فلسفة التّاريخ الإسلامي ومسارات التأصيل والإغتراب/د.ماجد عرسان الكيلاني

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,781
التفاعل
17,898 114 0

فلسفة التّاريخ الإسلامي ومسارات التّأصيل والاغتراب

د. ماجد عرسان الكيلاني

القسم الأول


مـقـدمـــة:

الحمد لله الذي جعل التاريخ بعض آياته في الآفاق والأنفس فقال:
( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون* ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون* الله يبدئ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون* ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون* ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين* ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون* فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون* وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون ) الروم 9ـ16
وأصلي وأسلم على رسوله القوي الأمين، قائد الغر الميامين الذي أحكم شهود هذه السنن التاريخية واستخراج العبر التي تصوب تاريخ المسيرات البشرية وترشد الحضارات الإنسانية . وبعد؛
منذ زمن-غير قليل- وأصوات المخلصين من المختصين والدّارسين للتّاريخ الإسلامي تتداعى لكتابة هذا التّاريخ، لأنّه تاريخ لمّا يكتب بعد، وإنّ الكتب التي تملأ خزآئنه لا تمثّله, يستوي في ذلك ما كتبه المؤرخون القدامى من المسلمين أنفسهم، وما كتبه الآخرون خاصة المؤرخين من أوروبا وأمريكا الذين يكتبون هذا التّاريخ بروح عدائية هدفها تشويهه، وحقن النّاشئة به ليصبح معوقاً بدل أن يكون حافزاً، وأمّا مؤرخو المسلمين القدامى فإنّ منهاجهم في كتابة التاريخ كان متأثراً بالعصبيات التي كانت قائمة آنذاك.
وهذا البحث يضم صوته إلى هؤلاء وأولئك، فيقول: إنّ التّاريخ الإسلامي لم يكتب بعد لسببين هما:
الأول: إنّ الأسفار والمخطوطات المكدّسة في رفوف المكتبات تحت عنوان "التّاريخ الإسلامي" هي أكوام من الوقائع والحوادث التي حدثت خلال مسار هذا التاريخ دون منهاج ينتظمها، وتمّ تكديسها على الأوراق دون تصنيف أو تحييزها في حيّز معين دون أهداف توجهها.
والسبب الثّاني: إنّ كلّ بحث في التّاريخ الإسلامي لابدّ أن يسبقه وعي تام وإحاطة كاملة بفلسفة هذا التاريخ التي غذّت نشاطاته ووجّهت مسيرته وخططت استراتيجياته، وفقدان هذه الفلسفة فتح الباب- وما زال مفتوحاً – ليكتب هذا التّاريخ في مسارات الاغتراب، وفي ضوء فلسفات انتحلها ذووها من أهوائهم العرقية وانتماءاتهم العصبية، ولذاك جاءت هذه الكتابات غير علمية ولا موضوعية لأنّها خالفت أبسط قواعد التّاريخ ومناهج البحث التاريخي التي تشترط استنباط فلسفة تاريخ أي مجتمع من العقيدة التي قام عليها، وشكلت منجزاته، وغذّت تطبيقاته، ومنحتها سماتها المميّزة في ميادين النّشاط المختلفة، وهي "في الغالب" كتابات عمياء لا تبصر الحقائق الكونية التي تخبرنا أنّ سوابق العزائم لا تخرق أسوار السنن الإلهية التي توجّه وقائع التّاريخ وتحدد مساراته.

فلسفة التّاريخ الإسلامي ورسالة العالمية:

الأصل الذي تقوم عليه فلسفة التّاريخ الإسلامي: هي اعتماد الفتوحات الإسلامية على مبدأ إسلامي أصيل هو مبدأ التّكافل بين الأمّة والأمم، وخلاصة هذا المبدأ أنّ الأمّة المسلمة التي تحررت من جاهليتها على يد الرسول -صلى الله عليه وسلم- مسؤولة عن تحرير غيرها من الأمم، دون أن يكون لها خيار في الأمر، قال تعالى: ( وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) البقرة 143.
وأي تفريطٍ في هذه المهمة أو قصور نتيجته طرد الأمّة من رحمة الله، واستبدالها بغيرها، وإنزال أقسى صنوف العذاب بها في الدنيا والآخرة.
قال تعالى : ( يٰــأيها الذين امنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل،إن لا تنفروا يعذبكم عذاباً أليما ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيءٍ قدير ) التوبة من 37-38.
وقال صلى الله عليه وسلم: ( يا أيّها الناس إنّ الله يقول لكم: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أستجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم ) -ابن ماجه، وابن حبان-
ولقد أدرك السّلف الصّالح طبيعة هذا التّكليف الإلهي بعقولهم، وتعشقته أرواحهم، وأوقفوا عليه أنفسهم وأموالهم، فلم ينوا عن القيام به في أحلك ظروفهم وأصعب أحوالهم، وكذلك أدركوا جميعهم -من القائد حتى الجندي- أبعاد الأمر الذي انتدبوا له، فإذا سألهم سائل عن سبب خروجهم للجهاد كان جوابهم: ( الله ابتعثنا ليخرج ما شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام).
ولقد كانوا على نفس المستوى من الصّفات التي يتطلبها هذا العمل الجليل و التكليف الإلهي العظيم، فلم يكونوا خدمة جنس ولا رواد جاه أو مغنم، ولم يشرعوا من عند أنفسهم، وإنّما كانوا رسل رحمة يعلمون النّاس كتاب الله، يربونهم عليه ويطبّقونه على أنفسهم كما يطالبون به غيرهم.
وهذا الذي نقوله ليس استنتاج مؤرخ ولا تحليل كاتب وإنما هو عرضِ لمضمون شهادة منحهم إياها ربّ السّماوات والأرض مسطور فيها: ( كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) ( آل عمران -110 )
إذن: فقيام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتبليغ الدّعوة الإسلامية للعرب، وإعدادهم إعدادا إسلاميا لم يكن هدفه؛ بناء الأمّة العربية ثم إخراجها ليستبدل الناس حكم فارس والرومان بحكم عدنان وقحطان، وإنّما كان وسيلة لغاية وهي خروج العرب برسالة الإسلام وتطبيقها في حياة الناس، ولم يكن هذا الهدف مجرد شعار، وإنّما كان إستراتيجية تبنّاها الرسول- صلى الله عليه وسلم- والتزمها الخلفاء والقادة والمفاوضون الإسلاميون في كلّ المواقف، ومن ذلك وفود المفاوضين الّذين أرسلهم عليه السلام إلى حكام الدّول المعاصرة آنذاك، ومنها ما ورد على لسان "ربعي بن عامر" أحد المفاوضين الذين بعثهم "سعد بن أبي وقاص" قبل القادسية إلى "رستم"، فقد سأله رستم: "ما الذي جاء بكم"؟ فأجاب ربعي بن عامر:" الله ابعتثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ,ومن ضيق الدّنيا إلى سعة الدّنيا و الآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام" .
وتذكر المصادر الإسلامية مفاوضا آخر هو" المغيرة بن شعبة" الذي فصّل هذا الهدف وشدّد عليه حتى ضاق به رستم وأرسل يطلب مفاوضا غيره، فبعث له سعد وفدا أجرى مع رستم حديثا طويلا تخللته عروض مادية، وهبات عينية، تكفّل رستم بدفعها للجيش العربي الإسلامي، إلا أنّ جواب الوفد كان:" أتيناكم بأمر ربنا ،نجاهد في سبيله، وننفذ لأمره وننتجز موعوده ،وندعوكم إلى الإسلام وحكمه، فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا، وخلفنا فيكم كتاب الله، وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا بالجزية ، فان فعلتم وإلا فأنّ الله قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم، فاقبلوا نصيحتنا، فوا لله لإسلامكم أحبّ إلينا من غنائمكم". (الطبري ،تاريخ الرسل والملوك،( دار المعارف بمصر1962)، ج3/ ص 520-528).
والمناخ الأخلاقي الذي يشترطه الإسلام لأداء هذه الوظيفة الإنسانية يجرّد الطّليعة القائمة بهذا الواجب من كل انجاز، ويسد الباب أمام أيّة دعوى تدّعي لنفسها تحقيق النّصر أو استثماره للتعالي على أهل الأقطار المفتوحة، فإذا أنجزت الأمّة أيّ نصر عسكري للإسلام، وإذا فتحت الشعوب قلوبها لمبادئه وحضارته فإنّ الفضل في ذلك لله وحده، وعلى المسلمين الحذر من الفخر، وعليهم الاستغفار من كل فلتة لسان تدّعي ذلك، وعليهم ممارسة التواضع والتبري من كل حول،قال تعالى : ( إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان توابا ) سورة النصر.
ولقد رافق سموّ هذه الغاية دقّة في التّخطيط؛ فلم تكن فتوحات المسلمين عملية ساذجة بسيطة، وإنّما هي حركة إصلاح منظّمة تنظيمها من طبيعتها وطبيعة أهدافها، تسير وفق مراحل في غاية الحكمة والتنظيم.
واستنادا إلى هذه القواعد خرجت جيوش الفتح وبعوثه التربوية لتعيد تخطيط حياة الشعوب على أسس إسلامية خالصة، وطبقا لإستراتيجية مرحلية واضحة، وهي تتألف من أربع مراحل هي كالآتي:


استراتيجيات الفتح الإسلامي:


اعتمدت حركة الفتح الإسلامي في كل بلد وصلت إليه على إستراتيجية محددة راعت قوانين الاجتماع وطبائع الأمم والأفراد وأحوال البلدان المختلفة، وهذه الإستراتيجية تقسم إلى مراحل أربع هي :-


أولاً - مرحلة دعوة الحكام وقادة الشّعوب وزعماء الأمم للأخذ بمبادئ الإسلام وتزكية شعوبهم من الجاهليات:

وقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المرحلة بعد أن ثبت دعائم دولته الجديدة في جزيرة العرب، فتخلّص من دسائس اليهود في المدينة، وعقد صلح الحديبية مع قريش، وتفرّغ لتوسيع نطاق نشر الدعوة فأخذ (عليه السلام) منذ بداية السّنة السّادسة للهجرة في إرسال رسل من قبله إلى أمراء النّواحي وملوك الدول المعاصرة يعرض عليهم دعوة الإسلام، ويدعوهم لإخراج شعوبهم من حياة الجاهلية المظلمة إلى حياة إسلامية تقوم على أسس التّحرر الوجداني والمساواة الإنسانية والتّكافل الاجتماعي.
فبعث رسائل إلى حكام البحرين وعُمان وفارس والروم، والدّارس لهذه الرّسائل يتبيّن له طبيعة الد،عوة ومقاصدها؛ فهي لا تستهدف إذلال قادة ولا التّسلط على شعوب، فكل أمير أو حاكم يملك الاحتفاظ بمنصبه شريطة أن يستجيب لدعوة الله أو يسمح لدعاتها بحرية القول، ويكشف لنا طرفاً من ذلك ما جرى بين رسول الله وبين "المنذر ابن ساوى" أمير البحرين الذي كتب للرسول جواباً على دعوته: "أمّا بعد يا رسول الله فإنّي قرأتُ كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي يهود ومجوس فأحدث إليّ في ذلك أمرك".
فكتب إليه الرسول-صلى الله عليه وسلم-: ( بسم الله الرحمــن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى، سلام عليك، فإنّي أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله. أمّا بعد، فإنّي أذكرك الله عز وجل فإنّه من ينصح فإنّما ينصح لنفسه، وإنّه من يطع رسلي ويتّبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي, وإنّ رسلي قد أثنوا عليك خيراً, وإنّي قد شفعتك في قومك فأترك المسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنّك مهما تصلح فلن أعزلك عن عملك، ومن أقام يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية ).
وقد سار الخلفاء فيما بعد على هذه السنة وشروطهم الثلاثة التي اشتهرت في التّاريخ معروفة وهي: الإسلام أوالجزية أو القتال .

ثانياً - مرحلة الجهاد العسكري:

وغاية هذه المرحلة التّصدي لقوى البغي والعدوان التي تحارب الدعوة الإسلامية، وتقيم العوائق في طريقها وتتآمر على الإسلام والمسلمين، وذلك لإزالة الحواجز التي وقفت في طريق الدّعوة الإسلامية، وهي لازمة في حالة عدم فاعلية المرحلة الأولى، ولذلك كان لابدّ من التّصدي لمن يعادي الدعوة ويقف حاجزا في سبيلها وحاميا للشرك والفساد والظلم والاستعباد، ومن هذا المنطلق خرجت جيوش الفتح الإسلامي للقيام بهذه المهمّة الجليلة، وقاده أمثال:" خالد بن الوليد وسعد بن أبي الوقاص وأبي عبيدة بن الجراح وغيرهم"، ونازلت جيوشاُ محترفةُ كثيرة العدد وافرة العدّة في معارك فاصلة، من أمثال:" معركة اليرموك والقادسية ونهاوند وأجنادين" فحققت انتصارات باهرة لم يشاهد التّاريخ لها مثيلاً.


ثالثاً – مرحلة إخراج الشّعوب من الجاهليات وإعدادها إعدادا إسلامياً:

كان المسلمون إذا فتحوا بلدا سارعوا إلى تجفيف منابع الفساد، والانحراف السياسي، والظلم الاجتماعي والاقتصادي والديني وما شابه ذلك، ثمّ تأتي الخطوة التّالية في إقامة حواضر إسلامية، حيث تؤسس المساجد والمدارس وكلها كانت قواعد فكرية تعرف الناس بمبادئ الإسلام، ومراكز تدريبية تدربهم على العيش طبقا للنموذج الذي تطرحه قيم الحياة الإسلامية.
وقد كانت جيوش الفتح الإسلامي تتألف من قسمين: فرق الجهاد العسكري وعملها القضاء على الطبقات الحاكمة المتسلّطة، وفرق الجهاد التربوي وعملها في هذه المرحلة تطهير حياة الشّعب الجديد من القيم والعادات والتقاليد، وقادة هذه الجيوش من أمثال: "عبدا لله ابن مسعود وأبي موسى الأشعري في العراق، ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء في الشام، وعبد الله بن عمرو بن العاص في مصر".
وفي هذه المرحلة كانت الجيوش التربوية تعرّف النّاس بمبادئ الدّين الجديد، وتعمل على بناء حياتهم على خمس أسس تشكل المكونات الرئيسة للأمة المسلمة وهي:"الإيمان, والهجرة, والجهاد, وحمل الرسالة, والإيواء, والنصرة".(للوقوف على تفاصيل هذه الأسس الخمسة راجع كتاب -الأمة المسلمة-للمؤلف).
وبمقدار ما تتعمّق هذه العناصر الخمسة بمقدار ما يتجذّر الإسلام في حياة الناس, وأي نقص أو خلل في هذه العناصر فمعناه نقص في إعداد الشعب المسلم ونضوجه, ولقد كان في حسن إسلام الفاتحين، وفي صدق عملهم خير مساعدٍ على إقبال الجماهير على الدّين الجديد.
ولم تتم هذه المرحلة دون مضاعفات وتكاليف، إذ لم تكن إلا مواجهة طويلة بين رسالة الإسلام وبين الجاهليات السابقة في كل بلد وصل إليه الفتح الإسلامي، فقامت مواجهات تسلّحت بالاغتيال السياسي تارة، وبالفكر والعقيدة والثقافة تارة أخرى، وظهرت نحل وأحزاب رفعت لواء هذه المواجهة وتذرّعت بذرائع مختلفة، ولكن الحضارة العربية الإسلامية خرجت منتصرة من هذه المواجهات، وهضمت شعوبا وأمما تخلّت عن عقائدها وقيمها وأوضاعها السابقة، واستبدلت بها عقيدة الإسلام وقيمه ونظمه.
والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فنحن نقرأ في كتب التاريخ أنّ بروز الطابع الإسلامي ظهر واضحا في مصر عام 239 هـ، في حين أنّ الفتح العسكري حدث قبل ذلك بقرنين ونيف، وقلّ مثل ذلك في الشّام، والعراق، والمغرب، العربي، وفارس، وتركستان، وأفغانستان وغيرها، فجميعها كانت المسافة طويلة بين الانتصار العسكري والفتح الحضاري، ولذا لايمكننا القول: إنّ سعد بن أبي وقاص هو فاتح العراق، ولا عمرو بن العاص هو فاتح مصر، ولا غيرهما من القادة العسكريين فحسب، وإنّما الذين قاموا بالدّور الأكبر من الفتح في كل بلد دخله المد الإسلامي هم أولئك الذين قضوا على إلاوضاع الدينية والثقافية والاجتماعية السابقة، وأحلوا محلّها أوضاعا إسلامية جديدة.
ووقوفنا على طبيعة هذه المواجهة يفيد الباحثين في مجالات كثيرة؛ فهو يكشف عن العبء الذي حمله العرب المسلمون في سبيل رد الإنسانية إلى الفطرة الصحيحة والصراط القويم، ويجعلنا لا نستغرب حين تطالعنا بعض الظواهر السلبية خلال هذه المرحلة، فنظن أنّها تنال من الصورة المشرقة لهذا التاريخ أو نظنها دليلا – كما يحلوا للبعض أن يصور – بأن الإسلام لم يطبق إلا في عهود الراشدين ، ولقد واجه المد الإسلامي في الأقطار التي وصل إليها ركاما من الجاهليات المتباينة والأوضاع الشاذة، ولم يكن من المعقول أن يقضي عليها دفعة واحدة وإنّما دخل معها في معركة طويلة الأمد، معركة تفوق المعركة التي خاضها مع الجاهلية العربية في الجزيرة عشرات المرات، ومن هنا ليس غريبا أن يكون من آثار هذه الظواهر والمعارك اغتيال الخلفاء الراشدين الثلاثة: عمر وعثمان وعلي وأمثال هذه التضحيات الجسام، وإنّما المهم هو الانتصار على الأوضاع الشاذة وإقرار منهج الحضارة الإسلامية دون النيل من صفاء أصولها وهو ما حدث بالفعل.

رابعاً:- مرحلة نضوج الشعوب وإسهامها في نشر الإسلام وتحرير الشعوب التي تليها من الجاهليات:

حرصت الإستراتيجية الإسلامية على امتصاص العناصر الحيوية في كل شعب بعد أن يكتمل إعداده إعدادا إسلاميا -كما مر في المرحلة السابقة- كما حرصت على توزيع الأدوار، فقد أعدّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- عرب الجزيرة مقدار ثلاث وعشرين سنة يهذب نفوسهم ويحرر عقولهم ويدربهم على معاني القيادة الصالحة التي تبلغ رسالة الله حتى إذا نضجوا حملوا لواء الإصلاح العالمي ومضوا يجاهدون مقدار قرن من الزمان ويعملون على إعداد الشّعب في كلّ من العراق وفارس والشام ومصر، حتى إذ اكتمل إعداد هذه الشعوب في الأقطار المذكورة تسلمت الراية ودخلت ميدان العمل وساهمت في نشر الدعوة الإسلامية بين الشعوب التي تليها، ثم شاركت مشاركة فعالة في العلوم الإسلامية وتطبيقاتها الحضارية، وهكذا طوال عصور التاريخ الإسلامي .


عن رابطة أدباء الشام


يتبع

 
رد: فلسفة التّاريخ الإسلامي ومسارات التأصيل والإغتراب/د.ماجد عرسان الكيلاني


القسم الثاني والأخير

آثار إستراتيجية الفتوحات الإسلامية:

والواقع إنّه يصعب تقدير الحكمة التي اتصف بها هذا المخطط, فبالإضافة إلى إنّه يمدّ الرّسالة الإسلامية بعناصر حيوية متجددة, فانه يلائم الطبيعة الجغرافية للأقطار التي دخلها الفتح الإسلامي، فالعرب سكان صحارى وقطاعات سهلية حملوا الدّعوة حتى مشارف القطاعات الجبلية والبحرية حيث توقفوا وسلموا الراية للشعوب المسلمة في فارس وإفريقيا بعد نضوجها، ولذلك لم تقف هذه العوائق الطّبيعية أمام هذه العناصر الجديدة لأنّها ألفتها واعتادت عليها .
والمخطط المذكور يلائم الناحية البشرية، كذلك لأنّ طبيعة الحوار بين الشعوب والأمم يجعل بينها من العلاقات البشرية والتجارية والثقافية، وأحيانا يقيم جسورا للاتصال والتّفاهم، الأمر الذي يسهل عملية التفاعل الفكري والاجتماعي .
وهو مخطط يلائم الإستراتيجية العسكرية فحين يقوم شعب بقيادة الفتح الإسلامي إلى منطقة مجاورة، فإنّ قواعده العسكرية والتّموينية تكون قريبة ومأمونة الاتصال، كما تحاط هذه المراكز والقواعد بالمشاركة الوجدانية والتعبئة العامة التي تحيل الشعب جميعه إلى جيوش عسكرية وجيوش تربوية لا ينضب لها معين.
والخروج على هذا المخطط ساهم في فشل المد الإسلامي في المناطق التي شاهدت هذا الخروج، ومن ذلك ما حدث في الأندلس، فقد اندفعت الجيوش العربية الإسلامية فيما وراء البرانس، ولكنّها لم تستطع اختراقها لأنّها لم تالف مثل هذه التضاريس وأثارت أوروبا للتحفز واليقظة في الوقت الذي أهملت فيه إعداد الشعب الاسباني إعدادا إسلاميا، واشتغلت بعدها بالآداب والشعر والموشحات وانشغلوا بشهوات الدنيا وزخرفها، فلقد كان الواجب على قادة المد الإسلامي في الأندلس أن يتوقفوا فيها ليركزوا جهودهم لإعداد الشعب الإسباني إعدادا إسلاميا حتى إذا نضج حمل الراية واندّفع في قلب أوروبا، ولو تمّ ذلك لتغيّر وجه التّاريخ .
ووقوفنا على طبيعة هده المرحلة يجعلنا قادرين على تفسير عدة أمور تتعلق بالتّاريخ الإسلامي:
الأمرالأول: لماذا انفرد العرب المسلمون بقيادة الفتح الإسلامي والإدارة الإسلامية زمن الراشدين والأمويين؟ وذلك لأن العرب المسلمين كانوا هم النّاضجون في مجال الإعداد الإسلامي دون غيرهم، ومن الغريب أنّ كثيرا من المؤرخين أساءوا فهم هذه الظاهرة، فنسبوا إلى القيادة الأموية تهمة التّعصب للعرب دون غيرهم مستندين إلى ما قامت به القيادة من تعريب للدواوين والإدارة واللغة والقيادة وغيرذلك، والواقع أنّ هذا الرأي يتجاهل -أو هو لا يعرف- الإستراتيجية الإسلامية، ذلك لأنّ القيادة الأموية لم تعرّب القيادة والإدارة، وإنّما هو أمر انحدر إليها من القيادة الراشدة وله أسبابه العقائدية، وأمّا اللغة العربية فهي إنجاز إسلامي بالدرجة الأولى، والإسلام هو الذي رفعها لتصبح لغة بعد أن كانت لهجة من اللهجات المنتشرة في الجزيرة، وبدونها لن تستطيع الشّعوب التي دخلت ضمن نطاق المد الإسلامي أن تتصل بمصادر الدّين الجديد وخاصة القرآن الكريم صانع اللغة العربية، ولذلك كان تعريب الدّواوين واللغة أمرا يأتي في صلب الإستراتيجية الإسلامية .
والأمر الثاني: وهو ارتباط مخطط المد الإسلامي بمدى توفير المناخ الأخلاقي وهيمنة الرّوح الإسلامية على الفاتحين، ذلك إن مراحله -وخاصة مرحلة العمل على إخراج الشعوب من الجاهليات- تقتضي تجرّد العناصر الفاتحة من رؤية الذات، والإخلاص للمبادئ الإسلامية، وإلا فقدت حركة الفتح الإسلامي ميزاتها التي تفردت بها بين حركات المد العسكرية أو الحضارية التي شاهدها التاريخ، وأصبح تقبّل الشعوب الجديدة للعقيدة الإسلامية أمرا صعبا للغاية، وهو الأمر الذي أهمل في الأندلس حيث شغل الفاتحون بالتمتع بخيرات البلاد المفتوحة ومشوا المطيطاء وخدمهم أبناء الروم - كما يقرر الحديث النبوي- فضرب الله قلوبهم بعضها ببعض وظلّت تنال منهم العصبيات القبلية والعرقية، وظلّوا عناصر غريبة في المجتمع الجديد لم يتذوقهم ولم يهضمهم أهل هذه البلاد إلى أن تمّ إخراجهم نهائيا .

والأمر الثالث: إنّ المد الإسلامي ارتبط ارتباطا كبيرا بحيوية البعوث التّربوية، وبقائها ناضجة محيطة بمهام رسالتها، محتفظة بمكانتها؛ حيث الفكر يوجّه السّياسة، فالعصور الإسلامية التي شاهدت قيادات فكرية ناضجة محتفظة بمكانتها، والبلاد التي دخلتها بعوث إسلامية ناضجة العناصر رسخت خلالها وفيها الصبغة الإسلامية، وطبعت بطابع جديد في العقيدة والاجتماع، وودّعت ماضيها الجّاهلي إلى غير رجعة أو ضعفت علاقتها بالماضي ضعفا شديدا، بل إنّ البلاد التي لم يدخلها سوى البعوث الإسلامية مثل شرق آسيا ووسط أفريقيا رسخ بها الإسلام وضمها داخل إطاره.
والأمر الرابع: إنّ تعاقب الشّعوب الإسلامية في عمليات التّربية الإسلامية والإعداد الإسلامي والنّضوج وحمل الرسالة، قد أمدّ حركة الفتوحات الإسلامية على الدّوام بعناصر بشرية متجددة الحيوية والطاقات، وأتاح لكل من هذه الشعوب الإسلامية أن تتساوى في بناء الحضارة الإسلامية وشرف حمل الرسالة.
فالعرب المسلمون قد حملوا الرّسالة ابتداءً من عهد الرسول –صلى الله عليه وسلم- حتّى النّصف الأول من القرن الثاني الهجري، وعندما نضبت جهودهم خلفهم الإيرانيون المسلمون وكانوا قد نضجوا إسلاميا فتسلّموا القيادة العسكرية والعلمية والثقافية, ثم خلفهم الأتراك المسلمون من السلاجقة، ثم خلفهم التّركمان والأكراد الذين أنجبوا قيادات عسكرية وعلمية من أمثال: "نور الدين، وصلاح الدين، وابن الصلاح، وابن تيمية، وابن الذهبي"، ثم خلفهم العثمانيون، وجميع هذه الشعوب أسهمت في حمل الرسالة وشاركت في بناء الحضارة الإسلامية كل حسب طاقاته وإمكاناته.
وفي العصر الحاضر-عصر اغتراب المسلمين وانتقاص الذات الإسلامية- يعمل المكر الأوروبي والأمريكي على تقويض هذه الأخوّة الحضارية بين الشعوب الإسلامية بصورة انقلابات وفتن مذهبية أو عنصرية، ويريدونها أدوات لتدمير طاقات المسلمين وتفتيت شعوبهم بحجة أنّها أقطار تهدد بعضها بعضا.
والتأكيد على التكامل بين الشعوب لا يعني أن التاريخ الإسلامي كان معصوما من الأخطاء مبرأً من الانحرافات وإنما يعني أن التاريخ الإسلامي كان يتصف في هذا المجال بصفات ثلاث هي:
الصفة الأولى: إنّ اقتراف السّوء والفواحش لم تصل فيه الجرأة إلى الدرجة الذي يلبس الحق بالباطل لاختراع مبررات للمعاصي الحضارية، كما هو في الحضارة المعاصرة.
الصفة الثانية: إنّه كان لدى هذا التّاريخ المعيار الذي يقيس به درجة انحراف الإفراد والجماعات عن (المثل الأعلى) الذي تقدمه له العقيدة الإسلامية.
الصفة الثالثة: إنّ التّاريخ الإسلامي كان يعترف بأخطائه فيراجعها ويمارس الإصلاح والتجديد للتوبة منها.
والصفة الرابعة: إنّه ما من حضارة مرت على وجه الأرض اعتنت بالتربية والتعليم كما اعتنى المسلمون بها، حتى يمكن القول بأنّ الحضارة الإسلامية هي (حضارة تربية الإنسان والارتقاء به) .

الانحراف من المد الإسلامي إلى الركود:

ممّا يؤسف أنّ المد الإسلامي لم يستمر بنفس الاندفاع على الأرض، وإنّما أخذ الركود ينتابه منذ النّصف الثّاني من القرن الثّاني الهجري.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو: متى بدأ خط الانحراف من المد الإسلامي إلى الركود؟ وما السبب في هذا النحراف؟
يجيب البعض - ومنهم ابن تيمية- :أنّ نقطة الانحراف في مسيرة التّاريخ الإسلامي بدأت في القرن الأول الهجري، عند التّحول من فكرة الشورى إلى فكرة الملك العضوض، ولكن آثار هذا الانحراف تأخرت لتبرز بعد ذلك بقرون بسبب صلابة الروح الإسلامية في المجتمع الإسلامي، والاستمرار في حمل الرسالة الإسلامية إلى الشعوب الأخرى.
ومع احترامنا لهذا الرأي وتقدير أثر الإسلام في صلابة المجتمعات الإسلامية، إلا أنّنا نقول: "إنّ التّحول في المسيرة التّاريخية بدأ باختفاء نموذج الحاكم المسلم الذي يسميه القرآن (الرباني)، وذلك عند قوله تعالى: ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبأس ما كانوا يصنعون ) (المائدة 63) ،قال ابن عباس وآخرون: "إن الرباني هو: الحاكم الذي يجمع في شخصه مؤهلات العالم مع مؤهلات السلطان"(راجع تفاصيل معنى الرباني على الصفحات 406-407 من كتاب مناهج التربية الإسلامية للمؤلف), وهذا نموذج من الحكام تخرّج فقط في مدرسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجسّده الخلفاء الرّاشدون.
ولم تنجب التّربية الإسلامية فقهاً تربوياً يخرّج هذا النوع من الحكام، وإنّما صارت تنجب أشخاصاً اضطرب فيهم التوازن بين مؤهلات العالم ومؤهلات الحاكم، وصارت تنجب إمّا شخصاً طغت فيه مؤهلات العالم على مؤهلات السّلطان أو العكس، وهذه حالةٌ أدركها ابن تيمية عندما قال: "إذا انفرد السلطان عن الدين أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس" (الفتاوى، ج28 ص394, 395)، ولقد كان لهذا العجز في تطور النّظرية التّربوية الإسلامية عدة مضاعفات منها:
1ـ صار الحاكم ملكاً وليس خليفة وإن تسمى باسم الخليفة. وهذه صفة خلفاء ما بعد الراشدين الذين احتّلوا مركز القوّة وجرد منها العالم الذي صار يدور في فلك الحاكم السياسي، وهذه كانت نقطة الانشقاق في حياة الحاكم ورجحان الدنيا في حياته على الآخرة.
2ـ صار الفكر يدور في فلك (السياسة) وليس العكس الآمر الذي اضعف من انطلاقة الفتح الإسلامي في البلاد المفتوحة وحل الرّكود محل المد الإسلامي، ولم تنجح المحاولات التي أرادت تصحيح هذا الانحراف بأساليب بعضها ثورية، كما فعل" الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير"، وبعضها احتجاجات كلامية كما حدث في سلوك "سعيد بن جبير مع الحجاج الثقفي، وسفيان الثوري مع أبي جعفر المنصور".
ثم مضت مسيرة التّاريخ الإسلامي عبر القرون الثالث والرابع والخامس، فترسخ دوران الفكر التربوي الإسلامي في فلك السياسة، فانقطع الفكر الإسلامي عن القرآن والسنّة، فاختفى الاجتهاد وتمّ ترويض العلماء، وظهر التفكير التبريري بدل النّقد الذاتي، وممن مثَل هذا الاتّجاه" الماوردي في كتابه" الأحكام السلطانية"، والخطيب البغدادي، وأبو حامد الغزالي الذي نفر من هذا الأسر الفكري، وانسحب انسحابه المشهور لمراجعة أفكاره واتجاهاته، ثم عاد ليطلق حركة الإصلاح والتجديد التي أنجبت جيل صلاح الدين وأعادت القدس.

جمود المد الإسلامي:

ثم مضت مسيرة التّاريخ الإسلامي، وزاد الانفراج بين ضلعي زاوية الانحراف، وانفرد الساسة والحكام السلاطين في صنع التاريخ، فجعلوا من فقهاء الإسلام مجرد فقهاء للسلطان، فكان من مضاعفات ذلك أن رسخ ركود المجتمع الحضاري وبدأ جموده. وممن جسد هذا المسار "الزرنوجي" الذي خلط الحقيقة بالخرافة في كتابه "تعليم المتعلم"، ومثله "ابن جماعة" الذي حكم بسجن "ابن تيمية" في البئر مدة سنتين حتّى أخرج منه ميتاً .
والجمود حالة سكون اجتماعي توقفت فيه الحضارة الإسلامية عن الاجتهاد واقتصروا على اجترار ماضي الآباء، وفترة الرّكود مرض حضاري لا تستمر طويلا، فأمّا أن تستأنف مسيرة الإصلاح والتجديد فتشفى الأمة، وإمّا أن يدلف إلى حالة الموت ويبدأ بالانحسار، وهذا ما حصل في التّاريخ الإسلامي حيث بدأ المد الإسلامي بالانحسار الذي ظهر واضحا في القرن الثامن الهجري حين انتقلت قيادة الأمّة الإسلامية إلى سلاطين المماليك وأمرائهم .
والمماليك عناصر عسكرية كانت بداية أمرهم حين جلبهم التّجار المسلمون إلى أسواق الشام والعراق ومصر وباعوهم للعمل للخدمة في البيوت، وكان المماليك اللذين يبلغون الخامسة والعشرون من العمر يمنحهم سادتهم الحرية ليلتحقوا بالجيش الإسلامي، حتّى أصبحوا غالبية عناصره زمن الأيوبيين، وحين انقضى عهد الأيوبيين تسلّم المماليك القيادة في العالم الإسلامي، وكان من آثار ذلك أن استحكم الجمود في المجتمعات الإسلامية، ولم تنفع معه محاولات ابن تيمية والعز بن عبد السلام في الإصلاح والتجديد.
وهكذا يتضح أنّ صحة الفتوحات الإسلامية وعافيتها تتحقق حين يقودها خلفاء ربانيون راشدون، وحين تضمّ جيوش الفتح الإسلامي قيادات تربوية واعية بأهداف الفتح، أما البّلاد التي لم يدخلها بعوث تربوية إسلامية فقد ظلّت رواسب الجاهليات قائمة فيها تنتظر الفرصة للنمو والانتعاش، ويمثل هذه الحالة ما حدث في شرق أوروبا والبلقان.
فالعثمانيون الذين قدّر لهم أن يتسلموا قيادات الإسلام قبل مرحلة النّضوج الإسلامي كانوا عناصر عسكرية لم يقدروا قيمة البعوث التربوية في فتوحاتهم، ولذا لم يكن تخطيطهم أصيلا لإعداد شعوب شرق أوروبا إعدادا إسلاميا، سوى ما كان من تأثر بعض الجيوب في شرق أوروبا في الحياة الإسلامية عامة، ولذلك عندما نضبت جهود العثمانيين لم يخلفهم شعب ناضج في قيادة الحركة الإسلامية فسقط العثمانيون وبقيّ مكانهم فارغا مما مهد لعودة الغزو الأوروبي وامتداده مرة ثانية على بقاع كثيرة من العالم .
هذه هي مضاعفات عجز التربية الإسلامية عن إخراج نموذج الخليفة الربّاني الذي وجّه إليّه القرآن الكريم وتخرج من مدرسة النبوة, ووصّى به قادة البعوث التّربوية من الصحابة- رضوان الله عليهم-.
هذه هي مضاعفات التّحول في تاريخ الإسلام ومساره- من المد إلى الركود ومن الركود إلى الجمود- الأمر الذي أدّى إلى توقف الفتوحات الإسلامية واتخاذها طابع الدفاع، وأدّى إلى جمود الحياة العقلية وفساد الحياة الاجتماعية وقيام الفتن والاضطرابات التي ظلت تعمل عملها وتوجّه قابلية الهزائم أمام الأخطار الخارجية، مثل الخطرين الكبيرين:" الخطر الصليبي في الغرب، والخطر المغولي في الشرق".

حركات التجديد والإصلاح في التاريخ الإسلامي:

ولكن المجتمع الإسلامي لم يكن ليذعن في مسار الجمود، ويستسلم لعوامل الضعف ومظاهر الانحطاط -السالفة الذكر-, ولم يكن لينهار أمام الهجمات الخارجية بسبب ما كان يتردد خلال تاريخه الطويل من حركات في التّجديد والإصلاح.
ويعتمد التّجديد والإصلاح في تاريخ الإسلام على قاعدة معينة وهي: أن الإسلام يقوم على عقائد شاملة، وحقائق خالدة، توفّر له من الحيوية والمرونة ما يجعله صالحا لمعالجة التطورات في العصور المتتالية، ولقد كان لهذه الخاصية أثر كبير في صلابة المجتمع الإسلامي أمام الأخطار والمشكلات العديدة التي واجهها مند فجر الرسالة.
والحركات التي مثلت هذا التّجديد والإصلاح عديدة متناثرة خلال فترات التّاريخ الإسلامي وهي متوازية مع مظاهر الضعف التي استدعتها، ومن أمثلتها في عصور المد الإسلامي:
دور الحسن البصري في التجديد الاجتماعي، ودور عمر بن عبد العزيز في التجديد والإصلاح السياسي، ودور أبو الحسن الأشعري في التجديد والإصلاح العقائدي.
أمّا في عصور الرّكود والتّخلف، فقد تمثل التجديد و الإصلاح بحركات لعبت دورا بارزا في دفع التّحديات الخارجية، ولعل أوضح مثل لذلك حركتي التجديد والإصلاح خلال فترتي الحروب الصليبية والغزو المغولي:
ونبدأ بالحركة الأولى التي اعتادت المؤلفات الحديثة التي عالجت الحروب الصليبية أن تروي هزائم الجيل المسلم الذي عاصر بداية الحملات الصليبية، ثم نقفز مدة نصف قرن من الزمان لنتحدث عن حركة الجهاد التي قادها كل من نور الدين وصلاح الدين والتي انتهت بتحرير البلاد وتطهير المقدسات.
والسؤال الذي نطرحه في هذا المجال: ما الذي حدث خلال مدة نصف القرن الممتدة بين هزيمة المسلمين أمام طلائع الحملات الصّليبية وبين ظهور عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين ؟ وهل كانت حركتهم جهودا فردية ابتدعوها أم كانت ثمرة مقدّمات سبقتها، وتجديد وإصلاح شمل المجتمع فغيّر ما بأنفس القوم من قيم وتصورات وتقاليد وعادات فغير الله ما بهم من ضعف وتخلف بما أجرى على أيديهم من إنجازات.
والمصادر التّاريخية التي أرّخت للأحدث تبيّن بوضوح أنّ كل من "عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين" لم يكن سوى طليعة جيل أخرجته حركة تجديد وإصلاح عملت في مجتمع شاعت فيه قبل ذلك عوامل الاضطراب السياسي والفكري والاجتماعي، وكان طابع الإنسان فيه- كما وصفه المؤرخ أبو شامة- كالجاهلية همة أحدهم بطنه وفرجه لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، ولقد زار" ابن جبير" بلاد الشام والعراق ومصر آنذاك، ووصف ما أسماه بالجهات المشرقية فذكر:" أنّهم أهل أهواء وبدع وفرق ضالة وشيع إلا من عصم الله من أهلها". (ابن جبير,الرحلة،بيروت،دار صادر،ص55-56).
وأولو الفضل من الأدباء والمؤرخين والشعراء والكتّاب الذين عاصروا هزائم المسلمين أمام الصليبيين يجأرون بالشكوى من تبلد ذلك الجيل أمام الاعتداءات الإفرنجية على مقدسات الإسلام وأعراض المسلمين وممتلكاتهم، كما ذكر" سبط ابن الجوزي وابن كثير وابن تغري بردي وغيرهم" .
وفي هذه الظروف برزت حركتان إسلاميتان:
الأولى: مدرسة ابن حامد الغزالي الذي قام بدور رائد الإصلاح والتجديد آنذاك في بعث الروح في المجتمع الإسلامي آنذاك، وفي محاضنها التّربوية نشأ البيت الزنكي وتربّى عماد الدّين وابنه نور الدّين .
والجماعة الثانية: هي المدرسة القادرية التي أسسها الشيخ عبد القادر الكيلاني، والتي ركزت على نصرة العامة والفقراء من جهة، وعلى التّعليم من جهة أخرى، وخصّت أبناء الهاربين أمام الغزو الصليبي بصفاتها،فكانت تحضر من أسمتهم (بأبناء المقادسة) وتعلّمهم وتعدّهم إعدادا إسلاميا ثم يعيدهم إلى مناطق المواجهة، ثمّ كان المنعطف التّاريخي عام 545هـ، بعد فتح نور الدين لدمشق حيث بدأ التّحالف بينه وبين القادرية، فتعاون معه دعاتها وخريجو المدرسة القادرية في التعليم والتوجيه، وعلى يد أحد دعاتها المسمى "علي بن إبراهيم بن نجا الواعظ" كان التّحول في شخصية صلاح الدين عام 564هـ، وكان قبل ذلك شابا مولعا بركوب الخيل، ولعب الكرة، وبشرب الخمر. (ابن شداد، المحاسن اليوسفية، سيرة صلاح الدين،ص40).
ولقد ترتّب على هذا الالتقاء بين نور الدين والقادرية أن توحدت جهود المسلمين بكافة مذاهبهم ومدارسهم, فوجّه هذا التّجمع اهتمامه نحو مصر وبث الدعاة فيها وعلى رأسهم "ابن نجا"، حتى إذ خرجت حملة أسد الدين وصلاح الدين كان الرأي العام المصري قد تهيأ لاستقبالها تماما، ولقد ظلت الحركتان ترعيان حركة التجديد، وتسهمان مع نور الدين وصلاح الدين في جميع الميادين العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. (ماجد عرسان الكيلاني نشأة القادرية:رسالة ماجستير مقدمة لقسم التاريخ بالجامعة الأميركية ببيروت).
غير أنّ هناك فارق أساسي بين تجربة المسلمين مع الصليبين وتجربتهم مع الغزو المغولي، رغم الضجيج التاريخي الذي أحاط بالأولى ومنحها احتراما أكثر من الثانية؛ فقد كان تغلّب المسلمين على الصليبين لا يعدو عن كونه نصرا عسكريا في جولة محددة لم يصحبها فتح فكري، وإنّما انسحب الصليبيون إلى بلادهم وأعادوا تنظيم صفوفهم، ثم أعادوا الكرة في الأندلس وشمال أفريقيا وجنوب الجزيرة وبلاد الشام وتركيا والهند خلال القرون الخمسة التالية.
أمّا تجربة المسلمين مع المغول فقد بدأت بانتصار عسكري في جالوت ثم تبعه فتح تربوي، فأدخلهم في الإسلام أفواجا أفواجا، ثم جعل منهم قوة أقامت دولة للإسلام في قارة الهند ظلت قائمة حتى قضى عليها الاستعمار البريطاني .
وهناك فارق مميّز بين حركات التّجديد والإصلاح في عصور المد الإسلامي وبين مثيلاتها في عصور الركود والتخلف، وهو أنّ الحركات التّجديدية الأخيرة وإن منحت المجتمع الإسلامي قسطا من العافية التي مكنته من دفع الأخطار التي داهمته من الخارج، إلا أنّها لم تحدث فيه التّغيير الذي يِؤهله لانطلاق حضاري يعيده إلى مرتبة القيادة الإنسانية، كما أنّها لم تخرج أي شعب مسلم الإخراج الذي يواصله إلى مكانة التوجيه العالمي، ولقد كان المطلوب منها أن تغيّر سلّم الأفكار والتعاليم التي اضطربت في عصور الركود والتخلف، وأولى حلقات هذا السلّم أن يصبح (الفكر موجها للسياسة) بدل الاختلال الذي أصاب المجتمع الإسلامي حين تعدت السياسة على الفكر وصارت توجهه.
ولقد حاول ابن تيميه أن يمارس هذا الدّور وأن يعمّقه في حياة المسلمين وهو محتوى السّلفية التي دعا إليها، وما كان تصرفه في دمشق والقاهرة وعين جالوت إلا انطلاقا من هذا الدور الذي جاهد في سبيله، ولكن صلابة الرأي الفكري والقيمي الذي عمّ الحياة الفكرية من حوله كان أقوى من جهوده فاصطدم نتيجة لذلك بالعلماء والحكام سواء،وأثار حنقهم حتى سجنوه في البئر سنتين لم يخرج منه إلإ بعد أن توفّاه الله .

عصر الاغتراب وانتقاص الذات

ولم تخرج الحركات الإسلامية المعاصرة وتلك التي تلت ابن تيميه عن هذا الإطار، لأنّها لم تنجح في بلورة الأساليب والوسائل التي تمكنها من تصحيح القاعدة الفكرية التي تحدد العلاقة بين الفكر والسياسة ويصبح الفكر مواجها للسياسية، وهي وإن كانت تحسّ بضرورة هذا التّصحيح، إلا أنّه بقي مجرد إحساس يحتاج إلى أن يتطور إلى مرتبة الوعي الذي يسهم في تحديد الوسائل والأساليب وينظم العلاقة بين الفكر والسياسية، ويحسن الوصول إلى الهدف.
ثمّ كانت الصّدمة النّفسية الكبرى التي فاجأت الأمّة المسلمة، حينما دوّت مدافع نابليون في سماء مصر، وظنّ النّاس أنّ اسرافيل قد نفخ في الصور لينذر بقيام الساعة، كما يقول عبد الرحمن الجبرتي مؤرخ تلك الفترة:" فهرع المؤذنون يدعون الناس إلى التّوبة، ثمّ تلا أصوات المدافع الفرنسية منشورات نابليون التي طبعت بالمطبعة الحديثة، فازدادت دهشة النّاس وأصيبت القيادات المصرية بصدمة نفسية قوضت مرحلة الجمود الحضاري إلى مرحلة الاغتراب وانتقاص الذات.
ولقد كان سلوك محمد علي حاكم مصر آنذاك تعبيراً واضحاً عن هذه الصدمة، إذ لم يكد الأسطول الفرنسي يغادر الشواطئ المصرية حتّى الحق محمد علي به أول أفواج البعثات العلمية والعسكرية، لتصاب بالصدمة نفسها بمن فيهم "إمام البعثة الشيخ رفاعة الطهطاوي، ومثله الدكتور طه حسين، وقاسم أمين وآخرون"، فعادوا إلى مصر ليؤلّفوا الكتب التي تجعل من فرنسا وأوروبا المثل الأعلى في التربية والثقافة والحضارة، ونادوا بانسلاخ مصر من العالم العربي والانضمام لثّقافة حوض البحر المتوسط .
واستمرّ سيل الدّارسين من الأقطار العربية والإسلامية إلى أوروبا وأمريكا، وأدرك الغرب فائدة هذه البعوث الطّلابية إلى معاهد خاصةً بالمعاهد العسكرية، فشجّعها بالمنح الدّراسية التي تختار أذكياء الطلبة ثم تتعهدهم بالرّعاية التّربوية لتحيلهم إلى مجرد وكلاء للصادرات الأوروبية والأمريكية، حيث يشيعون أسوأ ما فيها في ميادين التّربية والثّقافة والسّياسة والعسكرية والاجتماع والاقتصاد إلى غير ذلك من الظواهر التي جذرت طورالاغتراب وانتقاص الذات.
واستمرت- الصدمات النفسية- ليقابلها العربي والمسلم المعاصر بمزيد من التّنكر للأصول وجلد الذات كلّما واجه تحدياً من التحديات، وتوالت ردود الأفعال المدمّرة للانتماء والهوية.
ومثالها الصّدمة التي حدثت في تركيا وكانت نتيجتها أن ألغى أتاتورك وعصبته الخلافة العثمانية وانسلخ من الإسلام، وصدمةٌ ثانية عاصرتها في بلاد الشام والعراق، حيث تسبّب القوميون العرب من أعضاء الجمعية العربية الفتاة بتقسيم بلاد الشام والعراق، وفتحوا أبواب فلسطين للخطر الصهيوني، وصدمة ثالثة...وصدمة رابعة...وصدمة خامسة... وما زال العربي والمسلم المعاصر يتخذ من نموذج الأوروبي والأمريكي مرايا يزنوا بها أفعالهم وممارساتهم .

ملاحظات عامة:

إنّ آفة العقل العربي والعقل الإسلامي المعاصر تكمن في فساد أشكال التفكير عنده لا الفكر، وإنّ أزمته هي أنّه حينما يواجه التّحديات يقابلها بالارتجال لا بتفكير "وأعدوا لهم ما استطعم"، وبالتّفكير التّبريري لا بالنّقد الذاتي، وبالظّن والهوى لا بالتّفكير العلمي، حتّى إذا فشل في مواجهتها عمد إلى جلد الذّات وانتقاصها تارة، وتارة مقارنتها بين سلبياتها وإيجابيات غيره.
وأمام هذا الواقع الشّاذ فإنّ هذا البحث يقترح بأن تبدأ حركات الصلاح والتجديد في ميدان التربية والبحث التربوي بغية الكشف عن تكوين الإنسان المسلم ومحددات سلوكه والأسلوب الذي يتفاعلون به مع العوالم المحيطة به، لتكون من ثمار هذا البحث رسوخ الدّراسات الإسلامية وبناء نظريات تربوية إسلامية لها نظمها ومؤسساتها وممارساتها وأصولها الاجتماعية والتّاريخية، ثم تحليلها ودراستها ليميّز منها الطّيب الذي أنجب عصور المد الإسلامي وازدهار الحضارة الإسلامية من الخبيث الذي أفرز عهود الرّكود والجمود والانحسار الإسلامي حتى أوصل الشعوب الإسلامية إلى هذا الاغتراب وانتقاص الذات الذي لوثت حياته الخاصة والعامة.
فإذا قامت حركات الإصلاح والتّجديد بتشخيص هذا الاغتراب وتزّكت منه، ثمّ مضت في بناء النّظرية التّربوية الإسلامية، وترجمتها إلى مؤسسات ونظم يتزاوج فيها العقول المبصرة والإرادات النّبيلة المسترشدة بآيات الكتاب، فسوف تحكم تغيير ما بأنفس الشعوب العربية والإسلامية من سوء الجمود والآبائية والاغتراب وانتقاص الذات وتستحق أن يغير الله سبحانه ما بها من أحوال أسيفة. وبذلك يتحقق لها الأصالة في الانتماء، والمعاصرة في العيش.

عن رابطة أدباء الشام
 
عودة
أعلى