
يخلص الدكتور يحيى الجمل في مقاله الرائق والماتع "الإمبراطوريات صعودًا وسقوطًا" إلى احتمالين:

- الاحتمال الأول: أنه مع استمرار التوجه الإمبراطوري سيزداد العالم توترًا وعنفا، وستزداد الكراهية لأمريكا الدولة في شتى أنحاء المعمورة, وليس في المنطقة العربية فحسب.

- الاحتمال الثاني: أن تنتصر القوى العاقلة في المجتمع الأمريكي، وهي قوى موجودة مؤثرة. وسيؤدي هذا إلى مزيد من العقلانية والتوازن مع قوى العالم المختلفة، سواء في أوربا أو في الشرق الأوسط أو الشرق الأقصى. وعلى هذا الاحتمال تختفي الضربات الاستباقية، ويستعيد التنظيم العالمي عافيته، وتعود منظمة الأمم المتحدة لتؤدي وظيفتها الحقيقية في المجتمع الدولي، وتخرج عن أن تكون مجرد أداة في يد أمريكا.. ولا تظل أمريكا شاردة بعيدة عن الاتفاقيات الدولية، التي توصل لها العالم من أجل تخفيف حدة التوتر، وتحقيق قدر أكثر من العدالة الدولية

وهكذا في الاحتمالين لابد أن يسقط نجم "الإمبراطورية" ويميل إلى الغروب بعدما تكبد السماء، حتى وإن اختلفت الطرق والأساليب: أحد الطريقين يؤدي إلى سقوط الإمبراطورية نتيجة التناطح مع العالم والاستعلاء عليه. والطريق الآخر يؤدي إلى ذوبان الإمبراطورية لتصبح قطبا من أقطاب متعددة.

كما يستطيع العالم الإسلامي -بعد نصر من الله- أن يكون قوة عالمية اقتصادية واستراتيجية دون موارد وشروط إضافية إلى ما هو قائم ومتحقق بالفعل، فما يلزم العالم الإسلامي هو إرادة سياسية وتوظيف معقول لموارده وإمكاناته، ولا يلزمه في الوقت الحاضر قوة عسكرية وتكنولوجيا إضافية، ولا أن يخوض حروبًا وصراعات ومغامرات عسكرية وسياسية. وستكون نهضة العالم الإسلامي سريعة لا تحتاج إلى زمن طويل بسبب توفر المؤهلات والشروط اللازمة، ولكن المشكلة ستكون في الابتداء الفعلي والإرادة والرغبة، هذا بالإضافة إلى التخلص من الهيمنة الاستعمارية التي تعي ربما أكثر من المسلمين هذه القوى والموارد الكامنة

وخلاصة القول: أن أسوأ الإمبراطوريات في التاريخ البشري كله هي تلك التي تجمع بين قوة العضلات وضعف العقل، وقديما قيل: العاقل يضع عقله قبل لسانه، أما الأحمق فيضع لسانه قبل عقله.. وعجبًا للأمة العربية الإسلامية، بكوارثها ونكباتها المتتالية، وجراحاتها الغائرة، ما زالت بعد كل هذا إمعة في يد الصلف والجبروت الأمريكي، في كل الملمات والمدلهمات.. فوا أسفا، ثم وا أسفا على أحوال هؤلاء..
فالمستجير "بأمريكا" لكربته كالمستجير من الرمضاء بالنار


وإشارة أخيرة وهي لفضيلة الدكتور سلمان بن فهد العودة حفظه الله في محاضرته القيمة تحت عنوان (نهاية التاريخ) يقول: "ليس سقوط الحضارة أو الدولة كسقوط فرد مثلا أو تغير حكومة يتم في خلال يوم أو شهر أو سنة! السقوط عملية بطيئة، وأسباب القوة الموجودة في القوى الغربية لا تزول كلها دفعة واحدة، منها ما يظل يقاوم عوامل الضعف ويثبت لمدة طويلة، وقد يتوقف الهبوط أحيانًا وقد يحدث ارتفاع طفيف، فهم أشبه ما يكونون بإنسان ينزل من جبل بقوة، وأحيانا يستطيع أن يصعد خطوات إلى أعلى لكن المؤشر النهائي يدل على سقوط وتراجع مستمر

الإحالات المرجعية:
هنا لا أقصد نهاية الحياة الدنيوية، ولكن أقصد أخذ العبرة والعظة وفتح باب الأمل في الله المتصرف في الكون سبحانه القادر على إيصال أمم إلى القمة ثم العودة بها إلى الحضيض، ولله في خلقه شؤون، وانطلاق أخرى لتتمسك بعناصر الريادة، وهنا أطرح سؤالا: متى تستفيق الأمة الإسلامية من سباتها وتتمسك بعناصر عزها وعظمتها؟ ولن تنهار بإذن الله!!
 
رد: نهاية التاريخ.. أم بداية أفول نجم الإمبراطورية الأمريكية..؟!

لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها..بمثل هذه الكلمة قال الإمام مالك رحمه الله تعالى..وهي قاعدة عظيمة لو جعلها المسلم فردا و جماعة..حاكما و محكوما..نصب عينيه وعمل بمدلولاتها لكنا بحق أمة لا تقهر..وشعب لا يزول..لأنه متمسك علما و عملا و اعتقادا بالوحي الذي تكفل الله بحفظه..
أما انهيار الدول الكافرة وعلى رأسها الطاغوت الأمريكي ؛ فلا محالة ستسقط ولو بعد حين..لكن لا ننتظر سقوط أمريكا ونحن في غفلة عن الدين حكاما و محكومين.. لتنهض بامريكا؟؟!! فتفعل الأفاعيل..باسم محاربة الإرهاب..الخ.
ولعلنا نأخذ العبرة من سقوط الطاغوت الشيوعي؟!! ماذا تولد عنه؟!! هل فتح الأندلس؟!! أم تحرير القدس؟!! أم؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟!!....
 
رد: نهاية التاريخ.. أم بداية أفول نجم الإمبراطورية الأمريكية..؟!

الارجل الامريكية انفتحت على مصرعيها
رجل في افغنستان ورجل في العراق وتريد انتضع رجل اخرى في اقصى حدود الجنوب الجزائري
يعني بدائت تحفر لنفسها حفرة ثلاثية الابعاد لتطمر فيها نفسها ان شاء الله
 
رد: نهاية التاريخ.. أم بداية أفول نجم الإمبراطورية الأمريكية..؟!

الارجل الامريكية انفتحت على مصرعيها
رجل في افغنستان ورجل في العراق وتريد انتضع رجل اخرى في اقصى حدود الجنوب الجزائري
يعني بدائت تحفر لنفسها حفرة ثلاثية الابعاد لتطمر فيها نفسها ان شاء الله
هل ممكن أخي أن تشرح لنا هذه النقطة؟
لأني لم أسمع من قبل أن من أولويات الولايات المتحدة الأمريكية غزو الجنوب الجزائري!
وما مصلحتها في ذلك؟
 
عودة
أعلى