الحسن الثاني :.:حياة اسطورة عالمية طبعت صفحات التاريخ لتبقى خالدة

zahia kidima

عضو
إنضم
30 سبتمبر 2009
المشاركات
44
التفاعل
0 0 0
كيف يقرأ المغاربة سيرة ملكهم الطويلة في الحكم؟ لا توجد قراءة واحدة لسيرة حاكم مثير للجدل، ولا يوجد كتاب تاريخ واحد يتناول سيرته بشكل علمي وموضوعي خارج الحسابات السياسية ووقائع الصراع التي كانت دائرة على مدار خمسة عقود من قرب الحسن الثاني من مركز الحكم...
لنجرب الاقتراب من «لعبة» سرد ما له وما عليه، لأن تاريخ الحسن جزء مهم من تاريخ المغرب المعاصر، في بلاد مازال الأشخاص يؤثرون في تاريخ شعوبهم... يحسب للملك الراحل أنه حافظ على الإدارة المركزية التي بناها الاستعمار الفرنسي، والتي أنهت نفوذ القبائل والقياد والأعيان، ووضعت نهاية لتقسيم المغرب إلى بلاد السيبة وبلاد المخزن... الذين يعرفون تاريخ المغرب قبل الحماية يقدرون قيمة وجود حكم مركزي في بلاد متعددة القبائل والأعراق واللغات. أصبح المغرب في عهد الحسن الثاني يستطيع، دون مشاكل، تعيين عامل أو وال في الحسيمة رغم أنه ينحدر من دكالة أو الشاوية أو جبالة والعكس صحيح، وهو أمر لم يكن ممكنا على الإطلاق في السابق.
يحسب للملك الراحل بناء جيش محترف لمملكته غير مبني على أسس عرقية أو طائفية أو أسرية، كما وقع في بلاد عربية أخرى (سوريا، العراق...)، كما أنه أبعد الجيش عن السياسة، وجعل سلاحه في خدمة الدولة مرة والعرش أخرى. ولولا الانقلابات التي قادها الجيش في السبعينات ضد الملك، لكان الجيش المغربي اليوم من خيرة الجيوش العربية تدريبا وخبرة، إن لم يكن تسليحا... لقد قُتل خيرة ضباط الجيش في مغامراتهم للبحث عن السلطة تحت تأثير موجة «الضباط الأحرار» في مصر وسوريا والعراق والجزائر والسودان... ورغم أن تأسيس الجيش الملكي كان على حساب جيش التحرير في الخمسينات، ورغم أن بعض قياداته جاءت من الجيش الاستعماري الفرنسي (أوفقير، أمزيان، أحرضان...)، فإن حرب الرمال في 63 ضد المغامرات الجزائرية وحرب الصحراء ضد البوليساريو عملت على غسل جبين هذا الجيش الذي يبدو غارقا اليوم في مشاكل البيروقراطية وفي سيرة بعض جنرالاته الذين ابتعدوا عن «العسكرية» وغرقوا في الفلاحة والصيد والتجارة... و يحسب للحسن الثاني كذلك تشبثه بالتعددية السياسية وبالحفاظ على التوازن في الحقل الحزبي والإيديولوجي... منذ وضع ظهير الحريات سنة 58 على عهد السلطان محمد الخامس ثم دستور 1961 وما تلاه، كان الملك الراحل صاحب اختيارات ليبرالية في مناخ كان فيه جل الساسة والمثقفين في العالم العربي مفتونين بالإيديولوجيا اليسارية وبسحر الحزب الواحد وبفعالية الطبقة البرولتارية. كان علال الفاسي أقرب إلى فكر الحزب المهيمن إن لم يكن الواحد، وكان بنبركة يحلم بحزب القوات الشعبية الذي رفع شعار «لا حزبية بعد اليوم» في سينما كواكب أثناء التأسيس. أما حركة المحجوبي أحرضان فكانت أقرب إلى قبيلة تريد أن تنتقم لنفسها من نفوذ العائلات الفاسية في مغرب الاستقلال... في هذه الأجواء، اختار الحسن الثاني الحفاظ على التعددية التي ولدت في رحم الحركة الوطنية، وكان باستطاعته أن يميل مع اليمين أو اليسار ويشكل حزب الدولة ويحظر باقي الأحزاب. الخيارات الليبرالية للحسن الثاني لا تعني أنها كانت بلا حسابات سياسية، ذلك أن «التعددية» وظفت في الستينات والسبعينات والثمانينات لإضعاف حزب الاستقلال ثم الاتحاد الوطني ثم الاتحاد الاشتراكي، ثم من أجل بلقنة المشهد السياسي... لكن تعددية الأحزاب كانت مضار تطبيقها والتلاعب بها أفضل من أضرار الحزب الواحد... في هذا الفرق يمكن قراءة إيجابيات التعددية على عهد الحسن الثاني وعدم ميله إلى واحدية علال الفاسي أو المهدي بنبركة أو عبد الله إبراهيم... ويموت الحسن الثاني مخلفا وراءه أحزابا تعبر عن جل التيارات السياسية والفكرية والإيديولوجية... لليسار أحزابه، ولليمين أحزابه، وللأمازيغ أحزابهم وللإسلاميين حزبهم، هل يوجد هذا في أي بلد عربي آخر باستثناء لبنان... نعم هناك أحزاب أصلية وأخرى مفبركة.. هناك أحزاب ديمقراطية وهناك أخرى سلطوية... هذه التعددية على علاتها هي التي منعت البلاد، في أحلك ظروفها، من الانزلاق إلى حرب أهلية... حتى الحركات الراديكالية (23 مارس، إلى الأمام، العدل والإحسان...) كلها تقدمت بطلب لتأسيس حزب سياسي... مما يعني أن التعددية المغربية، على نواقصها، شكلت أداة من أدوات إدارة الحقل السياسي سلميا في بلاد غير ديمقراطية

2
التاريخ لا يكتب بالأبيض والأسود.. التاريخ قوس قزح يعكس كل ألوان الطبيعة. البشر ليسوا ملائكة ولا شياطين، ووحده من يقبض على هذه الحقيقة يُفتح له كتاب التاريخ للدرس والعبرة. في حلقة أمس، ذكرت ثلاث نقط هامة تحسب للملك الراحل: بناء إدارة مركزية حفظت وحدة البلاد، بناء جيش وطني وليس عشائريا أو قبليا، ثم التشبث بالتعددية السياسية في مناخ كانت الواحدية السياسية هي القاعدة. في هذه الحلقة نواصل قراءة اختيارات الحسن الثاني الناجحة مع استحضار النسبية التي تتحرك داخلها السياسات والقرارات عموما.
بعد أن نازعته أحزاب المعارضة شرعية الحكم طيلة الستينات والسبعينات مدفوعة بالانتقام منه على حربه ضدها يوم كان وليا للعهد إلى جانب الملك الطيب محمد الخامس، سيسعى الحسن الثاني إلى البحث عن شرعية أخرى في رمال الصحراء الساخنة. لقد اهتدى تفكيره إلى أن تحرير «الثغور» من يد الاستعمار الإسباني أفضل طريق نحو اكتساب شرعية تحرير الأرض المستعمرة، ثم إن أخطار حقيقية بدأت تحوم حول استرجاع الصحراء، خاصة أن الجزائر دخلت على الخط.
كانت المسيرة الخضراء التي حشد لها الحسن الثاني 350 ألفا من شعبه يحملون المصحف تعبيرا دينيا عن الجهاد في سبيل الله، والعلم الوطني تعبيرا عن أواصر المواطنة التي تجمع بينهم، وصور ملكهم تعبيرا عن الولاء للجالس على العرش... كانت المسيرة الخضراء حدثا كبيرا لفت أنظار الرأي العام الداخلي والعالمي، نظرا لطابعه السلمي من جهة، ونظرا إلى أن موجة الاستعمار التقليدي كانت قد انحسرت في السبعينات.
لم تكن هناك ضمانات أكيدة على نجاح المسيرة الخضراء، كانت هناك شكوك في تلبية الشعب لنداء الملك، خاصة وأن اليسار كان ينظر بريبة كبيرة إلى هذه المسيرة. وقد حكى لي المفكر والمؤرخ عبد الله العروي أن عبد الرحمان اليوسفي وفتح الله ولعلو عاتباه كثيرا على تسجيل اسمه ضمن المتطوعين للمشاركة في المسيرة الخضراء. كان اليسار يعتبر المسيرة الخضراء هروبا ملكيا من مواجهة الأزمة الداخلية... ولما نجحت أصبحت مدخلا لإعادة تهدئة الصراع الدائر حول السلطة بين المعارضة والحكم...
نجاح المسيرة الخضراء وخروج الحسن الثاني منها أكثر قوة، شجعه أكثر على تطوير أدائه الدبلوماسي وربط علاقات واسعة في العالم العربي وفي أوربا وأمريكا وآسيا... كان الحسن الثاني يولي للعلاقات الدولية اهتماما كبيرا، يختار سفراءه بنفسه، يتواصل مع كبار قادة العالم، ويحرص على استضافة أكثر القمم، نجح في أن يعطي لبلاده موقعا دبلوماسيا أكبر من إمكانياتها، وكان مدخله إلى ذلك ملف النزاع العربي-الإسرائيلي والحوار بين الإسلام والمسيحية والدفاع عن السلم والتعاون بين الأمم. كانت هذه الموضوعات الثلاثة أهم ما يشغل العالم في فترة حكمه، ولاتزال إلى اليوم، حيث انضافت إليها الحرب على ما يسمى الإرهاب...
كان يخاطب العرب بورقة مشاركته في حرب 73 واستضافته أهم قمم الجامعة العربية، وكان يخاطب المسلمين بورقة رئاسة لجنة القدس وكعضو مؤسس لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وكان يخاطب أمريكا بورقة رعاية اليهود المغاربة وبكونه أحد الحمائم وسط صقور العرب، وكان يخاطب أوربا بورقة القرب الجغرافي ودعوات الحوار المسيحي الإسلامي... كان صوتا مسموعا في الغرب رغم أن سجله في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية كان سيئا وكان يشوش على أدائه الدبلوماسي...
خرج منتصرا في المسيرة الخضراء، لكنه مات وترك نزاع الصحراء مفتوحا.. تفوق في وضع بلاده على خارطة الدبلوماسية العالمية، لكنه لم يبن آلة دبلوماسية في وزارة الخارجية.. لهذا خفت دور المغرب الدبلوماسي مباشرة بعد وفاته
3
لم نتعلم في السياسة كيف نودع الأموات ولا كيف نستقبل الأحياء. لا يخرج الموقف العام عن أحد اتجاهين، إما دموع ونحيب نغسل بهما أخطاء الزعماء ونجعلهم ملائكة فوق البشر، وإما تجريح ونقد يأتي على كل مزاياهم وينزل بهم إلى حضيض الشياطين... ونفس الأمر يتكرر مع الزعماء الجدد... إما «شيعة» أو «خوارج». في الحلقتين الماضيتين وقفت بعجالة على «مزايا» ملك لم يعرف ثلثا المغرب حاكما سواه، وفي هذه الحلقة أكمل تعداد ما أراه «إيجابيا» في حكم الحسن الثاني الذي كان شخصية مركبة تختزن الكثير من مميزات المغربي...
كان الملك الراحل ذا ثقافة عالية تقليدية وعصرية، كان يعرف البلاد التي يحكمها.. يعرف تاريخها وجغرافيتها.. يعرف دينها وأعرافها وتقاليدها.. يعرف قبائلها وزعماءها وصلحاءها، يعرف عائلاتها وتاريخ ثرواتها... لقد عاش حياة مخضرمة على كل المستويات، عاش في زمن الاستعمار وعاش في زمن الاستقلال، عاش في كنف التعليم الديني وعايش التعليم العصري. عاش في بداية القرن العشرين وشهد نهاية ذات القرن حيث تغيرت الكثير من معالمه. خالط النخبة التقليدية الدينية وعاصر النخب العصرية اليسارية والليبرالية والعلمانية. راقب العالم وهو خارج من الحرب العالمية الأولى متوجها إلى حرب عالمية ثانية، ثم إلى حرب باردة، ثم نهاية القطبية الثنائية وسيادة أمريكا على العالم...
لقد سمح له طول عمره النسبي (70 سنة) وطول حكمه الطويل (38 سنة) أن يكون شاهدا على عصر كامل، قريبا من أحداثه العظيمة في أوربا وأمريكا وإفريقيا والعالم العربي. لهذا تمتع الحسن الثاني بميزتين كبيرتين، الأولى قدرته الكبيرة على قراءة التحولات الكبرى في أوقات مبكرة... كان، وهو ولي للعهد، يعرف بحسه البراغماتي، وهو في جزيرة مدغشقر منفي صحبة والده، أن استقلال المغرب سيتم بالسياسة وليس بالبندقية، وكان يعرف أن ورقة اليهود المغاربة ورقة رابحة في دفع اللوبي اليهودي-الأمريكي إلى مناصرة الجالس على عرش المملكة، وكان يعرف أن العرب لن يلقوا باليهود إلى البحر، وأن المفاوضات والتسوية هي أفق الصراع العربي-الإسرائيلي، وكان يتوقع، منذ وقت مبكر، أن ذوبان ثلوج الحرب الباردة سيأخذ معه عددا كبيرا من الأنظمة السياسية التي بقيت جامدة في مكانها، وكان يعترف، منذ أوقات مبكرة، بأن قلوب الصحراويين ليست كلها معه وأنه سيفاوضهم يوما بعد أن قاتلهم...
لم يكن الحسن الثاني، كما يقول المثل الفرنسي، «يلعن المستقبل»، كان يترك دائما الباب نصف مفتوح مع خصومه قبل أصدقائه. قراءته الجيدة للتاريخ كانت تسمح له بـ«التوقع» واستباق الأحداث... لهذا عمل، خلال العشر سنوات الأخيرة من حياته، على تغيير «ناعم» لسياساته.. حاول علاج جرح «الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان» في عهده، وسعى إلى ترميم جسر اللقاء مع المعارضة التي حاربها وسجنها وفاوضها ثم دعاها إلى الحكم إلى جانبه وعدل مرتين دستور ه( 92 و96). حاول استدراك ما فاته وعينُه على عرش ابنه، ولم يمت إلا وقد بسط له سجادا أحمر نحو الحكم، وجعل الأحزاب والجيش والإسلاميين وأقطاب المخزن وأفراد الأسرة العلوية يوقعون على وثيقة البيعة أمام الملك الجديد... و الميزة الثانية التي اكتسبها الحسن الثاني من معرفته الواسعة بتاريخ بلاده، كانت رعايته للتراث المغربي في البناء والمعمار والطبخ واللباس والتعليم والفن بكل ألوانه، كان معتزا بهوية بلاده وتراثها الأندلسي والإفريقي والأمازيغي، وكان يحاول أن يخلق مدارس لهذه «الخصوصية» الحضارية، حتى يضمن استمرارها ومقاومتها أمام مد العولمة العاتي... كان بعثه لمظاهر الثقافة المغربية يبهر الشرق والغرب. ورغم أنه كان يوظف هذه «الميزة» في اتجاه الانغلاق في بعض الأحيان، إلا أنه نجح في تسويق صورة «عراقة» البلاد في الخارج وسط جغرافيا عربية لا يعرف العالم عنها غير كليشيهات البترودولار والصحراء والتخلف العام
4
في السياسة لا يختار المرء بين قرار جيد وقرار سيئ، بل يكون مجبرا على الاختيار بين قرار سيئ وآخر أسوأ. في كل قرار هناك مخاطرة، وفي كل قرار هناك جهة تستفيد وأخرى تتضرر، والزعيم الناجح هو من يجعل المستفيدين من قراراته وسياساته واختياراته أكبر من المتضررين، وهو ما يصطلح عليه بالمصلحة الوطنية.
هل كان الحسن الثاني يعترف بأخطائه؟ نعم، كان يعترف بخطأ واحد وربما بغرض الهروب من الحديث عن أخطاء أخرى، إنها لعبة الشجرة التي تخفي الغابة كما يقول المثل الفرنسي...
كان الحسن الثاني، المعروف بصرامته وقسوته، يردد جوابا واحدا على كل من يسأله عن أخطائه، فيقول: «خطئي أنني أضع ثقتي في أناس لا يستحقونها. وفي كثير من الأحيان لا أعطي لنفسي فرصة تجريبهم... أنا نادم على هذا الخطأ». بدون شك، الحسن الثاني يقصد هنا الجنرال محمد أوفقير الذي خان ثقة الجالس على العرش وحاول مرتين الانقلاب عليه... لكن هناك أشخاص آخرون خدعوا الحسن الثاني الذي كان يطلق يد «رجاله» في السلطة والمال بلا حساب، لم يكن يرغب في تسميتهم حتى لا يعطي الانطباع بأن الكثير من معاونيه خانوا ثقته...
سألت ابن أخ الحسن الثاني الأمير مولاي هشام مرة في استجواب صحافي عن أكبر عيوب الحسن الثاني، فقال لي بعد برهة من التفكير: «عيب الحسن الثاني أنه كان يعرف قيمة الديمقراطية لكنه لم يكن ديمقراطيا».
كيف يعرف المرء قيمة الشيء ثم يفرط فيه؟ إنه حب السلطة الذي يصل إلى الجنون. كان الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو يقول: «السلطة مفسدة.. والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة». غريزة حب السلطة والتفرد بالحكم داخل الحسن الثاني كانت أقوى من أي شيء آخر.. أقوى من عواطفه الشخصية، حيث إنه كان يعاقب أقرب الناس إليه إذا أحس أن أحدا اقترب من «حديقته الخلفية».. لقد عاقب أخاه الأمير مولاي عبد الله وابنه ووريث سره، الأمير سيدي محمد، وبناته وأبناء أخيه...
أخرج عبد الله إبراهيم في الحكومة يوم كان وليا للعهد، وقزم نفوذ زعيم كبير مثل علال الفاسي وأهانه في أكثر من مناسبة، وحارب المهدي بنبركة بلا حدود تراعي دوره ودور الآخرين في النضال من أجل الاستقلال وبناء الدولة، وسجن عبد الرحيم بوعبيد رغم أنه كان الأقرب إلى قلبه وعقله من الآخرين، شل حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ودجن الاتحاد المغربي للشغل، وضيق الخناق على الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وسجن زعيم العمال نوبير الأموي.. وبالغ في قمع اليسار الراديكالي وهو يعرف أنه لم يكن أكثر من تجمعات صغيرة لشباب حالم لم يكونوا يشكلون خطرا كبيرا على عرشه...
حارب في كل اتجاه دفاعا عن «سلطويته»، حتى مستشاريه الأقرب إليه عانوا من «جنون العظمة» داخله. كانت ثقافته وذكاؤه وحنكته السياسية توهمه بأنه «فوق منطق البشر»، لهذا أصبح، بعد مدة من وصوله إلى الحكم، «سجين» عبارة «الله يبارك في عمر سيدي» التي كان بنسودة وعواد والبصري وحسني بنسليمان والجنرال بناني وكريم العمراني والمعطي بوعبيد وآخرون يتقنونها في حضرته... سلطويته لم تعد منحصرة داخل أسوار قصره، بل امتدت إلى كل البيوت وسط شعبه.. أضحى الناس يخافونه أكثر مما يحبونه، كانوا ينتقدونه همسا خوفا من أن تكون للجدران آذان.
نعم، لم يكن معارضوه كلهم من أتباع غاندي، كان فيهم الثوري والانقلابي واليساري والجمهوري... لكن قمعه فاض على حدود حماية نظام لثوابته. كان تطرفه في القمع وخنق المجتمع يدفع إلى تطرف معارضيه، والذين بدؤوا يلعبون على أكثر الموضوعات حساسية عند ملك لم يكن يسمح لأحد بمعارضته، مثل موقف بنبركة المنحاز للجزائر في حرب الرمال، وموقف السرفاتي المؤيد لانفصال الصحراء، وموقف زعزاع المؤيد للجمهورية... كل قرارات الحسن الثاني كانت توزن بميزان واحد هو سلطة عرشه، سواء في السياسة أو القانون، في الانتخابات أو في الفن، في الإعلام أو في الثقافة، في الاقتصاد أو في الأمن... كل شيء كان يرتب تحت سماء مملكته حتى لا يخرج عن إطار نظام من القرون الوسطى يجري بعثه على يد حاكم شرقي مستبد
5
في السياسة كما في الدين هناك أخطاء تغتفر وخطايا لا تغتفر.. لأن الأخطاء ندفع ثمنها نحن أما الخطايا فيدفع الآخرون ثمنها، وفي كثير من الأحيان بمقادير فادحة.. من بين أكبر خطايا الملك الراحل ثلاث أجدها قاتلة، والدليل على خطورتها أن البلاد مازالت تعاني من تبعاتها إلى اليوم.
أولا: اتساع مساحة الأمية وتقليص مساحة التعليم. كان الراحل يعتبر الاستثمار في التعليم وبرامج محو الأمية ترفا لا لزوم له، بل إن الصراع مع اليسار والإسلاميين جعله يعتقد أن تعليمهم هو سبب تمردهم، لهذا قال للصحافي جون دانييل، الذي سأله عن ارتفاع معدل الأمية في مملكته الشريفة، قال له دون تردد: «كل الذين علمناهم صاروا إما ثوريين أو إسلاميين..». كانت عيون الملك مثبتة، طوال فترة حكمه، على الحفاظ على قارة سلطاته الواسعة، وكان يسعى إلى إدامة هذه السلطة الواسعة ولو كانت على حساب تجهيل شعب بكامله. إنها سياسة الأرض المحروقة، إذا كان الطلبة الجامعيون والمثقفون والأطر سيصبحون معارضين لحكمه، فلماذا يعلمهم أصلا؟
مات رحمه الله وترك 50% من شعبه لا يعرف القراءة والكتابة، و30% آخرين شبه أميين، لأن مرورهم القصير في مدارس المملكة العتيقة لم يمكنهم من المهارات والمعارف التي بها يمحون أمية العصر، أما باقي المتعلمين فإنه ترك جلهم للبطالة تأكل الأمل في نفوسهم. إن عدم الاستثمار في الموارد البشرية كان أكبر خطأ ارتكبه الحسن الثاني في حق بلاد من العالم الثالث تحتاج إلى نور العلم لتخرج من ظلمات الجهل... وبقية القصة معروفة، إلى اليوم لانزال نعيش أكثر فصولها رعبا.
ثانيا: خلف الحسن الثاني وراءه سجلا أسود في مجال حقوق الإنسان.. عناوينه الكبرى تصريحه بأنه مستعد للتضحية بثلثي شعبه ليظل حاكما على الثلث... والاغتيال الغامض على عهده للزعيم المهدي بنبركة، ومعتقل تازمامارت الرهيب الذي دفن فيه البشر وهم أحياء، واعتقال أسرة الانقلابي محمد أوفقير، ورمي أطفاله في سجون الصحراء القاتلة بلا ذنب سوى دماء أوفقير التي تجري في عروقهم، فالسرفاتي أصبح برازيليا بعد سنوات من سجنه، والأموي صار صعلوقا يوزع التهم على الوزراء الأجلاء، وبوعبيد مارقا لأنه رفض الاستفتاء في الصحراء، وعبد السلام ياسين مجنونا لأنه كتب رسالة إلى ولي الأمر، والأمير هشام عاقا لأنه دعا إلى دمقرطة مملكة عمه، وعمر الخطابي متمردا لأنه يحمل تراث عمه... درب مولاي الشريف وأكدز وقلعة مكونة... وغيرها من المعتقلات التي كانت تُمتهن فيها كرامة البشر على عهد أوفقير والدليمي والبصري وبنسليمان والعنيكري... لم تكن خروقات حقوق الإنسان أخطاء أشخاص ولا هفوات مسؤولين، كانت سياسة رسمية اعتمدتها الدولة لترهيب معارضيها وكسر شوكتهم، وبعث الخوف في نفوس المواطنين، وللتحكم في أي دينامية اجتماعية أو حقوقية أو ثقافية يمكن أن تنتج قيم المواطنة والحرية والعقل والإرادة الشعبية... كان القمع يطال اليسار المعتدل والراديكالي على السواء، ويطال الشباب في الجامعات كما العمال في المصانع.. يطال المثقفين والكتاب كما الأئمة والمتدينين... لقد وصل هذا العبث إلى حد محاكمة تلميذ على حلم رآه في المنام وحكى وقائعه لأستاذه الذي بلغ عنه بدعوى أنه حلم بالإطاحة بالملك؟ خرق حقوق الإنسان لم ينتج عشرات الآلاف من الضحايا فحسب، بل أنتج بنية اجتماعية مشوهة، تبتعد عن السياسة بدعوى الخوف، وتتوسل إلى «المخزن» بدعوى امتلاكه لأدوات القمع... وإلى اليوم مازال التوجس في نفوس المواطنين، ومازال تراث خرق حقوق الإنسان في سلوك موظفي الدولة كبارا وصغارا.
ثالثا: إذا كانت السياسة هي فن إدارة موارد الدولة بما يحقق الكرامة والرفاهية للشعب، فإن الملك الراحل جعل من السياسة فن الحفاظ على السلطة وأداة لتأجيل الإصلاح وربح الوقت. لم يكن الملك الحسن الثاني يهتم بالاقتصاد قدر اهتمامه بالسياسة، لهذا مات وشعبه فقير وبلاده «مديونة» والمغرب بلا طبقة وسطى، بل بهرم كبير يجلس فوقه أغنياء جلهم جاء بهم اقتصاد الريع، وقاعدة عريضة ينام فيها الفقراء وهم يحلمون بلقاء مع مخلصهم الملك ليطلبوا «كريمة» أو «بيت» أو منصب شغل... الطبقة الوسطى هي مفتاح التقدم والديمقراطية والحداثة.. هذه الطبقة لم يسمح لها بالولادة في المغرب مخافة انحيازها إلى المعارضة أو إلى مشاريع أخرى تنشد الديمقراطية التي لم يكن يؤمن الملك سوى بأنها حسنية.. أي ديمقراطية على مقاس الحسن الثاني، ودليله خصوصية دينية تم بعثها لتطرد ديمقراطية الغرب المسيحي، وتلك قصة أخرى نعرضها في الحلقة المقبلة
6
السياسة هي فن إدارة الموارد البشرية والجغرافية والتاريخية والمادية والثقافية من أجل تحقيق أفضل عيش كريم فوق أرض لها حدود وشعب ونظام سياسي، ومن أجل المساهمة الفعالة في حضارة البشرية، والسلطة أداة من أدوات هذه السياسة. وحتى تكون هذه السلطة شرعية وجب أن تحظى بقبول المواطنين الذين يعيشون تحت كنفها...
هذا المدخل كان هو أكبر مشكل يواجهه نظام الحسن الثاني: شرعية الحكم. كان يعتبر أن وراثة العرش كافية لأن تعطي للجالس عليه سلطا بلا حدود. ولما أحس أن الأمر لا يسير على هذا المنوال، طفق ينهل من معين ثان غير وراثة العرش، وهو معين الدين بكل ما يحمله هذا المصدر من رمزية وقداسة في نفوس المسلمين. راح الحسن الثاني، في وقت مبكر من حكمه، يجرب ارتداء عباءة «أمير المؤمنين» في محاولة لسحب البساط من تحت أرجل اليسار العلماني... أعجبته اللعبة، فتمادى في إرساء نظام شبه «تيوقراطي» أحيى طقوسا أقرب إلى العبودية منها إلى الاحترام الواجب لمن يحكم (الركوع عند البيعة، تقبيل اليد أصبح إلزاميا، التشدد في الزي الرسمي...)، وعمد إلى تهديد المعارضة بإصدار فتوى في حقها عندما اختارت الانسحاب من البرلمان، ووضع نفسه فوق القضاء وفوق الفصل بين السلط لأن الإمامة العظمى مصدر كل السلط. وفي هذا المناخ، تحرك وعاظ السلاطين وفقهاء السلطة، فراحوا يقتطفون آيات قرآنية وأحاديث نبوية تركز الحكم المطلق «لأولي الأمر»، بعد أن يخرجوها من سياقها مثل ذلك الحديث الذي كان يعجب الحسن الثاني كثيرا: «السلطان ظل الله في الأرض»، أو الآية الكريمة التي نزلت في حق النبي (ص) وحوّلها سلاطين الأمويين والعباسيين لصالحهم، والتي تقول: «إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم...».
كيف يمكن للأحزاب والنقابات والإعلام والمواطن أن يتحدث مع ملك يعتبر نفسه ظل الله على الأرض، ويرى في بيعته «بيعة لله»...
لم ينتبه الحسن الثاني إلى أن المبالغة في «اللعب» بالدين يمكن أن تكون لعبة خطرة أو سيفا ذا حدين. تفوق على اليسار بدون شك لأنه حرك موروثا دينيا يعرفه المغاربة منذ قرون في مواجهة إيديولوجيا شيوعية أو اشتراكية عمرها أقل من قرن... لكنه سيشجع التيارات الإسلامية الراديكالية والمعتدلة على أن تلعب اللعبة ذاتها (توظيف القداسة الرمزية في البحث عن السلطة)... لم لا ما دام الملك جرب ونجح... تسربت الكثير من التيارات الدينية المنغلقة، وفي مقدمتها «الوهابية»، التي ستصير عنيفة وراديكالية بعد أزمة الخليج الأولى، وتسربت معها تيارات «جهادية» و«إخوانية» و«صوفية» آتية من الشرق إلى مملكة أمير المؤمنين، خاصة لما ضعفت باقي الإيديولوجيات الأخرى. والنتيجة ما شهده المغرب من انفجارات مساء 16 ماي وما تلى ذلك.
أحس الملك الراحل بأن النار بدأت تقترب من الحطب... فرجع إلى «خطاب الاعتدال» وإلى نقد المنظومة الأصولية وإلى الدعوة إلى الانفتاح، لكن الموجة كانت أكبر منه...
توظيف الملك للدين في البحث عن الشرعية نجح في إعطاء صاحبه سلطة مطلقة، لكنه أضر بثقافة الديمقراطية وقيم المواطنة ومبدأ المحاسبة، وشجع التيارات الدينية الراديكالية على الكفر بالديمقراطية والحداثة ونظام الحكم العصري... الفكر الإسلامي المعاصر متقدم جدا في مصر وتونس والسودان مثلا تجاه الديمقراطية والحداثة عنه .
 
رد: الحسن الثاني :.:حياة اسطورة عالمية طبعت صفحات التاريخ لتبقى خالدة

الله عليييييك موضوع و لا اروع فعلا ملك ممتاز ساند العرب في حرب 1973 تم قرات ان الامية بالرغرب انخفضت الى 29 في المئة تحت حكم الملك محمد السادس الدي طور و بشكل كبير اقتصاد المغرب
 
رد: الحسن الثاني :.:حياة اسطورة عالمية طبعت صفحات التاريخ لتبقى خالدة

موضوع جميل أخي العضو وعلى حسب ما اذكر اني ذهبت الى المغرب ووجدت مسجد كبير في الدار البيضاء يحمل نفس الأسم , وعندي سؤال هل كان الملك محمد الثاني جيد ام !
 
عودة
أعلى