القدس في الفكر العربي الإسلامي
محمد علي الحلبي
تستهوي المرء العودة من حين لآخر إلى الماضي ،بل تجذبه وتأخذ به لمراتعه الخضرة النضرة،ونضرة التاريخ تحلو وتزداد جمالا ًعندما تكون حسنة الوقائع...رائعة في رونقها كرونق الصباح بعد ليل طويل دامس , باعثة الحنين إلى المزيد منها ، وعن الحنين قال الحكماء : "الحنين من رقة القلب،ورقة القلب من الرعاية ، والرعاية من الرحمة،والرحمة كرم الفطرة" , وسعة هذه المعاني الخلابة حَدَت بي ودفعتني لأنقب عن"القدس"وماضيها،ومكانتها في تيّم حبّ استبد بيّ واستعبد قلوب الكثيرين من أمتنا العربية ، ورسمت لعودتي للبحث الأسس التالية : المعنى اللغوي ، وأيضاً فيما ما جاء في القرآن الكريم،وفي الحديث الشريف، ،واعتزاز العرب بقِدم ماضيها ، والتغني بكمالاتها ، فالمعنى الملتصق بهذه الكلمة هو الطهارة،وهي اسم مصدر،ومن الطهر والنقاء تعددت الكلمات فكان فعل- التقديس - هو التطهير والتبريك ، ونقدّس:أي نتطهر وفق التنزيل الإلهي:" ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك " البقرة ـ 30.
وعالِم اللغة (الزجّاج) يؤكد المعنى في شرحه "نقدّس لك:أي نطهر أنفسنا " وبيت المقدس:أي البيت المُطهّر،والمكان الذي يتطهر فيه من الذنوب،وفي ذروة الاشتقاق نجد المَلك القدوس وهو الله عزّ وجل،كما وأن القدس ترمز وتعني البركة ، وبعض علماء العرب عَرّف البصيرة"هي قوة القلب المنّور بنور القدس...ترى حقائق الأشياء،وبواطنها،وهي التي تسميها الحكمة : القوة العاقلة النظرية،والقوة القدسية"كما أن عَالم اللغة وفقيهها"سيبويه"كان يقول:"سبّوح،وقدوس،والقدوس هو الطهارة،وسبّوح وجمعها سبحات،وسبحات وجه الله تعالى بأنواره وجلاله،وعظمته" وعلى الإطلاق فعندما يقال سبحان الوجه ذلك يعني نور الوجه،وفي السموات العُلا تتواجد حظيرة القدس...قيل الجنة، وقيل هي الشريعة...من"كتاب الكشكول لبهاء الدين العاملي".وعن ذلك قال الراغب:"كلاهما صحيح فإن الشريعة منها يستفاد القدس:أي الطهارة"والملاك جبريل عليه السلام سُميّ بروح القدس وفق ما نَزل في القرآن الكريم" قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين" النحل ـ 102 وفي بدايات الإيمان صلى المسلمون ورسولهم صلى الله عليه وسلم قبل المسجد الأقصى ستة عشر،أو سبعة عشر شهراً- صحيح البخاري -.
والله جلت قدرته أراد لنبيّه (ص) أن يَعرُج منها إلى السماء برفقة جبريل عليه السلام فجاء في التنزيل:" سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ًمن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير "سورة الإسراء،الآية1.
وعن البركة قال مجاهد:"وسمّاهُ مباركاً لأنه مقر الأنبياء ، وفيه مهبط الملائكة والروح ، وهي الصخر ة , والمباركة في اللغة تعني التفاؤل بالشيء ، وفي رحاب القدس الشريف تتلاقى الديانات السماوية الثلاث....معراج الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن الله جلت قدرته رفع عيسى عليه السلام إلى السماء من بيت المقدس ،وفيه مهبطه إذا هبط،وتزفّ الكعبة بجميع حجاجها إلى البيت المُقدّس،وتزفّ جميع مساجد الأرض إلى البيت المُقدّس - كتاب معجم البلدان، وموسى عليه السلام لما حضرته الوفاة سأل الله تعالى أن يُدنيه من الأرض المُقدسة رمية حجر،لكنه لم يدخل القدس وفق إجماع المؤرخين،والله جلت قدرته أقسم بكتابه القرآن الكريم:"والتين والزيتون * وطور سينين *وهذا البلد الأمين" سورة التين الآيات 1 ـ 3 ،ورغم تعدد التفاسير بين حرفيّة النص وبين معانيه الأشمل إلا أن كتاب (نهاية الأرب في فنون الأدب ) للنويري نقل عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قوله: "أربعة أجبال مقدّسة بين يديّ الله تعالى....طور تينة ، وطور زيتا، وطور سينا، وطور تيمانا، فأما طور تينة ففي دمشق،وأما طور زيتا فبيت المَقدس،وأما طور سينا فهو الذي كان عليه موسى عليه السلام،وأما طور تيمانا ففي مكة،والبلد الأمين: مكة بلا خلاف".
وفي الحديث الشريف:" لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد:مسجدي هذا،والمسجد الحرام،ومسجد بيت المقدس،وأن الصلاة في بيت المقدس خير من ألف صلاة في غيره وأقرب بقعة في الأرض من السماء البيت المقدّس".
في البداية توجّه عباد الرحمن في صلواتهم إلى بيت المقدس،وعن نهاية الكون وآخره ففي الحديث الشريف،وبعد أن سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفتنا في بيت المقدس؟!...فقال:"أرض المحشر،والمنشر،ائتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلا ة ، قيل:يا رسول الله فمن لم يستطع أن يأتيه،أو يتحمل إليه،قال:فليهدِ إليه زيتاً يسرج فيه ، فإنه من أهدى إليه زيتاً كان كمن صلى فيه".
وتأييداً لقدسية المعنى،وعن أبي سعيد الخدري قال:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:يخرج رجل من أمتي يقول بسنّتي...يُنزل الله عزّ وجل له القطر من السماء،وتُخرج الأرض بركتها،وتُملأ الأرض منه قسطاً وعدلا ًكما مُلئت جوراً وظلماً يعمل على هذه الأمة سبع سنين،ويَنزل على بيت المقدس".
ونظرا لتاريخ هذه البلدة الطاهرة،ولمكانتها الرفيعة يعدّها المؤرخون من أقدم مُدن العالم معتمدين في تقديراتهم على القرآن الكريم و أحاديث الرسول (ص)،والوقائع التاريخية،فعن أبي ذرّ الغفاري قال:"قلت يا رسول الله:أي مسجد وضع في الأرض أول؟!..،قال:المسجد الحرام ،قلت:ثم أي؟!..قال:المسجد الأقصى ، قلت:كم بينهما؟ قال:أربعون سنة" متفق عليه.
في الشروح لهذه الوقائع،واعتماداً لقول تعالى:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" البقرة،ـ 127،ففي الآية الكريمة أساس الاستدلال إذ تشير بوضوح أن سيدنا إبراهيم حين بَنى الكعبة فإنه رفع قواعد كانت موجودة أصلا ًفي المكان،وبذلك فبناء إبراهيم للكعبة بناء ترميم،وتجديد،وآية ثانية تؤكد الرأي في قول إبراهيم:"ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم،ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون"سورة إبراهيم،الآية37.
والحديث الشريف عن بناء المسجد الأقصى، والمدة الزمنية بينه، وبين المسجد الحرام جاء في النص حيث كانت كلمة "وَضع" مؤشرة بوضوح على معنى التسمية،والتحديد لتلك البقعة المُباركة،وتخصصيها بكونها مسجداً لله دوناً عما جاورها من الأرض.
من الثابت أيضاً أن إبراهيم عليه السلام كان يعيش في الأرض المقدسة...فلسطين،ودخل المسجد الأقصى،والتقى بملك اليبوسيين"مليك صادق"،إذاً فالبيتان كانا موجودين قبل وجود إبراهيم حتى أن البعض يرى أن آدم عليه السلام هو من بناهما،و بينما يرى آخرون أن إيليا بن آرم بن سام بن نوح عليه السلام هو من بَنى القدس،وسُميّت باسمه.
وتاريخ الأرض الطاهرة المُطهرة للنفوس يعود إلى2000عام قبل الميلاد إذ يقال أن"مليك صادق"أحد ملوك اليبوسيين،وهم من أشهر قبائل الكنعانيين الذين ينتسبون إلى كنعان بَنى المدينة،وكانوا أمة يتكلمون بلغة تضارع العربية،وسُميت المدينة حينها ب"يبوس" وقد عُرف عن"مليك"التقوى،وحبّ السلام حتى أطلق عليه"ملك السلام"ومن هنا جاء اسم مدينة سالم،أو شالم،أو أورشليم،وقبائل اليبوسيين هاجروا إلى فلسطين قبل أكثر من6آلاف عام من موطنهم الأصلي في الجزيرة العربية،واستوطنوا مدينة القدس،وما حولها،ولذا عُرفت باسم"يبوس" ،والتحقت باليبوسيين قبائل عربية كنعانية، والتحق بهم الفينيقيون وهم أيضاً من بطون كنعان،كما عاش في الفترة ذاتها العموريون،ونتج منهم قبائل عربية "الهكسوس" وقد سبق وجودهم الوجود اليهودي بأكثر من1500عام.
في عام1774ق.م غزا الهكسوس هذه الأرض،ثم خضعت القدس لحكم الفراعنة،عادت بعدهم أجيال اليبوسيين والكنعانيين للاستئثار بها،وقد عُرف عنهم القوة،والشدة،والغلظة،وفي قصة بني إسرائيل جاء في القرآن الكريم عن اليهود:"قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فأن يخرجوا منها فإنا داخلون"سورة المائدة،الآية22:وقالوا لموسى عليه السلام:"اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون" سورة المائدة الآية 24 وكان جزاؤهم من ربّ العالمين التيه في الأرض إلى أن قاد "يوشع بن نون"عام1186ق.م بني إسرائيل واتجه بهم إلى الأرض المقدسة عبر المنطقة الشرقية لنهر الأردن،ولكنهم لم يدخلوا القدس أبداً،وإنما عبروا نهر الأردن إلى أريحا،واستقروا بها،وبعد قتل النبي داوود عليه السلام لقائد العمالقة دخلوا مدينة القدس،وكان ذلك قرابة عام995ق.م،ودام حكم بني إسرائيل للقدس سبعين،أو ثمانين عاماً ، وبعد وفاة سليمان عليه السلام تفككت الدولة إلى مملكتين...شمالية (إسرائيل) وعاصمتها "شكيم" وجنوبية وعاصمتها "أورشليم" وفي القرن السابع قبل الميلاد دمّر الآشوريون مملكة الشمال،وبقيت مملكة الجنوب لتسقط في يدّ البابليين في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد،ولتصبح القدس تحت حكمهم،وكان ما عُرف بالسبيّ البابلي،ثم استولى الفُرس على الدولة،وسمح الملك"قورش"لليهود الموجودين في بابل بالعودة إلى القدس،واستمر الحكم الفارسي حتى منتصف القرن الثالث قبل الميلاد حين استطاع اليونانيون (الإغريق) انتزاع المدينة المقدسة من الفُرس،واستغل العرب الأنباط ضعف اليونانيين فقاموا باحتلال الأجزاء الجنوبية من فلسطين بما فيها القدس،وبقيت معهم مدة عام تقريباً،وفي منتصف القرن الأول قبل الميلاد تحركت دولة الرومان،وفي عام63ق.م استطاعوا الاستيلاء على منطقة سوريا وفلسطين،وأصبحت القدس خاضعة لهم،ويُرفع السيد المسيح إلى السماء في العام33م،والقائد الروماني حاصر الفرس،ثم سقطت في يدّ جيشه ليستبيح بيوتها،ويدّمر جميع معالمها بما في ذلك المسجد الأقصى،وأجلى الرومان من بقيّ حياً من اليهود عنها،وبقيت القدس خراباً حتى عام135ميلادية،وبعد ولادة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في العام571م عاد الفُرس لاحتلال مدينة القدس،وجاء في القرآن الكريم :"ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون" الروم 1-3 فعاد الروم ثانية للسيطرة على القدس،وكان الفتح الإسلامي لها زمن الخليفة عمر بن الخطاب ،وكانت تسمى حينها"ايلياء"وجاء فيما بات يُعرف بالعهدة العمرية لأهلها:
"بسم الله الرحمن الرحيم،هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل ايلياء من الأمان،أعطاهم أماناً لأنفسهم،وأموالهم،ولكنائسهم،وصلبانهم،وسقيمها،وسائر ملتها أنه لا تُسكن كنائسهم،ولا تُهدم،ولا يُنتقص منها،ولا من خيرها،ولا من شيء من أموالهم،ولا يُكرهون على دينهم،ولا يُضار أحد منهم،ولا يُسكن بايلياء معهم أحد من اليهود،وعلى أهل ايلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن،وعليهم أن يُخرجوا الروم منها،فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم،ومن أقام منهم فهو آمن وعليه ما على أهل ايلياء من الجزية....هذا كتاب عهد الله، وذمة رسوله، وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين...شهد على ذلك خالد بن الوليد،وعمرو بن العاص،وعبد الرحمن بن عوف،ومعاوية بن أبي سفيان"-المرجع:تاريخ الطبري " .
وصلى عمر رضي الله عنه في القدس حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء معراجه إلى السماء،ولم يُصلّ بأية كنيسة حتى لا يُؤخذ ذلك عنه،وقد كنس الأرض بردائه قبل الصلاة،وكنس معه المسلمون،وصلوا جميعهم.
وبقيت فلسطين،وبيت المقدس تحت الحكم العربي إلى أن غزا الإفرنج المنطقة،وعن تلك المرحلة فكتاب(نجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة)لابن تغري بردي يقول فيه:"وكانت البنات المخدرات يمزقن ثيابهن،ويربطنها على أرجلهن من الحفا،ومات خلق كثير من الجوع والعطش،ونُهبت الأموال التي كانت في القدس،وبلغ ثمن قنطار الزيت عشرة دراهم،ورطل النحاس نصف دينار". وقال القاضي مجد الدين محمد عبد الله الحنفي قاضي الطور في خراب القدس:
مررت على القدس الشريف مسلماً ** على ما تبقى من ربوع كأنجم
ففاضت العين مني صبابة ** على ما مضى من عصرنا المتقدم
وقد رام علج أن يعفي رسومه ** وشمّر عن كفيّ لئيم مذمم
أعاد صلاح الدين الأيوبي القدس بعد تحريرها إلى إسلامها،وعروبتها،وعن الواقعة يقول ابن تغري بردي في كتابه : لما رأى العدو ما نزل بهم من الأمر،وظهرت لهم إمارات فتح المدينة،وظهور المسلمين عليهم،وكان قد اشتد روعهم لما جرى على أبطالهم ما جرى فاستكانوا إلى طلب الأمان،وسلموا المدينة في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب،وليلته كانت ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن الكريم فانظر إلى هذا الاتفاق العظيم".
وعن جغرافية المدينة المقدسة، فهي مُحاطة بالجبال من جهاتها الثلاث...الشرق،الغرب،والجنوب،والشادّ لرحاله إليها عليه أن يتوقف طويلا ًعلى ذرى جبل الطور،أو جبل الزيتون الواقع في شرقها حيث يُعتقد أن المسيح عليه السلام صعد منه إلى السماء،ويُسمى هذا الجبل في التلمود بجبل المسيح،أو التتويج،وسبب تلك التسمية أن زيت الزيتون يُستخدم في تتويج الملوك،ولمزيد من الاعتزاز والفخار،ومن وَضع رحاله على جبل الطور يرى في الجنوب جبل المكبّر،وفي ذروة من ذراه قبر الشيخ أحمد أبي العباس،وهو من المجاهدين الذين اشتركوا في فتح القدس مع صلاح الدين الأيوبي.
وللمكانة الهامة والكبرى لهذه المنطقة عبر التاريخ،راح العديد من المؤلفين يكتبون عنها فكانت الكتب - الأنس في فضائل القدس- والأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل-والجامع المستقصي في فضائل المسجد الأقصى- وباعث النفوس إلى زيارة القدس المحروس- ومثير الغرام إلى زيارة القدس والشام-وفضائل القدس-
وتعددت الشروح لمعانيها،ففي كتاب (التعاريف) يقول مؤلفه :"القدس:طهارة دائمة لا يلحفها نجس باطن،ولا رجس ظاهر"والناصر خسرو مؤلف كتاب(سفر نامه) كتب" ويذهب إلى القدس في موسم الحج من لا يستطيع الذهاب إلى مكة من أهل الشام وأطرافها" ، وحتى المتصوفة نسبوا ماءً للقدس والقداسة ، وفي عُرفهم هو العلم الذي يُطهر الناس من دنس الطباع،ونجس الرذائل.
ومن جميل حكايا الماضي المُشيرة إلى كل معاني الطهارة،والقدسية ما جاء في كتاب (أبجد العلوم) للصديق حسن القنوحي عن حكاية المرأة العابدة التي لا تتكلم إلا بالقرآن:
"قال عبد الله بن مبارك :خَرجت قاصداً بيت الله الحرام،وزيارة مسجد النبي عليه الصلاة والسلام،فبينما أنا سائر في الطريق،وإذا بسواد فمررت به،وإذا هي عجوز عليها درع من صوف،وخمار من صوف،فقلت:السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقالت:سلام قولاً من ربّ رحيم ، فقلت لها:يرحمك الله تعالى،ما تصنعين في هذا المكان؟ فقالت:من يضلل الله فلا هادي له ، فقلت:إنها ضالة، ثم سألت:أين تريدين؟ ، فقالت:سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ًمن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فعلمت أنها قضت حجتها، وتريد بيت المقدس، فقلت"أنت مذ كم في هذا المكان، فقالت:ثلاث ليالٍ سويا ، فقلت"أما أرفعك طعاماً؟ ، فقالت:ثم أتموا الصيام إلى الليل ، فقلت لها:ليس هذا شهر رمضان، فقالت:فمن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم ، فقلت لها:قد أبيح لنا الإفطار في السفر، قالت:وأن تصوموا خير لكم ، فقلت لها:لمَ لا تكلميني مثل ما أكلمك به؟ ، فقالت:ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ، فقلت لها:من أي الناس أنت؟ ، فقالت:لا تَقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ، فقلت:قد أخطأت فاجعليني في حلّ من التعليق ، قالت:لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ، قلت لها:هل لك أن أحملك على ناقتي،وتلحقي بالقافلة؟ ، قالت:وما تفعلوا من خير يعلمه الله ، فأنخت مطيتي لها،فقالت:قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ، فغضضت بصري منها فقلت:اركبي،فلما أرادت أن تركب نفرت الناقة بها،ومزقت ثيابها، فقالت:وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ، فقلت لها:اصبري حتى أعقلها،فقالت:ففهمناها سليمان ، فشددت الناقة،وقلت لها:اركبي ، فلما ركبت قالت:سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ، فسألتها:هل لك ربع؟ ، قالت:يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم ، فسكتُ عنها،ولم أكلمها حتى أدركتُ بها القافلة ، فقلت لها:هذه هي القافلة فمن لك فيها؟ ، فقالت: المال والبنون زينة الحياة الدنيا".
كانت رحلة إلى أوائل الأيام،وأوابد التاريخ،وثوابته،وروائع مضامينه وتحديدا في عبق قدسيتها، وطهارتها ونقائها
إنها مدينة القدس التي يشكو أهلها الآلام، ولا من مجيب....العدو يدعي بأنها عاصمة أبدية لإسرائيل... ويستمر فيها بناء"المستوطنات"ويُهجر أهلها وأصحابها بموافقة أمريكية،وصمت غربي ،بل وحُدد بإعلان يوم16/3/2010 يوماً عالمياً من أجل الهيكل الثالث،وتضمن الإعلان الدعوة لاقتحام المسجد الأقصى وفعلا فلقد بدأ اقتحامه من قبل المستوطنين اليهود ، وحتى بعض المسؤولين العرب ران عليهم صمت مطبق،وكأن الأمر لا يعنيهم فقد نسوا وتناسوا التاريخ، وأصالتها العربية وما تعنيه للعروبة والإسلام .
هل نعقد أملا ًجديداً على القمة العربية المُقبلة بعد أن خيبت القمم السابقة كل الآمال، أم أننا سننضم إلى موكب الشاعر العربي المصري أحمد محرم لنردد معه تأوهاته في كلماته المعبرة عن المصاب الأكبر :
في حمى الحق ومن حول الحرم ** أمة تؤذى وشعب يُهتضم
فزَع القدس وضجت مكة ** وبكت يثرب من فرط الألم
عن موقع رابطة أدباء الشام
محمد علي الحلبي
تستهوي المرء العودة من حين لآخر إلى الماضي ،بل تجذبه وتأخذ به لمراتعه الخضرة النضرة،ونضرة التاريخ تحلو وتزداد جمالا ًعندما تكون حسنة الوقائع...رائعة في رونقها كرونق الصباح بعد ليل طويل دامس , باعثة الحنين إلى المزيد منها ، وعن الحنين قال الحكماء : "الحنين من رقة القلب،ورقة القلب من الرعاية ، والرعاية من الرحمة،والرحمة كرم الفطرة" , وسعة هذه المعاني الخلابة حَدَت بي ودفعتني لأنقب عن"القدس"وماضيها،ومكانتها في تيّم حبّ استبد بيّ واستعبد قلوب الكثيرين من أمتنا العربية ، ورسمت لعودتي للبحث الأسس التالية : المعنى اللغوي ، وأيضاً فيما ما جاء في القرآن الكريم،وفي الحديث الشريف، ،واعتزاز العرب بقِدم ماضيها ، والتغني بكمالاتها ، فالمعنى الملتصق بهذه الكلمة هو الطهارة،وهي اسم مصدر،ومن الطهر والنقاء تعددت الكلمات فكان فعل- التقديس - هو التطهير والتبريك ، ونقدّس:أي نتطهر وفق التنزيل الإلهي:" ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك " البقرة ـ 30.
وعالِم اللغة (الزجّاج) يؤكد المعنى في شرحه "نقدّس لك:أي نطهر أنفسنا " وبيت المقدس:أي البيت المُطهّر،والمكان الذي يتطهر فيه من الذنوب،وفي ذروة الاشتقاق نجد المَلك القدوس وهو الله عزّ وجل،كما وأن القدس ترمز وتعني البركة ، وبعض علماء العرب عَرّف البصيرة"هي قوة القلب المنّور بنور القدس...ترى حقائق الأشياء،وبواطنها،وهي التي تسميها الحكمة : القوة العاقلة النظرية،والقوة القدسية"كما أن عَالم اللغة وفقيهها"سيبويه"كان يقول:"سبّوح،وقدوس،والقدوس هو الطهارة،وسبّوح وجمعها سبحات،وسبحات وجه الله تعالى بأنواره وجلاله،وعظمته" وعلى الإطلاق فعندما يقال سبحان الوجه ذلك يعني نور الوجه،وفي السموات العُلا تتواجد حظيرة القدس...قيل الجنة، وقيل هي الشريعة...من"كتاب الكشكول لبهاء الدين العاملي".وعن ذلك قال الراغب:"كلاهما صحيح فإن الشريعة منها يستفاد القدس:أي الطهارة"والملاك جبريل عليه السلام سُميّ بروح القدس وفق ما نَزل في القرآن الكريم" قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين" النحل ـ 102 وفي بدايات الإيمان صلى المسلمون ورسولهم صلى الله عليه وسلم قبل المسجد الأقصى ستة عشر،أو سبعة عشر شهراً- صحيح البخاري -.
والله جلت قدرته أراد لنبيّه (ص) أن يَعرُج منها إلى السماء برفقة جبريل عليه السلام فجاء في التنزيل:" سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ًمن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير "سورة الإسراء،الآية1.
وعن البركة قال مجاهد:"وسمّاهُ مباركاً لأنه مقر الأنبياء ، وفيه مهبط الملائكة والروح ، وهي الصخر ة , والمباركة في اللغة تعني التفاؤل بالشيء ، وفي رحاب القدس الشريف تتلاقى الديانات السماوية الثلاث....معراج الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن الله جلت قدرته رفع عيسى عليه السلام إلى السماء من بيت المقدس ،وفيه مهبطه إذا هبط،وتزفّ الكعبة بجميع حجاجها إلى البيت المُقدّس،وتزفّ جميع مساجد الأرض إلى البيت المُقدّس - كتاب معجم البلدان، وموسى عليه السلام لما حضرته الوفاة سأل الله تعالى أن يُدنيه من الأرض المُقدسة رمية حجر،لكنه لم يدخل القدس وفق إجماع المؤرخين،والله جلت قدرته أقسم بكتابه القرآن الكريم:"والتين والزيتون * وطور سينين *وهذا البلد الأمين" سورة التين الآيات 1 ـ 3 ،ورغم تعدد التفاسير بين حرفيّة النص وبين معانيه الأشمل إلا أن كتاب (نهاية الأرب في فنون الأدب ) للنويري نقل عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قوله: "أربعة أجبال مقدّسة بين يديّ الله تعالى....طور تينة ، وطور زيتا، وطور سينا، وطور تيمانا، فأما طور تينة ففي دمشق،وأما طور زيتا فبيت المَقدس،وأما طور سينا فهو الذي كان عليه موسى عليه السلام،وأما طور تيمانا ففي مكة،والبلد الأمين: مكة بلا خلاف".
وفي الحديث الشريف:" لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد:مسجدي هذا،والمسجد الحرام،ومسجد بيت المقدس،وأن الصلاة في بيت المقدس خير من ألف صلاة في غيره وأقرب بقعة في الأرض من السماء البيت المقدّس".
في البداية توجّه عباد الرحمن في صلواتهم إلى بيت المقدس،وعن نهاية الكون وآخره ففي الحديث الشريف،وبعد أن سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفتنا في بيت المقدس؟!...فقال:"أرض المحشر،والمنشر،ائتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلا ة ، قيل:يا رسول الله فمن لم يستطع أن يأتيه،أو يتحمل إليه،قال:فليهدِ إليه زيتاً يسرج فيه ، فإنه من أهدى إليه زيتاً كان كمن صلى فيه".
وتأييداً لقدسية المعنى،وعن أبي سعيد الخدري قال:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:يخرج رجل من أمتي يقول بسنّتي...يُنزل الله عزّ وجل له القطر من السماء،وتُخرج الأرض بركتها،وتُملأ الأرض منه قسطاً وعدلا ًكما مُلئت جوراً وظلماً يعمل على هذه الأمة سبع سنين،ويَنزل على بيت المقدس".
ونظرا لتاريخ هذه البلدة الطاهرة،ولمكانتها الرفيعة يعدّها المؤرخون من أقدم مُدن العالم معتمدين في تقديراتهم على القرآن الكريم و أحاديث الرسول (ص)،والوقائع التاريخية،فعن أبي ذرّ الغفاري قال:"قلت يا رسول الله:أي مسجد وضع في الأرض أول؟!..،قال:المسجد الحرام ،قلت:ثم أي؟!..قال:المسجد الأقصى ، قلت:كم بينهما؟ قال:أربعون سنة" متفق عليه.
في الشروح لهذه الوقائع،واعتماداً لقول تعالى:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" البقرة،ـ 127،ففي الآية الكريمة أساس الاستدلال إذ تشير بوضوح أن سيدنا إبراهيم حين بَنى الكعبة فإنه رفع قواعد كانت موجودة أصلا ًفي المكان،وبذلك فبناء إبراهيم للكعبة بناء ترميم،وتجديد،وآية ثانية تؤكد الرأي في قول إبراهيم:"ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم،ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون"سورة إبراهيم،الآية37.
والحديث الشريف عن بناء المسجد الأقصى، والمدة الزمنية بينه، وبين المسجد الحرام جاء في النص حيث كانت كلمة "وَضع" مؤشرة بوضوح على معنى التسمية،والتحديد لتلك البقعة المُباركة،وتخصصيها بكونها مسجداً لله دوناً عما جاورها من الأرض.
من الثابت أيضاً أن إبراهيم عليه السلام كان يعيش في الأرض المقدسة...فلسطين،ودخل المسجد الأقصى،والتقى بملك اليبوسيين"مليك صادق"،إذاً فالبيتان كانا موجودين قبل وجود إبراهيم حتى أن البعض يرى أن آدم عليه السلام هو من بناهما،و بينما يرى آخرون أن إيليا بن آرم بن سام بن نوح عليه السلام هو من بَنى القدس،وسُميّت باسمه.
وتاريخ الأرض الطاهرة المُطهرة للنفوس يعود إلى2000عام قبل الميلاد إذ يقال أن"مليك صادق"أحد ملوك اليبوسيين،وهم من أشهر قبائل الكنعانيين الذين ينتسبون إلى كنعان بَنى المدينة،وكانوا أمة يتكلمون بلغة تضارع العربية،وسُميت المدينة حينها ب"يبوس" وقد عُرف عن"مليك"التقوى،وحبّ السلام حتى أطلق عليه"ملك السلام"ومن هنا جاء اسم مدينة سالم،أو شالم،أو أورشليم،وقبائل اليبوسيين هاجروا إلى فلسطين قبل أكثر من6آلاف عام من موطنهم الأصلي في الجزيرة العربية،واستوطنوا مدينة القدس،وما حولها،ولذا عُرفت باسم"يبوس" ،والتحقت باليبوسيين قبائل عربية كنعانية، والتحق بهم الفينيقيون وهم أيضاً من بطون كنعان،كما عاش في الفترة ذاتها العموريون،ونتج منهم قبائل عربية "الهكسوس" وقد سبق وجودهم الوجود اليهودي بأكثر من1500عام.
في عام1774ق.م غزا الهكسوس هذه الأرض،ثم خضعت القدس لحكم الفراعنة،عادت بعدهم أجيال اليبوسيين والكنعانيين للاستئثار بها،وقد عُرف عنهم القوة،والشدة،والغلظة،وفي قصة بني إسرائيل جاء في القرآن الكريم عن اليهود:"قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فأن يخرجوا منها فإنا داخلون"سورة المائدة،الآية22:وقالوا لموسى عليه السلام:"اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون" سورة المائدة الآية 24 وكان جزاؤهم من ربّ العالمين التيه في الأرض إلى أن قاد "يوشع بن نون"عام1186ق.م بني إسرائيل واتجه بهم إلى الأرض المقدسة عبر المنطقة الشرقية لنهر الأردن،ولكنهم لم يدخلوا القدس أبداً،وإنما عبروا نهر الأردن إلى أريحا،واستقروا بها،وبعد قتل النبي داوود عليه السلام لقائد العمالقة دخلوا مدينة القدس،وكان ذلك قرابة عام995ق.م،ودام حكم بني إسرائيل للقدس سبعين،أو ثمانين عاماً ، وبعد وفاة سليمان عليه السلام تفككت الدولة إلى مملكتين...شمالية (إسرائيل) وعاصمتها "شكيم" وجنوبية وعاصمتها "أورشليم" وفي القرن السابع قبل الميلاد دمّر الآشوريون مملكة الشمال،وبقيت مملكة الجنوب لتسقط في يدّ البابليين في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد،ولتصبح القدس تحت حكمهم،وكان ما عُرف بالسبيّ البابلي،ثم استولى الفُرس على الدولة،وسمح الملك"قورش"لليهود الموجودين في بابل بالعودة إلى القدس،واستمر الحكم الفارسي حتى منتصف القرن الثالث قبل الميلاد حين استطاع اليونانيون (الإغريق) انتزاع المدينة المقدسة من الفُرس،واستغل العرب الأنباط ضعف اليونانيين فقاموا باحتلال الأجزاء الجنوبية من فلسطين بما فيها القدس،وبقيت معهم مدة عام تقريباً،وفي منتصف القرن الأول قبل الميلاد تحركت دولة الرومان،وفي عام63ق.م استطاعوا الاستيلاء على منطقة سوريا وفلسطين،وأصبحت القدس خاضعة لهم،ويُرفع السيد المسيح إلى السماء في العام33م،والقائد الروماني حاصر الفرس،ثم سقطت في يدّ جيشه ليستبيح بيوتها،ويدّمر جميع معالمها بما في ذلك المسجد الأقصى،وأجلى الرومان من بقيّ حياً من اليهود عنها،وبقيت القدس خراباً حتى عام135ميلادية،وبعد ولادة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في العام571م عاد الفُرس لاحتلال مدينة القدس،وجاء في القرآن الكريم :"ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون" الروم 1-3 فعاد الروم ثانية للسيطرة على القدس،وكان الفتح الإسلامي لها زمن الخليفة عمر بن الخطاب ،وكانت تسمى حينها"ايلياء"وجاء فيما بات يُعرف بالعهدة العمرية لأهلها:
"بسم الله الرحمن الرحيم،هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل ايلياء من الأمان،أعطاهم أماناً لأنفسهم،وأموالهم،ولكنائسهم،وصلبانهم،وسقيمها،وسائر ملتها أنه لا تُسكن كنائسهم،ولا تُهدم،ولا يُنتقص منها،ولا من خيرها،ولا من شيء من أموالهم،ولا يُكرهون على دينهم،ولا يُضار أحد منهم،ولا يُسكن بايلياء معهم أحد من اليهود،وعلى أهل ايلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن،وعليهم أن يُخرجوا الروم منها،فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم،ومن أقام منهم فهو آمن وعليه ما على أهل ايلياء من الجزية....هذا كتاب عهد الله، وذمة رسوله، وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين...شهد على ذلك خالد بن الوليد،وعمرو بن العاص،وعبد الرحمن بن عوف،ومعاوية بن أبي سفيان"-المرجع:تاريخ الطبري " .
وصلى عمر رضي الله عنه في القدس حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء معراجه إلى السماء،ولم يُصلّ بأية كنيسة حتى لا يُؤخذ ذلك عنه،وقد كنس الأرض بردائه قبل الصلاة،وكنس معه المسلمون،وصلوا جميعهم.
وبقيت فلسطين،وبيت المقدس تحت الحكم العربي إلى أن غزا الإفرنج المنطقة،وعن تلك المرحلة فكتاب(نجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة)لابن تغري بردي يقول فيه:"وكانت البنات المخدرات يمزقن ثيابهن،ويربطنها على أرجلهن من الحفا،ومات خلق كثير من الجوع والعطش،ونُهبت الأموال التي كانت في القدس،وبلغ ثمن قنطار الزيت عشرة دراهم،ورطل النحاس نصف دينار". وقال القاضي مجد الدين محمد عبد الله الحنفي قاضي الطور في خراب القدس:
مررت على القدس الشريف مسلماً ** على ما تبقى من ربوع كأنجم
ففاضت العين مني صبابة ** على ما مضى من عصرنا المتقدم
وقد رام علج أن يعفي رسومه ** وشمّر عن كفيّ لئيم مذمم
أعاد صلاح الدين الأيوبي القدس بعد تحريرها إلى إسلامها،وعروبتها،وعن الواقعة يقول ابن تغري بردي في كتابه : لما رأى العدو ما نزل بهم من الأمر،وظهرت لهم إمارات فتح المدينة،وظهور المسلمين عليهم،وكان قد اشتد روعهم لما جرى على أبطالهم ما جرى فاستكانوا إلى طلب الأمان،وسلموا المدينة في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب،وليلته كانت ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن الكريم فانظر إلى هذا الاتفاق العظيم".
وعن جغرافية المدينة المقدسة، فهي مُحاطة بالجبال من جهاتها الثلاث...الشرق،الغرب،والجنوب،والشادّ لرحاله إليها عليه أن يتوقف طويلا ًعلى ذرى جبل الطور،أو جبل الزيتون الواقع في شرقها حيث يُعتقد أن المسيح عليه السلام صعد منه إلى السماء،ويُسمى هذا الجبل في التلمود بجبل المسيح،أو التتويج،وسبب تلك التسمية أن زيت الزيتون يُستخدم في تتويج الملوك،ولمزيد من الاعتزاز والفخار،ومن وَضع رحاله على جبل الطور يرى في الجنوب جبل المكبّر،وفي ذروة من ذراه قبر الشيخ أحمد أبي العباس،وهو من المجاهدين الذين اشتركوا في فتح القدس مع صلاح الدين الأيوبي.
وللمكانة الهامة والكبرى لهذه المنطقة عبر التاريخ،راح العديد من المؤلفين يكتبون عنها فكانت الكتب - الأنس في فضائل القدس- والأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل-والجامع المستقصي في فضائل المسجد الأقصى- وباعث النفوس إلى زيارة القدس المحروس- ومثير الغرام إلى زيارة القدس والشام-وفضائل القدس-
وتعددت الشروح لمعانيها،ففي كتاب (التعاريف) يقول مؤلفه :"القدس:طهارة دائمة لا يلحفها نجس باطن،ولا رجس ظاهر"والناصر خسرو مؤلف كتاب(سفر نامه) كتب" ويذهب إلى القدس في موسم الحج من لا يستطيع الذهاب إلى مكة من أهل الشام وأطرافها" ، وحتى المتصوفة نسبوا ماءً للقدس والقداسة ، وفي عُرفهم هو العلم الذي يُطهر الناس من دنس الطباع،ونجس الرذائل.
ومن جميل حكايا الماضي المُشيرة إلى كل معاني الطهارة،والقدسية ما جاء في كتاب (أبجد العلوم) للصديق حسن القنوحي عن حكاية المرأة العابدة التي لا تتكلم إلا بالقرآن:
"قال عبد الله بن مبارك :خَرجت قاصداً بيت الله الحرام،وزيارة مسجد النبي عليه الصلاة والسلام،فبينما أنا سائر في الطريق،وإذا بسواد فمررت به،وإذا هي عجوز عليها درع من صوف،وخمار من صوف،فقلت:السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقالت:سلام قولاً من ربّ رحيم ، فقلت لها:يرحمك الله تعالى،ما تصنعين في هذا المكان؟ فقالت:من يضلل الله فلا هادي له ، فقلت:إنها ضالة، ثم سألت:أين تريدين؟ ، فقالت:سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ًمن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فعلمت أنها قضت حجتها، وتريد بيت المقدس، فقلت"أنت مذ كم في هذا المكان، فقالت:ثلاث ليالٍ سويا ، فقلت"أما أرفعك طعاماً؟ ، فقالت:ثم أتموا الصيام إلى الليل ، فقلت لها:ليس هذا شهر رمضان، فقالت:فمن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم ، فقلت لها:قد أبيح لنا الإفطار في السفر، قالت:وأن تصوموا خير لكم ، فقلت لها:لمَ لا تكلميني مثل ما أكلمك به؟ ، فقالت:ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ، فقلت لها:من أي الناس أنت؟ ، فقالت:لا تَقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ، فقلت:قد أخطأت فاجعليني في حلّ من التعليق ، قالت:لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ، قلت لها:هل لك أن أحملك على ناقتي،وتلحقي بالقافلة؟ ، قالت:وما تفعلوا من خير يعلمه الله ، فأنخت مطيتي لها،فقالت:قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ، فغضضت بصري منها فقلت:اركبي،فلما أرادت أن تركب نفرت الناقة بها،ومزقت ثيابها، فقالت:وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ، فقلت لها:اصبري حتى أعقلها،فقالت:ففهمناها سليمان ، فشددت الناقة،وقلت لها:اركبي ، فلما ركبت قالت:سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ، فسألتها:هل لك ربع؟ ، قالت:يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم ، فسكتُ عنها،ولم أكلمها حتى أدركتُ بها القافلة ، فقلت لها:هذه هي القافلة فمن لك فيها؟ ، فقالت: المال والبنون زينة الحياة الدنيا".
كانت رحلة إلى أوائل الأيام،وأوابد التاريخ،وثوابته،وروائع مضامينه وتحديدا في عبق قدسيتها، وطهارتها ونقائها
إنها مدينة القدس التي يشكو أهلها الآلام، ولا من مجيب....العدو يدعي بأنها عاصمة أبدية لإسرائيل... ويستمر فيها بناء"المستوطنات"ويُهجر أهلها وأصحابها بموافقة أمريكية،وصمت غربي ،بل وحُدد بإعلان يوم16/3/2010 يوماً عالمياً من أجل الهيكل الثالث،وتضمن الإعلان الدعوة لاقتحام المسجد الأقصى وفعلا فلقد بدأ اقتحامه من قبل المستوطنين اليهود ، وحتى بعض المسؤولين العرب ران عليهم صمت مطبق،وكأن الأمر لا يعنيهم فقد نسوا وتناسوا التاريخ، وأصالتها العربية وما تعنيه للعروبة والإسلام .
هل نعقد أملا ًجديداً على القمة العربية المُقبلة بعد أن خيبت القمم السابقة كل الآمال، أم أننا سننضم إلى موكب الشاعر العربي المصري أحمد محرم لنردد معه تأوهاته في كلماته المعبرة عن المصاب الأكبر :
في حمى الحق ومن حول الحرم ** أمة تؤذى وشعب يُهتضم
فزَع القدس وضجت مكة ** وبكت يثرب من فرط الألم
عن موقع رابطة أدباء الشام