المقارنة بين الإسلام و النصرانيه فى التشريعات

عبدَ الله

<b><font color="#FF00FF">فرسان النهار</font></b>
إنضم
5 يناير 2008
المشاركات
559
التفاعل
6 0 0
بين الإسلام والنصرانية - مقارنة في التشريعات

د.إبراهيم عوض
13 - 3 - 2008




نسمع كثيرًا من النصارى هذه الأيام يقارنون بين سيدنا محمد وسيدنا عيسى -عليهما جميعًا الصلاة والسلام- مقارنة ساذجة ينتهون دائمًا منها إلى أن عيسى ربٌّ حىٌّ، على حين أن محمدًا بشر ميت!. وهى مصادرة على المطلوب؛ إذ إنهم لم ولن يستطيعوا إثبات ربوبية المسيح، كما أن المقارنة بالحياة والموت هنا لا معنى لها؛ لأن كلا منهما قد أدى دوره وترك الأمر لرب الأمر. فلا فرق بينهما من هذه الناحية. أما المقارنة الصحيحة فهي التي تدور بين الديانتين لا بين الرسولين، وبخاصة بعد التحريف الذي لحق بالنصرانية، على المحاور التالية وأمثالها: الأول هو مدى توفير كل من الدينين للتشريعات التي تنظم أمور الحياة. والثاني هو القيم الحضارية التي يبشر بها كل من الدينين. والثالث هو عنصر الرجال الذين تحملوا المسئولية بعد الرسولين حسبما نقرأ في كتب قومهما.
ونبدأ بالتشريعات، ومعروف أن النصرانية تخلو تمامًا من أي شيء يتعلق بتنظيم المجتمع أو الدولة: سواء في مجال السياسة والحكومة، أو الاقتصاد والعمل والإنتاج والصناعات والحِرَف والبيع والشراء والربا، أو العلاقات التي تربط أفراد الأسر والأقارب والجيران بعضهم ببعض، أو الحروب والمبادئ التي ينبغي الالتزام بها أثناءها. ذلك أن النصرانية بعد التحريف ليست سوى طائفة من النصائح الأخلاقية المُغْرِقة في المثالية الساذجة التي تتأبى على التطبيق، مهما كانت رغبة الشخص أو المجتمع في ذلك؛ لأنها تُدَابِر الفطرة البشرية، وتفترض في الناس أنهم مجموعة من الملائكة الأطهار الأبرار، أو من ألواح الثلج، فهم لا يحسون ولا يغضبون ولا يتألمون ولا يقلقون على شيء ولا يرون له قيمة، ومن ثم لا يثورون ولا يتمردون على أية إهانة أو إذلال.

وبطبيعة الحال فإن الناس ليسوا كذلك، ولا يمكن أن يكونوا كذلك، ولهذا كان لا بد من تشريعات تنظِّم أمورهم في مجالات الحياة المختلفة، وهو ما قام به الإسلام على خير وجه، وراعى فيه إقامة توازن عبقري بين واقعية القوانين ومناسبتها للطبيعة الإنسانية، مع العمل في ذات الوقت على السموّ بتلك الطبيعة إلى أقصى ما يمكنها بلوغه من درجات الرقى والسموق رغم ذلك. وعلى ذلك فمن الظلم وضع الإسلام موضع المقارنة مع النصرانية؛ إذ لا تستطيع هذه الديانة الأخيرة أن تصمد لحظة من نهار أو ليل لتلك المقارنة إلا على سبيل المكابرة من جانب بعض الناس. وينبغي ألا ننسى ما نسب إلى المسيح -عليه الصلاة والسلام- من أن مملكته ليست من هذا العالم، وهى كلمة قاطعة الدلالة على أن النصرانية المحرفة، لا تصلح للحياة الدنيا، فكيف تصح مقارنتها بالإسلام، فضلاً عن تفضيلها عليه؟ إن هذا كلام لا يدخل العقل!

وهنا ننتقل إلى المحور الثاني في المقارنة بين دين محمد ودين المسيح -عليهما جميعًا السلام-، وهو محور القيم الحضارية. ومن المعروف أن الحضارة تقوم على عدة أسس، هي: العقيدة، والأخلاق، والقانون، والعلم، والذوق، والعمل. وليكن آخر شيء هنا، وهو العمل، هو أول ما نتناوله في المقارنة بين الإسلام والنصرانية. وكان المسيح -عليه السلام- طبقًا لما يقوله كتّاب الأناجيل، ينظر إلى العمل على أنه عائق في طريق دعوته، ولهذا كان يأمر كل من يدخل في تلك الدعوة أن يترك وراء ظهره مهنته التي يأكل منها، وكذلك أسرته، ويتبعه: «17 مِنْ ذلِكَ الزَّمَانِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ:«تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ».18وَإِذْ كَانَ يَسُوعُ مَاشِيًا عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ أَخَوَيْنِ: سِمْعَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. 19فَقَالَ لَهُمَا:«هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ». 20فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا الشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ. 21 ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ فَرَأَى أَخَوَيْنِ آخَرَيْنِ: يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، فِي السَّفِينَةِ مَعَ زَبْدِي أَبِيهِمَا يُصْلِحَانِ شِبَاكَهُمَا، فَدَعَاهُمَا. 22 فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا السَّفِينَةَ وَأَبَاهُمَا وَتَبِعَاهُ" (متى/ 4).
"وَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ جُمُوعًا كَثِيرَةً حَوْلَهُ، أَمَرَ بِالذَّهَاب إِلَى الْعَبْرِ. 19فَتَقَدَّمَ كَاتِبٌ وَقَالَ لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي». 20 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِلثَّعَالِب أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ». 21وَقَالَ لَهُ آخَرُ مِنْ تَلاَمِيذِهِ:«يَا سَيِّدُ، ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي». 22فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اتْبَعْنِي، وَدَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ»" (متى/ 8).
"9 وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ، رَأَى إِنْسَانًا جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ، اسْمُهُ مَتَّى. فَقَالَ لَهُ:«اتْبَعْنِي». فَقَامَ وَتَبِعَهُ" (متى/ 9).
وبالمناسبة فهذا النص الصغير يدل دلالة قاطعة على أن كاتب هذا الإنجيل ليس هو متى حواري عيسى، فهو يتكلم عن متى نفسه بوصفه شخصًا آخر، وهذا ظاهر من استعمال ضمير الغائب لا المتكلم.

«24حِينَئِذٍ قَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي» (متى/ 16).
ويتصل بهذا تهوينه عليه السلام من شأن المال، مع أن المال في أصله عنصر رئيس من عناصر الحياة؛ إذ هو ترجمة الجهد المبذول في العمل والإنتاج، أو فيما يحتاج إليه الإنتاج كي يمكن إنجازه. ولا يمكن أن يُدَان المال ومالكوه، اللهم إلا إذا كان قد أتى من حرام، أو يُنْفَق في حرام، أما إدانته والتنفير منه والدعوة إلى كراهيته كأنه شرٌّ في ذاته، كما كان المسيح يفعل طبقًا لما يقوله مؤلفو الأناجيل عنه، فهو ما لا يمكن الموافقة عليه؛ لأنه يهدم ركنًا من أركان الحياة والعمران البشري، وإلا فمن أين يأكل الناس ويشربون ويلبسون ويسكنون إذا أهملوا العمل وما يترتب على العمل من كسب ومال؟: «19«لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. 20بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ، 21 لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا. 22سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، 23وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ!. 24«لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ". 25«لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ 26اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ 27وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟ 28وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. 29وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. 30فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَدًا فِي التَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ اللهُ هكَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدًّا يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟ 31فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ 32فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ كُلِّهَا. 33لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. 34فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ» (متى/6).
ولقد يبدو أن ما ينسب للمسيح هنا يشبه ما قاله الرسول الكريم محمد -عليه الصلاة والسلام- عندما أشار إلى أن الله سوف يرزقنا كما يرزق الطير. بيد أن هناك فرقًا ضخمًا وخطيرًا بين الكلامين، ألا وهو أن الرسول محمدًا قد وضّح ماذا يقصد بالمقارنة بيننا وبين الطير، وهو ألا نركن إلى الكسل ونهمل العمل، بل علينا أن نطلب الرزق من مظانّه. وإذا كانت الطير تترك أعشاشها وتطير في فضاء الله الوسيع سعيًا وراء الحبة والدودة، وحينئذ تحصل على رزقها، فكذلك ينبغي أن نتحرك نحن أيضًا، ونجتهد ونتعب حتى نحصل على رزقنا، فالرزق لا يأتي دون تعب وعرق وكدّ وكدح. وهذا معنى ربطه صلى الله عليه وسلم بين الرزق وبين شرط التوكل على الله حقّ توكُّله: «لو توكلتم على الله حَقَّ توكُّله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خِمَاصًا، وتروح بِطَانًا» [رواه الترمذي (2344)، وقال: حديثٌ حسنٌ].
وهذا ما لا نجده في الحديث المنسوب للسيد المسيح عليه السلام، بل فيه أن الله يرزق الطير دون مجهود من جانبها، وهذا غير صحيح كما يعرف جميع الناس.
ولنتابع: «16وَإِذَا وَاحِدٌ تَقَدَّمَ وَقَالَ لَهُ:«أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟» 17فَقَالَ لَهُ:«لِمَاذَا تَدْعُوني صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. وَلكِنْ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ فَاحْفَظِ الْوَصَايَا». 18قَالَ لَهُ: «أَيَّةَ الْوَصَايَا؟» فَقَالَ يَسُوعُ:«لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَزْنِ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. 19أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَأَحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». 20قَالَ لَهُ الشَّابُّ: «هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي. فَمَاذَا يُعْوِزُني بَعْدُ؟» 21قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي». 22فَلَمَّا سَمِعَ الشَّابُّ الْكَلِمَةَ مَضَى حَزِينًا، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَال كَثِيرَةٍ. 23فَقَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ! 24وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا: إِنَّ مُرُورَ جَمَل مِنْ ثَقْب إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!». 25فَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ بُهِتُوا جِدًّا قَائِلِينَ:«إِذًا مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» 26فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«هذَا عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلكِنْ عِنْدَ اللهِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ. 27فَأَجَابَ بُطْرُسُ حِينَئِذٍ وَقَالَ لَهُ:«هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟» 28فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي التَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ. 29وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولاً مِنْ أَجْلِ اسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. 30وَلكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ.» (متى/ 19).
ولو قيل إن الغِنَى إذا كان من حرام أو يدفع إلى حرام، أو يشغل صاحبه عن طاعة الله ويغريه بالإثم؛ فإنه يشكل عندئذ عقبة تمنع صاحبه من دخول ملكوت السماوات، أما التنفير من المال مطلقًا فلا أدرى كيف يكون!. ولذلك كان من ثمرة هذا الموقف المنسوب للسيد المسيح وتلاميذه أنه حكي عنهم أنهم كانوا يعتمدون في مطعمهم وملبسهم ومركبهم... إلخ على ما يجود به عليهم الآخرون، أو على ما يقابلهم في طريقهم من حقول أو حظائر يهجمون عليها دون إذن من أصحابها، ويتكلون على معجزات السيد المسيح الطعامية. وإن لم تأت المعجزة بالثمرة المطلوبة لعنت التينة المسكينة التي لم تستجب لهم؛ لأن الأوان ليس أوان تين، وليس لها ذنب في ذلك. وليس على تلك الأسس تقوم المجتمعات البشرية، بل على العمل والجِدّ والإنتاج وامتهان الحرف والصنائع المختلفة، وإلا انقرض المجتمع وضاع:
جاء في الإنجيل الذي بين أيديهم: «5هؤُلاَءِ الاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً:«إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. 6بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. 7وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ. 8اِشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصًا. أَقِيمُوا مَوْتَى. أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ. مَجَّانًا أَخَذْتُمْ، مَجَّانًا أَعْطُوا. 9لاَ تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاسًا فِي مَنَاطِقِكُمْ، 10وَلاَ مِزْوَدًا لِلطَّرِيقِ وَلاَ ثَوْبَيْن وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ عَصًا، لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ طَعَامَهُ» (متى/ 10).
«1فِي دلِكَ الْوَقْتِ ذَهَبَ يَسُوعُ فِي السَّبْتِ بَيْنَ الزُّرُوعِ، فَجَاعَ تَلاَمِيذُهُ وَابْتَدَأُوا يَقْطِفُونَ سَنَابِلَ وَيَأْكُلُونَ. 2فَالْفَرِّيسِيُّونَ لَمَّا نَظَرُوا قَالُوا لَهُ:«هُوَذَا تَلاَمِيذُكَ يَفْعَلُونَ مَا لاَ يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي السَّبْتِ!» 3فَقَالَ لَهُمْ:«أَمَا قَرَأْتُمْ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ جَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ؟ 4كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللهِ وَأَكَلَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ الَّذِي لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لَهُ وَلاَ لِلَّذِينَ مَعَهُ، بَلْ لِلْكَهَنَةِ فَقَطْ. 5أَوَ مَا قَرَأْتُمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ الْكَهَنَةَ فِي السَّبْتِ فِي الْهَيْكَلِ يُدَنِّسُونَ السَّبْتَ وَهُمْ أَبْرِيَاءُ؟ 6وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ ههُنَا أَعْظَمَ مِنَ الْهَيْكَلِ! 7فَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، لَمَا حَكَمْتُمْ عَلَى الأَبْرِيَاءِ! 8فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضًا»" (متى/ 12). والطريف أن كاتب الإنجيل يعرض المسألة على أنها انتهاك لحرمة السبت، وينسى أو يتناسى انتهاك حرمة الحقل في غياب صاحبه والأكل منه دون إذنه.«14فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ أَبْصَرَ جَمْعًا كَثِيرًا فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ وَشَفَى مَرْضَاهُمْ. 15وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ:«الْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَالْوَقْتُ قَدْ مَضَى. اِصْرِفِ الْجُمُوعَ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى الْقُرَى وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ طَعَامًا». 16فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«لاَ حَاجَةَ لَهُمْ أَنْ يَمْضُوا. أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا». 17فَقَالُوا لَهُ:«لَيْسَ عِنْدَنَا ههُنَا إِلاَّ خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَانِ». 18فَقَالَ:«ائْتُوني بِهَا إِلَى هُنَا». 19فَأَمَرَ الْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الْعُشْبِ. ثُمَّ أَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى الأَرْغِفَةَ لِلتَّلاَمِيذِ، وَالتَّلاَمِيذُ لِلْجُمُوعِ. 20فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوءةً. 21وَالآ كِلُونَ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُل، مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ» (متى/ 14).«32
وَأَمَّا يَسُوعُ فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ:«إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ، لأَنَّ الآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ أَصْرِفَهُمْ صَائِمِينَ لِئَلاَّ يُخَوِّرُوا فِي الطَّرِيقِ» 33فَقَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ:«مِنْ أَيْنَ لَنَا فِي الْبَرِّيَّةِ خُبْزٌ بِهذَا الْمِقْدَارِ، حَتَّى يُشْبِعَ جَمْعًا هذَا عَدَدُهُ؟» 34فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟» فَقَالُوا:«سَبْعَةٌ وَقَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ». 35فَأَمَرَ الْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الأَرْضِ، 36وَأَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَالسَّمَكَ، وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ، وَالتَّلاَمِيذُ أَعْطَوُا الْجَمْعَ. 37فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ سَبْعَةَ سِلاَل مَمْلُوءَةٍ، 38وَالآكِلُونَ كَانُوا أَرْبَعَةَ آلاَفِ رَجُل مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ» (متى/ 15).«1وَلَمَّا قَرُبُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ وَجَاءُوا إِلَى بَيْتِ فَاجِي عِنْدَ جَبَلِ الزَّيْتُونِ، حِينَئِذٍ أَرْسَلَ يَسُوعُ تِلْمِيذَيْنِ 2قَائِلاً لَهُمَا:«اِذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا، فَلِلْوَقْتِ تَجِدَانِ أَتَانًا مَرْبُوطَةً وَجَحْشًا مَعَهَا، فَحُّلاَهُمَا وَأْتِيَاني بِهِمَا. 3وَإِنْ قَالَ لَكُمَا أَحَدٌ شَيْئًا، فَقُولاَ: الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمَا. فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُهُمَا» (متى/ 21).«18
وَفِي الصُّبْحِ إِذْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ جَاعَ، 19فَنَظَرَ شَجَرَةَ تِينٍ عَلَى الطَّرِيقِ، وَجَاءَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئًا إِلاَّ وَرَقًا فَقَطْ. فَقَالَ لَهَا:«لاَ يَكُنْ مِنْكِ ثَمَرٌ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ!». فَيَبِسَتِ التِّينَةُ فِي الْحَالِ» (متى/ 21).«17وَفِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْفَطِيرِ تَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ لَهُ:«أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ لَكَ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟» 18فَقَالَ:«اذْهَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، إِلَى فُلاَنٍ وَقُولُوا لَهُ: الْمُعَلِّمُ يَقُولُ: إِنَّ وَقْتِي قَرِيبٌ. عِنْدَكَ أَصْنَعُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي». 19فَفَعَلَ التَّلاَمِيذُ كَمَا أَمَرَهُمْ يَسُوعُ وَأَعَدُّوا الْفِصْحَ» (متى/ 26).
هذا ما تقوله الأناجيل في موضوع العمل والمال، وهو (كما نرى) لا يصلح للمجتمعات البشرية، فإن المسيح لن يبقى على الأرض طول الحياة حتى يوالي الناس بما يحتاجون، كما أنه لن يظل يصنع معجزات، والدليل على ذلك قصة الحقل وقصة التينة وقصة عيد الفصح، ولن يستفيد من معجزاته إلا من حوله حسبما شاهدنا. ليس هناك إذن سوى سبيل واحد هو العمل والإنتاج والاعتماد على النفس والتعاون وتوزيع الاختصاصات، كل شخص فيما يحسن ويتقن. وهذا ما يقوله الإسلام: لقد تكرر في القرآن الشريف مراتٍ بعد مراتٍ، عقب الإيمان مباشرةً، الأمرُ بالأعمال الصالحات، وهى تشمل كل شيء تحتاجه الحياة الإنسانية كي تتحرك وتستمر، وأوجب العمل على المسلمين: { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [التوبة : 105].
وفى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنه لا بد من العمل، واتخاذ كل إنسان مهنة يزاولها ويعيش منها مُعِينًا إخوانه في المجتمع والإنسانية ومستعينًا بهم، وأن المال خيرٌ ما كان من حلال وما أُنْفِق في حلال وأُدِّيَ فيه حق الله والآخرين، وأن العمل واجب حتى آخر نَفَس في حياة الإنسان، بل حتى آخر لحظة في عمر الدنيا، وأن العبادة لا ينبغي أن تعطل الإنسان عن عمله ولا أن تجور عليه، وربما قُدِّم في بعض الظروف عليها، بل على العابد بعد أن يفرغ من عبادته أن ينطلق سعيًا وراء الرزق ممارسًا مهنته ومؤديًا عمله، وأن المهن كلها محترمة، وأنه لا يكفي أن يؤدى الإنسان العمل، بل لا بد من إتقانه على الوجه المطلوب.
باختصار ليس في الدنيا ما يُعاب على من يستمتع بطيباتها ما دام يراعي ربه فيها. فالإسلام لا يدابر الحياة ولا يتجهم لها، بل يأخذ بيدها ويتعاون معها على خير البشرية. يقول الرسول الكريم: «من بات كالاًّ من عمل يده بات مغفورًا له»، «ألا أخبركم بخير الناس؟ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله. ألا أخبركم بالذي يتلوه؟ رجل معتزل في غُنَيْمَةٍ له يؤدي حق الله فيها» [رواه مسلم (1889)]، «المؤمن القوى خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفى كلٍّ خير» [رواه مسلم (2664)]، «خير الصدقة ما كان عن ظَهْرِ غِنًى، وابدأ بمن تَعُول» [رواه البخاري (1461) ومسلم (998)]، «دينارٌ أنفقتَه في سبيل الله، ودينارٌ أنفقتَه في رقبة، ودينارٌ تصدقتَ به على مسكين، ودينارٌ أنفقتَه على أهلك: أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك» [رواه مسلم (995)]، «نِعْمَ المال الصالح للمرء الصالح»، «من أحيى أرضًا ميتة فهي له»، «من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبي فليمسك أرضه»، «لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة أتاه المهاجرون فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا قوما أبذل من كثير ولا أحسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين أظهُرهم. لقد كَفَوْنا المؤونة وأشركونا في المهنأ حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله. فقال: لا، ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم».
و«عن السائب بن أبي السائب أنه كان يشارك رسول الله -‏صلى الله عليه وسلم- ‏ ‏قبل الإسلام في التجارة. فلما كان يوم الفتح جاءه، فقال النبي ‏ ‏-صلى الله عليه وسلم-: مرحبًا بأخي وشريكي! كان لا ‏‏يداري ولا يماري! يا سائب، ‏قد كنت تعمل أعمالاً في الجاهلية لا تُقْبَل منك، وهي اليوم تُقْبَل منك. وكان ذا ‏سَلَفٍ وصِلَة»، «‏ما بعث الله نبيًّا إلا رعى غنم. قال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا. كنت أرعاها لأهل ‏ ‏مكة ‏بالقراريط».
وقال صلى الله عليه وسلم: «الخيل لثلاثة: لرجلٍ أجر، ولرجلٍ ستر، وعلى رجل وزر: فأما الذي له أجر فرجُلٌ ربَطها في سبيل الله، فأطال لها في مَرْجٍ أو روضة، فما أصابت في طِيَلها ذلك في المرج والروضة كان له حسنات. ولو أنها قطعت طِيَلها فاستنت شرفًا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له. ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي به كان ذلك حسنات له. فهي لذلك الرجل أجر. ورجلٌ ربطها تغنيًّا وتعففًا، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي له ستر. ورجلٌ ربطها فخرًا ونِوَاءً، فهي على ذلك وزر» [رواه البخاري (1402) ومسلم (987)].
وقال صلى الله عليه وسلم: «على كل مسلم صدقة. قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق. قالوا: فإن لم يستطع أو لم يفعل؟ قال: فيعين ذا الحاجة الملهوف. قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: فليأمر بالخير، أو قال: بالمعروف. قال: فإن لم يفعل؟ قال: فليمسك عن الشر، فإنه له صدقة» [رواه البخاري (6022)، ومسلم (1008)]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده. وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده» [رواه البخاري (2072)]، «عن سعد بن أبى وقاص: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفاتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. قلت: بالشطر؟ فقال: لا. ثم قال: الثلث، والثلث كبير، أو كثير. إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» [رواه البخاري (4409) ومسلم (1628)]، وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة ما ترك غِنًى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» [رواه البخاري (1428)، ومسلم (1035)]، عن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة. ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا. ثم يتلو: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات...} إلى قوله: {الرحيم}. إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفْق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون»، «كان (معاذ بن جبل رضي الله عنه) يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم «البقرة»... فتجوَّز رجل فصلى صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذًا فقال: إنه منافق. فبلغ ذلك الرجل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا قوم نعمل بأيدينا، ونسقي بنواضحنا، وإن معاذًا صلى بنا البارحة، فقرأ «البقرة»، فتجوزتُ، فزعم أني منافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معاذ ، أفتان أنت؟ (ثلاثًا). اقرأ: «والشمس وضحاها» و«سبح اسم ربك الأعلى» ونحوها.
و«كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر فصام بعض وأفطر بعض، فتحزّم المفطرون وعملوا، وضَعُف الصُّوّام عن بعض العمل. قال: فقال في ذلك: ذهب المفطرون اليوم بالأجر».
وقال صلى الله عليه وسلم: «‏لأن ‏ ‏يغدو ‏ ‏أحدكم فيحطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به من الناس خير له من أن يسأل رجلاً أعطاه أو منعه ذلك، فإن ‏ ‏اليد العليا ‏ ‏أفضل من ‏ ‏اليد السفلى، ‏وابدأ بمن ‏ ‏تعول»، و«‏جاء الفقراء إلى النبي ‏- ‏صلى الله عليه وسلم- ‏فقالوا: ذهب أهل ‏الدثور ‏من الأموال بالدرجات العلا والنعيم المقيم: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون! قال: ‏ألا أحدثكم إن أخذتم أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ‏ظهراَنيْه ‏إلا من عمل مثله؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين»[ رواه مسلم (1006)]، وقال صلى الله عليه وسلم: «‏ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة» [رواه مسلم (1553)]، «‏إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده‏ فسيلة فليغرسها»، عن سلمان (وكان عبدًا مملوكًا لبعض أهل المدينة، فأراد أن يتحرر من رِقّه، فكاتبهم على أن يغرس لهم شجرًا بحيث إذا نجح الشجر أعتقوه) ‏قال: فأتيت النبي -‏‏صلى الله عليه وسلم- ‏ ‏فذكرت ذلك له قال: ‏اغرس واشترط لهم، فإذا أردت أن تغرس ‏‏فآذِنّي. قال: فآذَنْتُه. قال: فجاء فجعل يغرس بيده إلا واحدة غرستها بيدي، فعَلِقْن إلا الواحدة»، «الدنيا خضرة حلوة... فمن أخذها بحقها بورك له فيها، ومن أخذها بغير حقها لم يبارَك له، وكان كالذي يأكل ولا يشبع»[ رواه البخاري (1472) ومسلم (1035)]، وفي الحديث «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ. احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجز» [رواه مسلم (2664)]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه»... الخ.
كما نظّم الإسلام الصدقات ولم يتركها لمزاج المسلم: إن شاء أداها، وإن شاء لم يؤدها، وإن شاء أخرج كثيرًا، وإن شاء أخرج قليلاً، وإن شاء استمر في تأديتها، وإن شاء توقف، بل قنَّنها وجعلها حقًّا للفقير لا بد من إخراجه، وجعل لها موظفين يقومون على جمعها وتوزيعها. أي أنه أتبع المبدأ بتطبيقه ولم يتركه كلامًا في الهواء. وتمثل النسبة التي يخرجها المسلم القادر من ماله في مجال الصدقات مقدارًا معقولاً يكفى للقضاء على الفقر، ولا يسلب الأغنياء كل ثروتهم بل يترك لهم الكثير رغم ذلك.
والمقصود بالفقر هنا الفقر الناشئ من عجز صاحبه عن الكسب أو من اختلال الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، لا الفقر الناتج عن الكسل والبلادة وقلة الكرامة والطمع فيما في أيدي الآخرين دون وجه حق. ولأن الزكاة نظام مقنن في الإسلام فقد استمر حتى عصرنا هذا الذي لم تعد الحكومات الإسلامية فيه تهتم بتطبيقه، إذ لا يزال كثير من المسلمين يخرجون حق المحتاجين في أموالهم طيبة به نفوسهم راجين قبول الله له وإثابتهم عليه .
 
عودة
أعلى