حقوق الأقليات في الدولة الإسلامية
القسم الأول
إن السيرة النبوية تعتبر من أجلِّ العلوم وأفضلها بالنسبة للمسلم؛ فهي تدرس سيرة رجل هو أعظم رجل خلقه الله تعالى ، فقد وصفه رب العزة بقوله: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: 4]. وإذا كانت دراسة السيرة مهمة في زمن من الأزمان فهي في زماننا أهم؛ لأن واقع الأمة الآن متأخر في كل المجالات؛ تأخر عسكري واقتصادي واجتماعي وأخلاقي.
ولا ريب أن الأمل معقود في الله سبحانه وتعالى لإعادة البناء، بَيْدَ أن النهوض يحتاج إلى أمرين مهمين: يقين بضرورة بناء الأمة من جديد، ودور عملي لكل منا؛ فاليقين أن نوقن في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد بشَّر الصحابة في غزوة الخندق بفتوح الشام وفارس واليمن وغيرها، وألاَّ نعتمد اعتمادًا كُليًّا على الحسابات المادية، رغم أهميتها، فالأحزاب قد اعتمدوا على الجانب المادي لكنهم لم ينجحوا، وأن يكون لنا دور لإعادة إعمار الكون، قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 110].
عشنا طويلاً في ظل مجموعة من الأيديولوجيات والأفكار المختلفة التي تحكم المجتمع والدولة، وكلها باءت بالفشل مثل الاشتراكية والرأسمالية وغيرها، ندور حول هذه الأفكار متناسين سيرة نبينا وأصوليتنا الدينية التي أدارت المجتمعات الإسلامية القديمة بخلافاتها ودولها، ومع هذا فإننا لا ننادي باستقصاء كل وقعة وفعلة وحدث في السيرة؛ فهذا ضرب من المستحيل لكننا ننادي بدراسة الأحداث العظيمة والجليلة في هذه السيرة؛ فهي مما يتكرر يومًا بعد يوم، ندرس غزوة أُحد وبدر والخندق؛ لأن واقعنا قد وجد حدثًا مشابهًا وهو حرب أكتوبر 1973م، وهو - لا شك - من الأحداث التي يتم تحليلها منذ وقعت وحتى وقتنا الراهن.
ويجب أن ندرس السيرة النبوية من جوانب عدة، وقواعد معلومة ؛ ليتسنى لنا حصد ثمارها، والعمل بما فيها:
(1) أن نفهم أن السيرة من المواقف التشريعية التي تدخل في إطار السنة؛ فالعلماء لهم دور كبير في استنباط الأحكام منها.
(2) ندرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخطو خطوة إلا بوحي من الله أو تعديل من الوحي.
(3) أن نتعلم كيف نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل موقف من مواقف حياته صلى الله عليه وسلم.
(4) أن نتعلم الحكمة في اختياره للآراء، وفي اختياره للأفعال في أثناء السيرة النبوية من أوَّلها إلى آخرها.
وسيتركز جُلّ اهتمامنا على استنباط القواعد المهمة في بناء الأمة الإسلامية، ونهتم بالأحداث التي تشبه واقعنا المعاصر، ولا يكون اهتمامنا منصبًّا على الأحداث الشائقة، وإنما على ما يفيد واقعنا المعاصر.
في البداية يجب علينا تحديد بعض المصطلحات المهمَّة قبل البدء في تحديد الحقوق التي تتمتَّع بها الأقلِّيات غير المسلمة داخل الدولة الإسلاميَّة، ومن هذه المصطلحات مصطلح دولة؛ والتي وردت لها عدَّة تعريفات ومن هذه التعريفات أنها مجموعة من الأفراد يقطنون إقليمًا معيَّنًا، ويخضعون لسلطان الأغلبيَّة أو سلطان طائفة منهم.والغاية من هذه الدولة هي إقامة حكم الله في الأرض، وحمل الناس على طاعة الله والعمل بكتابه وسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، وحفظ الدين الإسلامي وتنفيذ أحكامه، وصونه من التحريف والتبديل والتعطيل، وقمع الفتن وإماتة البدع وإحياء السُّنَنِ، ودرء المفاسد، وجلب المصالح، بما يُحَقِّق صلاح أمور الناس، وتدبير أمور الدنيا وفقًا للتعاليم الدينيَّة، وقد أجمل ذلك كله الماوردي في عبارته: "حراسة الدين, وسياسة الدنيا به" (الماوردي: الأحكام السلطانية) .
أما مصطلح أهل الذمَّة فقد أُطلق على مواطني الدولة الإسلاميَّة من غير المسلمين، وبخاصَّة اليهود والنصارى الذين كان لهم عهد مع المسلمين، والذمَّة في اللغة تعني: العهد والضمان والأمان؛ لكونهم به صاروا في ذمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ذمَّة المسلمين، أي في عهدهم وأمانهم؛ ليعيشوا في حماية الإسلام وفي كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنِّين، فهم في أمان المسلمين وضمانهم، ثمَّ اتَّسع هذا المعنى الاصطلاحي ليشمل أهل الكتاب كافَّة - أي أصحاب التوراة والإنجيل من النصارى واليهود، ومَن لا كتاب لهم مثل المجوس - مقابل التزامهم بواجباتهم تجاه مجتمع المسلمين.
ومما ينبغي الإشارة إليه هنا أن عبارة أهل الذمَّة ليست عبارة تنقيص أو ذمٍّ, بل هي عبارة توحي بوجوب الرعاية والوفاء تديُّنًا وامتثالاً للشرع, وإن كان بعضهم يتأذَّى منها فيمكن تغييره؛ لأن الله لم يتعبَّدنا به، وقد غيَّر سيدنا عمر رضي الله عنه لفظ الجزية الذي ورد في القرآن استجابة لعرب بني تغلب من النصارى الذين أَنِفُوا من الاسم، وطلبوا أن يُؤْخَذَ منهم ما يُؤْخَذُ باسم الصدقة (أبو بكر بن أبي شيبة: مصنف ابن أبي شيبة، 3/88، الطبري: تاريخ الطبري، 3/158، د. عصام أحمد البشير: معالم حول أوضاع غير المسلمين في الدولة الإسلامية، موقع الإسلام اليوم ).
القانون الإسلامي العام تجاه الأقليات:
من عظمة التشريع الإسلامي أنه شمل برعايته كلَّ مَن يعيش في ظلاله، فوَجَدَت الأقلِّيَّة غير المسلمة في المجتمع المسلم أو في الدولة الإسلاميَّة ما لم تجده أقلِّيَّة أخرى في أي قانون وفي أي بلد آخر من حقوق وامتيازات؛ وذلك لأن العَلاقة بين المجتمع المسلم والأقلِّية غير المسلمة تحكمها القاعدة الربانيَّة: " لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون " (سورة الممتحنة: 8، 9).
فهاتان الآيتان حدَّدتا الأساس الأخلاقي والقانوني الذي يجب أن يُعامِل به المسلمون غيرهم، وهو البرُّ والقسط لمن لم يناصبهم العداء، وكل النوازل والمستجدات ينبغي ردُّها إلى ذلك الأساس، وما كان للعَلاقة بين المسلمين وغيرهم أن تخرج عن الإطار العامِّ والهدف الأسمى الذي من أجله أنزل الله الكتب وأرسل الرسل، وهو قيام الناس بالقسط، لذلك يقول عامَّة المفسِّرين عن الآية الأولى: وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين وجواز بِرِّهم، وإن كانت الموالاة منقطعة منهم. وقال القرطبي: هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم.
وإذا كان جُلُّ المفسِّرين على أن المقصود بـ "القسط" في الآية السابقة هو العدل، وإذا كان العدل في حدِّ ذاته واجبًا على المسلم تجاه الجميع أعداءً كانوا أو أصدقاء، لقوله تعالى: " وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى ألا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى " (سورة المائدة: 8). فإن القسط هنا قد أَخَذ اعتبارًا آخر وهو الإحسان بالمال؛ فقال ابن العربي: " وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ": أي تعطوهم قسطًا من أموالكم على وجه الصلة، وليس يريد به العدل؛ فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يُقاتل.
هذه هي نظرة الإسلام لغير المسلم، نظرة فريدة يتمتَّع فيها غير المسلم بحقوق وامتيازات تتَّضح في النقاط التالية :
حقوق الأقليات في الدولة الإسلامية:
القاعدة الأولى في معاملة الأقلِّيَّات في الدولة الإسلاميَّة هي أن لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، وذلك غير أمور محدَّدة مستثناة...
أولاً: حقُّ حرِّيَّة الاعتقاد
لم تكن الشريعة الإسلامية هي التي تأمر بإكراه الناس حتى يكونوا مؤمنين، فقضية العقيدة في الإسلام هي قضية اقتناع بحت بَعْدَ طول تروٍّ وبحث ونظر، وقد أعلن الإسلام المبدأ العظيم في ذلك في قوله تعالى: " لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ "(البقرة: 256) , وقوله تعالى: " أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ " (يونس: 99) .
يقول ابن كثير في تفسير الآية الأولى : أي لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكْرَهَ أحدٌ على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونَوَّر بصيرته دخل فيه على بيِّنة، ومَن أعمى الله قلبه, وختم على سمعه وبصره فإنه لا يُفيده الدخول في الدين مكرها مقسورًا (تفسير القرآن العظيم، 1/682).
ومن أبرز ما يمكن أن نتلمَّسه في التدليل على ذلك ما كان من كفالة الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود الحرِّيَّة في البقاء على دينهم، وقد تبعه على ذلك الخلفاء الراشدون من بعده، ومن ذلك ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أهل إيلياء (القدس)، حيث وقَّع معهم صلحًا نصَّ فيه على حرِّيَّتهم الدينيَّة، وحُرْمَة معابدهم وشعائرهم، ومما جاء فيه: "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملَّتها، لا تُسْكَن كنائسهم، ولا تُهدم ولا يُنتَقَص منها، ولا من حيِّزها، ولا مِن صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضارُّ أحد منهم..."( تاريخ الطبري 3/ 105).
ثانيًا: حق حماية النفس
كما حرص الإسلام على حياة بنيه المسلمين وعصمة دمائهم، فقد حرص كذلك على حياة غير المسلمين وعصمة دمائهم، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا " (البخاري: كتاب الجزية، باب إثم من قتل معاهدًا بغير جرم (2930)، النسائي (4666)). فدماؤهم وأنفسهم معصومة - كما يقول الدكتور القرضاوي - باتِّفاق علماء المسلمين، وقتلهم حرام بالإجماع، ولهذا أجمع فقهاء الإسلام على أنَّ قتل الذمِّيِّ كبيرة من كبائر المحرَّمات لهذا الوعيد الذي جاء في الحديث..
وبهذا النهج اقتدى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعدهم، فهذا هو عليٌّ رضي الله عنه وقد أُتِيَ برجل من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمَّة، فقامت عليه البيِّنة، فأمر بقتله، فجاء أخوه، فقال: إني قد عفوت، قال: فلعلَّهم هدَّدوك وفرقوك. قال: لا، ولكنَّ قَتْلَه لا يردُّ علَيَّ أخي، وعوَّضوا لي ورضيتُ. قال: أنت أعلم؛ مَن كانت له ذمَّتنا فدمه كدمنا، ودِيَتُه كدِيَتِنَا، وفي رواية أخرى: "إنما بذلوا الجزية لتكونَ دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا"، وبمثل ذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أمرائه في مسلم قَتَل ذمِّيًّا، فأمره أن يدفعه إلى وَلِيِّه، فإن شاء قَتَلَه، وإن شاء عَفَا عنه، فدُفِعَ إليه فضرب عنقه (عبد الرزاق بن همام: مصنف عبد الرزاق 10/ 101، 102) .
يقول الدكتور القرضاويفي كتابه (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ): وكما حمى الإسلام أنفسهم - أهل الذِّمَّة - من القتل حمى أبدانهم من الضرب والتعذيب، فلا يجوز إلحاق الأذى بأجسامهم، ولو تأخَّروا أو امتنعوا عن أداء الواجبات الماليَّة المقرَّرة عليهم كالجزية والخَرَاج، هذا مع أن الإسلام تشدَّد كل التشدُّد مع المسلمين إذا منعوا الزكاة[4].
بل إن من الطريف في ذلك أن الخوارج الذين استباحوا دماء المسلمين وأوغلوا فيها توقَّفوا عن قتل أهل الذِّمَّة خشية نَقْضِ عهدهم، يقول ابن حجر: "الخوارج لما حَكَمُوا بكفر مَن خالفهم استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذِّمَّة فقالوا: نَفِي لهم بعهدهم" (فتح الباري 19/ 389)
ثالثًا: حق الكرامة
الناس كل الناس في نظر الشريعة الإسلاميَّة هم أبناء هذه العائلة الإنسانيَّة التي كرَّمها الله بغضِّ النظر عن الدِّينِ أو اللون أو الجنس، يقول تعالى: " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً "( الإسراء ـ 70 ).
وإذا كان اختلاف الناس آية من آيات الله كما قال تعالى : " وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ " (الروم: 22)، فإن هذا الاختلاف لا يجوز - كما يقول المُزَيْنِيُّ - أن يكون سببًا في التنافُر والعداوة، بل إنه يجب أن يكون سببًا للتعارُف والتلاقي على الخير والمصلحة المشتركة؛ فالله تعالى يقول:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ " (الحجرات: 13).
وانطلاقًا من هذه المكانة العالية التي خصَّ الله تعالى بها البشر كان لا بُدَّ إذًا من مراعاة الكرامة الإنسانيَّة للإنسان، مسلمًا كان أمْ غيرَ مسلمٍ، ولا أخال أنَّ دِينًا يُوازي الإسلام في حفظ كرامة الإنسان، حتَّى الذي من غير أهله، فهو يُؤَكِّد على أنَّ أصل البشر واحدٌ، وأنهم متساوون في الإنسانية والحقوق، وميزان التفاضُل الذي وضعه القرآن الكريم إنما هو ما يُقَدِّمه هذا الإنسان من خيرٍ للإنسانيَّة كلِّها، وذلك مع الإيمان الحقِّ بالله تعالى؛ قال تعالى: " إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير " (الحجرات: 13).
وقد أكَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ في خطبته في حجة الوداع في العام العاشر من هجرته، حيث قال: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ ؟" (إبراهيم بن محمد الحمد المزيني: التعامُل مع الآخر شواهد تاريخية من الحضارة الإسلاميَّة، والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده, وصححه الألباني) .
ومن صور المحافظة على كرامة غير المسلمين - كما يقول المزيني - حقُّهم في مراعاة مشاعرهم حال المجادلة، ومجادلتهم بالحسنى، قال تعالى: " وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ " (العنكبوت: 46).
وقد بلغ من تكريم المولى تبارك وتعالى للإنسان أنَّه نهى المسلمين أن ينالوا من الآلهة التي يعبدها المشركون بالسبِّ، حتَّى لا يؤدِّيَ ذلك بهم إلى النيل من الله الإله الحقِّ، وفي ذلك تكريم للإنسان؛ فاحترام شعوره نحو الأشياء التي يقدِّسها احترامًا لكرامته؛ قال تعالى: " وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " (الأنعام: 108) ، وفي ذلك يقول الإمام القرطبي في تفسيره عن أهل الذمَّة: "فلا يحلُّ لمسلم أن يسبَّ صلبانهم، ولا دينهم، ولا كنائسهم، ولا يتعرَّض إلى ما يؤدِّي إلى ذلك؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية " 7/ 61 .
وحذَّر أيضًا الرسول صلى الله عليه وسلم من ظُلم أهل الذِّمَّة وانتقاص حقوقهم، وجعل نفسه الشريفة خصمًا للمعتدي عليهم، فقال: " مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (أبو داود: كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات (2654)، البيهقي: السنن الكبرى، 9/205 ) ، وكان ذلك واقعًا عمليًّا في عهده صلى الله عليه وسلم لأهل نجران - كما سيأتي - أنه: " لا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ رَجُلٌ بِظُلْمِ آخَرَ "(البلاذري: فتوح البلدان، 1/78، ابن كثير: البداية والنهاية، 5/66 ) .
ولهذا كله اشتدَّت عناية المسلمين منذ عهد الخلفاء الراشدين، بدفع الظلم عن أهل الذِّمَّة، وكفِّ الأذى عنهم، والتحقيق في كل شكوى تأتي من قِبَلِهم، فكان عمر رضي الله عنه يسأل الوافدِينَ عليه من الأقاليم عن حال أهل الذِّمَّة، خشية أن يكون أحد من المسلمين قد أفضى إليهم بأذًى، فيقولون له: ما نعلم إلا وفاءً (تاريخ الطبري، 3/184) ، أي بمقتضى العهد والعقد الذي بينهم وبين المسلمين، وهذا يقتضي أن كُلاًّ من الطرفين وفَّى بما عليه، وهذا أيضًا عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا" (البيهقي: السنن الكبرى، 8/34، ابن قدامة: الشرح الكبير، 10/630 ) .
ولعلَّ أشهر الأمثلة في مراعاة كرامة الأقلِّيَّات غير المسلمة قصَّة الْقِبْطِيِّ مع عمرو بن العاص رضي الله عنه والي مصر؛ حيث ضرب ابنُ عمرٍو ابنَ القِبْطِيِّ بالسوط، وقال له: أنا ابن الأكرمين. فما كان من القبطي إلا أن ذهب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المدينة وشكا إليه، فاستدعى الخليفة عمرًا وابنَه، وأعطى السوطَ لابن القبطي، وقال له: اضرب ابن الأكرمين. فلما انتهى من ضربه التفت إليه عمر، وقال له: أَدِرْها على صلعة عمرو، فإنما ضربك بسلطانه. فقال القبطي: إنما ضربتُ مَن ضربني. ثم التفت عمر إلى عمرو، وقال كلمته الشهيرة: "يَا عَمْرُو، مَتَّى اسْتَعْبَدْتُمُ النَّاسَ وَقَدْ وَلَدَتْهُمْ أُمَّهَاتُهُمْ أَحْرَارًا ؟!" (ابن الجوزي: تاريخ عمر، ص129،130، ابن الحكم: فتوح مصر، 195 ).
وممَّا يستحقُّ التسجيل في هذه القصَّة: أنَّ الناس قد شعروا بكرامتهم وإنسانيَّتهم في ظلِّ الإسلام، حتَّى إنَّ لطمة يُلطَمها أحدهم بغير حقٍّ، يستنكرها ويستقبحها، وقد كانت تقع آلاف مثل هذه الحادثة وما هو أكبر منها في عهد الرومان وغيرهم، فلا يُحَرِّك بها أحدٌ رأسًا، ولكنَّ شعور الفرد بحقِّه وكرامته في كَنَفِ الدولة الإسلاميَّة جعل المظلوم يركب المشاق، ويتجشَّم وَعْثَاءَ السفر الطويل من مصر إلى المدينة المنوَّرة، واثقًا بأن حقَّه لن يضيع، وأن شَكَاتَه ستجد أذنًا صاغية.
رابعًا: حق حماية الأموال
كما أن أموال المسلمين معصومة فكذلك أموال الأقلِّيَّات غير المسلمة معصومة؛ إذ يحرم أخذها أو الاستيلاء عليها بغير وجه حقٍّ، وذلك كأَنْ تُسْرَق أو تُغْصَب أو تُتْلَف، أو غير ذلك مما يقع تحت باب الظلم، وقد جاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران: " ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمَّة محمَّد النبي رسول الله على أموالهم وملَّتهم وبِيَعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير..." (البلاذري: فتوح البلدان، 1/77، ابن سعد: الطبقات الكبرى، 1/258، 288) . وفي عهد عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما أن: " امنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم، وأكل أموالهم إلا بحِلِّهَا " (د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ).
وبلغ من رعاية الإسلام لحرمة أموالهم وممتلكاتهم أنه يحترم ما يَعُدُّونه -حسب دينهم - مالاً، وإن لم يكن مالاً في نظر المسلمين، فالخمر والخنزير لا يُعتبران عند المسلمين مالاً مُتَقَوَّمًا، ومَن أَتْلَفَ لمسلم خمرًا أو خنزيرًا لا غرامة عليه ولا تأديب، بل هو مثاب مأجور على ذلك، لأنه يُغَيِّر منكرًا في دينه، يجب عليه تغييره أو يُستحب حسب استطاعته، ولا يجوز للمسلم أن يمتلك هذين الشيئين لا لنفسه ولا ليبيعها للغير، أما الخمر والخنزير إذا ملكهما غير المسلم، فَهُمَا مالان عنده، بل من أنفس الأموال، كما قال فقهاء الحنفيَّة، فمن أتلفهما على الذِّمِّيِّ غُرِّمَ قيمتهما (د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ) .
خامسًا: حق حماية الأعراض
كما اهتمَّ الإسلام بحفظ الدِّين والنفس والمال، وفي سبيل حفظ بقيَّة الحقوق الأساسيَّة للإنسان باعتبارها حُرُمات معصومة، فإن الإسلام وكما يحمي عِرض المسلم فكذلك يحمي عِرض غير المسلم، فلا يتعرَّض للأقلِّيَّات غير المسلمة بما يؤذيها في النفس، أو في الأهل، أو في العمل، أو في غير ذلك مما يعدُّ انتهاكًا للأعراض، وعليه فلا يجوز في حقِّهم السبُّ، أو الغيبة، أو الاتهام بالكذب، أو التشنيع بالباطل، أو ذكر أحد منهم بما يكره في نفسه أو نسبه أو خَلْقِه أو خُلُقه، أو غير ذلك ممَّا يتعلَّق به.
وهذا ما لم يهتمَّ به تشريع سماوي ولا أرضي بحقِّ أية أقلِّيَّات في أي زمان أو مكان غيرُ الإسلام، يقول الفقيه الأصولي المالكي شهاب الدين القرافي: "إن عقد الذِّمَّة يُوجب لهم حقوقًا علينا؛ لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا (حمايتنا) وذمَّتِنَا وذمَّة الله تعالى، وذمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذمَّة دِين الإسلام، فمن اعتدى عليهم - ولو بكلمة سوء أو غيبة - فقد ضيَّع ذمَّة الله وذمَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمَّة دِين الإسلام.
سادسًا: حق حرية العمل والكسب
حثَّ الإسلام على العمل ورغَّب فيه، وبيَّن رسوله الكريم أن الأنبياء قبله - ثم هو معهم - كانوا يأكلون من كسب أيديهم، والأقلِّيَّاتُ في الدولة الإسلاميَّة باعتبارهم من رعاياها منحهم التشريع الإسلاميُّ حقَّ العمل والتكسُّب المشروع وتكوين الثروة، ولم يُحَدِّد ملكيَّتهم، ولم يمنعهم من مزاولة أي الأعمال شاءوا من ألوان النشاط الاقتصادي، شأنهم في ذلك شأن المسلمين.
يقول الدكتور القرضاوي: قرَّر الفقهاء أن أهل الذِّمَّة في البيوع والتجارات وسائر العقود والمعاملات الماليَّة كالمسلمين، ولم يَسْتَثْنُوا من ذلك إلا عقد الربا؛ فإنه محرَّم عليهم كالمسلمين، وقد رُوِي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس هجر: " إِمَّا أَنْ تَذَرُوا الرِّبَا أَوْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ". قال: كما يُمْنَع أهل الذِّمَّة من بيع الخمور والخنازير في أمصار المسلمين، وفتح الحانات فيها لشُرب الخمر وتسهيل تداولها أو إدخالها إلى أمصار المسلمين على وجه الشهرة والظهور؛ ولو كان ذلك لاستمتاعهم الخاصِّ؛ سدًّا لذريعة الفساد وإغلاقًا لباب الفتنة، وفيما عدا هذه الأمور المحدودة، يتمتَّع الذمِّيُّون بتمام حرِّيَّتهم، في مباشرة التجارات والصناعات والحِرَف المختلفة د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ).
ويشهد بذلك "آدم ميتز" أستاذ اللغات الشرقية بجامعة "بازل" بسويسرا حين يقول: "ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذِّمَّة أي باب من أبواب الأعمال، وكانت قدمهم راسخة في الصنائع التي تدر الأرباح الوافرة، فكانوا صيارفة وتجارًا وأصحاب ضياع وأطباء، بل إن أهل الذِّمَّة نظموا أنفسهم، بحيث كان معظم الصيارفة الجهابذة في الشام مثلاً يهودًا، على حين كان أكثر الأطباء والكتبة نصارى، وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة، وكان رؤساء اليهود وجهابذتهم عنده" آدم ميتز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة الأستاذ محمد عبدالهادي أبو ريدة، 1/ 86، نقلاً عن: د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ).
سابعًا: حق التأمين عند العجز والشيخوخة والفقر
لأنهم من رعاياها،ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ " (البخاري: كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن (844)، مسلم: كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق (3408)). فقد كان من واجب الدولة الإسلاميَّة أن تهتم بالأقلِّيَّات التي على أرضها، وتكفل لهم معيشة كريمة ملائمة لهم ولمن يعولونهم، وإنه من الطبيعي أن الإنسان - أي إنسان - حين يهرم أو يعجز أو يكون فقيرًا، فإنه يكون في أشدِّ الحاجة إلى الرعاية والعناية والكفالة الاجتماعية من مجتمعه الذي يعيش فيه، وفي ذلك فإن الإسلام قد ضرب أروع الأمثلة تجاه رعيته عامَّة، والتي كان من بينها الأقلِّيَّات التي تعيش على أرضه ولا تَدِينُ بشريعته!!
وهذا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب أروع الأمثال في توفير الرعاية الاجتماعيَّة لأحد المحتاجين من أقلِّيَّات الدولة الإسلاميَّة من غير المسلمين، فقد روى القاضي أبو يوسف في كتابه "الخراج" قال: "وحدثني عمر بن نافع، عن أبي بكر، قال: مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر. فضرب عضده من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن. فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله، فرضخ له بشيء ممَّا في المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا وضُرَبَاءَه، فوالله ما أنصفناه إذ أخذنا منه الجزية شابًّا ثم نخذله عند الهرم، " إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ "، والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه " البلاذري: فتوح البلدان 1/ 153، د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.
وتعليقًا على ذلك يقول الدكتور القرضاوي: وبهذا تقرَّر الضمان الاجتماعي في الإسلام، باعتباره "مبدأً عامًّا" يشمل أبناء المجتمع جميعًا، مسلمين وغير مسلمين، ولا يجوز أن يبقى في المجتمع المسلم إنسان محروم من الطعام أو الكسوة أو المأوى أو العلاج، فإنَّ دفع الضرر عنه واجب ديني، مسلمًا كان أو ذميًّا" (د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ).
ثامنًا: حق الحماية من الاعتداء الخارجي
حق الحماية من الاعتداء الخارجي مكفول مِن قِبَلِ الدولة الإسلاميَّة بما تملكه من سلطة شرعيَّة وقوَّة عسكريَّة لكل مواطنيها، وبخصوص الأقلِّيَّات غير المسلمة فإن ذلك الحقَّ واجب شرعي لهم، حتى ولو كَلَّف ذلك المسلمين أنفسهم وأرواحهم!! فقد نقل الإمام القرافي المالكي في كتابه "الفروق" قول الإمام الظاهري ابن حزم في كتابه "مراتب الإجماع": "إن مَن كان في الذِّمَّة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نَخْرُجَ لقتالهم بالكُرَاعِ (السلاح، وقيل: هو اسم يجمع الخيل والسلاح، ابن منظور: لسان العرب، مادة (كرع) ) والسلاح، ونموت دون ذلك؛ صونًا لمن هو في ذمَّة الله تعالى وذمَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فإن تسليمه دون ذلك إهمالٌ لعقد الذِّمَّة". وحكى في ذلك إجماع الأمة (د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) .
وقد كان من المواقف الناصعة في ذلك عبر تاريخ المسلمين ما كان من شيخ الإسلام ابن تيمية، حينما تغلَّب التتار على الشام، وذهب الشيخ ليُكلِّم "قطلوشاه" - نائب قازان خان التتار على الجيش - في إطلاق الأسرى، فسمح القائد التتري للشيخ بإطلاق أسرى المسلمين، وأبى أن يسمح له بإطلاق أهل الذِّمَّة، فما كان من شيخ الإسلام إلا أن قال: لا نرضى إلا بافتكاك جميع الأسارى من اليهود والنصارى، فهم أهل ذمَّتنا، ولا ندع أسيرًا لا من أهل الذِّمَّة ولا من أهل الملَّة، فلما رأى إصراره وتشدُّده أطلقهم له (د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) !.
تلك هي حقوق الأقلِّيَّات غير المسلمة في المجتمع الإسلامي أو في الدولة الإسلاميَّة، إلا أنه بقيت هناك قضيتان مهمَّتان تتعلَّق أيضًا بهذه الأقلِّيَّات، وهما قضية الجزية وقضية الولاية العامة *
*سيكون لكل منها مقال مستقل بإذن الله
عن موقع قصة الإسلام
يتبع
القسم الأول
إن السيرة النبوية تعتبر من أجلِّ العلوم وأفضلها بالنسبة للمسلم؛ فهي تدرس سيرة رجل هو أعظم رجل خلقه الله تعالى ، فقد وصفه رب العزة بقوله: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: 4]. وإذا كانت دراسة السيرة مهمة في زمن من الأزمان فهي في زماننا أهم؛ لأن واقع الأمة الآن متأخر في كل المجالات؛ تأخر عسكري واقتصادي واجتماعي وأخلاقي.
ولا ريب أن الأمل معقود في الله سبحانه وتعالى لإعادة البناء، بَيْدَ أن النهوض يحتاج إلى أمرين مهمين: يقين بضرورة بناء الأمة من جديد، ودور عملي لكل منا؛ فاليقين أن نوقن في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد بشَّر الصحابة في غزوة الخندق بفتوح الشام وفارس واليمن وغيرها، وألاَّ نعتمد اعتمادًا كُليًّا على الحسابات المادية، رغم أهميتها، فالأحزاب قد اعتمدوا على الجانب المادي لكنهم لم ينجحوا، وأن يكون لنا دور لإعادة إعمار الكون، قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 110].
عشنا طويلاً في ظل مجموعة من الأيديولوجيات والأفكار المختلفة التي تحكم المجتمع والدولة، وكلها باءت بالفشل مثل الاشتراكية والرأسمالية وغيرها، ندور حول هذه الأفكار متناسين سيرة نبينا وأصوليتنا الدينية التي أدارت المجتمعات الإسلامية القديمة بخلافاتها ودولها، ومع هذا فإننا لا ننادي باستقصاء كل وقعة وفعلة وحدث في السيرة؛ فهذا ضرب من المستحيل لكننا ننادي بدراسة الأحداث العظيمة والجليلة في هذه السيرة؛ فهي مما يتكرر يومًا بعد يوم، ندرس غزوة أُحد وبدر والخندق؛ لأن واقعنا قد وجد حدثًا مشابهًا وهو حرب أكتوبر 1973م، وهو - لا شك - من الأحداث التي يتم تحليلها منذ وقعت وحتى وقتنا الراهن.
ويجب أن ندرس السيرة النبوية من جوانب عدة، وقواعد معلومة ؛ ليتسنى لنا حصد ثمارها، والعمل بما فيها:
(1) أن نفهم أن السيرة من المواقف التشريعية التي تدخل في إطار السنة؛ فالعلماء لهم دور كبير في استنباط الأحكام منها.
(2) ندرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخطو خطوة إلا بوحي من الله أو تعديل من الوحي.
(3) أن نتعلم كيف نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل موقف من مواقف حياته صلى الله عليه وسلم.
(4) أن نتعلم الحكمة في اختياره للآراء، وفي اختياره للأفعال في أثناء السيرة النبوية من أوَّلها إلى آخرها.
وسيتركز جُلّ اهتمامنا على استنباط القواعد المهمة في بناء الأمة الإسلامية، ونهتم بالأحداث التي تشبه واقعنا المعاصر، ولا يكون اهتمامنا منصبًّا على الأحداث الشائقة، وإنما على ما يفيد واقعنا المعاصر.
في البداية يجب علينا تحديد بعض المصطلحات المهمَّة قبل البدء في تحديد الحقوق التي تتمتَّع بها الأقلِّيات غير المسلمة داخل الدولة الإسلاميَّة، ومن هذه المصطلحات مصطلح دولة؛ والتي وردت لها عدَّة تعريفات ومن هذه التعريفات أنها مجموعة من الأفراد يقطنون إقليمًا معيَّنًا، ويخضعون لسلطان الأغلبيَّة أو سلطان طائفة منهم.والغاية من هذه الدولة هي إقامة حكم الله في الأرض، وحمل الناس على طاعة الله والعمل بكتابه وسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، وحفظ الدين الإسلامي وتنفيذ أحكامه، وصونه من التحريف والتبديل والتعطيل، وقمع الفتن وإماتة البدع وإحياء السُّنَنِ، ودرء المفاسد، وجلب المصالح، بما يُحَقِّق صلاح أمور الناس، وتدبير أمور الدنيا وفقًا للتعاليم الدينيَّة، وقد أجمل ذلك كله الماوردي في عبارته: "حراسة الدين, وسياسة الدنيا به" (الماوردي: الأحكام السلطانية) .
أما مصطلح أهل الذمَّة فقد أُطلق على مواطني الدولة الإسلاميَّة من غير المسلمين، وبخاصَّة اليهود والنصارى الذين كان لهم عهد مع المسلمين، والذمَّة في اللغة تعني: العهد والضمان والأمان؛ لكونهم به صاروا في ذمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ذمَّة المسلمين، أي في عهدهم وأمانهم؛ ليعيشوا في حماية الإسلام وفي كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنِّين، فهم في أمان المسلمين وضمانهم، ثمَّ اتَّسع هذا المعنى الاصطلاحي ليشمل أهل الكتاب كافَّة - أي أصحاب التوراة والإنجيل من النصارى واليهود، ومَن لا كتاب لهم مثل المجوس - مقابل التزامهم بواجباتهم تجاه مجتمع المسلمين.
ومما ينبغي الإشارة إليه هنا أن عبارة أهل الذمَّة ليست عبارة تنقيص أو ذمٍّ, بل هي عبارة توحي بوجوب الرعاية والوفاء تديُّنًا وامتثالاً للشرع, وإن كان بعضهم يتأذَّى منها فيمكن تغييره؛ لأن الله لم يتعبَّدنا به، وقد غيَّر سيدنا عمر رضي الله عنه لفظ الجزية الذي ورد في القرآن استجابة لعرب بني تغلب من النصارى الذين أَنِفُوا من الاسم، وطلبوا أن يُؤْخَذَ منهم ما يُؤْخَذُ باسم الصدقة (أبو بكر بن أبي شيبة: مصنف ابن أبي شيبة، 3/88، الطبري: تاريخ الطبري، 3/158، د. عصام أحمد البشير: معالم حول أوضاع غير المسلمين في الدولة الإسلامية، موقع الإسلام اليوم ).
القانون الإسلامي العام تجاه الأقليات:
من عظمة التشريع الإسلامي أنه شمل برعايته كلَّ مَن يعيش في ظلاله، فوَجَدَت الأقلِّيَّة غير المسلمة في المجتمع المسلم أو في الدولة الإسلاميَّة ما لم تجده أقلِّيَّة أخرى في أي قانون وفي أي بلد آخر من حقوق وامتيازات؛ وذلك لأن العَلاقة بين المجتمع المسلم والأقلِّية غير المسلمة تحكمها القاعدة الربانيَّة: " لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون " (سورة الممتحنة: 8، 9).
فهاتان الآيتان حدَّدتا الأساس الأخلاقي والقانوني الذي يجب أن يُعامِل به المسلمون غيرهم، وهو البرُّ والقسط لمن لم يناصبهم العداء، وكل النوازل والمستجدات ينبغي ردُّها إلى ذلك الأساس، وما كان للعَلاقة بين المسلمين وغيرهم أن تخرج عن الإطار العامِّ والهدف الأسمى الذي من أجله أنزل الله الكتب وأرسل الرسل، وهو قيام الناس بالقسط، لذلك يقول عامَّة المفسِّرين عن الآية الأولى: وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين وجواز بِرِّهم، وإن كانت الموالاة منقطعة منهم. وقال القرطبي: هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم.
وإذا كان جُلُّ المفسِّرين على أن المقصود بـ "القسط" في الآية السابقة هو العدل، وإذا كان العدل في حدِّ ذاته واجبًا على المسلم تجاه الجميع أعداءً كانوا أو أصدقاء، لقوله تعالى: " وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى ألا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى " (سورة المائدة: 8). فإن القسط هنا قد أَخَذ اعتبارًا آخر وهو الإحسان بالمال؛ فقال ابن العربي: " وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ": أي تعطوهم قسطًا من أموالكم على وجه الصلة، وليس يريد به العدل؛ فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يُقاتل.
هذه هي نظرة الإسلام لغير المسلم، نظرة فريدة يتمتَّع فيها غير المسلم بحقوق وامتيازات تتَّضح في النقاط التالية :
حقوق الأقليات في الدولة الإسلامية:
القاعدة الأولى في معاملة الأقلِّيَّات في الدولة الإسلاميَّة هي أن لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، وذلك غير أمور محدَّدة مستثناة...
أولاً: حقُّ حرِّيَّة الاعتقاد
لم تكن الشريعة الإسلامية هي التي تأمر بإكراه الناس حتى يكونوا مؤمنين، فقضية العقيدة في الإسلام هي قضية اقتناع بحت بَعْدَ طول تروٍّ وبحث ونظر، وقد أعلن الإسلام المبدأ العظيم في ذلك في قوله تعالى: " لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ "(البقرة: 256) , وقوله تعالى: " أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ " (يونس: 99) .
يقول ابن كثير في تفسير الآية الأولى : أي لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكْرَهَ أحدٌ على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونَوَّر بصيرته دخل فيه على بيِّنة، ومَن أعمى الله قلبه, وختم على سمعه وبصره فإنه لا يُفيده الدخول في الدين مكرها مقسورًا (تفسير القرآن العظيم، 1/682).
ومن أبرز ما يمكن أن نتلمَّسه في التدليل على ذلك ما كان من كفالة الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود الحرِّيَّة في البقاء على دينهم، وقد تبعه على ذلك الخلفاء الراشدون من بعده، ومن ذلك ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أهل إيلياء (القدس)، حيث وقَّع معهم صلحًا نصَّ فيه على حرِّيَّتهم الدينيَّة، وحُرْمَة معابدهم وشعائرهم، ومما جاء فيه: "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملَّتها، لا تُسْكَن كنائسهم، ولا تُهدم ولا يُنتَقَص منها، ولا من حيِّزها، ولا مِن صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضارُّ أحد منهم..."( تاريخ الطبري 3/ 105).
ثانيًا: حق حماية النفس
كما حرص الإسلام على حياة بنيه المسلمين وعصمة دمائهم، فقد حرص كذلك على حياة غير المسلمين وعصمة دمائهم، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا " (البخاري: كتاب الجزية، باب إثم من قتل معاهدًا بغير جرم (2930)، النسائي (4666)). فدماؤهم وأنفسهم معصومة - كما يقول الدكتور القرضاوي - باتِّفاق علماء المسلمين، وقتلهم حرام بالإجماع، ولهذا أجمع فقهاء الإسلام على أنَّ قتل الذمِّيِّ كبيرة من كبائر المحرَّمات لهذا الوعيد الذي جاء في الحديث..
وبهذا النهج اقتدى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعدهم، فهذا هو عليٌّ رضي الله عنه وقد أُتِيَ برجل من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمَّة، فقامت عليه البيِّنة، فأمر بقتله، فجاء أخوه، فقال: إني قد عفوت، قال: فلعلَّهم هدَّدوك وفرقوك. قال: لا، ولكنَّ قَتْلَه لا يردُّ علَيَّ أخي، وعوَّضوا لي ورضيتُ. قال: أنت أعلم؛ مَن كانت له ذمَّتنا فدمه كدمنا، ودِيَتُه كدِيَتِنَا، وفي رواية أخرى: "إنما بذلوا الجزية لتكونَ دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا"، وبمثل ذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أمرائه في مسلم قَتَل ذمِّيًّا، فأمره أن يدفعه إلى وَلِيِّه، فإن شاء قَتَلَه، وإن شاء عَفَا عنه، فدُفِعَ إليه فضرب عنقه (عبد الرزاق بن همام: مصنف عبد الرزاق 10/ 101، 102) .
يقول الدكتور القرضاويفي كتابه (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ): وكما حمى الإسلام أنفسهم - أهل الذِّمَّة - من القتل حمى أبدانهم من الضرب والتعذيب، فلا يجوز إلحاق الأذى بأجسامهم، ولو تأخَّروا أو امتنعوا عن أداء الواجبات الماليَّة المقرَّرة عليهم كالجزية والخَرَاج، هذا مع أن الإسلام تشدَّد كل التشدُّد مع المسلمين إذا منعوا الزكاة[4].
بل إن من الطريف في ذلك أن الخوارج الذين استباحوا دماء المسلمين وأوغلوا فيها توقَّفوا عن قتل أهل الذِّمَّة خشية نَقْضِ عهدهم، يقول ابن حجر: "الخوارج لما حَكَمُوا بكفر مَن خالفهم استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذِّمَّة فقالوا: نَفِي لهم بعهدهم" (فتح الباري 19/ 389)
ثالثًا: حق الكرامة
الناس كل الناس في نظر الشريعة الإسلاميَّة هم أبناء هذه العائلة الإنسانيَّة التي كرَّمها الله بغضِّ النظر عن الدِّينِ أو اللون أو الجنس، يقول تعالى: " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً "( الإسراء ـ 70 ).
وإذا كان اختلاف الناس آية من آيات الله كما قال تعالى : " وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ " (الروم: 22)، فإن هذا الاختلاف لا يجوز - كما يقول المُزَيْنِيُّ - أن يكون سببًا في التنافُر والعداوة، بل إنه يجب أن يكون سببًا للتعارُف والتلاقي على الخير والمصلحة المشتركة؛ فالله تعالى يقول:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ " (الحجرات: 13).
وانطلاقًا من هذه المكانة العالية التي خصَّ الله تعالى بها البشر كان لا بُدَّ إذًا من مراعاة الكرامة الإنسانيَّة للإنسان، مسلمًا كان أمْ غيرَ مسلمٍ، ولا أخال أنَّ دِينًا يُوازي الإسلام في حفظ كرامة الإنسان، حتَّى الذي من غير أهله، فهو يُؤَكِّد على أنَّ أصل البشر واحدٌ، وأنهم متساوون في الإنسانية والحقوق، وميزان التفاضُل الذي وضعه القرآن الكريم إنما هو ما يُقَدِّمه هذا الإنسان من خيرٍ للإنسانيَّة كلِّها، وذلك مع الإيمان الحقِّ بالله تعالى؛ قال تعالى: " إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير " (الحجرات: 13).
وقد أكَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ في خطبته في حجة الوداع في العام العاشر من هجرته، حيث قال: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ ؟" (إبراهيم بن محمد الحمد المزيني: التعامُل مع الآخر شواهد تاريخية من الحضارة الإسلاميَّة، والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده, وصححه الألباني) .
ومن صور المحافظة على كرامة غير المسلمين - كما يقول المزيني - حقُّهم في مراعاة مشاعرهم حال المجادلة، ومجادلتهم بالحسنى، قال تعالى: " وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ " (العنكبوت: 46).
وقد بلغ من تكريم المولى تبارك وتعالى للإنسان أنَّه نهى المسلمين أن ينالوا من الآلهة التي يعبدها المشركون بالسبِّ، حتَّى لا يؤدِّيَ ذلك بهم إلى النيل من الله الإله الحقِّ، وفي ذلك تكريم للإنسان؛ فاحترام شعوره نحو الأشياء التي يقدِّسها احترامًا لكرامته؛ قال تعالى: " وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " (الأنعام: 108) ، وفي ذلك يقول الإمام القرطبي في تفسيره عن أهل الذمَّة: "فلا يحلُّ لمسلم أن يسبَّ صلبانهم، ولا دينهم، ولا كنائسهم، ولا يتعرَّض إلى ما يؤدِّي إلى ذلك؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية " 7/ 61 .
وحذَّر أيضًا الرسول صلى الله عليه وسلم من ظُلم أهل الذِّمَّة وانتقاص حقوقهم، وجعل نفسه الشريفة خصمًا للمعتدي عليهم، فقال: " مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (أبو داود: كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات (2654)، البيهقي: السنن الكبرى، 9/205 ) ، وكان ذلك واقعًا عمليًّا في عهده صلى الله عليه وسلم لأهل نجران - كما سيأتي - أنه: " لا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ رَجُلٌ بِظُلْمِ آخَرَ "(البلاذري: فتوح البلدان، 1/78، ابن كثير: البداية والنهاية، 5/66 ) .
ولهذا كله اشتدَّت عناية المسلمين منذ عهد الخلفاء الراشدين، بدفع الظلم عن أهل الذِّمَّة، وكفِّ الأذى عنهم، والتحقيق في كل شكوى تأتي من قِبَلِهم، فكان عمر رضي الله عنه يسأل الوافدِينَ عليه من الأقاليم عن حال أهل الذِّمَّة، خشية أن يكون أحد من المسلمين قد أفضى إليهم بأذًى، فيقولون له: ما نعلم إلا وفاءً (تاريخ الطبري، 3/184) ، أي بمقتضى العهد والعقد الذي بينهم وبين المسلمين، وهذا يقتضي أن كُلاًّ من الطرفين وفَّى بما عليه، وهذا أيضًا عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا" (البيهقي: السنن الكبرى، 8/34، ابن قدامة: الشرح الكبير، 10/630 ) .
ولعلَّ أشهر الأمثلة في مراعاة كرامة الأقلِّيَّات غير المسلمة قصَّة الْقِبْطِيِّ مع عمرو بن العاص رضي الله عنه والي مصر؛ حيث ضرب ابنُ عمرٍو ابنَ القِبْطِيِّ بالسوط، وقال له: أنا ابن الأكرمين. فما كان من القبطي إلا أن ذهب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المدينة وشكا إليه، فاستدعى الخليفة عمرًا وابنَه، وأعطى السوطَ لابن القبطي، وقال له: اضرب ابن الأكرمين. فلما انتهى من ضربه التفت إليه عمر، وقال له: أَدِرْها على صلعة عمرو، فإنما ضربك بسلطانه. فقال القبطي: إنما ضربتُ مَن ضربني. ثم التفت عمر إلى عمرو، وقال كلمته الشهيرة: "يَا عَمْرُو، مَتَّى اسْتَعْبَدْتُمُ النَّاسَ وَقَدْ وَلَدَتْهُمْ أُمَّهَاتُهُمْ أَحْرَارًا ؟!" (ابن الجوزي: تاريخ عمر، ص129،130، ابن الحكم: فتوح مصر، 195 ).
وممَّا يستحقُّ التسجيل في هذه القصَّة: أنَّ الناس قد شعروا بكرامتهم وإنسانيَّتهم في ظلِّ الإسلام، حتَّى إنَّ لطمة يُلطَمها أحدهم بغير حقٍّ، يستنكرها ويستقبحها، وقد كانت تقع آلاف مثل هذه الحادثة وما هو أكبر منها في عهد الرومان وغيرهم، فلا يُحَرِّك بها أحدٌ رأسًا، ولكنَّ شعور الفرد بحقِّه وكرامته في كَنَفِ الدولة الإسلاميَّة جعل المظلوم يركب المشاق، ويتجشَّم وَعْثَاءَ السفر الطويل من مصر إلى المدينة المنوَّرة، واثقًا بأن حقَّه لن يضيع، وأن شَكَاتَه ستجد أذنًا صاغية.
رابعًا: حق حماية الأموال
كما أن أموال المسلمين معصومة فكذلك أموال الأقلِّيَّات غير المسلمة معصومة؛ إذ يحرم أخذها أو الاستيلاء عليها بغير وجه حقٍّ، وذلك كأَنْ تُسْرَق أو تُغْصَب أو تُتْلَف، أو غير ذلك مما يقع تحت باب الظلم، وقد جاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران: " ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمَّة محمَّد النبي رسول الله على أموالهم وملَّتهم وبِيَعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير..." (البلاذري: فتوح البلدان، 1/77، ابن سعد: الطبقات الكبرى، 1/258، 288) . وفي عهد عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما أن: " امنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم، وأكل أموالهم إلا بحِلِّهَا " (د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ).
وبلغ من رعاية الإسلام لحرمة أموالهم وممتلكاتهم أنه يحترم ما يَعُدُّونه -حسب دينهم - مالاً، وإن لم يكن مالاً في نظر المسلمين، فالخمر والخنزير لا يُعتبران عند المسلمين مالاً مُتَقَوَّمًا، ومَن أَتْلَفَ لمسلم خمرًا أو خنزيرًا لا غرامة عليه ولا تأديب، بل هو مثاب مأجور على ذلك، لأنه يُغَيِّر منكرًا في دينه، يجب عليه تغييره أو يُستحب حسب استطاعته، ولا يجوز للمسلم أن يمتلك هذين الشيئين لا لنفسه ولا ليبيعها للغير، أما الخمر والخنزير إذا ملكهما غير المسلم، فَهُمَا مالان عنده، بل من أنفس الأموال، كما قال فقهاء الحنفيَّة، فمن أتلفهما على الذِّمِّيِّ غُرِّمَ قيمتهما (د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ) .
خامسًا: حق حماية الأعراض
كما اهتمَّ الإسلام بحفظ الدِّين والنفس والمال، وفي سبيل حفظ بقيَّة الحقوق الأساسيَّة للإنسان باعتبارها حُرُمات معصومة، فإن الإسلام وكما يحمي عِرض المسلم فكذلك يحمي عِرض غير المسلم، فلا يتعرَّض للأقلِّيَّات غير المسلمة بما يؤذيها في النفس، أو في الأهل، أو في العمل، أو في غير ذلك مما يعدُّ انتهاكًا للأعراض، وعليه فلا يجوز في حقِّهم السبُّ، أو الغيبة، أو الاتهام بالكذب، أو التشنيع بالباطل، أو ذكر أحد منهم بما يكره في نفسه أو نسبه أو خَلْقِه أو خُلُقه، أو غير ذلك ممَّا يتعلَّق به.
وهذا ما لم يهتمَّ به تشريع سماوي ولا أرضي بحقِّ أية أقلِّيَّات في أي زمان أو مكان غيرُ الإسلام، يقول الفقيه الأصولي المالكي شهاب الدين القرافي: "إن عقد الذِّمَّة يُوجب لهم حقوقًا علينا؛ لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا (حمايتنا) وذمَّتِنَا وذمَّة الله تعالى، وذمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذمَّة دِين الإسلام، فمن اعتدى عليهم - ولو بكلمة سوء أو غيبة - فقد ضيَّع ذمَّة الله وذمَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمَّة دِين الإسلام.
سادسًا: حق حرية العمل والكسب
حثَّ الإسلام على العمل ورغَّب فيه، وبيَّن رسوله الكريم أن الأنبياء قبله - ثم هو معهم - كانوا يأكلون من كسب أيديهم، والأقلِّيَّاتُ في الدولة الإسلاميَّة باعتبارهم من رعاياها منحهم التشريع الإسلاميُّ حقَّ العمل والتكسُّب المشروع وتكوين الثروة، ولم يُحَدِّد ملكيَّتهم، ولم يمنعهم من مزاولة أي الأعمال شاءوا من ألوان النشاط الاقتصادي، شأنهم في ذلك شأن المسلمين.
يقول الدكتور القرضاوي: قرَّر الفقهاء أن أهل الذِّمَّة في البيوع والتجارات وسائر العقود والمعاملات الماليَّة كالمسلمين، ولم يَسْتَثْنُوا من ذلك إلا عقد الربا؛ فإنه محرَّم عليهم كالمسلمين، وقد رُوِي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس هجر: " إِمَّا أَنْ تَذَرُوا الرِّبَا أَوْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ". قال: كما يُمْنَع أهل الذِّمَّة من بيع الخمور والخنازير في أمصار المسلمين، وفتح الحانات فيها لشُرب الخمر وتسهيل تداولها أو إدخالها إلى أمصار المسلمين على وجه الشهرة والظهور؛ ولو كان ذلك لاستمتاعهم الخاصِّ؛ سدًّا لذريعة الفساد وإغلاقًا لباب الفتنة، وفيما عدا هذه الأمور المحدودة، يتمتَّع الذمِّيُّون بتمام حرِّيَّتهم، في مباشرة التجارات والصناعات والحِرَف المختلفة د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ).
ويشهد بذلك "آدم ميتز" أستاذ اللغات الشرقية بجامعة "بازل" بسويسرا حين يقول: "ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذِّمَّة أي باب من أبواب الأعمال، وكانت قدمهم راسخة في الصنائع التي تدر الأرباح الوافرة، فكانوا صيارفة وتجارًا وأصحاب ضياع وأطباء، بل إن أهل الذِّمَّة نظموا أنفسهم، بحيث كان معظم الصيارفة الجهابذة في الشام مثلاً يهودًا، على حين كان أكثر الأطباء والكتبة نصارى، وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة، وكان رؤساء اليهود وجهابذتهم عنده" آدم ميتز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة الأستاذ محمد عبدالهادي أبو ريدة، 1/ 86، نقلاً عن: د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ).
سابعًا: حق التأمين عند العجز والشيخوخة والفقر
لأنهم من رعاياها،ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ " (البخاري: كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن (844)، مسلم: كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق (3408)). فقد كان من واجب الدولة الإسلاميَّة أن تهتم بالأقلِّيَّات التي على أرضها، وتكفل لهم معيشة كريمة ملائمة لهم ولمن يعولونهم، وإنه من الطبيعي أن الإنسان - أي إنسان - حين يهرم أو يعجز أو يكون فقيرًا، فإنه يكون في أشدِّ الحاجة إلى الرعاية والعناية والكفالة الاجتماعية من مجتمعه الذي يعيش فيه، وفي ذلك فإن الإسلام قد ضرب أروع الأمثلة تجاه رعيته عامَّة، والتي كان من بينها الأقلِّيَّات التي تعيش على أرضه ولا تَدِينُ بشريعته!!
وهذا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب أروع الأمثال في توفير الرعاية الاجتماعيَّة لأحد المحتاجين من أقلِّيَّات الدولة الإسلاميَّة من غير المسلمين، فقد روى القاضي أبو يوسف في كتابه "الخراج" قال: "وحدثني عمر بن نافع، عن أبي بكر، قال: مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر. فضرب عضده من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن. فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله، فرضخ له بشيء ممَّا في المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا وضُرَبَاءَه، فوالله ما أنصفناه إذ أخذنا منه الجزية شابًّا ثم نخذله عند الهرم، " إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ "، والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه " البلاذري: فتوح البلدان 1/ 153، د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.
وتعليقًا على ذلك يقول الدكتور القرضاوي: وبهذا تقرَّر الضمان الاجتماعي في الإسلام، باعتباره "مبدأً عامًّا" يشمل أبناء المجتمع جميعًا، مسلمين وغير مسلمين، ولا يجوز أن يبقى في المجتمع المسلم إنسان محروم من الطعام أو الكسوة أو المأوى أو العلاج، فإنَّ دفع الضرر عنه واجب ديني، مسلمًا كان أو ذميًّا" (د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ).
ثامنًا: حق الحماية من الاعتداء الخارجي
حق الحماية من الاعتداء الخارجي مكفول مِن قِبَلِ الدولة الإسلاميَّة بما تملكه من سلطة شرعيَّة وقوَّة عسكريَّة لكل مواطنيها، وبخصوص الأقلِّيَّات غير المسلمة فإن ذلك الحقَّ واجب شرعي لهم، حتى ولو كَلَّف ذلك المسلمين أنفسهم وأرواحهم!! فقد نقل الإمام القرافي المالكي في كتابه "الفروق" قول الإمام الظاهري ابن حزم في كتابه "مراتب الإجماع": "إن مَن كان في الذِّمَّة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نَخْرُجَ لقتالهم بالكُرَاعِ (السلاح، وقيل: هو اسم يجمع الخيل والسلاح، ابن منظور: لسان العرب، مادة (كرع) ) والسلاح، ونموت دون ذلك؛ صونًا لمن هو في ذمَّة الله تعالى وذمَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فإن تسليمه دون ذلك إهمالٌ لعقد الذِّمَّة". وحكى في ذلك إجماع الأمة (د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) .
وقد كان من المواقف الناصعة في ذلك عبر تاريخ المسلمين ما كان من شيخ الإسلام ابن تيمية، حينما تغلَّب التتار على الشام، وذهب الشيخ ليُكلِّم "قطلوشاه" - نائب قازان خان التتار على الجيش - في إطلاق الأسرى، فسمح القائد التتري للشيخ بإطلاق أسرى المسلمين، وأبى أن يسمح له بإطلاق أهل الذِّمَّة، فما كان من شيخ الإسلام إلا أن قال: لا نرضى إلا بافتكاك جميع الأسارى من اليهود والنصارى، فهم أهل ذمَّتنا، ولا ندع أسيرًا لا من أهل الذِّمَّة ولا من أهل الملَّة، فلما رأى إصراره وتشدُّده أطلقهم له (د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) !.
تلك هي حقوق الأقلِّيَّات غير المسلمة في المجتمع الإسلامي أو في الدولة الإسلاميَّة، إلا أنه بقيت هناك قضيتان مهمَّتان تتعلَّق أيضًا بهذه الأقلِّيَّات، وهما قضية الجزية وقضية الولاية العامة *
*سيكون لكل منها مقال مستقل بإذن الله
عن موقع قصة الإسلام
يتبع