تأملات تربوية في سورة النمل/د.عثمان قدري مكانسي

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,570
التفاعل
17,740 83 0
تأملات تربوية في سورة النمل

القسم الأول

د.عثمان قدري مكانسي​


1-العلم مفتاح الخير :

آتى الله تعالى داوود وابنه سليمان علماً ، والعلم الحق يوصِل إلى معرفة الله تعالى المعرفة التي تجعل صاحبها يؤمن به ويجلّه تعظيماً وحباً وخشية " إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ " و من جهل الحقيقة لم يحفل بها، ولم يعِرْها ما تستحق من جلال المقام .. أما داوود وسليمان فإنهما حين أكرمهما الله بالنبوّة وفضلهما " ولقد آتينا داوود وسليمان علماً " أقرّا بفضله تعالى وحمداه على ذلك " وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين " .
فالعلم شرف ، محله منيف ، وأهله وحَمَلتُه متقدمون . وهو من أجلّ النعم وأجزل القِسَم ، ومن أوتيَه فقد تقدم على كثير من عباد الله المؤمنين . والبون شاسع بين الجاهل والعالم ، ذاك يتخبط في جهله في ليل مظلم ، وهذا يسير في أضواء المعرفة وسبل الهداية ، فلا يستويان " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب " " قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون"! وقال الشاعر في الحث على العلم :
تعلّم ، فليس المرء يولد عالماً * وليس سـواءً عالـمٌ وجهـولُ

2- التحدّث بالنعمة :

وقد عُلّم النبيّان الكريمان منطق الطير " وقال- سليمان عليه السلام – يا أيها الناس عُلـِّمْنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين " قال تعالى مخاطباً نبيه الكريم محمداً عليه الصلاة والسلام " في وجوب التحدث بنعمة الله " وأما بنعمة ربك فحدث " ولا يكون الحديث بالمفاخرة والتعاظم ، إنما بالعمل الصالح ، وخدمة العباد ، والسهر على راحتهم . والإقرار بفضل الله عملاً وقولاً ، وإن مساعدة الآخرين وقضاء حوائجهم والسير فيها من التحدث بنعمة الله .
ولم يبلغ أحد من الأنبياء ما بلغ ملكه ، فإن الله تعالى سخّر له الإنس والجن والطير والوحش وآتاه ما لم يؤتِ أحداً من العالمين .
يقول القرطبي في في تفسير هذه الآية :
" قوله تعالى: " وقال يا أيها الناس " أي قال سليمان لبني إسرائيل على جهة الشكر لنعم الله " علمنا منطق الطير " فتفضل الله علينا على ما ورثنا من داود من العلم والنبوة والخلافة في الأرض في أنْ فهّـمَنا من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها. قال مقاتل في الآية :
كان سليمان جالسا ذات يوم إذ مر به طائر يطوف، فقال لجلسائه : أتدرون ما يقول هذا الطائر؟ إنها قالت لي : السلام عليك أيها الملك المسلط والنبي لبني إسرائيل! أعطاك الله الكرامة، وأظهرك على عدوك، إني منطلق إلى أفراخي ثم أمر بك الثانية؛ وإنه- الطائر - سيرجع إلينا الثانية ثم رجع؛ فقال إنه يقول : السلام عليك أيها الملك المسلط ، إن شئت أن تأذن لي كيما أكتسب على أفراخي حتى يشبوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت. فأخبرهم سليمان بما قال؛ وأذن له فانطلق.
وقال فرقد السبخي : مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا لا يا نبي الله. قال إنه يقول : أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء.
ومر بهدهد فوق شجرة وقد نصب له صبي فخا فقال له سليمان : احذر يا هدهدُ! فقال : يا نبي الله! هذا صبي لا عقل له فأنا أسخر به. ثم رجع سليمان فوجده قد وقع في حبالة الصبي وهو في يده، فقال : هدهدُ ما هذا؟ قال : ما رأيتها حتى وقعت فيها يا نبي الله. قال : ويحك! فأنت ترى الماء تحت الأرض أما ترى الفخ! قال : يا نبي الله إذا نزل القضاء عمي البصر.
وقال كعب. صاح ورشان- طائر يشبه الحمام - عند سليمان بن داود فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال : إنه يقول : لدوا للموت وابنوا للخراب.
وصاحت فاختة- وهي ضرب من الحمام المطوّق صوّيت - فقال : أتدرون ما تقول؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : ليت هذا الخلق لم يخلقوا ، وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا.
وصاح عنده طاوس، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال : إنه يقول : كما تدين تدان.
وصاح عنده هدهد فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال : فإنه يقول : من لا يَرحم لا يُرحم. وصاح صُرَدٌ- طائر فوق العصفور ، كانت العرب تتطير منه - عنده، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال : إنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين؛.. فمن ثَـمّ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله. وقيل : إن الصرد هو الذي دل آدم على مكان البيت. وهو أول من صام؛ ولذلك يقال للصرد الصوّام؛ روي عن أبي هريرة.
وصاحت عنده طِيطوى – نوع من القطا طِوال الأرجل - فقال : أتدرون ما تقول؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : كلُّ حي ميت وكل جديد بال.
وصاحت خطّافة – عصفور أسود ، وتسميه العامّة عصفور الجنة - عنده، فقال : أتدرون ما تقول؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : قدموا خيرا تجدوه؛ فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها. وقيل : إن آدم خرج من الجنة فاشتكى إلى الله الوحشة، فآنسه الله تعالى بالخطاف وألزمها البيوت، فهي لا تفارق بني آدم أنسا لهم. قال : ومعها أربع آيات من كتاب الله عز وجل {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته} الحشر 21 إلى آخرها وتمد صوتها بقوله {العزيز الحكيم} البقرة 129.
وهدرت حمامة عند سليمان فقال : أتدرون ما تقول؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : سبحان ربي الأعلى عدد ما في سماواته وأرضه.
وصاح قـُمري عند سليمان، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال إنه يقول : سبحان ربي العظيم المهيمن.
وقال كعب : وحدثهم سليمان، فقال : الغراب يقول : اللهم العن العشّار- الذي يأخذ عشر أموال الناس ويستحله - .
والحدأة تقول { كل شيء هالك إلا وجهه } القصص 88 .
والقطاة تقول : من سكت سلم.
والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه.
والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس.
والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده.
والسرطان يقول : سبحان المذكور بكل لسان في كل مكان.
وقال مكحول : صاح دراج عند سليمان، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال : إنه يقول{ الرحمن على العرش استوى } .
وقال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم : (الديك إذا صاح قال اذكروا الله يا غافلين).
وقال الحسن بن علي بن أبي طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم : (النسر إذا صاح قال يا ابن آدم عش ما شئت فآخرك الموت .
وإذا صاح العقاب قال : في البعد من الناس الراحة .
وإذا صاح القنبر قال إلهي العن مبغضي آل محمد .
وإذا صاح الخطاف قرأ { الحمد لله رب العالمين } الفاتحة إلى آخرها فيقول { ولا الضالين } الفاتحة ، ويمد بها صوته كما يمد القارئ.
قال قتادة والشعبي : إنما هذا الأمر في الطير خاصة، لقوله { علمنا منطق الطير } والنملة طائر إذ قد يوجد له أجنحة. قال الشعبي : وكذلك كانت هذه النملة ذات جناحين.
وقالت فرقة : بل كان في جميع الحيوان، وإنما ذكر الطير لأنه كان جندا من جند سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الأمور فخص بالذكر لكثرة مداخلته؛ ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد ترداد أمر الطير.
وقال أبو جعفر النحاس : والمنطق قد يقع لما يفهم بغير كلام، والله جل وعز أعلم بما أراد. قال ابن العربي : من قال إن سليمان لا يعلم إلا منطق الطير فنقصان عظيم، وقد اتفق الناس على أنه كان يفهم كلام من لا يتكلم ويخلق له فيه القول من النبات، فكان كل نبت يقول له : أنا شجر كذا، أنفع من كذا وأضر من كذا؛ فما ظنك بالحيوان.
فمن تكريم الله تعالى سليمان أنه عليه السلام
أ- نال النبوة .
ب ـ عُلـِّم منطق الطير والحيوانات .
ت - جنوده من كل المخلوقات ، إنسهم وجنّهم وطيرهم ووحشهم .
ث - حمل الريح له ولجنوده في ساعات مسيرة شهر " ولسليمان الريح غدُوُّها شهر ورواحها شهر " .
ج - أسال الله تعالى له النحاس ، فذاب وسال كما تسيل عيون الماء ليستعمله فيما يريد ومن ثم انتفع الناس به " وأسلنا له عين القِطْر" .

3- الداعية مثال الإنسان الواعي :

وكان النبي الكريم سليمان عليه السلام يجند كل جيشه في نشر دعوة الله وبناء صرح الدين في الأرض " وحشر لسليمان جنودُه من الجن والإنس والطير ، فهم يوزعون " مرتبين ومنظمين . يصله خبرهم وحالهم على كثرتهم ، ولا يغيب عنه- بإذن الله- شاردة منهم ولا واردة . وهكذا يكون المسؤول ، فمن يتسنم أمراً من أمور المسلمين عليه أن يتابعهم ، والعين الساهرة المتابعة تحفظ النظام والبلد وتهيئ الأمان والراحة للأمة صغيرها وكبيرها، قريبها وبعيدها ، ضعيفها وقويّها . ومثال ذلك :
أولاً - إيقاف المسير في وادي النمل للحفاظ على حياة النمل ، وخوف أن يباد تحت مداس الجيش الجرار دون أن يشعر بها لضآلتها – وقد توقف العلماء في العصر الحديث عند قوله تعالى :" لا يحطمنّكم سليمان وجنوده ... " فذكر التحطيم بدل الدهس والقتل أو الكسر حين اكتشفوا أن في تركيب النمل قدراُ من الزجاج ، والزجاج يتحطم ثم يتفتت ويصير كالرمل حين يتكسر تحت وطئه المستمر . وهذا من بديع بلاغة القرآن.
والداعية لا يتكبر ولا يتجبر على غيره حين يمتلك القوة وأسباب الغنى ، إنما يتواضع لله ، ويحافظ على عباده فهو مسؤول أمامه فيما يفعل أيشكر أم يكفر؟ ، أيرحم أم يظلم ؟ .. وكلما ازداد شعوره بفضل الله تعالى عليه تضاعفت همته في العمل الصالح والشكر لله على فضله وكرمه وهكذا سيدنا سليمان عليه السلام ، فبعد أن تبسم ضاحكاً من قولها حين سمعه وفهمه :
1- سأل الله أن يعينه على أداء المهمة .
2- وأن يعينه على حسن شكرالنعمة .
3- وأن يسدد خطاه في العمل الصالح .
4- وأن يرزقه المثابرة عليه بالطريقة التي ترضي الله تعالى
5- وان يجعله برحمته في عباده الصالحين .
" فتبسم ضاحكاً من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين "
ولا ننس أن على العاقل أن ينصح أهله وأمته ، وينبههم إلى الخير ويحذرهم من المهالك كما فعلت النملة حين حذرت جماعتها من موت محقق إن غاب عنها الحذر ولم تسارع إلى مساكنها تتوقاه . وتعال معي إلى الحوار بين سليمان والنملة، ففيه - على الشك بصحته لإسرائيليته – فوائد تربوية وحكمة .. والحكمة ضالة المؤمن أين وجدها التقطها . .. يقول القرطبي :
قال أبو إسحاق الثعلبي : ورأيت في بعض الكتب أن سليمان قال للنملة لم حذرت النمل؟ أخفت ظلمي ؟ أما علمت أني نبي عدل؟ فلم قلت " لايحطمنكم سليمان وجنوده " ؟ فقالت النملة : أما سمعت قولي " وهم لا يشعرون " .. مع أني لم أرد حطم النفوس، وإنما أردت حطم القلوب خشية أن يتمنين مثل ما أعطيت، أو يفتتِنّ بالدنيا، ويُشغلن بالنظر إلى ملكك عن التسبيح والذكر. فقال لها سليمان : عظيني. فقالت النملة : أما علمت لمَ سمي أبوك داود؟ قال : لا. قالت : لأنه داوى جراحة فؤاده؛... هل علمت لم سميت سليمان؟ قال : لا. قالت : لأنك سليم الناحية على ما أوتيته بسلامة صدرك، وإن لك أن تلحق بأبيك- بالفضل- .. ثم قالت : أتدري لم سخر الله لك الريح؟ قال : لا. قالت : أخبرك أن الدنيا كلها ريح. " فتبسم ضاحكا من قولها " متعجبا ثم مضت مسرعة إلى قومها، فقالت : هل عندكم من شيء نهديه إلى نبي الله؟ قالوا : وما قدر ما نهدي له! والله ما عندنا إلا نبقة واحدة. قالت : حسنة؛ ايتوني بها. فأتوها بها فحملتها بفيها فانطلقت تجرها، فأمر الله الريح فحملتها، وأقبلت تشق الإنس والجن والعلماء والأنبياء على البساط، حتى وقعت بين يديه، ثم وضعت تلك النبقة من فيها في كفه، وأنشأت تقول :
ألم ترنا نهدي إلى الله ماله * وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله
ولو كان يهدي للجليل بقدره * لقصر عنه البحر يوما وساحله
ولكـننا نهدي إلى من نحبه * فيرضى به عنا ويشكـر فاعله
وما ذاك إلا من كريم فعالـه * وإلا فما في مُلكنا ما يشاكـلـه
فقال لها : بارك الله فيكم؛ فهُـم- أي النمل - بتلك الدعوة أشكـَرُ خلق الله وأكثر خلق الله.
وقال ابن عباس : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب : الهدهد والصرد والنملة والنحلة؛ خرجه أبو داود وصححه أبو محمد عبدالحق وروي من حديث أبي هريرة. وقد مضى في الأعراف . فالنملة أثنت على سليمان وأخبرت بأحسن ما تقدر عليه بأنهم لا يشعرون إن حطموكم، ولا يفعلون ذلك عن عمد منهم، فنفت عنهم الجور.
ثانياً – قصته مع الهدهد الذي غاب دون إذن من القائد فكانت عقوبته العذاب الشديد أو الذبح . أو إظهار العذر ، فإن كان له عذر بيّن عفا عنه . وجاء الهدهد بعد قليل ، موضحاً أنه عرف ما لم يكن النبي سليمان على جلال قدره يعرفه ، فالأنبياء لا يعلمون الغيب ، ولا يحيطون بكل شيء . وجاءه من بلاد سبأٍ بخبر يتشوفه النبي الكريم " فقال أحطت بما لم تحط به ، وجئتك من سباٍ بنبأٍ يقين " لم يكن الهدهد خائفاً فحجته معه ، وسينجو من العذاب فهو واثق بنفسه وبما يحمل من نبأٍ يسر له الداعية الذي وهب نفسه لدين الله ودعوته . والهدهد جندي من جنود هذه الدعوة ، فعليه أن يكون له دور في نشرها .
وليؤكد أنه لم يضيّع وقته هباء فصّل فيما رآه ليصدقه النبي سليمان
" إني وجدت امرأة تملكهم
وأوتيت من كل شيء
ولها عرش عظيم
"
ثم بين تفاهة ما يعبدون من دون الله ، فقد أضلهم الشيطان عن الطريق القويم ، وأزلهم في اعتقادٍ باطل فضاعوا في متاهة الكفر والفساد " وجدتها وقومَها يسجدون للشمس من دون الله ، وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل فهم لا يهتدون " وتصوروا معي : كم يسقط الإنسان ويتضاءل حين يكون الطير أكثر منه هدى وبصيرة " ..ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ".

4- التحري عن الحق :

أسلوب يدل على الحرص في الوصول إلى العدل ، والحكم به ، والبعدعن ظلم الرعية ، فسليمان عليه السلام كان أدنى إلى تصديق الهدهد من تكذيبه ، والدليل على ذلك أنه بدأ في خطابه بكلمة سننظر أصدقتَ أم كنت من الكاذبين .. ونلحظ هنا قاعدة تقول : إن الصدق في الناس قليل ، والكذب كثير بدليل أنه قال :أصدقتَ – بصيغة المفرد – أم كنت من الكاذبين – بصيغة الجمع .
وليتأكد من ذلك مع التصديق له أرسله بكتابه وحده ، فلم يكن معه شاهد ، وكلفه بأمرين :
أ‌- إيصال الكتاب ...
ب- متابعة الأمر وتقديم تقريره .
وامتاز الكتاب بثلاث صفات مهمة :
أ‌- البدأ بالبسملة : وقد قال نبينا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام : " كل كلام لا يُبدَأ فيه ببسم الله ، فهو أجذم " والمسلم يبدأ بأعماله كلها باسم الله تعالى . وقد اتفق المسلمون على كتابة " بسم الله الرحمن الرحيم " في أول الكتب والرسائل لأنه أبعد عن الريبة . ولا يسمى الكتاب كتاباً إلا إذا ختم ، وعلى هذا اصطنع الرسول عليه الصلاة والسلام خاتماً ونقش عليه " لا إله إلا الله ، محمد رسول الله "
ب- الاختصار غير المُخِل : " ألاّ تعلوا عليّ " فهو يخاطبهم بالعقل والقوة .
" وائتوني مسلمين " مؤمنين بالله وحده بعد الفهم والاقتناع أو مستسلمين للحق صاغرين . والمسلم يجب أن يكون عزيزاً قوياً .
ت- التعريف بالمرسِل: ليكون الأمر على بينة ، وليُعرف خطرُه ومكانته ، فيُحترم .
وقد شعرت الملكة بعزة المسلم وقوته حين قرأت الكتاب واستشارت بطانتها ثم علقت قائلة " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون " حين استشارت قومها في أمر سليمان عليه السلام مستنصحة ، أجابوها : نحن أقوياء أشداء ، فافعلي ما ترينه مناسباً
" قالوا نحن أولو قوة وألو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين " وأعتقد أنّ آراءهم خانتهم بهذا الجواب ، فلم يكونوا على دراية بعظم مكانة من أرسل الكتاب ، ولو فكروا قليلاً معتمدين في تفكيرهم على الطريقة التي وصلهم بها الكتاب إليهم ، وهذا أمر غريب عجيب " إني أُلقيَ إليّ كتاب كريم " ولم تعرف من الذي ألقاه ، ولا كيف وصل . ولم تدر أن الرسول الذي ألقى الكتاب طيرٌ يتابع لقاءها ببطانتها دون أن تشعر به .
والحاكم العاقل - ولو كان امرأة – يتدبر الأمر ، ويجنّب قومه المهالك . ولا بد من سلوك الأمر الهيّن السهل في استكناه ردّة فعل المرسِل حين يصله الجواب . وقد فعلت ذلك " وإني مرسلة إليهم بهدية ، فناظرة بما يرجع المرسلون "
فإن كان ملكاً طامعاً بالمال بذلناه له ، وإن كان الأمر شيئاً آخر تلافينا ضرره بما نستطيع .... وكانت موفقة بما قررت .
وهنا تنتهي قصة الهدهد ، فقد صدق فيما ادّعاه ، وأدى واجبه ، فلم يعاقب .

5- التصرف الحكيم :

يجب أن يكون الفعل وردة الفعل مدروسين بتأنٍّ ورويّة ، قائمَيْن على قواعد مدروسة ، وخطط سليمة . فالداعية لا ينبهر بالأموال والهدايا التي تأتيه ، إن هدفه أكبر من هذا بل هو غير ذلك على الإطلاق . ولا يأنس للزخرف الدنيوي .. فماذا فعل النبي سليمان ؟
أ- أظهر الزهد في هداياهم ، فما عند الله خير مما جاءوه به ، وليس هذا هدفه ." فلما جاء سليمانَ قال أتمدونني بمال " ونكّر لفظ المال استهانة به وتحقيراً لشأنه ، ليلقي الرعب في قلوبهم ، فيفكروا بالإسلام ، والخضوع للحق ، فقد قال لهم من قبل " ألاّ تعلوا عليّ وأتوني مسلمين " .
ب- أظهر القوة وهدّد بها " ارجع إليهم فلنأتينّهم بجنود لا قبل لهم بها "
ت- حاربهم نفسياً حين أكمل قائلاً: " ولنخرجنّهم منها أذلة وهم صاغرون "
وكان لما فعلَ التأثيرُ الإيجابي السريع ، فقد اظهر القوة عملياً حين جيء بعرشها وأدخل الملكةَ الصرح المبنيّ على الماء فبهرها ، والانبهار دليل الاستسلام والخضوع . وهذا ما يفعله القوي بالضعيف دائماً ، فيستذله إلا المؤمن فإنه يبدي القوة ، ويبهر العدو ليستنقذه من الضلال إلى الهداية ، وينتشله من الكفر إلى الإيمان ، ويكون أخاً له يحبه ويكرمه .
وهذا ما فعله النبي سليمان عليه السلام بملكة سباً وأهلها، وهذا ما فعله النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة ، فقد دخلها متواضعاً لله متذللا لمولاه ، شاكراً فضله ، ولم يعمل السيف في أهلها ، بل عفا عنهم وأكرمهم ، إذ قال لهم حين جمعهم في الحرم الشريف : ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم . قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء .
ومن الحرب النفسية التي بهر الملكة بها المجيءُ بعرشها – وقد كان عظيماً – بطرفة عين ، جاء به من كان عنده علم من الكتاب ، وكان يعلم اسم الله الأعظم . ، وتراه عليه السلام فاضل بين هذا الرجل ، والمارد القوي الذي عرض حمل عرشها بساعات ، فجاء به الربّاني بلحظة خاطفة " قال أيّـُكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين * قال عفريت من الجن : أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ، وإني عليه لقويٌّ أمين * قال الذي عنده علم من الكتاب : أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفـُك . "
فهل تعاظم ، وانتفش كما ينتفش أهل الدنيا ممن يتيهون حين يمتلكون ؟! إنه نبي كريم من أنبياء الله تعالى ربّاه على عينه فأحسن تربيته .. لقد قال سليمان مقراً بفضل الله وكرمه ، منبهاً إلى أن كل هذه الكرامات العظام إنما هي ابتلاء للمؤمن واختبار لإيمانه ، وقد فاز من نجح في هذا الامتحان : " قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ."

6- تعّرفْ إلى الناس :

ينبغي التعرف على قدرات من تعاشرهم حتى تنزلهم منازلهم .. يروى أن رجلاً جسيماً يرتدي حلة فاخرة جلس بوقار إلى حلقة أبي حنيفة النعمان وهو بين تلاميذه يناقشهم في بعض المسائل ، وكان يمد رجله متعباً في جلسته متباسطاً معهم ، فجمعها إليه حين جلس هذا الرجل بينهم ، ثم بدا للرجل أن يتكلم فسأل سؤالاً لا يدل على ذكاء وفهْمٍ ، فضحك ابو حنيفة ، وقال : آن لأبي حنيفة أن يمد رجله .. وهنا نجد نبي الله سليمان يريد أن يختبر الملكة بلقيس ، ويتعرف جدارتها في حكم أهل سباٍ ، فقال لمساعديه : " نكّروا لها عرشَها ننظرْ أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون "
فغيّروا في عرشها بعض معالمه ، فلما وصلت واستقبلها أشار إلى عرشها يسألها بذكاء الأنبياء ولباقتهم : " أهكذا عرشُكِ " ولم يسألها أهذا عرشك؟ والفرق بين الطريقتين واضح . فالأول فيه شك وجواب الثاني نفي أو إثبات . فكان جوابها على قدر السؤال حين "قالت كأنه هو " فلم تنفِ ولم تثبت وتركته في دائرة الشك . هذا كان الاختبار الأول .
أما الاختبار الثاني فكان أن طلب إليها دخولَ الصرح المبني بصفائح الزجاج فوق الماء ، فلم تتبين الزجاج ، فكشفت عن ساقيها تظن أنها ستخوض لُجـّته ، فلما قيل لها " إنه صرح ممرد من قوارير " علمت أنه يريد أن يريها ملكاً أعظم من ملكها ففطنت إلى مراده فاستسلمت ، وأذعنت ثم أسلمت بعد أن أقرّت بما كانت عليه من الكفر . وقيل كما في القرطبي - بتصرف - : عمله ليختبر قول الجن فيها : إن أمها من الجن، ورجلها رجل حمار؛ قاله وهب بن منبه. فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد بها الغرق : وتعجبت من كون كرسيه على الماء، ورأت ما هالها، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر. "وكشفت عن ساقيها " فإذا هي أحسن الناس ساقا؛ سليمة مما قالت الجن، فلما بلغت هذا الحد، قال لها سليمان بعد أن صرف بصره عنها " إنه صرح ممرد من قوارير" والممرد المحكوك المملس
. ولما رأى سليمان عليه السلام قدميها تزوجها عند ذلك وأسكنها الشام

يتبع
 
التعديل الأخير:
تأملات تربوية في سورة النمل/القسم الثاني/د.عثمان قدري مكانسي


تأملات تربوية في سورة النمل

الدكتورعثمان قدري مكانسي

القسم الثاني والأخير

7- الدعوة إلى التفكير :

خلقنا الله تعالى " .. في أحسن تقويم " فجعل لنا - معشر الإنس والجن لأننا مكلفون - العقول التي تميزنا عن بقية المخلوقات لنتدبر ما نجده أمامنا ولنتفكر فيه . أما الحيوانات الأخرى فإنها تعيش غريزياً . لا رسالة لها في هذه الحياة سوى ما قدره الله تعالى لها في حياتها الدنيا ثم يقال لها – في الآخرة حين تحشر ليقتص منها ذلك الاقتصاص الذي لا يقارن مطلقاً بالاقتصاص من الثقلين - كوني تراباً .. فيتمنى الكافر لما يراه من العذاب الشديد الخالد في نار جهنم أن تكون نهايته مثل نهايتها " يا ليتني كنت ترابا " ولكن هيهات هيهات .
وعلى الرغم أن البشر جميعاً لهم عقول يفكرون بها إلا أن أكثرهم لا يريد أن يعي حقيقة وجوده وسبب خلقه ، فهو يحيا في هذه الدنيا وكأنه خالد فيها ، أو سينتهي دون عودة " وما يهلكنا إلا الدهر " وينكرون حياة أخرى تنتظرهم هي الحياة الحقيقية " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " وهؤلاء لئن كانوا بشراً إنهم لينزلقون إلى درجة الأنعام التي لا تعي ولا تعقل ، بل إنهم أقل منها مستوىً ، فالحيوانات ليس لها عقول وقد سقط عنها القلم، وهؤلاء لهم عقول لا يستعملونها في مرضاة الله ، فانحدروا عن مستوى البهيمية بفعلهم – عنادِهم وضلالهم - يقول الله تعالى " ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام ، بل هم أضل ، أولئك هم الغافلون " .
والقرآن الكريم يدعو المكلف إلى التدبر وإمعان التفكير في مئات الآيات المنبثة فيه ، وفي هذه السورة الجليلة نجد الكثير منها ، وإليك بعضاً منها :
ففي الآية الستين نجده يدعونا إلى معرفة خالق السماوات والأرض الذي أنزل الماء فكان سبباً في الحياة المتجددة الجميلة في الأرض ، وأنه سبحانه واحد لا شريك له
" أمّن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون " .
وتأمل التسلسل في " خلق ، وأنزل ، وأنبت " فترى المشركين يميلون عن الحق وينغمسون في الضلال .
وفي الآية الحادية والستين ينبههم إلى بديع صنعه سبحانه ، فالأرض ثابتة صالحة للعيش ، تجري فيها الأنهار ، وتثبتها الجبال الرواسي ، وجعل الماء مالحاً وحلواً فلا يطغى هذا على ذاك – بأمر الله خالقها – بل إن لكل بحر ماءَه بخواصه المختلفة عن ماء غيره ،
" أمّن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لهـا رواسيَ وجعل بين البحرين حاجزاً أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون "
وانظر معي إلى تكرار كلمة " جعل " التي تدل على جميل صنعه وعظيم حكمته سبحانه، وأنه الخالق الأوحد ... ولكن غالب البشر يجهلون هذافيشركون بالله تعالىويتوهون في مزاريب الضلال .
وفي الآية الثانية والستين يذكرهم برأفته بهم ، وحنوّهم عليهم ، فهو سبحانه يجيب الداعي ، ويتلطف به ، وهو وحده خالقهم لكن الدنيا ببريقها وزخرفها تنسيهم الحقيقة وتبعدهم عنها
" أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكّرون " .
وهي دعوة صريحة إلى إفراده سبحانه باللجوء إليه والاعتماد عليه وانظر إلى المنطقية في العرض، فهو سبحانه " يجيب المضطر ، ويكشف السوء " لماذا؟ إنه الخالق الوحيد " ويجعلكم خلفاء الأرض "
وفي الآية الثالثة والستين ينبه أن الله تعالى هو الهادي والحافظ ومدبر الحياة في البر والبحر أفلا يستحق الإفراد بالعبادة ؟
" أمّن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون " .
وتأمل معي هاتين الكلمتين " يهديكم ، يرسل الرياح "
هداية وعون ، فهو سبحانه لا يدع عباده يتخبطون في حياتهم إنما ييسر لهم السبل ويعينهم .

8 ـ التصوير الحسي :

ذكرت في كتابي " من أساليب التربية في القرآن الكريم " تحت عنوان – التصوير ص 385 : أن التصوير من الأساليب الراقية في التربية ، فالإنسان روح وفكر وقلب .. وهو كذلك عين وسمع وذوق ولمس وشم .... فهو معنوي ومادي بآن واحد ، فإذا عجز أحياناً عن الوصول إلى الفكرة الشفافة ذهناً وصل إليها مادة وحسّاً .. المهم أن يصل إلى المعلومة ، وتتركز في ذهنه ، ويتفاعل معها .
والصور في هذه السورة ملفتة للنظر إذ جمعت بين اللون والحركة والصوت . من ذلك قوله تعالى :
" ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً ..."
" ويوم ينفخ في الصور ، ففزع من في السموات والأرض إى من شاء الله وكلٌّ أتَوْه داخرين "
" وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب " .
" وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابّة من الأرض تكلمهم ..." .
" ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار ..هل تجزون إلا ما كنتم تعملون "
" قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم ، إنهم أناس يتطهّرون " .
وانتبه إلى الكلمات التي تحتها خط في الآيات السابقة لـ ترى اللون
في الليل والنهار والجبال والسحاب والنار
وتسمع الصوت
في النفخ والكلام : قال ، يتطهر، تجزى
وترى الحركة
الفزع وحركة النفخ والسكون والجمود وخروج الدابّة والمجيء وكب الوجوه..
والتصوير يثبت الفكرة في الذهن لأن أكثر من حاسّة تتضافر في توكيدها ، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يؤديها في حديثه،وتبعه في ذلك المربون .

9- الطيَرة والتفاؤل :

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يسمع : يا راشدُ، يا نجيحُ . – أخرجه الترمذي – وكان يعجبه الفأل لأن النفس تنشرح له وتستبشر بقضاء الحاجة وبلوغ الأمل ، فتحسن الظن بالله . وقد قال : " أنا عند ظن عبدي بي " وكان صلى الله عليه وسلم يكره الطِّيَرة لأنها من سمات أهل الشرك وتجلب سوء الظن بالله تعالى . قال الخطّابي كما يروي القرطبي عنه : الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله ، والطيرة إنما هي من طريق الاتكال على شيء سواه . وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا طيرة ، وخيرُها الفأل " . قيل : يا رسول الله وما الفأل ؟ قال : " الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم "
فلما قال قوم صالح لنبيهم عليه السلام حين دعاهم إلى الإيمان بالله وحده : " اطَّيرنا بك وبمن معك " رد عليهم مؤنباً وناصحاً " طائركم عند الله بل أنتم قوم تُفتنون " فقد تشاءموا ، والشؤم نحس . ولا شيء أضر بالرأي ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطيرة . ومن ظنّ أن خوار بقرة أو نعيق غراب يرد قضاء أو يدفع مقدوراً فقد جهل . وقد قال مقاتل في قوله تعالى في سورة" يس " على لسان الذين كفروا بأنبيائهم " إنا تطيّرْنا بكم " : حبس المطر عنهم ثلاث سنين ، فظنوا أنّ حبسه كان بشؤم الأنبياء عليهم ! فرد أنبياؤهم مصححين منبهين " طائركم معكم " أي شؤمكم ملازمكم بأعمالكم وفسادكم لا بسببنا ، فأنتم مسرفون في كل شيء حتى التشاؤم ." بل أنتم قوم مسرفون " قال الشاعر :

طيرةُ الدهر لا يرد قضاءً * فاعذرِ الدهرَ ، لا تَشُبهُ بلَوم
أيُّ يـوم يَخُصّـه بسعـود * والمنايا ينزلـن في كل يـوم
ليس يومٌ إلا وفيه سعـودٌ * ونحوسٌ تجري لِـقومٍ فـَقوم
وقد كانت العرب أكثر الناس طيرةً ، وكانت إذا أرادت سفراً نفرت طائراً ، فإذا طار يمنة سارت وتيمّنَتْ ، وإن طار شمالاً تشاءمت ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال : " أقِرّوا الطير على وُكُناتها " .

10- عاقبة المفسدين :

يقول تعالى :" .. ومن جاء بالسيئة فكبّت وجوههم في النار هل تُجزون إلا ماكنتم تعملون " فنهايتهم في الآخرة الاحتراق في النار والعذاب المهين . أما في الدنيا فقد بين الله تعالى عاقبة كل قوم كفروا بالله ... أما في هذه السورة الكريمة فكان عاقبة الرهط المفسدين الذين عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم ، ومكروا بنبيهم وأهله والمؤمنين به
" ..... أنا دمّرناهم وقومهم أجمعين "
فكانوا عبرة لمن جاء بعدهم " فتلك بيوتهم خاويةً بما ظلموا ..... "
وأما قوم لوط الذي استمرءوا فاحشة اللواط ، ففعلوها في أنديتهم – وكانوا يتلذذون بالنظر إلى الفاعلين والعياذ بالله ، وهم يصرون على فعلها على علمهم ببهتان ما يعملون ، بل صمموا على إخراج لوط وآله لأنهم " يتطهّرون " والطهارة يكرهها الأبالسة في كل زمان ومكان فقد عاقبهم الله تعالى عقابين شديدين . أما الأول فإرسال الحجارة عليهم تحصبهم حصباً " وأمطرنا عليهم مطراً فساء مطر المنذَرين " وأما الثاني فقد قلب قراهم رأساً على عقب . وذكر الله تعالى الأمرين في سورة هود :
" فلما جاء أمرنا...
1- جعلنا عاليَها سافلها
2- وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسوّمةً عند ربك .... "
والعاقل من يستلهم من مصير الغابرين العبر والعظات فيزدجرعن ضلاله وغيه ، وينأى بنفسه وأسرته وقومه عن نهاية الفاسدين
" قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين "

11- مهمة الداعية :

والداعية يتوكل على الله تعالى ويدعو إليه ، وهناك من يسمع لكنّ في أذنيه وقراً فلا يفقه ما يقال ولا ما يُراد . وإذا سمعوا هربوا من الحق الذي تكرهه نفوسهم الآثمة . واستمروا في غيهم وضلالهم ، أما المسلم ذو القلب الشفاف والفؤاد الواعي فإنه يقبل على الداعية يستفيد منه ويتقبل منه ويكون له عونا في دعوته إلى الله .
: " فتوكل على الله ، إنك على الحق المبين
إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولّوْا مدبرين ......
وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم
إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون "
والحقيقة أن دور الدعاة التنبيهُ إلى طرق الخير والتحذير من سبل الغواية ، وأن يبدأوا بأنفسهم أولا، فهم القدوة . فمن تبعهم نجا ، ومن استنكف غوى وضل ، وليس لهم عليهم سلطان . هذا ما نبه إليه الله تعالى نبيه الكريم حين قال سبحانه :
" 1- إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرّمها ......
2- وأمرت أن أكون من المسلمين .
3- وأن أتلوَ القرآن ........
4- فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه
5- ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين . "
 
عودة
أعلى