من أساليب التربية النبوية/طريقة الخطوات المتتالية/د.عثمان قدري مكانسي
إن المعلم الناجح يقسم درسه إلى فقرات متتالية ، ويستعين بهذا التقسيم على إيصال المعلومات مرتبة : واحدة إثر واحدة ، ولا ينتقل إلى الثانية إلى بعد أن يفهم تلاميذه الأولى ، وهو بهذا يتيح لهم الفرصة لفهم ما يتلقونه أولاً بأول واستيعابه ، ويكون ناجحاً إذا ربط الموضوع
( بفقراته كلها ) موضحاً بدء كل فقرة وانتهاءها ، وعلاقتها بما بعدها . .
وإذا تابعنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجدنا قسماً كبيراً منها يتبع هذا الأسلوب النافع الدال على قدرة فائقة في إيصال المراد إلى السامع ، والتأكد من أنه تلقى العظة والعبرة واستوعبها .
وهذا ما نجده واضحاً في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاَ إلى أهل اليمن ، قال له : إنك لتقدُم على قوم من أهل الكتاب :
1ـ فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى .
2ـ فإذا عرفوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم .
3ـ فإذا صلوا ، فأخبرهم أن الله تعالى فرض عليهم زكاة في أموالهم ، تؤخذ من غنيهم فترد إلى فقيرهم .
4ـ فإذا أقروا بذلك فخذ منهم ، وتَوَقَّ كرام أموال الناس(1).
نلاحظ : 1ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم عَرَّف معاذاً ـ رسوله ـ بأهل اليمن ، فهم ليسوا وثنيين ولا عباد أصنام ، فلا يفرض الإسلام عليهم فرضاً ، فاستعمل الحكمة معهم .
2ـ وهم يعرفون الله تعالى ، لكن معرفتهم إياه ـ سبحانه ـ مختلطة ، فهم يجعلونه ثالث ثلاثة ويجعلون عيسى عليه السلام ابنه ، فادعهم إلى توحيده ـ سبحانه ـ وبيّنْ لهم خطأ اعتقادهم .
3ـ فإذا عرفوا الله حق المعرفة وجب أن يعبوده ، وأول العبادات مرتبة : الصلاة ، فبينْ لهم أن الصلاة عماد الدين ، وأنها تقرب العبد من مولاه ، وأن ما بين الرجل والكفر تركُ الصلاة .
4ـ فإذا صلوا فقد دخلوا الإسلام ، وجاءت العبادات الأخرى وراءها ، والزكاة مقدمة على غيرها . . وأعلمْهم أن الزكاة ليست إتاوة تدفع للحاكم ـ فلربما استصعبوها !! فأنبئهم أنها للتكافل الاجتماعي ، (( حق يؤخذ من الغني فيهم فيرد إلى فقيرهم )) فهذا أدعى إلى الرضا بها .
5ـ فإن أقروا بها فخذ منهم زكاة أموالهم ، وتجنب ما يحبون ويضنون به ( وهذا يدل على عمق فهم أغوار النفس الإنسانية ) . . .
وأنت تلاحظ من حديثه صلى الله عليه وسلم ما يلي :
1ـ التدرج من الأهم إلى الأقل أهمية ( ولا تنس أنها ـ كلها ـ مهمة ) : المقدمة : ( تعريفهم بالدين ) ثم التوحيد ، ثم الصلاة ، ثم الزكاة . .
2ـ الكلمات الرابطة بين الفقرات : (( إنك لتقدم ، فليكن أول ، فإذا عرفوا ، فإذا صلوا ، فإذا أقرّوا . . ))
فالتعبير الثاني ( ليكن أول ) نتيجة للأول ( إنك لتقدم ) .
والتعبير الثالث ( فإذا عرفوا ) نتيجة للتعبير الثاني .
والتعبير الرابع ( فإذا صلوا ) نتيجة للثالث .
والتعبير الخامس ( فإذا أقروا ) نتيجة للرابع .
خطوة بعد خطوة ، وطلب إثر طلب ، وانتقال وثيق يدل على تلازم الفقرات كلها . . وهكذا يستوعب السامع العظة والعبرة ، ويتفهمها ويهضمها .
ونجد هذه الخطوات واضحة فيما رواه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له : أي الأعمال خير ؟
قال صلى الله عليه وسلم : إيمان بالله وجهاد في سبيله .
قيل : فأي الرقاب أفضل ؟
قال صلى الله عليه وسلم : أغلاها ثمناً ، وأنفسها عند أهلها .
قيل : أفرأيت إن لم أستطع بعض العمل ؟
قال صلى الله عليه وسلم : فتُعين صانعاً ، أو تصنع لأخرق .
قيل : أفرأيت إن ضعفت ؟
قال صلى الله عليه وسلم : تدع الناس من الشر ،
فإنها صدقة ، تَصدَّقُ بها على نفسك (2).
أنت تلاحظ في حديثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يلي :
1ـ التدرج من الإيمان إلى الإحسان إلى الناس ، إلى مساعدتهم إلى كف الأذى عنهم . أي من المُهِمِّ إلى الأقل أهمية .
2ـ أما أداة الربط فهي : السؤال والجواب والمحاورة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائله .
وفي حديث آخر نرى هذه الطريقة واضحة : عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( كل معروف صدقة ،
وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق ،
وأن تفرغ دلوك في إناء أخيك ))(3) .
فتأمل معي وصف المعروف . . فهو صدقة تتصدق بها على أخيك المسلم ، فإذا عرف المسلم أن المعروفَ يُثابُ عليه جاءته طريقة من طرق المعروف التي لا تكلف كثيراً . . الابتسام وطلاقة الوجه ، وحرارة لقاء المسلم أخاه المسلم ، والتحبب إليه ، وإشاعة الراحة والهناء في جو الأخوة .
ثم ينتقل المسلم من الصدقة التي لا تكلف الكثير إلى الصدقة التي فيها عطاء وإيثار ، لأن الذي تؤثره على نفسك أخوك المسلم ، ثم إلى الصدقة التي فيها بذل وسخاء ، وهنا تهون الدنيا أمام إخوان العقيدة ، ويرخص الغالي في سبيلهم . . وما أعظمها من أخوّة .
ومن التعليم بطريق الخطوات ، ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( أقيموا الصفوف ،
وحاذوا بين المناكب ،
وسدوا الخلل ،
ولينوا بأيدي إخوانكم ،
ولا تذروا فرجات للشيطان ،
ومن وصل صفاً وصله الله ،
ومن قطع صفاً قطعه الله ))(4) .
ألا ترى معي أن التعليم المتدرج في هذا الحديث جاء صورة حية تبدأ من قيام المسلمين إلى الصلاة ، ورص الصفوف ، والتكاتف بينهم بود وإخاء ، يفسح بعضهم لبعض ، ثم يكونون لحمة واحدة ليس للشيطان منفذ بينهم ، وتغشاهم رحمة الله تعالى .
هذا رسول لله صلى الله عليه وسلم يعلم البشرية حتى هذه اللحظة وإلى قيام الساعة ، الطريقة الحديثة القديمة في الوصول إلى قلوب العباد ، وهدايتهم إلى طريق الرشاد .
الهوامش :
(1) رواه البخاري برقم / 6937 / .
(2) رواه الشيخان .
(3) الأدب المفرد الحديث / 304 / .
(4) رياض الصالحين ، باب الصف الأول ، رواه أبو داود .
من أساليب التربية النبوية
طريقة الخطوات المتتالية
الدكتور عثمان قدري مكانسي
طريقة الخطوات المتتالية
الدكتور عثمان قدري مكانسي
إن المعلم الناجح يقسم درسه إلى فقرات متتالية ، ويستعين بهذا التقسيم على إيصال المعلومات مرتبة : واحدة إثر واحدة ، ولا ينتقل إلى الثانية إلى بعد أن يفهم تلاميذه الأولى ، وهو بهذا يتيح لهم الفرصة لفهم ما يتلقونه أولاً بأول واستيعابه ، ويكون ناجحاً إذا ربط الموضوع
( بفقراته كلها ) موضحاً بدء كل فقرة وانتهاءها ، وعلاقتها بما بعدها . .
وإذا تابعنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجدنا قسماً كبيراً منها يتبع هذا الأسلوب النافع الدال على قدرة فائقة في إيصال المراد إلى السامع ، والتأكد من أنه تلقى العظة والعبرة واستوعبها .
وهذا ما نجده واضحاً في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاَ إلى أهل اليمن ، قال له : إنك لتقدُم على قوم من أهل الكتاب :
1ـ فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى .
2ـ فإذا عرفوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم .
3ـ فإذا صلوا ، فأخبرهم أن الله تعالى فرض عليهم زكاة في أموالهم ، تؤخذ من غنيهم فترد إلى فقيرهم .
4ـ فإذا أقروا بذلك فخذ منهم ، وتَوَقَّ كرام أموال الناس(1).
نلاحظ : 1ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم عَرَّف معاذاً ـ رسوله ـ بأهل اليمن ، فهم ليسوا وثنيين ولا عباد أصنام ، فلا يفرض الإسلام عليهم فرضاً ، فاستعمل الحكمة معهم .
2ـ وهم يعرفون الله تعالى ، لكن معرفتهم إياه ـ سبحانه ـ مختلطة ، فهم يجعلونه ثالث ثلاثة ويجعلون عيسى عليه السلام ابنه ، فادعهم إلى توحيده ـ سبحانه ـ وبيّنْ لهم خطأ اعتقادهم .
3ـ فإذا عرفوا الله حق المعرفة وجب أن يعبوده ، وأول العبادات مرتبة : الصلاة ، فبينْ لهم أن الصلاة عماد الدين ، وأنها تقرب العبد من مولاه ، وأن ما بين الرجل والكفر تركُ الصلاة .
4ـ فإذا صلوا فقد دخلوا الإسلام ، وجاءت العبادات الأخرى وراءها ، والزكاة مقدمة على غيرها . . وأعلمْهم أن الزكاة ليست إتاوة تدفع للحاكم ـ فلربما استصعبوها !! فأنبئهم أنها للتكافل الاجتماعي ، (( حق يؤخذ من الغني فيهم فيرد إلى فقيرهم )) فهذا أدعى إلى الرضا بها .
5ـ فإن أقروا بها فخذ منهم زكاة أموالهم ، وتجنب ما يحبون ويضنون به ( وهذا يدل على عمق فهم أغوار النفس الإنسانية ) . . .
وأنت تلاحظ من حديثه صلى الله عليه وسلم ما يلي :
1ـ التدرج من الأهم إلى الأقل أهمية ( ولا تنس أنها ـ كلها ـ مهمة ) : المقدمة : ( تعريفهم بالدين ) ثم التوحيد ، ثم الصلاة ، ثم الزكاة . .
2ـ الكلمات الرابطة بين الفقرات : (( إنك لتقدم ، فليكن أول ، فإذا عرفوا ، فإذا صلوا ، فإذا أقرّوا . . ))
فالتعبير الثاني ( ليكن أول ) نتيجة للأول ( إنك لتقدم ) .
والتعبير الثالث ( فإذا عرفوا ) نتيجة للتعبير الثاني .
والتعبير الرابع ( فإذا صلوا ) نتيجة للثالث .
والتعبير الخامس ( فإذا أقروا ) نتيجة للرابع .
خطوة بعد خطوة ، وطلب إثر طلب ، وانتقال وثيق يدل على تلازم الفقرات كلها . . وهكذا يستوعب السامع العظة والعبرة ، ويتفهمها ويهضمها .
ونجد هذه الخطوات واضحة فيما رواه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له : أي الأعمال خير ؟
قال صلى الله عليه وسلم : إيمان بالله وجهاد في سبيله .
قيل : فأي الرقاب أفضل ؟
قال صلى الله عليه وسلم : أغلاها ثمناً ، وأنفسها عند أهلها .
قيل : أفرأيت إن لم أستطع بعض العمل ؟
قال صلى الله عليه وسلم : فتُعين صانعاً ، أو تصنع لأخرق .
قيل : أفرأيت إن ضعفت ؟
قال صلى الله عليه وسلم : تدع الناس من الشر ،
فإنها صدقة ، تَصدَّقُ بها على نفسك (2).
أنت تلاحظ في حديثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يلي :
1ـ التدرج من الإيمان إلى الإحسان إلى الناس ، إلى مساعدتهم إلى كف الأذى عنهم . أي من المُهِمِّ إلى الأقل أهمية .
2ـ أما أداة الربط فهي : السؤال والجواب والمحاورة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائله .
وفي حديث آخر نرى هذه الطريقة واضحة : عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( كل معروف صدقة ،
وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق ،
وأن تفرغ دلوك في إناء أخيك ))(3) .
فتأمل معي وصف المعروف . . فهو صدقة تتصدق بها على أخيك المسلم ، فإذا عرف المسلم أن المعروفَ يُثابُ عليه جاءته طريقة من طرق المعروف التي لا تكلف كثيراً . . الابتسام وطلاقة الوجه ، وحرارة لقاء المسلم أخاه المسلم ، والتحبب إليه ، وإشاعة الراحة والهناء في جو الأخوة .
ثم ينتقل المسلم من الصدقة التي لا تكلف الكثير إلى الصدقة التي فيها عطاء وإيثار ، لأن الذي تؤثره على نفسك أخوك المسلم ، ثم إلى الصدقة التي فيها بذل وسخاء ، وهنا تهون الدنيا أمام إخوان العقيدة ، ويرخص الغالي في سبيلهم . . وما أعظمها من أخوّة .
ومن التعليم بطريق الخطوات ، ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( أقيموا الصفوف ،
وحاذوا بين المناكب ،
وسدوا الخلل ،
ولينوا بأيدي إخوانكم ،
ولا تذروا فرجات للشيطان ،
ومن وصل صفاً وصله الله ،
ومن قطع صفاً قطعه الله ))(4) .
ألا ترى معي أن التعليم المتدرج في هذا الحديث جاء صورة حية تبدأ من قيام المسلمين إلى الصلاة ، ورص الصفوف ، والتكاتف بينهم بود وإخاء ، يفسح بعضهم لبعض ، ثم يكونون لحمة واحدة ليس للشيطان منفذ بينهم ، وتغشاهم رحمة الله تعالى .
هذا رسول لله صلى الله عليه وسلم يعلم البشرية حتى هذه اللحظة وإلى قيام الساعة ، الطريقة الحديثة القديمة في الوصول إلى قلوب العباد ، وهدايتهم إلى طريق الرشاد .
الهوامش :
(1) رواه البخاري برقم / 6937 / .
(2) رواه الشيخان .
(3) الأدب المفرد الحديث / 304 / .
(4) رياض الصالحين ، باب الصف الأول ، رواه أبو داود .