الإمام أحمد بن حنبل
صامت يطيل السكوت والتأمل، حزين يكاد لا يبتسم، وفي وجهه مع ذلك البشاشة وعلى قسامته الرضا، لا يتكلم إلا إذا سئل فلا يبتدر أحدا بحديث .. حتى إذا جلس في الحلقة بعد كل صلاة عصر في المسجد الجامع ببغداد، وسأله الناس في أمور الدين والدنيا انفجر منه علم غزير نافع يبهر السائلين! .. قال عنه بعض الفقهاء: "أنه جمع العلم كله". وقال عنه بعض العلماء: "إنه ليس من الفقه في شيء". وقال عنه الإمام الشافعي حين ترك بغداد إلى مصر: "تركت بغداد وما فيها أفقه ولا أعلم من أحمد بن حنبل". وفي الحق أن أحمد بن حنبل ظلم حيا وميتا.
أما حياته فقد كانت نضالا متصلا ضد الفقر، وضد عادات عصره .. فقد حملته أمه وهي حامل به من "مزو ـ حيث كان يعمل أبوه في جند الخليفة ـ إلى بغداد، ولم تكد تضع وليدها أحمد حتى مات والده ترك له عقارا عاشت من غلته هي والصغير .. حتى إذا شب الصغير وزادت مطالبه، عرفت أمه ضيق العيش، ولكن الأرملة الشابة رفضت أن تتزوج على الرغم من جمالها وشبابها وطمع الخطاب فيها، ووقفت حياتها على تربية وحيدها أحمد فأحسنت تربيته ودفعت به إلى مقرئ ليعلمه القرآن فختمه وهو صبي وظل حياته كلها يعاود قراءته والتفكير فيه ..
وعندما وثبت به الحياة إلى الفتوة وجد من حوله دنيا عجيبة حقا، تطغى فيها البدعة على السنة، ويشقى فيها عالم الأمر بجاهله، وتكتظ خزائن بعض الناس بالذهب والفضة بحيث لا يعرفون كيف ينفقونها، وعلى مقربة منهم يسقط بعض النساء والرجال في حمأة العار بحثا عن الحياة الأفضل أو عن الطعام وسط أو حال النفاق والخطيئة..! وأصوات خادعة أو مخدوعة تحبب الناس في الانصراف عن طيبات الحياة مما أحل لهم، باسم الورع أو الزهد، وتحضهم على ترك الحقوق لها ضميها أو مغتصبيها!..
ووسط هذه النداءات المنكرة التي لم يعرفها السلف قط، تزف عروس إلى ابن الخليفة الذي يجب أن يعيش كما يعيش أواسط الناس من رعيته، فإذا بكل رجل من المدعوين إلى حفل الزفاف من كبار القوم يسلم رقعة هي صك هبة: بضيعة وجارية ودابة .. فضلا عن الدار المنثور!!.. أما سائر الناس فتندثر عليهم الدنانير والدراهم وحقاق المسك والعنبر!! هكذا طالعت الدنيا شابا حفظ القرآن صغيرا وتدبر في أحكامه وتعلم علم الحديث، فما كان منه إلا أن أعلن إنكاره لهذا كله، وسمى كل ما يحدث بدعة ونذر نفسه لمقاومتها ولإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فاتهموه بالتزمت!
وهكذا عاش حياته..!
أما بعد موته فقد ابتلى ببعض اتباع نسبوا إليه ما لم يقل ولم يصنع وفرعوا على أصوله ما هو برئ منه، وأسرفوا على الناس حتى لقد كانوا يطوفون بمدائن المسلمين يغيرون بأيديهم ما يحسبونه بدعة، أو منكرا، ويغرضون ما يتخيلونه سنة، وغالوا في هذا حتى نال الناس منهم أذى وعنت، فكرهم الناس ونسبوهم إلى الحماقة وضيق الأفق وسخروا بهم، وأزروا على مذهبهم .. وأصبحت كلمة الحنبلى أو الحنابلة تعني التبلد والتحجر والتعصب المذموم!! ولقد كتب ابن الأثير يصف ما كان يحدث من نفر من اتباع الإمام أحمد سنة 323 من الهجرة: "وفيها عظم أمر الحنابلة، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء. واعترضوا في البيع والشراء. ومشى الرجال مع النساء والصبيان فإذا رأوا ذلك سألوا الرجل عن التي معه من هي فأخبرهم وإلا ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة فأزعجوا بغداد.".
وما كان الإمام أحمد ليزعج أحدا، وما كان فظا ولا غليظ القلب بل كان يجادل بالتي هي احسن وكان يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة إعمالا لكتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام .. وما كان الإمام أحمد متعصبا لرأي ارتآه بل كان يحاور، ويرجع عن رأيه إن تبين له ما هو أصح حتى لقد نهى عن كتابة فقهه لأنه كثير العدول عن آرائه..! وما كان ضيق الأفق، أو جامد الفكر، أو منقبا عن عيوب الناس .. وما كان الإمام أحمد من هذا كله في شيء. فقد كان من أوسع الناس أفقا، ومن أعمق العلماء إدراكا لروح الشريعة، ومن أكثر الفقهاء تحريرا لها من الجمود وتحررا بها في المعاملات.
ولكنه عاش في عصر تغشاه البدع ويسوده الترخص الذي قد يزلزل عمود الدين فكان عليه أن يأخذ الكتاب بقوة..! .. ولقد قال عنه أحد معاصريه: "ما رأيت في عصر أحمد بن حنبل ممن رأيت، اجمع منه ديانة وصيانة وملكا لنفسه، وفقها وأدب نفس، وكرم خلق وثبات قلب وكرم مجالسة وأبعد عن التماوت. ولد أحمد بن حنبل في بغداد عام 164 هـ من أبوين عربيين .. مات أبوه وهو طفل وترك له معاشا ودارا يسكنها هو وأمه وعقارا يغل غلة لهما قليلة..
وكان عمه يعمل في خدمة الخليفة الرشيد، ويجمع أخبار بغداد ويلمسها إلى والي البريد (الأمير المسئول عن البريد) ليوصلها إلى الخليفة إذا كان الخليفة خارج بغداد .. وانقطعت أخبار بغداد عن الخليفة فأرسل إلى الوالي يسأله، فسأل الوالي عم أحمد، وكان أحمد غلاما صغيرا، وكان عمه يرسله بالأخبار إلى الوالي .. فسأله عمه: "ألم أبعث الأخبار إلى الوالي؟ فقال: نعم، فقال عمه: "فلأي شيء لم توصلها؟" قال أحمد: "رميت بها في الماء! .. أأنا أوصل الأخبار؟!".
وحين سمع الوالي بما كان من أمر أحمد والأخبار قال: "إنا لله وإنا إليه راجعون .. هذا غلام يتورع، فكيف نحن؟". على هذا الورع نشأ أحمد بن حنبل، حتى أن نساء الجند الذين سافروا مع الرشيد في الغزو كن لا يجدن فتى غيره يثقن فيه، فيقرأ لهن رسائل الأزواج، ويملينه الردود .. ولكنه كان لا يكتب الكلام الفاحش الذي قد تمليه بعض الزوجات المشوقات إلى الأزواج..!
ولقد أدرك منذ نشأ أن أمه تعاني في سبيل توفير حياة كريمة له، وأنها ترفض الخطاب من أجله، فحرص على أن يعوضها، وبذل كل جهده في الدرس حتى حصل علوما ومعارف كثيرة في سن صغيرة معتمدا على نفسه. قال أحد جيرانه: "أنا أنفق على ولدي وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا، فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم .. انظروا كيف أدبه وعلمه وحسن طريقته!". على أن الفتى شعر أنه أصبح هما ثقيلا على أمه .. وإن كان قد احسن مكافأتها بانقطاعه على الدرس، وذيوع أمره بين الأساتذة والتلاميذ..
وكان أحمد قد رأى أمه تبيع درتين لتعينه على طلب العلم، فألي بينه وبين نفسه ألا يجشمها مالا بعد. وأراد أن يوفر لأمه ما ترك أبوه من غلة العقار الذي مات عنه وهو بناء كبير يحوي عدة حوانيت تغل كلها سبعة عشر درهما في كل شهر..! .. وكان في أحد هذه الحوانيت نساج فتعلم منه وعاونه، فقد حفظ أحمد فيما يحفظ من أحاديث أن أطيب ما يأكله الإنسان هو ما يكسبه من عمله .. وكان أحمد حفيا بالسنة حريصا عليها، من أجل ذلك حرص على ألا يأكل إلا من عمل يده..!
على أن عمل يده لم يكن يكفيه للطعام ولمواجهة أعباء الحياة، منذ صمم على أن ينزل لأمه عن غلة العقار الذي مات عنه أبوه، فلجأ إلى الاقتراض ولقد أدرك بعض دائنيه ضيق حاله فأبى عليه رد الدين قائلا: "ما دفعتها وأنا أنوي أن آخذها منك" فقال له أحمد: "وأنا ما أخذتها إلا وأنا أنوي أن أردها إليك". على أن الحياة كانت تثقل عليه بمطالبها في بعض الأحايين، فلا يجد طعاما .. فيذهب إلى المزارع والبساتين، ليلتقط ما نزل على الأرض خارجها من الثمرات .. وقد هدته تجربته الخاصة إلى أن هذا الزرع يجب أن يباح لمن يحتاج إليه .. وإلى هذا المبدأ انتهى في فقه .. على ألا يدخل ذو الحاجة ملك الغير ليأكل، إلا بإذن المالك ..
ولكم صقلته المعاناة وهدته إلى قواعد في الفقه وإلى أحكام وفتاوى!.. ذلك أنه كابد ضراوة الحاجة، وعرف أحوال الناس، واحتيالهم على الحياة، وذاق من البأساء، وعرف أهوال الأسواق..! وقد أكسبه هذا كله بصرا بالناس وفهما بالناس وفهما للدنيا، وتقدير لمتطلبات الحياة وضرورتها، ونبض كل أولئك فيما احدث من فقه ورأي .. ثم الرحلة في طلب العلم. ولكم لاقى في هذه الرحلات من أهوال!! قام بمعظمها على قدميه إذا لم يكن يجد أجر الدابة .. وعمل في بعضها حمالات ليعول لنفسه .. وعمل في بعضها نساخا، وكان حسن الخط .. وأكسبته كل هذه التجارب خصوبة فكر ..
وهو في كل ما يعرض له يرفض العطاء، ويصمم على ألا يأكل إلا من عمل يده .. كان كثير الرحلة إلى اليمن يطلب الحديث من أحد علمائها، ورأى الشافعي حين كان ببغداد رقة حال أحمد، وعناءه في رحلاته إلى اليمن، وكان المأمون قد طلب من الشافعي أن يختار له قاضيا لليمن فعرض الأمر على تلميذه أحمد، فأبى .. فلما ألح عليه الشافعي قال له أحمد: "إن عدت إلى هذا لا تراني أبدا".
بدأ أحمد في طلب الحديث وهو في مطلع الشباب .. في الخامسة عشرة من عمره .. وظل سبع سنوات يتلقى الحديث على شيوخه في بغداد، ثم سافر في طلبه وهو في مطلع شبابه في الثانية والعشرين .. سافر يلتمس الحديث عن شيوخ البصرة، فأقام عاما، ورجع بعده إلى الحجاز، وهناك سمع للشافعي بالمسجد الحرام، فقال لصحبه الذين قدموا الحجاز معه: "إن فاتنا علم هذا الرجل فلن نعوضه إلى يوم القيامة".
ثم عاد إلى بغداد، وعاد مرة أخرى إلى الحجاز .. وهناك سمع من الإمام مالك والإمام الليث بن سعد المصري وآخرين، ثم سافر إلى اليمن ليلزم شيخه عبد الرازق بن همام، وكان قد التقى به في الحج، ووجد عنده كثيرا من الأحاديث، فآثر أن يلزمه باليمن فيتلقى عنه .. ولقد حاول عبد الرازق أن يصله ببعض الدنانير، ولكن أحمد بن حنبل أبى .. وصمم على أن يكسب عيشه بعمل يده فاشتغل نساخا .. وتوالت رحلاته إلى خراسان وفارس وطرطوس .. وإلى كل مكان يسمع أن فيه راوية حديث..
كان أحمد قد تعلم الحديث أول ما تعلم من أبي يوسف أحد أصحاب أبي حنيفة .. وكان أبو يوسف قاضي قضاة الدولة، وله حلقة درس يعلم فيها الناس .. وقد بهر أحمد بعلم أبي يوسف، وأعجب بجرأته في الحق .. وكان أحمد لا يفتأ يذكر بإكبار ما صنعه أبو يوسف مع وزير الخليفة، إذ رد شهادة الوزير قائلا: "لا نقبل شهادة الوزير لأنه قال للخليفة أنا عبدك!.. فإن كان صادقا فهو عبد ولا تقبل شهادة العبد، وإن كان كاذبا أو منافقا، فلا شهادة لكاذب أو منافق!".
على أن أحمد بن حنبل على الرغم من إكباره لأستاذه أبي يوسف، لم يجد عنده كل ما يريد من حديث .. فقد كان أبو يوسف من أصحاب الرأي .. وأحمد بعد أن حفظ القرآن يريد أن يحفظ كل الآثار التي خلفها الثقات من رواة الأحاديث .. فما ترك أحمد أبا يوسف قاليا له، فقد شارك أبو يوسف في صياغة وجدان أحمد وضميره الديني والاجتماعي، ولكنه ترك بحثا عما عند غيره وهو على مودة معه. ودرس علي عبد الله بن المبارك، وكان فقيها واسع العلم، واسع الغنى في آن واحد .. ولقد حاول ابن المبارك أن يعين أحمد بن حنبل بالمال، ولكنه أبى وقال إنه يلزمه لفقهه وعلمه لا لماله، بل على الرغم من ماله!!
وقد تعود ابن المبارك أن ينفق كل دخله على الصدقات وطلاب العلم. وكان زاهدا .. والزهد عنده التقوى .. يعلم الناس أن العالم الذي يشيع علمه بين الناس افضل ألف مرة من الذي ينقطع للعبادة .. وقد حكى أحد معاصريه أنه رأى بعيرين يحملان دجاجا مشويا لسفرة ابن المبارك، وكان يطعم الناس الفالوذج، ويأكل هو الخبز والزيت، فإذا اشتهى طعاما ما طيبا لم يأكله إلا مع ضيف .. ويقول: "بلغنا أن طعام الضيف لا حساب عليه." .. وقيل له: "قل المال فقلل من صلة الناس" فقال: "إن كان المال قد قل، فإن العمر قد نفد." وكان يقول: "ليس يلزمني من الدنيا إلا قوت يوم فقط" .. من أجل ذلك أحب الناس عبد الله بن المبارك، والتفوا حوله حتى إنه قدم الرقة وبها هارون الرشيد، فاجتمع الناس وتزاحموا احتفالا به حتى "تقطعت النعال وارتفع الغبار"، فأشرفت زبيدة زوج هارون الرشيد من قصرها، فلما رأت زحاما لم تره قط سألت: "ما هذا؟" قالوا "الفقيه العالم عبد الله بن المبارك". فقال: "والله هذا هو الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي يجمع الناس إليه بالسوط والعصا والشرطة والأعوان" ..
وكان أحمد من المعجبين بالعالم عبد الله بن المبارك، كان معجبا بشخصه وبفقه وعلمه وبسيرته بين الناس .. وعبد الله بن المبارك هو أحد الذين أثروا في أحمد بن حنبل وفي تشكيل فكره وسلوكه ومواقفه .. فقد أدرك أحمد في مطلع شبابه مما تعلمه من ابن المبارك أن الدعوة إلى الفقر ليست زهدا، وإنما هي تمكين للأغنياء من المال، ليكون المال دولة بين الأغنياء .. وأن الزهد الحق هو ما سنه الرسول عليه الصلاة والسلام، وتابعه فيه أئمة الصحابة من بعده .. وليس الإعراض عما أحل الله، بل التعفف عن النظر أو التفكير فيما حرمه الله أو اشتهاء ما يكرهه .. الزهد هو التقوى.
تحمل أحمد المشقات، وخاض الغمرات، بحثا عن الأحاديث الصحاح يواجه بها ألوان البدع .. ثم إنه خرج إلى طرطوس مرابطا مستعداً للجهاد، ولبث فترة هناك ثم عاد إلى بغداد، فقد كان يرى الجهاد فريضة على كل قادر: الجهاد بالنفس أو المال أو بهما جميعا. كان العصر زاخر بالعلوم والمعارف، وكان الفقهاء من قبله يعنون بها ويتعلمونها، ولكنه لم يجد منهم أحد يتخصص في علوم الحديث، ويتوفر على الآثار وحدها، فوهب نفسه لإتقان علوم السلف فحسب، لأنه شعر بأن الأمة في حاجة إلى هذا التخصص.
وظل يرحل ماشيا في طلب الحديث إكبارا للغاية التي يسعى إليها أو عجزا عن النفقة، يحمل فوق ظهره متاعه وكتبه، ويؤجر نفسه للعمل إن نفد زاده .. حتى جمع آلاف الأحاديث، وهو ما يفتأ على الرغم من ذلك يجوب الآفات، حتى نحل جسده، فلامه في ذلك أحد أصدقائه قائلا: "مرة إلى الكوفة ومرة إلى البصرة ومرة إلى الحجاز ومرة إلى اليمن؟! .. إلى متى؟!" فقال أحمد: "مع المخبرة إلى المقبرة."
وما كان لينتهي مهما تكن المشقة .. فقد كان يطلب من الحديث علوم الفقه .. كان يطلب فقه الخلفاء الراشدين، وفقه سائر الصحابة، وفقه التابعين وتابعيهم بإحسان .. وقد جلس في رحلاته إلى الحجاز في مواسم الحج إلى كل فقهاء عصره .. في المسجد الحرام، وفي الحرم النبوي .. على أن أحدا لم يجذبه كما جذبه الشافعي!.. واتصلت بينهما المودة منذ لقيه لأول مرة في المسجد الحرام .. وكان أحمد في نحو الثانية والعشرين والإمام الشافعي يكبره بنحو ستة عشر عاما، ومع ذلك فقد أحس بأن الشافعي ليس أستاذا ومعلما فحسب، ولكنه أب أيضا..!
وعلى الرغم من أن أحمد بن حنبل درس في مطلع شبابه علي أبي يوسف وهو من أصحاب الرأي، ثم درس علي الشافعي ولزم فقهه وهو وسط بين أهل الحديث وأهل الرأي، فقد كان أحمد حريصا في حياته على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حرصا جعله يتشبه به في كل أمور الدين والدنيا، فما حفظ حديثا عن الرسول عليه السلام إلا عمل به .. وحتى قرأ أنه عليه الصلاة والسلام تسرى بمارية القبطية، فذهب إلى امرأته، وأعلمها بما علم، واستأذنها أن يتسرى، أسوة بالرسول صلى الله عليه وسلم فأذنت، فاشترت هي له جارية ترضاها..!
وهكذا كان في بره لأمه .. كان بالطبع برا تصنعه الفطرة، ثم اتباعا للسنة، فقد حفظ أحمد أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن أحق الناس بالرعاية فأجاب سائله "أمك" .. وأعاد السائل سؤاله مرتين: فأجابه: "أمك ثم أمك ثم أبوك" .. وفي الحق أن أحمد بن حنبل كان مدينا لأمه بكل شيء .. فقد رفضت أن تدخل عليه زوج أم، على الرغم من جمالها وشبابها وطمع الخطاب فيها .. ثم إنها لقنته منذ صباه كل ما حفظه من سير، وأحاديث، وقصص بطولات .. ورسخت في أعماقه منذ كان طفلا قيم الإسلام الفاضلة ..
فهي كأبيها من بني شيبان، وكانت تحفظ مفاخر قومها، وقصص العرب، ومآثر الرسول والصحابة وتلقنها وحيدها .. وهي التي اختارت له المكتب الذي يتعلم فيه القرآن، ثم الشيوخ الذين يجلس إليهم بعد أن حفظ القرآن، ليطلب عندهم الحديث والفقه. وكانت تخاف عليه وهو صغير برد الفجر إذا خرج إلى الدرس قبل الأذان .. وقد روى أحمد: "كنت ربما أردت البكور في الحديث فتأخذ أمي بثيابي وتقول: "حتى يؤذن المؤذن للفجر أو حتى يصبح الناس"..
حتى إذا كان في الخامسة عشرة، جاء إلى بغداد عالم عظيم، وأقام على الضفة المقابلة لدار أحمد بن حنبل، وفاض نهر دجلة وارتفع الموج حتى ترك الرشيد قصره ونزل بأهله وأمواله وحاشيته إلى سفائن له، ولكن طلاب العلم هرعوا إلى العالم على الضفة الأخرى في الزوارق .. وأبى أحمد حين دعاه زملاؤه إلى العبور قائلا: "أمي لا تدعني اركب الماء في هذا الفيضان" .. وترك العبور في حسرة، وعاد إلى أمه لتطمئن عليه..!
لكم كان برا بوالدته! .. رآها رفضت الزواج لكي تتفرغ للعناية به، فأبى هو الزواج ليفرغ للحدب عليها .. فما تزوج إلا بعد أن ماتت، وكان قد بلغ الثلاثين، لكيلا يدخل على الدار سيدة أخرى تنازع أمه السيادة على الدار!. وهاهو ذا في بغداد شاب جاوز الثلاثين، محفوف الشارب، مرسل اللحية، أسمر الوجه، تلوح في وجهه الأسمر سكينة وطمأنينة، ويشع من عينيه بريق حاد، نحيل الجسد، متوسط الطول، مثقل القلب بما يحدث من حوله .. كثير التأمل في أحوال الناس، مأخوذ بالبحث عن الخلاص، مشدود إلى الحقيقة، وإلى طريق العباد مما هم فيه..
وما أبشع ما هم فيه!
ذلك أنه منذ صباه شهد بغداد تزخر بألوان الثراء الثقافي والمادي وتتصارع فيها المذاهب الفكرية والفقهية والعلمية، وترتفع فيها القصور المحفوفة بالحدائق والزرع وجنات الفاكهة والريحان، وتفيض فيها الأموال والنزوات، وفي بغداد مع ذلك من لا يجد قوت يومه! .. وما بهذا أمر الله ورسوله!. فقد ورث المؤمنون عن الرسول موعظة يتحتم عليها أن يتدبروها: أنه ليس مؤمنا من بات شبعان وجاره جوعان! .. وكم في بغداد من بيت بين الناي والعود والعزف والشراب والطعام والقصف، والجيران جياع..!!
ثم إن بغداد التي مازالت لياليها تضيء بآثار السلف الصالح، وبالتماعات أفكار المجتهدين، بغداد هذه تجللها المعصية والمظالم .. إذ شاع الانحراف، وظهر الغزل بالمذكر!! وقد أحرق أبو بكر الصديق من قبل قوما تعاطوا هذا المنكر في الشام!! ثم إن أموال الدولة تنفق بلا حساب على الندامى والمغنيات وأهل الطرب والمضحكين والمنافقين..!!
وهذه الدولة العظيمة التي تحكم العالم، وتصوغ حضارة لم يعرفها التاريخ من قبل، وتسخر عقول المفكرين والعلماء فيها كل شيء لراحة الإنسان، وتقتحم هذه العقول عوالم الأفلاك في جسارة نادرة لتصبح الطبيعة أمام الإنسان كتابا مفتوحا، طاقاتها ميسرات لفكره .. هذه الدولة التي حملت كل المعارف والكتب التي وجدتها في البلاد المفتوحة، فعربت كل معطيات الحضارة المصرية واليونانية والفارسية والهندية، وأضافت إليها .. هذه الدولة نفسها لا تقيم العدل كما يجب .. وتسمح لنفسها بأن تقتل اكبر شعرائها بشار بن برد، لأنه نقد الخليفة المهدي وقال عنه "خليفة الله بين الزق والعود" .. فتحرق الدولة أشعاره وتفتري عليه ما لم يقله، لتتهمه بالإلحاد والزندقة، وتضربه حتى يموت!!
وهذه الدولة تسمح لامرأة الرشيد بأن تتدخل في القضاء!! .. ذلك أن وكيل امرأة الرشيد اشترى لها جمالا من رجل من خراسان بثلاثين ألف درهم، وكان الخراساني قد ساق الجمال ليبيعها في بغداد. واستلم وكيل امرأة الرشيد الجمال، وماطل في دفع الثمن، وعطل الخراساني عن السفر .. ثم أعطى الخراساني ألفا ولم يدفع الباقي .. فشكاه الخراساني إلى القاضي، فأمر الوكيل بأداء باقي الثمن، ولكنه قال إنه على السيدة أم جعفر امرأة الرشيد، فقال له القاضي:
"يا أحمق! تقر ثم تقول على السيدة؟!" .. وأمر القاضي بحبس الوكيل.
وعلمت امرأة الرشيد فقالت للرشيد: "قاضيك هذا أحمق. حبس وكيلي واستخف به، امنعه من نظر القضية" فأجابها الرشيد، وأطلق سراح وكيلها، ووجه إلى القاضي يمنعه من النظر في الدعوى!! .. ثار القاضي حين علم بإطلاق سراح الوكيل، فلزم بيته، وامتنع عن حضور مجلس القضاء .. ولكنه حين علم أن الرشيد سيمنعه من نظر الدعوى، خرج من داره، وأرسل إلى الخراساني أن يحضر شهودا ويلحق به في مجلس القضاء .. وجلس القاضي ينظر في الدعوى ويسأل الشهود ويستجلي بينات الخراساني .. وحكم للخراساني بالمال كله .. وأخذ يسجل الحكم..
ثم جاء خادم أم جعفر امرأة الرشيد يقول للقاضي: "عندي لك كتاب من أمير المؤمنين" فقال له القاضي: "مكانك نحن في حكم شرعي .. مكانك حتى نفرغ منه". فقال الخادم: "كتاب أمير المؤمنين" فقال القاضي: "اسمع ما يقال لك".
ومضى القاضي يسجل الحكم وأسبابه حتى فرغ، فأخذ كتاب أمير المؤمنين، وكان فيه كما يعلم قبل أمر بتنحيته عن نظر القضية .. فلما قرأ القاضي كتاب الرشيد قال للخادم: "أقرئ أمر المؤمنين السلام، وأخبره أن كتابه ورد وقرأته وقد أنفذت الحكم". فقال الخادم: "قد عرفت والله ما صنعته. أبيت أن تأخذ كتاب أمير المؤمنين حتى تفرغ مما تريد .. والله لأبلغن أمير المؤمنين بما فعلت" قال القاضي: "قل له ما أحببت".
كان أحمد بن حنبل يتأمل في التدخل في القضاء ويتألم!! ترى كم من القضاة يستطيع أن يصنع كما صنع القاضي حفص بن غياث..؟! من الحق أن الرشيد ضحك عندما سمع ما فعله القاضي حفص بن غياث، وأمر له بجائزة قدرها ثلاثون ألف درهم مما جعل القاضي يقول: "الحمد لله كثيرا من قام بحقوق الشريعة ألبسه الله رداء المهابة" .. ولكن الخليفة لم يعاقب وكيل امرأته، لأنه حاول أخذ الجمال من الخراساني دون أن يدفع ثمنها .. ولم يمنع امرأته من التدخل في القضاء! ومن يدري فربما كانت هناك مظالم كثيرة أخرى لم يتقدم بها أصحابها إلى القضاء .. أو لعل من القضاة من لم يغامر كما غامر القاضي حفص!
هكذا كان أحمد بن حنبل يرى صور الفساد ويأسى ويفكر في الخلاص .. فالحكام يسرقون ويقطعون يد السارق .. ومن العلماء من ينهي عن المنكر ويقترفه .. حتى صح فيهم ما قاله ذو النون المصري: "كان الرجل من أهل العلم يزداد بعلمه بغضا للدنيا وتركا لها. واليوم يزداد الرجل بعلمه حبا للدنيا وطلبا لها .. كان الرجل ينفق ماله على علمه واليوم يكتسب الرجل بعلمه مالا. كان يرى على صاحب العلم زيادة في باطنه وظاهره واليوم يرى على كثير من أهل العلم فساد في الباطن والظاهر."
لا إلا باللجوء إلى السنة واتباعها .. وإلا بالتأسي بسيرة السلف الصالح، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون. بما فيهم علي بن أبي طالب. وكان أحمد يعرف أن أشد ما يغيظ حكام بني العباس هو نشر فقه الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .. ذلك أن كثرة الثناء على الإمام علي، يثير بني أمية، ثم على خلفاء بني العباس، وحدثت فيهم من أجل ذلك مقاتل عظيمة .. ومن لم يقتل من بني علي .. عاشوا يرسفون في أغلالهم تحت الأبراج.
وكان فقه الإمام علي بن أبي طالب وأقضيته، في صدور قلائل من العلماء أكثرهم من الشيعة. ثم أذاع آراءه وأفكاره منها بنو العباس أبناء عمومته في محاربة مظالم بني أمية .. ولكن بني العباس خشوا أن يستعملها المعارضون في نقدهم، وخافوا أن يكتسب بها المعارضون حب الناس وتأييدهم .. وهكذا أخفى حكام بني العباس أقضية الإمام علي وفتاواه وفقهه .. واستخفى بها الصالحون!! .. وكان العباسيون كالأمويين لا يطيقون معارضة .. فما ترتفع رأس بالشكوى أو النقد أو الاعتراض، حتى يهوى على عنق صاحبها سيف الجلاد، أو يخرس لسانها في غيابات السجون تحت وطأة عذاب غليظ أليم شديد..!
ولكن أحمد بن حنبل ما كان يستطيع أن يتجاهل سيرة علي بن أبي طالب ولا أفكاره لتكون من بعد سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لمن يريد أن يعتبر بآثار السلف الصالح. بحث الإمام أحمد عن فقه وأقضية الخلفاء الراشدين، فأعجب بما عرفه من فقه الإمام علي كرم الله وجهه، وبدأ ينشره ويستشهد به .. فوجد عليه خلفاء بني العباس وجدا شديدا، وأهمهم أمره!! ولكنهم لم يظهر الغضب عليه، فما كان أحمد يعمل بالسياسة، وما كان رأيه في الخلافة ليزعجهم، بل إن هذا الرأي على النقيض يرضي خلفاء بني العباس. ذلك أن أحمد كان يرى وجوب طاعة الخليفة ولو كان فاجرا .. فطاعة الفاجر عنده خير من الفتنة التي لا تصيب الذين ظلموا خاصة بل تصيب معهم الأبرياء، وتضعف الدولة فيطمع فيها أعداء الإسلام!!
وكان لا يشترط لصحة الخلافة إلا أن يكون الخليفة من قريش وإلا أن يبايعه الناس. والبيعة شرط جوهري لقوله تعـالى: { وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } (الشورى،الآية:38)فإذا تغلب أحد على منصب الخليفة وإن لم تكن الخلافة حقا له، وبايعه الناس بالخلافة، وجبت طاعته أيا ما يكن أمره من العدل أو الظلم والفجور أو التقوى .. ويقول أحمد في ذلك: "السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر، ومن اجتمع عليه الناس ورضوا به ومن غلبهم بالسيف وسمى أمير المؤمنين، والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة البر والفاجر .. ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كان الناس قد اجتمعوا عليه، "وأقروا له بالخلافة بأي وجه من الوجوه كان، بالرضا أو بالغلبة، فقد شق الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم."
وهو مع ذلك لا يقر السكوت عن الخليفة الظالم، ولكنه يرى أن النصح له أولى من الثورة عليه..! .. وهو يرى النصح فرض كفاية على كل أصحاب الرأي والعلم، فإن قام به بعضهم سقط الفرض الشرعي عن الجميع، وإن لم يقر به أحد أثم الجميع .. ومن عجب أن أحمد الذي فرض على الناس طاعة الخليفة وإن كان فاجرا، نأى بنفسه عن الاتصال بالخلفاء، ورفض أموالهم، وأبى أن يتولى منصبا في ظل أحدهم على الرغم من حاجته الملحة إلى المال .. لأنهم ظالمون!!
وقد هاجم بعض المفكرين من معاصري أحمد آراءه في الخلافة .. واتهموه أنه ينسب إلى الرسول والصحابة نقيض آرائهم، فالرسول يأمر أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ويحذر المسلمين أن يسكتوا على الظلم والفجر، لأنهم إذا سكتوا عنه عمهم الله بالعقاب .. والصحابة قوموا أولياء الأمر منهم وردوهم إلى الصواب .. ثم إن هؤلاء المفكرين اتهموا أحمد بالدعوة إلى الإذعان والرضا بالظلم وبالمعصية ..
غير أن أحمد رد عليهم أن خير التابعين عاشوا تحت مظالم الأمويين فلم يدعوا الرعية إلى الخروج عليهم .. وهو إنما يدعو إلى الطاعة مع استمرار النصيحة، لا إلى السكوت عن المظالم .. وإذا كانت طاعة الحاكم الظالم ظلما، فالخروج عليه ظلم أفدح، لأن الخروج مجلبة للفتنة، وفي الفتنة تنتهك الحرمات، وتهدر دماء الأبرياء كما حدث في كل الثورات في العصر الأموي والعباسي..! ومهما يكن من شيء، فما تجرأ أحد من معاصري أحمد على اتهامه بأنه ينافق الخلفاء، ولكنهم عابوا رأيه، واعتبروه خطأ في تقدير ضررين أيهما أقل، وأيهما أكثر فيدفع..
على أن الإمام أحمد بن حنبل لم يكن بدعا في هذا الرأي، بل كان فيه متفقا على نحو ما مع ما أفتى به الأئمة الثلاثة من قبله: أبو حنيفة النعمان، ومالك ابن أنس، والشافعي، فكلهم رأى أن طاعة الحاكم الظالم مع توجيه النصح له، خير من الثورة عليه لما يصاحب الثوارت من عدوان على الأنفس والحريات والأموال .. إلا الإمام أبا حنيفة، فقد أيد ثورة الإمام زيد ابن علي وأوشك أن يخرج معه مجاهدا ضد مظالم الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك ..
وعلى الرغم من أن ابن حنبل كان شديد التأثر بالشافعي، فقد اختلفا في بعض شروط الخلافة، فالشافعي يجعل العدالة شرطا لصحة الخلافة .. وإن لم يؤيد الثورة على الخليفة إن كان ظالما. والجدير بالذكر أن الإمام الليث ما كان يشترط أن يكون الخليفة عربيا .. ولكنه اشترط العدالة والبيعة..!
انصرف أحمد يجمع السنن وآثار الصحابة، ويبحث من خلالها عن أحكام تنقذ الناس من الضلال .. وكان يجمع ما رواه الصحابة من أحاديث، كل على حدة، ويسند إلى الصحابي ما رواه .. فكان لابد أن يجمع ما رواه الإمام علي بن أبي طالب لا يبالي في ذلك أن يتهمه أحد بالتشيع أو بالميل إلى العلويين .. وفي الحق أنه ما كان متشيعا ولا صاحب ميل للعلويين .. ولكنه تعلم من أستاذه الشافعي أن الإمام علي كان أحق بالخلافة من معاوية، وأن معاوية كان باغيا، ودافع أحمد عن رأي أستاذه في مواجهة منتقديه .. وقد روى أحمد عن أستاذه الشافعي: "قال رجل في علي: ما نفر الناس منه إلا أنه كان لا يبالي بأحد. فقال الشافعي كان في علي كرم الله وجهه أربع خصال لا تكون منها خصلة واحدة لإنسان إلا يحق له ألا يبالي بأحد، كان زاهدا، والزاهد لا يبالي بالدنيا وأهلها، وكان عالما، والعالم لا يبالي بأحد، وكان شجاعا والشجاع لا يبالي بأحد، وكان شريفا والشريف لا يبالي بأحد. وكان علي كرم الله وجه قد خصه النبي صلى الله عليه وسلم بعلم القرآن، لأن النبي عليه الصلاة والسلام دعا له وأمره أن يقضي بين الناس. وكانت قضاياه ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيمضيها."
وقد رأى أحمد بن حنبل أن اتباع أحكام الإمام علي سنة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر جميع أحكامه، فكأنه هو الذي حكم .. ثم أنه قد خصه بعلم القرآن .. وعجب علماء الشيعة والمفكرون الذين يؤيدونهم لأمر الإمام أحمد.! لقد حسبوه عدوا لهم، وعدوا للإمام علي منذ أفتى بأن طاعة الحاكم واجبة حتى إن كان ظالما أو فاجرا، والثورة عليه خروج على الإسلام!. وكان الشيعة يرون أنه لا طاعة لحاكم ظالم، ويجب على الرعية أن تثور عليه، فإن سكتوا عنه فليس سكوتهم طاعة له واجبة، بل اتقاء لظلم أفدح، وانتظارا للفرصة المناسبة .. وإذن فرأى أحمد بن حنبل أن طاعة الخليفة الظالم الفاجر واجبة شرعا، وأن الثورة عليه مخالفة للسنة، إنما هو إدانة للشيعة ولإمامهم الحسين بن علي سيد الشهداء رضى الله عنه، وموافقة على مقاتل الطالبيين، وشرها تلك المذبحة الوحشية الفاجرة في كربلاء..!!
ما بال أحمد يسند بفتواه قتلة الإمام الحسين، وقتلة الإمام زيد، وغيرهم من أئمة الشيعة، ثم هاهو ذا يمدح الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ويعتمد على فقهه؟!! كان اللجاج شديد في ذلك العصر بين دعاة الحرية السياسية والاجتماعية من حماة العدل وبين غيرهم من الفقهاء .. ومن أجل ذلك اشتدوا على أحمد ابن حنبل، لأنه كان يرى الطاعة للحاكم الظالم الفاجر، ويرى الخروج عليه مخالفة للسنة .. فهو إذن يؤيد الظالم الفاجر يزيد بن معاوية، ويرى أن خروج الحسين كان مخالفة للسنة!!.. وهذا رأي فاسد!..
وفي الحق أن أحمد ما رأى ذلك وما أفتى به .. فقد كان يرى معاوية باغيا على الإمام علي كرم الله وجهه خرج عن طاعته وثار عليه، فهو مخالف للسنة .. أما عن خلافة يزيد بن معاوية، فإن أحمد بن حنبل يرى أن معاوية أكره الناس على هذه البيعة .. ولا إكراه في البيعة، وليس على مستكره يمين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وما كان أحمد بن حنبل من الذين يخوضون غمرات الصراع السياسي المتأجج، ولكنه كان يقول ما يؤمن به اتباعا للسنة مهما يكابد في سبيل رأيه، فهو أحرص الناس على التأسي برسول الله، وكان يقول "صاحب الحديث من يعمل به." .. وما كان يجيز طعن الصحابة من الخلفاء الراشدين، كما يفعل بعض غلاة الشيعة، وكان هذا سببا آخر لخلاف هؤلاء معه .. وقد تحدث أمامه جماعة من الناس فذكروا خلافة علي بن أبي طالب وتناولوا أمير المؤمنين بالتجريح، فتغير وجه أحمد وقال لهم: "من طعن في علي كرم الله وجهه فهو مخالف للسنة، وليس للسلطان أن يعفو عنه" .. ثم رفع رأسه وقال: "إن الخلافة لن تزين عليا بل علي زينها".
ولقد سئل أحمد عن حق علي في الخلافة فقال: "لم يكن أحد أحق بها في زمن علي من علي! ورحم الله معاوية!". وسئل عن تأييد أم عائشة لطلحة والزبير ضد علي فقال: "أكان طلحة والزبير يريدان أعدل من علي رضوان الله عليهم أجمعين؟". وسمع أحد غلاة الشيعة بهذا فقال: "هذه الكلمات أخرجت نصف ما كان في قلبي على أحمد بن حنبل من البغض". وقد بنى أحمد آراءه في قتال أهل البغي على سيرة الإمام علي كرم الله وجهه، متبعا في ذلك رأى الإمام الشافعي، فلما عاتبه أحد أصحابه قال: "ويحك" .. يا عجبا لك! فما عسى أن يقال في هذا إلا هذا؟! وهل ابتلى أحد بقتال أهل البغي قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؟"
وفي الحق أن الشافعي أثر في أحمد كما لم يؤثر أستاذ في تلميذه. حتى لقد قال أحمد بعد أن أصبح إماما كبيرا: "إذا سئلت عن مسألة لا اعرف فيها خبرا (أي حديثا أو أثرا عن الصحابة) أخذت فيها برأي الشافعي."
وقد بلغ تقديره للشافعي أنه أنكر على شيوخه أن يكتبوا فقههم في كتب .. إلا الشافعي .. أنكر على مالك كتابة الموطأ وقال عنه: "ابتدع ما لم تفعله الصحابة رضى الله عنهم" وقرأ كتب شيخه أبي يوسف، وكتب محمد ابن الحسن، وأنكر عليهما أنهما كتبا فقههما .. وأبى على أصحابه أن يكتبوا آراءه أو فقهه هو نفسه .. ولكنه عندما وصله كتاب الرسالة الجديدة الذي وضعه الشافعي في مصر، وبهر بالرسالة، وقرأها على أصحابه .. وحضهم على تعلمها، واحتفظ بها في خزانة كتبه كما يصون كنزا .. وهكذا صنع مع كل كتب الشافعي التي وضعها في مصر، وهي كتب تأثر فيها الشافعي إلى مدى بعيد بفقه الليث بن سعد إمام أهل مصر. ولقد حمل أحمد عن الشافعي تقدير كبير للإمام الليث، فكان لا يذكره إلا بالتقدير.
وقد كان أصحاب أحمد يعرفون ميله للشافعي وإكباره إياه .. وكان هو يوصيهم بقراءة كتب الشافعي قائلا إنه "ما من أحد وضع الكتب منذ ظهرت اتبع للسنة من الشافعي". وكان الشافعي يبادله هذا التقدير، وقد عده الشافعي من العجائب: "ثلاثة من العلماء من عجائب الزمان: أعرابي لا يعرف كلمة وهو أبو ثور (وكان كثير اللحن)، وأعجمي لا يخطئ في كلمة وهو الحسن الزعفراني، وصغير كلما قال شيئا صدقه الكبار وهو أحمد ابن حنبل".
كما قال عنه الشافعي: "رأيت في بغداد شابا إذا قال!! قال الناس كلهم صدقت." قيل من هو قال: "أحمد بن حنبل" .. وقال عنه: "خرجت من بغداد، وما خلفت فيها رجلا افضل، ولا أعلم، ولا أفقه، ولا أتقى، من أحمد بن حنبل". وكان أحمد يضع شيخه في أعلى مكان، ويقول إن الله يبعث على رأس كل مائة عام إماما صالحا من عباده، يحيى به السنن ويرفع شأن الأمة، وقد كان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى، وعسى أن يكون الشافعي على رأس المائة الثانية". على أن أحمد بن حنبل، منذ وقف يتدبر أحوال المسلمين، ويتلمس طريق الخلاص، ووسيلة لتحقيق مقاصد الشريعة، التمس طريقا يستنبط به الأحكام، فلم يجد افضل من أصول فقه الشافعي.
اجتمعت لأحمد خلال رحلاته عشرات الأحاديث النبوية، فأخذ يرويها للناس ويعمل بها .. وتأدب بأدب الرسول .. روى الحديث: "كل معروف صدقة ومن المعروف أن تلقي أخاك بوجه طلق" .. فكان لا يلقي الناس إلا مبتسما، ويقدمهم عليه إذا مشوا في طريق، أو دخلوا مكانا أو اصطفوا لصلاة الجماعة .. ويروي أحد أصحاب أحمد أنه دخل معه مكانا، فإذا بامرأة معها طنبور (آلة للعزف)، فكسر صاحب أحمد الطنبور، وسئل أحمد عن ذلك فيما بعد فقال: "ما علمت بهذا، وما علمت أن أحداً كسر طنبورا بحضرتي إلى الساعة". ذلك أن أحمد ترك المكان مستنكرا الأمرين جمعيا: عزف المرأة على الطنبور، وعدوان صاحبه عليها! .. فهو يكره لأصحابه أن يغلظوا، ويطالبهم حين يأمرون بالمعروف، أو ينهون عن المنكر أن يتبعوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما علمه الله تعالى:
{ ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } (النحل،الآية:125) .
وكان أحمد يكره الشطرنج ويراه لهوا يصرف الناس عن جد الأمور فسمع أن صاحبا له دخل على جماعة، حول رجلين يلعبان الشطرنج فطوح به ونهر الجماعة، فغضب الإمام أحمد لما صنعه صاحبه بأصحاب الشطرنج..! كانت سماحته تسع الذين يسيئون إليه مهما تكن الإساءة فادحة! .. وشى به رجل إلى الخليفة، وزعم أن ثائرا علويا يختفي في داره .. ولو صحت الوشاية لقتل الإمام أحمد بإخفاء الثائر العلوي. فلما تبين للخليفة كذب الوشاية أرسل الواشي مصفدا إلى أحمد، ليفتي برأيه في عقابه فقال أحمد: "لعله يكون صاحب أولاد يحزنهم قتله!".
وهكذا أخذ أحمد نفسه بالتأدب بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم .. وكان يقول: "إذ أردت أن يدوم لك الله كما تحب، فكن كما يحب". إن أبرز ما يميزه لهو التواضع .. قال له أحد الناس "جزى الله الإسلام عنك خيرا فغشاه الحياء .. جزى الله الإسلام عني خيرا؟ ومن أنا؟! ومن أنا؟!". عرف شيوخه منه هذا التواضع منذ كان يطلب عليهم العلم، فأشادوا به.
ذات يوم ضاق أحد شيوخه بالطلاب في الحلقة، وغاظه عجزهم عن فهم الدرس، فصاح الشيخ: "ألا تفقهون؟" فقال الطلاب: "كيف لا نفقه وفينا أحمد بن حنبل". فقال الشيخ "أين هو؟" ودخل أحمد فقالوا: "هاهو ذا" وجلس أحمد حيث انتهى به المجلس كما تعود، وكما عاش يفعل إلى آخر العمر، فقال الشيخ لأحمد: "تقدم يا أحمد" فقال أحمد: "لا أخطو على الرقاب". فصفق الشيخ فرحا: "الله اكبر .. هذا أول الفقه".
على أن تواضع أحمد وحياءه لم يمنعاه من الجهر بالحق .. بل كان على النقيض شديد على الباطل، لا يبالي في ذلك لومة لائم .. لاحظ أن بعض الفقهاء يفضلون العباس على الإمام علي بن أبي طالب، نفاقا للخلفاء والأمراء من بني العباس .. وسمع أحمد بن حنبل، هذا الفقيه يذكر الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجه بما لا ينبغي، ويشكك في حقه في الخلافة، فأنبري أحمد يقول للفقيه على مشهد من الناس: "من لم يثبت الإمامة لعلي فهو أضل من حمار..! سبحان الله! .. أكان علي كرم الله وجهه يقيم الحدود ويأخذ الصدقة ويقسمها بلا حق وجب له!؟ .. أعوذ بالله من هذه المقالة .. بل هو خليفة رضيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلوا خلفه، وغزوا معه، وجاهدوا، وحجوا، وكانوا يسمونه أمير المؤمنين راضين بذلك غير منكرين، فنحن له تبع" .. ثم قال: "ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه".
وعلى الرغم من أن أحمد بن حنبل كان يرى أول الأمر أن طاعة الخليفة واجبة وإن كان ظالما أو فاجرا، ألا أنه عدل عن رأيه عندما ما أنضجته التجربة فيما بعد .. فعاد واعتبر طاعة الخليفة الظالم لونا من النفاق يجب أن يبرأ منه المؤمن!
ذلك أنه سمع قصة عن شيخه عبد الله بن المبارك ظلت تضنيه إلى آخر العمر .. فكانت دموعه تفيض من الندم ومن الرحمة والإشفاق، كلما تذكر ما حدث لأستاذه عبد الله بن المبارك .. وهو الأستاذ الذي لزمه أحمد وإن لم يره قط .. فقد كان كلما لحق به في مكان ليسمع منه، وجده قد رحل عنه، حتى مات الشيخ، فلزم أحمد آثاره وفقهه وتتبع سيرته واهتدى بها، وسمع أحمد فيما سمع أن شيخه ابن المبارك مر وهو في طريقه إلى الحج بمزبلة قوم، فرأى فتاة تأخذ طائرا ميتا وتلفه، فسألها عن أمرها فقالت: أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار وليس لنا قوت إلا ما يلقي على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ ثلاثة أيام (أي أن الجوع اضطرهما إلى أكل الميتة)، وقد كان أبونا له مال، فظلم وأخذ ماله وقتل .. فقال ابن المبارك لوكيله: "كم معك من النفقة؟". قال: "ألف دينار" فقال: "عد منها عشرين دينار تكفينا إلى مرو، وأعطها الباقي. فهذا افضل من حجتنا هذا العام"، ورجع..
ما ذكر أحمد هذه القصة إلا بكى .. فما فتواه إذن بوجوب طاعة خليفة ظالم؟! أيطاع خليفة يظلم رجلا فيقتله ويستولي على ماله ويترك أبناءه جياعا ينقبون في المزابل عن الطعام، فلا يجدون إلا الميتة؟!! .. يا حسرتا على العباد!!.. وإذن ما جدوى العلم والفقه وما جدوى كل شيء؟!
وما الإسلام إن كان على وجه الأرض من يلتمس القوت في المزابل، وفي الأمة مع ذلك مسلمون يملكون آلاف الآلاف؟! .. وفيها فوق ذلك علماء يمجدون الفقر ويدعون إليه باسم الزهد؟! .. أي زهد هذا!؟ بل إنه لإعانة للظالم على ظلمه..!. ثم ما الانشغال الكامل بالمجردات، والقضاء، والقدر، وخلق القرآن، والجبر، والاختيار؟! ما الاهتمام بهذه الأمور والحوار المصطخب حولها، والعدل معطل!!؟. إن المفكرين ليخبطون في العشوات، ويتركون الحكام يقتلون المظلومين ويصادرون أموالهم!. كم في الأمة من رجال ونساء يسقطون في الأوحال بدلا من أكل الميتة أو البحث عن القوت وسط المزابل؟!!. وكم من العلماء فكر في هؤلاء الجياع والمظلومين!! .. أعلماء وفقهاء هم، أم هم أوتاد وخشب مسندة يرتكن إليها الباغون!!
إن كل ما في أيدي الخلفاء والأمراء والأغنياء حرام عليهم، مادام في الأمة جياع! وستكوى ظهورهم وجنوبهم في نار جهنم بما يكنزون من ذهب وفضة، كما أنذرهم الله تعالى في كتابه الكريم!! .. والعلماء والفقهاء الذين يزينون لهم سيرتهم على أي نحو من الأنحاء، وحتى الذين يسكتون على هذا المنكر، إنما هم جميعا شياطين خرس، سيعاقبهم الله تعالى عقاب الشياطين يوم يقول الحساب!!
إن من هؤلاء الفقهاء والعلماء من يضلل الناس عن الحقيقة جهلا منه أو غفلة أو رياء للحكام. إنهم ليحببون الفقر لعامة المسلمين، وإنهم ليعظون عامة المسلمين ألا يفكروا في غير ذكر الله، عسى أن تطمئن قلوبهم .. ولكن ما جدوى ذكر الله إذا لم يعمل بهذا الذكر، إذا كنت تأكل الحرام؟! .. إن من أكلي الحرام من يستطيع أن يذكر الله أضعاف أضعاف غيره من المشغولين بالسعي في طلب الرزق!! .. ولكن ذكر الله ليس ما يتحرك به لسانك، وإنما هو عمل الصالحات! ..
ولقد طاف رجل على فقهاء بغداد يسألهم واحدا بعد الآخر: "بم تلين القلوب؟" قالوا: {أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ} (الرعد،الآية:28).. ثم لقي أحمد بن حنبل فسأله فقال أحمد: "بأكل الحلال". فعاد الرجل يطوف بهم جميعا ويذكر لهم جواب أحمد .. وكأنه نبههم من غفلة، وفتح عيونهم على الحقيقة فقالوا: "جاءك بالجوهر. الأصل كما قال". ألف الناس أن يسألوا أحمد بن حنبل كلما لقوه، فيجيبهم بعد التروي، وكثيرا ما كان يقول: "لا أدري" ..
وأغراه بعض المعجبين به أن يتخذ له حلقة في الجامع، ويجلس ليعلم الناس ويفتيهم، فيصير إماما .. ولكنه تحرج .. فقد كان يرى أنه يجب ألا يجلس للفتوى والتدريس حتى يبلغ الأربعين .. أي في سن النبوة! .. ثم إنه لا يستطيع أن يفتي وبعض أشياخه حي، فالشافعي أستاذه ما يزال حيا بمصر! .. وأمر آخر: إنه يريد قبل أن يجلس للفتوى والتدريس، أن يفرغ من تنسيق الأحاديث إلى جمعها في رحلاته العديدة المضنية، يريد أن يسند الأحاديث إلى رواتها من الصحابة ويخص لكل واحد منهم مسندا .. وعمل كبير كهذا يقتضيه الاعتزال في بيته..
وبدأ يعتكف ليجمع مسنده، ويمحص ما فيه من الأحاديث، وعاتبه بعض الذين ألفوا لقاءه، فطلب منهم أن يتركوه ليعمل ما هو أجدى من غشيان مجالس ليس فيها غير أحاديث يثرثر بها قوم ألفوا السكوت على الباطل وظلم العباد .. كان قد بدأ يدون (المسند) منذ بدء عنايته بالحديث، وقد تعين عليه الآن أن يجمع شتات ما كتب، وأن يسطر على الورق كل ما حفظ، وأن ينظر في هذه الأحاديث مع إمعان النظر في نصوص القرآن، ليحسن استنباط الأحكام. وجمع (المسند) في كتب متفرقة، وظل يعمل فيه إلى آخر أيام حياته، لينسقه ابنه ويصنفه من بعده.
وكان أحمد يكتب في مسنده كل ما يحفظه من أحاديث .. وقد قال هو فيما بعد لابنه عبد الله الذي روى فقهه وبوب مسنده، بعد أن سأله عبد الله عن حديث جاء في المسند، رويت بخلافه أحاديث أخرى قال أحمد لابنه: قصدت في المسند المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي، لم أرو من هذا المسند إلا الشيء اليسير، ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث.
لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه. وقد لاحظ ابن الجوزي أن بعض فقهاء الحنابلة فيما بعد قد اعتبروا كل ما جاء في المسند من أحاديث صحاحا على الرغم من تنبيه أحمد بن حنبل نفسه. حزن ابن الجوزي لهذا، وكتب: "قد غمني في هذا الزمان أن العلماء لتقصيرهم صاروا كالعامة، وإذا مر بهم حديث موضوع قالوا: قد روى. والبكاء يجب أن يكون على خساسة الهمم ولا حول ولا قوة إلا بالله".
أصبح أحمد بن حنبل وما في بغداد أحفظ منه للحديث، ولا أعمق منه بصرا بآثار الصحابة وفتاواهم، فضلا عن فقهه بعلوم القرآن. وشهد شيوخ بغداد بفضله وعلمه وتقواه، وجدارته بالتدريس والإفتاء. وهاهو ذا يبلغ الأربعين، وقد مات الإمام الشافعي، ووجب على أحمد أن يتخذ له حلقة للتدريس والإفتاء بالمسجد الجامع ببغداد. وحدد موعدا لحلقته بعد صلاة العصر كما فعل الإمام أبو حنيفة منذ أكثر من خمسين عاما .. استقر لأحمد بن حنبل الآن منهج في استنباط الأحكام، خالف فيه أبا حنيفة ومالك بن أنس. وتابع فيه أستاذه الشافعي. وإذن فقد أصبح أحمد بن حنبل إماما ..
وشرع الإمام أحمد يفسر القرآن، ويروي الأحاديث ويفسرها، ويشرح للناس مذهبه في استنباط الأحكام، ويفتي فيما يطرح عليه من مسائل. وفي هذه الحلقات علم الناس أن من روى حديثا صحيحا ولم يعمل به .. فقد نافق! وفي هذه الحلقات تفجر فقهه أصولا وفروعا .. وأجاب على آلاف المسائل .. وازداد شهرة، وتزاحم الناس على حلقاته، وتركوا حلقات الفقهاء الآخرين، حيث وجده الناس غزير العلم، حسن الرأي، حلو الحديث، رفيع الذوق، كثير الحلم، جميل المعشر .. ووجدوه حفيا بالفقراء من طلاب العلم، بسواد الناس يقربهم ويهش لهم .. وقد جر عليه هذا كثيرا من العناء! فقد نفس عليه بعض فقهاء بغداد، وتبدل في قلوبهم إعجابهم به، ورضاهم عنه، لتشتعل الغيرة منه.
ثم إن طلاب العلم تابعوه إلى بيته، ولم يتركوا له وقتا للراحة أو العمل .. وعاتبه أحد أصدقائه لأنه لم يعد يلقاه كما ألف من قبل فقال له: "إن لي أحباء هم أقرب إلى ممن ألقاهم في كل يوم، لا ألقاهم مرة في العام.
أسرف عليه طلاب العلم ومحبوه، فأزعجوه، وما كان له حجاب ينظمون مواعيد الناس، كما كان للإمام مالك والإمام الليث من قبل، وما كان يستطيع أن يمتنع عن لقاء زواره إذا كان يعمل أو يستريح في بيته كما تعود مالك والشافعي .. وأثقل عليه أصحاب المسائل، وطلاب مودته، فخشي أن يفتن نفسه، أو يدهمه الغرور والكبر والزهو أو المراءاة وشكا همه إلى الله تعالى، وتمنى عليه لو أهمل ذكره، أو ألقى به في شعب من شعاب مكة حيث لا يعرفه أحد..!
ما كان الناس يتركونه ليستريح، والحياء بعد يمنعه من صدهم. ولاحظ أن في حلقاته من يكتب إجاباته وفقهه، فنهاه فما كان يحب كتابة الفقه .. وسأله سائل: "لم تنهي عن كتابة الفقه وابن المبارك الذي نعرف موقعه منك كتب فقه أهل الرأي في العراق؟" فأجاب: "ابن المبارك لم ينزل من السماء. وقد أمرنا أن نأخذ العلم من فوق." "أي من القرآن والسنة."
ذلك أن الإمام أحمد كان يخشى إذا دون الفقه أن تتجمد الأحكام، ويشيع التقليد فيما يأتي من العصور، والفقه ينبغي أن يتجدد بالضرورة وفق مقتضيات الزمان، يضبط هذا كله ما جاءت به نصوص القرآن والسنة وآثار الصحابة، فهي وحدها الجديرة بالتدوين، بوصفها المعيار الموضوعي الثابت، ووعاء الأحكام الشرعية جميعا، إما بظاهر نصوصها، أو بدلالاتها الواضحة أو الخفية، وإما بالقياس على ما في النصوص من أحكام إذا تشابهت العلل والحكم. وتعود الإمام أحمد في حلقة درسه بعد كل صلاة عصر، أن يفتي الناس وطلاب العلم عما يسألون، وأن يشغل نفسه وأهل الحلقة بما اشتغل به السلف: القرآن وتفسيره.
وكان يعلمهم أن آيات القرآن يفسر بعضها بعضا، أو تفسيرها الأحاديث الشريفة، وآثار الصحابة الذين تلقوا علمهم من الرسول صلى الله عليه وسلم .. فموضوع الدرس إذن هو القرآن والسنة وآثار الصحابة. ثم إنه ليأخذ أهل الحلقة بإتقان اللغة العربية وآدابها وعلومها، ليسهل عليهم فهم القرآن والأحاديث ..
أما سائر المعارف التي انتشرت في عصر الإمام أحمد، فما كان ليسمح بطرحها في الحلقة .. وبصفة خاصة الكلام في العقيدة .. وكان المعتزلة قد أحدثوا حركة فكرية عنيفة، وتصدوا للرد على الزنادقة والملحدين بما عرفوا من علوم المنطق والفلسفة، ثم أخذوا منذ حين يطرحون هم وغيرهم من صفاته، ووضع القرآن: أمخلوق هو أم قديم". ولقد تصاول المفكرون والفقهاء من قبل حول عدد من هذه القضايا مثل الجبر والاختيار، فمنهم من ذهب إلى أن الإنسان حر في حدود علم الله وتقديره.
ومنهم من قال بالجبر، فالإنسان في كل أفعاله مجبر فهو مسير لا اختيار له. ومنهم من أنكر هذا كله، وقال بأن الإنسان حر الاختيار، وأن حريته هي مناط التكليف وأساس الحساب، فإذا لم يكن الإنسان حرا فعلام يحاسب، وفيما الثواب والعقاب؟! .. إنه لعبث إذن وهو ما يتنزه الله تعالى عنه .. ومنهم من قال إن صفات الله جزء من ذاته العلية. ومنهم من قال أن ما هو حسي من هذه الأوصاف والصفات يجب أن يؤول عن ظاهرة معناه وأطالوا الحوار في أسماء الله تعالى أهي الذات أم صفات غير الذات العلية، وفي كيفية رؤيته يوم القيامة. والعلم الذي يتناول هذه الأمور جميعا يسمى بعلم الكلام .. وكان علماؤه أشداء في الجدال، متمرسين بأساليب الحوار ..
إلا أن الإمام أحمد بن حنبل رفض الحوار، أو التفكير في علم الكلام كله، وحث الناس على ألا يتناولوا من أمور الدين إلا ما جرت عليه السنة وأثار الصحابة .. قال: "لا أرى الكلام إلا ما كان في كتاب أو سنة أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه أما غير هذا فإن الكلام فيه غير محمود". رفض أن يطرح في حلقته أمر من العقائد، على الرغم من أن الحياة الفكرية خارج حلقته كانت تضطرب بهذه الأفكار التي تصطرع حولهما عقول المفكرين والعلماء والفقهاء. وهو صراع طرح نفسه على مجالس الخلفاء، فشجعوه وأقاموا له ندوات الحوار ..
ولقد تلقى الإمام أحمد كتابا من أحد أصحابه يسأله عن مناظرة علماء الكلام، فرد عليه الإمام أحمد: "الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ". والحق أن الإمام أحمد بن حنبل كان شديد التمسك بسيرة السلف وآثار الصحابة فيما يمس العبادات والعقائد.
أما أحكام المعاملات فقد تطور بها، وتوسع فيها، ووضع لها من القواعد ما يفتح أبواب الاجتهاد للفقهاء في كل عصر كلما دعت الحاجة. فالرجوع إلى الحق فضيلة وهو خير من التمادي في الباطل. من ذلك أنه أباح كتابة بعض فقهه لمصلحة رآها. وكان يغير آراءه ومواقفه، كلما تبين له وجه أصوب في الأمر..
ومن ذلك أنه غير موقفه من علم الكلام .. إذ تبين له أن لا مصلحة في السكوت عن علم الكلام .. وما كان العصر ليترك مثل الإمام أحمد في صمته عما يثيره المتكلمون، فوجد أن مصلحة الشريعة تقتضيه أن يقول آراءه فيما يشغل الحياة الفكرية والفقهية من حوله، فهذا أجدى على الدين من الصمت، والنهي عن الحوار أو التفكير!.
فأعلن آراءه في قضايا الإيمان، والقدر، وأفعال الإنسان، وصفات الله .. ولكنه دعا عددا قليلا من خاصة العلماء والفقهاء وصفوة الصحاب ليذيع فيهم هذه الآراء .. ذلك أن حلقته في الجامع كانت قد أصبحت تضم آلافا من طلاب العلم ومحبي آرائه .. وإنه ليخشى أن يتسع الحوار حول العقائد بين هذه الأعداد العديدة من الناس، فيزيغ بصر، أو يضل عقل، أو تزل قدم بعد ثبوتها، أو يستقر خطأ ما في قلب من لم يؤهله علمه بعد لبحث أمور العقائد!
قال الإمام أحمد في الحلقة التي يعقدها في داره "إن الإيمان قول وعمل، وهو يزيد وينقص، زيادته إذا أحسنت ونقصانه إذا أسأت. ويخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام، فإن تاب رجع إلى الإيمان. ولا يخرجه من الإسلام إلا الشرك بالله العظيم، أو برد فريضة من الفرائض جاحدا لها. فإن تركها تهاونا بها وكسلا كان في مشيئة الله. إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه". أما رأي الإمام أحمد في مرتكب الكبيرة فهو ليس كافرا، ولا هو في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان، وليس معفوا عنه، وإنما عليه أن يتوب، وأمره إلى الله .. فمن زعم أنه كافر "فقد زعم أن آدم كافر، وأن أخوة يوسف حين كذبو أباهم كفار." .. وقال: لا يكفر أحد من أهل التوحيد وإن عمل بالكبائر.
وما كان للإمام أحمد ليجهر بهذه الآراء في حلقته العامة، فيسيء فهمها أحد ويجسر الناس على اقتراف الكبائر .. بل خص بآرائه أهل العلم في حلقته الخاصة في داره، حيث الجو الصالح للتفكير والحوار في أمور حرجة كتلك .. وأما عن القضاء والقدر فقد قال: "أجمع سبعون رجلا من التابعين وأئمة المسلمين وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الرضاء بقضاء الله، والتسليم لأمره، والصبر تحت حكمه، والأخذ بما أمر الله به، والبعد عما نهى عنه، والإيمان بالقدر خيره وشره، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين". وقال: "الناظر في القدر كالناظر في شعاع الشمس كلما ازداد نظرا ازداد حيرة".
أما عن صفات الله وأسمائه مما جاء في القرآن أو السنة، فيرى الإمام أحمد روايتها واتباعها كما جاءت، فلا نقحم عليها ما لا يصلح لضبطها وهو العقل .. فهي أمور اعتقادية ينبغي على المؤمن أن يسلم بها كما هي .. وكذلك رؤية الله تعالى يوم القيامة، يجب فيها أن نؤمن بما جاء في الأحاديث الشريفة، وقد رأى الرسول ربه، ويجب أن نفهم الأحاديث بظاهرها. على أن أحمد يرى في انشغال الفكر بهذه الأمور ترفا يصلح أن يتلهى به الخلفاء والأغنياء في قصورهم!. هو ترف يصلح للذين لا يعنيهم العدل، وقد تؤذيهم إقامته. والانشغال بهذا الجدل هو بعد إقصاء للفكر عن شئون الحياة ومجافاة لمقاصد الشريعة التي تتوخى مصالح العباد .. فالفقيه الحق الفاضل يجب أن يشغل من أمور الدين بما يقيم المجتمع الفاضل الذي أراده الشارع الحكيم أي بما يحقق مصالح الناس.
وإذن فينبغي ألا يشغل الفقيه التقي إلا بما يفيد الناس في حياة كل يوم .. إلا بما تحته نفع كما قال الإمام مالك بن أنس من قبل، وكما صنع الأئمة العظام أبو حنيفة والليث بن سعد وابن المبارك والشافعي. أما ما يعنيه الخلفاء والأمراء والأغنياء من شغل العلماء والفقهاء والمفكرين بغير واقع حياة الناس وصرفهم إلى التصارع العقلي في المتاهات فهذا كله لا جدوى منه، وهو استدراج لهم لينشغلوا عن مصالح الأمة، وعن استنباط الأحكام والضوابط التي تكفل هذه المصالح، ليخلص للخلفاء والأمراء إلى ما هم فيه من ترف وظلم واستبداد؟! وليظل في الرعية من يبحث عن الطعام وسط المزابل، والرعاة متخمنون!!
هكذا كان الإمام أحمد ينظر إلى اشتجار الخلاف من حوله في أمور العقائد، وإلى انشغال الفكر بها، وحرص الخلفاء والأمراء على تشجيع الانصراف إليها .. لكأن ولاة الأمور لا يريدون للفقه أن يعني بأحوال الرعية، وأن يقيم العدل، وأن يضع الميزان .. إن هؤلاء الحاكمين ليشجعون الزهاد على تمجيد الفقر، والانصراف عن هموم الحياة، وكأن الإسلام دعوة إلى الفقر! .. ثم إنهم في الوقت نفسه يحضون أهل الفقه والعلم والفكر على الانصراف عن الواقع إلى ما وراء الواقع .. عن الحياة إلى ما قبل الحياة وما بعد الحياة .. فمن بعد ذلك يحاسب الحكام على ما لم يفعلوه للرعية، وعلى ما يقترفون!!؟ ومن ذا الذي يدافع عن المعدل والحق ومصالح الناس؟!!
ما كان للفقهاء الأبرار الذين وقفوا جهودهم على خدمة الشريعة أن يقعوا في الفخاخ!! وهكذا جعل الإمام أحمد كل همه إلى ما يفيد الناس. وفي الحق أن الإمام أحمد بن حنبل لم يهاجم ظلم الحاكم علنا، كما فعل من قبله أبو حنيفة الذي حرض صراحة على الثورة، ولكن آراء الإمام أحمد عن العدل وعن الأسوة الحسنة، وعن حقوق ذوي الحاجة، ثم فتاواه .. كل أولئك قد أوغر ضده الصدور.
وكان استنباطه للأحكام والفتاوى يعتمد على نصوص القرآن والسنة وأقوال الصحابة وآثارهم، ثم القياس. قال أحمد عن القياس: "سألت الشافعي عن القياس فقال يصار إليه عند الضرورة". وهذا هو ما فعله أحمد، فهو لا يلجأ إلى القياس إلا إذا لم يجد حكما في نص القرآن أو السنة أو أقوال السلف، والسلف عنده هم الصحابة والتابعون. فإذا اختلفت أقوال الصحابة اختار أقربها إلى نصوص القرآن والسنة. وإذا اختلفت أقوال التابعين اختار منها ما هو أقرب إلى القرآن والسنة أو ما وافق الصحابة مجتمعين أو أقرب أقوالهم إلى النصوص.
وهو على خلاف من سبقوه، يقدم الحديث الضعيف على القياس .. مادام الحديث قد صح عنده وتأكد أنه غير موضوع .. أما الإجماع فهو يرى أنه لم ينعقد بعد الصحابة .. وقال في ذلك: "ما يدعي الرجل فيه الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا .. ما يدريه؟ فليقل لا نعلم مخالفا". وقال: "قد كذب من أدعى الإجماع". أما الصحابة فهم معروفون بأسمائهم، والعلم بإجماعهم وخلافهم ميسور. والإمام أحمد يلحق إجماع الصحابة بالسنة، لأنهم لا يجمعون إلا على ما علموه علم اليقين عن الرسول صلى الله عليه وسلم إما رواية عنه أو اجتهادا منهم أقرهم عليه..
فالإمام أحمد لا ينكر الإجماع بعد الصحابة ولكنه لا يتصور حدوثه .. ولهذا اعتمد على القياس بعد النصوص وآثار الصحابة .. على أنه إذ يعتمد القياس أصلا من أصول فقهه، إنما يفعل ذلك اتباعا للسنة والسلف الصالح .. ويقول: "القياس لا يستغني عنه والرسول صلى الله عليه وسلم أخذ به، وأخذ به الصحابة من بعده".
ويتسع القياس عند الإمام أحمد أكثر مما يتسع عند غيره من الأئمة، فالقياس عند الإمام أبي حنيفة شيخ فقهاء الرأي وشيخ القياسيين هو إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر منصوص على حكمه لاتحاد العلة أو تشابهها، وعلى هذا سار الفقهاء الآخرون حتى الشافعي. أما الإمام أحمد فلم يقتصر في القياس على علة الحكم وحدها، بل التفت إلى الحكمة.
وعلة الحكم هي سببه، أما الحكمة فهي هدفه .. وهي المصلحة التي يريد تحقيقها والمضرة التي يريد تجنبها فعلة الحكم بإفطار المسافر هي السفر، أما الحكم فهو حفظ النفس ودفع المشقة .. وأخذ بالحكمة يباح إفطار من كان في عمله مشقة بحيث إذا صام لم يتمكن من العمل .. وعلى هذا النحو من التوسع في القياس الأخذ بالقياس الظاهر والخفي، وبمراعاة الحكمة إلى جوار العلة، أدخل الإمام أحمد في أقيسته الأخذ بالمصالح، وهي التي لم يقم دليل على تحريمها أو إباحتها.
والإمام أحمد يأخذ بها قياسا على روح الشريعة المستوحاة من نصوص الكتاب والسنة، وإن لم يكن قياسا على نص خاص. ثم إنه أخذ بالاستحسان وهو الحكم في مسألة بغير ما حكم به في نظيرها، ورعاية للمصلحة على خلاف أستاذه الشافعي الذي قال: "الاستحسان تلذذ". وأخذ الإمام أحمد بالاستصحاب وهو مصاحبة الواقع، فما ثبت في الماضي ثابت في الحاضر.
كما أخذ بالذرائع وهي الطرق والوسائل المؤدية إلى الفعل وتوسع فيها كما لم يتوسع إمام من قبله. فهو يرى أن الطرق لتحقيق المقاصد تابعة لها، فوسائل المحرمات محرمة ووسائل المباحات مباحة كما قال ابن القيم أحد شراحه. والأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه، فما الظن بهذه الشريعة التي هي أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ .. ومن تأمل مصادر الشريعة ومواردها، علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها" ..
من أجل ذلك اهتم الإمام أحمد بالباعث على الفعل، وبنتيجة الفعل .. فمن أراد أن يقتل رجلا بسهم ولكنه أخطأه وأصاب حيه كانت تريد أن تلدغ خصمه فهو آثم عند الله. لأن الباعث على فعله كان شرا وهو نية القتل .. ومن سب آلهة الوثنيين، وكانت نتيجة فعله أن سبوهم الله ورسوله. فهو آثم، لأن سبهم الله ورسوله نتيجة لسبه آلهة الوثنيين.
ومهما يكن اعتبار الإمام أحمد للذرائع والاستحسان والاستصحاب والمصالح: أأصول مستقلة هي، أم تدخل في باب القياس، فإن اعتماد أحمد على هذه الضوابط قد وسع فقه، وجعله خصبا، غنيا، متحررا، متجددا أبدا، قادرا على مواجهة كل ما تطرحه الحياة على عقول المجتهدين والقضاة، حرصا على مصالح العباد. ويبدو هذا في فروع الإمام أحمد وإجاباته على كثير من المسائل .. وفي كل ما عرف عنه من فتاوى وأحكام..
وآراء الإمام أحمد كانت في أكثرها إجابات عن مسائل، وهي إجابات كان فيها متبعا السنة وفتاوى الصحابة .. والسنة عنده تبيان للقرآن. وفي مسائل عديدة لم يجب الإمام أحمد، لأنه لم يجد النص الذي يهتدي به، ولكنه لم يكن يسكت، بل يقول فيها كل أوجه الرأي. على أنه كان أحيانا يقول: "لا أدري .. سل غيري".
وقد ذكروا أمامه أن ابن المبارك سئل عن رجل رمى طيرا فوقع في أرض غيره لمن الصيد لصاحب الأرض أم للرامي؟ فقال ابن المبارك: "لا أدري". وسئل الإمام أحمد عن رأيه في هذه المسألة: "فأجاب هذه دقيقة .. وما أدري فيها". وسأله رجل: حلفت بيمين ما أدري أي شيء هو، فقال ليت أنك إذا دريت أنت دريت أنا.
وفي اتباع الإمام أحمد للسنة وآثار السلف قال: "ما أجبت في مسألة إلا بحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجدت السبيل إليه، أو عن الصحابة أو التابعين. فإذا وجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعدل به إلى غيره. فإذا لم أجد فمن الخلفاء الأربعة الراشدين، فإذا لم أجد فمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأكابر فالأكابر. فإن لم أجد فمن التابعين ومن تابعي التابعين. وما بلغني عمل له ثواب إلا عملت به رجاء ذلك الثواب ولو مرة واحدة".
من أجل ذلك ظل إلى آخر حياته يبحث عن الأحاديث، والآثار الصحاح من فتاوى الصحابة وأقضيتهم، حتى أحاديث الآحاد، والأحاديث الضعاف، إن ثبت عنده أنها صحيحة غير موضوعة .. والضعاف من الأحاديث في عرف ذلك الزمان، غيرها في عرف أهل هذا الزمان، فقد كانت الأحاديث في عصره إما صحاحا أو ضعافا .. فقد نفهم نحن أن الضعيف من الحديث هو المكذوب غير الصحيح أو المختلق، أما في عرف السلف فهو الحديث الذي ليس له سند قوي، ومنه الحديث الحسن!..
كان الإمام أحمد إذا لم يجد ما يريد في الحديث، يلجأ إلى القياس الذي يصار إليه عند الضرورة مع توسعه في فهم القياس وتطبيقه. فأخذ بالمصلحة قياسا على مقاصد النصوص وروحها، ولا على نص بالذات، وتحرى حكمة النص بدلا من علته فحسب، أو لجأ إلى الاستحسان، وما إلى ذلك من أصول .. وقد سمعه بعض الناس يجادل فقيها آخر في بيته ويقول له: "إيش (أي شيء) أنتم؟ لا إلى الحديث تذهبون ولا إلى القياس ولا إلى استحسان. وما أدري إيش أنتم؟".
اعمل الإمام أحمد فكره فاستنبط الأحكام من النصوص والآثار، وعن طريق القياس بمعناه الواسع فحوى المصالح والذرائع والاستصحاب .. ولجأ إلى الاستحسان. وفي الحق أنه كان متشددا في كل ما يتعلق بالعبادات والحدود التي هي قوام الدين، لأنه رأى البدع تسود والناس يترخصون، ويخرجون عن الدين، أما في المعاملات فقد اتخذ فيها مذهبا متحررا ميسرا، لأنه رأى أن الذين يستغلون الناس يضيقون عليهم باسم الدين، ورأى من الزهاد الذين يلبسون الصوف ويسمون أنفسهم بالصوفية، والفقراء، من يزين للناس ترك السعي، وحب الفقر، والرضا بالظلم وللقعود عن طلب العدل ..
وإجابات الإمام أحمد عن المسائل، وفتاواه يظهر فيه تشدده في العبادات والحدود، وتيسيره في المعاملات. من ذلك أنه عندما فشت الفاحشة في عصره، وشاع الشذوذ الجنسي حتى أصبح أهل الشذوذ يجهرون ويتبجحون به، وأصبح لهم شأن في الدولة نشر الإمام أحمد أن الصديق أبا بكر أمر بإحراق أهل الشذوذ، عندما أرسل إليه خالد بن الوليد أنه بعد أن فتح الشام وجد فيه أهل قرية يقترفون هذا المنكر، فأشار عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، بإحراقهم أسوة بقوم لوط.
ومن ذلك أنه رأى الولاة يتقبلون الهدايا، فروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه أحد عماله يحمل مالا كثيرا فاحتجز نصف المال وقال إنه له فقد أهدى إليه، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ المال كله للمسلمين، وحذرهم أن يقبل أحد منهم هدية إن تولى أمرا من أمور المسلمين وتساءل الرسول إن جلس أحدهم في بيت أبيه وأمه أكان يهدي إليه، أما أنه يهدي إليه لأنه تولى أمرا؟ فإن استحل مالا بهذه الطريقة فقد استحق النار..!
وتأسيسا على هذا الأثر أفتى الإمام أحمد أنه لا يحق للقاضي أن يقبل هدية، ولا أي مستخدم في الدولة، ولا لمن يسعى في مصلحة لغيره عند السلطان أو أولي الأمر .. وأفتى بأن من زاد ماله وهو يلي منصبا، وجب عليه السلطان أن يأخذ نصف ماله فيرده على المسلمين.
ومن ذلك أن الإمام أحمد رأى الناس قد قست قلوبهم، فأفتى بأنه لا يحق لأحد أن يحمل حيوانا فوق طاقته، وأن الكلب إذا حضر طعام أحد، فعليه أن يلقي إلى الكلب بشيء منه، وكان الناس قد فهموا منه أن ظل الكلب نجس، فسخر به بعض حساده، وما كان قد قال هذا قط، ولكنه أزرى بالأثرياء وأنكر عليهم أن يطعموا كلابهم أفخر الطعام، وفي الأمة من لا يجد طعامه إلا في المزابل، وقد لا يجده حتى في المزابل!!من أجل ذلك شهروا به!
على أن الإمام أحمد نفسه جلس مرة يأكل رغيفا وما لديه طعام غيره، فجاء كلب فبصبص بذنبه .. فألقى إليه الإمام أحمد باللقمة بعد اللقمة حتى تقاسما الرغيف!! .. والإمام أحمد يرى في سؤر الكلب نجاسة، على غير ما رآه الإمام مالك الذي اعتمد على أية تحل أكل ما يصيده الكلب، فقال: "أحل لنا صيده فكيف يحرم سؤره؟" .. ولكن من رأى الإمام أحمد كرأي غيره من الفقهاء والأئمة إلا الإمام مالك بن أنس أن الكلب إذا لعق الإناء وجب غسله بماء طاهر، سبع مرات عند بعض الأئمة، وحتى يطهر عند أحمد وإن بلغت ثماني مرات أولاها بالتراب عند الجميع ..
ولم يجز أحمد قتل الطير إلا لمصلحة أو حاجة، ولا دودة القز إلا لاستخراج الحرير. واعتمد الإمام أحمد في هذا على الحديث الذي يحرم قتل العصفور إلا لمصلحة أو لحاجة. ومن ذلك أن الشرط في العقد الصحيح ما لم يخالف القرآن والسنة، وما لم يحلل حراما أو يحرم حلالا. وإن فللزوجة أن تشترط على زوجها ألا يتزوج غيرها. فإن خالف الشرط فسخ العقد ووقع الطلاق. ولها أن تشترط عليه ألا يسافر معها.
من ذلك أنه إذا هلك أحد من العطش أو الجوع في بلاد المسلمين، فكل أثرياء المسلمين آثمون، وعليهم الدية، وولي الأمر مسئول وعليه الدية .. وهي دية المقتول عمدا .. نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، فمن قتلها فكأنما قتل الناس جميعا. من تسبب في القتل قاتل وإن لم يقتل بيده، وإن لم يقصد القتل .. وقد أخذ هذا الحكم من قضاء للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .. فقد أدخلت فتاة في ليلة زفافها إلى بيتها شابا كانت تعشقه وأخفته، واكتشفه الزوج فقتله، فحكم الإمام على الزوجة الخائنة بالقتل، وعفا عن الزوج لأنه يدافع عن عرضه.
ـ ومن ذلك أن النية هي التي تكيف العقد وعلى هذا فزواج المحلل باطل.
ـ يجب نفي أهل الدعارة والمجون والفسق إلى مكان يؤمن فيهم شرهم القاعدون عن طلب الرزق اكتفاء بالعبادة، يجب إجبارهم على العمل لأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل، وطلب الزهد فرارا من المشقة إثم، وترك المكاسب مع الحاجة إليها كسل.
ـ إذا حكم للمدعي بيمينه بشهادة شاهد واحد، ثم ثبت كذب الشاهد، فعليه الغرم كله، أي رد ما دفع للمدعي بغير حق، فإن كانا شاهدين تقاسما الغرم.
ـ لا يجوز الشراء ممن يرخص السلع لينزل الضرر بجاره، وعلى السلطان أن يمنعه من البيع. كذلك يطرد السلطان من السوق كل تاجر يرفع السعر ويضارب فيه .. فإذا تعدد التجار، وجب اقتلاعهم من السوق ومنعهم من التجارة.
ـ تمنع المضاربة على السعر نزولا أو صعودا لمن لا يريد أن يشتري.
ـ لا احتكار .. فالمحتكر ملعون.
ـ يمنع كل بيع فيه شبهة ربا، كالبيع للمدين، كمغالاة بعض التجار في الربح فهو ربا، وتحل مصادرة هذا المال، ورده بيت المال ومنع مقترف هذا العمل من الاتجار.
ـ أعمال السمسرة غير جائزة، والسلطان مسئول عن مطاردة السماسرة ورد أموالهم إلى المسلمين لأنه مكسب على حساب الغير بغير عمل ففيه شبهة القمار. وما كان الإمام أحمد ليحرم أو يحلل صراحة بل كان يتورع عن هذا كغيره من الأئمة السابقين .. ويكتفي بأن يقول "أكره أو أحب" من ذلك أنه سئل عن بيع الماء فقال: "أكرهه" .. وهو يريد أنه حرام .. وسئل عن الخمر يستعمل كالخل فقال: لا يعجبني ..
ـ ومن ذلك جواز تحويل الدين وهو استيفاء للحق .. وهي ما تسمى حوالة الحقوق ..
ـ ومن ذلك أن الأصل في الأشياء الإباحة، فكل تصرف مباح حتى يثبت دليل المنع.
ـ ومن ذلك: إذا شك المطلق أنه طلق واحدة أو ثلاثا .. فهي طلقة واحدة لأن الحلال ثابت بالعقد فلا يزول بالشك.
ـ جواز إجبار المالك على أن يسكن في بيته من لا مأوى له، بأجر المثل إذا كان في بيته فراغ لا يحتاج إليه. والحكم ينطبق على صاحب الخان (الفندق).
ـ يجبر أصحاب السلع على بيعها بسعر المثل، فإذا امتنعوا، رفعهم السلطان من السوق وصادر أموالهم ورد نصفها إلى بيت المال.
ـ ومن امتنع عن أداء الزكاة، أو ماطل، أو لم يؤدها كاملة أخذت منه قسرا، وصودر ماله ورد نصفه إلى بيت المال.
ـ يمنع تلقي السلع قبل نزولها في الأسواق، لكيلا يتحكم تاجر أو عدد من التجار في السعر.
من وقع في معصية وعاجل بالتوبة حال تلبسه بها أو بعدها فهو معفو عنه، كمن يغتصب عقارا ثم يندم ويعترف ويخرج من العقار فهو في حال توبة، فيعفى عنه.
ـ وكان قد صح للإمام أحمد من السنة والآثار عن الشروط في العقود ما لم يبلغ غيره من الأئمة من قبل. لذلك خالفهم جميعا في الشروط، فأجاز كل شرط في العقد ما لم يحرم حلالا أو يحلل حراما .. وتوسع الإمام أحمد في ذلك حتى أجاز شرط الخيار في عقد الزواج، بحيث يكون لحد الطرفين حق الفسخ بعد مدة معينة فإذا مضت المدة ولم يفسخ، استمر العقد .. وفي رأيه أنه لا دليل من الشرع يمنع هذا الشرط، ثم إن حق الفسخ يمنع الخديعة، فإذا خالف الزوج الشرط فسخ العقد، وبمقتضى رأيه في الشروط أجاز للبائع أن يبيع ويحتفظ بحق الانتفاع مدة معينة، فله أن يشترط الإقامة بسكنه الذي يبيعه مدة معينة. وأجاز اشتراط البائع على المشتري أنه إذا أراد بيعه فهو للبائع بثمنه الذي تقاضاه من قبل. و أجاز أن يشترط البائع على المشتري البائع عليه ألا يستخدمها إلا في التسري فحسب، فلا تخدم ولا تقوم بعمل آخر، فقال أحمد: "لا بأس".
ـ جواز البيع من غير تحديد الثمن، إذا اتفق المتعاقدان على سعر السوق عند التسليم دون مساومة. ويسمى بقطع السعر. وما في الكتاب ولا في السنة ولا في آثار الصحابة ما يحرم هذا، فهو على قاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة.
ـ يجب التشدد في الطهارة .. فالمضمضة والاستنشاق من فرائض الوضوء وهي عند غيره من الأئمة سنة.
ـ من ولي أمرا من أمور المسلمين فاحتجب عنهم في داره جاز حرقه .. فقد احتجب سعد بن أبي وقاص وراء الباب عن الناس في قصره وهو أمير بالكوفة، فأرسل إليه الخليفة عمر بن الخطاب من أحرق عليه قصره.
ـ للمار بثمر غيره أن يأكل حتى يشبع ما لم يكن على الثمر سور أو حارس .. ولكن لا يجوز للمار أن يحمل من الثمر.
ـ للرجل أن يشهد على امرأته بالزنا ويقسم اليمين دون حاجة إلى أربعة شهداء، إذا رأى رجلا يعرف بالفجور يدخل إليها ويخرج. وتعاقب الزوجة بحد الزنا.
ـ للمرأة إذا تزوج عليها زوجها أن تطالبه بمؤخر صداقها وإن لم تطلق.
ـ البينة التي تثبت الحق لصاحبه ليست محصورة في أشكال أو صيغ، بل هي كل ما يبين به الحق، من الأمارات والأدلة، فلو تنازع الساكن ومال المسكن على شيء نفيس مخبأ في المسكن، فالشيء لمن وصفه منهما وصفا دقيقا منضبطا، وإن حلف الآخر وجاء بالشهود.
ـ لا يتحقق السجود في الصلاة إلا بأن تمس الأنف الأرض، وذلك من تمام شعور العابد بالعبودية (والأرض هي ما يصلي عليه العابد مجردة أو مفروشة) .
ـ تغسل النجاسة بماء طاهر حتى يزول كل أثارها، وأقل ما تغسل به النجاسة سبع مرات، إذا شك المتوضئ في طهارة الماء، تركه وتيمم.
السنة في الصلاة أن يخفف الإمام فلا يطيل رعاية لحال المأمومين، وتكره إمامة من لا يرضى عنه أكثر المصلين.
ـ الأذان في الصلاة يجب أن يكون باللغة العربية (وقد أجاز غيره من الفقهاء أن يكون بغيرها). وكذلك الصلاة.
ـ السنة في الصيام هي الفطر في السفر. والفطر في الغزو أحرى. وقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم للفتح في رمضان، فأفطر بعد صلاة العصر، وشرب على راحلته ليراه الناس وقال: "تقوا لأعدائكم" ..
ـ طاعة الوالدين فريضة، وهي جزء من الإيمان، وقد جعلها الله بعد التوحيد، "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا" فمعصية الوالدين أو الإساءة إليهما كالشرك به تعالى بهذا نزل القرآن وعليه نصت الأحاديث الشريفة، ورعاية الأم أولى كما جاء في الحديث. وقد سمع الرسول صلى الله عليه وسلم قصة زاهد شغلته العبادة عن الرد على أمه وكانت في حاجة إليه، فأصابها أذى، فعقب الرسول على سلوك العابد بأنه لو خرج من صلاته، وأجاب أمه، لكان أحب إلى الله تعالى وأقرب. وقد روي الإمام أحمد عن الصحابة والتابعين أنه إذا استأذن ولد والدته للخروج مجاهدا في سبيل الله، فأذنت له، وعلم أن هواها في المقام، فليقم. وقال الإمام أحمد لطالب في حلقته تريده أمه على التجارة، وهو يريد العلم: "دارها وأرضها ولا تدع الطلب".
ـ يجوز للأب أن يفضل أحد ولده بالهبة إذا كان هذا الولد في حاجة بسبب العجز عن الكسب لانقطاعه للعلم، أو لعاهة به، أو لكثرة عياله.
ـ الأحكام يجب أن توفق بين الظاهر والباطن، فيؤخذ بالظاهر إذا كان الحال في غنى عن البينة لأن الأمارات القوية تؤيده أو كان بينة في ذاته. كأن يظهر الحمل على امرأة ليس لها زوج، أو كان يشاهد رجل يجري وفي يده عمامة، وعلى رأسه عمامة أخرى، يطارده رجل آخر بلا عمامة!
لا يؤخذ بالظاهر على إطلاقه، فقد يثبت أنه يجافي الحقيقة. فقد حدث أن جاءت امرأة تخاصم زوجها، فأرسلت عينيها وبكت، فقال أحد القوم: "مهلا" فإن أخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون.
وحدث في عهد عمر بن الخطاب رضي الله أن امرأة بالمدينة أحبت شابا من الأنصار، ولكنه لم يطعها فيما تريد، فجاءت ببيضة وألقت صفرتها، وسكبت البياض على فخذيها وثوبها، ثم جاءت إلى الخليفة عمر صارخة فقالت: "إن هذا الرجل غلبني على نفسي وفضحني. وهذا أثر فعاله". فسأل عمر النساء فقلن له: "إن ببدنها وثوبها آثار الرجل". فهم بعقوبة الشاب، فأخذ يستغيث ويقول: "يا أمير المؤمنين تثبت في أمري. فوالله ما أتيت فاحشة ولا هممت بها، فلقد راودتني عن نفسي فاعتصمت". فنظر عمر إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقال: "يا أبا الحسن ما ترى في أمرها". فنظر علي إلى ما على الثوب، ودعا بماء حار شديد الغليان، فصب على الثوب فجمد البياض، وظهرت رائحة البيض، فزجر الخليفة أمر المؤمنين عمر رضي الله عنه المرأة فاعترفت، وعاقبها.
ومن رأي الإمام أحمد أنه لا يؤخذ بالظاهر على إطلاقه حتى إذا اعترف المذنب. وقد روي أنه حدث في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن أتى برجل وجد في خربة بيده سكين ملطخ بالدم وبين يديه قتيل يتشحط في دمه. فسأله أمير المؤمنين فقال: "أنا قتلته". فقال: "اذهبوا به فاقتلوه". فلما ذهب به أقبل رجل مسرعا، فقال: "يا قوم لا تعجلوا. ردوه إلى علي". فرده. فقال الرجل: "يا أمير المؤمنين. ما هذا صاحبه. أنا قتلته" فقال علي للأول: "ما حملك على أن قلت أنا قاتله ولم تقتله؟".
قال: "يا أمير المؤمنين، وما أستطيع أن أصنع، وقد وقف العسس على الرجل يتشحط في دمه، وأنا واقف، وفي يدي سكين وفيها أثر الدم وقد أخذت في خربة؟ فخفت ألا يقبل مني، فاعترفت بما لم أصنع، واحتسبت نفسي لله". فقال علي: "بئسما صنعت! فكيف كان حديثك؟". فقال الرجل إنه قصاب ذبح بقرة وسلخها، وأخذه البول فأسرع إلى الخربة يقضي حاجته والسكين بيده، فرأى القتيل فوقف ينظر إليه فإذا بالشرطة تمسك به، وأما القاتل فاعترف بأن الشيطان زين له أن يذبح القتيل ليسرقه ثم سمع خطو أقدام فاختفى في الظلام، حتى دخل القصاب فأدركه العسس فأمسكوا به ولما رأى الخليفة أمر بقتل القصاب، خشي أن يبوء بدمه فاعترف. وأخلى على سبيل القاتل لأنه إن كان قد قتل نفسا، فقد أحيا نفسا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا". وأخرج الدية من بيت المال.
وكان الإمام يستشهد في أحكامه بالأخبار والقصص، ففيها عبرة لأولي الألباب كما قال الله تعالى. وكان يطلب من تلاميذه أن يكثروا من قراءة القصص ليعتبروا.
ومما رواه من قصص تؤيد رأيه في عدم الأخذ بالظاهر على إطلاقه، أن امرأة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم اغتصبها رجل وهي في الطريق إلى المسجد لصلاة الفجر، فاستغاثت برجل مر عليها، وفر المغتصب، ومر نفر وهي ما تزال تصرخ فأدركوا الرجل الذي كانت قد استغاثت به، فأخذوه وجاءوا به إليها، فقال الرجل: "أنا الذي أغثتك وقد فر الآخر" فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنه وقع عليها وشهد عليه القوم. فقال: "إنما كنت أغيثها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني" فقالت: "كذب. هو الذي وقع علي". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انطلقوا به فأرجموه". فقام رجل فقال: لا ترجموه وارجموني فأنا الذي فعلت بها الفعل. فقال القوم: "يا رسول الله ارجمه" فقال: "لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل الله منهم"
ـ يفضل الإمام أحمد للمسلمين أن يغزوا تحت قيادة القوى وإن كان فاجرا، على الضعيف وإن كان صالحا ويقول: "أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره لنفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوى الفاجر جلبا للمصلحة العامة.
ـ لا يحبس المدين في دين. فلم يحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في دين قط، ولا الخلفاء الراشدين من بعده، وقد قال أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضى الله عنه "الحبس في الدين ظلم". وكذلك لا يحبس الزوج في مؤخر الصداق، ولم يحبس الرسول ولا أحد من الخلفاء الراشدين زوجا في مؤخر صداق أصلا. ولم يقض أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من بعد لامرأة بصداقها المؤخر، إلا أن يفرق بينهما موت أو طلاق فتقوم على حقها". كما جاء في رسالة الليث إلى مالك. فالأمة مجمعة على أن المرأة لا تطالب به قبل أجله بل هو كسائر الديون المؤجلة فليس لها حق فيه إلا الموت أو الطلاق أو الزواج بغيرها .. ولا تقوم مصلحة الناس إلا بهذا. ويضيف الإمام أحمد في ذلك: "من حين سلط النساء على المطالبة بالصدقات المؤخرة (أي مؤخر الصداق)، وحبس الأزواج عليها، حدث من الشرور والمفاسد ما الله به عليم. وصارت المرأة إذا أحست من زوجها بصيانتها في البيت، ومنعها من البروز والخروج من منزله والذهاب حيث شاءت، تدعي بصداقها وتحبس الزوج عليه، وتنطلق حيث شاءت. فيبيت الزوج ويظل يتلوى في الحبس، وتبيت المرأة فيما تبيت فيه!" ..
ـ كل أنواع المعاملات مباح إلا ما يحظره نص أو القياس على نص، وكل العقود واجبة الوفاء إلا إذا قام دليل شرعي على المنع. وكل ما احتاج إليه الناس في معايشهم ولم يكن سببه معصية لم يحرم عليهم، لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد. ولا يشترط لانعقاد العقد أي شكل أو صيغة بل ينعقد بالنية والإفصاح عنها. وبعض العقود لا يثبت إلا بالكتابة. وقد ينعقد العقد بممارسة الفعل أو بما يقتضيه العرف. كالعقد مع صاحب الخان (الفندق) أو صاحب الحمام، ينعقد بدخول المكان ورضا صاحبه. وأكثر تصرفات التجارة قائم على العرف. ولكن النية والقبول يجب ألا يعيب أيهما شيء، فأساس المعاملات الرضا، وكل ما يشوب الرضا يفسد التعاقد، إكراها كان أم خديعة أم غشا أم تدليسا أم غبنا.
وقد حدث في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن تزوج شيخ كبير يخضب بالسواد بفتاة شابة حسناء وبعد حين ظهر البياض على شعر الزوج ولحيته، فكرهته العروس وقالت إنها خدعت بشبابه .. وما هو بشاب. وشكاه أهلها إلى عمر قائلين: "حسبناه شابا". فضربه عمر ضربا موجعا وقال له. "غررت بالقوم". وفرق بينهما.
ـ الغاية ترتبط بالوسيلة المؤدية إليها، وترتبط المقدمة بالنتيجة، فما هو سبيل إلى المباح مباح، وما هو وسيلة إلى المحظور محظور، وإذا فسدت إحداهما فسدت الأخرى، فإثبات الحق مباح بل هو مطلوب، على ألا تكون الوسيلة محظورة كشهادة الزور.
وتستثني من القاعدة حالات الضرورة أو الحاجة .. فيجوز للطبيب الإطلاع على عورة المريضة لعلاجها وإنقاذ حياتها.
ـ من الواجب توفير كل ما فيه صلاح الناس، وفتح الطريق للتوبة وإصلاح ذات البين وصيانة كيان الأسرة.
وروى أحمد: "جاءت إلى علي بن أبي طالب" امرأة فقالت: "إن زوجي وقع على جارتي بغير أمري". فقال للرجل: "ما تقول؟". قال: ما وقعت عليها إلا بأمرها. فقال: "إن كنت صادقة رجمته (بالزنا) وإن كنت كاذبة جلدتك الحد (للقذف). "وإقيمت الصلاة فقام أمير المؤمنين علي يصلي وفكرت المرأة فلم تر لها فرجا في أن يرجم زوجها، ولا في أن تجلد فولت هاربة ولم يسأل عنها أمير المؤمنين".
وقد قيل للإمام أحمد "فلان يشرب". فقال: "هو أعلمكم شرب أم لم يشرب". وقال عن جماعة من العلماء يشربون النبيذ: "تلك سقطاتهم لكنها لا تذهب حسناتهم".
على القادر أن ينفق على كل ذوي الأرحام الفقراء قربوا منه أو بعدوا. وعلى الموسرين من المسلمين أن يخرجوا من أموالهم إلى بيت المال صدقات، حتى لا يكون في أرض الإسلام صاحب حاجة مسلما كان أم غير مسلم.
ـ يجب على كل مسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا أمر لا تختص به جماعة منهم، بل هو فرض على الجميع، ويجب اتباع الحسنى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فكما جاء في الحديث الشريف: "كل من رأي سيئة فسكت عليها فهو شريك في تلك السيئة". على أن يكون النصح يقول التي هي أحسن. والمسلمون مطالبون شرعا إذا كلم بعضهم بعضا بأن يقولوا التي هي أحسن "فرب حرب أهاجها قبيح الكلام". فإن لم يتحدثوا بالحسن من القول، وقعوا في المعصية بمخالفتهم قوله تعالى: "قل لعبادي يقولوا التي هي احسن. إن الشيطان ينزع بينهم".
بهذا الفقه خالف الإمام أحمد في كثير من المسائل كل من سبقه من الأئمة وبصفة خاصة الإمامين أبا حنيفة ومالك بن أنس .. ولكنه كان أكثر اقتداء بالشافعي في مذهبه المصري الذي تأثر فيه بالإمام الليث بن سعد. على أن الإمام أحمد اختلف مع الشافعي اختلافا كاملا في الأخذ بالاستحسان وفي شروط العقود، فقد وقع لأحمد من الحديث والآثار ما لم يقع للشافعي، وقد صح نظر الشافعي حين قال لأحمد هو ومن معه من أهل الحديث: "أنتم أعلم بالحديث والأخبار مني فإن كان صحيحا فأعلموني".
سار الإمام أحمد في أكثر اجتهاده على طريق الإمام الشافعي، حتى لقد رفض الإمام الطبري اعتبار ابن حنبل فقيها أو مجتهدا، وعده متبعا وراوية للحديث ومقلدا! .. وقد خوطب الإمام أحمد في التزامه طريق الشافعي فقال: "لم نكن نعرف الخصوص ولا العموم حتى ورد الشافعي، وكان الفقه قفلا ففتحه الشافعي. وهو فيلسوف في أربع في اللغة واختلاف الناس والمعاني والفقه".
تابع الإمام أحمد طريقه: فهو يجيب على المسائل، ويعلم التفسير والحديث، ويرجع ما جمع من الأحاديث ويراجع ما جمع من الأحاديث، وفي مراجعاته لما حفظ وجمع من أحاديث، حذف كل ما حفظه عن عالم ذي مكانة من أهل الحديث، لأنه شتم معاوية بن أبي سفيان وأرسل إليه أحمد بذلك .. فعجب المحدث لأنه يعرف أن أحمد بن حنبل يرى معاوية من أهل البغي امتحن ببغيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه!!
إن أحمد وصاحبه حفظا الأحاديث معا من شيخهما عبد الرازق في اليمن، ولقد سمعاه معا يشتم أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه .. وعثمان افضل من معاوية!! .. وإذن فما ينبغي لابن حنبل، أن يروي الأحاديث الكثار التي حفظها عن شيخهما عبد الرازق! أرس المحدث إلى صاحبه أحمد يذكره بذلك لكه! ..
فلم يشأ الإمام أحمد أن يحاور صاحبه، فقد شغله فقهه، واستنفره غلبة أصحاب الكلام على قصر الخليفة وعلى الحياة الفكرية، فشدد النكير عليهم، وشرع يهاجمهم في حلقاته العامة بالمسجد، وأخذ يحذر منهم طلابه ومريدي حلقته قائلا: "لا نكاد نرى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه رغل (أي فساد)". ولم يتهيب أصحاب الكلام هجوم أحمد، بل مضوا يحاجون في القضية التي كانت تضنيهم منذ زمن بعيد وهي قضية خلق القرآن.
والقضية ليست بنت العصر .. ولكن أصحاب الكلام من المعتزلة أثاروها من قبل في عصر بني أمية، وأصابهم منها عنت شديد وعذاب عظيم! فقد بدأ المعتزلة في حكم هشام بن عبد الملك يتكلمون في حرية الاختيار وفي البيعة والشورى، فهزموا أركان السلطان! ..
ثم تكلموا في خلق القرآن. فانتهز الحاكمون الفرصة، واتهموا أصحاب هذا الرأي بالكفر .. ولم يجادلوهم في غيره من الآراء. وقبضت الدولة على أول من قال بهذا الرأي وهو "الجعد بن درهم". فحبس وعذب في فجر عيد الأضحى .. وخطب والي العراق في الناس العيد وقال في آخر خطبته: "انصرفوا وضحوا تقبل الله منكم، فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد ابن درهم". ونزل من على المنبر فذبح الجعد كما تذبح الأضحية!!
ثم إن حكام بني أمية طاردوا المعتزلة والمتكلمين بتهمة الكفر، وأثاروا عليهم العامة، حتى جاء وقت لم يستطع فيه مفكر منهم أن يجهر بفكره .. ولكن هذا الفكر استعرونما تحت المطاردة والاستبداد، كما عاش وميض نار الثورة على بني أمية تحت الرماد، حتى أصبح له ضرام، وقوده جثث وهام! ..
وإذ سقطت دولة بني أمية وخلفها بنو العباس، ظهر المعتزلة بفكرهم واهتموا أكثر ما اهتموا بالقضية التي ذبح أول من أثارها والتي لاقوا النكال في سبيلها وهي قضية خلق القرآن!. وكان بوسع الإمام أحمد أن يشهر بهؤلاء، فقد دعي إلى عشاء عند أحدهم ووجد في داره كثيرا من الفقهاء يشربون وقد بلغ بهم السكر مبلغه .. وأمامهم ترقص الإماء ويغنين عاريات، فخرج أحمد من المكان، وعندما سئل من غده عما رأى لم يقل شيئا، وقيل له أن مخالفيه كانوا سكارى، لم ينطق ذلك أنه وهب نفسه للعلم ونأى بنفسه عن السياسة، وأخذ الخصوم بعوراتهم!
ولكنه ما كان يستطيع أن يبعد .. فالسياسة هي فن الحياة وهي "ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي. وعلوم الدين ترسم ملامح المجتمع الذي أراده الشارع الحكيم بما نفهمه من روح النصوص. فسر الإمام أحمد قوله تعالى في سورة النور: "وأتوهم من مال الله الذي أتاكم" بقوله تعالى في سورة الحديد: "آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فالذين آمنوا منكم وأنفقوا له أجر كبير".
فالأغنياء مستخلفون فيما يملكون ولا ينبغي أن يقول الواحد منهم "هذا ملكي" بل عليه أن يقول: "هذا ملك الله عندي" .. وإذن فللمال وظيفة اجتماعية ، وإنفاق المال للصالح العام واجب شرعي، جعله الله جزاء من الإيمان .. من أجل ذلك حرم الله الربا، واعتبر المرابين كفارا، وحرم الرشوة: "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون، وحرم كل أنواع الكسب بلا عمل، وحرم الوساطة في التجارة والصفقات (أي السمسرة). أو العمولة بلغة العصر!
ثم إن الإمام أحمد أخذ يعلم الآلاف الذين يرتادون حلقته أن الذين يستغلون مواقعهم ليكسبوا بغير الحق لهم الويل كل الويل وكان أنذرهم بذلك من قبل، فرفضوا قوله لأنهم حبسوه من اجتهاده، ولكنه روى حديثا صحيحا قوي الإسناد محقق الثبوت..: "أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه أحد الولاة فقسم ما جمع من مال قسمين ثم قال للنبي عليه الصلاة والسلام: هذا لكم وهذا أهدي إلى فغضب النبي وقال يخطب في الناس (أما بعد... فإني استعمل رجالا منكم على أمور مما ولاني الله فيأتي أحدكم فيقول: هذا لكم وهذه أهديت إلى. فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدي إليه أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد فيه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر، وكان أبو ذر الغفاري حاضرا فقال للرجل: لا تحزن. إن الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يسعى من لا يقين له. اذهب اعتذر للنبي صلى الله عليه وسلم.
وروى أحمد عن السلف الصالح أن عمر بن الخطاب خصص أرضا إلى جوار المدينة، جعل كلأها لماشية الفقراء وحرمها على أنعام الأغنياء وقال: "إن تهلك ماشية الغني يرجع إلى ماله وإن تهلك ماشية الفقير يأتني بأولاده متضورا طالبا الذهب والفضة، فبذل العشب اليوم أيسر علي من بذل الذهب والفضة يومئذ". ثم أخرج الإمام الأحاديث الشريفة التي تأثم الاحتفاظ بالمال وفي الأمة فقيرا.
وتحرز في رواية آثار علي بن أبي طالب التي تحكي عن جهاده في إعادة توزيع ثروة الأمة، وأخذ ما فاض عن حاجة الأغنياء ورده على الفقراء .. تحرز الإمام أحمد في ضرب الأمثال بسيرة علي بن أبي طالب عندما كان أميرا للمؤمنين، وفي اختياره لدار الخلافة بيتا في الكوفة هو من أدنى بيوت الفقراء، ليضرب الأمثال لأولياء الأمر في عصره ومن بعده .. تحرج الإمام أحمد من الحديث عن سيرة الإمام علي لكيلا يجدوا عليه سبيلا فيتهموا أحمد ابن حنبل شيخ أهل السنة بأنه شيعي .. ويثور عليه أمراء البيت العباسي الحاكم!..
وعلى الرغم من تحرزه، أوغرت فتاواه وآراؤه صدور هؤلاء الحكام .. وتربصوا به، وزعموا أنه بما يفسر من آيات، وبما يخرج من أحاديث، وبما يرى من آثار الصحابة، إنما يثير الفقراء ضد الأغنياء، ويهين الصوفية ويحرض العامة على الخاصة!!. وأغروا به بعض المنافقين ليجرحوه! .. ولكنهم ما كانوا لينالوا منه .. فقد عرف الناس من هو الإمام أحمد!! .. وما يزال في أعماق أحمد جراح من قصة الفتاة التي كانت تبحث عن القوت في مزبلة قومها، وعلى مقربة منها ينثر الدر والذهب لتمشي عليه المحظيات .. وعلماء يمجدون الفقر ويدعون إليه الأمة!!
ثم جاء عصر المأمون..
وقد استولى المأمون على الحكم بعد معركة مريرة مع أخيه الأمين. ذلك أن الرشيد استخلف ابنه الأمين، وهو ابنه من زوجته العباسية بنت عمه زبيدة، وأوصى بولاية العهد من بعد الأمين للمأمون، وهو ابن الرشيد من جارية فارسية. ولم يكد الأمين يتولى الخلافة، حتى عزل أخاه المأمون من ولاية العهد مستنهضا التعصب العربي ضد الموالي ومنهم الفرس. وأيد الأمين في هذا عدد من فقهاء بغداد من أهل السنة .. إلا أحمد ابن حنبل شيخ أهل السنة، فقد كان لا يعني بغير العلم!
وخرج المأمون على أخيه الأمين بالسيف، وغلبه، وقتل الأمين، وأصبح المأمون هو أمير المؤمنين. وكان الأمين والمأمون على طرفي نقيض: فالأمين يعتمد على نسبه الهاشمي أبا وأما، فحسبه هذا النسب!. أما المأمون فقد عرف أنه يجب أن يعتز بنفسه لا بنسبه، ومن أجل ذلك حرص على أن يتعلم ويتثقف، وقد كان معلمه يضربه وهو صغير فلا يشكو، على نقيض الأمين الذي كان مدللا من معلمه ومن الحاشية، لاحظ له من الثقافة، ولا هم له إلا التوفر على المتاع الذي تقدمه له حاشيته! ..
كان المأمون واسع الثقافة، يولع بالفقه وآداب اللغة والفلسفة وعلوم الطبيعة والطب والفلك والرياضيات .. ويدرس معطيات كل الثقافات .. فشجع على نقلها إلى العربية عندما أصبح خليفة..
ونظر المأمون في أمر الدولة فوجد أن الصراع يكاد يمزقها: صراع بين العلويين والعباسيين، وبين أصحاب الفرق من أهل السنة، وأهل الرأي، والمعتزلة وغيرهم من الفرق .. ووجد أن بعض أفراد أهل البيت المالك يشتطون في ظلم الرعية مهددين كل شيء، فيعشق أحد كبارهم امرأة حسناء متزوجة، ويحاول، تطليقها وحين يرفض زوجها أن يطلقها، يرسل الهاشمي الكبير من يخفونها من زوجها عنوة، ويغتصبونها قبل أن يهدوها إليه!
ويعجب رجل آخر منهم بغلام مليح فيخطفه من أبيه وأمه، ويضعه أمامه على الحصان ويطير به إلى بيته! .. وهذان الرجلان من أهل البيت المالك العباسي يصنعان هاتين الفاحشتين بامرأة وغلام من أهل مكة والمدينة ولا يجدان أدنى مقاومة! .. أما بغداد . فما أبشع ما يغشاها من فساد .. وإلى جوار هذا كله ينتفض فكر عظيم يعيشه فقهاء البلاد، ومثقفون شرفاء يعانون من غاشية الظلم والفحشاء! ..
والدولة تتسع، وقد خلف هارون الرشيد ملكا عظيما ضم أكثر بلاد الدنيا، حتى أصبح الرجل في أي مكان في العالم لا يعتبر مثقفا أو متحضرا، إلا إذا أتقن اللغة العربية..! ثم إن المظالم التي كابدا الناس فجرت الثورات، فقامت في أطراف الدولة ثورات تطالب بالمساواة في كل شيء وتطرفت حتى طالبت بشيوع النساء!! كما حدث في الأطراف الشرقية، وقامت ثورات أخرى تطالب باحترام تعاليم الإسلام كثورة أهل مصر!!
والخلافات الفقهية والفكرية تستعر حتى للتحول إلى عداء! وبعض العلويين ينهضون مطالبين بحقهم في الإمامة والخلافة!. ونفر من المتشددين يقطعون الطريق على أهل البدع، ويضربون لاعبي الشطرنج، أهل الطرب، ومن يلبس الحرير أو الذهب، ويريقون الخمور، ويحطمون آلات الغناء!! كان على المأمون أن يواجه هذا كله .. وأن يرفع مظالم أسلافه من الخلفاء، وبصفة خاصة مظالم أربعة سنوات حكمها أخوه الأمين، الذي ترك أمور الدولة لحاشية فاسدة، أغرقته في الملذات، حتى لقد حارب معركته الأخيرة التي قتل فيها وهو سكران يجرع الخمر من قدح ذهبي يسع أربعة أرطال..!
ورأى المأمون أن أخطر ما يهدد الدولة هو سلطان قادة البيت العباسي .. والصراع بين العلويين والعباسيين، والخلاف بين الفرق المختلفة. أما الثورات في الأطراف، فقد أنفذ إليها جيوشا يقمعها. ثم رأى أن يوفق بين أبناء العمومة من شيعه علويين وعباسيين، فنظر فيمن يوليه العهد ليكون خليفة من بعده، فلم يجد أحكم ولا أتقى من الإمام علي بن موسى وهو إمام الشيعة.
وأخذ يضرب رؤوس الفساد في البيت المالك العباسي ممن يخطفون الزوجات والغلمان ويستغلون قرابتهم من السلطان لابتزاز الأموال، أو لإرهاب الناس. وأمر بأن يغلي السواد من أعلام الدولة وهو شعار العباسيين، ليحل بدلا منه اللون الأخضر شعار العلويين. وحاول أن يرد بعض أموال الأغنياء إلى الفقراء والمساكين وأصحاب الحاجات..
وثار عله العباسيون وأغنياء الدولة واجتمعوا في بغداد، وكان هو ما يزال بعيدا عنها، فخلعوه وأفتى عدد كبير من فقهاء السنة بأن المأمون خارج على الإسلام، وبايعوا بدلا منه إبراهيم بن المهدي وهو أحد كبار المغنين والمحنين. وبايعه الذين كانوا يكسرون آلات الغناء، ويضربون المغنين والمغنيات!! وزحف المأمون على بغداد، وحين أوشكت أن تستسلم، اختفى إبراهيم ابن المهدي، وتسلل إليه الذين خلعوه نم قبل، فبايعوه! ودخل المأمون بغداد، فخضع له الجميع! وعفا عنهم إلا قليلا منهم، قتلهم وصلبهم على أبواب بغداد مدينة السلام!
وكان ولي عهده علي بن موسى، قد مات من قبل فجأة في ظروف مشبوهة! .. وقيل إن أعداء الشيعة دسوا له السم في الطعام!. أما أحمد بن حنبل فقد ظل بعيدا عن كل هذا المضطرب، مشغول القلب بعلمه وفقه، لا يراه الناس إلا في حلقته يعلم الناس ويجيب على المسائل. وحين دخل المأمون بغداد واستقر بها، أسرع بترجمة كل ما لم يترجم بعد من الثقافات والحضارات الأخرى ورصد لذلك أموالا طائلة، واستعان بمثقفين مسيحيين ويهود. وإذ أمر بترجمة ما عند اليونان والمصريين، واتهموه بأنه يروج للوثنية، ففي ذلك التراث الحضاري كلام عن الآلهة المتعددين..!
من أجل ذلك توقف المأمون عن ترجمة المسرح المصري والأدب المصري القديم، فضاعت آثاره، إذ لم يجد من يترجمه من بعد. وتوقف عن ترجمة المسرح اليوناني والأدب اليوناني، ولكن هذا التراث وجد من الأوربيين من ينقله عبر الأجيال .. كان نفر من أهل السنة في بغداد يلعنون الفلسفة والمنطق، وكل ما لم يعرفه السلم من معارف وعلوم .. ولكن المأمون شجع هذه العلوم والمعارف، ومنح تلاميذ جابر بن حيان تلميذ الإمام الصادق كل ما يريدون من أموال ومعامل ليطوروا علم الكيمياء.
واعتبر بعض أهل السنة هذا العلم شعوذة وبدعة، وشجعهم على ذلك أن نفرا من المشتغلين بالكيمياء، أخذوا يعملون لتحويل بعض المعادن الخسيسة إلى الذهب النفيس..! ثم إن الصراع احتدم حول خلق القرآن بين المعتزلة وأهل السنة. وما كان الإمام أحمد بن حنبل على صلة بكل هذا المضطرب، واكتفى بأن يحض الناس على أن يهتموا من الدين بما فيه نفع للناس، وبما يقيم المجتمع الأمثل.
وجد المأمون أن الفتنة توشك أن تنفجر بين أهل السنة والمعتزلة، وكان هو نفسه يدين بآراء المعتزلة، وبصفة خاصة بطرائقهم الفلسفية وباستخدامهم المنطق في مجادلة الملحدين والزنادقة .. وكان راعيا لأصحاب الفلسفة، مؤمنا إيمانا عميقا بأن القرآن مخلوق، وبأن الجدل وسيلة صالحة للوصول إلى الحقيقة. واصطنع لنفسه أعوانا من الجانبين .. فجعل الرجل الأول في قصره من كبار أهل السنة، وهو يحيى بن أكثم، وقرب إليه في الوقت نفسه عددا من مفكري المعتزلة على رأسهم الجاحظ شيخ كتاب ذلك الزمان، وأحمد بن أبي دؤاد شيخ المعتزلة.
ولكن أحمد بن أبي دؤاد كان عنيفا على أهل السنة، يتهمهم بالكفر لأنهم ينكرون خلق القرآن. فإن لم يكن القرآن مخلوقا وكان قديما فهو إذن شريك الله تعالى في القدم .. وهذا شرك! أما المعتزلة فكانوا يرون أن الله كل شيء فالقرآن عن الأشياء التي خلقها الله تعالى .. وحاول أحمد بن دؤاد أن يقنع المأمون بقهر مخالفيه على اعتناق رأيه، ولكنه أبى ذلك فالمأمون يرى أن غلبة الحجة خير من غلبة القوة .. فالقوة تزول، أما الحجة فباقية ما بقى العقل.
وجمع المأمون أربعين من المفكرين والقضاة والعلماء والفقهاء فتناظروا عنه، غير أنهم لم ينتهوا إلى اتفاق! .. لم يشهد أحمد بن حنبل هذا الاجتماع، وإذ كان لا يغشى مجالس الحكام، ولا يقبل عطاءهم، مهما تكن شدة حاجته .. كان مشغولا عن كل هذا بما هو فيه من تدريس وعلم وجمع للأحاديث. ثم إن رأيه معروف لا يجادل فيه بعد .. فقد نهى عن الخوض فيما لم يخض فيه السلف والسلف لم، يخوضوا في خلق القرآن .. ولقد أعلن أكثر من مرة: "ما أفلح صاحب كلام".
بعد المناظرة خرج أهل السنة يهاجمون أصحاب الكلام في الحلقات، ويتهمون من يقولون بخلق القرآن بأنهم كفار .. أو بالقليل أصحاب بدعة!! ولم يستطع يحيى بن أكثم وهو من شيوخ أهل السنة أن يسكت أصحابه، فعرضوا بالمأمون نفسه! وشجع انشغال المأمون بالخلافات الداخلية جيوش الروم فهددت أطراف الدولة، فخرج المأمون بالخلافات الداخلية جيوش الروم فهددت أطراف الدولة، فخرج المأمون بجيشه مجاهدا، وأخذ معه الجاحظ وأحمد ابن دؤاد مستشاره الأول ..
وحين استقر الخليفة على رأس جيشه في طرطوس، داهمه المرض، فانتهز أحمد بن أبي دؤاد الفرصة وأنبأه أن أهل السنة في بغداد قد انتهزوا فرصة غيابه ومرضه ليشعلوا الفتنة ضده، فهم يكفرون من يقول إن القرآن مخلوق وعلى رأسهم الخليفة..!!
وإذن فالخليفة مطالب بأن يصنع شيئا لإنقاذ الدولة! وأمر الخليفة بأن يتولى أحمد بن دؤاد عنه أمر الذين يكفرون من يقول بخلق القرآن .. فأرسل إلى نائب الخليفة في بغداد بأن يجمع كل الفقهاء والعلماء والقضاء وأهل الرأي ليمتحنهم في خلق القرآن. فمن أنكر خلق القرآن فليعزل من منصبه، ولينذر من ليس في منصب منهم أنه لن يتولى منصبا أبداً، ولن تقبل له شهادة، وليأمر القضاة منهم بأن يمتحنوا الشهود في خلق القرآن، فمن خالف رأي الخليفة فلا تقبل شهادته .. وسمى له أسماء من يجب أن يمتحنهم وفيهم أحمد بن حنبل!
ورفضوا جميعا القول بخلق القرآن.
فأرسل الخليفة يطلب سبعة منهم، فأجابوه إلى ما أراد، فأعادهم إلى بغداد، طلب إعلان اعترافهم، وطلب إعادة سؤال الباقين في بغداد. وجاء نائب الخليفة بهؤلاء .. فمنهم من أبى الخوض في الموضوع كالإمام أحمد بن حنبل، ومنهم من قال إن الرأي ما يراه الخليفة، ومنهم من أنكر خلق القرآن، ومنهم من أقر بأن القرآن مخلوق .. وأرسل نائب الخليفة في بغداد إلى أحمد بن دؤاد بما حدث .. فأرسل أحمد ابن أبي دؤاد باسم المأمون رسالة طويلة، يسب فيها الجميع ويتهمهم بالرشوة والفساد، والسرقة، والنفاق والتظاهر وحب الرياسة .. لم يترك أحدا منهم إلا الإمام أحمد بن حنبل، فقد اتهمه بالجهل!.
ثم إنه أمر نائب الخليفة بأن يهددهم بالقتل، إذا لم يوافقوا على أن القرآن مخلوق .. فمن وافق منهم فليشهر أمره في الناس، ومن لم يوافق فليرسله في الأصفاد والأغلال إلى أمير المؤمنين!. وأمير المؤمنين إذ ذاك قد ثقل عليه المرض .. فقد اشتهى رطبا غسله في ماء جدول بارد، فأصابته حمى زادته مرضا على مرض، حتى كان يفقد الوعي فترات طويلة، ولم ينفعه طب!
قال أحمد بن حنبل حين سئل أول الأمر عن القرآن: "هو كلام الله". فسأله نائب الخليفة أمخلوق هو؟ قال: "هو كلام الله لا أزيد عليها". وسئل ما معنى "سميع بصير، أهو سميع من أذن يبصر عن عين؟" قال الإمام أحمد: "ما أدري، هو كما وصف نفسه" .. دعا نائب الخليفة كل العلماء والفقهاء والقضاة، وعرض عليهم رسالة أحمد بن دؤاد التي يهددهم فيها الخليفة بالقتل إن لم يوافقوا على أن القرآن مخلوق ..
وأحضرهم جميعا فإذا بهم كلهم يجيبون بأن القرآن مخلوق..! وكان الإمام أحمد رجلا لينا، فلما سمع العلماء يجيبون، انتفخت أوداجه، واحمرت عيناه، وذهب ذلك اللين الذي كان فيه ..
وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "سيصيبك بعدي بلاء شديد" فقال أبو ذر: "أفي الله يا رسول الله؟" قال: "نعم" "فاغرورقت عينا أبي ذر، وأدرك أنه من أهل الجنة!!
اغرورقت عينا الإمام أحمد .. ورفض الإذعان. وتابعه تلميذ له من جيرانه، وهو طالب علم شاب، رقيق الحال اسمه محمد بن نوح. وإذ رأى الحاضرون أن جميع الفقهاء والعلماء والقضاة في العراق قد وافقا أحمد بن أبي دؤاد على رأيه قال قائل منهم للإمام أحمد: "ألا ترى أن الباطل ظهر على الحق؟" قال الإمام أحمد: "كلا. إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة، وقلوبنا بعد لازمة للحق".
وضعت الأغلال والأصفاد على الإمام أحمد، وتلميذه الشاب محمد ابن نوح .. وحملا معا في دابة واحدة، وسيقا من بغداد إلى طرطوس!!. وانتشر الخبر في كل أنحاء العراق. وسخط الناس على المعاملة التي يلقاها الإمام أحمد حتى إذا كان في بعض الطريق قابله رجل فقال له: "يا هذا .. ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة!" .. ثم قابله أعرابي فقال له: "إن يقتلك الحق مت شهيدا، وإن عشت عشت حميدا" ..
تسامح الناس بما كانوا من أمر الإمام أحمد .. وتناقلت خبره الركبان إلى خارج العراق، فغضب له حتى الذين ليسوا على رأيه وما لقيه أحد إلا قوى قلبه وشد أزره. وشرد أحمد بن حنبل وهو يعاني فوق مركب خشن تحت الأغلال، وتساءل لماذا يمتحنه الخليفة المأمون بخلق القرآن؟! إنه يمتحن الذين يتولون مناصب في الدولة كالقضاة، والذين ينالون عطائه .. والإمام لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
لقد جمع العلماء للمناظرة في هذا الأمر وهو في بغداد منذ ست سنين .. فما باله الآن بعد أن ترك بغداد مجاهدا في سبيل الله يمتحن العلماء؟! .. وما باله لا يسير على سنة أبيه هارون الرشيد الذي أنذر زعيم المعتزلة في زمانه بالقتل، إن هو جاهر بأن القرآن مخلوق، وشغل الناس بهذه القالة؟! ..
ما بال المأمون يخالف نهج أبيه، ويخالف نفسه، ويعدل عن المناظرة إلى التهديد بالقتل؟!. ماذا حدث ليتغير المأمون؟! .. ولماذا يزج بالإمام أحمد في هذه الفتنة؟!.
الذي حدث أن أحمد بن أبي دؤاد زعيم المعتزلة، قد أصبح صاحب الرأي، وله الأمر؟! وأحمد بن دؤاد هذا لن يستريح حتى يرى كل الرؤوس كرأسه .. وبصفة خاصة رأس الإمام أحمد الذي يتعذب بعفته وشموخه المنافقون! كان ابن دؤاد يلهث لينال منصبا عند المأمون، وأحمد بن حنبل رفض منصب قاضي اليمن ليسير على قدميه من بغداد إلى صنعاء ويطلب الحديث ويعمل حمالا في الطريق، ونساجا للسرويل ونساخا بصنعاء ليوفر لنفسه النفقة!! ثم إن أحمد بن أبي دؤاد ينحني متقبلا لعطاء الخليفة، وأحمد بن حنبل يأباه!
وفي حلقات المسجد الجامع ببغداد يجتمع الآلاف حول الإمام في حلقته، أما ابن أبي دؤاد فلا يجرؤ أحمد على الجلوس في حلقته ولم يكتمل لحلقته قط عشرة من طلاب العلم وأصحاب المسائل!!. فإذلال الإمام أحمد هو عزاء ابن دؤاد عما يتردى فيه من هوان! ولكن الجاحظ وهو أعظم المفكرين والكتاب في عصره، يقيم مع الخليفة هناك .. فما بال الجاحظ لا يعظ الخليفة؟!.
من الحق أن الجاحظ سخر بعدد من العلماء المتزمتين من أجل السنة، وجعلهم هزأة، وأسماهم الحمقى من معلمي الصبية، ذلك أنهم اتهموه بالزندقة افتراء عليه، ولكن الجاحظ يعرف قدر الإمام أحمد بن حنبل، فما باله يترك المأمون يطلب مثول أحمد أمامه وهو في الأصفاد! كان المأمون نفسه قبل أن يمرض كان قد دخله شيء من بعض أهلس السنة، وكان الإمام أحمد إماما لأهل السنة، فمواقفهم وأقوالهم تحسب عليه على الرغم من شقائه بهم وبعده عنهم..!
فهذا النفر من علماء أهل السنة قد سكتوا عن المظالم من قبل، وشغبوا على أهل الغناء ولاعبي الشطرنج في بغداد، ثم بايعوا زعيم أهل الغناء إبراهيم المهدي أمير للمؤمنين بدلا من المأمون ثم أنهم أهدروا دم المأمون!! حتى إذا غلب المأمون، تسللوا إليه وهو على أبواب بغداد، ينافقون ويبايعونه، سارين في الليل أو سارين في النهار! ثم إنهم أنكروا عليه اهتمامه بالفلسفة والعلوم وحرضوا عليه العامة في بغداد، لأنهم يخالفونه في القول بخلق القرآن! وهاهم أولاء بعد أن هددهم يذعنون له، ويقول قائلهم: "ما تعلمنا العلم والفقه والدين إلا من أمير المؤمنين، ويهدرون في ذلك آراءهم وكرامتهم نفسها!!
ولكن الإمام أحمد بن حنبل طراز آخر من الرجال! وهو أشد الناس ضيقا بهذا النفر وإنكارا لهم وإزراء عليهم .. إلا أنه لا يتبع عورات الآخرين!! ولقد اعتزلهم حين عاتبوه، وواجههم على الرغم من لينه بأنهم قوم لا يحسنون إلا الغيبة والمراءاة والكذب والنفاق، وأن انصرافه عنهم إلى العلم هو العمل الصالح الذي يليق بالأتقياء! .. ألأن المأمون كان يعفهم شدد عليهم النكير، فاعترفوا، فأعلن على الناس عيوبهم؟!.!
لقد أذاع المأمون على الأمة ما صح عنده من مطاعن على هذا النفر من الفقهاء: الفساد، والرشوة والنفاق والتصاغر، والحقد والوشاية إلى مثالب أخرى غليظة ذكرها الطبري بالتفصيل فيما كتب عن أحداث سنة 218 هـ؟! .. ربما..!! ثم .. لماذا يقترف المأمون هذا البغي، وهو يجاهد في سبيل الله، وأحمد ابن حنبل يدعو المسلمين إلى نصرته؟! أيمكن أن تزدهر حضارة كل هذا الازدهار وتتألق فيها عقول المفكرين والعلماء وحرية الفكر على الرغم من ذلك تنتهك؟!
لعل ابن أبي دؤاد يريد أن يقنع الناس أن كل العلماء والفقهاء، يجب أن ينحنوا، بما أنه هو نفسه قد انحنى!! .. ولكن الإمام أحمد بن حنبل، كان يدرك أنه مسئول أمام الله عن الدفاع عما يؤمن بأنه حق، فإن مات في سبيله فهو شهيد. إنه لا يعرف أن المأمون لا يأخذ بالوشاية وهو يعتبر الأخذ بالوشاية أظلم من الواشي، فما خطبه معه؟ .. وهو يعرف أن المأمون لا يشتم أحدا، فكيف طعن في كل فقهاء السنة أبشع مطاعن!؟! إنه إذن لتأثير خارق على المأمون يمارسه بن أبي دؤاد! ..
وقد ظلت الحادثات طوال رحلة الضنى من بغداد إلى طرطوس، تلح على أحمد وتواجهه بأنه مسئول عن الحقيقة .. فإن تخلى عنها لحظة، انهار كل شيء في أعماق الناس!! وهكذا سار الإمام أحمد بروح شهيد!. سيناضل عما يؤمن به، لكيلا تسقط رايات الحقيقة، ولكي تظل الفضيلة شامخة أبدا!.
أما لمشفقون على الإمام أحمد، فقد نصحوه بأن يستجيب تقية .. ولكنه رأى أن التقية في موقف كهذا لا تجوز، أيقول غير ما يراه؟ ماذا يتقي؟! .. أهو الحكم بموته؟ إنه سيموت في يوم ما ولكن الناس؟ .. لعلهم سيعتنقون الرأي الخطأ، ويبقى هو مسئولا أمام الله عن تضليلهم!
بل لا تجوز التقية إلا في زمن غاشم يعلم الناس في الحقيقة، فلا يضللهم قول أو سكوت .. أما هذا الزمان فهو زمن يعدل فيه الخليفة، ويخرج فيه مجاهدا أعداء الإسلام .. والحقيقة في حاجة إلى رماة بواسل، وإلى شموع تحترق لتضئ الظلمات .. وإلا تخبط الجاهلون في عشوات الضلال.
لقد أذعن كل الفقهاء والعلماء إلا اثنين .. هو وتلميذه محمد بن نوح .. وبالأمس كان معهما اثنان آخران .. ولكن مس الحديد وثقل الأغلال، وإهانات الأوغاد، ثقلت عليهما .. فأجابا فيما دعيا إليه، فأطلق سراحهما. وسير الإمام أحمد ابن السادسة والخمسين، وتلميذه الشاب محمد ابن نوح في الأغلال والأصفاد، تحت الإهانة، وهما على بعير واحد إلى آخر الأرض..!
وسأله رجل في الطريق وقد رأى ضعف جسمه: "أإن عرضت على السيف تجيب؟" قال: "لا". فقال الرجل: "الله اكبر .. هذا هو الإمام أحمد". وألح الشعور بالمسئولية على الإمام أحمد .. وكان جلدا، ألف مشقات الأسفار، أما تلميذه الشاب فلم يحتمل المشقة، وأنهكه ما عاناه، فاعتل .. وما كان محمد بن نوح ليمتحن لولا أنه تلميذ الإمام أحمد وجاره .. كم من الناس يعذبون من أجلك يا أحمد؟!! ولكنه بلاء في الله يا أحمد!! بلاء في الله شديد!!
حتى إذا كانا في خان على الطريق، قابل أحد رواد حلقته أحد رواد حلقته في بغداد، وكان عزيزا لديه .. فقال له الإمام أحمد: "لقد تنيت" .. فقال الرجل: "ليس هذا عناء يا إمام .. أنت اليوم رأس الناس، والناس يقتدون بك". وأطرق الإمام أحمد وهو يتأوه .. أواه .. هنا العبرة يا بني .. أنا المسئول عن موقف الناس!!
وأضاف الرجل: "فوالله لئن أجبت بخلق القرآن، ليجيبن بإجابتك خلق من خلق الله". وهز الإمام أحمد رأسه وما تزال الدموع تبلل لحيته .. والرجل مستمر في قوله: "إن الخليفة إن لم يقتلك فأنت تموت، ولابد من الموت، فاتق الله ولا تجبهم بشيء." .. وارتفع صوت الإمام أحمد من خلال الدموع: "ما شاء الله ما شاء الله". ثم قال: "أعد علي ما قلت" فأعاد الرجل .. وهبت على الإمام أحمد نسمة من الرضاء بقضاء الله، جففت الدموع التي بللت لحيته فانطلق صوته الندي: "ما شاء الله ما شاء الله" .. وطابت نفسه بما كان قد صمم عليه .. ألا يجيب المأمون إلى ما يدعو إليه!!
واقترب الإمام وتلميذه محمد من طرطوس .. فإذا برجل يقبل إلى أحمد متهللا: "البشرى! لقد مات المأمون". كان أحمد قد دعها الله ألا يرى المأمون!! .. فلم يره قط! وأعيد أحمد وتلميذه محمد بن نوح إلى بغداد، وترفق رجال الشرطة بهما في الطريق، فما يدرون ما يكون شأن الإمام أحمد مع الخليفة الجديد؟! ربما أكرمه فباءوا هم بغضب الخليفة الجديد!.
وأحسنوا إلى الإمام أحمد وتلميذه محمد بن نوح .. ولكن محمد بن نوح الذي أضناه السفر تضعضع وخارت قواه، وعكف عليه أمامه يعالجه بلا جدوى، فقد نفد الزيت من المصباح، وحم القضاء .. وأمسك المناضل الشاب بيد أستاذ قائلا: "الله الله !! إنك لست مثلي. إنما أنت إمام يقتدي به، وقد مد الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك فاتق الله واثبت لأمر الله".
وسقط ميتا!!!
وما وعظ تلميذ أستاذ كما صنع محمد بن نوح مع الإمام أحمد بن حنبل..! ولكنه مات شهيدا دفاعا عما يؤمن به .. وبكاه الإمام أحمد أحر بكاء وصلى عليه .. وقال عنه: "ما رأيت أحدا على حداثة سنه وقلة علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح". عهد المأمون لأخيه المعتصم ـ وهو ابن جارية تركية ـ فتولى الأمر وكان المعتصم قوي الجسم حتى ليحمل حديدا يزن ألف رطل ويسير به خطوات! وكان على هذه القوة والبسطة في الجسم قليل الحظ من الثقافة .. حتى لقد أقصاه أبوه هارون الرشيد!
ولكن المأمون رأى أن جهاد أعداء الدولة يحتاج إلى رجل سيف في قوة المعتصم وحزمه وشدته، أوصاه بالإبقاء على ابن أبي دؤاد فترك له المعتصم شئون الدولة فأدارها الوزير على هواه .. أما المعتصم فوهب نفسه للحرب .. وكان أحمد بن أبي دؤاد حسن التأني حلو الحديث بارع النفاق، وكان على دراية بشيء من أخبار الأولين، وبأطراف من الثقافة لا يعرفها المعتصم، فاستطاع أن يستولي على عقل الخليفة، واستصدر أمرا بحبس أحمد بن حنبل في السجن الكبير ببغداد، وانشغل الخليفة المعتصم بتوطيد أركان الدولة فولى الأتراك مع أخواله.
وفي أول حكمه توالت أحداث غريبة ومبالغة: مات الإمام محمد الجواد فجأة كما ذهب من قبله إمام الشيعة أبوه الإمام علي بن موسى بن جعفر الصادق في ظروف مريبة .. ثم اتهم العباس بن المأمون بالتآمر على عمه المعتصم فقتل!
وفي السجن ترك الإمام أحمد شهورا تحت الأصفاد شهورا طوالا، ودسوا إليه خلالها عليه من يزينون له الاعتراف بخلق القرآن! .. وعادوا يذكرونه بجواز أن يقول المؤمن غير ما يؤمن به أو يسكت على ما ينكره من باب التقية فقال لهم: "إذا سكت العالم تقية والجاهل يجهل فمتى يظهر الحق؟. إن من كان قبلكم كان أحدهم ينشر بالمنشار ثم لا يصده ذلك عن دينه". دسوا عليه أكثر الناس تأثيرا عليه وأقرب الناس إليه: عمه!! ولكن بلا جدوى!
ثم عادوا يخوفونه بالتعذيب والضرب بالسياط .. وأنس إلى جار له بالسجن فقال له: ما أبالي بالحبس وما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلا بالسيف، وإنما أخاف فتنة السوط وأخاف ألا أصبر". فقال له جاره السجين: "لا عليك. فما هو إلا سوطان ثم لا تدري أين يقع الباقي". ومرت الشهور بعد الشهور والإمام أحمد في حبسه بين الترغيب والترهيب .. واحبه من في السجن، فأحاطوا به يلقون عليه المسائل فيجيب ويعلمهم مما علم رشدا .. وأكبره الجميع في السجن حتى السجانون.
أما خارج السجن، فقد كانت بغداد تموج بالسخط، على من سجنوا الإمام أحمد!. وتصاعدت نفثات التلاميذ والاتباع ورواد الحلقة، استنكارا لما حدث لإمامهم!. أما زملاؤه من العلماء والفقهاء الذين أجابوا المأمون لما أراد، فقد أسرعوا إلى مصانعة المعتصم، وكانوا يتمنون في أعماقهم أن يسقط الإمام أحمد كما سقطوا..! فلماذا يظل هو وحده دونهم نظيف الصفحات نقي السيرة مرتفع الهامة؟! وإن بعضهم على الرغم من كل شيء ليعاني من تأنيب الضمير .. وأرسل إليه أحد المعجبين به وهو شيخ في نحو التسعين ومن يقول له: "اثبت فقد حدثنا الليث بن سعد عن ..
عن أبي هريرة: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أرادكم على معصية الله فلا تطيعوه"
وانشرحت نفس الإمام أحمد، فهاهو ذا شيخ في التسعين يرسل إليه يشد أزره لا يبالي بحديث شريف لم يعرفه من قبل! فقام في السجن يؤذن بالصلاة وعرف ابن أبي دؤاد أن خصمه قد فتن كل من في السجن: المسجونين وحتى السجانين!! فأمر بنقله إلى سجن خاص في قبو بدار والي بغداد، ليكون وحده. وضاعفوا له القيود والأغلال وأقاموا عليه سجانين من شذاذ الخلق، من مماليك أتراك، فيهم الغلظة والغباء، والجهل باللغة العربية فلا يفهمون ما يريد إن هو طلب منهم شيئا: ماء أو نحوه!
وأرسلوا إليه من الفقهاء من يناظره، ولكنه لم يزد على ما قاله من قبل، وظل يرفض القول بخلق القرآن. ثم حملوه إلى دار الخلافة وهو يرسف في أغلال وقيود وسلاسل يكاد يسقط من تحتها..! .. فقد كانوا كلما مر عليه يوم، زادوا عليه في ثقل الحديد! وكان الوزير وقاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد قد أرسل إلى كل ولاة الأمصار باسم المعتصم يأمرهم أن يمتحنوا العلماء والقضاة والفقهاء في خلق القرآن، فمن أنكر منهم، حمل في الأصفاد مهانا إلى دار الخلافة ببغداد ..
ومثل أحمد أمام الخليفة وحوله حشد من العلماء والفقهاء المنافقين وابن أبي دؤاد .. وإذ بالإمام أحمد يرى في الأصفاد صديقا له من مصر، درس معه على الشافعي في مكة وبغداد .. وهو الآن فقيه عالم تقي مسموع الكلمة في مصر .. وقد سحبوه في سلاسل الحديث لأنه رفض القول بخلق القرآن! .. وكان أحمد منهكا مما عاناه، ولكنه حين شاهد صديقه الفقيه المصري تهلل قائلا: "أي شيء تحفظ عن أستاذنا الشافعي في المسح على الحفين عند الوضوء؟!" وانفجر ابن أبي دؤاد محنقا: "انظروا رجلا هو ذا يقدم لضرب العنق يناظر في الفقه؟!".
بدأ الخليفة يحاكم أحمد بن حنبل.
يحكي الإمام أحمد ما جرى في هذه المحاكمة: (قال المعتصم لأحمد بن أبي دؤاد: "أدنه" فلم يزل يدنيني حتى قربت منه. ثم قال: "أجلس". وقد أثقلتني الأقياد. فمكثت قليلا. ثم قلت: "تأذن لي في الكلام؟" فقال: "تكلم". فقلت: "إلام دعا الله ورسوله؟." قال المعتصم: "شهادة ألا إله إلا الله." فقلت: "فأنا أشهد أن لا إله إلا الله". ثم روى الإمام أحمد أن المعتصم قال له أنه لو لم يجده في يد من قبله لما عرض له. ثم سأل أحدا ممن كانوا حوله: "ألم آمرك برفع المحنة؟!". وأمر الفقهاء الموجودين فناظروا الإمام أحمد في خلق القرآن.
قالوا له: "ما تقول في القرآن" ما تقول في علم الله عز وجل فسكت، فقال بعضهم: "أليس قد قال الله عز وجل
{ٱللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}( الرعد ،الآية : 16 )
والقرآن أليس هو بشيء؟" فرد الإمام أحمد: "قال تعالى:
أفدمرت إلا ما أراد الله عز وجل؟ والله تعالى لم يسم كلامه في القرآن شيئا. يقول الله تعالى:
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (الأحقاف ، الآية : 24 )
فالقول ليس الشيء ولكن الشيء هو الذي يقول له الله. ويقول تعالى:
{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً}(يس ، الآية : 82 )
فالشيء ليس أمره وإنما هو ما يأمره .. وقال له بعضهم في الأثر "إن الله خلق الذكر أي القرآن". قال هذا خطأ. حدثنا غير واحد إن الله كتب (لا خلق) الذكر.
واحتجوا عليه بما رواه ابن مسعود: "ما خلق الله عز وجل من جنة ولا نار ولا سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي" فقال أحمد: "إنما وقع الخلق على الجنة والنار والسماء والأرض ولم يقع على القرآن. وكان أحمد بن أبي دؤاد أقنع المعتصم نم قبل، أن من رفض القول بخلق القرآن لا يحق له أن يجلس للناس، ليحدثهم أو ليفتيهم، في جامع أو في داره أو في أي مكان، بل هو مخالف للإسلام، يجعل القرآن قديما كالله تعالى، فهو مشرك يحل دمه!! وما عاد في أهل السنة بالعراق من يرفض الاعتراف بخلق القرآن إلا إمامهم أحمد بن حنبل وهو يزنهم جميعا!!
وكان الخليفة المعتصم لقلة حظه من العلم لا يريد أن يخوض في المسألة كلها، فكان يقول كلما اتهموا الإمام أحمد بن حنبل بالكفر: "ناظروه، ناظروه". فوثب أحمد بن أبي دؤاد مغيظا: "يا أمير المؤمنين هو والله ضال مضل مبتدع." وتتابع الفقهاء الحاضرون يشتمون الإمام أحمد بن حنبل فلم يعبأ الخليفة بهم وقال لهم: "ناظروه".
وكانوا كلهم قد ناظروه .. فاقبل ابن أبي دؤاد يناظره.
فلم يلتفت إليه الإمام أحمد.
فسأله الخليفة: "ألا تكلمه؟" فقال أحمد: "لا أعرفه من أهل العلم فأناظره .." ثم استطرد: "يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله عز وجل". فاقبل الخليفة يغري الإمام أحمد ويقول له: "والله إني عليه لشفيق. "ثم قال للحاضرين" والله إن أجابني لأطلقن عنه يدي ولأركبن إليه بجندي.
فلم يزد جواب أحمد على أن قال: "أعطوني شيئا من كتاب الله عز وجل" .. وقال الخليفة لأحمد: "ما أعرفك" فقال أحد الفقهاء الحاضرين وقد أنبه ضميره: "يا أمير المؤمنين. أعرفه منذ ثلاثين سنة يرى طاعتكم والحج والجهاد معكم." فقال المعتصم: "والله إنه لعالم وإنه لعالم وإنه لفقيه. وما يسوءني أن يكون مثله معي يرد عني أهل الشرك.
ثم قال: "يا أحمد أجبني إلى شيء فيه أدني فرج لك، حتى أطلق عنك يدي" فقال أحمد: "أعطوني شيئا من كتاب الله عز وجل." ولم يزد على ذلك!
وقام الخليفة مهموما، وأعيد أحمد إلى السجن وأرسلوا إليه من يناظره في السجن وينذره: "أن أمير المؤمنين قد حلف أن يضربك وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشمس. ويقول إن أجابني أحمد أطلقت عنه يدي."
فلم يجبه أحمد..!
وفي اليوم التالي أعيد أحمد إلى مجلس الخليفة المعتصم، وكان الوقت رمضان .. وأحمد قائم ليله صائم نهاره .. وقد أوشك الخليفة أن يطلقه لتهدأ عنه الثورة التي أوشكت أن تنفجر في بغداد غضبا للإمام أحمد.
فقال ابن أبي دؤاد: "يا أمير المؤمنين أن العامة تصدقه .. والعامة تقول أن أحمد بن حنبل قد دعا على المأمون فمات، إن العامة وهم حشو الأمة يصدقونه ويتبعونه بالحق والباطل. فإن تركته شجعت عليك العامة وخالفت مذهب المأمون، فيقول العامة أن أحمد غلب الخليفتين".
واستفز هذا الكلام المعتصم فقال: "ناظروه لآخر مرة". وناظروا أحمد في خلق القرآن وفي رؤية الله تعالى فاحتج عليهم بحديث صحيح: "أما أنكم سترون الله ربكم كما ترون هذا البدر "(وكان الرسول مع صحبه في ليلة البدر)! وشك ابن أبي دؤاد في صحة الحديث، فأكد الإمام أحمد صحة الحديث واستشهد بفقيه فقير، مشهور بالأمانة والعفة، يحسن رواية الأحاديث .. ولكنه كان فقيرا جهد الفقر لا يملك قوت يومه، وقد اعتزل الناس، واختفى طوال أيام الامتحان بخلق القرآن، فتركوه. وأسرع إليه بن أبي دؤاد وقد عرف من الجواسيس أين يختفي وسأله عن حاله، فلم يجد معه درهما .. وسأله عن الحديث الذي رواه أحمد في المناظرة أمام المعتصم .. فقال الرجل أنه حديث صحيح .. وألح عليه أن يكذب الحديث وقال أن مجلس الخليفة منعقد وهو ينتظر الجواب، والخليفة في حاجة إلى من يكذب هذا الحديث .. ثم أضاف .. هذه حاجة الدهر .. وأعطاه عشرة آلاف درهم، ومازال يلح حتى قال الرجل: "في الإسناد من لا يعول عليه"!
وأسرع به ابن أبي دؤاد يروي ما سمعه على الخليفة في المجلس!! ودمعت عينا أحمد أسفا على المحدث الفقير الذي انهار أمام الحاجة!! وأرجعوا أحمد إلى السجن .. ليعودوا به في اليوم التالي إلى دار الخلافة، فيمروا به على قاعات عديدة حشد فيها سجانون وسيافون غلاظ .. عسى أن يرهبه المنظر .. ويغريه الخليفة الآخر مرة، فيأبى أن يقر بخلق القرآن فيصرخ فيه الخليفة: "عليك اللعن خذوه واسجنوه".
فأخذوا الإمام فعلقوه، وظلوا يضربونه ويقولون له: "أجب" فلا يجب. صبرا يا أحمد .. إنه بلاء في الله شديد.!
واشتد به الوجع واللظى وهو صائم .. وأغمى عليه .. حتى إذا أفاق جاءوه بماء ليشرب. فقال: "لا أفطر".
وطرحوه على وجهه وداسوه بالنعال .. حتى أغمى عليه .. ورأوا دماءه تسيل فملئوا منه رعبا! وعندما أفاق أحمد، أخذ ينظر إليهم بلا اكتراث، ولكنها نظرات يخالجها الازدراء!! ويقول أحد الذين شاهدوا تعذيبه: "ما كنا في عينه إلا كأمثال الذباب". ومن خارج دار الخلافة، اجتمع الآلاف من محبيه وتلاميذه، حتى الذين لا يرون رأيه كانوا ينكرون في صراخ غاضب ما يحدث له. وتعالى هدير الاحتجاج والاستنكار .. وأغراه أحد الحاضرين أن يعترف لينجو من العذاب ويخرج إلى محبيه فقال: اقتل نفسي ولا اقتل هؤلاء جميعا".
ودخل أحد الفقهاء داره على بناته، فوجدهن يبكين ويطالبنه أن يذهب إلى المعتصم مستشفعا للإفراج عن أحمد بن حنبل .. وقال البنات لأبيهن: "أدركوا ابن حنبل قبل أن يضعف من التعذيب. فلأن يرسل إلينا نعي أبينا أهون علينا من أن نسمع أن أحمد بن حنبل قد أذعن!!". ووقف أحد الفقهاء بباب المعتصم يصرخ "أيضرب سيدنا؟! أيضرب سيدنا!؟ لا صبر لنا"وانفجرت الهتافات تلعن ابن أبي دؤاد والمعتصم نفسه! وأوشكت الثورة أن تشغل في بغداد، وكان المعتصم يعد العدة لجهاد الروم .. فلعن الجميع، وأمر أن يعفوه من كل هذا ليفرغ هو للحرب.
وأطلق سراح الإمام أحمد ..
وأعيد إلى بيته يعالج جراحه، ولزم داره مريضا منهكا .. وقيل له: سيعذب الله المعتصم فيك لأنه ضربك وأنت ساجد .. فذكر لهم قول الله تعالى: "وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله". وعندما علم أن المعتصم خرج ليحارب الروم فانتصر وفتح عمورية، فرح الإمام أحمد وقال!! عفا الله عنه بما جاهد في سبيله".
وقد عوتب الجاحظ عن موقفه من محنة أحمد فقال: "لو كان كل كشف هتكا، وكل امتحان تجسسا، لكان القاضي أهتك الناس لستر، وأشد الناس تتبعا لعورة". وكان تعليق أحمد على قوله الجاحظ: "عفا الله عنه". لقد ظل أحمد في سجن المعتصم نحو عامين ونصف عام، يضرب بالسياط ويعذب بالسيف، ويوطأ بالأقدام عندما يسجد في الصلاة .. ويغرونه خلال هذا التعذيب بكل طيبات الحياة إن هو .. عدل عن رأيه، وهو يهمهم لنفسه: إنه لبلاء في الله شديد.
وبعد أن شفي أحمد من آثار التعذيب، خرج إلى حلقته، فاستقبلته بغداد استقبال الفاتحين .. ولم يستطع أحد أن يمنع الناس عنه .. وعاد يحدثهم ويعلمهم كما عودهم من قبل. حتى إذا مات المعتصم، وتولى الواثق، حاول أن يسير سيرة المأمون .. وجمع إليه أهل العلم والفلسفة، وحفلت مجالسه بمناظرات علمية وفقهية خصبة .. وناظر هو نفسه في الطب والكيمياء والفلك والرياضيات. وكان مجلسه يجمع المثقفين من جميع الديانات.
ولقد حاولوا أن يغروا الواثق بالإمام أحمد ولكنه سئم هذا الأمر، وخشي الثورة، ورأى أن يترك الناس على آرائهم .. ثم أن القول بخلق القرآن صار مادة لعبث ظرفاء العصر، فقد دخل على الواثق أحدهم يقول به: "عظم الله أجركم في القرآن. فإن القرآن قد مات!". فنهره الخليفة الواثق قائلا: "ويلك! القرآن يموت؟" قال: "يا أمير المؤمنين ألستم تقولون إن القرآن مخلوق؟ فكل مخلوق يموت! فبم يصلي الناس التراويح؟". فضحك الواثق وقال: "قاتلك الله أمسك". حقا لقد سئم الناس، وسئم الحكام .. إلا أن ابن أبي دؤاد .. فمازال بالخليفة حتى استدعى الإمام أحمد فقال له: "لا تجمعن إليك أحدا ولا تساكني في بلد أنا فيه".
فاختفى الإمام أحمد، وحمل إلى الواثق فقيه من الأمصار اشتد في الهجوم على من يقولون بخلق القرآن .. وكان الرجل في الأصفاد، فأمره الخليفة أن يناظر ابن أبي دؤاد .. فقال الرجل: "شيء لم يدع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا الخلفاء الراشدون من بعده وأنت تدعو الناس إليه، ليس يخلو من أن تقول علموه أو جهلوه. فإن قلت علموه وسكتوا عنه، وسعني وإياك من السكوت ما وسع القوم. وإن قلت جهلوه وعلمته أنت، فيا لكع أين لكع، أيجهل رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون، وتعلم أنت!!". فوثب الواثق من مجلسه، وهو يردد كلام الرجل ضاحكا، وأمر بإطلاق سراح الراجل. ولم يعد الواثق إلى امتحان في خلق القرآن .. وانصرف إلى الحرب حتى مات ..
ومات الواثق وتولى ابنه المتوكل .. فاحسن إلى الإمام أحمد وحاول أن يصله بالمال .. ولكن الإمام أحمد ظل على عهده يرفض العطاء. على أنه رخص لأولاده في قبول عطاء الخليفة، وظل يعلم الناس حتى بلغ السابعة والسبعين، فمرض واشتد به المرض، وكان قد أصبح في عصره أوحد عصره حقا .. وقد ألف كبار رجال الدولة أن يخوضوا الطين إلى بيته الواقع في شارع ضيق مترب، موفدين من الخليفة يطلبون منه الرأي. وما كان يبخل بالرأي .. وقال عنه المتوكل: "لو نشر أبي المعتصم وقال فيه شيئا لم أقبله..".
ولم يطل المرض بالإمام أحمد بن حنبل .. فمات بعد أن ترك ثروة ضخمة من الأحاديث والفقه، وهو يوصي اتباعه وأصحابه أن يدعوا إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويذكرهم بأن الله تعالى قال لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون: "اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا" .. فالقول اللين واجب في الدعوة .. على أن اتباعه اشتدوا على الناس حين أزعجوهم وجعلوا الأجيال تنسب إلى الإمام ما ليس فيه..!
ولقد أمر المتوكل بالضرب على أيدي اتباع الإمام أحمد حين هاجموا أهل البدع من أصحاب الغناء والطرب ولاعبي الشطرنج .. وحين أفسدوا ملابس النساء بالحبر .. وكان الإمام أحمد قد رخص بهذا للسلطان إن خرج النساء متعطرات متزينات .. وكان النساء قد زحمن شوارع بغداد بملابس وعطور تثير الفتنة .. وملأن ليلها بالمغامرة!! فانتزع اتباع ابن حنبل سلطة الخليفة، وأخذوا لهم يعاقبون الناس .. فأمر الخليفة بأخذ اتباع الإمام أحمد بالشدة، وزج بهم في السجن، ولكنه قال في الإمام أحمد: "لقد عرف الله لأحمد صبره وبلاءه ورفع علمه أيام حياته وبعد موته. وأنا أظن أن الله تعالى يعطي أحمد ثواب الصديقين." ..
على أن الإمام أحمد تدبر قبل موته رأيه في خلق القرآن.
فذهب إلى أن من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر، وزعم أنه غير مخلوق فهو مبتدع .. فالقرآن بحروفه ومعانيه هو كلام الله غير مخلوق، وهو من علم الله، وعلمه غير خلقه، فالقرآن غير مخلوق، ولكنه حادث بحدوث التكلم ..
والأمر كله لا يستحق المحنة التي سقط بسببها شهداء كمحمد بن نوح، والبويطي الفقيه المصري تلميذ الشافعي، ونال بسببها بعض الفقهاء والعلماء تشهيرا أزرى بهم في عيون الناس، ونال فيها الإمام أحمد أبلغ الأذى .. فالقول بخلق القرآن أو عدم خلقه لا يحقق شيئا من مصالح العباد، ولا يقيم المجتمع الأمثل الذي هو هدف الشريعة!! على أن الإمام أحمد نال بسبب هذا الأذى مكانة كبيرة، فقد كان مثالا خارقا لصاحب الرأي الذي يناضل في سبيل رأيه .. فأكبره الذين يوافقونه والذين يخالفونه على السواء .. إلا الذين في قلوبهم مرض!
ومهما يكن من أمر، فقد واجه عصرا تشيع فيه البدع، فواجهه بالتشدد في الأخذ بالسنة في العقائد والعبادات. وهو عصر يطرح على العقل مستحدثات الأمور، فواجهه الإمام أحمد بالتيسير على الناس في المعاملات. وبهذا حض على الاجتهاد وحذر من التقليد. ولكن مناصريه من أهل السنة ضيقوا على الناس. ثم جاء من بعده اتباع أساءوا إليه، فافترى عليه التزمت، والتضييق وكل ما عاشه يناضل ضده!
وجاء آخرون اجتهدوا على طريقته وتمسكوا بالسنة في مواجهة البدع .. واتخذوا مثله مواقف صلبه فيما يعتقدون أنه الحق .. فأصابهم في ذلك بلاء شديد. ومن الإنصاف للإمام أحمد بن حنبل أن ينزهه الناس بما صنعه بعض الأراذل من اتباعه في العصور المتأخرة. فلا ينسب التزمت وضيق الأفق إلى هذا الإمام العظيم .. الذي كان متبعا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سماحة الخلق، ولين الجانب، والقول الحسن، والبر والورع والتقوى ونصرة المظلوم.
من الظلم أن يطلق على المتنطعين والجامدين وعلى كل فظ غليظ القلب: اسم الحنابلة .. فقد كان الإمام أحمد داعيا إلى الحركة، ومواجهة كل عصر بأحكام جديدة يقاس فيها على روح الشريعة، ويؤخذ بمقاصدها العامة .. وكان عدوا للتقليد والجمود، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، متبعا للسنة في كل شيء حتى في أخص دقائق الحياة ..
لقد ماتت أول زوجة للإمام أحمد وهو في الستين، فتزوج بعدها بأيام لأنه علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ تزوج لم يعش بلا زوجة .. وماتت الثانية وهو في السبعين، فتزوج بعدها بأيام من جارية له .. ثم أنه تعلم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل يجب ألا يعيش بلا امرأة!! وقد أصابه ابن أبي دؤاد بأبلغ الأذى، ولكنه عفا عنه بعد أن خرج من المحنة، ولم يسمح لأحد أن يجرحه أمامه، وبكى الإمام أحمد عندما علم أن ابن أبي دؤاد فجع بفقد ولده!! ..
ودعا الإمام أحمد لكل الخلفاء الذين أساءوا إليه ذلك أنهم جاهدوا في سبيل الله!. وحض اتباعه على تأييدهم .. لقد كان الإمام أحمد يعلم الناس قول الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ما جاء إلا ليتمم وليكمل مكارم الأخلاق .. من أجل ذلك احترم الإمام أحمد أهل الديانات السماوية التي سبقت الإسلام، لأن الرسالة المحمدية، ما جاءت إلا مكملة لها .. وأخذ نفسه وأصحابه بمكارم الأخلاق .. وعلم الناس أن هدف الشرائع جميعا ه العدل لقوله تعالى: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط".
ومن أجل ذلك طالب أهل الشرائع جميعا أن يسيروا في الناس بالعدل، وأن يناضلوا دفاعا عن العدل، فهو قوام الحياة وضمان الحرية، وحصن الإنسان. والإمام أحمد بن حنبل على الرغم من كل خلاف معه، إمام قد أغنى الفقه، ونفع الناس، وأقام السنة وردع البدع .. ولئن أساء إليه بعض اتباعه، فافترى عليه ما هو برئ منه، إنه سيظل بنصاعة سيرته، وصلابة اتباعه للسنة، علما من أعلام الفقه الإسلامي، ودعوة مستمرة إلى التجديد أخطأ أم أصاب ..
إنه واحد من أولئك العلماء العظام الذين اجتهدوا بعد عصر الصحابة والتابعين، واختلفوا في مناهجهم، فمنهم من خرج بسيفه على الحاكم الظالم كما صنع الإمام زيد بن علي .. ومنهم من دعا إلى إعمال العقل، وحض على التفكير في خلق السماوات والأرض، واستعمل معطيات العلوم والمعارف الكونية للاستدلال على حقائق الدين، كما صنع الإمام جعفر الصادق مع فهم دقيق معجز للقرآن والسنة ومقاصد الشريعة والعمل على تطبيق مبادئها في الحياة اليومية، حتى لقد رفض الخلافة ليتفرغ للعلم والفقه!
ومنهم من اتجه إلى الأخذ بالرأي وتوسع فيه وأفاد من النظر العقلي كالإمام أبي حنيفة النعمان، الذي لزم الإمام جعفر الصادق سنتين تعلم فيهما الكثير، وإن اختلفا من بعد، حتى قال أبو حنيفة النعمان "لولا السنتان لهلك النعمان". ومنهم من عول على الحديث وحده، ووجد في عمل أهل مدينة رسول الله أخذا بسنة رسول ثم اجتهد فتوسع في الأخذ بالمصلحة على خلاف غيره، كالإمام مالك بن أنس.
ومنهم من اتخذ منهجا وسطا بين الرأي والحديث في استنباط الأحكام وجعل سيرته الخاصة مثلا للبر والتقوى ولسماحة الإسلام وحضه على العدل والإحسان كالإمام الليث بن سعد إمام أهل مصر، حتى لقد كان يأتيه خراج ضيعة له بالفرما (بورسعيد الحالية وما حولها) فلا يمسه بل يضعه في صرر، ويجلس على باب داره ذات العشرين بابا ليوزعه على المحتاجين صرة بعد صرة، ويحسن إلى أقباط مصر اتباعا لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم، فيتخذ منهم الأصدقاء، ويحضهم على نقل ثقافة مصر إلى اللغة العربية، ثم يشتري بيتا من واحد منهم لحاجته إليه، فإذا علم أن صاحب البيت باعه لأنه محتاج بكى وترك له البيت والثمن، وأجرى عليه رزقا!. ثم أعلن في الناس أن ولي الأمر آثم إن ترك أحدا في دار الإسلام له حاجة!! ثم يستنبط من منهجه الوسط بين الرأي والسنة قواعد للمعاملات تقيم العدل بين الناس ..
ومن هؤلاء الأئمة العظام محسن زاهد عبد الله المبارك يترك الحج، ويتصدق بكل ما حمل من مال وزاد لفتاة حسناء تبحث عن وقتها وسط المزابل، خشية أن يغريها الشيطان بالبحث عن الطعام في وحل الخطيئة..!.
ومنهم من وضع أصول الفقه وحمل بين جنبيه معطيات السنة والرأي جميعا، وصحح مفاهيم الناس عن السنة والرأي، وجادل أهل الزيغ بمنطق العصر كما فعل الإمام الشافعي.
عاشوا كلهم في سنوات متقاربة، بفكر خصب، كحلقات ذهبية نادرة في سلسلة نورانية .. عاشوا كلهم خلال قرن واحد من الزمان، في أواخر العصر الأموي وأواسط العباسي، وعرفوا البلاء والمحنة فما وهنوا، وما نزلوا عن رأي، وما أحنوا رأسا، بل كانوا كمعدن الحديد تزيده النار صلابة، وكالذهب يكسبه اللهيب نقاء..! ..
ويالله كم نفتقدهم في مثل هذا الزمان!!
ومهما تختلف آراء هؤلاء الأئمة العظام فيما بينهم، فقد احتفظ كل واحد منهم باحترامه لصاحبه أو لمن سبقه، وبفضيلة العرفان .. فكانوا مثالا في أدب الخلاف .. كما كانوا بحق منارات! كلهم جاهد الظلم والقهر، ودافع عن حق الإنسان في الحرية والعدل والسعادة والحياة الكريمة الفاضلة .. وكلهم قاوم قاذورات عصره: من النفاق، والكذب، والزيف والاستغلال!
ومهما نختلف نحن معهم اليوم، فينبغي علينا أن نذكر لهم أنهم سلف صالح أغنوا الحياة الفكرية والفقهية باجتهاداتهم الخصبة، وينبغي علينا أن نتخذهم مثلا رائعة لما ينبغي أن يكون عليه رجل العلم والفقه والفكر .. ذلك أنهم ناضلوا بفكرهم الثري والرائد، ليحققوا المجتمع الذي أرادته الشريعة، وليجعلوا الإنسان على الصورة التي أرادها له الله تعالى حين قال لنبيه الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } ( القلم ، الآية : 4 )
صامت يطيل السكوت والتأمل، حزين يكاد لا يبتسم، وفي وجهه مع ذلك البشاشة وعلى قسامته الرضا، لا يتكلم إلا إذا سئل فلا يبتدر أحدا بحديث .. حتى إذا جلس في الحلقة بعد كل صلاة عصر في المسجد الجامع ببغداد، وسأله الناس في أمور الدين والدنيا انفجر منه علم غزير نافع يبهر السائلين! .. قال عنه بعض الفقهاء: "أنه جمع العلم كله". وقال عنه بعض العلماء: "إنه ليس من الفقه في شيء". وقال عنه الإمام الشافعي حين ترك بغداد إلى مصر: "تركت بغداد وما فيها أفقه ولا أعلم من أحمد بن حنبل". وفي الحق أن أحمد بن حنبل ظلم حيا وميتا.
أما حياته فقد كانت نضالا متصلا ضد الفقر، وضد عادات عصره .. فقد حملته أمه وهي حامل به من "مزو ـ حيث كان يعمل أبوه في جند الخليفة ـ إلى بغداد، ولم تكد تضع وليدها أحمد حتى مات والده ترك له عقارا عاشت من غلته هي والصغير .. حتى إذا شب الصغير وزادت مطالبه، عرفت أمه ضيق العيش، ولكن الأرملة الشابة رفضت أن تتزوج على الرغم من جمالها وشبابها وطمع الخطاب فيها، ووقفت حياتها على تربية وحيدها أحمد فأحسنت تربيته ودفعت به إلى مقرئ ليعلمه القرآن فختمه وهو صبي وظل حياته كلها يعاود قراءته والتفكير فيه ..
وعندما وثبت به الحياة إلى الفتوة وجد من حوله دنيا عجيبة حقا، تطغى فيها البدعة على السنة، ويشقى فيها عالم الأمر بجاهله، وتكتظ خزائن بعض الناس بالذهب والفضة بحيث لا يعرفون كيف ينفقونها، وعلى مقربة منهم يسقط بعض النساء والرجال في حمأة العار بحثا عن الحياة الأفضل أو عن الطعام وسط أو حال النفاق والخطيئة..! وأصوات خادعة أو مخدوعة تحبب الناس في الانصراف عن طيبات الحياة مما أحل لهم، باسم الورع أو الزهد، وتحضهم على ترك الحقوق لها ضميها أو مغتصبيها!..
ووسط هذه النداءات المنكرة التي لم يعرفها السلف قط، تزف عروس إلى ابن الخليفة الذي يجب أن يعيش كما يعيش أواسط الناس من رعيته، فإذا بكل رجل من المدعوين إلى حفل الزفاف من كبار القوم يسلم رقعة هي صك هبة: بضيعة وجارية ودابة .. فضلا عن الدار المنثور!!.. أما سائر الناس فتندثر عليهم الدنانير والدراهم وحقاق المسك والعنبر!! هكذا طالعت الدنيا شابا حفظ القرآن صغيرا وتدبر في أحكامه وتعلم علم الحديث، فما كان منه إلا أن أعلن إنكاره لهذا كله، وسمى كل ما يحدث بدعة ونذر نفسه لمقاومتها ولإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فاتهموه بالتزمت!
وهكذا عاش حياته..!
أما بعد موته فقد ابتلى ببعض اتباع نسبوا إليه ما لم يقل ولم يصنع وفرعوا على أصوله ما هو برئ منه، وأسرفوا على الناس حتى لقد كانوا يطوفون بمدائن المسلمين يغيرون بأيديهم ما يحسبونه بدعة، أو منكرا، ويغرضون ما يتخيلونه سنة، وغالوا في هذا حتى نال الناس منهم أذى وعنت، فكرهم الناس ونسبوهم إلى الحماقة وضيق الأفق وسخروا بهم، وأزروا على مذهبهم .. وأصبحت كلمة الحنبلى أو الحنابلة تعني التبلد والتحجر والتعصب المذموم!! ولقد كتب ابن الأثير يصف ما كان يحدث من نفر من اتباع الإمام أحمد سنة 323 من الهجرة: "وفيها عظم أمر الحنابلة، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء. واعترضوا في البيع والشراء. ومشى الرجال مع النساء والصبيان فإذا رأوا ذلك سألوا الرجل عن التي معه من هي فأخبرهم وإلا ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة فأزعجوا بغداد.".
وما كان الإمام أحمد ليزعج أحدا، وما كان فظا ولا غليظ القلب بل كان يجادل بالتي هي احسن وكان يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة إعمالا لكتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام .. وما كان الإمام أحمد متعصبا لرأي ارتآه بل كان يحاور، ويرجع عن رأيه إن تبين له ما هو أصح حتى لقد نهى عن كتابة فقهه لأنه كثير العدول عن آرائه..! وما كان ضيق الأفق، أو جامد الفكر، أو منقبا عن عيوب الناس .. وما كان الإمام أحمد من هذا كله في شيء. فقد كان من أوسع الناس أفقا، ومن أعمق العلماء إدراكا لروح الشريعة، ومن أكثر الفقهاء تحريرا لها من الجمود وتحررا بها في المعاملات.
ولكنه عاش في عصر تغشاه البدع ويسوده الترخص الذي قد يزلزل عمود الدين فكان عليه أن يأخذ الكتاب بقوة..! .. ولقد قال عنه أحد معاصريه: "ما رأيت في عصر أحمد بن حنبل ممن رأيت، اجمع منه ديانة وصيانة وملكا لنفسه، وفقها وأدب نفس، وكرم خلق وثبات قلب وكرم مجالسة وأبعد عن التماوت. ولد أحمد بن حنبل في بغداد عام 164 هـ من أبوين عربيين .. مات أبوه وهو طفل وترك له معاشا ودارا يسكنها هو وأمه وعقارا يغل غلة لهما قليلة..
وكان عمه يعمل في خدمة الخليفة الرشيد، ويجمع أخبار بغداد ويلمسها إلى والي البريد (الأمير المسئول عن البريد) ليوصلها إلى الخليفة إذا كان الخليفة خارج بغداد .. وانقطعت أخبار بغداد عن الخليفة فأرسل إلى الوالي يسأله، فسأل الوالي عم أحمد، وكان أحمد غلاما صغيرا، وكان عمه يرسله بالأخبار إلى الوالي .. فسأله عمه: "ألم أبعث الأخبار إلى الوالي؟ فقال: نعم، فقال عمه: "فلأي شيء لم توصلها؟" قال أحمد: "رميت بها في الماء! .. أأنا أوصل الأخبار؟!".
وحين سمع الوالي بما كان من أمر أحمد والأخبار قال: "إنا لله وإنا إليه راجعون .. هذا غلام يتورع، فكيف نحن؟". على هذا الورع نشأ أحمد بن حنبل، حتى أن نساء الجند الذين سافروا مع الرشيد في الغزو كن لا يجدن فتى غيره يثقن فيه، فيقرأ لهن رسائل الأزواج، ويملينه الردود .. ولكنه كان لا يكتب الكلام الفاحش الذي قد تمليه بعض الزوجات المشوقات إلى الأزواج..!
ولقد أدرك منذ نشأ أن أمه تعاني في سبيل توفير حياة كريمة له، وأنها ترفض الخطاب من أجله، فحرص على أن يعوضها، وبذل كل جهده في الدرس حتى حصل علوما ومعارف كثيرة في سن صغيرة معتمدا على نفسه. قال أحد جيرانه: "أنا أنفق على ولدي وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا، فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم .. انظروا كيف أدبه وعلمه وحسن طريقته!". على أن الفتى شعر أنه أصبح هما ثقيلا على أمه .. وإن كان قد احسن مكافأتها بانقطاعه على الدرس، وذيوع أمره بين الأساتذة والتلاميذ..
وكان أحمد قد رأى أمه تبيع درتين لتعينه على طلب العلم، فألي بينه وبين نفسه ألا يجشمها مالا بعد. وأراد أن يوفر لأمه ما ترك أبوه من غلة العقار الذي مات عنه وهو بناء كبير يحوي عدة حوانيت تغل كلها سبعة عشر درهما في كل شهر..! .. وكان في أحد هذه الحوانيت نساج فتعلم منه وعاونه، فقد حفظ أحمد فيما يحفظ من أحاديث أن أطيب ما يأكله الإنسان هو ما يكسبه من عمله .. وكان أحمد حفيا بالسنة حريصا عليها، من أجل ذلك حرص على ألا يأكل إلا من عمل يده..!
على أن عمل يده لم يكن يكفيه للطعام ولمواجهة أعباء الحياة، منذ صمم على أن ينزل لأمه عن غلة العقار الذي مات عنه أبوه، فلجأ إلى الاقتراض ولقد أدرك بعض دائنيه ضيق حاله فأبى عليه رد الدين قائلا: "ما دفعتها وأنا أنوي أن آخذها منك" فقال له أحمد: "وأنا ما أخذتها إلا وأنا أنوي أن أردها إليك". على أن الحياة كانت تثقل عليه بمطالبها في بعض الأحايين، فلا يجد طعاما .. فيذهب إلى المزارع والبساتين، ليلتقط ما نزل على الأرض خارجها من الثمرات .. وقد هدته تجربته الخاصة إلى أن هذا الزرع يجب أن يباح لمن يحتاج إليه .. وإلى هذا المبدأ انتهى في فقه .. على ألا يدخل ذو الحاجة ملك الغير ليأكل، إلا بإذن المالك ..
ولكم صقلته المعاناة وهدته إلى قواعد في الفقه وإلى أحكام وفتاوى!.. ذلك أنه كابد ضراوة الحاجة، وعرف أحوال الناس، واحتيالهم على الحياة، وذاق من البأساء، وعرف أهوال الأسواق..! وقد أكسبه هذا كله بصرا بالناس وفهما بالناس وفهما للدنيا، وتقدير لمتطلبات الحياة وضرورتها، ونبض كل أولئك فيما احدث من فقه ورأي .. ثم الرحلة في طلب العلم. ولكم لاقى في هذه الرحلات من أهوال!! قام بمعظمها على قدميه إذا لم يكن يجد أجر الدابة .. وعمل في بعضها حمالات ليعول لنفسه .. وعمل في بعضها نساخا، وكان حسن الخط .. وأكسبته كل هذه التجارب خصوبة فكر ..
وهو في كل ما يعرض له يرفض العطاء، ويصمم على ألا يأكل إلا من عمل يده .. كان كثير الرحلة إلى اليمن يطلب الحديث من أحد علمائها، ورأى الشافعي حين كان ببغداد رقة حال أحمد، وعناءه في رحلاته إلى اليمن، وكان المأمون قد طلب من الشافعي أن يختار له قاضيا لليمن فعرض الأمر على تلميذه أحمد، فأبى .. فلما ألح عليه الشافعي قال له أحمد: "إن عدت إلى هذا لا تراني أبدا".
بدأ أحمد في طلب الحديث وهو في مطلع الشباب .. في الخامسة عشرة من عمره .. وظل سبع سنوات يتلقى الحديث على شيوخه في بغداد، ثم سافر في طلبه وهو في مطلع شبابه في الثانية والعشرين .. سافر يلتمس الحديث عن شيوخ البصرة، فأقام عاما، ورجع بعده إلى الحجاز، وهناك سمع للشافعي بالمسجد الحرام، فقال لصحبه الذين قدموا الحجاز معه: "إن فاتنا علم هذا الرجل فلن نعوضه إلى يوم القيامة".
ثم عاد إلى بغداد، وعاد مرة أخرى إلى الحجاز .. وهناك سمع من الإمام مالك والإمام الليث بن سعد المصري وآخرين، ثم سافر إلى اليمن ليلزم شيخه عبد الرازق بن همام، وكان قد التقى به في الحج، ووجد عنده كثيرا من الأحاديث، فآثر أن يلزمه باليمن فيتلقى عنه .. ولقد حاول عبد الرازق أن يصله ببعض الدنانير، ولكن أحمد بن حنبل أبى .. وصمم على أن يكسب عيشه بعمل يده فاشتغل نساخا .. وتوالت رحلاته إلى خراسان وفارس وطرطوس .. وإلى كل مكان يسمع أن فيه راوية حديث..
كان أحمد قد تعلم الحديث أول ما تعلم من أبي يوسف أحد أصحاب أبي حنيفة .. وكان أبو يوسف قاضي قضاة الدولة، وله حلقة درس يعلم فيها الناس .. وقد بهر أحمد بعلم أبي يوسف، وأعجب بجرأته في الحق .. وكان أحمد لا يفتأ يذكر بإكبار ما صنعه أبو يوسف مع وزير الخليفة، إذ رد شهادة الوزير قائلا: "لا نقبل شهادة الوزير لأنه قال للخليفة أنا عبدك!.. فإن كان صادقا فهو عبد ولا تقبل شهادة العبد، وإن كان كاذبا أو منافقا، فلا شهادة لكاذب أو منافق!".
على أن أحمد بن حنبل على الرغم من إكباره لأستاذه أبي يوسف، لم يجد عنده كل ما يريد من حديث .. فقد كان أبو يوسف من أصحاب الرأي .. وأحمد بعد أن حفظ القرآن يريد أن يحفظ كل الآثار التي خلفها الثقات من رواة الأحاديث .. فما ترك أحمد أبا يوسف قاليا له، فقد شارك أبو يوسف في صياغة وجدان أحمد وضميره الديني والاجتماعي، ولكنه ترك بحثا عما عند غيره وهو على مودة معه. ودرس علي عبد الله بن المبارك، وكان فقيها واسع العلم، واسع الغنى في آن واحد .. ولقد حاول ابن المبارك أن يعين أحمد بن حنبل بالمال، ولكنه أبى وقال إنه يلزمه لفقهه وعلمه لا لماله، بل على الرغم من ماله!!
وقد تعود ابن المبارك أن ينفق كل دخله على الصدقات وطلاب العلم. وكان زاهدا .. والزهد عنده التقوى .. يعلم الناس أن العالم الذي يشيع علمه بين الناس افضل ألف مرة من الذي ينقطع للعبادة .. وقد حكى أحد معاصريه أنه رأى بعيرين يحملان دجاجا مشويا لسفرة ابن المبارك، وكان يطعم الناس الفالوذج، ويأكل هو الخبز والزيت، فإذا اشتهى طعاما ما طيبا لم يأكله إلا مع ضيف .. ويقول: "بلغنا أن طعام الضيف لا حساب عليه." .. وقيل له: "قل المال فقلل من صلة الناس" فقال: "إن كان المال قد قل، فإن العمر قد نفد." وكان يقول: "ليس يلزمني من الدنيا إلا قوت يوم فقط" .. من أجل ذلك أحب الناس عبد الله بن المبارك، والتفوا حوله حتى إنه قدم الرقة وبها هارون الرشيد، فاجتمع الناس وتزاحموا احتفالا به حتى "تقطعت النعال وارتفع الغبار"، فأشرفت زبيدة زوج هارون الرشيد من قصرها، فلما رأت زحاما لم تره قط سألت: "ما هذا؟" قالوا "الفقيه العالم عبد الله بن المبارك". فقال: "والله هذا هو الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي يجمع الناس إليه بالسوط والعصا والشرطة والأعوان" ..
وكان أحمد من المعجبين بالعالم عبد الله بن المبارك، كان معجبا بشخصه وبفقه وعلمه وبسيرته بين الناس .. وعبد الله بن المبارك هو أحد الذين أثروا في أحمد بن حنبل وفي تشكيل فكره وسلوكه ومواقفه .. فقد أدرك أحمد في مطلع شبابه مما تعلمه من ابن المبارك أن الدعوة إلى الفقر ليست زهدا، وإنما هي تمكين للأغنياء من المال، ليكون المال دولة بين الأغنياء .. وأن الزهد الحق هو ما سنه الرسول عليه الصلاة والسلام، وتابعه فيه أئمة الصحابة من بعده .. وليس الإعراض عما أحل الله، بل التعفف عن النظر أو التفكير فيما حرمه الله أو اشتهاء ما يكرهه .. الزهد هو التقوى.
تحمل أحمد المشقات، وخاض الغمرات، بحثا عن الأحاديث الصحاح يواجه بها ألوان البدع .. ثم إنه خرج إلى طرطوس مرابطا مستعداً للجهاد، ولبث فترة هناك ثم عاد إلى بغداد، فقد كان يرى الجهاد فريضة على كل قادر: الجهاد بالنفس أو المال أو بهما جميعا. كان العصر زاخر بالعلوم والمعارف، وكان الفقهاء من قبله يعنون بها ويتعلمونها، ولكنه لم يجد منهم أحد يتخصص في علوم الحديث، ويتوفر على الآثار وحدها، فوهب نفسه لإتقان علوم السلف فحسب، لأنه شعر بأن الأمة في حاجة إلى هذا التخصص.
وظل يرحل ماشيا في طلب الحديث إكبارا للغاية التي يسعى إليها أو عجزا عن النفقة، يحمل فوق ظهره متاعه وكتبه، ويؤجر نفسه للعمل إن نفد زاده .. حتى جمع آلاف الأحاديث، وهو ما يفتأ على الرغم من ذلك يجوب الآفات، حتى نحل جسده، فلامه في ذلك أحد أصدقائه قائلا: "مرة إلى الكوفة ومرة إلى البصرة ومرة إلى الحجاز ومرة إلى اليمن؟! .. إلى متى؟!" فقال أحمد: "مع المخبرة إلى المقبرة."
وما كان لينتهي مهما تكن المشقة .. فقد كان يطلب من الحديث علوم الفقه .. كان يطلب فقه الخلفاء الراشدين، وفقه سائر الصحابة، وفقه التابعين وتابعيهم بإحسان .. وقد جلس في رحلاته إلى الحجاز في مواسم الحج إلى كل فقهاء عصره .. في المسجد الحرام، وفي الحرم النبوي .. على أن أحدا لم يجذبه كما جذبه الشافعي!.. واتصلت بينهما المودة منذ لقيه لأول مرة في المسجد الحرام .. وكان أحمد في نحو الثانية والعشرين والإمام الشافعي يكبره بنحو ستة عشر عاما، ومع ذلك فقد أحس بأن الشافعي ليس أستاذا ومعلما فحسب، ولكنه أب أيضا..!
وعلى الرغم من أن أحمد بن حنبل درس في مطلع شبابه علي أبي يوسف وهو من أصحاب الرأي، ثم درس علي الشافعي ولزم فقهه وهو وسط بين أهل الحديث وأهل الرأي، فقد كان أحمد حريصا في حياته على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حرصا جعله يتشبه به في كل أمور الدين والدنيا، فما حفظ حديثا عن الرسول عليه السلام إلا عمل به .. وحتى قرأ أنه عليه الصلاة والسلام تسرى بمارية القبطية، فذهب إلى امرأته، وأعلمها بما علم، واستأذنها أن يتسرى، أسوة بالرسول صلى الله عليه وسلم فأذنت، فاشترت هي له جارية ترضاها..!
وهكذا كان في بره لأمه .. كان بالطبع برا تصنعه الفطرة، ثم اتباعا للسنة، فقد حفظ أحمد أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن أحق الناس بالرعاية فأجاب سائله "أمك" .. وأعاد السائل سؤاله مرتين: فأجابه: "أمك ثم أمك ثم أبوك" .. وفي الحق أن أحمد بن حنبل كان مدينا لأمه بكل شيء .. فقد رفضت أن تدخل عليه زوج أم، على الرغم من جمالها وشبابها وطمع الخطاب فيها .. ثم إنها لقنته منذ صباه كل ما حفظه من سير، وأحاديث، وقصص بطولات .. ورسخت في أعماقه منذ كان طفلا قيم الإسلام الفاضلة ..
فهي كأبيها من بني شيبان، وكانت تحفظ مفاخر قومها، وقصص العرب، ومآثر الرسول والصحابة وتلقنها وحيدها .. وهي التي اختارت له المكتب الذي يتعلم فيه القرآن، ثم الشيوخ الذين يجلس إليهم بعد أن حفظ القرآن، ليطلب عندهم الحديث والفقه. وكانت تخاف عليه وهو صغير برد الفجر إذا خرج إلى الدرس قبل الأذان .. وقد روى أحمد: "كنت ربما أردت البكور في الحديث فتأخذ أمي بثيابي وتقول: "حتى يؤذن المؤذن للفجر أو حتى يصبح الناس"..
حتى إذا كان في الخامسة عشرة، جاء إلى بغداد عالم عظيم، وأقام على الضفة المقابلة لدار أحمد بن حنبل، وفاض نهر دجلة وارتفع الموج حتى ترك الرشيد قصره ونزل بأهله وأمواله وحاشيته إلى سفائن له، ولكن طلاب العلم هرعوا إلى العالم على الضفة الأخرى في الزوارق .. وأبى أحمد حين دعاه زملاؤه إلى العبور قائلا: "أمي لا تدعني اركب الماء في هذا الفيضان" .. وترك العبور في حسرة، وعاد إلى أمه لتطمئن عليه..!
لكم كان برا بوالدته! .. رآها رفضت الزواج لكي تتفرغ للعناية به، فأبى هو الزواج ليفرغ للحدب عليها .. فما تزوج إلا بعد أن ماتت، وكان قد بلغ الثلاثين، لكيلا يدخل على الدار سيدة أخرى تنازع أمه السيادة على الدار!. وهاهو ذا في بغداد شاب جاوز الثلاثين، محفوف الشارب، مرسل اللحية، أسمر الوجه، تلوح في وجهه الأسمر سكينة وطمأنينة، ويشع من عينيه بريق حاد، نحيل الجسد، متوسط الطول، مثقل القلب بما يحدث من حوله .. كثير التأمل في أحوال الناس، مأخوذ بالبحث عن الخلاص، مشدود إلى الحقيقة، وإلى طريق العباد مما هم فيه..
وما أبشع ما هم فيه!
ذلك أنه منذ صباه شهد بغداد تزخر بألوان الثراء الثقافي والمادي وتتصارع فيها المذاهب الفكرية والفقهية والعلمية، وترتفع فيها القصور المحفوفة بالحدائق والزرع وجنات الفاكهة والريحان، وتفيض فيها الأموال والنزوات، وفي بغداد مع ذلك من لا يجد قوت يومه! .. وما بهذا أمر الله ورسوله!. فقد ورث المؤمنون عن الرسول موعظة يتحتم عليها أن يتدبروها: أنه ليس مؤمنا من بات شبعان وجاره جوعان! .. وكم في بغداد من بيت بين الناي والعود والعزف والشراب والطعام والقصف، والجيران جياع..!!
ثم إن بغداد التي مازالت لياليها تضيء بآثار السلف الصالح، وبالتماعات أفكار المجتهدين، بغداد هذه تجللها المعصية والمظالم .. إذ شاع الانحراف، وظهر الغزل بالمذكر!! وقد أحرق أبو بكر الصديق من قبل قوما تعاطوا هذا المنكر في الشام!! ثم إن أموال الدولة تنفق بلا حساب على الندامى والمغنيات وأهل الطرب والمضحكين والمنافقين..!!
وهذه الدولة العظيمة التي تحكم العالم، وتصوغ حضارة لم يعرفها التاريخ من قبل، وتسخر عقول المفكرين والعلماء فيها كل شيء لراحة الإنسان، وتقتحم هذه العقول عوالم الأفلاك في جسارة نادرة لتصبح الطبيعة أمام الإنسان كتابا مفتوحا، طاقاتها ميسرات لفكره .. هذه الدولة التي حملت كل المعارف والكتب التي وجدتها في البلاد المفتوحة، فعربت كل معطيات الحضارة المصرية واليونانية والفارسية والهندية، وأضافت إليها .. هذه الدولة نفسها لا تقيم العدل كما يجب .. وتسمح لنفسها بأن تقتل اكبر شعرائها بشار بن برد، لأنه نقد الخليفة المهدي وقال عنه "خليفة الله بين الزق والعود" .. فتحرق الدولة أشعاره وتفتري عليه ما لم يقله، لتتهمه بالإلحاد والزندقة، وتضربه حتى يموت!!
وهذه الدولة تسمح لامرأة الرشيد بأن تتدخل في القضاء!! .. ذلك أن وكيل امرأة الرشيد اشترى لها جمالا من رجل من خراسان بثلاثين ألف درهم، وكان الخراساني قد ساق الجمال ليبيعها في بغداد. واستلم وكيل امرأة الرشيد الجمال، وماطل في دفع الثمن، وعطل الخراساني عن السفر .. ثم أعطى الخراساني ألفا ولم يدفع الباقي .. فشكاه الخراساني إلى القاضي، فأمر الوكيل بأداء باقي الثمن، ولكنه قال إنه على السيدة أم جعفر امرأة الرشيد، فقال له القاضي:
"يا أحمق! تقر ثم تقول على السيدة؟!" .. وأمر القاضي بحبس الوكيل.
وعلمت امرأة الرشيد فقالت للرشيد: "قاضيك هذا أحمق. حبس وكيلي واستخف به، امنعه من نظر القضية" فأجابها الرشيد، وأطلق سراح وكيلها، ووجه إلى القاضي يمنعه من النظر في الدعوى!! .. ثار القاضي حين علم بإطلاق سراح الوكيل، فلزم بيته، وامتنع عن حضور مجلس القضاء .. ولكنه حين علم أن الرشيد سيمنعه من نظر الدعوى، خرج من داره، وأرسل إلى الخراساني أن يحضر شهودا ويلحق به في مجلس القضاء .. وجلس القاضي ينظر في الدعوى ويسأل الشهود ويستجلي بينات الخراساني .. وحكم للخراساني بالمال كله .. وأخذ يسجل الحكم..
ثم جاء خادم أم جعفر امرأة الرشيد يقول للقاضي: "عندي لك كتاب من أمير المؤمنين" فقال له القاضي: "مكانك نحن في حكم شرعي .. مكانك حتى نفرغ منه". فقال الخادم: "كتاب أمير المؤمنين" فقال القاضي: "اسمع ما يقال لك".
ومضى القاضي يسجل الحكم وأسبابه حتى فرغ، فأخذ كتاب أمير المؤمنين، وكان فيه كما يعلم قبل أمر بتنحيته عن نظر القضية .. فلما قرأ القاضي كتاب الرشيد قال للخادم: "أقرئ أمر المؤمنين السلام، وأخبره أن كتابه ورد وقرأته وقد أنفذت الحكم". فقال الخادم: "قد عرفت والله ما صنعته. أبيت أن تأخذ كتاب أمير المؤمنين حتى تفرغ مما تريد .. والله لأبلغن أمير المؤمنين بما فعلت" قال القاضي: "قل له ما أحببت".
كان أحمد بن حنبل يتأمل في التدخل في القضاء ويتألم!! ترى كم من القضاة يستطيع أن يصنع كما صنع القاضي حفص بن غياث..؟! من الحق أن الرشيد ضحك عندما سمع ما فعله القاضي حفص بن غياث، وأمر له بجائزة قدرها ثلاثون ألف درهم مما جعل القاضي يقول: "الحمد لله كثيرا من قام بحقوق الشريعة ألبسه الله رداء المهابة" .. ولكن الخليفة لم يعاقب وكيل امرأته، لأنه حاول أخذ الجمال من الخراساني دون أن يدفع ثمنها .. ولم يمنع امرأته من التدخل في القضاء! ومن يدري فربما كانت هناك مظالم كثيرة أخرى لم يتقدم بها أصحابها إلى القضاء .. أو لعل من القضاة من لم يغامر كما غامر القاضي حفص!
هكذا كان أحمد بن حنبل يرى صور الفساد ويأسى ويفكر في الخلاص .. فالحكام يسرقون ويقطعون يد السارق .. ومن العلماء من ينهي عن المنكر ويقترفه .. حتى صح فيهم ما قاله ذو النون المصري: "كان الرجل من أهل العلم يزداد بعلمه بغضا للدنيا وتركا لها. واليوم يزداد الرجل بعلمه حبا للدنيا وطلبا لها .. كان الرجل ينفق ماله على علمه واليوم يكتسب الرجل بعلمه مالا. كان يرى على صاحب العلم زيادة في باطنه وظاهره واليوم يرى على كثير من أهل العلم فساد في الباطن والظاهر."
لا إلا باللجوء إلى السنة واتباعها .. وإلا بالتأسي بسيرة السلف الصالح، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون. بما فيهم علي بن أبي طالب. وكان أحمد يعرف أن أشد ما يغيظ حكام بني العباس هو نشر فقه الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .. ذلك أن كثرة الثناء على الإمام علي، يثير بني أمية، ثم على خلفاء بني العباس، وحدثت فيهم من أجل ذلك مقاتل عظيمة .. ومن لم يقتل من بني علي .. عاشوا يرسفون في أغلالهم تحت الأبراج.
وكان فقه الإمام علي بن أبي طالب وأقضيته، في صدور قلائل من العلماء أكثرهم من الشيعة. ثم أذاع آراءه وأفكاره منها بنو العباس أبناء عمومته في محاربة مظالم بني أمية .. ولكن بني العباس خشوا أن يستعملها المعارضون في نقدهم، وخافوا أن يكتسب بها المعارضون حب الناس وتأييدهم .. وهكذا أخفى حكام بني العباس أقضية الإمام علي وفتاواه وفقهه .. واستخفى بها الصالحون!! .. وكان العباسيون كالأمويين لا يطيقون معارضة .. فما ترتفع رأس بالشكوى أو النقد أو الاعتراض، حتى يهوى على عنق صاحبها سيف الجلاد، أو يخرس لسانها في غيابات السجون تحت وطأة عذاب غليظ أليم شديد..!
ولكن أحمد بن حنبل ما كان يستطيع أن يتجاهل سيرة علي بن أبي طالب ولا أفكاره لتكون من بعد سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لمن يريد أن يعتبر بآثار السلف الصالح. بحث الإمام أحمد عن فقه وأقضية الخلفاء الراشدين، فأعجب بما عرفه من فقه الإمام علي كرم الله وجهه، وبدأ ينشره ويستشهد به .. فوجد عليه خلفاء بني العباس وجدا شديدا، وأهمهم أمره!! ولكنهم لم يظهر الغضب عليه، فما كان أحمد يعمل بالسياسة، وما كان رأيه في الخلافة ليزعجهم، بل إن هذا الرأي على النقيض يرضي خلفاء بني العباس. ذلك أن أحمد كان يرى وجوب طاعة الخليفة ولو كان فاجرا .. فطاعة الفاجر عنده خير من الفتنة التي لا تصيب الذين ظلموا خاصة بل تصيب معهم الأبرياء، وتضعف الدولة فيطمع فيها أعداء الإسلام!!
وكان لا يشترط لصحة الخلافة إلا أن يكون الخليفة من قريش وإلا أن يبايعه الناس. والبيعة شرط جوهري لقوله تعـالى: { وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } (الشورى،الآية:38)فإذا تغلب أحد على منصب الخليفة وإن لم تكن الخلافة حقا له، وبايعه الناس بالخلافة، وجبت طاعته أيا ما يكن أمره من العدل أو الظلم والفجور أو التقوى .. ويقول أحمد في ذلك: "السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر، ومن اجتمع عليه الناس ورضوا به ومن غلبهم بالسيف وسمى أمير المؤمنين، والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة البر والفاجر .. ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كان الناس قد اجتمعوا عليه، "وأقروا له بالخلافة بأي وجه من الوجوه كان، بالرضا أو بالغلبة، فقد شق الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم."
وهو مع ذلك لا يقر السكوت عن الخليفة الظالم، ولكنه يرى أن النصح له أولى من الثورة عليه..! .. وهو يرى النصح فرض كفاية على كل أصحاب الرأي والعلم، فإن قام به بعضهم سقط الفرض الشرعي عن الجميع، وإن لم يقر به أحد أثم الجميع .. ومن عجب أن أحمد الذي فرض على الناس طاعة الخليفة وإن كان فاجرا، نأى بنفسه عن الاتصال بالخلفاء، ورفض أموالهم، وأبى أن يتولى منصبا في ظل أحدهم على الرغم من حاجته الملحة إلى المال .. لأنهم ظالمون!!
وقد هاجم بعض المفكرين من معاصري أحمد آراءه في الخلافة .. واتهموه أنه ينسب إلى الرسول والصحابة نقيض آرائهم، فالرسول يأمر أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ويحذر المسلمين أن يسكتوا على الظلم والفجر، لأنهم إذا سكتوا عنه عمهم الله بالعقاب .. والصحابة قوموا أولياء الأمر منهم وردوهم إلى الصواب .. ثم إن هؤلاء المفكرين اتهموا أحمد بالدعوة إلى الإذعان والرضا بالظلم وبالمعصية ..
غير أن أحمد رد عليهم أن خير التابعين عاشوا تحت مظالم الأمويين فلم يدعوا الرعية إلى الخروج عليهم .. وهو إنما يدعو إلى الطاعة مع استمرار النصيحة، لا إلى السكوت عن المظالم .. وإذا كانت طاعة الحاكم الظالم ظلما، فالخروج عليه ظلم أفدح، لأن الخروج مجلبة للفتنة، وفي الفتنة تنتهك الحرمات، وتهدر دماء الأبرياء كما حدث في كل الثورات في العصر الأموي والعباسي..! ومهما يكن من شيء، فما تجرأ أحد من معاصري أحمد على اتهامه بأنه ينافق الخلفاء، ولكنهم عابوا رأيه، واعتبروه خطأ في تقدير ضررين أيهما أقل، وأيهما أكثر فيدفع..
على أن الإمام أحمد بن حنبل لم يكن بدعا في هذا الرأي، بل كان فيه متفقا على نحو ما مع ما أفتى به الأئمة الثلاثة من قبله: أبو حنيفة النعمان، ومالك ابن أنس، والشافعي، فكلهم رأى أن طاعة الحاكم الظالم مع توجيه النصح له، خير من الثورة عليه لما يصاحب الثوارت من عدوان على الأنفس والحريات والأموال .. إلا الإمام أبا حنيفة، فقد أيد ثورة الإمام زيد ابن علي وأوشك أن يخرج معه مجاهدا ضد مظالم الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك ..
وعلى الرغم من أن ابن حنبل كان شديد التأثر بالشافعي، فقد اختلفا في بعض شروط الخلافة، فالشافعي يجعل العدالة شرطا لصحة الخلافة .. وإن لم يؤيد الثورة على الخليفة إن كان ظالما. والجدير بالذكر أن الإمام الليث ما كان يشترط أن يكون الخليفة عربيا .. ولكنه اشترط العدالة والبيعة..!
انصرف أحمد يجمع السنن وآثار الصحابة، ويبحث من خلالها عن أحكام تنقذ الناس من الضلال .. وكان يجمع ما رواه الصحابة من أحاديث، كل على حدة، ويسند إلى الصحابي ما رواه .. فكان لابد أن يجمع ما رواه الإمام علي بن أبي طالب لا يبالي في ذلك أن يتهمه أحد بالتشيع أو بالميل إلى العلويين .. وفي الحق أنه ما كان متشيعا ولا صاحب ميل للعلويين .. ولكنه تعلم من أستاذه الشافعي أن الإمام علي كان أحق بالخلافة من معاوية، وأن معاوية كان باغيا، ودافع أحمد عن رأي أستاذه في مواجهة منتقديه .. وقد روى أحمد عن أستاذه الشافعي: "قال رجل في علي: ما نفر الناس منه إلا أنه كان لا يبالي بأحد. فقال الشافعي كان في علي كرم الله وجهه أربع خصال لا تكون منها خصلة واحدة لإنسان إلا يحق له ألا يبالي بأحد، كان زاهدا، والزاهد لا يبالي بالدنيا وأهلها، وكان عالما، والعالم لا يبالي بأحد، وكان شجاعا والشجاع لا يبالي بأحد، وكان شريفا والشريف لا يبالي بأحد. وكان علي كرم الله وجه قد خصه النبي صلى الله عليه وسلم بعلم القرآن، لأن النبي عليه الصلاة والسلام دعا له وأمره أن يقضي بين الناس. وكانت قضاياه ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيمضيها."
وقد رأى أحمد بن حنبل أن اتباع أحكام الإمام علي سنة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر جميع أحكامه، فكأنه هو الذي حكم .. ثم أنه قد خصه بعلم القرآن .. وعجب علماء الشيعة والمفكرون الذين يؤيدونهم لأمر الإمام أحمد.! لقد حسبوه عدوا لهم، وعدوا للإمام علي منذ أفتى بأن طاعة الحاكم واجبة حتى إن كان ظالما أو فاجرا، والثورة عليه خروج على الإسلام!. وكان الشيعة يرون أنه لا طاعة لحاكم ظالم، ويجب على الرعية أن تثور عليه، فإن سكتوا عنه فليس سكوتهم طاعة له واجبة، بل اتقاء لظلم أفدح، وانتظارا للفرصة المناسبة .. وإذن فرأى أحمد بن حنبل أن طاعة الخليفة الظالم الفاجر واجبة شرعا، وأن الثورة عليه مخالفة للسنة، إنما هو إدانة للشيعة ولإمامهم الحسين بن علي سيد الشهداء رضى الله عنه، وموافقة على مقاتل الطالبيين، وشرها تلك المذبحة الوحشية الفاجرة في كربلاء..!!
ما بال أحمد يسند بفتواه قتلة الإمام الحسين، وقتلة الإمام زيد، وغيرهم من أئمة الشيعة، ثم هاهو ذا يمدح الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ويعتمد على فقهه؟!! كان اللجاج شديد في ذلك العصر بين دعاة الحرية السياسية والاجتماعية من حماة العدل وبين غيرهم من الفقهاء .. ومن أجل ذلك اشتدوا على أحمد ابن حنبل، لأنه كان يرى الطاعة للحاكم الظالم الفاجر، ويرى الخروج عليه مخالفة للسنة .. فهو إذن يؤيد الظالم الفاجر يزيد بن معاوية، ويرى أن خروج الحسين كان مخالفة للسنة!!.. وهذا رأي فاسد!..
وفي الحق أن أحمد ما رأى ذلك وما أفتى به .. فقد كان يرى معاوية باغيا على الإمام علي كرم الله وجهه خرج عن طاعته وثار عليه، فهو مخالف للسنة .. أما عن خلافة يزيد بن معاوية، فإن أحمد بن حنبل يرى أن معاوية أكره الناس على هذه البيعة .. ولا إكراه في البيعة، وليس على مستكره يمين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وما كان أحمد بن حنبل من الذين يخوضون غمرات الصراع السياسي المتأجج، ولكنه كان يقول ما يؤمن به اتباعا للسنة مهما يكابد في سبيل رأيه، فهو أحرص الناس على التأسي برسول الله، وكان يقول "صاحب الحديث من يعمل به." .. وما كان يجيز طعن الصحابة من الخلفاء الراشدين، كما يفعل بعض غلاة الشيعة، وكان هذا سببا آخر لخلاف هؤلاء معه .. وقد تحدث أمامه جماعة من الناس فذكروا خلافة علي بن أبي طالب وتناولوا أمير المؤمنين بالتجريح، فتغير وجه أحمد وقال لهم: "من طعن في علي كرم الله وجهه فهو مخالف للسنة، وليس للسلطان أن يعفو عنه" .. ثم رفع رأسه وقال: "إن الخلافة لن تزين عليا بل علي زينها".
ولقد سئل أحمد عن حق علي في الخلافة فقال: "لم يكن أحد أحق بها في زمن علي من علي! ورحم الله معاوية!". وسئل عن تأييد أم عائشة لطلحة والزبير ضد علي فقال: "أكان طلحة والزبير يريدان أعدل من علي رضوان الله عليهم أجمعين؟". وسمع أحد غلاة الشيعة بهذا فقال: "هذه الكلمات أخرجت نصف ما كان في قلبي على أحمد بن حنبل من البغض". وقد بنى أحمد آراءه في قتال أهل البغي على سيرة الإمام علي كرم الله وجهه، متبعا في ذلك رأى الإمام الشافعي، فلما عاتبه أحد أصحابه قال: "ويحك" .. يا عجبا لك! فما عسى أن يقال في هذا إلا هذا؟! وهل ابتلى أحد بقتال أهل البغي قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؟"
وفي الحق أن الشافعي أثر في أحمد كما لم يؤثر أستاذ في تلميذه. حتى لقد قال أحمد بعد أن أصبح إماما كبيرا: "إذا سئلت عن مسألة لا اعرف فيها خبرا (أي حديثا أو أثرا عن الصحابة) أخذت فيها برأي الشافعي."
وقد بلغ تقديره للشافعي أنه أنكر على شيوخه أن يكتبوا فقههم في كتب .. إلا الشافعي .. أنكر على مالك كتابة الموطأ وقال عنه: "ابتدع ما لم تفعله الصحابة رضى الله عنهم" وقرأ كتب شيخه أبي يوسف، وكتب محمد ابن الحسن، وأنكر عليهما أنهما كتبا فقههما .. وأبى على أصحابه أن يكتبوا آراءه أو فقهه هو نفسه .. ولكنه عندما وصله كتاب الرسالة الجديدة الذي وضعه الشافعي في مصر، وبهر بالرسالة، وقرأها على أصحابه .. وحضهم على تعلمها، واحتفظ بها في خزانة كتبه كما يصون كنزا .. وهكذا صنع مع كل كتب الشافعي التي وضعها في مصر، وهي كتب تأثر فيها الشافعي إلى مدى بعيد بفقه الليث بن سعد إمام أهل مصر. ولقد حمل أحمد عن الشافعي تقدير كبير للإمام الليث، فكان لا يذكره إلا بالتقدير.
وقد كان أصحاب أحمد يعرفون ميله للشافعي وإكباره إياه .. وكان هو يوصيهم بقراءة كتب الشافعي قائلا إنه "ما من أحد وضع الكتب منذ ظهرت اتبع للسنة من الشافعي". وكان الشافعي يبادله هذا التقدير، وقد عده الشافعي من العجائب: "ثلاثة من العلماء من عجائب الزمان: أعرابي لا يعرف كلمة وهو أبو ثور (وكان كثير اللحن)، وأعجمي لا يخطئ في كلمة وهو الحسن الزعفراني، وصغير كلما قال شيئا صدقه الكبار وهو أحمد ابن حنبل".
كما قال عنه الشافعي: "رأيت في بغداد شابا إذا قال!! قال الناس كلهم صدقت." قيل من هو قال: "أحمد بن حنبل" .. وقال عنه: "خرجت من بغداد، وما خلفت فيها رجلا افضل، ولا أعلم، ولا أفقه، ولا أتقى، من أحمد بن حنبل". وكان أحمد يضع شيخه في أعلى مكان، ويقول إن الله يبعث على رأس كل مائة عام إماما صالحا من عباده، يحيى به السنن ويرفع شأن الأمة، وقد كان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى، وعسى أن يكون الشافعي على رأس المائة الثانية". على أن أحمد بن حنبل، منذ وقف يتدبر أحوال المسلمين، ويتلمس طريق الخلاص، ووسيلة لتحقيق مقاصد الشريعة، التمس طريقا يستنبط به الأحكام، فلم يجد افضل من أصول فقه الشافعي.
اجتمعت لأحمد خلال رحلاته عشرات الأحاديث النبوية، فأخذ يرويها للناس ويعمل بها .. وتأدب بأدب الرسول .. روى الحديث: "كل معروف صدقة ومن المعروف أن تلقي أخاك بوجه طلق" .. فكان لا يلقي الناس إلا مبتسما، ويقدمهم عليه إذا مشوا في طريق، أو دخلوا مكانا أو اصطفوا لصلاة الجماعة .. ويروي أحد أصحاب أحمد أنه دخل معه مكانا، فإذا بامرأة معها طنبور (آلة للعزف)، فكسر صاحب أحمد الطنبور، وسئل أحمد عن ذلك فيما بعد فقال: "ما علمت بهذا، وما علمت أن أحداً كسر طنبورا بحضرتي إلى الساعة". ذلك أن أحمد ترك المكان مستنكرا الأمرين جمعيا: عزف المرأة على الطنبور، وعدوان صاحبه عليها! .. فهو يكره لأصحابه أن يغلظوا، ويطالبهم حين يأمرون بالمعروف، أو ينهون عن المنكر أن يتبعوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما علمه الله تعالى:
{ ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } (النحل،الآية:125) .
وكان أحمد يكره الشطرنج ويراه لهوا يصرف الناس عن جد الأمور فسمع أن صاحبا له دخل على جماعة، حول رجلين يلعبان الشطرنج فطوح به ونهر الجماعة، فغضب الإمام أحمد لما صنعه صاحبه بأصحاب الشطرنج..! كانت سماحته تسع الذين يسيئون إليه مهما تكن الإساءة فادحة! .. وشى به رجل إلى الخليفة، وزعم أن ثائرا علويا يختفي في داره .. ولو صحت الوشاية لقتل الإمام أحمد بإخفاء الثائر العلوي. فلما تبين للخليفة كذب الوشاية أرسل الواشي مصفدا إلى أحمد، ليفتي برأيه في عقابه فقال أحمد: "لعله يكون صاحب أولاد يحزنهم قتله!".
وهكذا أخذ أحمد نفسه بالتأدب بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم .. وكان يقول: "إذ أردت أن يدوم لك الله كما تحب، فكن كما يحب". إن أبرز ما يميزه لهو التواضع .. قال له أحد الناس "جزى الله الإسلام عنك خيرا فغشاه الحياء .. جزى الله الإسلام عني خيرا؟ ومن أنا؟! ومن أنا؟!". عرف شيوخه منه هذا التواضع منذ كان يطلب عليهم العلم، فأشادوا به.
ذات يوم ضاق أحد شيوخه بالطلاب في الحلقة، وغاظه عجزهم عن فهم الدرس، فصاح الشيخ: "ألا تفقهون؟" فقال الطلاب: "كيف لا نفقه وفينا أحمد بن حنبل". فقال الشيخ "أين هو؟" ودخل أحمد فقالوا: "هاهو ذا" وجلس أحمد حيث انتهى به المجلس كما تعود، وكما عاش يفعل إلى آخر العمر، فقال الشيخ لأحمد: "تقدم يا أحمد" فقال أحمد: "لا أخطو على الرقاب". فصفق الشيخ فرحا: "الله اكبر .. هذا أول الفقه".
على أن تواضع أحمد وحياءه لم يمنعاه من الجهر بالحق .. بل كان على النقيض شديد على الباطل، لا يبالي في ذلك لومة لائم .. لاحظ أن بعض الفقهاء يفضلون العباس على الإمام علي بن أبي طالب، نفاقا للخلفاء والأمراء من بني العباس .. وسمع أحمد بن حنبل، هذا الفقيه يذكر الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجه بما لا ينبغي، ويشكك في حقه في الخلافة، فأنبري أحمد يقول للفقيه على مشهد من الناس: "من لم يثبت الإمامة لعلي فهو أضل من حمار..! سبحان الله! .. أكان علي كرم الله وجهه يقيم الحدود ويأخذ الصدقة ويقسمها بلا حق وجب له!؟ .. أعوذ بالله من هذه المقالة .. بل هو خليفة رضيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلوا خلفه، وغزوا معه، وجاهدوا، وحجوا، وكانوا يسمونه أمير المؤمنين راضين بذلك غير منكرين، فنحن له تبع" .. ثم قال: "ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه".
وعلى الرغم من أن أحمد بن حنبل كان يرى أول الأمر أن طاعة الخليفة واجبة وإن كان ظالما أو فاجرا، ألا أنه عدل عن رأيه عندما ما أنضجته التجربة فيما بعد .. فعاد واعتبر طاعة الخليفة الظالم لونا من النفاق يجب أن يبرأ منه المؤمن!
ذلك أنه سمع قصة عن شيخه عبد الله بن المبارك ظلت تضنيه إلى آخر العمر .. فكانت دموعه تفيض من الندم ومن الرحمة والإشفاق، كلما تذكر ما حدث لأستاذه عبد الله بن المبارك .. وهو الأستاذ الذي لزمه أحمد وإن لم يره قط .. فقد كان كلما لحق به في مكان ليسمع منه، وجده قد رحل عنه، حتى مات الشيخ، فلزم أحمد آثاره وفقهه وتتبع سيرته واهتدى بها، وسمع أحمد فيما سمع أن شيخه ابن المبارك مر وهو في طريقه إلى الحج بمزبلة قوم، فرأى فتاة تأخذ طائرا ميتا وتلفه، فسألها عن أمرها فقالت: أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار وليس لنا قوت إلا ما يلقي على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ ثلاثة أيام (أي أن الجوع اضطرهما إلى أكل الميتة)، وقد كان أبونا له مال، فظلم وأخذ ماله وقتل .. فقال ابن المبارك لوكيله: "كم معك من النفقة؟". قال: "ألف دينار" فقال: "عد منها عشرين دينار تكفينا إلى مرو، وأعطها الباقي. فهذا افضل من حجتنا هذا العام"، ورجع..
ما ذكر أحمد هذه القصة إلا بكى .. فما فتواه إذن بوجوب طاعة خليفة ظالم؟! أيطاع خليفة يظلم رجلا فيقتله ويستولي على ماله ويترك أبناءه جياعا ينقبون في المزابل عن الطعام، فلا يجدون إلا الميتة؟!! .. يا حسرتا على العباد!!.. وإذن ما جدوى العلم والفقه وما جدوى كل شيء؟!
وما الإسلام إن كان على وجه الأرض من يلتمس القوت في المزابل، وفي الأمة مع ذلك مسلمون يملكون آلاف الآلاف؟! .. وفيها فوق ذلك علماء يمجدون الفقر ويدعون إليه باسم الزهد؟! .. أي زهد هذا!؟ بل إنه لإعانة للظالم على ظلمه..!. ثم ما الانشغال الكامل بالمجردات، والقضاء، والقدر، وخلق القرآن، والجبر، والاختيار؟! ما الاهتمام بهذه الأمور والحوار المصطخب حولها، والعدل معطل!!؟. إن المفكرين ليخبطون في العشوات، ويتركون الحكام يقتلون المظلومين ويصادرون أموالهم!. كم في الأمة من رجال ونساء يسقطون في الأوحال بدلا من أكل الميتة أو البحث عن القوت وسط المزابل؟!!. وكم من العلماء فكر في هؤلاء الجياع والمظلومين!! .. أعلماء وفقهاء هم، أم هم أوتاد وخشب مسندة يرتكن إليها الباغون!!
إن كل ما في أيدي الخلفاء والأمراء والأغنياء حرام عليهم، مادام في الأمة جياع! وستكوى ظهورهم وجنوبهم في نار جهنم بما يكنزون من ذهب وفضة، كما أنذرهم الله تعالى في كتابه الكريم!! .. والعلماء والفقهاء الذين يزينون لهم سيرتهم على أي نحو من الأنحاء، وحتى الذين يسكتون على هذا المنكر، إنما هم جميعا شياطين خرس، سيعاقبهم الله تعالى عقاب الشياطين يوم يقول الحساب!!
إن من هؤلاء الفقهاء والعلماء من يضلل الناس عن الحقيقة جهلا منه أو غفلة أو رياء للحكام. إنهم ليحببون الفقر لعامة المسلمين، وإنهم ليعظون عامة المسلمين ألا يفكروا في غير ذكر الله، عسى أن تطمئن قلوبهم .. ولكن ما جدوى ذكر الله إذا لم يعمل بهذا الذكر، إذا كنت تأكل الحرام؟! .. إن من أكلي الحرام من يستطيع أن يذكر الله أضعاف أضعاف غيره من المشغولين بالسعي في طلب الرزق!! .. ولكن ذكر الله ليس ما يتحرك به لسانك، وإنما هو عمل الصالحات! ..
ولقد طاف رجل على فقهاء بغداد يسألهم واحدا بعد الآخر: "بم تلين القلوب؟" قالوا: {أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ} (الرعد،الآية:28).. ثم لقي أحمد بن حنبل فسأله فقال أحمد: "بأكل الحلال". فعاد الرجل يطوف بهم جميعا ويذكر لهم جواب أحمد .. وكأنه نبههم من غفلة، وفتح عيونهم على الحقيقة فقالوا: "جاءك بالجوهر. الأصل كما قال". ألف الناس أن يسألوا أحمد بن حنبل كلما لقوه، فيجيبهم بعد التروي، وكثيرا ما كان يقول: "لا أدري" ..
وأغراه بعض المعجبين به أن يتخذ له حلقة في الجامع، ويجلس ليعلم الناس ويفتيهم، فيصير إماما .. ولكنه تحرج .. فقد كان يرى أنه يجب ألا يجلس للفتوى والتدريس حتى يبلغ الأربعين .. أي في سن النبوة! .. ثم إنه لا يستطيع أن يفتي وبعض أشياخه حي، فالشافعي أستاذه ما يزال حيا بمصر! .. وأمر آخر: إنه يريد قبل أن يجلس للفتوى والتدريس، أن يفرغ من تنسيق الأحاديث إلى جمعها في رحلاته العديدة المضنية، يريد أن يسند الأحاديث إلى رواتها من الصحابة ويخص لكل واحد منهم مسندا .. وعمل كبير كهذا يقتضيه الاعتزال في بيته..
وبدأ يعتكف ليجمع مسنده، ويمحص ما فيه من الأحاديث، وعاتبه بعض الذين ألفوا لقاءه، فطلب منهم أن يتركوه ليعمل ما هو أجدى من غشيان مجالس ليس فيها غير أحاديث يثرثر بها قوم ألفوا السكوت على الباطل وظلم العباد .. كان قد بدأ يدون (المسند) منذ بدء عنايته بالحديث، وقد تعين عليه الآن أن يجمع شتات ما كتب، وأن يسطر على الورق كل ما حفظ، وأن ينظر في هذه الأحاديث مع إمعان النظر في نصوص القرآن، ليحسن استنباط الأحكام. وجمع (المسند) في كتب متفرقة، وظل يعمل فيه إلى آخر أيام حياته، لينسقه ابنه ويصنفه من بعده.
وكان أحمد يكتب في مسنده كل ما يحفظه من أحاديث .. وقد قال هو فيما بعد لابنه عبد الله الذي روى فقهه وبوب مسنده، بعد أن سأله عبد الله عن حديث جاء في المسند، رويت بخلافه أحاديث أخرى قال أحمد لابنه: قصدت في المسند المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي، لم أرو من هذا المسند إلا الشيء اليسير، ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث.
لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه. وقد لاحظ ابن الجوزي أن بعض فقهاء الحنابلة فيما بعد قد اعتبروا كل ما جاء في المسند من أحاديث صحاحا على الرغم من تنبيه أحمد بن حنبل نفسه. حزن ابن الجوزي لهذا، وكتب: "قد غمني في هذا الزمان أن العلماء لتقصيرهم صاروا كالعامة، وإذا مر بهم حديث موضوع قالوا: قد روى. والبكاء يجب أن يكون على خساسة الهمم ولا حول ولا قوة إلا بالله".
أصبح أحمد بن حنبل وما في بغداد أحفظ منه للحديث، ولا أعمق منه بصرا بآثار الصحابة وفتاواهم، فضلا عن فقهه بعلوم القرآن. وشهد شيوخ بغداد بفضله وعلمه وتقواه، وجدارته بالتدريس والإفتاء. وهاهو ذا يبلغ الأربعين، وقد مات الإمام الشافعي، ووجب على أحمد أن يتخذ له حلقة للتدريس والإفتاء بالمسجد الجامع ببغداد. وحدد موعدا لحلقته بعد صلاة العصر كما فعل الإمام أبو حنيفة منذ أكثر من خمسين عاما .. استقر لأحمد بن حنبل الآن منهج في استنباط الأحكام، خالف فيه أبا حنيفة ومالك بن أنس. وتابع فيه أستاذه الشافعي. وإذن فقد أصبح أحمد بن حنبل إماما ..
وشرع الإمام أحمد يفسر القرآن، ويروي الأحاديث ويفسرها، ويشرح للناس مذهبه في استنباط الأحكام، ويفتي فيما يطرح عليه من مسائل. وفي هذه الحلقات علم الناس أن من روى حديثا صحيحا ولم يعمل به .. فقد نافق! وفي هذه الحلقات تفجر فقهه أصولا وفروعا .. وأجاب على آلاف المسائل .. وازداد شهرة، وتزاحم الناس على حلقاته، وتركوا حلقات الفقهاء الآخرين، حيث وجده الناس غزير العلم، حسن الرأي، حلو الحديث، رفيع الذوق، كثير الحلم، جميل المعشر .. ووجدوه حفيا بالفقراء من طلاب العلم، بسواد الناس يقربهم ويهش لهم .. وقد جر عليه هذا كثيرا من العناء! فقد نفس عليه بعض فقهاء بغداد، وتبدل في قلوبهم إعجابهم به، ورضاهم عنه، لتشتعل الغيرة منه.
ثم إن طلاب العلم تابعوه إلى بيته، ولم يتركوا له وقتا للراحة أو العمل .. وعاتبه أحد أصدقائه لأنه لم يعد يلقاه كما ألف من قبل فقال له: "إن لي أحباء هم أقرب إلى ممن ألقاهم في كل يوم، لا ألقاهم مرة في العام.
أسرف عليه طلاب العلم ومحبوه، فأزعجوه، وما كان له حجاب ينظمون مواعيد الناس، كما كان للإمام مالك والإمام الليث من قبل، وما كان يستطيع أن يمتنع عن لقاء زواره إذا كان يعمل أو يستريح في بيته كما تعود مالك والشافعي .. وأثقل عليه أصحاب المسائل، وطلاب مودته، فخشي أن يفتن نفسه، أو يدهمه الغرور والكبر والزهو أو المراءاة وشكا همه إلى الله تعالى، وتمنى عليه لو أهمل ذكره، أو ألقى به في شعب من شعاب مكة حيث لا يعرفه أحد..!
ما كان الناس يتركونه ليستريح، والحياء بعد يمنعه من صدهم. ولاحظ أن في حلقاته من يكتب إجاباته وفقهه، فنهاه فما كان يحب كتابة الفقه .. وسأله سائل: "لم تنهي عن كتابة الفقه وابن المبارك الذي نعرف موقعه منك كتب فقه أهل الرأي في العراق؟" فأجاب: "ابن المبارك لم ينزل من السماء. وقد أمرنا أن نأخذ العلم من فوق." "أي من القرآن والسنة."
ذلك أن الإمام أحمد كان يخشى إذا دون الفقه أن تتجمد الأحكام، ويشيع التقليد فيما يأتي من العصور، والفقه ينبغي أن يتجدد بالضرورة وفق مقتضيات الزمان، يضبط هذا كله ما جاءت به نصوص القرآن والسنة وآثار الصحابة، فهي وحدها الجديرة بالتدوين، بوصفها المعيار الموضوعي الثابت، ووعاء الأحكام الشرعية جميعا، إما بظاهر نصوصها، أو بدلالاتها الواضحة أو الخفية، وإما بالقياس على ما في النصوص من أحكام إذا تشابهت العلل والحكم. وتعود الإمام أحمد في حلقة درسه بعد كل صلاة عصر، أن يفتي الناس وطلاب العلم عما يسألون، وأن يشغل نفسه وأهل الحلقة بما اشتغل به السلف: القرآن وتفسيره.
وكان يعلمهم أن آيات القرآن يفسر بعضها بعضا، أو تفسيرها الأحاديث الشريفة، وآثار الصحابة الذين تلقوا علمهم من الرسول صلى الله عليه وسلم .. فموضوع الدرس إذن هو القرآن والسنة وآثار الصحابة. ثم إنه ليأخذ أهل الحلقة بإتقان اللغة العربية وآدابها وعلومها، ليسهل عليهم فهم القرآن والأحاديث ..
أما سائر المعارف التي انتشرت في عصر الإمام أحمد، فما كان ليسمح بطرحها في الحلقة .. وبصفة خاصة الكلام في العقيدة .. وكان المعتزلة قد أحدثوا حركة فكرية عنيفة، وتصدوا للرد على الزنادقة والملحدين بما عرفوا من علوم المنطق والفلسفة، ثم أخذوا منذ حين يطرحون هم وغيرهم من صفاته، ووضع القرآن: أمخلوق هو أم قديم". ولقد تصاول المفكرون والفقهاء من قبل حول عدد من هذه القضايا مثل الجبر والاختيار، فمنهم من ذهب إلى أن الإنسان حر في حدود علم الله وتقديره.
ومنهم من قال بالجبر، فالإنسان في كل أفعاله مجبر فهو مسير لا اختيار له. ومنهم من أنكر هذا كله، وقال بأن الإنسان حر الاختيار، وأن حريته هي مناط التكليف وأساس الحساب، فإذا لم يكن الإنسان حرا فعلام يحاسب، وفيما الثواب والعقاب؟! .. إنه لعبث إذن وهو ما يتنزه الله تعالى عنه .. ومنهم من قال إن صفات الله جزء من ذاته العلية. ومنهم من قال أن ما هو حسي من هذه الأوصاف والصفات يجب أن يؤول عن ظاهرة معناه وأطالوا الحوار في أسماء الله تعالى أهي الذات أم صفات غير الذات العلية، وفي كيفية رؤيته يوم القيامة. والعلم الذي يتناول هذه الأمور جميعا يسمى بعلم الكلام .. وكان علماؤه أشداء في الجدال، متمرسين بأساليب الحوار ..
إلا أن الإمام أحمد بن حنبل رفض الحوار، أو التفكير في علم الكلام كله، وحث الناس على ألا يتناولوا من أمور الدين إلا ما جرت عليه السنة وأثار الصحابة .. قال: "لا أرى الكلام إلا ما كان في كتاب أو سنة أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه أما غير هذا فإن الكلام فيه غير محمود". رفض أن يطرح في حلقته أمر من العقائد، على الرغم من أن الحياة الفكرية خارج حلقته كانت تضطرب بهذه الأفكار التي تصطرع حولهما عقول المفكرين والعلماء والفقهاء. وهو صراع طرح نفسه على مجالس الخلفاء، فشجعوه وأقاموا له ندوات الحوار ..
ولقد تلقى الإمام أحمد كتابا من أحد أصحابه يسأله عن مناظرة علماء الكلام، فرد عليه الإمام أحمد: "الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ". والحق أن الإمام أحمد بن حنبل كان شديد التمسك بسيرة السلف وآثار الصحابة فيما يمس العبادات والعقائد.
أما أحكام المعاملات فقد تطور بها، وتوسع فيها، ووضع لها من القواعد ما يفتح أبواب الاجتهاد للفقهاء في كل عصر كلما دعت الحاجة. فالرجوع إلى الحق فضيلة وهو خير من التمادي في الباطل. من ذلك أنه أباح كتابة بعض فقهه لمصلحة رآها. وكان يغير آراءه ومواقفه، كلما تبين له وجه أصوب في الأمر..
ومن ذلك أنه غير موقفه من علم الكلام .. إذ تبين له أن لا مصلحة في السكوت عن علم الكلام .. وما كان العصر ليترك مثل الإمام أحمد في صمته عما يثيره المتكلمون، فوجد أن مصلحة الشريعة تقتضيه أن يقول آراءه فيما يشغل الحياة الفكرية والفقهية من حوله، فهذا أجدى على الدين من الصمت، والنهي عن الحوار أو التفكير!.
فأعلن آراءه في قضايا الإيمان، والقدر، وأفعال الإنسان، وصفات الله .. ولكنه دعا عددا قليلا من خاصة العلماء والفقهاء وصفوة الصحاب ليذيع فيهم هذه الآراء .. ذلك أن حلقته في الجامع كانت قد أصبحت تضم آلافا من طلاب العلم ومحبي آرائه .. وإنه ليخشى أن يتسع الحوار حول العقائد بين هذه الأعداد العديدة من الناس، فيزيغ بصر، أو يضل عقل، أو تزل قدم بعد ثبوتها، أو يستقر خطأ ما في قلب من لم يؤهله علمه بعد لبحث أمور العقائد!
قال الإمام أحمد في الحلقة التي يعقدها في داره "إن الإيمان قول وعمل، وهو يزيد وينقص، زيادته إذا أحسنت ونقصانه إذا أسأت. ويخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام، فإن تاب رجع إلى الإيمان. ولا يخرجه من الإسلام إلا الشرك بالله العظيم، أو برد فريضة من الفرائض جاحدا لها. فإن تركها تهاونا بها وكسلا كان في مشيئة الله. إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه". أما رأي الإمام أحمد في مرتكب الكبيرة فهو ليس كافرا، ولا هو في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان، وليس معفوا عنه، وإنما عليه أن يتوب، وأمره إلى الله .. فمن زعم أنه كافر "فقد زعم أن آدم كافر، وأن أخوة يوسف حين كذبو أباهم كفار." .. وقال: لا يكفر أحد من أهل التوحيد وإن عمل بالكبائر.
وما كان للإمام أحمد ليجهر بهذه الآراء في حلقته العامة، فيسيء فهمها أحد ويجسر الناس على اقتراف الكبائر .. بل خص بآرائه أهل العلم في حلقته الخاصة في داره، حيث الجو الصالح للتفكير والحوار في أمور حرجة كتلك .. وأما عن القضاء والقدر فقد قال: "أجمع سبعون رجلا من التابعين وأئمة المسلمين وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الرضاء بقضاء الله، والتسليم لأمره، والصبر تحت حكمه، والأخذ بما أمر الله به، والبعد عما نهى عنه، والإيمان بالقدر خيره وشره، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين". وقال: "الناظر في القدر كالناظر في شعاع الشمس كلما ازداد نظرا ازداد حيرة".
أما عن صفات الله وأسمائه مما جاء في القرآن أو السنة، فيرى الإمام أحمد روايتها واتباعها كما جاءت، فلا نقحم عليها ما لا يصلح لضبطها وهو العقل .. فهي أمور اعتقادية ينبغي على المؤمن أن يسلم بها كما هي .. وكذلك رؤية الله تعالى يوم القيامة، يجب فيها أن نؤمن بما جاء في الأحاديث الشريفة، وقد رأى الرسول ربه، ويجب أن نفهم الأحاديث بظاهرها. على أن أحمد يرى في انشغال الفكر بهذه الأمور ترفا يصلح أن يتلهى به الخلفاء والأغنياء في قصورهم!. هو ترف يصلح للذين لا يعنيهم العدل، وقد تؤذيهم إقامته. والانشغال بهذا الجدل هو بعد إقصاء للفكر عن شئون الحياة ومجافاة لمقاصد الشريعة التي تتوخى مصالح العباد .. فالفقيه الحق الفاضل يجب أن يشغل من أمور الدين بما يقيم المجتمع الفاضل الذي أراده الشارع الحكيم أي بما يحقق مصالح الناس.
وإذن فينبغي ألا يشغل الفقيه التقي إلا بما يفيد الناس في حياة كل يوم .. إلا بما تحته نفع كما قال الإمام مالك بن أنس من قبل، وكما صنع الأئمة العظام أبو حنيفة والليث بن سعد وابن المبارك والشافعي. أما ما يعنيه الخلفاء والأمراء والأغنياء من شغل العلماء والفقهاء والمفكرين بغير واقع حياة الناس وصرفهم إلى التصارع العقلي في المتاهات فهذا كله لا جدوى منه، وهو استدراج لهم لينشغلوا عن مصالح الأمة، وعن استنباط الأحكام والضوابط التي تكفل هذه المصالح، ليخلص للخلفاء والأمراء إلى ما هم فيه من ترف وظلم واستبداد؟! وليظل في الرعية من يبحث عن الطعام وسط المزابل، والرعاة متخمنون!!
هكذا كان الإمام أحمد ينظر إلى اشتجار الخلاف من حوله في أمور العقائد، وإلى انشغال الفكر بها، وحرص الخلفاء والأمراء على تشجيع الانصراف إليها .. لكأن ولاة الأمور لا يريدون للفقه أن يعني بأحوال الرعية، وأن يقيم العدل، وأن يضع الميزان .. إن هؤلاء الحاكمين ليشجعون الزهاد على تمجيد الفقر، والانصراف عن هموم الحياة، وكأن الإسلام دعوة إلى الفقر! .. ثم إنهم في الوقت نفسه يحضون أهل الفقه والعلم والفكر على الانصراف عن الواقع إلى ما وراء الواقع .. عن الحياة إلى ما قبل الحياة وما بعد الحياة .. فمن بعد ذلك يحاسب الحكام على ما لم يفعلوه للرعية، وعلى ما يقترفون!!؟ ومن ذا الذي يدافع عن المعدل والحق ومصالح الناس؟!!
ما كان للفقهاء الأبرار الذين وقفوا جهودهم على خدمة الشريعة أن يقعوا في الفخاخ!! وهكذا جعل الإمام أحمد كل همه إلى ما يفيد الناس. وفي الحق أن الإمام أحمد بن حنبل لم يهاجم ظلم الحاكم علنا، كما فعل من قبله أبو حنيفة الذي حرض صراحة على الثورة، ولكن آراء الإمام أحمد عن العدل وعن الأسوة الحسنة، وعن حقوق ذوي الحاجة، ثم فتاواه .. كل أولئك قد أوغر ضده الصدور.
وكان استنباطه للأحكام والفتاوى يعتمد على نصوص القرآن والسنة وأقوال الصحابة وآثارهم، ثم القياس. قال أحمد عن القياس: "سألت الشافعي عن القياس فقال يصار إليه عند الضرورة". وهذا هو ما فعله أحمد، فهو لا يلجأ إلى القياس إلا إذا لم يجد حكما في نص القرآن أو السنة أو أقوال السلف، والسلف عنده هم الصحابة والتابعون. فإذا اختلفت أقوال الصحابة اختار أقربها إلى نصوص القرآن والسنة. وإذا اختلفت أقوال التابعين اختار منها ما هو أقرب إلى القرآن والسنة أو ما وافق الصحابة مجتمعين أو أقرب أقوالهم إلى النصوص.
وهو على خلاف من سبقوه، يقدم الحديث الضعيف على القياس .. مادام الحديث قد صح عنده وتأكد أنه غير موضوع .. أما الإجماع فهو يرى أنه لم ينعقد بعد الصحابة .. وقال في ذلك: "ما يدعي الرجل فيه الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا .. ما يدريه؟ فليقل لا نعلم مخالفا". وقال: "قد كذب من أدعى الإجماع". أما الصحابة فهم معروفون بأسمائهم، والعلم بإجماعهم وخلافهم ميسور. والإمام أحمد يلحق إجماع الصحابة بالسنة، لأنهم لا يجمعون إلا على ما علموه علم اليقين عن الرسول صلى الله عليه وسلم إما رواية عنه أو اجتهادا منهم أقرهم عليه..
فالإمام أحمد لا ينكر الإجماع بعد الصحابة ولكنه لا يتصور حدوثه .. ولهذا اعتمد على القياس بعد النصوص وآثار الصحابة .. على أنه إذ يعتمد القياس أصلا من أصول فقهه، إنما يفعل ذلك اتباعا للسنة والسلف الصالح .. ويقول: "القياس لا يستغني عنه والرسول صلى الله عليه وسلم أخذ به، وأخذ به الصحابة من بعده".
ويتسع القياس عند الإمام أحمد أكثر مما يتسع عند غيره من الأئمة، فالقياس عند الإمام أبي حنيفة شيخ فقهاء الرأي وشيخ القياسيين هو إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر منصوص على حكمه لاتحاد العلة أو تشابهها، وعلى هذا سار الفقهاء الآخرون حتى الشافعي. أما الإمام أحمد فلم يقتصر في القياس على علة الحكم وحدها، بل التفت إلى الحكمة.
وعلة الحكم هي سببه، أما الحكمة فهي هدفه .. وهي المصلحة التي يريد تحقيقها والمضرة التي يريد تجنبها فعلة الحكم بإفطار المسافر هي السفر، أما الحكم فهو حفظ النفس ودفع المشقة .. وأخذ بالحكمة يباح إفطار من كان في عمله مشقة بحيث إذا صام لم يتمكن من العمل .. وعلى هذا النحو من التوسع في القياس الأخذ بالقياس الظاهر والخفي، وبمراعاة الحكمة إلى جوار العلة، أدخل الإمام أحمد في أقيسته الأخذ بالمصالح، وهي التي لم يقم دليل على تحريمها أو إباحتها.
والإمام أحمد يأخذ بها قياسا على روح الشريعة المستوحاة من نصوص الكتاب والسنة، وإن لم يكن قياسا على نص خاص. ثم إنه أخذ بالاستحسان وهو الحكم في مسألة بغير ما حكم به في نظيرها، ورعاية للمصلحة على خلاف أستاذه الشافعي الذي قال: "الاستحسان تلذذ". وأخذ الإمام أحمد بالاستصحاب وهو مصاحبة الواقع، فما ثبت في الماضي ثابت في الحاضر.
كما أخذ بالذرائع وهي الطرق والوسائل المؤدية إلى الفعل وتوسع فيها كما لم يتوسع إمام من قبله. فهو يرى أن الطرق لتحقيق المقاصد تابعة لها، فوسائل المحرمات محرمة ووسائل المباحات مباحة كما قال ابن القيم أحد شراحه. والأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه، فما الظن بهذه الشريعة التي هي أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ .. ومن تأمل مصادر الشريعة ومواردها، علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها" ..
من أجل ذلك اهتم الإمام أحمد بالباعث على الفعل، وبنتيجة الفعل .. فمن أراد أن يقتل رجلا بسهم ولكنه أخطأه وأصاب حيه كانت تريد أن تلدغ خصمه فهو آثم عند الله. لأن الباعث على فعله كان شرا وهو نية القتل .. ومن سب آلهة الوثنيين، وكانت نتيجة فعله أن سبوهم الله ورسوله. فهو آثم، لأن سبهم الله ورسوله نتيجة لسبه آلهة الوثنيين.
ومهما يكن اعتبار الإمام أحمد للذرائع والاستحسان والاستصحاب والمصالح: أأصول مستقلة هي، أم تدخل في باب القياس، فإن اعتماد أحمد على هذه الضوابط قد وسع فقه، وجعله خصبا، غنيا، متحررا، متجددا أبدا، قادرا على مواجهة كل ما تطرحه الحياة على عقول المجتهدين والقضاة، حرصا على مصالح العباد. ويبدو هذا في فروع الإمام أحمد وإجاباته على كثير من المسائل .. وفي كل ما عرف عنه من فتاوى وأحكام..
وآراء الإمام أحمد كانت في أكثرها إجابات عن مسائل، وهي إجابات كان فيها متبعا السنة وفتاوى الصحابة .. والسنة عنده تبيان للقرآن. وفي مسائل عديدة لم يجب الإمام أحمد، لأنه لم يجد النص الذي يهتدي به، ولكنه لم يكن يسكت، بل يقول فيها كل أوجه الرأي. على أنه كان أحيانا يقول: "لا أدري .. سل غيري".
وقد ذكروا أمامه أن ابن المبارك سئل عن رجل رمى طيرا فوقع في أرض غيره لمن الصيد لصاحب الأرض أم للرامي؟ فقال ابن المبارك: "لا أدري". وسئل الإمام أحمد عن رأيه في هذه المسألة: "فأجاب هذه دقيقة .. وما أدري فيها". وسأله رجل: حلفت بيمين ما أدري أي شيء هو، فقال ليت أنك إذا دريت أنت دريت أنا.
وفي اتباع الإمام أحمد للسنة وآثار السلف قال: "ما أجبت في مسألة إلا بحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجدت السبيل إليه، أو عن الصحابة أو التابعين. فإذا وجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعدل به إلى غيره. فإذا لم أجد فمن الخلفاء الأربعة الراشدين، فإذا لم أجد فمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأكابر فالأكابر. فإن لم أجد فمن التابعين ومن تابعي التابعين. وما بلغني عمل له ثواب إلا عملت به رجاء ذلك الثواب ولو مرة واحدة".
من أجل ذلك ظل إلى آخر حياته يبحث عن الأحاديث، والآثار الصحاح من فتاوى الصحابة وأقضيتهم، حتى أحاديث الآحاد، والأحاديث الضعاف، إن ثبت عنده أنها صحيحة غير موضوعة .. والضعاف من الأحاديث في عرف ذلك الزمان، غيرها في عرف أهل هذا الزمان، فقد كانت الأحاديث في عصره إما صحاحا أو ضعافا .. فقد نفهم نحن أن الضعيف من الحديث هو المكذوب غير الصحيح أو المختلق، أما في عرف السلف فهو الحديث الذي ليس له سند قوي، ومنه الحديث الحسن!..
كان الإمام أحمد إذا لم يجد ما يريد في الحديث، يلجأ إلى القياس الذي يصار إليه عند الضرورة مع توسعه في فهم القياس وتطبيقه. فأخذ بالمصلحة قياسا على مقاصد النصوص وروحها، ولا على نص بالذات، وتحرى حكمة النص بدلا من علته فحسب، أو لجأ إلى الاستحسان، وما إلى ذلك من أصول .. وقد سمعه بعض الناس يجادل فقيها آخر في بيته ويقول له: "إيش (أي شيء) أنتم؟ لا إلى الحديث تذهبون ولا إلى القياس ولا إلى استحسان. وما أدري إيش أنتم؟".
اعمل الإمام أحمد فكره فاستنبط الأحكام من النصوص والآثار، وعن طريق القياس بمعناه الواسع فحوى المصالح والذرائع والاستصحاب .. ولجأ إلى الاستحسان. وفي الحق أنه كان متشددا في كل ما يتعلق بالعبادات والحدود التي هي قوام الدين، لأنه رأى البدع تسود والناس يترخصون، ويخرجون عن الدين، أما في المعاملات فقد اتخذ فيها مذهبا متحررا ميسرا، لأنه رأى أن الذين يستغلون الناس يضيقون عليهم باسم الدين، ورأى من الزهاد الذين يلبسون الصوف ويسمون أنفسهم بالصوفية، والفقراء، من يزين للناس ترك السعي، وحب الفقر، والرضا بالظلم وللقعود عن طلب العدل ..
وإجابات الإمام أحمد عن المسائل، وفتاواه يظهر فيه تشدده في العبادات والحدود، وتيسيره في المعاملات. من ذلك أنه عندما فشت الفاحشة في عصره، وشاع الشذوذ الجنسي حتى أصبح أهل الشذوذ يجهرون ويتبجحون به، وأصبح لهم شأن في الدولة نشر الإمام أحمد أن الصديق أبا بكر أمر بإحراق أهل الشذوذ، عندما أرسل إليه خالد بن الوليد أنه بعد أن فتح الشام وجد فيه أهل قرية يقترفون هذا المنكر، فأشار عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، بإحراقهم أسوة بقوم لوط.
ومن ذلك أنه رأى الولاة يتقبلون الهدايا، فروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه أحد عماله يحمل مالا كثيرا فاحتجز نصف المال وقال إنه له فقد أهدى إليه، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ المال كله للمسلمين، وحذرهم أن يقبل أحد منهم هدية إن تولى أمرا من أمور المسلمين وتساءل الرسول إن جلس أحدهم في بيت أبيه وأمه أكان يهدي إليه، أما أنه يهدي إليه لأنه تولى أمرا؟ فإن استحل مالا بهذه الطريقة فقد استحق النار..!
وتأسيسا على هذا الأثر أفتى الإمام أحمد أنه لا يحق للقاضي أن يقبل هدية، ولا أي مستخدم في الدولة، ولا لمن يسعى في مصلحة لغيره عند السلطان أو أولي الأمر .. وأفتى بأن من زاد ماله وهو يلي منصبا، وجب عليه السلطان أن يأخذ نصف ماله فيرده على المسلمين.
ومن ذلك أن الإمام أحمد رأى الناس قد قست قلوبهم، فأفتى بأنه لا يحق لأحد أن يحمل حيوانا فوق طاقته، وأن الكلب إذا حضر طعام أحد، فعليه أن يلقي إلى الكلب بشيء منه، وكان الناس قد فهموا منه أن ظل الكلب نجس، فسخر به بعض حساده، وما كان قد قال هذا قط، ولكنه أزرى بالأثرياء وأنكر عليهم أن يطعموا كلابهم أفخر الطعام، وفي الأمة من لا يجد طعامه إلا في المزابل، وقد لا يجده حتى في المزابل!!من أجل ذلك شهروا به!
على أن الإمام أحمد نفسه جلس مرة يأكل رغيفا وما لديه طعام غيره، فجاء كلب فبصبص بذنبه .. فألقى إليه الإمام أحمد باللقمة بعد اللقمة حتى تقاسما الرغيف!! .. والإمام أحمد يرى في سؤر الكلب نجاسة، على غير ما رآه الإمام مالك الذي اعتمد على أية تحل أكل ما يصيده الكلب، فقال: "أحل لنا صيده فكيف يحرم سؤره؟" .. ولكن من رأى الإمام أحمد كرأي غيره من الفقهاء والأئمة إلا الإمام مالك بن أنس أن الكلب إذا لعق الإناء وجب غسله بماء طاهر، سبع مرات عند بعض الأئمة، وحتى يطهر عند أحمد وإن بلغت ثماني مرات أولاها بالتراب عند الجميع ..
ولم يجز أحمد قتل الطير إلا لمصلحة أو حاجة، ولا دودة القز إلا لاستخراج الحرير. واعتمد الإمام أحمد في هذا على الحديث الذي يحرم قتل العصفور إلا لمصلحة أو لحاجة. ومن ذلك أن الشرط في العقد الصحيح ما لم يخالف القرآن والسنة، وما لم يحلل حراما أو يحرم حلالا. وإن فللزوجة أن تشترط على زوجها ألا يتزوج غيرها. فإن خالف الشرط فسخ العقد ووقع الطلاق. ولها أن تشترط عليه ألا يسافر معها.
من ذلك أنه إذا هلك أحد من العطش أو الجوع في بلاد المسلمين، فكل أثرياء المسلمين آثمون، وعليهم الدية، وولي الأمر مسئول وعليه الدية .. وهي دية المقتول عمدا .. نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، فمن قتلها فكأنما قتل الناس جميعا. من تسبب في القتل قاتل وإن لم يقتل بيده، وإن لم يقصد القتل .. وقد أخذ هذا الحكم من قضاء للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .. فقد أدخلت فتاة في ليلة زفافها إلى بيتها شابا كانت تعشقه وأخفته، واكتشفه الزوج فقتله، فحكم الإمام على الزوجة الخائنة بالقتل، وعفا عن الزوج لأنه يدافع عن عرضه.
ـ ومن ذلك أن النية هي التي تكيف العقد وعلى هذا فزواج المحلل باطل.
ـ يجب نفي أهل الدعارة والمجون والفسق إلى مكان يؤمن فيهم شرهم القاعدون عن طلب الرزق اكتفاء بالعبادة، يجب إجبارهم على العمل لأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل، وطلب الزهد فرارا من المشقة إثم، وترك المكاسب مع الحاجة إليها كسل.
ـ إذا حكم للمدعي بيمينه بشهادة شاهد واحد، ثم ثبت كذب الشاهد، فعليه الغرم كله، أي رد ما دفع للمدعي بغير حق، فإن كانا شاهدين تقاسما الغرم.
ـ لا يجوز الشراء ممن يرخص السلع لينزل الضرر بجاره، وعلى السلطان أن يمنعه من البيع. كذلك يطرد السلطان من السوق كل تاجر يرفع السعر ويضارب فيه .. فإذا تعدد التجار، وجب اقتلاعهم من السوق ومنعهم من التجارة.
ـ تمنع المضاربة على السعر نزولا أو صعودا لمن لا يريد أن يشتري.
ـ لا احتكار .. فالمحتكر ملعون.
ـ يمنع كل بيع فيه شبهة ربا، كالبيع للمدين، كمغالاة بعض التجار في الربح فهو ربا، وتحل مصادرة هذا المال، ورده بيت المال ومنع مقترف هذا العمل من الاتجار.
ـ أعمال السمسرة غير جائزة، والسلطان مسئول عن مطاردة السماسرة ورد أموالهم إلى المسلمين لأنه مكسب على حساب الغير بغير عمل ففيه شبهة القمار. وما كان الإمام أحمد ليحرم أو يحلل صراحة بل كان يتورع عن هذا كغيره من الأئمة السابقين .. ويكتفي بأن يقول "أكره أو أحب" من ذلك أنه سئل عن بيع الماء فقال: "أكرهه" .. وهو يريد أنه حرام .. وسئل عن الخمر يستعمل كالخل فقال: لا يعجبني ..
ـ ومن ذلك جواز تحويل الدين وهو استيفاء للحق .. وهي ما تسمى حوالة الحقوق ..
ـ ومن ذلك أن الأصل في الأشياء الإباحة، فكل تصرف مباح حتى يثبت دليل المنع.
ـ ومن ذلك: إذا شك المطلق أنه طلق واحدة أو ثلاثا .. فهي طلقة واحدة لأن الحلال ثابت بالعقد فلا يزول بالشك.
ـ جواز إجبار المالك على أن يسكن في بيته من لا مأوى له، بأجر المثل إذا كان في بيته فراغ لا يحتاج إليه. والحكم ينطبق على صاحب الخان (الفندق).
ـ يجبر أصحاب السلع على بيعها بسعر المثل، فإذا امتنعوا، رفعهم السلطان من السوق وصادر أموالهم ورد نصفها إلى بيت المال.
ـ ومن امتنع عن أداء الزكاة، أو ماطل، أو لم يؤدها كاملة أخذت منه قسرا، وصودر ماله ورد نصفه إلى بيت المال.
ـ يمنع تلقي السلع قبل نزولها في الأسواق، لكيلا يتحكم تاجر أو عدد من التجار في السعر.
من وقع في معصية وعاجل بالتوبة حال تلبسه بها أو بعدها فهو معفو عنه، كمن يغتصب عقارا ثم يندم ويعترف ويخرج من العقار فهو في حال توبة، فيعفى عنه.
ـ وكان قد صح للإمام أحمد من السنة والآثار عن الشروط في العقود ما لم يبلغ غيره من الأئمة من قبل. لذلك خالفهم جميعا في الشروط، فأجاز كل شرط في العقد ما لم يحرم حلالا أو يحلل حراما .. وتوسع الإمام أحمد في ذلك حتى أجاز شرط الخيار في عقد الزواج، بحيث يكون لحد الطرفين حق الفسخ بعد مدة معينة فإذا مضت المدة ولم يفسخ، استمر العقد .. وفي رأيه أنه لا دليل من الشرع يمنع هذا الشرط، ثم إن حق الفسخ يمنع الخديعة، فإذا خالف الزوج الشرط فسخ العقد، وبمقتضى رأيه في الشروط أجاز للبائع أن يبيع ويحتفظ بحق الانتفاع مدة معينة، فله أن يشترط الإقامة بسكنه الذي يبيعه مدة معينة. وأجاز اشتراط البائع على المشتري أنه إذا أراد بيعه فهو للبائع بثمنه الذي تقاضاه من قبل. و أجاز أن يشترط البائع على المشتري البائع عليه ألا يستخدمها إلا في التسري فحسب، فلا تخدم ولا تقوم بعمل آخر، فقال أحمد: "لا بأس".
ـ جواز البيع من غير تحديد الثمن، إذا اتفق المتعاقدان على سعر السوق عند التسليم دون مساومة. ويسمى بقطع السعر. وما في الكتاب ولا في السنة ولا في آثار الصحابة ما يحرم هذا، فهو على قاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة.
ـ يجب التشدد في الطهارة .. فالمضمضة والاستنشاق من فرائض الوضوء وهي عند غيره من الأئمة سنة.
ـ من ولي أمرا من أمور المسلمين فاحتجب عنهم في داره جاز حرقه .. فقد احتجب سعد بن أبي وقاص وراء الباب عن الناس في قصره وهو أمير بالكوفة، فأرسل إليه الخليفة عمر بن الخطاب من أحرق عليه قصره.
ـ للمار بثمر غيره أن يأكل حتى يشبع ما لم يكن على الثمر سور أو حارس .. ولكن لا يجوز للمار أن يحمل من الثمر.
ـ للرجل أن يشهد على امرأته بالزنا ويقسم اليمين دون حاجة إلى أربعة شهداء، إذا رأى رجلا يعرف بالفجور يدخل إليها ويخرج. وتعاقب الزوجة بحد الزنا.
ـ للمرأة إذا تزوج عليها زوجها أن تطالبه بمؤخر صداقها وإن لم تطلق.
ـ البينة التي تثبت الحق لصاحبه ليست محصورة في أشكال أو صيغ، بل هي كل ما يبين به الحق، من الأمارات والأدلة، فلو تنازع الساكن ومال المسكن على شيء نفيس مخبأ في المسكن، فالشيء لمن وصفه منهما وصفا دقيقا منضبطا، وإن حلف الآخر وجاء بالشهود.
ـ لا يتحقق السجود في الصلاة إلا بأن تمس الأنف الأرض، وذلك من تمام شعور العابد بالعبودية (والأرض هي ما يصلي عليه العابد مجردة أو مفروشة) .
ـ تغسل النجاسة بماء طاهر حتى يزول كل أثارها، وأقل ما تغسل به النجاسة سبع مرات، إذا شك المتوضئ في طهارة الماء، تركه وتيمم.
السنة في الصلاة أن يخفف الإمام فلا يطيل رعاية لحال المأمومين، وتكره إمامة من لا يرضى عنه أكثر المصلين.
ـ الأذان في الصلاة يجب أن يكون باللغة العربية (وقد أجاز غيره من الفقهاء أن يكون بغيرها). وكذلك الصلاة.
ـ السنة في الصيام هي الفطر في السفر. والفطر في الغزو أحرى. وقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم للفتح في رمضان، فأفطر بعد صلاة العصر، وشرب على راحلته ليراه الناس وقال: "تقوا لأعدائكم" ..
ـ طاعة الوالدين فريضة، وهي جزء من الإيمان، وقد جعلها الله بعد التوحيد، "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا" فمعصية الوالدين أو الإساءة إليهما كالشرك به تعالى بهذا نزل القرآن وعليه نصت الأحاديث الشريفة، ورعاية الأم أولى كما جاء في الحديث. وقد سمع الرسول صلى الله عليه وسلم قصة زاهد شغلته العبادة عن الرد على أمه وكانت في حاجة إليه، فأصابها أذى، فعقب الرسول على سلوك العابد بأنه لو خرج من صلاته، وأجاب أمه، لكان أحب إلى الله تعالى وأقرب. وقد روي الإمام أحمد عن الصحابة والتابعين أنه إذا استأذن ولد والدته للخروج مجاهدا في سبيل الله، فأذنت له، وعلم أن هواها في المقام، فليقم. وقال الإمام أحمد لطالب في حلقته تريده أمه على التجارة، وهو يريد العلم: "دارها وأرضها ولا تدع الطلب".
ـ يجوز للأب أن يفضل أحد ولده بالهبة إذا كان هذا الولد في حاجة بسبب العجز عن الكسب لانقطاعه للعلم، أو لعاهة به، أو لكثرة عياله.
ـ الأحكام يجب أن توفق بين الظاهر والباطن، فيؤخذ بالظاهر إذا كان الحال في غنى عن البينة لأن الأمارات القوية تؤيده أو كان بينة في ذاته. كأن يظهر الحمل على امرأة ليس لها زوج، أو كان يشاهد رجل يجري وفي يده عمامة، وعلى رأسه عمامة أخرى، يطارده رجل آخر بلا عمامة!
لا يؤخذ بالظاهر على إطلاقه، فقد يثبت أنه يجافي الحقيقة. فقد حدث أن جاءت امرأة تخاصم زوجها، فأرسلت عينيها وبكت، فقال أحد القوم: "مهلا" فإن أخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون.
وحدث في عهد عمر بن الخطاب رضي الله أن امرأة بالمدينة أحبت شابا من الأنصار، ولكنه لم يطعها فيما تريد، فجاءت ببيضة وألقت صفرتها، وسكبت البياض على فخذيها وثوبها، ثم جاءت إلى الخليفة عمر صارخة فقالت: "إن هذا الرجل غلبني على نفسي وفضحني. وهذا أثر فعاله". فسأل عمر النساء فقلن له: "إن ببدنها وثوبها آثار الرجل". فهم بعقوبة الشاب، فأخذ يستغيث ويقول: "يا أمير المؤمنين تثبت في أمري. فوالله ما أتيت فاحشة ولا هممت بها، فلقد راودتني عن نفسي فاعتصمت". فنظر عمر إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقال: "يا أبا الحسن ما ترى في أمرها". فنظر علي إلى ما على الثوب، ودعا بماء حار شديد الغليان، فصب على الثوب فجمد البياض، وظهرت رائحة البيض، فزجر الخليفة أمر المؤمنين عمر رضي الله عنه المرأة فاعترفت، وعاقبها.
ومن رأي الإمام أحمد أنه لا يؤخذ بالظاهر على إطلاقه حتى إذا اعترف المذنب. وقد روي أنه حدث في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن أتى برجل وجد في خربة بيده سكين ملطخ بالدم وبين يديه قتيل يتشحط في دمه. فسأله أمير المؤمنين فقال: "أنا قتلته". فقال: "اذهبوا به فاقتلوه". فلما ذهب به أقبل رجل مسرعا، فقال: "يا قوم لا تعجلوا. ردوه إلى علي". فرده. فقال الرجل: "يا أمير المؤمنين. ما هذا صاحبه. أنا قتلته" فقال علي للأول: "ما حملك على أن قلت أنا قاتله ولم تقتله؟".
قال: "يا أمير المؤمنين، وما أستطيع أن أصنع، وقد وقف العسس على الرجل يتشحط في دمه، وأنا واقف، وفي يدي سكين وفيها أثر الدم وقد أخذت في خربة؟ فخفت ألا يقبل مني، فاعترفت بما لم أصنع، واحتسبت نفسي لله". فقال علي: "بئسما صنعت! فكيف كان حديثك؟". فقال الرجل إنه قصاب ذبح بقرة وسلخها، وأخذه البول فأسرع إلى الخربة يقضي حاجته والسكين بيده، فرأى القتيل فوقف ينظر إليه فإذا بالشرطة تمسك به، وأما القاتل فاعترف بأن الشيطان زين له أن يذبح القتيل ليسرقه ثم سمع خطو أقدام فاختفى في الظلام، حتى دخل القصاب فأدركه العسس فأمسكوا به ولما رأى الخليفة أمر بقتل القصاب، خشي أن يبوء بدمه فاعترف. وأخلى على سبيل القاتل لأنه إن كان قد قتل نفسا، فقد أحيا نفسا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا". وأخرج الدية من بيت المال.
وكان الإمام يستشهد في أحكامه بالأخبار والقصص، ففيها عبرة لأولي الألباب كما قال الله تعالى. وكان يطلب من تلاميذه أن يكثروا من قراءة القصص ليعتبروا.
ومما رواه من قصص تؤيد رأيه في عدم الأخذ بالظاهر على إطلاقه، أن امرأة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم اغتصبها رجل وهي في الطريق إلى المسجد لصلاة الفجر، فاستغاثت برجل مر عليها، وفر المغتصب، ومر نفر وهي ما تزال تصرخ فأدركوا الرجل الذي كانت قد استغاثت به، فأخذوه وجاءوا به إليها، فقال الرجل: "أنا الذي أغثتك وقد فر الآخر" فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنه وقع عليها وشهد عليه القوم. فقال: "إنما كنت أغيثها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني" فقالت: "كذب. هو الذي وقع علي". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انطلقوا به فأرجموه". فقام رجل فقال: لا ترجموه وارجموني فأنا الذي فعلت بها الفعل. فقال القوم: "يا رسول الله ارجمه" فقال: "لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل الله منهم"
ـ يفضل الإمام أحمد للمسلمين أن يغزوا تحت قيادة القوى وإن كان فاجرا، على الضعيف وإن كان صالحا ويقول: "أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره لنفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوى الفاجر جلبا للمصلحة العامة.
ـ لا يحبس المدين في دين. فلم يحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في دين قط، ولا الخلفاء الراشدين من بعده، وقد قال أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضى الله عنه "الحبس في الدين ظلم". وكذلك لا يحبس الزوج في مؤخر الصداق، ولم يحبس الرسول ولا أحد من الخلفاء الراشدين زوجا في مؤخر صداق أصلا. ولم يقض أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من بعد لامرأة بصداقها المؤخر، إلا أن يفرق بينهما موت أو طلاق فتقوم على حقها". كما جاء في رسالة الليث إلى مالك. فالأمة مجمعة على أن المرأة لا تطالب به قبل أجله بل هو كسائر الديون المؤجلة فليس لها حق فيه إلا الموت أو الطلاق أو الزواج بغيرها .. ولا تقوم مصلحة الناس إلا بهذا. ويضيف الإمام أحمد في ذلك: "من حين سلط النساء على المطالبة بالصدقات المؤخرة (أي مؤخر الصداق)، وحبس الأزواج عليها، حدث من الشرور والمفاسد ما الله به عليم. وصارت المرأة إذا أحست من زوجها بصيانتها في البيت، ومنعها من البروز والخروج من منزله والذهاب حيث شاءت، تدعي بصداقها وتحبس الزوج عليه، وتنطلق حيث شاءت. فيبيت الزوج ويظل يتلوى في الحبس، وتبيت المرأة فيما تبيت فيه!" ..
ـ كل أنواع المعاملات مباح إلا ما يحظره نص أو القياس على نص، وكل العقود واجبة الوفاء إلا إذا قام دليل شرعي على المنع. وكل ما احتاج إليه الناس في معايشهم ولم يكن سببه معصية لم يحرم عليهم، لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد. ولا يشترط لانعقاد العقد أي شكل أو صيغة بل ينعقد بالنية والإفصاح عنها. وبعض العقود لا يثبت إلا بالكتابة. وقد ينعقد العقد بممارسة الفعل أو بما يقتضيه العرف. كالعقد مع صاحب الخان (الفندق) أو صاحب الحمام، ينعقد بدخول المكان ورضا صاحبه. وأكثر تصرفات التجارة قائم على العرف. ولكن النية والقبول يجب ألا يعيب أيهما شيء، فأساس المعاملات الرضا، وكل ما يشوب الرضا يفسد التعاقد، إكراها كان أم خديعة أم غشا أم تدليسا أم غبنا.
وقد حدث في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن تزوج شيخ كبير يخضب بالسواد بفتاة شابة حسناء وبعد حين ظهر البياض على شعر الزوج ولحيته، فكرهته العروس وقالت إنها خدعت بشبابه .. وما هو بشاب. وشكاه أهلها إلى عمر قائلين: "حسبناه شابا". فضربه عمر ضربا موجعا وقال له. "غررت بالقوم". وفرق بينهما.
ـ الغاية ترتبط بالوسيلة المؤدية إليها، وترتبط المقدمة بالنتيجة، فما هو سبيل إلى المباح مباح، وما هو وسيلة إلى المحظور محظور، وإذا فسدت إحداهما فسدت الأخرى، فإثبات الحق مباح بل هو مطلوب، على ألا تكون الوسيلة محظورة كشهادة الزور.
وتستثني من القاعدة حالات الضرورة أو الحاجة .. فيجوز للطبيب الإطلاع على عورة المريضة لعلاجها وإنقاذ حياتها.
ـ من الواجب توفير كل ما فيه صلاح الناس، وفتح الطريق للتوبة وإصلاح ذات البين وصيانة كيان الأسرة.
وروى أحمد: "جاءت إلى علي بن أبي طالب" امرأة فقالت: "إن زوجي وقع على جارتي بغير أمري". فقال للرجل: "ما تقول؟". قال: ما وقعت عليها إلا بأمرها. فقال: "إن كنت صادقة رجمته (بالزنا) وإن كنت كاذبة جلدتك الحد (للقذف). "وإقيمت الصلاة فقام أمير المؤمنين علي يصلي وفكرت المرأة فلم تر لها فرجا في أن يرجم زوجها، ولا في أن تجلد فولت هاربة ولم يسأل عنها أمير المؤمنين".
وقد قيل للإمام أحمد "فلان يشرب". فقال: "هو أعلمكم شرب أم لم يشرب". وقال عن جماعة من العلماء يشربون النبيذ: "تلك سقطاتهم لكنها لا تذهب حسناتهم".
على القادر أن ينفق على كل ذوي الأرحام الفقراء قربوا منه أو بعدوا. وعلى الموسرين من المسلمين أن يخرجوا من أموالهم إلى بيت المال صدقات، حتى لا يكون في أرض الإسلام صاحب حاجة مسلما كان أم غير مسلم.
ـ يجب على كل مسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا أمر لا تختص به جماعة منهم، بل هو فرض على الجميع، ويجب اتباع الحسنى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فكما جاء في الحديث الشريف: "كل من رأي سيئة فسكت عليها فهو شريك في تلك السيئة". على أن يكون النصح يقول التي هي أحسن. والمسلمون مطالبون شرعا إذا كلم بعضهم بعضا بأن يقولوا التي هي أحسن "فرب حرب أهاجها قبيح الكلام". فإن لم يتحدثوا بالحسن من القول، وقعوا في المعصية بمخالفتهم قوله تعالى: "قل لعبادي يقولوا التي هي احسن. إن الشيطان ينزع بينهم".
بهذا الفقه خالف الإمام أحمد في كثير من المسائل كل من سبقه من الأئمة وبصفة خاصة الإمامين أبا حنيفة ومالك بن أنس .. ولكنه كان أكثر اقتداء بالشافعي في مذهبه المصري الذي تأثر فيه بالإمام الليث بن سعد. على أن الإمام أحمد اختلف مع الشافعي اختلافا كاملا في الأخذ بالاستحسان وفي شروط العقود، فقد وقع لأحمد من الحديث والآثار ما لم يقع للشافعي، وقد صح نظر الشافعي حين قال لأحمد هو ومن معه من أهل الحديث: "أنتم أعلم بالحديث والأخبار مني فإن كان صحيحا فأعلموني".
سار الإمام أحمد في أكثر اجتهاده على طريق الإمام الشافعي، حتى لقد رفض الإمام الطبري اعتبار ابن حنبل فقيها أو مجتهدا، وعده متبعا وراوية للحديث ومقلدا! .. وقد خوطب الإمام أحمد في التزامه طريق الشافعي فقال: "لم نكن نعرف الخصوص ولا العموم حتى ورد الشافعي، وكان الفقه قفلا ففتحه الشافعي. وهو فيلسوف في أربع في اللغة واختلاف الناس والمعاني والفقه".
تابع الإمام أحمد طريقه: فهو يجيب على المسائل، ويعلم التفسير والحديث، ويرجع ما جمع من الأحاديث ويراجع ما جمع من الأحاديث، وفي مراجعاته لما حفظ وجمع من أحاديث، حذف كل ما حفظه عن عالم ذي مكانة من أهل الحديث، لأنه شتم معاوية بن أبي سفيان وأرسل إليه أحمد بذلك .. فعجب المحدث لأنه يعرف أن أحمد بن حنبل يرى معاوية من أهل البغي امتحن ببغيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه!!
إن أحمد وصاحبه حفظا الأحاديث معا من شيخهما عبد الرازق في اليمن، ولقد سمعاه معا يشتم أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه .. وعثمان افضل من معاوية!! .. وإذن فما ينبغي لابن حنبل، أن يروي الأحاديث الكثار التي حفظها عن شيخهما عبد الرازق! أرس المحدث إلى صاحبه أحمد يذكره بذلك لكه! ..
فلم يشأ الإمام أحمد أن يحاور صاحبه، فقد شغله فقهه، واستنفره غلبة أصحاب الكلام على قصر الخليفة وعلى الحياة الفكرية، فشدد النكير عليهم، وشرع يهاجمهم في حلقاته العامة بالمسجد، وأخذ يحذر منهم طلابه ومريدي حلقته قائلا: "لا نكاد نرى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه رغل (أي فساد)". ولم يتهيب أصحاب الكلام هجوم أحمد، بل مضوا يحاجون في القضية التي كانت تضنيهم منذ زمن بعيد وهي قضية خلق القرآن.
والقضية ليست بنت العصر .. ولكن أصحاب الكلام من المعتزلة أثاروها من قبل في عصر بني أمية، وأصابهم منها عنت شديد وعذاب عظيم! فقد بدأ المعتزلة في حكم هشام بن عبد الملك يتكلمون في حرية الاختيار وفي البيعة والشورى، فهزموا أركان السلطان! ..
ثم تكلموا في خلق القرآن. فانتهز الحاكمون الفرصة، واتهموا أصحاب هذا الرأي بالكفر .. ولم يجادلوهم في غيره من الآراء. وقبضت الدولة على أول من قال بهذا الرأي وهو "الجعد بن درهم". فحبس وعذب في فجر عيد الأضحى .. وخطب والي العراق في الناس العيد وقال في آخر خطبته: "انصرفوا وضحوا تقبل الله منكم، فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد ابن درهم". ونزل من على المنبر فذبح الجعد كما تذبح الأضحية!!
ثم إن حكام بني أمية طاردوا المعتزلة والمتكلمين بتهمة الكفر، وأثاروا عليهم العامة، حتى جاء وقت لم يستطع فيه مفكر منهم أن يجهر بفكره .. ولكن هذا الفكر استعرونما تحت المطاردة والاستبداد، كما عاش وميض نار الثورة على بني أمية تحت الرماد، حتى أصبح له ضرام، وقوده جثث وهام! ..
وإذ سقطت دولة بني أمية وخلفها بنو العباس، ظهر المعتزلة بفكرهم واهتموا أكثر ما اهتموا بالقضية التي ذبح أول من أثارها والتي لاقوا النكال في سبيلها وهي قضية خلق القرآن!. وكان بوسع الإمام أحمد أن يشهر بهؤلاء، فقد دعي إلى عشاء عند أحدهم ووجد في داره كثيرا من الفقهاء يشربون وقد بلغ بهم السكر مبلغه .. وأمامهم ترقص الإماء ويغنين عاريات، فخرج أحمد من المكان، وعندما سئل من غده عما رأى لم يقل شيئا، وقيل له أن مخالفيه كانوا سكارى، لم ينطق ذلك أنه وهب نفسه للعلم ونأى بنفسه عن السياسة، وأخذ الخصوم بعوراتهم!
ولكنه ما كان يستطيع أن يبعد .. فالسياسة هي فن الحياة وهي "ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي. وعلوم الدين ترسم ملامح المجتمع الذي أراده الشارع الحكيم بما نفهمه من روح النصوص. فسر الإمام أحمد قوله تعالى في سورة النور: "وأتوهم من مال الله الذي أتاكم" بقوله تعالى في سورة الحديد: "آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فالذين آمنوا منكم وأنفقوا له أجر كبير".
فالأغنياء مستخلفون فيما يملكون ولا ينبغي أن يقول الواحد منهم "هذا ملكي" بل عليه أن يقول: "هذا ملك الله عندي" .. وإذن فللمال وظيفة اجتماعية ، وإنفاق المال للصالح العام واجب شرعي، جعله الله جزاء من الإيمان .. من أجل ذلك حرم الله الربا، واعتبر المرابين كفارا، وحرم الرشوة: "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون، وحرم كل أنواع الكسب بلا عمل، وحرم الوساطة في التجارة والصفقات (أي السمسرة). أو العمولة بلغة العصر!
ثم إن الإمام أحمد أخذ يعلم الآلاف الذين يرتادون حلقته أن الذين يستغلون مواقعهم ليكسبوا بغير الحق لهم الويل كل الويل وكان أنذرهم بذلك من قبل، فرفضوا قوله لأنهم حبسوه من اجتهاده، ولكنه روى حديثا صحيحا قوي الإسناد محقق الثبوت..: "أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه أحد الولاة فقسم ما جمع من مال قسمين ثم قال للنبي عليه الصلاة والسلام: هذا لكم وهذا أهدي إلى فغضب النبي وقال يخطب في الناس (أما بعد... فإني استعمل رجالا منكم على أمور مما ولاني الله فيأتي أحدكم فيقول: هذا لكم وهذه أهديت إلى. فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدي إليه أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد فيه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر، وكان أبو ذر الغفاري حاضرا فقال للرجل: لا تحزن. إن الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يسعى من لا يقين له. اذهب اعتذر للنبي صلى الله عليه وسلم.
وروى أحمد عن السلف الصالح أن عمر بن الخطاب خصص أرضا إلى جوار المدينة، جعل كلأها لماشية الفقراء وحرمها على أنعام الأغنياء وقال: "إن تهلك ماشية الغني يرجع إلى ماله وإن تهلك ماشية الفقير يأتني بأولاده متضورا طالبا الذهب والفضة، فبذل العشب اليوم أيسر علي من بذل الذهب والفضة يومئذ". ثم أخرج الإمام الأحاديث الشريفة التي تأثم الاحتفاظ بالمال وفي الأمة فقيرا.
وتحرز في رواية آثار علي بن أبي طالب التي تحكي عن جهاده في إعادة توزيع ثروة الأمة، وأخذ ما فاض عن حاجة الأغنياء ورده على الفقراء .. تحرز الإمام أحمد في ضرب الأمثال بسيرة علي بن أبي طالب عندما كان أميرا للمؤمنين، وفي اختياره لدار الخلافة بيتا في الكوفة هو من أدنى بيوت الفقراء، ليضرب الأمثال لأولياء الأمر في عصره ومن بعده .. تحرج الإمام أحمد من الحديث عن سيرة الإمام علي لكيلا يجدوا عليه سبيلا فيتهموا أحمد ابن حنبل شيخ أهل السنة بأنه شيعي .. ويثور عليه أمراء البيت العباسي الحاكم!..
وعلى الرغم من تحرزه، أوغرت فتاواه وآراؤه صدور هؤلاء الحكام .. وتربصوا به، وزعموا أنه بما يفسر من آيات، وبما يخرج من أحاديث، وبما يرى من آثار الصحابة، إنما يثير الفقراء ضد الأغنياء، ويهين الصوفية ويحرض العامة على الخاصة!!. وأغروا به بعض المنافقين ليجرحوه! .. ولكنهم ما كانوا لينالوا منه .. فقد عرف الناس من هو الإمام أحمد!! .. وما يزال في أعماق أحمد جراح من قصة الفتاة التي كانت تبحث عن القوت في مزبلة قومها، وعلى مقربة منها ينثر الدر والذهب لتمشي عليه المحظيات .. وعلماء يمجدون الفقر ويدعون إليه الأمة!!
ثم جاء عصر المأمون..
وقد استولى المأمون على الحكم بعد معركة مريرة مع أخيه الأمين. ذلك أن الرشيد استخلف ابنه الأمين، وهو ابنه من زوجته العباسية بنت عمه زبيدة، وأوصى بولاية العهد من بعد الأمين للمأمون، وهو ابن الرشيد من جارية فارسية. ولم يكد الأمين يتولى الخلافة، حتى عزل أخاه المأمون من ولاية العهد مستنهضا التعصب العربي ضد الموالي ومنهم الفرس. وأيد الأمين في هذا عدد من فقهاء بغداد من أهل السنة .. إلا أحمد ابن حنبل شيخ أهل السنة، فقد كان لا يعني بغير العلم!
وخرج المأمون على أخيه الأمين بالسيف، وغلبه، وقتل الأمين، وأصبح المأمون هو أمير المؤمنين. وكان الأمين والمأمون على طرفي نقيض: فالأمين يعتمد على نسبه الهاشمي أبا وأما، فحسبه هذا النسب!. أما المأمون فقد عرف أنه يجب أن يعتز بنفسه لا بنسبه، ومن أجل ذلك حرص على أن يتعلم ويتثقف، وقد كان معلمه يضربه وهو صغير فلا يشكو، على نقيض الأمين الذي كان مدللا من معلمه ومن الحاشية، لاحظ له من الثقافة، ولا هم له إلا التوفر على المتاع الذي تقدمه له حاشيته! ..
كان المأمون واسع الثقافة، يولع بالفقه وآداب اللغة والفلسفة وعلوم الطبيعة والطب والفلك والرياضيات .. ويدرس معطيات كل الثقافات .. فشجع على نقلها إلى العربية عندما أصبح خليفة..
ونظر المأمون في أمر الدولة فوجد أن الصراع يكاد يمزقها: صراع بين العلويين والعباسيين، وبين أصحاب الفرق من أهل السنة، وأهل الرأي، والمعتزلة وغيرهم من الفرق .. ووجد أن بعض أفراد أهل البيت المالك يشتطون في ظلم الرعية مهددين كل شيء، فيعشق أحد كبارهم امرأة حسناء متزوجة، ويحاول، تطليقها وحين يرفض زوجها أن يطلقها، يرسل الهاشمي الكبير من يخفونها من زوجها عنوة، ويغتصبونها قبل أن يهدوها إليه!
ويعجب رجل آخر منهم بغلام مليح فيخطفه من أبيه وأمه، ويضعه أمامه على الحصان ويطير به إلى بيته! .. وهذان الرجلان من أهل البيت المالك العباسي يصنعان هاتين الفاحشتين بامرأة وغلام من أهل مكة والمدينة ولا يجدان أدنى مقاومة! .. أما بغداد . فما أبشع ما يغشاها من فساد .. وإلى جوار هذا كله ينتفض فكر عظيم يعيشه فقهاء البلاد، ومثقفون شرفاء يعانون من غاشية الظلم والفحشاء! ..
والدولة تتسع، وقد خلف هارون الرشيد ملكا عظيما ضم أكثر بلاد الدنيا، حتى أصبح الرجل في أي مكان في العالم لا يعتبر مثقفا أو متحضرا، إلا إذا أتقن اللغة العربية..! ثم إن المظالم التي كابدا الناس فجرت الثورات، فقامت في أطراف الدولة ثورات تطالب بالمساواة في كل شيء وتطرفت حتى طالبت بشيوع النساء!! كما حدث في الأطراف الشرقية، وقامت ثورات أخرى تطالب باحترام تعاليم الإسلام كثورة أهل مصر!!
والخلافات الفقهية والفكرية تستعر حتى للتحول إلى عداء! وبعض العلويين ينهضون مطالبين بحقهم في الإمامة والخلافة!. ونفر من المتشددين يقطعون الطريق على أهل البدع، ويضربون لاعبي الشطرنج، أهل الطرب، ومن يلبس الحرير أو الذهب، ويريقون الخمور، ويحطمون آلات الغناء!! كان على المأمون أن يواجه هذا كله .. وأن يرفع مظالم أسلافه من الخلفاء، وبصفة خاصة مظالم أربعة سنوات حكمها أخوه الأمين، الذي ترك أمور الدولة لحاشية فاسدة، أغرقته في الملذات، حتى لقد حارب معركته الأخيرة التي قتل فيها وهو سكران يجرع الخمر من قدح ذهبي يسع أربعة أرطال..!
ورأى المأمون أن أخطر ما يهدد الدولة هو سلطان قادة البيت العباسي .. والصراع بين العلويين والعباسيين، والخلاف بين الفرق المختلفة. أما الثورات في الأطراف، فقد أنفذ إليها جيوشا يقمعها. ثم رأى أن يوفق بين أبناء العمومة من شيعه علويين وعباسيين، فنظر فيمن يوليه العهد ليكون خليفة من بعده، فلم يجد أحكم ولا أتقى من الإمام علي بن موسى وهو إمام الشيعة.
وأخذ يضرب رؤوس الفساد في البيت المالك العباسي ممن يخطفون الزوجات والغلمان ويستغلون قرابتهم من السلطان لابتزاز الأموال، أو لإرهاب الناس. وأمر بأن يغلي السواد من أعلام الدولة وهو شعار العباسيين، ليحل بدلا منه اللون الأخضر شعار العلويين. وحاول أن يرد بعض أموال الأغنياء إلى الفقراء والمساكين وأصحاب الحاجات..
وثار عله العباسيون وأغنياء الدولة واجتمعوا في بغداد، وكان هو ما يزال بعيدا عنها، فخلعوه وأفتى عدد كبير من فقهاء السنة بأن المأمون خارج على الإسلام، وبايعوا بدلا منه إبراهيم بن المهدي وهو أحد كبار المغنين والمحنين. وبايعه الذين كانوا يكسرون آلات الغناء، ويضربون المغنين والمغنيات!! وزحف المأمون على بغداد، وحين أوشكت أن تستسلم، اختفى إبراهيم ابن المهدي، وتسلل إليه الذين خلعوه نم قبل، فبايعوه! ودخل المأمون بغداد، فخضع له الجميع! وعفا عنهم إلا قليلا منهم، قتلهم وصلبهم على أبواب بغداد مدينة السلام!
وكان ولي عهده علي بن موسى، قد مات من قبل فجأة في ظروف مشبوهة! .. وقيل إن أعداء الشيعة دسوا له السم في الطعام!. أما أحمد بن حنبل فقد ظل بعيدا عن كل هذا المضطرب، مشغول القلب بعلمه وفقه، لا يراه الناس إلا في حلقته يعلم الناس ويجيب على المسائل. وحين دخل المأمون بغداد واستقر بها، أسرع بترجمة كل ما لم يترجم بعد من الثقافات والحضارات الأخرى ورصد لذلك أموالا طائلة، واستعان بمثقفين مسيحيين ويهود. وإذ أمر بترجمة ما عند اليونان والمصريين، واتهموه بأنه يروج للوثنية، ففي ذلك التراث الحضاري كلام عن الآلهة المتعددين..!
من أجل ذلك توقف المأمون عن ترجمة المسرح المصري والأدب المصري القديم، فضاعت آثاره، إذ لم يجد من يترجمه من بعد. وتوقف عن ترجمة المسرح اليوناني والأدب اليوناني، ولكن هذا التراث وجد من الأوربيين من ينقله عبر الأجيال .. كان نفر من أهل السنة في بغداد يلعنون الفلسفة والمنطق، وكل ما لم يعرفه السلم من معارف وعلوم .. ولكن المأمون شجع هذه العلوم والمعارف، ومنح تلاميذ جابر بن حيان تلميذ الإمام الصادق كل ما يريدون من أموال ومعامل ليطوروا علم الكيمياء.
واعتبر بعض أهل السنة هذا العلم شعوذة وبدعة، وشجعهم على ذلك أن نفرا من المشتغلين بالكيمياء، أخذوا يعملون لتحويل بعض المعادن الخسيسة إلى الذهب النفيس..! ثم إن الصراع احتدم حول خلق القرآن بين المعتزلة وأهل السنة. وما كان الإمام أحمد بن حنبل على صلة بكل هذا المضطرب، واكتفى بأن يحض الناس على أن يهتموا من الدين بما فيه نفع للناس، وبما يقيم المجتمع الأمثل.
وجد المأمون أن الفتنة توشك أن تنفجر بين أهل السنة والمعتزلة، وكان هو نفسه يدين بآراء المعتزلة، وبصفة خاصة بطرائقهم الفلسفية وباستخدامهم المنطق في مجادلة الملحدين والزنادقة .. وكان راعيا لأصحاب الفلسفة، مؤمنا إيمانا عميقا بأن القرآن مخلوق، وبأن الجدل وسيلة صالحة للوصول إلى الحقيقة. واصطنع لنفسه أعوانا من الجانبين .. فجعل الرجل الأول في قصره من كبار أهل السنة، وهو يحيى بن أكثم، وقرب إليه في الوقت نفسه عددا من مفكري المعتزلة على رأسهم الجاحظ شيخ كتاب ذلك الزمان، وأحمد بن أبي دؤاد شيخ المعتزلة.
ولكن أحمد بن أبي دؤاد كان عنيفا على أهل السنة، يتهمهم بالكفر لأنهم ينكرون خلق القرآن. فإن لم يكن القرآن مخلوقا وكان قديما فهو إذن شريك الله تعالى في القدم .. وهذا شرك! أما المعتزلة فكانوا يرون أن الله كل شيء فالقرآن عن الأشياء التي خلقها الله تعالى .. وحاول أحمد بن دؤاد أن يقنع المأمون بقهر مخالفيه على اعتناق رأيه، ولكنه أبى ذلك فالمأمون يرى أن غلبة الحجة خير من غلبة القوة .. فالقوة تزول، أما الحجة فباقية ما بقى العقل.
وجمع المأمون أربعين من المفكرين والقضاة والعلماء والفقهاء فتناظروا عنه، غير أنهم لم ينتهوا إلى اتفاق! .. لم يشهد أحمد بن حنبل هذا الاجتماع، وإذ كان لا يغشى مجالس الحكام، ولا يقبل عطاءهم، مهما تكن شدة حاجته .. كان مشغولا عن كل هذا بما هو فيه من تدريس وعلم وجمع للأحاديث. ثم إن رأيه معروف لا يجادل فيه بعد .. فقد نهى عن الخوض فيما لم يخض فيه السلف والسلف لم، يخوضوا في خلق القرآن .. ولقد أعلن أكثر من مرة: "ما أفلح صاحب كلام".
بعد المناظرة خرج أهل السنة يهاجمون أصحاب الكلام في الحلقات، ويتهمون من يقولون بخلق القرآن بأنهم كفار .. أو بالقليل أصحاب بدعة!! ولم يستطع يحيى بن أكثم وهو من شيوخ أهل السنة أن يسكت أصحابه، فعرضوا بالمأمون نفسه! وشجع انشغال المأمون بالخلافات الداخلية جيوش الروم فهددت أطراف الدولة، فخرج المأمون بالخلافات الداخلية جيوش الروم فهددت أطراف الدولة، فخرج المأمون بجيشه مجاهدا، وأخذ معه الجاحظ وأحمد ابن دؤاد مستشاره الأول ..
وحين استقر الخليفة على رأس جيشه في طرطوس، داهمه المرض، فانتهز أحمد بن أبي دؤاد الفرصة وأنبأه أن أهل السنة في بغداد قد انتهزوا فرصة غيابه ومرضه ليشعلوا الفتنة ضده، فهم يكفرون من يقول إن القرآن مخلوق وعلى رأسهم الخليفة..!!
وإذن فالخليفة مطالب بأن يصنع شيئا لإنقاذ الدولة! وأمر الخليفة بأن يتولى أحمد بن دؤاد عنه أمر الذين يكفرون من يقول بخلق القرآن .. فأرسل إلى نائب الخليفة في بغداد بأن يجمع كل الفقهاء والعلماء والقضاء وأهل الرأي ليمتحنهم في خلق القرآن. فمن أنكر خلق القرآن فليعزل من منصبه، ولينذر من ليس في منصب منهم أنه لن يتولى منصبا أبداً، ولن تقبل له شهادة، وليأمر القضاة منهم بأن يمتحنوا الشهود في خلق القرآن، فمن خالف رأي الخليفة فلا تقبل شهادته .. وسمى له أسماء من يجب أن يمتحنهم وفيهم أحمد بن حنبل!
ورفضوا جميعا القول بخلق القرآن.
فأرسل الخليفة يطلب سبعة منهم، فأجابوه إلى ما أراد، فأعادهم إلى بغداد، طلب إعلان اعترافهم، وطلب إعادة سؤال الباقين في بغداد. وجاء نائب الخليفة بهؤلاء .. فمنهم من أبى الخوض في الموضوع كالإمام أحمد بن حنبل، ومنهم من قال إن الرأي ما يراه الخليفة، ومنهم من أنكر خلق القرآن، ومنهم من أقر بأن القرآن مخلوق .. وأرسل نائب الخليفة في بغداد إلى أحمد بن دؤاد بما حدث .. فأرسل أحمد ابن أبي دؤاد باسم المأمون رسالة طويلة، يسب فيها الجميع ويتهمهم بالرشوة والفساد، والسرقة، والنفاق والتظاهر وحب الرياسة .. لم يترك أحدا منهم إلا الإمام أحمد بن حنبل، فقد اتهمه بالجهل!.
ثم إنه أمر نائب الخليفة بأن يهددهم بالقتل، إذا لم يوافقوا على أن القرآن مخلوق .. فمن وافق منهم فليشهر أمره في الناس، ومن لم يوافق فليرسله في الأصفاد والأغلال إلى أمير المؤمنين!. وأمير المؤمنين إذ ذاك قد ثقل عليه المرض .. فقد اشتهى رطبا غسله في ماء جدول بارد، فأصابته حمى زادته مرضا على مرض، حتى كان يفقد الوعي فترات طويلة، ولم ينفعه طب!
قال أحمد بن حنبل حين سئل أول الأمر عن القرآن: "هو كلام الله". فسأله نائب الخليفة أمخلوق هو؟ قال: "هو كلام الله لا أزيد عليها". وسئل ما معنى "سميع بصير، أهو سميع من أذن يبصر عن عين؟" قال الإمام أحمد: "ما أدري، هو كما وصف نفسه" .. دعا نائب الخليفة كل العلماء والفقهاء والقضاة، وعرض عليهم رسالة أحمد بن دؤاد التي يهددهم فيها الخليفة بالقتل إن لم يوافقوا على أن القرآن مخلوق ..
وأحضرهم جميعا فإذا بهم كلهم يجيبون بأن القرآن مخلوق..! وكان الإمام أحمد رجلا لينا، فلما سمع العلماء يجيبون، انتفخت أوداجه، واحمرت عيناه، وذهب ذلك اللين الذي كان فيه ..
وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "سيصيبك بعدي بلاء شديد" فقال أبو ذر: "أفي الله يا رسول الله؟" قال: "نعم" "فاغرورقت عينا أبي ذر، وأدرك أنه من أهل الجنة!!
اغرورقت عينا الإمام أحمد .. ورفض الإذعان. وتابعه تلميذ له من جيرانه، وهو طالب علم شاب، رقيق الحال اسمه محمد بن نوح. وإذ رأى الحاضرون أن جميع الفقهاء والعلماء والقضاة في العراق قد وافقا أحمد بن أبي دؤاد على رأيه قال قائل منهم للإمام أحمد: "ألا ترى أن الباطل ظهر على الحق؟" قال الإمام أحمد: "كلا. إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة، وقلوبنا بعد لازمة للحق".
وضعت الأغلال والأصفاد على الإمام أحمد، وتلميذه الشاب محمد ابن نوح .. وحملا معا في دابة واحدة، وسيقا من بغداد إلى طرطوس!!. وانتشر الخبر في كل أنحاء العراق. وسخط الناس على المعاملة التي يلقاها الإمام أحمد حتى إذا كان في بعض الطريق قابله رجل فقال له: "يا هذا .. ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة!" .. ثم قابله أعرابي فقال له: "إن يقتلك الحق مت شهيدا، وإن عشت عشت حميدا" ..
تسامح الناس بما كانوا من أمر الإمام أحمد .. وتناقلت خبره الركبان إلى خارج العراق، فغضب له حتى الذين ليسوا على رأيه وما لقيه أحد إلا قوى قلبه وشد أزره. وشرد أحمد بن حنبل وهو يعاني فوق مركب خشن تحت الأغلال، وتساءل لماذا يمتحنه الخليفة المأمون بخلق القرآن؟! إنه يمتحن الذين يتولون مناصب في الدولة كالقضاة، والذين ينالون عطائه .. والإمام لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
لقد جمع العلماء للمناظرة في هذا الأمر وهو في بغداد منذ ست سنين .. فما باله الآن بعد أن ترك بغداد مجاهدا في سبيل الله يمتحن العلماء؟! .. وما باله لا يسير على سنة أبيه هارون الرشيد الذي أنذر زعيم المعتزلة في زمانه بالقتل، إن هو جاهر بأن القرآن مخلوق، وشغل الناس بهذه القالة؟! ..
ما بال المأمون يخالف نهج أبيه، ويخالف نفسه، ويعدل عن المناظرة إلى التهديد بالقتل؟!. ماذا حدث ليتغير المأمون؟! .. ولماذا يزج بالإمام أحمد في هذه الفتنة؟!.
الذي حدث أن أحمد بن أبي دؤاد زعيم المعتزلة، قد أصبح صاحب الرأي، وله الأمر؟! وأحمد بن دؤاد هذا لن يستريح حتى يرى كل الرؤوس كرأسه .. وبصفة خاصة رأس الإمام أحمد الذي يتعذب بعفته وشموخه المنافقون! كان ابن دؤاد يلهث لينال منصبا عند المأمون، وأحمد بن حنبل رفض منصب قاضي اليمن ليسير على قدميه من بغداد إلى صنعاء ويطلب الحديث ويعمل حمالا في الطريق، ونساجا للسرويل ونساخا بصنعاء ليوفر لنفسه النفقة!! ثم إن أحمد بن أبي دؤاد ينحني متقبلا لعطاء الخليفة، وأحمد بن حنبل يأباه!
وفي حلقات المسجد الجامع ببغداد يجتمع الآلاف حول الإمام في حلقته، أما ابن أبي دؤاد فلا يجرؤ أحمد على الجلوس في حلقته ولم يكتمل لحلقته قط عشرة من طلاب العلم وأصحاب المسائل!!. فإذلال الإمام أحمد هو عزاء ابن دؤاد عما يتردى فيه من هوان! ولكن الجاحظ وهو أعظم المفكرين والكتاب في عصره، يقيم مع الخليفة هناك .. فما بال الجاحظ لا يعظ الخليفة؟!.
من الحق أن الجاحظ سخر بعدد من العلماء المتزمتين من أجل السنة، وجعلهم هزأة، وأسماهم الحمقى من معلمي الصبية، ذلك أنهم اتهموه بالزندقة افتراء عليه، ولكن الجاحظ يعرف قدر الإمام أحمد بن حنبل، فما باله يترك المأمون يطلب مثول أحمد أمامه وهو في الأصفاد! كان المأمون نفسه قبل أن يمرض كان قد دخله شيء من بعض أهلس السنة، وكان الإمام أحمد إماما لأهل السنة، فمواقفهم وأقوالهم تحسب عليه على الرغم من شقائه بهم وبعده عنهم..!
فهذا النفر من علماء أهل السنة قد سكتوا عن المظالم من قبل، وشغبوا على أهل الغناء ولاعبي الشطرنج في بغداد، ثم بايعوا زعيم أهل الغناء إبراهيم المهدي أمير للمؤمنين بدلا من المأمون ثم أنهم أهدروا دم المأمون!! حتى إذا غلب المأمون، تسللوا إليه وهو على أبواب بغداد، ينافقون ويبايعونه، سارين في الليل أو سارين في النهار! ثم إنهم أنكروا عليه اهتمامه بالفلسفة والعلوم وحرضوا عليه العامة في بغداد، لأنهم يخالفونه في القول بخلق القرآن! وهاهم أولاء بعد أن هددهم يذعنون له، ويقول قائلهم: "ما تعلمنا العلم والفقه والدين إلا من أمير المؤمنين، ويهدرون في ذلك آراءهم وكرامتهم نفسها!!
ولكن الإمام أحمد بن حنبل طراز آخر من الرجال! وهو أشد الناس ضيقا بهذا النفر وإنكارا لهم وإزراء عليهم .. إلا أنه لا يتبع عورات الآخرين!! ولقد اعتزلهم حين عاتبوه، وواجههم على الرغم من لينه بأنهم قوم لا يحسنون إلا الغيبة والمراءاة والكذب والنفاق، وأن انصرافه عنهم إلى العلم هو العمل الصالح الذي يليق بالأتقياء! .. ألأن المأمون كان يعفهم شدد عليهم النكير، فاعترفوا، فأعلن على الناس عيوبهم؟!.!
لقد أذاع المأمون على الأمة ما صح عنده من مطاعن على هذا النفر من الفقهاء: الفساد، والرشوة والنفاق والتصاغر، والحقد والوشاية إلى مثالب أخرى غليظة ذكرها الطبري بالتفصيل فيما كتب عن أحداث سنة 218 هـ؟! .. ربما..!! ثم .. لماذا يقترف المأمون هذا البغي، وهو يجاهد في سبيل الله، وأحمد ابن حنبل يدعو المسلمين إلى نصرته؟! أيمكن أن تزدهر حضارة كل هذا الازدهار وتتألق فيها عقول المفكرين والعلماء وحرية الفكر على الرغم من ذلك تنتهك؟!
لعل ابن أبي دؤاد يريد أن يقنع الناس أن كل العلماء والفقهاء، يجب أن ينحنوا، بما أنه هو نفسه قد انحنى!! .. ولكن الإمام أحمد بن حنبل، كان يدرك أنه مسئول أمام الله عن الدفاع عما يؤمن بأنه حق، فإن مات في سبيله فهو شهيد. إنه لا يعرف أن المأمون لا يأخذ بالوشاية وهو يعتبر الأخذ بالوشاية أظلم من الواشي، فما خطبه معه؟ .. وهو يعرف أن المأمون لا يشتم أحدا، فكيف طعن في كل فقهاء السنة أبشع مطاعن!؟! إنه إذن لتأثير خارق على المأمون يمارسه بن أبي دؤاد! ..
وقد ظلت الحادثات طوال رحلة الضنى من بغداد إلى طرطوس، تلح على أحمد وتواجهه بأنه مسئول عن الحقيقة .. فإن تخلى عنها لحظة، انهار كل شيء في أعماق الناس!! وهكذا سار الإمام أحمد بروح شهيد!. سيناضل عما يؤمن به، لكيلا تسقط رايات الحقيقة، ولكي تظل الفضيلة شامخة أبدا!.
أما لمشفقون على الإمام أحمد، فقد نصحوه بأن يستجيب تقية .. ولكنه رأى أن التقية في موقف كهذا لا تجوز، أيقول غير ما يراه؟ ماذا يتقي؟! .. أهو الحكم بموته؟ إنه سيموت في يوم ما ولكن الناس؟ .. لعلهم سيعتنقون الرأي الخطأ، ويبقى هو مسئولا أمام الله عن تضليلهم!
بل لا تجوز التقية إلا في زمن غاشم يعلم الناس في الحقيقة، فلا يضللهم قول أو سكوت .. أما هذا الزمان فهو زمن يعدل فيه الخليفة، ويخرج فيه مجاهدا أعداء الإسلام .. والحقيقة في حاجة إلى رماة بواسل، وإلى شموع تحترق لتضئ الظلمات .. وإلا تخبط الجاهلون في عشوات الضلال.
لقد أذعن كل الفقهاء والعلماء إلا اثنين .. هو وتلميذه محمد بن نوح .. وبالأمس كان معهما اثنان آخران .. ولكن مس الحديد وثقل الأغلال، وإهانات الأوغاد، ثقلت عليهما .. فأجابا فيما دعيا إليه، فأطلق سراحهما. وسير الإمام أحمد ابن السادسة والخمسين، وتلميذه الشاب محمد ابن نوح في الأغلال والأصفاد، تحت الإهانة، وهما على بعير واحد إلى آخر الأرض..!
وسأله رجل في الطريق وقد رأى ضعف جسمه: "أإن عرضت على السيف تجيب؟" قال: "لا". فقال الرجل: "الله اكبر .. هذا هو الإمام أحمد". وألح الشعور بالمسئولية على الإمام أحمد .. وكان جلدا، ألف مشقات الأسفار، أما تلميذه الشاب فلم يحتمل المشقة، وأنهكه ما عاناه، فاعتل .. وما كان محمد بن نوح ليمتحن لولا أنه تلميذ الإمام أحمد وجاره .. كم من الناس يعذبون من أجلك يا أحمد؟!! ولكنه بلاء في الله يا أحمد!! بلاء في الله شديد!!
حتى إذا كانا في خان على الطريق، قابل أحد رواد حلقته أحد رواد حلقته في بغداد، وكان عزيزا لديه .. فقال له الإمام أحمد: "لقد تنيت" .. فقال الرجل: "ليس هذا عناء يا إمام .. أنت اليوم رأس الناس، والناس يقتدون بك". وأطرق الإمام أحمد وهو يتأوه .. أواه .. هنا العبرة يا بني .. أنا المسئول عن موقف الناس!!
وأضاف الرجل: "فوالله لئن أجبت بخلق القرآن، ليجيبن بإجابتك خلق من خلق الله". وهز الإمام أحمد رأسه وما تزال الدموع تبلل لحيته .. والرجل مستمر في قوله: "إن الخليفة إن لم يقتلك فأنت تموت، ولابد من الموت، فاتق الله ولا تجبهم بشيء." .. وارتفع صوت الإمام أحمد من خلال الدموع: "ما شاء الله ما شاء الله". ثم قال: "أعد علي ما قلت" فأعاد الرجل .. وهبت على الإمام أحمد نسمة من الرضاء بقضاء الله، جففت الدموع التي بللت لحيته فانطلق صوته الندي: "ما شاء الله ما شاء الله" .. وطابت نفسه بما كان قد صمم عليه .. ألا يجيب المأمون إلى ما يدعو إليه!!
واقترب الإمام وتلميذه محمد من طرطوس .. فإذا برجل يقبل إلى أحمد متهللا: "البشرى! لقد مات المأمون". كان أحمد قد دعها الله ألا يرى المأمون!! .. فلم يره قط! وأعيد أحمد وتلميذه محمد بن نوح إلى بغداد، وترفق رجال الشرطة بهما في الطريق، فما يدرون ما يكون شأن الإمام أحمد مع الخليفة الجديد؟! ربما أكرمه فباءوا هم بغضب الخليفة الجديد!.
وأحسنوا إلى الإمام أحمد وتلميذه محمد بن نوح .. ولكن محمد بن نوح الذي أضناه السفر تضعضع وخارت قواه، وعكف عليه أمامه يعالجه بلا جدوى، فقد نفد الزيت من المصباح، وحم القضاء .. وأمسك المناضل الشاب بيد أستاذ قائلا: "الله الله !! إنك لست مثلي. إنما أنت إمام يقتدي به، وقد مد الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك فاتق الله واثبت لأمر الله".
وسقط ميتا!!!
وما وعظ تلميذ أستاذ كما صنع محمد بن نوح مع الإمام أحمد بن حنبل..! ولكنه مات شهيدا دفاعا عما يؤمن به .. وبكاه الإمام أحمد أحر بكاء وصلى عليه .. وقال عنه: "ما رأيت أحدا على حداثة سنه وقلة علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح". عهد المأمون لأخيه المعتصم ـ وهو ابن جارية تركية ـ فتولى الأمر وكان المعتصم قوي الجسم حتى ليحمل حديدا يزن ألف رطل ويسير به خطوات! وكان على هذه القوة والبسطة في الجسم قليل الحظ من الثقافة .. حتى لقد أقصاه أبوه هارون الرشيد!
ولكن المأمون رأى أن جهاد أعداء الدولة يحتاج إلى رجل سيف في قوة المعتصم وحزمه وشدته، أوصاه بالإبقاء على ابن أبي دؤاد فترك له المعتصم شئون الدولة فأدارها الوزير على هواه .. أما المعتصم فوهب نفسه للحرب .. وكان أحمد بن أبي دؤاد حسن التأني حلو الحديث بارع النفاق، وكان على دراية بشيء من أخبار الأولين، وبأطراف من الثقافة لا يعرفها المعتصم، فاستطاع أن يستولي على عقل الخليفة، واستصدر أمرا بحبس أحمد بن حنبل في السجن الكبير ببغداد، وانشغل الخليفة المعتصم بتوطيد أركان الدولة فولى الأتراك مع أخواله.
وفي أول حكمه توالت أحداث غريبة ومبالغة: مات الإمام محمد الجواد فجأة كما ذهب من قبله إمام الشيعة أبوه الإمام علي بن موسى بن جعفر الصادق في ظروف مريبة .. ثم اتهم العباس بن المأمون بالتآمر على عمه المعتصم فقتل!
وفي السجن ترك الإمام أحمد شهورا تحت الأصفاد شهورا طوالا، ودسوا إليه خلالها عليه من يزينون له الاعتراف بخلق القرآن! .. وعادوا يذكرونه بجواز أن يقول المؤمن غير ما يؤمن به أو يسكت على ما ينكره من باب التقية فقال لهم: "إذا سكت العالم تقية والجاهل يجهل فمتى يظهر الحق؟. إن من كان قبلكم كان أحدهم ينشر بالمنشار ثم لا يصده ذلك عن دينه". دسوا عليه أكثر الناس تأثيرا عليه وأقرب الناس إليه: عمه!! ولكن بلا جدوى!
ثم عادوا يخوفونه بالتعذيب والضرب بالسياط .. وأنس إلى جار له بالسجن فقال له: ما أبالي بالحبس وما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلا بالسيف، وإنما أخاف فتنة السوط وأخاف ألا أصبر". فقال له جاره السجين: "لا عليك. فما هو إلا سوطان ثم لا تدري أين يقع الباقي". ومرت الشهور بعد الشهور والإمام أحمد في حبسه بين الترغيب والترهيب .. واحبه من في السجن، فأحاطوا به يلقون عليه المسائل فيجيب ويعلمهم مما علم رشدا .. وأكبره الجميع في السجن حتى السجانون.
أما خارج السجن، فقد كانت بغداد تموج بالسخط، على من سجنوا الإمام أحمد!. وتصاعدت نفثات التلاميذ والاتباع ورواد الحلقة، استنكارا لما حدث لإمامهم!. أما زملاؤه من العلماء والفقهاء الذين أجابوا المأمون لما أراد، فقد أسرعوا إلى مصانعة المعتصم، وكانوا يتمنون في أعماقهم أن يسقط الإمام أحمد كما سقطوا..! فلماذا يظل هو وحده دونهم نظيف الصفحات نقي السيرة مرتفع الهامة؟! وإن بعضهم على الرغم من كل شيء ليعاني من تأنيب الضمير .. وأرسل إليه أحد المعجبين به وهو شيخ في نحو التسعين ومن يقول له: "اثبت فقد حدثنا الليث بن سعد عن ..
عن أبي هريرة: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أرادكم على معصية الله فلا تطيعوه"
وانشرحت نفس الإمام أحمد، فهاهو ذا شيخ في التسعين يرسل إليه يشد أزره لا يبالي بحديث شريف لم يعرفه من قبل! فقام في السجن يؤذن بالصلاة وعرف ابن أبي دؤاد أن خصمه قد فتن كل من في السجن: المسجونين وحتى السجانين!! فأمر بنقله إلى سجن خاص في قبو بدار والي بغداد، ليكون وحده. وضاعفوا له القيود والأغلال وأقاموا عليه سجانين من شذاذ الخلق، من مماليك أتراك، فيهم الغلظة والغباء، والجهل باللغة العربية فلا يفهمون ما يريد إن هو طلب منهم شيئا: ماء أو نحوه!
وأرسلوا إليه من الفقهاء من يناظره، ولكنه لم يزد على ما قاله من قبل، وظل يرفض القول بخلق القرآن. ثم حملوه إلى دار الخلافة وهو يرسف في أغلال وقيود وسلاسل يكاد يسقط من تحتها..! .. فقد كانوا كلما مر عليه يوم، زادوا عليه في ثقل الحديد! وكان الوزير وقاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد قد أرسل إلى كل ولاة الأمصار باسم المعتصم يأمرهم أن يمتحنوا العلماء والقضاة والفقهاء في خلق القرآن، فمن أنكر منهم، حمل في الأصفاد مهانا إلى دار الخلافة ببغداد ..
ومثل أحمد أمام الخليفة وحوله حشد من العلماء والفقهاء المنافقين وابن أبي دؤاد .. وإذ بالإمام أحمد يرى في الأصفاد صديقا له من مصر، درس معه على الشافعي في مكة وبغداد .. وهو الآن فقيه عالم تقي مسموع الكلمة في مصر .. وقد سحبوه في سلاسل الحديث لأنه رفض القول بخلق القرآن! .. وكان أحمد منهكا مما عاناه، ولكنه حين شاهد صديقه الفقيه المصري تهلل قائلا: "أي شيء تحفظ عن أستاذنا الشافعي في المسح على الحفين عند الوضوء؟!" وانفجر ابن أبي دؤاد محنقا: "انظروا رجلا هو ذا يقدم لضرب العنق يناظر في الفقه؟!".
بدأ الخليفة يحاكم أحمد بن حنبل.
يحكي الإمام أحمد ما جرى في هذه المحاكمة: (قال المعتصم لأحمد بن أبي دؤاد: "أدنه" فلم يزل يدنيني حتى قربت منه. ثم قال: "أجلس". وقد أثقلتني الأقياد. فمكثت قليلا. ثم قلت: "تأذن لي في الكلام؟" فقال: "تكلم". فقلت: "إلام دعا الله ورسوله؟." قال المعتصم: "شهادة ألا إله إلا الله." فقلت: "فأنا أشهد أن لا إله إلا الله". ثم روى الإمام أحمد أن المعتصم قال له أنه لو لم يجده في يد من قبله لما عرض له. ثم سأل أحدا ممن كانوا حوله: "ألم آمرك برفع المحنة؟!". وأمر الفقهاء الموجودين فناظروا الإمام أحمد في خلق القرآن.
قالوا له: "ما تقول في القرآن" ما تقول في علم الله عز وجل فسكت، فقال بعضهم: "أليس قد قال الله عز وجل
{ٱللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}( الرعد ،الآية : 16 )
والقرآن أليس هو بشيء؟" فرد الإمام أحمد: "قال تعالى:
أفدمرت إلا ما أراد الله عز وجل؟ والله تعالى لم يسم كلامه في القرآن شيئا. يقول الله تعالى:
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (الأحقاف ، الآية : 24 )
فالقول ليس الشيء ولكن الشيء هو الذي يقول له الله. ويقول تعالى:
{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً}(يس ، الآية : 82 )
فالشيء ليس أمره وإنما هو ما يأمره .. وقال له بعضهم في الأثر "إن الله خلق الذكر أي القرآن". قال هذا خطأ. حدثنا غير واحد إن الله كتب (لا خلق) الذكر.
واحتجوا عليه بما رواه ابن مسعود: "ما خلق الله عز وجل من جنة ولا نار ولا سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي" فقال أحمد: "إنما وقع الخلق على الجنة والنار والسماء والأرض ولم يقع على القرآن. وكان أحمد بن أبي دؤاد أقنع المعتصم نم قبل، أن من رفض القول بخلق القرآن لا يحق له أن يجلس للناس، ليحدثهم أو ليفتيهم، في جامع أو في داره أو في أي مكان، بل هو مخالف للإسلام، يجعل القرآن قديما كالله تعالى، فهو مشرك يحل دمه!! وما عاد في أهل السنة بالعراق من يرفض الاعتراف بخلق القرآن إلا إمامهم أحمد بن حنبل وهو يزنهم جميعا!!
وكان الخليفة المعتصم لقلة حظه من العلم لا يريد أن يخوض في المسألة كلها، فكان يقول كلما اتهموا الإمام أحمد بن حنبل بالكفر: "ناظروه، ناظروه". فوثب أحمد بن أبي دؤاد مغيظا: "يا أمير المؤمنين هو والله ضال مضل مبتدع." وتتابع الفقهاء الحاضرون يشتمون الإمام أحمد بن حنبل فلم يعبأ الخليفة بهم وقال لهم: "ناظروه".
وكانوا كلهم قد ناظروه .. فاقبل ابن أبي دؤاد يناظره.
فلم يلتفت إليه الإمام أحمد.
فسأله الخليفة: "ألا تكلمه؟" فقال أحمد: "لا أعرفه من أهل العلم فأناظره .." ثم استطرد: "يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله عز وجل". فاقبل الخليفة يغري الإمام أحمد ويقول له: "والله إني عليه لشفيق. "ثم قال للحاضرين" والله إن أجابني لأطلقن عنه يدي ولأركبن إليه بجندي.
فلم يزد جواب أحمد على أن قال: "أعطوني شيئا من كتاب الله عز وجل" .. وقال الخليفة لأحمد: "ما أعرفك" فقال أحد الفقهاء الحاضرين وقد أنبه ضميره: "يا أمير المؤمنين. أعرفه منذ ثلاثين سنة يرى طاعتكم والحج والجهاد معكم." فقال المعتصم: "والله إنه لعالم وإنه لعالم وإنه لفقيه. وما يسوءني أن يكون مثله معي يرد عني أهل الشرك.
ثم قال: "يا أحمد أجبني إلى شيء فيه أدني فرج لك، حتى أطلق عنك يدي" فقال أحمد: "أعطوني شيئا من كتاب الله عز وجل." ولم يزد على ذلك!
وقام الخليفة مهموما، وأعيد أحمد إلى السجن وأرسلوا إليه من يناظره في السجن وينذره: "أن أمير المؤمنين قد حلف أن يضربك وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشمس. ويقول إن أجابني أحمد أطلقت عنه يدي."
فلم يجبه أحمد..!
وفي اليوم التالي أعيد أحمد إلى مجلس الخليفة المعتصم، وكان الوقت رمضان .. وأحمد قائم ليله صائم نهاره .. وقد أوشك الخليفة أن يطلقه لتهدأ عنه الثورة التي أوشكت أن تنفجر في بغداد غضبا للإمام أحمد.
فقال ابن أبي دؤاد: "يا أمير المؤمنين أن العامة تصدقه .. والعامة تقول أن أحمد بن حنبل قد دعا على المأمون فمات، إن العامة وهم حشو الأمة يصدقونه ويتبعونه بالحق والباطل. فإن تركته شجعت عليك العامة وخالفت مذهب المأمون، فيقول العامة أن أحمد غلب الخليفتين".
واستفز هذا الكلام المعتصم فقال: "ناظروه لآخر مرة". وناظروا أحمد في خلق القرآن وفي رؤية الله تعالى فاحتج عليهم بحديث صحيح: "أما أنكم سترون الله ربكم كما ترون هذا البدر "(وكان الرسول مع صحبه في ليلة البدر)! وشك ابن أبي دؤاد في صحة الحديث، فأكد الإمام أحمد صحة الحديث واستشهد بفقيه فقير، مشهور بالأمانة والعفة، يحسن رواية الأحاديث .. ولكنه كان فقيرا جهد الفقر لا يملك قوت يومه، وقد اعتزل الناس، واختفى طوال أيام الامتحان بخلق القرآن، فتركوه. وأسرع إليه بن أبي دؤاد وقد عرف من الجواسيس أين يختفي وسأله عن حاله، فلم يجد معه درهما .. وسأله عن الحديث الذي رواه أحمد في المناظرة أمام المعتصم .. فقال الرجل أنه حديث صحيح .. وألح عليه أن يكذب الحديث وقال أن مجلس الخليفة منعقد وهو ينتظر الجواب، والخليفة في حاجة إلى من يكذب هذا الحديث .. ثم أضاف .. هذه حاجة الدهر .. وأعطاه عشرة آلاف درهم، ومازال يلح حتى قال الرجل: "في الإسناد من لا يعول عليه"!
وأسرع به ابن أبي دؤاد يروي ما سمعه على الخليفة في المجلس!! ودمعت عينا أحمد أسفا على المحدث الفقير الذي انهار أمام الحاجة!! وأرجعوا أحمد إلى السجن .. ليعودوا به في اليوم التالي إلى دار الخلافة، فيمروا به على قاعات عديدة حشد فيها سجانون وسيافون غلاظ .. عسى أن يرهبه المنظر .. ويغريه الخليفة الآخر مرة، فيأبى أن يقر بخلق القرآن فيصرخ فيه الخليفة: "عليك اللعن خذوه واسجنوه".
فأخذوا الإمام فعلقوه، وظلوا يضربونه ويقولون له: "أجب" فلا يجب. صبرا يا أحمد .. إنه بلاء في الله شديد.!
واشتد به الوجع واللظى وهو صائم .. وأغمى عليه .. حتى إذا أفاق جاءوه بماء ليشرب. فقال: "لا أفطر".
وطرحوه على وجهه وداسوه بالنعال .. حتى أغمى عليه .. ورأوا دماءه تسيل فملئوا منه رعبا! وعندما أفاق أحمد، أخذ ينظر إليهم بلا اكتراث، ولكنها نظرات يخالجها الازدراء!! ويقول أحد الذين شاهدوا تعذيبه: "ما كنا في عينه إلا كأمثال الذباب". ومن خارج دار الخلافة، اجتمع الآلاف من محبيه وتلاميذه، حتى الذين لا يرون رأيه كانوا ينكرون في صراخ غاضب ما يحدث له. وتعالى هدير الاحتجاج والاستنكار .. وأغراه أحد الحاضرين أن يعترف لينجو من العذاب ويخرج إلى محبيه فقال: اقتل نفسي ولا اقتل هؤلاء جميعا".
ودخل أحد الفقهاء داره على بناته، فوجدهن يبكين ويطالبنه أن يذهب إلى المعتصم مستشفعا للإفراج عن أحمد بن حنبل .. وقال البنات لأبيهن: "أدركوا ابن حنبل قبل أن يضعف من التعذيب. فلأن يرسل إلينا نعي أبينا أهون علينا من أن نسمع أن أحمد بن حنبل قد أذعن!!". ووقف أحد الفقهاء بباب المعتصم يصرخ "أيضرب سيدنا؟! أيضرب سيدنا!؟ لا صبر لنا"وانفجرت الهتافات تلعن ابن أبي دؤاد والمعتصم نفسه! وأوشكت الثورة أن تشغل في بغداد، وكان المعتصم يعد العدة لجهاد الروم .. فلعن الجميع، وأمر أن يعفوه من كل هذا ليفرغ هو للحرب.
وأطلق سراح الإمام أحمد ..
وأعيد إلى بيته يعالج جراحه، ولزم داره مريضا منهكا .. وقيل له: سيعذب الله المعتصم فيك لأنه ضربك وأنت ساجد .. فذكر لهم قول الله تعالى: "وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله". وعندما علم أن المعتصم خرج ليحارب الروم فانتصر وفتح عمورية، فرح الإمام أحمد وقال!! عفا الله عنه بما جاهد في سبيله".
وقد عوتب الجاحظ عن موقفه من محنة أحمد فقال: "لو كان كل كشف هتكا، وكل امتحان تجسسا، لكان القاضي أهتك الناس لستر، وأشد الناس تتبعا لعورة". وكان تعليق أحمد على قوله الجاحظ: "عفا الله عنه". لقد ظل أحمد في سجن المعتصم نحو عامين ونصف عام، يضرب بالسياط ويعذب بالسيف، ويوطأ بالأقدام عندما يسجد في الصلاة .. ويغرونه خلال هذا التعذيب بكل طيبات الحياة إن هو .. عدل عن رأيه، وهو يهمهم لنفسه: إنه لبلاء في الله شديد.
وبعد أن شفي أحمد من آثار التعذيب، خرج إلى حلقته، فاستقبلته بغداد استقبال الفاتحين .. ولم يستطع أحد أن يمنع الناس عنه .. وعاد يحدثهم ويعلمهم كما عودهم من قبل. حتى إذا مات المعتصم، وتولى الواثق، حاول أن يسير سيرة المأمون .. وجمع إليه أهل العلم والفلسفة، وحفلت مجالسه بمناظرات علمية وفقهية خصبة .. وناظر هو نفسه في الطب والكيمياء والفلك والرياضيات. وكان مجلسه يجمع المثقفين من جميع الديانات.
ولقد حاولوا أن يغروا الواثق بالإمام أحمد ولكنه سئم هذا الأمر، وخشي الثورة، ورأى أن يترك الناس على آرائهم .. ثم أن القول بخلق القرآن صار مادة لعبث ظرفاء العصر، فقد دخل على الواثق أحدهم يقول به: "عظم الله أجركم في القرآن. فإن القرآن قد مات!". فنهره الخليفة الواثق قائلا: "ويلك! القرآن يموت؟" قال: "يا أمير المؤمنين ألستم تقولون إن القرآن مخلوق؟ فكل مخلوق يموت! فبم يصلي الناس التراويح؟". فضحك الواثق وقال: "قاتلك الله أمسك". حقا لقد سئم الناس، وسئم الحكام .. إلا أن ابن أبي دؤاد .. فمازال بالخليفة حتى استدعى الإمام أحمد فقال له: "لا تجمعن إليك أحدا ولا تساكني في بلد أنا فيه".
فاختفى الإمام أحمد، وحمل إلى الواثق فقيه من الأمصار اشتد في الهجوم على من يقولون بخلق القرآن .. وكان الرجل في الأصفاد، فأمره الخليفة أن يناظر ابن أبي دؤاد .. فقال الرجل: "شيء لم يدع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا الخلفاء الراشدون من بعده وأنت تدعو الناس إليه، ليس يخلو من أن تقول علموه أو جهلوه. فإن قلت علموه وسكتوا عنه، وسعني وإياك من السكوت ما وسع القوم. وإن قلت جهلوه وعلمته أنت، فيا لكع أين لكع، أيجهل رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون، وتعلم أنت!!". فوثب الواثق من مجلسه، وهو يردد كلام الرجل ضاحكا، وأمر بإطلاق سراح الراجل. ولم يعد الواثق إلى امتحان في خلق القرآن .. وانصرف إلى الحرب حتى مات ..
ومات الواثق وتولى ابنه المتوكل .. فاحسن إلى الإمام أحمد وحاول أن يصله بالمال .. ولكن الإمام أحمد ظل على عهده يرفض العطاء. على أنه رخص لأولاده في قبول عطاء الخليفة، وظل يعلم الناس حتى بلغ السابعة والسبعين، فمرض واشتد به المرض، وكان قد أصبح في عصره أوحد عصره حقا .. وقد ألف كبار رجال الدولة أن يخوضوا الطين إلى بيته الواقع في شارع ضيق مترب، موفدين من الخليفة يطلبون منه الرأي. وما كان يبخل بالرأي .. وقال عنه المتوكل: "لو نشر أبي المعتصم وقال فيه شيئا لم أقبله..".
ولم يطل المرض بالإمام أحمد بن حنبل .. فمات بعد أن ترك ثروة ضخمة من الأحاديث والفقه، وهو يوصي اتباعه وأصحابه أن يدعوا إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويذكرهم بأن الله تعالى قال لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون: "اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا" .. فالقول اللين واجب في الدعوة .. على أن اتباعه اشتدوا على الناس حين أزعجوهم وجعلوا الأجيال تنسب إلى الإمام ما ليس فيه..!
ولقد أمر المتوكل بالضرب على أيدي اتباع الإمام أحمد حين هاجموا أهل البدع من أصحاب الغناء والطرب ولاعبي الشطرنج .. وحين أفسدوا ملابس النساء بالحبر .. وكان الإمام أحمد قد رخص بهذا للسلطان إن خرج النساء متعطرات متزينات .. وكان النساء قد زحمن شوارع بغداد بملابس وعطور تثير الفتنة .. وملأن ليلها بالمغامرة!! فانتزع اتباع ابن حنبل سلطة الخليفة، وأخذوا لهم يعاقبون الناس .. فأمر الخليفة بأخذ اتباع الإمام أحمد بالشدة، وزج بهم في السجن، ولكنه قال في الإمام أحمد: "لقد عرف الله لأحمد صبره وبلاءه ورفع علمه أيام حياته وبعد موته. وأنا أظن أن الله تعالى يعطي أحمد ثواب الصديقين." ..
على أن الإمام أحمد تدبر قبل موته رأيه في خلق القرآن.
فذهب إلى أن من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر، وزعم أنه غير مخلوق فهو مبتدع .. فالقرآن بحروفه ومعانيه هو كلام الله غير مخلوق، وهو من علم الله، وعلمه غير خلقه، فالقرآن غير مخلوق، ولكنه حادث بحدوث التكلم ..
والأمر كله لا يستحق المحنة التي سقط بسببها شهداء كمحمد بن نوح، والبويطي الفقيه المصري تلميذ الشافعي، ونال بسببها بعض الفقهاء والعلماء تشهيرا أزرى بهم في عيون الناس، ونال فيها الإمام أحمد أبلغ الأذى .. فالقول بخلق القرآن أو عدم خلقه لا يحقق شيئا من مصالح العباد، ولا يقيم المجتمع الأمثل الذي هو هدف الشريعة!! على أن الإمام أحمد نال بسبب هذا الأذى مكانة كبيرة، فقد كان مثالا خارقا لصاحب الرأي الذي يناضل في سبيل رأيه .. فأكبره الذين يوافقونه والذين يخالفونه على السواء .. إلا الذين في قلوبهم مرض!
ومهما يكن من أمر، فقد واجه عصرا تشيع فيه البدع، فواجهه بالتشدد في الأخذ بالسنة في العقائد والعبادات. وهو عصر يطرح على العقل مستحدثات الأمور، فواجهه الإمام أحمد بالتيسير على الناس في المعاملات. وبهذا حض على الاجتهاد وحذر من التقليد. ولكن مناصريه من أهل السنة ضيقوا على الناس. ثم جاء من بعده اتباع أساءوا إليه، فافترى عليه التزمت، والتضييق وكل ما عاشه يناضل ضده!
وجاء آخرون اجتهدوا على طريقته وتمسكوا بالسنة في مواجهة البدع .. واتخذوا مثله مواقف صلبه فيما يعتقدون أنه الحق .. فأصابهم في ذلك بلاء شديد. ومن الإنصاف للإمام أحمد بن حنبل أن ينزهه الناس بما صنعه بعض الأراذل من اتباعه في العصور المتأخرة. فلا ينسب التزمت وضيق الأفق إلى هذا الإمام العظيم .. الذي كان متبعا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سماحة الخلق، ولين الجانب، والقول الحسن، والبر والورع والتقوى ونصرة المظلوم.
من الظلم أن يطلق على المتنطعين والجامدين وعلى كل فظ غليظ القلب: اسم الحنابلة .. فقد كان الإمام أحمد داعيا إلى الحركة، ومواجهة كل عصر بأحكام جديدة يقاس فيها على روح الشريعة، ويؤخذ بمقاصدها العامة .. وكان عدوا للتقليد والجمود، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، متبعا للسنة في كل شيء حتى في أخص دقائق الحياة ..
لقد ماتت أول زوجة للإمام أحمد وهو في الستين، فتزوج بعدها بأيام لأنه علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ تزوج لم يعش بلا زوجة .. وماتت الثانية وهو في السبعين، فتزوج بعدها بأيام من جارية له .. ثم أنه تعلم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل يجب ألا يعيش بلا امرأة!! وقد أصابه ابن أبي دؤاد بأبلغ الأذى، ولكنه عفا عنه بعد أن خرج من المحنة، ولم يسمح لأحد أن يجرحه أمامه، وبكى الإمام أحمد عندما علم أن ابن أبي دؤاد فجع بفقد ولده!! ..
ودعا الإمام أحمد لكل الخلفاء الذين أساءوا إليه ذلك أنهم جاهدوا في سبيل الله!. وحض اتباعه على تأييدهم .. لقد كان الإمام أحمد يعلم الناس قول الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ما جاء إلا ليتمم وليكمل مكارم الأخلاق .. من أجل ذلك احترم الإمام أحمد أهل الديانات السماوية التي سبقت الإسلام، لأن الرسالة المحمدية، ما جاءت إلا مكملة لها .. وأخذ نفسه وأصحابه بمكارم الأخلاق .. وعلم الناس أن هدف الشرائع جميعا ه العدل لقوله تعالى: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط".
ومن أجل ذلك طالب أهل الشرائع جميعا أن يسيروا في الناس بالعدل، وأن يناضلوا دفاعا عن العدل، فهو قوام الحياة وضمان الحرية، وحصن الإنسان. والإمام أحمد بن حنبل على الرغم من كل خلاف معه، إمام قد أغنى الفقه، ونفع الناس، وأقام السنة وردع البدع .. ولئن أساء إليه بعض اتباعه، فافترى عليه ما هو برئ منه، إنه سيظل بنصاعة سيرته، وصلابة اتباعه للسنة، علما من أعلام الفقه الإسلامي، ودعوة مستمرة إلى التجديد أخطأ أم أصاب ..
إنه واحد من أولئك العلماء العظام الذين اجتهدوا بعد عصر الصحابة والتابعين، واختلفوا في مناهجهم، فمنهم من خرج بسيفه على الحاكم الظالم كما صنع الإمام زيد بن علي .. ومنهم من دعا إلى إعمال العقل، وحض على التفكير في خلق السماوات والأرض، واستعمل معطيات العلوم والمعارف الكونية للاستدلال على حقائق الدين، كما صنع الإمام جعفر الصادق مع فهم دقيق معجز للقرآن والسنة ومقاصد الشريعة والعمل على تطبيق مبادئها في الحياة اليومية، حتى لقد رفض الخلافة ليتفرغ للعلم والفقه!
ومنهم من اتجه إلى الأخذ بالرأي وتوسع فيه وأفاد من النظر العقلي كالإمام أبي حنيفة النعمان، الذي لزم الإمام جعفر الصادق سنتين تعلم فيهما الكثير، وإن اختلفا من بعد، حتى قال أبو حنيفة النعمان "لولا السنتان لهلك النعمان". ومنهم من عول على الحديث وحده، ووجد في عمل أهل مدينة رسول الله أخذا بسنة رسول ثم اجتهد فتوسع في الأخذ بالمصلحة على خلاف غيره، كالإمام مالك بن أنس.
ومنهم من اتخذ منهجا وسطا بين الرأي والحديث في استنباط الأحكام وجعل سيرته الخاصة مثلا للبر والتقوى ولسماحة الإسلام وحضه على العدل والإحسان كالإمام الليث بن سعد إمام أهل مصر، حتى لقد كان يأتيه خراج ضيعة له بالفرما (بورسعيد الحالية وما حولها) فلا يمسه بل يضعه في صرر، ويجلس على باب داره ذات العشرين بابا ليوزعه على المحتاجين صرة بعد صرة، ويحسن إلى أقباط مصر اتباعا لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم، فيتخذ منهم الأصدقاء، ويحضهم على نقل ثقافة مصر إلى اللغة العربية، ثم يشتري بيتا من واحد منهم لحاجته إليه، فإذا علم أن صاحب البيت باعه لأنه محتاج بكى وترك له البيت والثمن، وأجرى عليه رزقا!. ثم أعلن في الناس أن ولي الأمر آثم إن ترك أحدا في دار الإسلام له حاجة!! ثم يستنبط من منهجه الوسط بين الرأي والسنة قواعد للمعاملات تقيم العدل بين الناس ..
ومن هؤلاء الأئمة العظام محسن زاهد عبد الله المبارك يترك الحج، ويتصدق بكل ما حمل من مال وزاد لفتاة حسناء تبحث عن وقتها وسط المزابل، خشية أن يغريها الشيطان بالبحث عن الطعام في وحل الخطيئة..!.
ومنهم من وضع أصول الفقه وحمل بين جنبيه معطيات السنة والرأي جميعا، وصحح مفاهيم الناس عن السنة والرأي، وجادل أهل الزيغ بمنطق العصر كما فعل الإمام الشافعي.
عاشوا كلهم في سنوات متقاربة، بفكر خصب، كحلقات ذهبية نادرة في سلسلة نورانية .. عاشوا كلهم خلال قرن واحد من الزمان، في أواخر العصر الأموي وأواسط العباسي، وعرفوا البلاء والمحنة فما وهنوا، وما نزلوا عن رأي، وما أحنوا رأسا، بل كانوا كمعدن الحديد تزيده النار صلابة، وكالذهب يكسبه اللهيب نقاء..! ..
ويالله كم نفتقدهم في مثل هذا الزمان!!
ومهما تختلف آراء هؤلاء الأئمة العظام فيما بينهم، فقد احتفظ كل واحد منهم باحترامه لصاحبه أو لمن سبقه، وبفضيلة العرفان .. فكانوا مثالا في أدب الخلاف .. كما كانوا بحق منارات! كلهم جاهد الظلم والقهر، ودافع عن حق الإنسان في الحرية والعدل والسعادة والحياة الكريمة الفاضلة .. وكلهم قاوم قاذورات عصره: من النفاق، والكذب، والزيف والاستغلال!
ومهما نختلف نحن معهم اليوم، فينبغي علينا أن نذكر لهم أنهم سلف صالح أغنوا الحياة الفكرية والفقهية باجتهاداتهم الخصبة، وينبغي علينا أن نتخذهم مثلا رائعة لما ينبغي أن يكون عليه رجل العلم والفقه والفكر .. ذلك أنهم ناضلوا بفكرهم الثري والرائد، ليحققوا المجتمع الذي أرادته الشريعة، وليجعلوا الإنسان على الصورة التي أرادها له الله تعالى حين قال لنبيه الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } ( القلم ، الآية : 4 )