حرب الاستنزاف من وجهة النظر الإسرائيلية "الاستنزاف المضاد"
في أعقاب حرب يونيه 1967، تحالفت وسائل الإعلام الغربية مع الدعاية الإسرائيلية في الإعلان أن هذه الحرب هي آخر الحروب، وأن العرب لن تقوم لهم قائمة قبل عدة عقود زمنية، وأن إسرائيل حصلت على الحدود الآمنة التي كانت تهدف إليها. وعاشت إسرائيل، حكاماً وشعباً وجيشاً، في نشوة نصر عظيم، وتصرف قادتها في حرية كاملة، بتأييد من القوة العظمى الأولى في العالم، وانبهار في دول الغرب وترقب من كل الدول الأخـرى.
وطبقاً للحسابات المادية، فإن إسرائيل كانت مطمئنة إلى استحالة اشتعال موقف عسكري قريب في المنطقة، وقد انعكس ذلك الافتراض على قواتها العسكرية، الذين كانت تصرفاتهم تدل على منتهى الاستهتار والاستهانة بالموقف القتالي على الضـفة الشرقية للقناة. وكانت القيادة الإسرائيلية شديدة الحرص على أن يسود أكبر قدر من الهدوء على الجبهة استثماراً لنصرها وتحقيقاً لأهدافها في فرض الأمر الواقع على الأراضي المحتلة، وتغيير معالمها الديموجرافية طـبقاً لخطة محكمة تهدف في النهاية إلى ضمها لرقعة الدولة اليهودية، وتؤكد من خلالها على استمرار تدمير معنويات العرب وتنمية آثار الصدمة النفسية لديهم وعدم إعطائهم فرصة تنشيط القتال على الجبـهة مرة أخرى. في الوقت نفسه، تعمل إسرائيل على استتباب الأمن الداخلي في الأراضي المحتلة، واحتواء السكان العرب ومنعهم من إظهار أي مقاومة لسلطات الاحتلال.
وفي أعقاب معركة رأس العش، وافقت مصر وإسرائيل على وضع نقاط مراقبة تابعة للأمم المتحدة على جانبي قناة السويس، ووصلت القوات فعلا يوم 11 يوليه 67. وعند تحديد النقاط أصرت إسرائيل على أن يكون خط وقف إطلاق النيران في منتصف المجرى المائي لقناة السويس بينما رفضت مصر ذلك تماما. وفي محاولة لتنفيذ وجهة نظرها بالقوة، أنزلت قوات إسرائيلية بقوارب مطاطـية، إلى القناة في منطقة جنوب القنطرة، وفي مناطق متفرقة من القناة، يوم 14 يوليه 1967، لاختبار رد الفعل المصـري، ومدى قبول المصريين للتصور الإسرائيلي، عند تحديد خط وقف إطلاق النيران.
ولكن القوات المسلحة المصرية أعلنت رفضها هذا المنطق، وفتحت النيران على هذه القوات. ونشبت، يومي 14،15 يوليه 1967، معارك عنيفة بالطيران والمدفعية، وبعدها لم تتكرر أي محاولات إسرائيلية من هذا القبيل في قناة السويس. وساد الجبهة، بعدها، فترة هدوء متقطعة (استمرت قرابة الخمسين يوما)، استغلها الجانبان في تجهيز المسرح على كلا الضفتين، بينما تصاعد خلالها النشاط السياسي، إلى أن كانت المحاولة الثانية لإسرائيل في إعطاء نفسها حق المرور في خليج السويس، حيث ردت القوات المصرية بعنف على الزوارق الإسرائيلية في شمال خليج السويس، في 4 سبتمبر وكبدتها خسائر كبيرة واشتعل الموقف وقتها مرة ثانية.
ومع تصاعد النشاط القتالي المصري على الجبهة، طورت إسرائيل أهدافها في إطار، سياسي عسكري، جديد يتحدد في ثلاث نقاط رئيسية هي:
التشبث بالأرض المحتلة، ومنع المصريين من استعادة أي أجزاء من سيناء.
محاولة إحباط العمليات العسكرية المصرية، بتوجيه أعمال قتال أشد.
التأثير على الشعب المصري في الداخل، ليثور على قيادته السياسية ويسقط النظام من الداخل، أو أن تقوم هذه القيادة بإيقاف حرب الاستنزاف وتهدئة الموقف، الذي يؤدي إلى تحقيق أهداف إسرائيل.
وفي جميع الأحوال فإن إسرائيل حاولت السيطرة على الموقف العسكري على الجبهة حتى لا يحدث صدام يصل إلى الحرب الكاملة، وتتغير معه المواقف في المنطقة والعالم.
والاستنزاف المضاد ـ طبقا للأسلوب العلمي ـ يُعَدّ حالة خاصة من الحروب المحلية المحدودة التي تقتصر على تخطيط وإدارة ردود الأفعال المناسبة لما يوجه إليها من أنشطة قتالية من الخصم بغرض استنزافها، على أن تنحصر تلك الردود داخل سلم تصعيد لا يترك القتال ينطلق إلى آفاق الحرب الكاملة، بل يقصرها داخل هدف، ووسائل صراع، ومدى جغرافي وعدد من الأطراف، ومدة زمنية لا تضر بالوضع القائم، أو تدخل عليه من التغييرات ما يفسده كحق مكتسب يقبله القانون مع تقادم الزمن.
ويطلق المحللون الإسرائيليون، مسـمى "حرب الاستنزاف" على مجموع الأعمال القتالية التي دارت في أعقاب حرب 1967، وحتى إيقاف إطلاق النيران في 8 أغسطس 1970. كما تُسمى بحرب "الألف يوم". وقد وضعت هذه الحرب في إطـار دفاعي بوجه عام، وإن اعتمدت على بعض الأعمال التعرضية التي شابتها التجاوزات في أكثر من موقف، ولم تهدف إسرائيل في إدارتها لهذه الحرب إلى احتلال مزيدا من الأراضي بل هدفت إلى ترسيخ الوضع القائم بكل مكاسبه ومزاياه التي حققتها في حرب 1967.
وينقسم الاستنزاف المضاد من وجه النظر الإسرائيلية، "وطبقا لما ذكره المحللون الإسرائيليون" إلي ثلاثة مراحل رئيسيه، احتوت كل منها على مرحلة زمنية لها خصائصها على المستوى السياسي والعسكري، وأطلقوا على كل مرحلة منها، اسما يتمشى مع الصلف الإسرائيلي، الذي كان سائداً خلال هذه الفترة الزمنية. وسوف توضح هذه المراحل بأسمائها الإسرائيلية، ثم تقييمها طبقاً للحقائق العلمية المجردة، وهذه المراحل هي:
مرحلة الردع، "فيما بين يونيه 1967 ـ وحتى سبتمبر 1968".
مرحلة الترويع، "فيما بين أكتوبر 1968 ـ وحتى ديسمبر 1969".
مرحلة السحق، "فيما بين يناير ـ وحتى أغسطس 1970".
المرحلة الأولى: مرحلة الردع
والاسم العلمي الحقيقي لهذه المرحلة هو "ردود الفعل"، إذ كانت القيادة الإسرائيلية تحاول قدر الإمكان تهدئهَ الموقف، لتحقيق الأهداف السياسية بفرض الأمر الواقع وإقناع دول الغرب بأن الموقف في الشرق الأوسط مستقر، ولا داعي لأي جهود سلمية. وكان تقديرها أن مصر أصبحت جثة هامدة، وخسرت خسائر فادحة بسبب حرب 1967، تقنعها بعدم تكرار المواجهة مع إسرائيل التي تمتلك من الإمكانيات ما يمكنها من ردع أي عمل مصري محدود.
وقد واكبت هذه المرحلة، مرحلة "الصمود" على الجانب المصري. لذلك، فإن محصلة التصعيد، والتهدئة مرت خلال فترات زمنية متباعدة نوعا ما.
وانقسمت هذه المرحلة من وجهة نظر الاستعداد القتالي، وردود الفعل إلي مرحلتين فرعيتَيْن:
المرحلة الفرعية الأولي : من يونيه 1967، وحتى 14 مارس 1968.
وكانت القوات الإسرائيلية خلالها مكشوفة تماماً، وتعتمد على حشد أسلحتها من دون إنشاء تجهيزات هندسية ملائمة لمسرح العمليات. كما كانت الظـاهرة الرئيسية التي تسود القوات على الضفة الشرقية للقناة، هي الغرور، والصلف، وعدم إتباع أي قواعد أخلاقية تتمشى مع التقاليد المصرية. لذلك، كانت القوات الإسرائيلية هدفاً سهلاً لأي اشتباك مفاجئ. وقد اقتصرت هذه المرحلة على اشتباكات متباعدة، ولكنها عنيفة، استخدمت فيها المدفعية كسلاح رئيسي، فضلاً عن المعارك البحرية والجوية. وكانت مصر توجه نيرانها إلى أهداف عسـكرية بغرض تأكيد السيادة، بينما وجهت إسرائيل جميع نيرانها ضد المدنين في التجمعات السكانية، وضد أهداف صناعية في منطقة القناة.
المرحلة الفرعية الثانية : من 15 مارس 1968 ـ وحتى نهاية المرحلة،
وهي التي ركزت إسرائيل خلالها على إنشاء خط بارليف الأول، مستغلة الإمكانيات المحلية المتاحة بقدر الإمكان. وبدأت، بعدها، القوات الإسرائيلية في التحصن داخل دفاعات ثابتة على طول الضفة الشرقية للقناة، بهدف تأمين هذه القوات ضد الاشتباكات المصرية المتصاعدة.
وقد حشدت إسرائيل في هذه المراحل عدداً من صواريخ الميدان (راجمات الصواريخ) من عيار 240 مم، 216 مم، كذلك المدفعية الثقيلة من عيار 175 مم، بهدف إحداث التأثير المناسب على مدن القناة، والأهداف الاقتصادية المصرية، لإجبار القيادة المصرية على الحد من توجيه نيرانها ضد القوات الإسرائيلية. وتكبدت إسرائيل في هذه الاشتباكات خسائر كبيرة، لم تكن تعلنها في وقتها ولكن البيان العسكري كان دائـما يذيل "بإصابة أحد الجنود"، وذلك إمعانا في خفض الروح المعنوية للقوات المصرية.
في الوقت نفسه، كانت عملية تهجير سكان مدن القناة إلى داخل الوادي ونقل المنشآت الصناعية الرئيسية إلى مناطق أكثر أمنا، هي الوسيلة الرئيسية التي أفقدت العدو ميزة ضرب السكان المدنيين، وجعلهم رهينة للتأثير في القياديتين، السياسية والعسكرية، في سبيل تهدئة الموقف على خط القناة. وأصبحت القوات المصرية بدءاً من يناير 1968، لا تعطي أهمية كبرى لضرب مدن القناة "الخالية من السكان". لذلك، كان على إسرائيل البحث عن وسيلة أخرى للتأثير في القيادة السياسية المصرية.
ومن المحتمل أن "الردع" الذي كان يقصده المحللون الإسرائيليون في تسميتهم لهذه المرحلة، هو ضرب سكان مدن القناة المدنيين، الذي تمنعه كل القوانين والأعراف الدولية.
المرحلة الثانية : "الترويع" "أكتوبر 1968 ـ ديسمبر 1969"
والاسم الحقيقي لهذه المرحلة يجب أن يكون "محاولة احتواء الرد المصري الإيجابي". وقد واكبت هذه المرحلة، على الجبهة المصرية، مرحلة الدفاع النشط، وجزءاً من مرحلة الاستنزاف. وتلقت إسرائيل خلالها عدة ضربات مؤلمة أجبرتها على إدخال قواتها الجوية في المعركة اعتباراً من 20 يوليه 1969 في محاولة للحد من الأعمال القتالية الإيجابية المصرية التي أحدثت خسائر هائلة في قواتها.
وقد بدأت هذه المرحلة بتلقي إسرائيل قصفات مدفعية عنيفة يومي 8 سبتمبر، 26 أكتوبر 1968 استهدفت جميع مواقع الصواريخ الميدانية (راجمات الصواريخ) 216مم، 240 مم، التي كانت تؤثر في مدن القناة، فضلاً عن جميع المناطق الإدارية ومراكز القيادة على الضفة الشرقية للقناة. ومن واقع الخسائر الكبيرة التي حدثت في صفوف الإسرائيليون، ونظراً لخلو مدن القناة من السـكان، كان لا بدّ من البحث عن هدف آخر؛ فاتجه الفكر الإسرائيلي مباشرة إلى صعيد مصر حيث الكثافة السكانية العالية، والأهداف الكثيرة التي يمكن التعامل معها، نظراً لضعف الحراسات عليها، وعدم وجود قوات مسلحة ذات تأثير في هذه المنطقة. وكذلك، لإثبات أن لإسرائيل يد طويلة، يمكنها الوصول إلى أي مكان في مسرح العمليات، للرد على الأعمال القتالية المصرية.
وببدء مرحلة الاستنزاف يوم 8 مارس 1969، تلقت القوات الإسرائيلية على الجبهة ضربات شديدة، وأصبح التفوق المدفعي المصري مطلقاً من حشد يناهز الألف مدفع وهاون، أمطر القوات الإسرائيلية بوابل من القذائف. كما فوجئ الجنود الإسرائيليون المتحصنون في دشم خط بارليف بقذائف الدبابات، من الأعيرة الثقيلة، تخترق هذه الحصون من خلال المزاغل (فتحات المراقبة)، وتنفجر داخلها لتحول هذه الدشم إلى قبور لكل من وُجد فيها. وكان التحول الجدي في الإستراتيجية الإسرائيلية للاستنزاف المضـاد يتمثل في استخدامها قواتهـا الجويـة، لتوسـيع مسـارح العمليـات، بدءاً من 20 يوليه 1969.
المرحلة الثالثة: مرحلة السحق (شكل2،1)
وهي التي يطلق عليها الحرب القذرة، والتي بدأت من أول يناير عام 1970، إذ استهدف الطيران الإسرائيلي أهدافاً مدنيه، قتل معها أطفال بحر البقر وعمال مصنع حديد أبو زعبل. ولكن لم ينل شيئا من الإرادة المصرية ولم يحقق أهدافه في إيقاف الاستنزاف أو إحراج القيادة المصرية، وكان هذا سبباً رئيسياً في مبادرة روجرز، وتصاعد الخلافات الحادة بين القادة الإسرائيلية أنفسهم.
يحى الشاعر
في أعقاب حرب يونيه 1967، تحالفت وسائل الإعلام الغربية مع الدعاية الإسرائيلية في الإعلان أن هذه الحرب هي آخر الحروب، وأن العرب لن تقوم لهم قائمة قبل عدة عقود زمنية، وأن إسرائيل حصلت على الحدود الآمنة التي كانت تهدف إليها. وعاشت إسرائيل، حكاماً وشعباً وجيشاً، في نشوة نصر عظيم، وتصرف قادتها في حرية كاملة، بتأييد من القوة العظمى الأولى في العالم، وانبهار في دول الغرب وترقب من كل الدول الأخـرى.
وطبقاً للحسابات المادية، فإن إسرائيل كانت مطمئنة إلى استحالة اشتعال موقف عسكري قريب في المنطقة، وقد انعكس ذلك الافتراض على قواتها العسكرية، الذين كانت تصرفاتهم تدل على منتهى الاستهتار والاستهانة بالموقف القتالي على الضـفة الشرقية للقناة. وكانت القيادة الإسرائيلية شديدة الحرص على أن يسود أكبر قدر من الهدوء على الجبهة استثماراً لنصرها وتحقيقاً لأهدافها في فرض الأمر الواقع على الأراضي المحتلة، وتغيير معالمها الديموجرافية طـبقاً لخطة محكمة تهدف في النهاية إلى ضمها لرقعة الدولة اليهودية، وتؤكد من خلالها على استمرار تدمير معنويات العرب وتنمية آثار الصدمة النفسية لديهم وعدم إعطائهم فرصة تنشيط القتال على الجبـهة مرة أخرى. في الوقت نفسه، تعمل إسرائيل على استتباب الأمن الداخلي في الأراضي المحتلة، واحتواء السكان العرب ومنعهم من إظهار أي مقاومة لسلطات الاحتلال.
وفي أعقاب معركة رأس العش، وافقت مصر وإسرائيل على وضع نقاط مراقبة تابعة للأمم المتحدة على جانبي قناة السويس، ووصلت القوات فعلا يوم 11 يوليه 67. وعند تحديد النقاط أصرت إسرائيل على أن يكون خط وقف إطلاق النيران في منتصف المجرى المائي لقناة السويس بينما رفضت مصر ذلك تماما. وفي محاولة لتنفيذ وجهة نظرها بالقوة، أنزلت قوات إسرائيلية بقوارب مطاطـية، إلى القناة في منطقة جنوب القنطرة، وفي مناطق متفرقة من القناة، يوم 14 يوليه 1967، لاختبار رد الفعل المصـري، ومدى قبول المصريين للتصور الإسرائيلي، عند تحديد خط وقف إطلاق النيران.
ولكن القوات المسلحة المصرية أعلنت رفضها هذا المنطق، وفتحت النيران على هذه القوات. ونشبت، يومي 14،15 يوليه 1967، معارك عنيفة بالطيران والمدفعية، وبعدها لم تتكرر أي محاولات إسرائيلية من هذا القبيل في قناة السويس. وساد الجبهة، بعدها، فترة هدوء متقطعة (استمرت قرابة الخمسين يوما)، استغلها الجانبان في تجهيز المسرح على كلا الضفتين، بينما تصاعد خلالها النشاط السياسي، إلى أن كانت المحاولة الثانية لإسرائيل في إعطاء نفسها حق المرور في خليج السويس، حيث ردت القوات المصرية بعنف على الزوارق الإسرائيلية في شمال خليج السويس، في 4 سبتمبر وكبدتها خسائر كبيرة واشتعل الموقف وقتها مرة ثانية.
ومع تصاعد النشاط القتالي المصري على الجبهة، طورت إسرائيل أهدافها في إطار، سياسي عسكري، جديد يتحدد في ثلاث نقاط رئيسية هي:
التشبث بالأرض المحتلة، ومنع المصريين من استعادة أي أجزاء من سيناء.
محاولة إحباط العمليات العسكرية المصرية، بتوجيه أعمال قتال أشد.
التأثير على الشعب المصري في الداخل، ليثور على قيادته السياسية ويسقط النظام من الداخل، أو أن تقوم هذه القيادة بإيقاف حرب الاستنزاف وتهدئة الموقف، الذي يؤدي إلى تحقيق أهداف إسرائيل.
وفي جميع الأحوال فإن إسرائيل حاولت السيطرة على الموقف العسكري على الجبهة حتى لا يحدث صدام يصل إلى الحرب الكاملة، وتتغير معه المواقف في المنطقة والعالم.
والاستنزاف المضاد ـ طبقا للأسلوب العلمي ـ يُعَدّ حالة خاصة من الحروب المحلية المحدودة التي تقتصر على تخطيط وإدارة ردود الأفعال المناسبة لما يوجه إليها من أنشطة قتالية من الخصم بغرض استنزافها، على أن تنحصر تلك الردود داخل سلم تصعيد لا يترك القتال ينطلق إلى آفاق الحرب الكاملة، بل يقصرها داخل هدف، ووسائل صراع، ومدى جغرافي وعدد من الأطراف، ومدة زمنية لا تضر بالوضع القائم، أو تدخل عليه من التغييرات ما يفسده كحق مكتسب يقبله القانون مع تقادم الزمن.
ويطلق المحللون الإسرائيليون، مسـمى "حرب الاستنزاف" على مجموع الأعمال القتالية التي دارت في أعقاب حرب 1967، وحتى إيقاف إطلاق النيران في 8 أغسطس 1970. كما تُسمى بحرب "الألف يوم". وقد وضعت هذه الحرب في إطـار دفاعي بوجه عام، وإن اعتمدت على بعض الأعمال التعرضية التي شابتها التجاوزات في أكثر من موقف، ولم تهدف إسرائيل في إدارتها لهذه الحرب إلى احتلال مزيدا من الأراضي بل هدفت إلى ترسيخ الوضع القائم بكل مكاسبه ومزاياه التي حققتها في حرب 1967.
وينقسم الاستنزاف المضاد من وجه النظر الإسرائيلية، "وطبقا لما ذكره المحللون الإسرائيليون" إلي ثلاثة مراحل رئيسيه، احتوت كل منها على مرحلة زمنية لها خصائصها على المستوى السياسي والعسكري، وأطلقوا على كل مرحلة منها، اسما يتمشى مع الصلف الإسرائيلي، الذي كان سائداً خلال هذه الفترة الزمنية. وسوف توضح هذه المراحل بأسمائها الإسرائيلية، ثم تقييمها طبقاً للحقائق العلمية المجردة، وهذه المراحل هي:
مرحلة الردع، "فيما بين يونيه 1967 ـ وحتى سبتمبر 1968".
مرحلة الترويع، "فيما بين أكتوبر 1968 ـ وحتى ديسمبر 1969".
مرحلة السحق، "فيما بين يناير ـ وحتى أغسطس 1970".
المرحلة الأولى: مرحلة الردع
والاسم العلمي الحقيقي لهذه المرحلة هو "ردود الفعل"، إذ كانت القيادة الإسرائيلية تحاول قدر الإمكان تهدئهَ الموقف، لتحقيق الأهداف السياسية بفرض الأمر الواقع وإقناع دول الغرب بأن الموقف في الشرق الأوسط مستقر، ولا داعي لأي جهود سلمية. وكان تقديرها أن مصر أصبحت جثة هامدة، وخسرت خسائر فادحة بسبب حرب 1967، تقنعها بعدم تكرار المواجهة مع إسرائيل التي تمتلك من الإمكانيات ما يمكنها من ردع أي عمل مصري محدود.
وقد واكبت هذه المرحلة، مرحلة "الصمود" على الجانب المصري. لذلك، فإن محصلة التصعيد، والتهدئة مرت خلال فترات زمنية متباعدة نوعا ما.
وانقسمت هذه المرحلة من وجهة نظر الاستعداد القتالي، وردود الفعل إلي مرحلتين فرعيتَيْن:
المرحلة الفرعية الأولي : من يونيه 1967، وحتى 14 مارس 1968.
وكانت القوات الإسرائيلية خلالها مكشوفة تماماً، وتعتمد على حشد أسلحتها من دون إنشاء تجهيزات هندسية ملائمة لمسرح العمليات. كما كانت الظـاهرة الرئيسية التي تسود القوات على الضفة الشرقية للقناة، هي الغرور، والصلف، وعدم إتباع أي قواعد أخلاقية تتمشى مع التقاليد المصرية. لذلك، كانت القوات الإسرائيلية هدفاً سهلاً لأي اشتباك مفاجئ. وقد اقتصرت هذه المرحلة على اشتباكات متباعدة، ولكنها عنيفة، استخدمت فيها المدفعية كسلاح رئيسي، فضلاً عن المعارك البحرية والجوية. وكانت مصر توجه نيرانها إلى أهداف عسـكرية بغرض تأكيد السيادة، بينما وجهت إسرائيل جميع نيرانها ضد المدنين في التجمعات السكانية، وضد أهداف صناعية في منطقة القناة.
المرحلة الفرعية الثانية : من 15 مارس 1968 ـ وحتى نهاية المرحلة،
وهي التي ركزت إسرائيل خلالها على إنشاء خط بارليف الأول، مستغلة الإمكانيات المحلية المتاحة بقدر الإمكان. وبدأت، بعدها، القوات الإسرائيلية في التحصن داخل دفاعات ثابتة على طول الضفة الشرقية للقناة، بهدف تأمين هذه القوات ضد الاشتباكات المصرية المتصاعدة.
وقد حشدت إسرائيل في هذه المراحل عدداً من صواريخ الميدان (راجمات الصواريخ) من عيار 240 مم، 216 مم، كذلك المدفعية الثقيلة من عيار 175 مم، بهدف إحداث التأثير المناسب على مدن القناة، والأهداف الاقتصادية المصرية، لإجبار القيادة المصرية على الحد من توجيه نيرانها ضد القوات الإسرائيلية. وتكبدت إسرائيل في هذه الاشتباكات خسائر كبيرة، لم تكن تعلنها في وقتها ولكن البيان العسكري كان دائـما يذيل "بإصابة أحد الجنود"، وذلك إمعانا في خفض الروح المعنوية للقوات المصرية.
في الوقت نفسه، كانت عملية تهجير سكان مدن القناة إلى داخل الوادي ونقل المنشآت الصناعية الرئيسية إلى مناطق أكثر أمنا، هي الوسيلة الرئيسية التي أفقدت العدو ميزة ضرب السكان المدنيين، وجعلهم رهينة للتأثير في القياديتين، السياسية والعسكرية، في سبيل تهدئة الموقف على خط القناة. وأصبحت القوات المصرية بدءاً من يناير 1968، لا تعطي أهمية كبرى لضرب مدن القناة "الخالية من السكان". لذلك، كان على إسرائيل البحث عن وسيلة أخرى للتأثير في القيادة السياسية المصرية.
ومن المحتمل أن "الردع" الذي كان يقصده المحللون الإسرائيليون في تسميتهم لهذه المرحلة، هو ضرب سكان مدن القناة المدنيين، الذي تمنعه كل القوانين والأعراف الدولية.
المرحلة الثانية : "الترويع" "أكتوبر 1968 ـ ديسمبر 1969"
والاسم الحقيقي لهذه المرحلة يجب أن يكون "محاولة احتواء الرد المصري الإيجابي". وقد واكبت هذه المرحلة، على الجبهة المصرية، مرحلة الدفاع النشط، وجزءاً من مرحلة الاستنزاف. وتلقت إسرائيل خلالها عدة ضربات مؤلمة أجبرتها على إدخال قواتها الجوية في المعركة اعتباراً من 20 يوليه 1969 في محاولة للحد من الأعمال القتالية الإيجابية المصرية التي أحدثت خسائر هائلة في قواتها.
وقد بدأت هذه المرحلة بتلقي إسرائيل قصفات مدفعية عنيفة يومي 8 سبتمبر، 26 أكتوبر 1968 استهدفت جميع مواقع الصواريخ الميدانية (راجمات الصواريخ) 216مم، 240 مم، التي كانت تؤثر في مدن القناة، فضلاً عن جميع المناطق الإدارية ومراكز القيادة على الضفة الشرقية للقناة. ومن واقع الخسائر الكبيرة التي حدثت في صفوف الإسرائيليون، ونظراً لخلو مدن القناة من السـكان، كان لا بدّ من البحث عن هدف آخر؛ فاتجه الفكر الإسرائيلي مباشرة إلى صعيد مصر حيث الكثافة السكانية العالية، والأهداف الكثيرة التي يمكن التعامل معها، نظراً لضعف الحراسات عليها، وعدم وجود قوات مسلحة ذات تأثير في هذه المنطقة. وكذلك، لإثبات أن لإسرائيل يد طويلة، يمكنها الوصول إلى أي مكان في مسرح العمليات، للرد على الأعمال القتالية المصرية.
وببدء مرحلة الاستنزاف يوم 8 مارس 1969، تلقت القوات الإسرائيلية على الجبهة ضربات شديدة، وأصبح التفوق المدفعي المصري مطلقاً من حشد يناهز الألف مدفع وهاون، أمطر القوات الإسرائيلية بوابل من القذائف. كما فوجئ الجنود الإسرائيليون المتحصنون في دشم خط بارليف بقذائف الدبابات، من الأعيرة الثقيلة، تخترق هذه الحصون من خلال المزاغل (فتحات المراقبة)، وتنفجر داخلها لتحول هذه الدشم إلى قبور لكل من وُجد فيها. وكان التحول الجدي في الإستراتيجية الإسرائيلية للاستنزاف المضـاد يتمثل في استخدامها قواتهـا الجويـة، لتوسـيع مسـارح العمليـات، بدءاً من 20 يوليه 1969.
المرحلة الثالثة: مرحلة السحق (شكل2،1)
وهي التي يطلق عليها الحرب القذرة، والتي بدأت من أول يناير عام 1970، إذ استهدف الطيران الإسرائيلي أهدافاً مدنيه، قتل معها أطفال بحر البقر وعمال مصنع حديد أبو زعبل. ولكن لم ينل شيئا من الإرادة المصرية ولم يحقق أهدافه في إيقاف الاستنزاف أو إحراج القيادة المصرية، وكان هذا سبباً رئيسياً في مبادرة روجرز، وتصاعد الخلافات الحادة بين القادة الإسرائيلية أنفسهم.
عــرض خـــرائط عمليات عسكرية لبطولات القوات المسلحة المصرية والبحرية المصرية وعملية من المخابرات العامة خلال حرب الأستنزاف
http://www.geocities.com/yahia_al_sh...TION-WAR-1.htm
http://www.geocities.com/yahia_al_sh...TION-WAR-1.htm
يحى الشاعر