ابن جبير.. الجغرافي الفاضل
الدكتور راغب السرجاني
الدكتور راغب السرجاني
عالم جغرافي شهير، تنقَّل بين الكثير من الأقطار الإسلامية، واصفًا لها وصفًا دقيقًا، وكانت لرحلاته عظيم الأثر في كل من جاء بعده، وأراد أن يسلك نفس هذا الدرب.
نسبه ومولده ودراسته
هو محمد بن أحمد بن جبير الكناني البلنسي، وُلد في العاشر من شهر ربيع الأول 540هـ/ 1145م في بلنسية، وينحدر من أسرة عربية عريقة، سكنت الأندلس عام 123هـ/ 740م قادمة من المشرق مع القائد المشهور بلج بن بشر بن عياض القشيري، وكان اسم جبير من الأسماء المحببة إلى أسرته، فقد حمله الكثيرون مِنْ قبله.
وقد أتم ابن جبير دراسته في شاطبة حيث كان يعمل والده موظَّفًا فيها، وقد شغف أول ما شغف بعلوم الدين فسمعها من أبيه، وأخذ القرآن عن أبي الحسن بن أبي العيش، ولكن ميوله برزت في العلوم الدنيوية أيضًا؛ إذ يَسَّرَتْ له مواهبُه الشعرية -من ناحية أخرى- نجاحًا في الأوساط الرسمية؛ مما جعله يحتلُّ منصب كاتبٍ لدى حاكم غرناطة أبي سعيد عثمان بن عبد المؤمن من الموحِّدين، ولم يلبث أن كسب الشهرة كاتبًا وشاعرًا، تُروى له عدة قصائد متفرقة، فضلاً عن ديوان شعر، كما ترك رسائل نثرية لها شهرتها في الأدب[1].
ومن شعره:
تَأَنَّ فِي الأَمْرِ لا تَكُنْ عَجِلاً *** فَمَنْ تَأَنَّى أَصَابَهُ أَوْ كَادَ أَن[2]
ومن نظمه:
فَكَمْ رَجَاهُ فَنَـالَ بُغْيَتَـهُ *** عَبْدٌ مُسِيءٌ لِنَفْسِـهِ كَادَا
وَمَنْ تَطُلْ صُحْبَةُ الزَّمَانِ لَهُ *** يَلْقَ خُطُوبًا بِـهِ وَأَنْكَادَا[3]
أخلاقه وثناء العلماء عليه
لقد كان ابن جبير كريم الخلق، ويتمتع بعاطفة دينية قوية، فكان يختم كل كلامه بالدعاء إلى الله تعالى والتوكُّل عليه جلَّ جلاله، كما دفعه تديُّنه إلى الدعاء للمدن التي مرَّ بها؛ فكان يدعو الله أن يحرس تلك المدن، وأن يُحَرِّرَ المحتلَّ منها؛ فقال: يحرسها الله، وعمرها الله، وحماها الله، وأعادها الله[4].
لقد نال ابن جبير الكثير من الثناء من علماء المسلمين؛ فها هو ذا المقري يقول عنه: "وسمع من أبيه بشاطبة، ومن أبي عبد الله الأصيلي، وأبي الحسن بن أبي العيش، وأخذ عنه القراءات، وعني بالأدب فبلغ الغاية فيه، وتقدَّم في صناعة القريض والكتابة"[5].
وقال عنه لسان الدين بن الخطيب: "كان أديبًا بارعًا، شاعرًا مجيدًا، سنيًّا فاضلاً، نزيه الهمة، سري النفس، كريم الأخلاق، أنيق الطريقة في الخط، كتب بسبتة عن أبي سعيد عثمان بن عبد المؤمن، وبغرناطة عن غيره من ذوي قرابته، وله فيهم أمداح كثيرة. ثم نزع عن ذلك، وتوجه إلى المشرق، وجرت بينه وبين طائفة من أدباء عصره مخاطبات ظهرت فيها براعته وإجادته. ونظمه فائق، ونثره بديع، وكلامه المرسل سهل حسن، وأغراضه جليلة، ومحاسنه ضخمة، وذكره شهير، ورحلته نسيجة وحدها[6]، طارت كل مطار، رحمه الله"[7].
رحلات ابن جبير
تبدأ قصته مع الرحلات عندما استدعاه أمير غرناطة يومًا؛ ليؤلف كتابًا وهو في مجلس شرابه، وحَدَثَ أن دفع إليه الأمير كأسًا، فأظهر ابن جبير الانقباض، وقال: يا سيدي، ما شربتها قَطُّ. فقال: والله لتشربنَّ منها سبعًا. فلمَّا رأى العزيمة شرب سبع كئوس، فملأ له السيد الكأس من دنانير سبع مرات، وصبَّ ذلك في حجره، فحمله إلى منزله وأضمر أن يجعل كفَّارة شربه الحجَّ[8]، فباع بعض عقاراته، وأضاف ثمنه إلى عطية الأمير، وما هي إلا أيام حتى استأذن من الأمير في الحجِّ، ولكي لا يحول دون سفره، أبلغه أنه أقسم قسمًا لا رجعة فيه أن يحجَّ في تلك السنة، فأذن له[9].
رحلته الأولى
ترك ابن جبير غرناطة عام 578هـ، وقصد مكة حاجًّا، فذهب إلى سبتة، ومنها إلى سردينيا، حيث رأى أسرى المسلمين يباعون في سوق العبيد؛ فأحس بالألم، وأدرك أن ما أصاب هؤلاء البؤساء إنما هو نتيجة تفكك العالم الإسلامي يومئذ؛ ولذلك اتجه إلى تسجيل كل مشاهداته ليقف عليها المسلمون، وليعلموا إلى أي مدى يجب أن تَتَّحِدَ كلمتهم، وأن يُصلحوا أحوالهم؛ حتى يستطيعوا مواجهة الأخطار التي تواجههم[10].
ثم وصلت سفينته إلى الإسكندرية، ودخل المدينة ولما رأى منارة الإسكندرية الشاهقة الارتفاع جذبت انتباهه، كما وقف طويلاً عند بعض آثارها، وبعد ثمانية أيام غادر الإسكندرية إلى القاهرة، ثم غادرها إلى صعيد مصر، فوصل بلدة قوص، التي مرَّ فيها بالصحراء الشرقية إلى البحر الأحمر؛ ليستقل سفينة من ميناء عيذاب، وهو المرفأ المعهود للحجاج على البحر الأحمر، ليصل إلى جدَّة، وأخذ قافلة إلى مكة، حيث أقام هناك حوالي نصف عام، ثم زار المدينة.
ويصف ابن جبير المشاهد التي شاهدها أثناء رحلته، مثل منارة الإسكندرية قائلاً: "ومن أعظم ما شاهدناه من عجائبها المنار الذي قد وضعه الله u -على يَدَيْ من سُخِّر لذلك- آية للمتوسمين، وهداية للمسافرين، لولاه ما اهتدوا في البحر إلى برِّ الإسكندرية، يظهر على أَزْيَد من سبعين ميلاً، ومبناه في غاية العتاقة والوثاقة طولاً وعرضًا، يزاحم الجوَّ سموًّا وارتفاعًا، يقصر عنه الوصف، وينحسر دونه الطرف، الخبر عنه يضيق، والمشاهدة له تتسع"[11].
وكان مما شاهده ابن جبير أثناء رحلته مستشفى المجانين بمدينة القاهرة، فيتحدث عنه قائلاً: "ومما شاهدناه أيضًا من مفاخر هذا السلطان[12] المارستان الذي بمدينة القاهرة، وهو قصر من القصور الرائقة حسنًا واتساعًا، أبرزه لهذه الفضيلة تأجُّرًا واحتسابًا (أي طلبًا للأجر والثواب)، وعيَّن قيِّمًا من أهل المعرفة وضع لديه خزائن العقاقير، ومكَّنه من استعمال الأشربة وإقامتها على اختلاف أنواعها، ووُضِعَتْ في مقاصير[13] ذلك القصر أسِرَّة يتخذها المرضى بكرة وعشية، فيقابلون من الأغذية والأشربة بما يليق بهم.
وبإزاء هذا الموضع موضع مقتطع للنساء المرضى، ولهن أيضًا من يكفلهن، ويتصل بالموضعين المذكورين موضع آخر متسع الفناء، فيه مقاصير عليها شبابيك الحديد، اتخذت محابس للمجانين، ولهم أيضًا من يتفقد في كل يوم أحوالهم، ويقابلها بما يصلح لها"[14].
وتوجَّه ابن جبير إلى الكوفة، وتوقف في بغداد وسامراء، فالموصل فحلب، ومنها انحدر إلى دمشق، التي أمضى بها بضعة أشهر قبل أن يغادر الأراضي الإسلامية؛ لأن سواحل الشام كانت آنذاك في أيدي الصليبيين.
وقد تعرَّف ابن جبير على المشرق وهو لا يزال ينعم بالازدهار في عهد صلاح الدين، فدوَّن مشاهداته بأسلوب بارع، ومن ميناء عكا ركب ابن جبير سفينة إلى صقلية، وبعد رحلة شاقة استطاع أن يتعرَّف على الجزيرة، فصوَّر الحضارة الزاهرة التي وجدها في صقلية في عهد غليوم الصالح النورماندي، مؤكِّدًا أنها لا تزال إسلامية في المحلِّ الأول، ثم عاد إلى غرناطة بطريق قرطاجنة عام 581هـ/ 1185م بعد غياب دام أكثر من عامين[15].
ويتحدث ابن جبير عن صقلية قائلاً: "وطول هذه الجزيرة... سبعة أيام، وعرضها مسيرة خمسة أيام، وبها جبل البركان المذكور، وهو يأتزر[16] بالسُّحب لإفراط سموِّه، ويُعَمُّ بالثلج شتاءً وصيفًا دائمًا، وخصب هذه الجزيرة أكثر من أن يُوصف، وكفى بأنها ابنة الأندلس في سعة العمارة، وكثرة الخصب والرفاهة، مشحونة بالأرزاق على اختلافها، مملوءة بأنواع الفواكه وأصنافها"[17].
رحلته الثانية
لقد قام ابن جبير برحلته الثانية في عام 585هـ/ 1189م عندما بلغه نبأ فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيوبي 583هـ/ 1187م، الذي تعلَّقت به آنذاك أنظار المسلمين كبطل يعرف كيف يحقق الانتصارات، واستمرَّت هذه الرحلة سنتين[18].
رحلته الثالثة
بدأت هذه الرحلة من سبتة عام 601هـ/ 1204م، وكان قد بلغ الثالثة والسبعين من عمره، وقد أحزنه وفاة زوجته، ونظم فيها ديوانه: (نتيجة وَجْدِ الجوانح في تأبين القرين الصالح)، ولم يرجع ابن جبير بعد رحلته الثالثة إلى مسقط رأسه، بل أمضى أكثر من عشرة أعوام متنقلاً بين مكة وبيت المقدس والإسكندرية، مشتغلاً بالتدريس والأدب، إلى أن لقي ربه عام 614هـ/ 1217م بالإسكندرية[19].
مميزات رحلاته واهتمام المستشرقين
وأهم ما يُمَيِّز رحلاته تلك أنها مكتوبة بشكل مذكرات يومية، مع كل مشهد وكل بلدة مرَّ بها ابن جبير باليوم والشهر، ولم يكتب ابن جبير رحلته في شكل كتاب بل كانت أوراقًا منفصلة، جمعها أحد تلاميذه، ونشرها في كتاب باسم: (تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار)، ثم أُطلق عليه في العصر الحديث (رحلة ابن جبير)[20].
ولذا صار كتاب (رحلة ابن جبير) من أهم المصادر الرئيسية للباحثين في كلٍّ من التاريخ والجغرافية والأدب، ويذكر آنخل جنثالث بالنثيا في كتابه (تاريخ الأندلس) أن رحلة ابن جبير أشبه ما تكون بمذكرات شخصية ويوميات سفر صيغت بأسلوب بارع وبكلام سهل بسيط الأحاسيس، فكانت رحلته ذات صفة أدبية، مع العناية بالرسم والوصف، والاهتمام بالمعاهد الثقافية وبالمدارس الدينية، ودراسة الأوضاع والعلاقات الاجتماعية، وهذا كله ينمُّ عن موهبة أدبية أصيلة، وكل هذا يُضفي على الرحلة صفة التنوُّع والشمول[21].
كما استفاد من رحلة ابن جبير كبار المفكرين في الحضارة العربية والإسلامية؛ أمثال: العبدري، والبلوي، والمقريزي، والمقري، وابن بطوطة، وغيرهم؛ فابن بطوطة الذي يُعتبر أستاذ الرحلات الجغرافية نقل جميع المعلومات الخاصة في كل من حلب ودمشق وبغداد من كتاب (رحلة ابن جبير)، ووضعها في مؤلفاته الخاصة في هذا المجال. والجدير ذكره أن أي باحث يرغب أن يكتب عن الجزيرة العربية، أو جزيرة صقلية، أو الأندلس لا بُدَّ له أن يرجع لكتاب (رحلة ابن جبير)[22].
ولقد اهتمَّ المستشرقون بكتاب ابن جبير، فترجموا القسم المختص منه بصقلية إلى الفرنسية وطبع عام 1846م، ثم حققه ونشره وليم رايت في ليدن عام 1852م، ثم راجع المحقق نفسه ما طبعه واشترك في تصحيحه جماعة من كبار المستشرقين؛ هم: دوزي، وروبرتسون سميث، ودي غويه، وأعادوا نشرها عام 1907م. وحقق أماري القسم الخاص بصقلية من الرحلة، ونشره مع ترجمة فرنسية في المجلة الآسيوية، واعتمد على الرحلة كرولا في بحثه عن صقلية في العهد النورماندي. ثم تَوَّج الإيطاليون عنايتهم البالغة برحلة ابن جبير بأن عمد كلستينو شيابرلي إلى ترجمة النص كله، ونشره في روما سنة 1906م[23].
شهادة علماء الغرب
لقد نال ابن جبير إعجاب وتقدير علماء الغرب، فها هو ذا المستشرق الروسي كراتشكوفسكي يتحدث عن رحلته قائلاً: "تُعتبر رحلة ابن جبير من الناحية الفنية ذروة ما بلغه نمط الرحلة في الأدب العربي... فإن أسلوبه يمتاز بالكثير من الحيوية وسهولة التعبير؛ مثال ذلك ما وصفه لجمارك الإسكندرية، أو لكارثة السفينة على سواحل صقلية، أمَّا عرضه العام فيستهدف الصنعة والأناقة، وهو كثيرًا ما يلجأ إلى السجع، الذي يعالجه بالكثير من المهارة دون أن يبالغ فيه، أو يضطر القارئ إلى تكلف الجهد في تفهمه. كما يشحن كتابته بالاقتباسات الأدبية والإشارات اللطيفة؛ مما يتطلَّب درجة معينة من المعرفة والاطّلاع، حتى يضحى مفهومًا للقارئ. وبعدُ، فهذا مصنف رفيع الأسلوب يختم بجدارة حلقة الجغرافيين الأندلسيين لهذا العصر"[24].
وفاة ابن جبير
توفِّي ابن جبير بالإسكندرية عام 614هـ/ 1217م بعد أن طاف الكثير من بلدان العالم الإسلامي.
لقد كان ابن جبير من أشهر جغرافيي المسلمين، ومن أعظم مَنْ قام برحلات في بلاد المسلمين؛ لذا اعتمد الكثير على كتبه، سواء كان من المسلمين أو من غير المسلمين.
الهوامش:
[1] د/ عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص409.
[2] الفاسي: ذيل التقييد في رواة السنن والأسانيد 1/41، 42.
[3] الذهبي: سير أعلام النبلاء 22/46، 47.
[4] رحلة ابن جبير ص6.
[5] المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 2/382.
[6] نَسِيج وحدِها: يعني أنه ليس لها شبيه، ونسيج وحده: لا ثاني له. ابن منظور: لسان العرب، مادة وحد 3/446، والمعجم الوسيط ص917.
[7] لسان الدين ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة 2/231.
[8] المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 2/385.
[9] د/ عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص409.
[10] د/ محمد الصادق عفيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص287.
[11] رحلة ابن جبير ص14، 15.
[12] يقصد السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
[13] المقاصير: النواحي والجوانب، مفردها مقصورة ومَقْصَرة. ابن منظور: لسان العرب، مادة قصر 5/95، والمعجم الوسيط ص739.
[14] رحلة ابن جبير ص26.
[15] د/ عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص410.
[16] ائتزر به الشيءُ: أَحاطَ. ابن منظور: لسان العرب، مادة أزر 4/16، والمعجم الوسيط ص15.
[17] رحلة ابن جبير ص296، 297.
[18] د/ عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص410.
[19] المصدر السابق، الصفحة نفسها.
[20] شوقي ضيف: الرحلات ص71.
[21] عبد الله الدفاع: رواد علم الجغرافيا ص172.
[22] المصدر السابق ص174، 175.
[23] د/ رحاب خضر عكاوي: موسوعة عباقرة الإسلام 2/166.
[24] كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي العربي، نقله إلى العربية صلاح الدين عثمان هاشم 1/301.
عن موقع قصة الإسلام