معارك حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية (مرحلتا الدفاع النّشط، والعمل التعرضي)
ما إن انتصف عام 1968، إلا وكانت كل الظروف مهيأة لإدارة حرب الاستنزاف بأسلوب يحقق الأهداف السياسية والعسكرية والاقتصادية، التي خططت لها مصر. وقد ساعد على ذلك، وصول القوات المسلحة إلى درجة مناسبة من الكفاءة القتالية، تمكنها من القيام بأعمال تعرضية محدودة. كما جُهز مسرح العمليات بصورة مناسبة، تحقق تأمين القوات ضد ردود الفعل المعادية. وشرعت القيادة المصرية في تأمين الشعب من الداخل، طبقاً لإجراءات "إعداد الدولة للحرب". وفي الوقت نفسه، كان الطرف الآخر، جاداً في إنشاء خط بارليف الأول، وكثّف أعمال الإنشاءات خلال فترات هدوء المعارك. وكانت الشواهد تدل على أن تحصيناته قوية بالدرجة، التي تحتم تدميره في مراحل بنائه، وليس الانتظار لحين إتمام هذه التحصينات. وكان الموقف السياسي العالمي، يتطلب تحركاً من نوع ما، يُشعر المجتمع الدولي أن إسرائيل غير جادة في تحقيق السلام، طبقاً لقرار مجلس الأمن الرقم (242)، وأنها تتعمد إفشـال جهود الوسـيط الدولي، وتعويق جهوده، وترديد أن العرب "جثة هامدة"، وأن جيش الاحتلال الإسرائيلي "لا يقهر".
لذلك، كان من الضروري تصعيد الموقف العسكري تدريجياً، خلال هذه المرحلة. وفعلاً، اتخذت إجراءات التخطيط للأعمال القتالية النشطة، اعتباراً من منتصف عام 1968، وتحددت أولوياتها. كما اختيرت العناصر القائمة بتنفيذ المراحل الأولى منها، وتدريبها في مناطق منعزلة، وفي سرية تامة. وظل توقيت تنفيذ هذه العمليات، سراً غير معروف، لأي مستوى قيادي. وكان أبرز العوامل، التي بحثت أثناء التخطيط العسكري المصري، في هذه المرحلة، هو أسلوب تصعيد الاستنزاف. وهل يُبدأ فورا بكل الطاقات المتاحة، أم بالتدرج المتوازن. وهل يشمل الاستنزاف جميع مسارح الحرب، أم يُبدأ بمسرح رئيسي، ثم يُنْتَقَلْ إلى المسارح الأخرى. كذلك، رُكِّز في بحث أولويات الأهداف، التي يشكل تدميرها مرارة للعدو من نوع خاص، والإجراءات العسـكرية التي تَضَّطرْ إلى إعلان التعبئة واستمرارها، إلى أقصى وقت ممكن، بالشكل الذي تؤثر فيه داخلياً.
وقد استقر التخطيط، على أن يبدأ تصاعد الاستنزاف بالتدريج. ويتطلب ذلك فترة انتقالية لمدة ستة شهور، يجرى خلالها تنشيط الجبهة بمعدلات مناسبة، مع اختبار ردود الأفعال، وتحليل النتائج بأسرع ما يمكن، والاستفادة من عوامل القوة، وتصحيح مواطن الخطأ. وقد اتُفق على أن تبدأ مرحلة "الدفاع النشط"، اعتبارا من أول سبتمبر عام 1968. وعند البحث في مجال مسارح الحرب اتفق، على أن يُبدأ بمسرح العمليات البري أولاً، حيث يوجد التفوق المصـري في القوات، خصوصاً في مجال المدفعية، التي ستشكل عنصر الردع في بداية الاستنزاف. ثُم ينتقل إلى المسرح البحري، وأخيرا مسرح القتال الجوي، وذلك حتى يُترك أكبر وقت ممكن لتدريب الطيارين الجدد، الذين أُلحقوا بالخدمة بعد 1967، واكتسابهم الخبرات التي تأهلهم لمواجهة طياري إسرائيل "المحترفين".
في الوقت نفسه، عكفت القيادات المختلفة، في سرية تامة، على اختيار الأهداف، وتصنيف كل هدف، وأسلوب تدميره (بالمدفعية ـ بالقوات ـ بالطيران ـ .. الخ). ووضع أسبقية تدمير الهدف. ورُفعت هذه الدراسات إلى القيادة العامة لكي تختار منها الأهداف، التي تحقق التأثير المناسب. في الوقت المناسب، وهكذا، لم يمض شهر أغسطس 1968، إلاّ وكانت الرؤية واضحة تماما أمام القيادة العامة للقوات المسلحة، لتنشيط الجبهة، طبقا لخطة مدروسة، وليس نتيجة لردود أفعال، كما كان يحدث في الماضي.
ثانياً: مرحلة الدفاع النشط (سبتمبر 1968 ـ فبراير 1969)
يُعَدّ يوم 8 سبتمبر 1968، نقطة تحول الرئيسية في تنشيط الجبهة. فكان هذا اليوم بداية مرحلة الدفاع النشط، التي أرادت مصر أن تبـدأها بقوة، تُعلن عن نفسها إقليميا وعالميا، وتصاب فيها القوات الإسرائيلية بأكبر قدر من الخسائر. وقد شملت أعمال قتال هذا اليوم، على قصفات مدفعية، مدبرة وتحت سترها تُدفع داوريات قتال على طول الجبهة. وقد خططت هذه القصفات مركزياً بحيث تشمل جميع الأهداف الإسرائيلية، شرقي القناة حتى عمق 20 كيلومتراً. وروعي أن تبدأ قبل آخر ضوء بفترة مناسبة، وتستمر إلى ما بعد آخر ضوء، وقد اشترك في هذه القصفات 38 كتيبة مدفعية، من مختلف الأعيرة، أطلقت نيرانها لمدة ثلاث ساعات، من الرابعة والنصف إلى السابعة والنصف مساءً، وشاركت جميع الأسلحة المضادة للدبابات، لتطلق نيرانها من الضفة الغربية للقناة، على الأهداف المعادية المرئية على الضفة الشرقية. واستهدفت هذه القصفات خط بارليف، الجاري إنشاءه في المقام الأول، ثم جميع مواقع الصـواريخ 216 مم، 240 مم التي يستخدمها الجانب الآخر في التأثير على مدن القناة، وجميع مواقع المدفعية، ومناطق الشؤون الإدارية، ومناطق تمركز الأفراد.
وقد شكلت هذه القصفات صدمة نفسية للجانب الآخر، حيث شعر لأول مرة أن السيطرة النيرانية قد آلت للقوات المسلحة المصرية. وتكبد العدو خسائر جسيمة، شملت تدمير 19 دبابة، وثمانية مواقع صواريخ، وعشرات الدشم، ومناطق الشؤون الإدارية، ومناطق التمركز. وأسكتت خلالها جميع مدفعيات العدو، التي قُدرت وقتها بسبعة عشر بطارية مدفعية. وقد اعترفت الكتب الإسرائيلية فيما بعد، أن خسـائرهم في الأفراد كانت 28 فرداً، بين قتيل وجريح (والحقيقة تخالف ذلك تماماً طبقاً لأسلوب إسرائيل في التهوين من خسائرها وعدم ذكر الحقائق، كنوع من الحرب النفسية).
أما الدوريات، التي دُفعت تحت ستر نيران المدفعية، فقد أدت مهامها بكفاءة. وزرعت ألغاماً على الطرق الرئيسية والفرعية، انفجر بعضها في الليلة نفسها، نتيجة للتحركات العشوائية للقوات الإسرائيلية، بعد انتهاء القصف المدفعي. ولم تجد القوات الإسرائيلية ـ التي خسرت معظم مدافعها في هذا القصف ـ إلا أن توجه نيران ما تبقى من هذه المدافع، ضد المدن على القناة لتصيب بعض الأفراد المدنيين، الموجودين في مدنهم.
أعقب قصف 8 سبتمبر فترة هدوء، نتيجة لتدخلات سياسية، استثمرتها القوات المصرية، في دفع مزيد من الدوريات، لوضع ألغام على الطرق الرئيسية شرق القناة. كما استغلتها في متابعة التغيرات، التي يحدثها الجانب الآخر في مواقـعه، حيث كان مهتما بإعادة بناء ما تهدم في 8 سبتمبر، ولكنه كان يُقابل بنيران الأسلحة صغيرة بصورة شبه مستديمة، مما أثر على كفاءة إنشاءاته.
وفي 26 أكتوبر تكررت قصفات المدفعية المركزة، ولكن بصورة أقل، حيث اشتركت فيها 23 كتيبة مدفعية، أطلقت نيرانها لمدة سبعين دقيقة. واستهدفت، بالدرجة الأولى، تدمير مواقع الصواريخ 216، 240مم بعد تحديدها بدقة، من خلال الدوريات، التي سبق دفعها، ومن خلال صور جوية حديثة. وتحت ستر هذه القصفات، دُفع العديد من الكـمائن لاصطياد الدبابات والمركبات، التي تحاول الهروب أثناء القصف. وقد نجح هذا القصف كذلك، وشكل للجانب الآخر صورة غير مألوفة من الإزعاج، نتيجة للخسائر التي تكبدها، والتي حددها ـ بعد ذلك ـ بأنها 49 فرداً بين قتيل وجريح علاوة على تدمير وحدات الصواريخ.
وطبقا للفكر الإسرائيلي، الذي تلقى خسائر ليست هينة على جبهة القناة، واقتنع بأن التفوق آل إلى المصريين في هذه المنطقة، فقد لجأ إلى توسيع الجبهة، وامتدادها إلى مناطق بعيدة للغاية، حتى يحقق هدفين: الأول، أن تضطر القيادة المصرية إلى نشر قواتها، على مواجهة ألف كيلومتراً، تمثل طول الحدود الشرقية المصرية بالكامل، ومن ثم، يتلاشى التفوق المصري على الجبهة. والثاني، وضع القيادة السياسية في مأزق، عندما يشعر الشعب أن إسرائيل اخترقت أعماقه، ودمرت أهدافاً حيوية، دون أن تتعرض لها القوات المسلحة المسؤولة أساساً عن تأمين هذا الشعب.
وقد اختارت إسرائيل هدفها في نجع حمادي، وفي محطة محولات كهرباء السد العالي بالتحديد، حتى يكون التأثير محسوساً لدى الشعب كله. وقد تمت هذه العملية ليلة 31 أكتوبر/1 نوفمبر 1968، من خلال عملية ليلية، أريد بها هدفاً سياسياً/اقتصادياً، وليس عسكرياً. واستُخدم فيها طائرات الهليوكوبتر (سوبر فريليون)، التي كانت إسرائيل قد حصلت عليها حديثاً. واُخْتِير أفراد القوة الإسرائيلية من المظليين، الذين يتكلمون العربية بطلاقه، حتى أعتقد أهالي المنطقة أنهم مصريون. ولذلك، لم يتعرضوا لهم في البداية، مما أدى إلى نجاح هذه العملية، التي كان تأثيرها ضعيفا، ولم تحقق الهدف السياسي الذي خططته إسرائيل. أما على الجانب السياسي ـ العسكري المصري، فكان لا بدّ من إعادة النظر في تأمين العمق المصري، حتى لا تلجأ إسرائيل لتكرار هذه العملية.
وفي الوقت نفسه، أعيد تقييم العمليات العسكرية، لتأخذ صورة أخرى أشد من قصفات المدفعية. وقد كان ذلك سبباً في تهدئة الأوضاع على الجبهة ـ إلا من الاشتباكات بالأسلحة الصغيرة، وإطلاق حرية قنص أفراد العدو، ومنعهم من التحرك بحرية على طول الجبهة ـ مع تكثيف دفع دوريات الاستطلاع، للحصول على أكبر قدر من المعلومات للمرحلة القادمة. أما في عمق الدولة، فقد نُفذ العديد من إجراءات التأمين، من خلال وحدات الدفاع الشعبي، على مستوياتها المختلفة.
وقد استغلت القوات الإسرائيلية هذه المرحلة، في تحسين موقفها الدفاعي، واستكمال تحصينات خط بارليف، الذي تابعته القوات المصرية جيدا، واكتشفت نقاط ضعفه، تمهيداً لتدميره في مراحل لاحقة.
ومـع تصاعد نشاط العمليات على الجبهة، قررت القيادة السياسية تهدئة الأوضاع في الداخـل، حتى لا تتضاعف أعباء الشعب، نتيجة للتعبئة النفسية. إضافة لما يعانيه من تحول الاقتصاد إلى اقتصاد حرب، الذي انعكس تأثيره على مستوى معيشة الفرد العادي. وحتى لا يتزايد قلق مئات الآلاف من الأسر، الذين يخدم أبناؤها في القوات المسلحة، لذلك، انفصلت تماماً إجراءات الاستعداد على الجبهة، وإجراءات تأمين الشعب في الداخل، عن التعبـئة النفسية للجماهير وإحساسهم بحالة الحرب. وتُرك ذلك للتقدير الشخصي لكل مواطن، طبقاً لدرجة ثقافته أو انتماءاته.
وقد شكل ذلك نوعا من التأثير النفسي على القوات المسلحة، وكان له مردود مباشر في أثناء زيارة الرئيس محمد أنور السادات إلى الجبهة، في أغسطس 1968 (وكان وقتها نائبا لرئيس الجمهورية) عندما وجه إليه أحد الضباط سؤالاً، بما معناه، أن هناك انفصاماً تاماً، بين حياة الشعب في الداخل والأوضاع على الجبهة، فلماذا لا نُعـلن التعبئة الشعبية، حتى يتعايش معنا الشعب، ويحس إحساسنا؟ وكان تعليق الرئيس السادات عليها "بأننا لو أعلنا التعبئة اليوم ولم نحارب غداً، فسيفقد الشعب ثقته فينا.. ولكن لكل إجراء وقته.. والقوات المسلحة هي حامية هذا الشعب، وعليها أن تتحمل المسؤولية، لأن كل فرد فيها يمثل أسرة وعليه أن يدافع عنها".
وقد أثبتت الحقائق فيما بعد، أن الشعب لم ينفصل عن قواته المسلحة، وأنه كان يتفاعل من الداخل. ودل على ذلك، أحداث شهر ديسمبر 1968، والتي وصلت مداها في القاهرة والإسكندرية تطالب باستعادة الأرض وتدمير العدو الذي يجثم على أرض سيناء. وربما تكون هذه الأحداث هي التي عجلت بقرار بداية مرحلة الردع التي أطلق عليها الاستنزاف فيما بعد.
ثالثاً: مرحلة الاستنزاف(شكل 6 ،7 ) (مرحلة العمل التعرضي ـ مارس 1969/ أغسطس 1970)
طبقاً للتخطيط المصري، كان شهر فبراير 1969 يمثل نهاية الشهور الستة المحددة، كمرحلة انتقالية بما كان يطلق عليه الدفاع النشط. وشهد مارس 1969 أهم مراحل التصعيد العسكري، ما بين الجولتين الثالثة والرابعة، في الصـراع العربي الإسرائيلي. وقد أديرت هذه المرحلة سياسيا، وعسكريا بتنسيق متكامل لتحقق الهدف منها، ولتتوازن في التصعيد والتهدئة.
وتحددت مهامها في تقييد حرية تحركات العدو، على الضفة الشرقية للقناة، وإرهاقه وإحداث أكبر خسائر به، وتدمير خط بارليف الدفاعي، مع إجراء تطعيم لأكبر عدد من وحدات القوات المسلحة للقتال من خلال معارك رئيسية، أو أعمال قتال حقيقية.
وكانت هـذه المرحلة، التي امتدت من يوم 8 مارس 1969 إلى 8 أغسطس 1970، طويلة وشاقة، وهي لا تقـل ـ في تقييمها عسكرياً ـ عن أي جولة من جولات الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بل تُعَدّ أطول جولة في تاريخ هذا الصراع. وقد جرت خلالها الأعمال القتالية بصورة مستمرة، ومعدلات أداء ناهزت 1 ـ 2 قصفة مدفعية يومياً، وصلت في بعض الأحيان إلى 4 ـ 5 قصفات، وصاحبتها أعمال قتالية أخرى. كما نُفذت تراشقات بالأسلحة الصغيرة، وأسلحة الضرب المباشر (دبابات وأسلحة مضادة للدبابات) بمعدل يصل إلى 10 ـ 20 اشتباكا يوميا. كذلك، كانت تُدفع يومياً ما بين 2 إلى 4 دوريات أو كمائن في قطاع كل تشكيل، ويتنفذ ما بين 1 إلى 2 عمل قتالي تعرضي بالقوات أسبوعياً، في قطاع كل جيش.
أعمال قتال القوات البرية، خلال حرب الاستنزاف (العمل التعرضي)
المرحلة الأولى من حرب الاستنزاف (8 مارس ـ 19 يوليه 1969)
بدأت المرحلة صباح 8 مارس 1969، وامتدت إلى 19 يوليه من العام نفسه، وتميزت بسيطرة مطلقة للقوات المصرية على خط الجبهة. وخلال هذه المرحلة، شُلَّ النظام الدفاعي للعدو. وكانت المدفعية هي الوسيلة الرئيسية للعمل خلالها، حيث صبت على حصون خط بارليف، والأهداف الأخرى، حوالي 40 ألف قذيفة، بادئة أعمالها يوم 8 مارس بأكبر حشد نيراني مؤثر، منذ توقفت نيران حرب يونيه 67.
واستمر هذا القصف ساعات متواصلة، اشتركت فيه 34 كتيبة مدفعية، يعاونها حشد من أسلحة الضرب المباشر (المدافع المضادة للدبابات، والدبابات الثقيلة عيار 122 مم) لتدمير مزاغل نيران دشم خط بارليف. وقد أحدث هذا القصف تأثيرا شديدا على الطرف الآخر، القابع شرق القناة، حتى وصل حجم الخسائر تدمير حوالي 29 دبابة، و30 دشمة في خط بارليف، وإسكات 20 بطارية مدفعية، وحرائق شديدة في ست مناطق إدارية، وغير ذلك من الخسائر.
وفي الساعة الثالثة والنصف من بعد ظهر يوم 9 مارس 1969، استشهد الفريق عبدالمنعم رياض، أثناء جولة له، ومعه مجموعة قيادته، في قطاع الجيش الثاني الميداني، في منطقة النقطة الرقم (6) بالإسماعيلية، وذلك عندما أطلق الجانب الإسرائيلي نيران مدفعيته، وإنفجار إحدى الدانات بالقرب منهم، حيث أصابتهم جميعاً واستشهد الفريق عبدالمنعم رياض أثناء إخلائه.
وقد كان لاستشهاد الفريق رياض وقعاً شديداً في جميع أرجاء مصر والعالم العربي وأبدى الشعب شعوره الحقيقي أثناء الجنازة وطالب بالانتقام، وتأصل في داخله روح الكبرياء القومي، ونادى بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها.
وكررت المدفعية المصرية القصفة النيرانية بصورة أشد يوم 9 أكتوبر، ونظراً لكثرة الخسائر التي تكبدها الجانب الإسرائيلي، فقد تم إحلال الوحدات التي تدافع عن خط بارليف، بوحدات مظلات احتياط لديهم الخبرة في مجابهة هذه القوات، التي قدر لها أن يستمر اشتعالها لفترة طويلة قادمة، كما ضاعفت حجم القوات التي تحتل الحصون لتصبح بقوة حوالي سرية مدعمة (من 70 إلى 100 فرد) لكل حصن، مع تجميع الأفراد ليلاً في النقطة القوية الرئيسية فقط لتأمينهم ضد إغارات قواتنا, ولم يكد يمر يومان حتى قصفت المدفعية المصرية رتلاً مكوناً من 13 عربة تحمل ذخائر للعدو، فأصابتها إصابات مباشرة، وتركت هذه العربات تنفجر لمدة يوم كامل، دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منها.
بدء الأعمال التعرضية
في 13 مارس 1969، وقع حدثان متضادان في وقت واحد وفي منطقة واحدة، حيث بدأت إغارات القوات المصرية لتدمير موقع للعدو، في منقطة جنوب البحيرات، نفذتها الكتيبة 33 صاعقة، ونجحت في مهمتها ودمرت الموقع، وخطفت أسيراً، وأصابت دبابتين، وغنمت عينات من أسلحة العدو وألغامه.
وفي الوقت نفسه، كانت القوات الإسرائيلية تحاول إنزال قوارب، والإغارة على منطقة قريبة في منطقة جنوب البحيرات أيضاً، حيث قوبلت بنيران شديدة من القوات المصرية، التي كانت على أعلى درجة الاستعداد لتأمين إغارتها. وبذلك أفشلت المحاولة، واستمرت الاشتباكات بالنيران طوال الليل.
ولم تجد القوات الإسرائيلية وسيلة للرد، سوى إعادة قصف مدن القناة. فقصفت قطار السكة الحديد في مساره بين الإسماعيلية والسويس (في منطقة الشلوفة). واستمرت القوات المصرية في تصعيد أعمالها القتالية. حتى كان يوم 17 إبريل 1969، حيث نفذت قوات الجيش الثاني "الخطة هدير"، بتوجيه مدافع الدبابات الثقيلة، إلى فتحات المراقبة والتسديد (المزاغل) لدشم خط بارليف لتخترقها. وتفجرت الدشم من الداخل، وقُتل الأفراد المتحصنين بها. وقد نجحت الخطة تماما، بما أدى إلى تطاير تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي، الجنرال موشى ديان، واعداً ومهددا القوات المصرية، التي لم تعبأ بتهديده، بل أعادت الإغارة على نقطة دفاعية قوية جنوب البلاح لتدمرها. وكان الرد الإسرائيلي متوقعاً، حيث أغار يوم 29 إبريل 1969 على محطة محولات نجع حمادي للمرة الثانية، وأسقط عبوات ناسفة زمنية قرب إدفو، أصابت بعض المدنيين الأبرياء. وكان الرد المصري مباشراً وسريعاً وفي الليلة التالية مباشرة، بالإغارة على نقطة جنوب البلاح للمرة الثانية ونسفها بالكامل.
ويُلاحظ هنا أن توقيت الإغارة المعادية على نجع حمادي، كان يقصد به هدفاً سياسياً ـ قبل إلقاء الرئيس عبدالناصر خطاب أول مايو في مناسبة عيد العمال ـ وخرجت جريدة "الجيروساليم بوست" الإسرائيلية تحمل تعليقاً ـ بأن إغارة الليلة السابقة كانت تستهدف الترويع أكثر مما استهدفت التدمير. وفي الوقت نفسه، حمل خطاب الرئيس عبدالناصر في عيد العمال "أن مصر لم تعد تعترف أو تتمسك بوقف إطلاق النار، الذي بدأ بعد حرب يونيه 1967، وصرح بأنه تم تدمير حوالي 60 % من خط بارليف بالنيران المصرية، وأن الجيش المصري انتقل، الآن، من مرحلة الدفاع النشط، إلى مرحلة التحرير، وأن حرب الاستنزاف الآن هي حرب ثأرية".
وفي أعقاب هذا الخطاب، تصاعدت خطة الاستنزاف، لمنع العدو من إعادة إنشاء خط بارليف، أو تعلية السواتر الترابية. وتكررت عمليات تدمير الدشم، بأسلوب الرمي المباشر من الدبابات والأسلحة المضادة للدبابات، وبدأ التوسع في أعمال القنص، وسُمح للمتطوعين المدنيين الاشتراك في قنص العدو على الجبهة، وتشجيعا لهم وضع "جدول حوافز القنص"، الذي يتدرج من المكافآت المادية، إلى حمل الأوسمة.
وكان لا بدّ من رد القوات المصرية على غارات العمق الإسرائيلية، فوقعت الإغارة على مستعمرة "سيدوم" جنوب إسرائيل يوم 19 مايو 1969، ووجهت لها نيران الصواريخ "الكاتيوشا"، التي أصابت مصنع كيماويات بالمستعمرة.
يحى الشاعر
ما إن انتصف عام 1968، إلا وكانت كل الظروف مهيأة لإدارة حرب الاستنزاف بأسلوب يحقق الأهداف السياسية والعسكرية والاقتصادية، التي خططت لها مصر. وقد ساعد على ذلك، وصول القوات المسلحة إلى درجة مناسبة من الكفاءة القتالية، تمكنها من القيام بأعمال تعرضية محدودة. كما جُهز مسرح العمليات بصورة مناسبة، تحقق تأمين القوات ضد ردود الفعل المعادية. وشرعت القيادة المصرية في تأمين الشعب من الداخل، طبقاً لإجراءات "إعداد الدولة للحرب". وفي الوقت نفسه، كان الطرف الآخر، جاداً في إنشاء خط بارليف الأول، وكثّف أعمال الإنشاءات خلال فترات هدوء المعارك. وكانت الشواهد تدل على أن تحصيناته قوية بالدرجة، التي تحتم تدميره في مراحل بنائه، وليس الانتظار لحين إتمام هذه التحصينات. وكان الموقف السياسي العالمي، يتطلب تحركاً من نوع ما، يُشعر المجتمع الدولي أن إسرائيل غير جادة في تحقيق السلام، طبقاً لقرار مجلس الأمن الرقم (242)، وأنها تتعمد إفشـال جهود الوسـيط الدولي، وتعويق جهوده، وترديد أن العرب "جثة هامدة"، وأن جيش الاحتلال الإسرائيلي "لا يقهر".
لذلك، كان من الضروري تصعيد الموقف العسكري تدريجياً، خلال هذه المرحلة. وفعلاً، اتخذت إجراءات التخطيط للأعمال القتالية النشطة، اعتباراً من منتصف عام 1968، وتحددت أولوياتها. كما اختيرت العناصر القائمة بتنفيذ المراحل الأولى منها، وتدريبها في مناطق منعزلة، وفي سرية تامة. وظل توقيت تنفيذ هذه العمليات، سراً غير معروف، لأي مستوى قيادي. وكان أبرز العوامل، التي بحثت أثناء التخطيط العسكري المصري، في هذه المرحلة، هو أسلوب تصعيد الاستنزاف. وهل يُبدأ فورا بكل الطاقات المتاحة، أم بالتدرج المتوازن. وهل يشمل الاستنزاف جميع مسارح الحرب، أم يُبدأ بمسرح رئيسي، ثم يُنْتَقَلْ إلى المسارح الأخرى. كذلك، رُكِّز في بحث أولويات الأهداف، التي يشكل تدميرها مرارة للعدو من نوع خاص، والإجراءات العسـكرية التي تَضَّطرْ إلى إعلان التعبئة واستمرارها، إلى أقصى وقت ممكن، بالشكل الذي تؤثر فيه داخلياً.
وقد استقر التخطيط، على أن يبدأ تصاعد الاستنزاف بالتدريج. ويتطلب ذلك فترة انتقالية لمدة ستة شهور، يجرى خلالها تنشيط الجبهة بمعدلات مناسبة، مع اختبار ردود الأفعال، وتحليل النتائج بأسرع ما يمكن، والاستفادة من عوامل القوة، وتصحيح مواطن الخطأ. وقد اتُفق على أن تبدأ مرحلة "الدفاع النشط"، اعتبارا من أول سبتمبر عام 1968. وعند البحث في مجال مسارح الحرب اتفق، على أن يُبدأ بمسرح العمليات البري أولاً، حيث يوجد التفوق المصـري في القوات، خصوصاً في مجال المدفعية، التي ستشكل عنصر الردع في بداية الاستنزاف. ثُم ينتقل إلى المسرح البحري، وأخيرا مسرح القتال الجوي، وذلك حتى يُترك أكبر وقت ممكن لتدريب الطيارين الجدد، الذين أُلحقوا بالخدمة بعد 1967، واكتسابهم الخبرات التي تأهلهم لمواجهة طياري إسرائيل "المحترفين".
في الوقت نفسه، عكفت القيادات المختلفة، في سرية تامة، على اختيار الأهداف، وتصنيف كل هدف، وأسلوب تدميره (بالمدفعية ـ بالقوات ـ بالطيران ـ .. الخ). ووضع أسبقية تدمير الهدف. ورُفعت هذه الدراسات إلى القيادة العامة لكي تختار منها الأهداف، التي تحقق التأثير المناسب. في الوقت المناسب، وهكذا، لم يمض شهر أغسطس 1968، إلاّ وكانت الرؤية واضحة تماما أمام القيادة العامة للقوات المسلحة، لتنشيط الجبهة، طبقا لخطة مدروسة، وليس نتيجة لردود أفعال، كما كان يحدث في الماضي.
ثانياً: مرحلة الدفاع النشط (سبتمبر 1968 ـ فبراير 1969)
يُعَدّ يوم 8 سبتمبر 1968، نقطة تحول الرئيسية في تنشيط الجبهة. فكان هذا اليوم بداية مرحلة الدفاع النشط، التي أرادت مصر أن تبـدأها بقوة، تُعلن عن نفسها إقليميا وعالميا، وتصاب فيها القوات الإسرائيلية بأكبر قدر من الخسائر. وقد شملت أعمال قتال هذا اليوم، على قصفات مدفعية، مدبرة وتحت سترها تُدفع داوريات قتال على طول الجبهة. وقد خططت هذه القصفات مركزياً بحيث تشمل جميع الأهداف الإسرائيلية، شرقي القناة حتى عمق 20 كيلومتراً. وروعي أن تبدأ قبل آخر ضوء بفترة مناسبة، وتستمر إلى ما بعد آخر ضوء، وقد اشترك في هذه القصفات 38 كتيبة مدفعية، من مختلف الأعيرة، أطلقت نيرانها لمدة ثلاث ساعات، من الرابعة والنصف إلى السابعة والنصف مساءً، وشاركت جميع الأسلحة المضادة للدبابات، لتطلق نيرانها من الضفة الغربية للقناة، على الأهداف المعادية المرئية على الضفة الشرقية. واستهدفت هذه القصفات خط بارليف، الجاري إنشاءه في المقام الأول، ثم جميع مواقع الصـواريخ 216 مم، 240 مم التي يستخدمها الجانب الآخر في التأثير على مدن القناة، وجميع مواقع المدفعية، ومناطق الشؤون الإدارية، ومناطق تمركز الأفراد.
وقد شكلت هذه القصفات صدمة نفسية للجانب الآخر، حيث شعر لأول مرة أن السيطرة النيرانية قد آلت للقوات المسلحة المصرية. وتكبد العدو خسائر جسيمة، شملت تدمير 19 دبابة، وثمانية مواقع صواريخ، وعشرات الدشم، ومناطق الشؤون الإدارية، ومناطق التمركز. وأسكتت خلالها جميع مدفعيات العدو، التي قُدرت وقتها بسبعة عشر بطارية مدفعية. وقد اعترفت الكتب الإسرائيلية فيما بعد، أن خسـائرهم في الأفراد كانت 28 فرداً، بين قتيل وجريح (والحقيقة تخالف ذلك تماماً طبقاً لأسلوب إسرائيل في التهوين من خسائرها وعدم ذكر الحقائق، كنوع من الحرب النفسية).
أما الدوريات، التي دُفعت تحت ستر نيران المدفعية، فقد أدت مهامها بكفاءة. وزرعت ألغاماً على الطرق الرئيسية والفرعية، انفجر بعضها في الليلة نفسها، نتيجة للتحركات العشوائية للقوات الإسرائيلية، بعد انتهاء القصف المدفعي. ولم تجد القوات الإسرائيلية ـ التي خسرت معظم مدافعها في هذا القصف ـ إلا أن توجه نيران ما تبقى من هذه المدافع، ضد المدن على القناة لتصيب بعض الأفراد المدنيين، الموجودين في مدنهم.
أعقب قصف 8 سبتمبر فترة هدوء، نتيجة لتدخلات سياسية، استثمرتها القوات المصرية، في دفع مزيد من الدوريات، لوضع ألغام على الطرق الرئيسية شرق القناة. كما استغلتها في متابعة التغيرات، التي يحدثها الجانب الآخر في مواقـعه، حيث كان مهتما بإعادة بناء ما تهدم في 8 سبتمبر، ولكنه كان يُقابل بنيران الأسلحة صغيرة بصورة شبه مستديمة، مما أثر على كفاءة إنشاءاته.
وفي 26 أكتوبر تكررت قصفات المدفعية المركزة، ولكن بصورة أقل، حيث اشتركت فيها 23 كتيبة مدفعية، أطلقت نيرانها لمدة سبعين دقيقة. واستهدفت، بالدرجة الأولى، تدمير مواقع الصواريخ 216، 240مم بعد تحديدها بدقة، من خلال الدوريات، التي سبق دفعها، ومن خلال صور جوية حديثة. وتحت ستر هذه القصفات، دُفع العديد من الكـمائن لاصطياد الدبابات والمركبات، التي تحاول الهروب أثناء القصف. وقد نجح هذا القصف كذلك، وشكل للجانب الآخر صورة غير مألوفة من الإزعاج، نتيجة للخسائر التي تكبدها، والتي حددها ـ بعد ذلك ـ بأنها 49 فرداً بين قتيل وجريح علاوة على تدمير وحدات الصواريخ.
وطبقا للفكر الإسرائيلي، الذي تلقى خسائر ليست هينة على جبهة القناة، واقتنع بأن التفوق آل إلى المصريين في هذه المنطقة، فقد لجأ إلى توسيع الجبهة، وامتدادها إلى مناطق بعيدة للغاية، حتى يحقق هدفين: الأول، أن تضطر القيادة المصرية إلى نشر قواتها، على مواجهة ألف كيلومتراً، تمثل طول الحدود الشرقية المصرية بالكامل، ومن ثم، يتلاشى التفوق المصري على الجبهة. والثاني، وضع القيادة السياسية في مأزق، عندما يشعر الشعب أن إسرائيل اخترقت أعماقه، ودمرت أهدافاً حيوية، دون أن تتعرض لها القوات المسلحة المسؤولة أساساً عن تأمين هذا الشعب.
وقد اختارت إسرائيل هدفها في نجع حمادي، وفي محطة محولات كهرباء السد العالي بالتحديد، حتى يكون التأثير محسوساً لدى الشعب كله. وقد تمت هذه العملية ليلة 31 أكتوبر/1 نوفمبر 1968، من خلال عملية ليلية، أريد بها هدفاً سياسياً/اقتصادياً، وليس عسكرياً. واستُخدم فيها طائرات الهليوكوبتر (سوبر فريليون)، التي كانت إسرائيل قد حصلت عليها حديثاً. واُخْتِير أفراد القوة الإسرائيلية من المظليين، الذين يتكلمون العربية بطلاقه، حتى أعتقد أهالي المنطقة أنهم مصريون. ولذلك، لم يتعرضوا لهم في البداية، مما أدى إلى نجاح هذه العملية، التي كان تأثيرها ضعيفا، ولم تحقق الهدف السياسي الذي خططته إسرائيل. أما على الجانب السياسي ـ العسكري المصري، فكان لا بدّ من إعادة النظر في تأمين العمق المصري، حتى لا تلجأ إسرائيل لتكرار هذه العملية.
وفي الوقت نفسه، أعيد تقييم العمليات العسكرية، لتأخذ صورة أخرى أشد من قصفات المدفعية. وقد كان ذلك سبباً في تهدئة الأوضاع على الجبهة ـ إلا من الاشتباكات بالأسلحة الصغيرة، وإطلاق حرية قنص أفراد العدو، ومنعهم من التحرك بحرية على طول الجبهة ـ مع تكثيف دفع دوريات الاستطلاع، للحصول على أكبر قدر من المعلومات للمرحلة القادمة. أما في عمق الدولة، فقد نُفذ العديد من إجراءات التأمين، من خلال وحدات الدفاع الشعبي، على مستوياتها المختلفة.
وقد استغلت القوات الإسرائيلية هذه المرحلة، في تحسين موقفها الدفاعي، واستكمال تحصينات خط بارليف، الذي تابعته القوات المصرية جيدا، واكتشفت نقاط ضعفه، تمهيداً لتدميره في مراحل لاحقة.
ومـع تصاعد نشاط العمليات على الجبهة، قررت القيادة السياسية تهدئة الأوضاع في الداخـل، حتى لا تتضاعف أعباء الشعب، نتيجة للتعبئة النفسية. إضافة لما يعانيه من تحول الاقتصاد إلى اقتصاد حرب، الذي انعكس تأثيره على مستوى معيشة الفرد العادي. وحتى لا يتزايد قلق مئات الآلاف من الأسر، الذين يخدم أبناؤها في القوات المسلحة، لذلك، انفصلت تماماً إجراءات الاستعداد على الجبهة، وإجراءات تأمين الشعب في الداخل، عن التعبـئة النفسية للجماهير وإحساسهم بحالة الحرب. وتُرك ذلك للتقدير الشخصي لكل مواطن، طبقاً لدرجة ثقافته أو انتماءاته.
وقد شكل ذلك نوعا من التأثير النفسي على القوات المسلحة، وكان له مردود مباشر في أثناء زيارة الرئيس محمد أنور السادات إلى الجبهة، في أغسطس 1968 (وكان وقتها نائبا لرئيس الجمهورية) عندما وجه إليه أحد الضباط سؤالاً، بما معناه، أن هناك انفصاماً تاماً، بين حياة الشعب في الداخل والأوضاع على الجبهة، فلماذا لا نُعـلن التعبئة الشعبية، حتى يتعايش معنا الشعب، ويحس إحساسنا؟ وكان تعليق الرئيس السادات عليها "بأننا لو أعلنا التعبئة اليوم ولم نحارب غداً، فسيفقد الشعب ثقته فينا.. ولكن لكل إجراء وقته.. والقوات المسلحة هي حامية هذا الشعب، وعليها أن تتحمل المسؤولية، لأن كل فرد فيها يمثل أسرة وعليه أن يدافع عنها".
وقد أثبتت الحقائق فيما بعد، أن الشعب لم ينفصل عن قواته المسلحة، وأنه كان يتفاعل من الداخل. ودل على ذلك، أحداث شهر ديسمبر 1968، والتي وصلت مداها في القاهرة والإسكندرية تطالب باستعادة الأرض وتدمير العدو الذي يجثم على أرض سيناء. وربما تكون هذه الأحداث هي التي عجلت بقرار بداية مرحلة الردع التي أطلق عليها الاستنزاف فيما بعد.
ثالثاً: مرحلة الاستنزاف(شكل 6 ،7 ) (مرحلة العمل التعرضي ـ مارس 1969/ أغسطس 1970)
طبقاً للتخطيط المصري، كان شهر فبراير 1969 يمثل نهاية الشهور الستة المحددة، كمرحلة انتقالية بما كان يطلق عليه الدفاع النشط. وشهد مارس 1969 أهم مراحل التصعيد العسكري، ما بين الجولتين الثالثة والرابعة، في الصـراع العربي الإسرائيلي. وقد أديرت هذه المرحلة سياسيا، وعسكريا بتنسيق متكامل لتحقق الهدف منها، ولتتوازن في التصعيد والتهدئة.
وتحددت مهامها في تقييد حرية تحركات العدو، على الضفة الشرقية للقناة، وإرهاقه وإحداث أكبر خسائر به، وتدمير خط بارليف الدفاعي، مع إجراء تطعيم لأكبر عدد من وحدات القوات المسلحة للقتال من خلال معارك رئيسية، أو أعمال قتال حقيقية.
وكانت هـذه المرحلة، التي امتدت من يوم 8 مارس 1969 إلى 8 أغسطس 1970، طويلة وشاقة، وهي لا تقـل ـ في تقييمها عسكرياً ـ عن أي جولة من جولات الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بل تُعَدّ أطول جولة في تاريخ هذا الصراع. وقد جرت خلالها الأعمال القتالية بصورة مستمرة، ومعدلات أداء ناهزت 1 ـ 2 قصفة مدفعية يومياً، وصلت في بعض الأحيان إلى 4 ـ 5 قصفات، وصاحبتها أعمال قتالية أخرى. كما نُفذت تراشقات بالأسلحة الصغيرة، وأسلحة الضرب المباشر (دبابات وأسلحة مضادة للدبابات) بمعدل يصل إلى 10 ـ 20 اشتباكا يوميا. كذلك، كانت تُدفع يومياً ما بين 2 إلى 4 دوريات أو كمائن في قطاع كل تشكيل، ويتنفذ ما بين 1 إلى 2 عمل قتالي تعرضي بالقوات أسبوعياً، في قطاع كل جيش.
أعمال قتال القوات البرية، خلال حرب الاستنزاف (العمل التعرضي)
المرحلة الأولى من حرب الاستنزاف (8 مارس ـ 19 يوليه 1969)
بدأت المرحلة صباح 8 مارس 1969، وامتدت إلى 19 يوليه من العام نفسه، وتميزت بسيطرة مطلقة للقوات المصرية على خط الجبهة. وخلال هذه المرحلة، شُلَّ النظام الدفاعي للعدو. وكانت المدفعية هي الوسيلة الرئيسية للعمل خلالها، حيث صبت على حصون خط بارليف، والأهداف الأخرى، حوالي 40 ألف قذيفة، بادئة أعمالها يوم 8 مارس بأكبر حشد نيراني مؤثر، منذ توقفت نيران حرب يونيه 67.
واستمر هذا القصف ساعات متواصلة، اشتركت فيه 34 كتيبة مدفعية، يعاونها حشد من أسلحة الضرب المباشر (المدافع المضادة للدبابات، والدبابات الثقيلة عيار 122 مم) لتدمير مزاغل نيران دشم خط بارليف. وقد أحدث هذا القصف تأثيرا شديدا على الطرف الآخر، القابع شرق القناة، حتى وصل حجم الخسائر تدمير حوالي 29 دبابة، و30 دشمة في خط بارليف، وإسكات 20 بطارية مدفعية، وحرائق شديدة في ست مناطق إدارية، وغير ذلك من الخسائر.
وفي الساعة الثالثة والنصف من بعد ظهر يوم 9 مارس 1969، استشهد الفريق عبدالمنعم رياض، أثناء جولة له، ومعه مجموعة قيادته، في قطاع الجيش الثاني الميداني، في منطقة النقطة الرقم (6) بالإسماعيلية، وذلك عندما أطلق الجانب الإسرائيلي نيران مدفعيته، وإنفجار إحدى الدانات بالقرب منهم، حيث أصابتهم جميعاً واستشهد الفريق عبدالمنعم رياض أثناء إخلائه.
وقد كان لاستشهاد الفريق رياض وقعاً شديداً في جميع أرجاء مصر والعالم العربي وأبدى الشعب شعوره الحقيقي أثناء الجنازة وطالب بالانتقام، وتأصل في داخله روح الكبرياء القومي، ونادى بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها.
وكررت المدفعية المصرية القصفة النيرانية بصورة أشد يوم 9 أكتوبر، ونظراً لكثرة الخسائر التي تكبدها الجانب الإسرائيلي، فقد تم إحلال الوحدات التي تدافع عن خط بارليف، بوحدات مظلات احتياط لديهم الخبرة في مجابهة هذه القوات، التي قدر لها أن يستمر اشتعالها لفترة طويلة قادمة، كما ضاعفت حجم القوات التي تحتل الحصون لتصبح بقوة حوالي سرية مدعمة (من 70 إلى 100 فرد) لكل حصن، مع تجميع الأفراد ليلاً في النقطة القوية الرئيسية فقط لتأمينهم ضد إغارات قواتنا, ولم يكد يمر يومان حتى قصفت المدفعية المصرية رتلاً مكوناً من 13 عربة تحمل ذخائر للعدو، فأصابتها إصابات مباشرة، وتركت هذه العربات تنفجر لمدة يوم كامل، دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منها.
بدء الأعمال التعرضية
في 13 مارس 1969، وقع حدثان متضادان في وقت واحد وفي منطقة واحدة، حيث بدأت إغارات القوات المصرية لتدمير موقع للعدو، في منقطة جنوب البحيرات، نفذتها الكتيبة 33 صاعقة، ونجحت في مهمتها ودمرت الموقع، وخطفت أسيراً، وأصابت دبابتين، وغنمت عينات من أسلحة العدو وألغامه.
وفي الوقت نفسه، كانت القوات الإسرائيلية تحاول إنزال قوارب، والإغارة على منطقة قريبة في منطقة جنوب البحيرات أيضاً، حيث قوبلت بنيران شديدة من القوات المصرية، التي كانت على أعلى درجة الاستعداد لتأمين إغارتها. وبذلك أفشلت المحاولة، واستمرت الاشتباكات بالنيران طوال الليل.
ولم تجد القوات الإسرائيلية وسيلة للرد، سوى إعادة قصف مدن القناة. فقصفت قطار السكة الحديد في مساره بين الإسماعيلية والسويس (في منطقة الشلوفة). واستمرت القوات المصرية في تصعيد أعمالها القتالية. حتى كان يوم 17 إبريل 1969، حيث نفذت قوات الجيش الثاني "الخطة هدير"، بتوجيه مدافع الدبابات الثقيلة، إلى فتحات المراقبة والتسديد (المزاغل) لدشم خط بارليف لتخترقها. وتفجرت الدشم من الداخل، وقُتل الأفراد المتحصنين بها. وقد نجحت الخطة تماما، بما أدى إلى تطاير تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي، الجنرال موشى ديان، واعداً ومهددا القوات المصرية، التي لم تعبأ بتهديده، بل أعادت الإغارة على نقطة دفاعية قوية جنوب البلاح لتدمرها. وكان الرد الإسرائيلي متوقعاً، حيث أغار يوم 29 إبريل 1969 على محطة محولات نجع حمادي للمرة الثانية، وأسقط عبوات ناسفة زمنية قرب إدفو، أصابت بعض المدنيين الأبرياء. وكان الرد المصري مباشراً وسريعاً وفي الليلة التالية مباشرة، بالإغارة على نقطة جنوب البلاح للمرة الثانية ونسفها بالكامل.
ويُلاحظ هنا أن توقيت الإغارة المعادية على نجع حمادي، كان يقصد به هدفاً سياسياً ـ قبل إلقاء الرئيس عبدالناصر خطاب أول مايو في مناسبة عيد العمال ـ وخرجت جريدة "الجيروساليم بوست" الإسرائيلية تحمل تعليقاً ـ بأن إغارة الليلة السابقة كانت تستهدف الترويع أكثر مما استهدفت التدمير. وفي الوقت نفسه، حمل خطاب الرئيس عبدالناصر في عيد العمال "أن مصر لم تعد تعترف أو تتمسك بوقف إطلاق النار، الذي بدأ بعد حرب يونيه 1967، وصرح بأنه تم تدمير حوالي 60 % من خط بارليف بالنيران المصرية، وأن الجيش المصري انتقل، الآن، من مرحلة الدفاع النشط، إلى مرحلة التحرير، وأن حرب الاستنزاف الآن هي حرب ثأرية".
وفي أعقاب هذا الخطاب، تصاعدت خطة الاستنزاف، لمنع العدو من إعادة إنشاء خط بارليف، أو تعلية السواتر الترابية. وتكررت عمليات تدمير الدشم، بأسلوب الرمي المباشر من الدبابات والأسلحة المضادة للدبابات، وبدأ التوسع في أعمال القنص، وسُمح للمتطوعين المدنيين الاشتراك في قنص العدو على الجبهة، وتشجيعا لهم وضع "جدول حوافز القنص"، الذي يتدرج من المكافآت المادية، إلى حمل الأوسمة.
وكان لا بدّ من رد القوات المصرية على غارات العمق الإسرائيلية، فوقعت الإغارة على مستعمرة "سيدوم" جنوب إسرائيل يوم 19 مايو 1969، ووجهت لها نيران الصواريخ "الكاتيوشا"، التي أصابت مصنع كيماويات بالمستعمرة.
عــرض خـــرائط عمليات عسكرية لبطولات القوات المسلحة المصرية والبحرية المصرية وعملية من المخابرات العامة خلال حرب الأستنزاف
عــرض خـــرائط عمليات عسكرية لبطولات القوات المسلحة المصرية والبحرية المصرية
وعملية من المخابرات العامة خلال حرب الأستنزاف
http://www.geocities.com/yahia_al_sh...TION-WAR-1.htm
عــرض خـــرائط عمليات عسكرية لبطولات القوات المسلحة المصرية والبحرية المصرية
وعملية من المخابرات العامة خلال حرب الأستنزاف
http://www.geocities.com/yahia_al_sh...TION-WAR-1.htm
يحى الشاعر
خـــرائط مرحلة الاستنزاف(شكل 6 ،7 ) (مرحلة العمل التعرضي ـ مارس 1969/ أغسطس 1970)