فلسفة التّاريخ الإسلامي ومسارات التّأصيل والاغتراب
د. ماجد عرسان الكيلاني
القسم الأول
مـقـدمـــة:
الحمد لله الذي جعل التاريخ بعض آياته في الآفاق والأنفس فقال:
( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون* ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون* الله يبدئ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون* ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون* ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين* ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون* فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون* وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون ) الروم 9ـ16
وأصلي وأسلم على رسوله القوي الأمين، قائد الغر الميامين الذي أحكم شهود هذه السنن التاريخية واستخراج العبر التي تصوب تاريخ المسيرات البشرية وترشد الحضارات الإنسانية . وبعد؛
منذ زمن-غير قليل- وأصوات المخلصين من المختصين والدّارسين للتّاريخ الإسلامي تتداعى لكتابة هذا التّاريخ، لأنّه تاريخ لمّا يكتب بعد، وإنّ الكتب التي تملأ خزآئنه لا تمثّله, يستوي في ذلك ما كتبه المؤرخون القدامى من المسلمين أنفسهم، وما كتبه الآخرون خاصة المؤرخين من أوروبا وأمريكا الذين يكتبون هذا التّاريخ بروح عدائية هدفها تشويهه، وحقن النّاشئة به ليصبح معوقاً بدل أن يكون حافزاً، وأمّا مؤرخو المسلمين القدامى فإنّ منهاجهم في كتابة التاريخ كان متأثراً بالعصبيات التي كانت قائمة آنذاك.
وهذا البحث يضم صوته إلى هؤلاء وأولئك، فيقول: إنّ التّاريخ الإسلامي لم يكتب بعد لسببين هما:
الأول: إنّ الأسفار والمخطوطات المكدّسة في رفوف المكتبات تحت عنوان "التّاريخ الإسلامي" هي أكوام من الوقائع والحوادث التي حدثت خلال مسار هذا التاريخ دون منهاج ينتظمها، وتمّ تكديسها على الأوراق دون تصنيف أو تحييزها في حيّز معين دون أهداف توجهها.
والسبب الثّاني: إنّ كلّ بحث في التّاريخ الإسلامي لابدّ أن يسبقه وعي تام وإحاطة كاملة بفلسفة هذا التاريخ التي غذّت نشاطاته ووجّهت مسيرته وخططت استراتيجياته، وفقدان هذه الفلسفة فتح الباب- وما زال مفتوحاً – ليكتب هذا التّاريخ في مسارات الاغتراب، وفي ضوء فلسفات انتحلها ذووها من أهوائهم العرقية وانتماءاتهم العصبية، ولذاك جاءت هذه الكتابات غير علمية ولا موضوعية لأنّها خالفت أبسط قواعد التّاريخ ومناهج البحث التاريخي التي تشترط استنباط فلسفة تاريخ أي مجتمع من العقيدة التي قام عليها، وشكلت منجزاته، وغذّت تطبيقاته، ومنحتها سماتها المميّزة في ميادين النّشاط المختلفة، وهي "في الغالب" كتابات عمياء لا تبصر الحقائق الكونية التي تخبرنا أنّ سوابق العزائم لا تخرق أسوار السنن الإلهية التي توجّه وقائع التّاريخ وتحدد مساراته.
فلسفة التّاريخ الإسلامي ورسالة العالمية:
الأصل الذي تقوم عليه فلسفة التّاريخ الإسلامي: هي اعتماد الفتوحات الإسلامية على مبدأ إسلامي أصيل هو مبدأ التّكافل بين الأمّة والأمم، وخلاصة هذا المبدأ أنّ الأمّة المسلمة التي تحررت من جاهليتها على يد الرسول -صلى الله عليه وسلم- مسؤولة عن تحرير غيرها من الأمم، دون أن يكون لها خيار في الأمر، قال تعالى: ( وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) البقرة 143.
وأي تفريطٍ في هذه المهمة أو قصور نتيجته طرد الأمّة من رحمة الله، واستبدالها بغيرها، وإنزال أقسى صنوف العذاب بها في الدنيا والآخرة.
قال تعالى : ( يٰــأيها الذين امنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل،إن لا تنفروا يعذبكم عذاباً أليما ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيءٍ قدير ) التوبة من 37-38.
وقال صلى الله عليه وسلم: ( يا أيّها الناس إنّ الله يقول لكم: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أستجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم ) -ابن ماجه، وابن حبان-
ولقد أدرك السّلف الصّالح طبيعة هذا التّكليف الإلهي بعقولهم، وتعشقته أرواحهم، وأوقفوا عليه أنفسهم وأموالهم، فلم ينوا عن القيام به في أحلك ظروفهم وأصعب أحوالهم، وكذلك أدركوا جميعهم -من القائد حتى الجندي- أبعاد الأمر الذي انتدبوا له، فإذا سألهم سائل عن سبب خروجهم للجهاد كان جوابهم: ( الله ابتعثنا ليخرج ما شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام).
ولقد كانوا على نفس المستوى من الصّفات التي يتطلبها هذا العمل الجليل و التكليف الإلهي العظيم، فلم يكونوا خدمة جنس ولا رواد جاه أو مغنم، ولم يشرعوا من عند أنفسهم، وإنّما كانوا رسل رحمة يعلمون النّاس كتاب الله، يربونهم عليه ويطبّقونه على أنفسهم كما يطالبون به غيرهم.
وهذا الذي نقوله ليس استنتاج مؤرخ ولا تحليل كاتب وإنما هو عرضِ لمضمون شهادة منحهم إياها ربّ السّماوات والأرض مسطور فيها: ( كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) ( آل عمران -110 )
إذن: فقيام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتبليغ الدّعوة الإسلامية للعرب، وإعدادهم إعدادا إسلاميا لم يكن هدفه؛ بناء الأمّة العربية ثم إخراجها ليستبدل الناس حكم فارس والرومان بحكم عدنان وقحطان، وإنّما كان وسيلة لغاية وهي خروج العرب برسالة الإسلام وتطبيقها في حياة الناس، ولم يكن هذا الهدف مجرد شعار، وإنّما كان إستراتيجية تبنّاها الرسول- صلى الله عليه وسلم- والتزمها الخلفاء والقادة والمفاوضون الإسلاميون في كلّ المواقف، ومن ذلك وفود المفاوضين الّذين أرسلهم عليه السلام إلى حكام الدّول المعاصرة آنذاك، ومنها ما ورد على لسان "ربعي بن عامر" أحد المفاوضين الذين بعثهم "سعد بن أبي وقاص" قبل القادسية إلى "رستم"، فقد سأله رستم: "ما الذي جاء بكم"؟ فأجاب ربعي بن عامر:" الله ابعتثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ,ومن ضيق الدّنيا إلى سعة الدّنيا و الآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام" .
وتذكر المصادر الإسلامية مفاوضا آخر هو" المغيرة بن شعبة" الذي فصّل هذا الهدف وشدّد عليه حتى ضاق به رستم وأرسل يطلب مفاوضا غيره، فبعث له سعد وفدا أجرى مع رستم حديثا طويلا تخللته عروض مادية، وهبات عينية، تكفّل رستم بدفعها للجيش العربي الإسلامي، إلا أنّ جواب الوفد كان:" أتيناكم بأمر ربنا ،نجاهد في سبيله، وننفذ لأمره وننتجز موعوده ،وندعوكم إلى الإسلام وحكمه، فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا، وخلفنا فيكم كتاب الله، وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا بالجزية ، فان فعلتم وإلا فأنّ الله قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم، فاقبلوا نصيحتنا، فوا لله لإسلامكم أحبّ إلينا من غنائمكم". (الطبري ،تاريخ الرسل والملوك،( دار المعارف بمصر1962)، ج3/ ص 520-528).
والمناخ الأخلاقي الذي يشترطه الإسلام لأداء هذه الوظيفة الإنسانية يجرّد الطّليعة القائمة بهذا الواجب من كل انجاز، ويسد الباب أمام أيّة دعوى تدّعي لنفسها تحقيق النّصر أو استثماره للتعالي على أهل الأقطار المفتوحة، فإذا أنجزت الأمّة أيّ نصر عسكري للإسلام، وإذا فتحت الشعوب قلوبها لمبادئه وحضارته فإنّ الفضل في ذلك لله وحده، وعلى المسلمين الحذر من الفخر، وعليهم الاستغفار من كل فلتة لسان تدّعي ذلك، وعليهم ممارسة التواضع والتبري من كل حول،قال تعالى : ( إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان توابا ) سورة النصر.
ولقد رافق سموّ هذه الغاية دقّة في التّخطيط؛ فلم تكن فتوحات المسلمين عملية ساذجة بسيطة، وإنّما هي حركة إصلاح منظّمة تنظيمها من طبيعتها وطبيعة أهدافها، تسير وفق مراحل في غاية الحكمة والتنظيم.
واستنادا إلى هذه القواعد خرجت جيوش الفتح وبعوثه التربوية لتعيد تخطيط حياة الشعوب على أسس إسلامية خالصة، وطبقا لإستراتيجية مرحلية واضحة، وهي تتألف من أربع مراحل هي كالآتي:
استراتيجيات الفتح الإسلامي:
اعتمدت حركة الفتح الإسلامي في كل بلد وصلت إليه على إستراتيجية محددة راعت قوانين الاجتماع وطبائع الأمم والأفراد وأحوال البلدان المختلفة، وهذه الإستراتيجية تقسم إلى مراحل أربع هي :-
أولاً - مرحلة دعوة الحكام وقادة الشّعوب وزعماء الأمم للأخذ بمبادئ الإسلام وتزكية شعوبهم من الجاهليات:
وقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المرحلة بعد أن ثبت دعائم دولته الجديدة في جزيرة العرب، فتخلّص من دسائس اليهود في المدينة، وعقد صلح الحديبية مع قريش، وتفرّغ لتوسيع نطاق نشر الدعوة فأخذ (عليه السلام) منذ بداية السّنة السّادسة للهجرة في إرسال رسل من قبله إلى أمراء النّواحي وملوك الدول المعاصرة يعرض عليهم دعوة الإسلام، ويدعوهم لإخراج شعوبهم من حياة الجاهلية المظلمة إلى حياة إسلامية تقوم على أسس التّحرر الوجداني والمساواة الإنسانية والتّكافل الاجتماعي.
فبعث رسائل إلى حكام البحرين وعُمان وفارس والروم، والدّارس لهذه الرّسائل يتبيّن له طبيعة الد،عوة ومقاصدها؛ فهي لا تستهدف إذلال قادة ولا التّسلط على شعوب، فكل أمير أو حاكم يملك الاحتفاظ بمنصبه شريطة أن يستجيب لدعوة الله أو يسمح لدعاتها بحرية القول، ويكشف لنا طرفاً من ذلك ما جرى بين رسول الله وبين "المنذر ابن ساوى" أمير البحرين الذي كتب للرسول جواباً على دعوته: "أمّا بعد يا رسول الله فإنّي قرأتُ كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي يهود ومجوس فأحدث إليّ في ذلك أمرك".
فكتب إليه الرسول-صلى الله عليه وسلم-: ( بسم الله الرحمــن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى، سلام عليك، فإنّي أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله. أمّا بعد، فإنّي أذكرك الله عز وجل فإنّه من ينصح فإنّما ينصح لنفسه، وإنّه من يطع رسلي ويتّبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي, وإنّ رسلي قد أثنوا عليك خيراً, وإنّي قد شفعتك في قومك فأترك المسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنّك مهما تصلح فلن أعزلك عن عملك، ومن أقام يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية ).
وقد سار الخلفاء فيما بعد على هذه السنة وشروطهم الثلاثة التي اشتهرت في التّاريخ معروفة وهي: الإسلام أوالجزية أو القتال .
ثانياً - مرحلة الجهاد العسكري:
وغاية هذه المرحلة التّصدي لقوى البغي والعدوان التي تحارب الدعوة الإسلامية، وتقيم العوائق في طريقها وتتآمر على الإسلام والمسلمين، وذلك لإزالة الحواجز التي وقفت في طريق الدّعوة الإسلامية، وهي لازمة في حالة عدم فاعلية المرحلة الأولى، ولذلك كان لابدّ من التّصدي لمن يعادي الدعوة ويقف حاجزا في سبيلها وحاميا للشرك والفساد والظلم والاستعباد، ومن هذا المنطلق خرجت جيوش الفتح الإسلامي للقيام بهذه المهمّة الجليلة، وقاده أمثال:" خالد بن الوليد وسعد بن أبي الوقاص وأبي عبيدة بن الجراح وغيرهم"، ونازلت جيوشاُ محترفةُ كثيرة العدد وافرة العدّة في معارك فاصلة، من أمثال:" معركة اليرموك والقادسية ونهاوند وأجنادين" فحققت انتصارات باهرة لم يشاهد التّاريخ لها مثيلاً.
ثالثاً – مرحلة إخراج الشّعوب من الجاهليات وإعدادها إعدادا إسلامياً:
كان المسلمون إذا فتحوا بلدا سارعوا إلى تجفيف منابع الفساد، والانحراف السياسي، والظلم الاجتماعي والاقتصادي والديني وما شابه ذلك، ثمّ تأتي الخطوة التّالية في إقامة حواضر إسلامية، حيث تؤسس المساجد والمدارس وكلها كانت قواعد فكرية تعرف الناس بمبادئ الإسلام، ومراكز تدريبية تدربهم على العيش طبقا للنموذج الذي تطرحه قيم الحياة الإسلامية.
وقد كانت جيوش الفتح الإسلامي تتألف من قسمين: فرق الجهاد العسكري وعملها القضاء على الطبقات الحاكمة المتسلّطة، وفرق الجهاد التربوي وعملها في هذه المرحلة تطهير حياة الشّعب الجديد من القيم والعادات والتقاليد، وقادة هذه الجيوش من أمثال: "عبدا لله ابن مسعود وأبي موسى الأشعري في العراق، ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء في الشام، وعبد الله بن عمرو بن العاص في مصر".
وفي هذه المرحلة كانت الجيوش التربوية تعرّف النّاس بمبادئ الدّين الجديد، وتعمل على بناء حياتهم على خمس أسس تشكل المكونات الرئيسة للأمة المسلمة وهي:"الإيمان, والهجرة, والجهاد, وحمل الرسالة, والإيواء, والنصرة".(للوقوف على تفاصيل هذه الأسس الخمسة راجع كتاب -الأمة المسلمة-للمؤلف).
وبمقدار ما تتعمّق هذه العناصر الخمسة بمقدار ما يتجذّر الإسلام في حياة الناس, وأي نقص أو خلل في هذه العناصر فمعناه نقص في إعداد الشعب المسلم ونضوجه, ولقد كان في حسن إسلام الفاتحين، وفي صدق عملهم خير مساعدٍ على إقبال الجماهير على الدّين الجديد.
ولم تتم هذه المرحلة دون مضاعفات وتكاليف، إذ لم تكن إلا مواجهة طويلة بين رسالة الإسلام وبين الجاهليات السابقة في كل بلد وصل إليه الفتح الإسلامي، فقامت مواجهات تسلّحت بالاغتيال السياسي تارة، وبالفكر والعقيدة والثقافة تارة أخرى، وظهرت نحل وأحزاب رفعت لواء هذه المواجهة وتذرّعت بذرائع مختلفة، ولكن الحضارة العربية الإسلامية خرجت منتصرة من هذه المواجهات، وهضمت شعوبا وأمما تخلّت عن عقائدها وقيمها وأوضاعها السابقة، واستبدلت بها عقيدة الإسلام وقيمه ونظمه.
والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فنحن نقرأ في كتب التاريخ أنّ بروز الطابع الإسلامي ظهر واضحا في مصر عام 239 هـ، في حين أنّ الفتح العسكري حدث قبل ذلك بقرنين ونيف، وقلّ مثل ذلك في الشّام، والعراق، والمغرب، العربي، وفارس، وتركستان، وأفغانستان وغيرها، فجميعها كانت المسافة طويلة بين الانتصار العسكري والفتح الحضاري، ولذا لايمكننا القول: إنّ سعد بن أبي وقاص هو فاتح العراق، ولا عمرو بن العاص هو فاتح مصر، ولا غيرهما من القادة العسكريين فحسب، وإنّما الذين قاموا بالدّور الأكبر من الفتح في كل بلد دخله المد الإسلامي هم أولئك الذين قضوا على إلاوضاع الدينية والثقافية والاجتماعية السابقة، وأحلوا محلّها أوضاعا إسلامية جديدة.
ووقوفنا على طبيعة هذه المواجهة يفيد الباحثين في مجالات كثيرة؛ فهو يكشف عن العبء الذي حمله العرب المسلمون في سبيل رد الإنسانية إلى الفطرة الصحيحة والصراط القويم، ويجعلنا لا نستغرب حين تطالعنا بعض الظواهر السلبية خلال هذه المرحلة، فنظن أنّها تنال من الصورة المشرقة لهذا التاريخ أو نظنها دليلا – كما يحلوا للبعض أن يصور – بأن الإسلام لم يطبق إلا في عهود الراشدين ، ولقد واجه المد الإسلامي في الأقطار التي وصل إليها ركاما من الجاهليات المتباينة والأوضاع الشاذة، ولم يكن من المعقول أن يقضي عليها دفعة واحدة وإنّما دخل معها في معركة طويلة الأمد، معركة تفوق المعركة التي خاضها مع الجاهلية العربية في الجزيرة عشرات المرات، ومن هنا ليس غريبا أن يكون من آثار هذه الظواهر والمعارك اغتيال الخلفاء الراشدين الثلاثة: عمر وعثمان وعلي وأمثال هذه التضحيات الجسام، وإنّما المهم هو الانتصار على الأوضاع الشاذة وإقرار منهج الحضارة الإسلامية دون النيل من صفاء أصولها وهو ما حدث بالفعل.
رابعاً:- مرحلة نضوج الشعوب وإسهامها في نشر الإسلام وتحرير الشعوب التي تليها من الجاهليات:
حرصت الإستراتيجية الإسلامية على امتصاص العناصر الحيوية في كل شعب بعد أن يكتمل إعداده إعدادا إسلاميا -كما مر في المرحلة السابقة- كما حرصت على توزيع الأدوار، فقد أعدّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- عرب الجزيرة مقدار ثلاث وعشرين سنة يهذب نفوسهم ويحرر عقولهم ويدربهم على معاني القيادة الصالحة التي تبلغ رسالة الله حتى إذا نضجوا حملوا لواء الإصلاح العالمي ومضوا يجاهدون مقدار قرن من الزمان ويعملون على إعداد الشّعب في كلّ من العراق وفارس والشام ومصر، حتى إذ اكتمل إعداد هذه الشعوب في الأقطار المذكورة تسلمت الراية ودخلت ميدان العمل وساهمت في نشر الدعوة الإسلامية بين الشعوب التي تليها، ثم شاركت مشاركة فعالة في العلوم الإسلامية وتطبيقاتها الحضارية، وهكذا طوال عصور التاريخ الإسلامي .
عن رابطة أدباء الشام
يتبع