الـمـوقف الـعــربي وحــرب الأستنزاف ...!!!

يحي الشاعر

كبير المؤرخين العسكريين
عضو مميز
إنضم
2 فبراير 2008
المشاركات
1,560
التفاعل
98 0 0
الـمـوقف الـعــربي وحــرب الأستنزاف ...!!!

أساءت حرب يونيه 1967 إلى الجانب العربي، فخيم اليأس عليهم لاكتشافهم عجزهم العسكري في تلك الحرب. واتضح لهم أهمية وضرورة توحيد جهودهم والعودة إلى العمل الجماعي، وكانت نقطة البداية هي تحديد أهداف النضال في المرحلة التالية، والتي تتمثل في تنقية الخلافات العربية واتخاذ الخطوات لدعم الإعداد العسكري من أجل إزالة آثار عدوان يونيه 1967. وكانت البداية في مؤتمر الخرطوم حيث تلخصت قرارات المؤتمر في:

إزالة آثار العدوان.
إعادة الحقوق المشروعة لشعب فلسطين، وإنشاء دولة له على أرضه.

اتخاذ أسلوب الحل السياسي للتفاوض، إلى حين استكمال المقومات الأساسية لتحرير الأرض.

حقق المؤتمر نجاحاً لم يكن متوقعاً. فقد تم فيه الوصول إلى صيغة تضع نهاية لحرب اليمن، وبدلاً من أن توقف الدول العربية إمدادات البترول إلى الغرب استجابة للغة "استخدام سلاح البترول"، اتفق على أن تقدم الدول المنتجة للبترول دعماً للدول التي تعرضت للعدوان.

والواقع أن العديد من الدول العربية قد تأثرت أوضاعها الاقتصادية بعد الحرب، حيث امتدت إلى اليمن الجنوبي، بسبب توقف الملاحة في قناة السويس، وإلى الأردن حيث خسرت مناطقها الإنتاجية بالضفة الغربية، وإلى مصر بسبب فقدها لموارد سيناء ومنها البترول وتوقف دخل قناة السويس والسياحة، هذا بالإضافة إلى تزايد حجم الهجرات الفلسطينية.

كما أدت الحرب إلى تقليص العمق الاستراتيجي العربي، في الوقت الذي هيأت فيه لإسرائيل أفضل موقف دفاعي. وعلى الرغم مما لحق بالعالم العربي من خسائر مادية وعسكرية واقتصادية وسياسية، إلاّ أنه أصبح هناك اقتناع عربي برفض نتائج حرب يونيه 1967، وأن المواجهة العسكرية أمر ضروري من أجل تحرير الأرض.

ولم يكن الوضع العربي من الداخل، مستقراً في تلك المرحلة، بل كان يموج في درجات متعددة من الغليان. ففي العراق، قامت ثورة البعث في "تموز" يوليه 1968، لتطيح بالجمهورية العارفية، وتتولى فيه قيادة جديدة لها أهدافها ومفاهيمها وعلاقاتها المختلفة عن سابقتها.

وفي السودان، قامت ثورة الجيش بقيادة الفريق جعفر نميري، لتطيح بنظام الحكم في السودان وتتولى السلطة، في 25 مايو 1969.

وفي ليبيا، كانت ثورة الفاتح من سبتمبر 1969، لتطيح بالنظام الملكي، وتنشأ حكم ثوري على الحدود الغربية لمصر، يؤدي إلى قلب الأوضاع في المنطقة، ويزيل القواعد الأجنبية التي طالما هددت الاتجاه الاستراتيجي الغربي لمصر.

كما تم تنظيم العلاقات بين منظمة التحرير الفلسطينية، والحكومة اللبنانية، من خلال اتفاقية القاهرة التي وقعت في نوفمبر 1969.

ومع نهاية عام 1969، كانت هناك ضرورة لعقد قمة عربية لبحث الدعم العربي الشامل للمعركة، وقد تقرر عقد المؤتمر في الرباط يوم 20 ديسمبر 1969، وقد سبقه اجتماع مجلس الدفاع العربي في القاهرة في 10 نوفمبر 1969، بهدف الاتفاق على خطة عمل موحدة لمواجهة إسرائيل:

وقد تم إعداد تقرير مصري شامل، وخطة عمل تنظيمية، يبينان الحد الأدنى للقوات الميدانية المطلوبة من جميع الدول العربية، على جبهتين، الأولى، شرقية تضم قوات من جميع الدول العربية شرق البحر الأحمر وقناة السويس. وجبهة غربية تضم قوات من جميع الدول غرب هذا الخط. وقد عرضت هذه الخطة على مؤتمر القمة العربي في الرباط كأساس للحد الأدنى المطلوب من القوات الميدانية في الجبهتين.

وتقدمت وفود عدة بمقترحات مختلفة وطالت المناقشات، حتى أن المؤتمر عجز عن التوفيق بين هذه المقترحات، وكان فشل مؤتمر الرباط قد قضى على فكرة توحيد الجيوش العربية من أجل المعركة.

وتصحيحا لهذا الفشل، ومن أجل توحيد الفكر والعمل العربي، عقدت قمة مصغرة في ليبيا، بين مصر وليبيا والسودان، في 23 ديسمبر 1969، وكانت هذه هي الزيارة الأولى للرئيس عبدالناصر لليبيا بعد الثورة.

وفي الفترة من 21 إلى 23 يونيه 1970، اُحتفل في ليبيا باستعادة قاعدة هويلس الأمريكية، وتحويلها إلى قاعدة "عقبة بن نافع"، في احتفال عربي كبير. واجتمعت قيادات مصر وسورية والجزائر والسودان والأردن والعراق وليبيا. وأعلن قيام اتحاد فيدرالي بين ليبيا ومصر وسورية، التي وَقعت الاتفاقية، من دون اتخاذ أي إجراءات تنفيذية لها. وهكذا كان التنسيق العربي ظاهرياً فقط، تستغله إسرائيل في جذب مزيد من الدعم، ولكن تبقى كل دولة عربية وحيدة في المعركة.


الموقف المصري

أثرت حرب يونيه 1967 على مصر وعلى زعامتها ودورها في المنطقة، كما تأثرت أوضاعها الاقتصادية بشكل كبير. وتوقفت عملية التنمية خاصة بعد توجيه الجزء الأكبر من إيراداتها من أجل إعداد الدولة للدفاع ومنها بناء القوات المسلحة. وبدأت تبرز مشاكل التضخم، وعجز الميزان التجاري، وتزايد حجم الديون الخارجية.

وبدأت مصر تعتمد كلية على الاتحاد السوفيتي، من أجل إعادة بناء قواتها المسلحة، ومن ثم تزايد النفوذ السوفيتي في مصر. كما أبرزت الأوضاع الإستراتيجية العسكرية الجديدة، مع وجود القوات الإسرائيلية على الضفة الشرقية للقناة، العديد من المصاعب أمام المخطط العسكري المصري. فعبور قناة السويس بحجم كبير من القوات والأسلحة والمعدات، تُعَدّ أمراً في غاية الصعوبة، مع وجود ساتر ترابي يبلغ ارتفاعه عشرات الأمتار، يحول دون الرؤية المباشرة للأوضاع الدفاعية الإسرائيلية في سيناء. كذلك، فإن إعادة بناء القوات المسلحة ليس أمراً سهلاً، خاصة وأن أولى ركائز هذا البناء هو إعادة الثقة للمقاتل المصري، ورفع معنوياته؛ حتى يكون قادراً على مواجهة قتال الجندي الإسرائيلي.

كذلك، كان لابد من إعادة الثقة التي اهتزت بين الشعب وقواته المسلحة، باعتبار أن الشعب المصري يمثل حائط الصمود لها. كذلك، كان لا بدّ من الإسراع في بناء خط دفاعي على الضفة الغربية للقناة، يصبح ركيزة أساسية للدفاع عن مصر، ثم الانطلاق منه نحو تحرير الأرض. وفي الوقت نفسه، كان لا بدّ من مواجهة الصلف الإسرائيلي وعدم تمكين العدو من أن يتحقق له استقرار دائم على الأراضي التي احتلها. لذا، برزت فكرة تنشيط الجبهة، واستنزاف قواه، المادية والعسكرية والمعنوية، بتدمير معداته وإلحاق أكبر قدر من الخسائر البشرية به، حتى يدفع دفع ثمن استمرار احتلاله للأراضي.

ومع حلول شهر نوفمبر 1967، كانت الأوضاع العسكرية أكثر استقراراً، إذ أنجز الجزء الأكبر من إعادة بناء القوات والدفاع، كما بدأ الاقتصاد في التماسك والثبات، استعداداً لمقاومة طويلة، وأصبح الوقت مناسباً للتفكير بجدية في بدء قتال فعلي على جبهة القناة.

وفي تلك الأثناء، كان البحث عن حلٍّ سلمي هو الذي يحتل صدر كل حديث، على الرغم من أن جمال عبدالناصر أكد للملك حسين في 13 يناير 1968: "أنه فقد الأمل في مهمة جونار ياريخ"، وكانت وجهة نظره بوجه عام، "أنه إذا أمكن التوصل بطريقة ما إلى الحل السلمي، فسيكون ذلك أمراً طيباً بطبيعة الحال، وأن علينا أن نركز على إقناع الرأي العام العالمي بنوايانا الطيبة، وهو ما أبدت إسرائيل دائماً اهتماماً كبيراً به في حين أننا أهملناه، ودفعنا ثمن الإهمال". وكان يرى "أن النقطة الرئيسية من استمرار المفاوضات، هي إقناع الروس بأنه ليس هناك حل سلمي، والعمل على إشراكهم في المشكلة أكثر وأكثر، حتى يقتنعوا باستحالة الحل الدبلوماسي".

كان هناك سبب آخر وراء عدم وقوف عبدالناصر ضد الاتصالات الدبلوماسية مع جميع الأطراف، فقد كان يرى فيها عاملاً مساعداً لكسب الوقت، إذ إن الاستعداد لتحرير الأرض سيحتاج على الأقل إلى ثلاث سنوات.

وفي بداية عام 1968، كان عبدالناصر يركز تركيزاً تاماً في السياسة على ثلاثة جوانب، "القوات المسلحة، والعلاقات المصرية ـ السوفيتية، والعلاقات العربية".

كان عبدالناصر يشعر أن العالم العربي يعيش في حالة تمزق، منذ حرب يونيه 67، ومن ثَمّ كان لابد من التحرك على المستوى العربي، من أجل توحيد المواقف ورسم السياسات المشتركة، وإحداث طفرة كبيرة في التعاون والارتبـاط الوثيـق بالدول العربيـة جميعها، فالصراع العربي الإسرائيلي لا يجوز أن تكون مصر هي الطرف الوحيد فيه، ولا دول المواجهة فقط، إذ يجب أن يشترك جميع الدول العربية كل حسب قدرتها اشتراكاً مباشراً في هذا الصراع.


تبلورت الإستراتيجية المصرية، في تلك المرحلة، في خمس نقاط، هي:

الصمود العسكري، بهدف منع إسرائيل من استغلال نجاحها العسكري، ثم التحول إلى مرحلة أخرى من الدفاع النشط، عندما يسمح الموقف بذلك.

الاتجاه إلى الوسائل السياسية والدبلوماسية، في مرحلة الصمود، طالما أنها تسعى إلى انسحاب إسرائيل عن الأراضي العربية، التي استولت عليها في يونيه 1967، وتحقق أهداف الشعب الفلسطيني، وفي الوقت نفسه، إقناع العالم بصفة عامة والاتحاد السوفيتي بصفة خاصــة، أننا لا نريد الحرب من أجل الحرب، وإنما لإستعادة الأراضي المغتصبة.

إن استرداد الأرض لا يتم إلاّ بالقوة مثلما أُخذ بالقوة. والقوة تحتاج إلى سلاح متطور حديث، وإلى تنظيم وتدريب جيد ومتواصل.

إن الجبهة الداخلية في مصر يجب أن تحمي ظهر القوات المسلحة، وتقدم الدعم المادي والمساندة المعنوية لها، من خلال تعبئة هذه الجبهة في شتى المجالات، من أجل معركة تحرير الأرض وإزالة آثار العدوان.
إن تحقيق وحدة التضامن العربي وحشد الطاقات العربية ضد العدو المشترك هو أمر يؤكده واقع التاريخ والمصير المشترك، ومن ثم تعبئة الشعوب العربية وإمكانياتها لمصلحة المعركة، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.


المتغيرات على المستوى العسكري

كانت القوات المسلحة المصرية والعربية في أعقاب إيقاف إطلاق نيران حرب 67 ينطبق عليها مقولة السياسي الإنجليزي الفذ "ونستون تشرشل" والتي صرح بها في أعقاب اجتياح جيوش النازي لدول أوروبا في بداية الحرب العالمية الثانية.. "إننا نمثل في هذه الأوقات القوقعة التي فقدت صدفتها، وأصبحت حساسة، ولابد لنا أن ننزوي، ولابد لنا أن ننكمش، ولابد لنا أن نصمد، حتى نربي الصدفة كما تفعل القواقع التي تفقد صدفتها، أو تفقد درعها…".

فالحقيقة المجردة كانت تظهر حقيقة الجيش المصري وجيوش دول المواجهة بعد انسحابها إلى مسارح عمليات جديدة ليس بها أي تجهيزات، يقف في أركانها جنود شاردون فقدوا أسلحتهم وعلى مرمى حجر من جيش إسرائيلي منتصر، لا تعرف نواياه بالتحديد.

وأصدرت القيادة العسكرية توجيهات، قبل أن ينصرم شهر يونيه 1967 تحدد فيها "إن مرحلة إعادة التنظيم بنيت على أساس عزيمة وإيمان المقاتل في جيشنا وقدراته على القتال، معتمداً على الضبط والربط والأخلاق، والروح القتالية تمهيداً لإعادة سيناء بالكامل.. ومن أجل هذا الوطن العزيز علينا جميعاً.. فلن يسمح بارتداد أي فرد أو أي معدة من خطوطناً الدفاعية الحالية ولن يصدر من القائد العام أو أي قائد أمراً بالارتداد.. وأن نموت جميعاً في مواقعنا الدفاعية أشرف لنا من وصمنا بالعار، ووصمة الشرف العسكري الذي نتحلى به.." وكان هذا الأمر تصحيحاً للعرف السائد منذ عام 56 "بارتداد الجيش، على أن تتولى السياسة تصحيح الأوضاع".

وقد سارعت القوات المسلحة على امتداد الجبهة بتنظيم الدفاعات بما تيسر لها من إمكانيات، لا تزيد عن مائة دبابة، ومائة وخمسين مدفعاً يوم 10 يونيه 67، أخذت في التزايد من خلال المساعدات من الدول العربية والصديقة، التي سارعت بإرسال أسلحة ومعدات إلى جانب تنفيذ الاتحاد السوفيتي لبعض عقود صفقات أسلحة قديمة لتصل كفاءة القوات المسلحة إلى حوالي 50 % من الكفاءة المقررة لها في نهاية عام 67، كما أن التصالح العربي، في مؤتمر الخرطوم، ساعد على سحب القوات المصرية من اليمن، لتتولى مسئوليتها الوطنية على الجبهة.

ومن المفارقات التي توضح حجم الانكسار على الجبهة المصرية، ومدى الصلف والغرور للقوات الإسرائيلية، أنه عندما بدأت القوات المصرية تتولى مسئولية الدفاع عن الضفة الغربية للقناة، أرسل القائد الإسرائيلي في منطقة الشط رسالة إلى نظيره المصري، مع أحد الجنود المنسحبين، يقول فيها "إن دباباتك تثير أعصاب جنودي، وإن لم تسحبها قبل آخر ضوء فسأدمرها لك" مع العلم أن هذه الدبابات في المكان الذي حدده لم تكن تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة.

ولم يكن عذاب النفس يأتي من الجانب الإسرائيلي فقط، ولكن كان أيضاً يأتي من "الصديق الوحيد" وهو الاتحاد السوفيتي، الذي كان مصراً على إمداد مصر بأنواع قديمة من الأسلحة، لا تتناسب مع ما كشفته القدرة الإسرائيلية خلال حرب يونيه 67. وقد شهدت أرض مصر وجود كثير من المستشارين العسكريين السوفييت الذين حضروا بناءً على اتفاقية وقعت أثناء زيارة الرئيس "بودجورني" إلى مصر بعد حرب يونيه 67. والحقيقة أن الدفعة الأولى من هؤلاء المستشارين كانوا على درجة عالية من الكفاءة، أمّا فيما بعد ذلك، حَلّ مكانهم ضباط سياسيون "إذ كانت الاتفاقية تقضي بتغيير هؤلاء المستشارين كل ثلاثة شهور".

وقد أخذ المستشارون خطاً هابطاً وصاعداً في التعامل مع القوات المصرية، وخصوصاً عند وجود مطالب لهم. وقـد وجدوا ضالتهم المنشودة في الادعاء "بأن هناك معلومات لديهم بأن لدى إسرائيل خطة وشيكة التنفيذ للاستيلاء على قناة السويس والوصول إلى 15 كيلومتراً غربها، وأن الاتحاد السوفيتي يتابع أهداف هذه الخطة..". وقد تسبب هذا الادعاء في رفع درجات الاستعداد عدة مرات، وأدت إلى إرباك الخطط التدريبية، والبناء العسكري مرات عديدة أخرى.

أثبتت الأوضاع على جبهة القناة أن العدو كان مصراً على صلفه وغروره، بأعمال استفزازية ضد قيم الشعب المصري وشعوره ومبادئه وأنه لم يلتزم في أي وقت بإيقاف إطلاق النيران، بل إنه كان يوجـه نيرانه باستمرار ضد سكان مدن القناة، حتى يكونوا أداة ورهينة للضغط على القيادة السياسية.
كان هناك العديد من الاشتباكات في هذه الفترة، أهمها ثلاثة، تأثر بها الرأي العام المحلي والعالمي، هي بالترتيب:


الأول:
معركة رأس العش، في يوليه 67. وقد أدت هذه المعركة، على الرغم من محدوديتها، إلى شعور جميع المقاتلين بإمكانية تحقيق النصر وتمنى كل قائد محلي، وكل مقاتل أن تتكرر مثل هذه المعركة في قطاعه.

الثاني:
معارك المدفعية والطيران يومي 14،15 يوليه 67، التي زادت الثقة لدى المقاتلين، بعد أن شاهدوا قواتهم الجوية في سماء المعركة.

الثالث:
إغراق المدمرة إيلات، في 21 أكتوبر 67، التي حددت تاريخ أول استخدام لصواريخ سطح/سطح، والتي أشعرت إسرائيل، للمرة الأولى، بالخسائر.

من محصلة هذه الاشتباكات التي شملت أفرع ثلاثة من أفرع القوات المسلحة انبعثت ثقة المقاتلين بأنفسهم وسلاحهم وقادتهم، كذلك كان لها مردود هائل على معنويات الشعب المصري وكان لها مردودها على المستوى العالمي، إذ أثبتت أن القوات المسلحة المصرية ليست بالجثة الهامدة، كما تدعي إسرائيل.
ومع اتساع الجبهة واستمرار الأعمال القتالية، كان لزاماً أن تتوزع مسئوليات القيادة والسيطرة لضمان حسن الأداء إلى أقصى درجة ممكنة. لذلك، صدرت الأوامر التنظيمية بإنشاء الجيشين، الثاني والثالث، اعتباراً من بداية عام 68. كذلك، إنشاء قيادة قوات الدفاع الجوي، كقوة رئيسية رابعة في القوات المسلحة، تتولى مسؤوليتها في نهاية النصف الأول من عام 68. وقد عملت هذه القوة بمزيد من الجهد بالتعاون مع القوات الجوية المصرية في سبيل تحييد الطيران الإسرائيلي، وإنهاء أسطورة تفوقه المطلق، وقد ظهر ذلك جلياً خلال حرب أكتوبر المجيدة.

ولم تتوقف مجالات إعادة التنظيم على التشكيلات والقوات فقط، ولكنها امتدت للقيادة العامة نفسها إذ صدر أمر تنظيم لجنة السياسات العامة للنظر في أمور التسليح، وصناعة الأسلحة والذخائر وتضم في عضويتها وزيري الدفاع والإنتاج الحربي، ورئيس أركان حرب القوات المسلحة، فضلاً عن رؤساء مجالس إدارات مؤسسات التسليح. وكان لإنشاء هذه اللجنة أثره الكبير في توفير الكثير من الصناعات الحربية المصرية، لإمداد القوات المسلحة في الأوقات الحرجة.

كذلك، صدرت قرارات جمهورية لتشكيل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتحديد التركيب التنظيمي له، والواجبات والاختصاصات والمسؤوليات.

ومع كل هذه الجهود، كانت هناك جهود أكبر في مجال الحصول على الأسلحة، التي تحقق التوازن مع الأسلحة الأمريكية التي يتسلح بها الجيش الإسرائيلي. وقد بُذلت هذه الجهود على مختلف المستويات بدءاً من رئيس الجمهورية إلى وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة، ورئيس الأركان، وقادة، الأفرع الرئيسية والجيوش الميدانية. وكلٌّ على مستواه يحاول إقناع نظيره من الاتحاد السوفيتي بضرورة تزويد مصر بأسلحة متطورة، وعدم الاكتفاء بالأسلحة القديمة التي وردت من الاتحاد السوفيتي سواء من خلال الدعم أو الصفقات. وكان محور الحديث دائماً ينصب على مقارنات واقعية بين قدرات الأسلحة الإسرائيلية، التي تستخدمها فعلا، وقدرات الأسلحة التي أمدنا بها الاتحاد السوفيتي والتي أثبت الجزء الأكبر منها قصوراً، في حرب 67، في مواجهة الأسلحة الإسرائيلية. وعلى سبيل المثال، كان لا يمكن للطائرات من نوع (MIG-15) و(MIG-17)، ذات المدايات القصيرة والتسليح المحدود أن تجابه الطائرات الإسرائيلية من طرازات الميراج، والسوبر مستير، وسكاي هوك، وخلافه. وكان لا يمكن أن تتصدى الدبابات من طرازات T-34، المستخدمة في الحرب العالمية الثانية، للدبابات الإسرائيلية المطورة من طرازات شيرمان وسنتوريان، كما أن وسـائل الإنذار الجوي تُعَدّ من طرازات عتيقة، ولا تساير إستراتيجية استخدام الطيران الإسرائيلي (الطيران المنخفض جداً)، ومن ثم تفاجأ قواتنا باستمرار بمهاجمتها جواً. وكانت هناك أيضاً أموراً كثيرة منها الحرب الإلكترونية، ومنها تطوير تنظيم القوات (أي أن الوحدات المدرعة مثلاً يجب أن تكون مسلحة بمعدات تستخدم الجنزير بالكامل)، ومنها إعادة تنظيم وحدات المشاة لتكون مشاة ميكانيكية .. وغير ذلك الكثير.

وعلى الرغم من عدالة المطالب، إلاّ أن الاتحاد السوفيتي كان له رأي آخر في تطبيق إستراتيجية، بناها على عدة أسس، منها آثار هزيمة السلاح السوفيتي في حرب يونيه 67، والتي ولدت نوعاً من فقد الثقة بمستخدمي هذا السلاح، وبالتالي البعد عن تكرار مغامرة الحرب في هذه المنطقة مرة أخرى. ومنها، أن الاتحاد السوفيتي، كقوة عظمى، أراد أن يستغل هذا الموقف للحصول على امتيازات إستراتيجية خاصة في المنطقة تدعم موقفه. والإمداد بالسلاح يكون ثمناً للحصول على هذه الامتيازات، وكلما تأخر الوصول إليها كلما تأخر شحن صفقات السلاح. وقد ظهر ذلك واضحاً، على سبيل المثال، بعد فترة قصيرة من خلال مطالب موسكو بوجود للأسطول السوفيتي في قواعد مصرية، في البحر الأبيض المتوسط، من بورسعيد حتى مرسى مطروح.

أمّا الأهداف السياسية، فكانت عديدة، منها تأكيده على وجود الرمز، الذي يلتف حوله اليسار المصري. وقد وجد الاتحاد السوفيتي في السد العالي هدفه المنشود لتوضيح آثار الدعم السوفيتي لمصر، وعَبّر عن ذلك السفير السوفيتي في لقائه وزير الحربية المصري يوم 16 / 10/ 1967، طبقاً لطلب الوزير، بهدف الاستفسار عن أسباب تأخر وصول صفقات التسليح التي حل موعد تسليمها. وقد أثار السفير السوفيتي، في الجلسة نفسها "إن موسكو تؤكد على ضرورة بذل الحماية الكافية لمشروع السد العالي، وأنهم في الاتحاد السوفيتي اعتادوا على أن يعطوا لمثل هذه المشروعات الضخمة وقاية خاصة". واستفسر السفير عن المدة المصرح للأسطول السوفيتي أن يبقى بها في الإسكندرية ومرسى مطروح، فأجاب وزير الحربية، بعد أن تفهم الهدف من هذا السؤال، "بأن التوقيتات مفتوحة".

ومن هذه العوامل، كان قرار الاتحاد السوفيتي "غير المعلن"، هو إمداد مصر بحجم ونوع من الأسلحة التي تحقق لها إستراتيجية الدفاع عن الجبهة فقط، وترغمها على استمرارية التحالف مع "الاتحاد السوفيتي، والحاجة المستمرة لدعمه. وبذلك يتحقق هدفان، أولهما تسكين الأوضاع في الشرق الأوسط طبقاً لاتفاق جلاسبورو، والثاني هو تنامي الوجود السوفيتي في قلب العالم العربي، بما يحقق له مكاسب إستراتيجية ضخمة.

كانت القيادة المصرية تتفهم ذلك تماماً، ولكنها لا تجد البديل، الذي يحقق الحصول على الحجم الهائل من الأسلحة والمعدات اللازمة لإعادة البناء، مما يفرض عليها اللهث وراء الاتحاد السوفيتي للإمداد بالسلاح. وقد حاولت القيادة باستمرار تشجيعه ـ وبشتى الطرق ـ للوفاء بمطالب مصر.. واستخدمت في ذلك بعض الأساليب النفسية، التي تتمشى مع أساليب النظم الشمولية، ومنها وصف الاتحاد السوفيتي "بالصديق الوحيد"، إذ كانت خطب القادة، بدءاً من رئيس الجمهورية إلى أقل مستوى، لا بدّ أن تشيد بتعاون الاتحاد السوفييتي مع مصر، وأُعْطِىَ المستشارون السوفيت مميزات خاصة، ومع التشديد على حسن معاملتهم.
ظل الإمداد بالسلاح المتطور هو المطلب الرئيسي للقوات المسلحة، وهو أيضاً نقطة الخلاف الرئيسية بين مصر والاتحاد السوفيتي على كافة مستوياته السياسية والعسكرية. وقد بذل الرئيس عبدالناصر جهوداً ضخمة لإقناع القادة السوفييت بضرورة إمدادنا بالأسلحة المتطورة حتى لا تكون هناك فجوة تكنولوجية كبيرة بين مصر وإسرائيل. كذلك، بذلت القيادة العسكرية الحجم نفسه من الجهود.

وكانت الاجتماعات سواء في موسكو أو القاهرة تنعقد بصورة شبه شهرية، ويكون محور النقاش الرئيسي هو الوفاء بعقود التسليح أو مطالب تطوير السلاح المتيسر. وكان الرئيس عبدالناصر في الصورة التامة من كل ما يحدث في هذه الاجتماعات. بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، والذي حرص أن يتحمل مسئوليته كاملة بعد النكسة، كدرس مستفاد مما حدث قبل يونيه 1967.

وقد مارس الرئيس هذه المسؤولية، وكانت سكرتارية الرئيس للمعلومات تتلقى تقاريراً يومية بكل أحداث وإجراءات وأنشطة القوات المسلحة. وحرص الرئيس أن يكون له مستشارون عسكريون من الضباط المصريين الأكفاء، وكان أبرزهم اللواء أركان حرب حسن البدري الذي تعرف على إمكانياته العلمية، في أوائل أغسطس 1967، نتيجة لتكليف وزير الحربية له بشرح ملابسات الهزيمة العسكرية في يونيه 67، أمام المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والذي يحضره الرئيس. وكان اللواء البدري أميناً في شرحه، جريئاً في عرض الأسباب.

وفي اللحظة الأولى التي وقف فيها أمام الرئيس، وقَدّم نفسه. وجه أول أسئلته إلى الرئيس شخصياً وقال:
"هناك أسباب كثيرة، وتفاصيل طويلة. فهل يسمح الرئيس بالنقد؟ وهل يتسع وقته للتفاصيل؟"

وعندما أجابه الرئيس: "قل كل ما عندك"، كان للرجل شجاعته، وبدأ كلامه بأن "أسباب النكسة تنحصر في أخطاء سياسية وعسكرية مختلطة، ولا يمكن فصل إحداها عن الأخرى..".

عندها هزّ الرئيس رأسه "موافقا"، ثم استرسل الرجل في شرح خطط أعمال الجانبين المصـري والإسرائيلي وأن إسرائيل، على الرغم من أن قوتها البشرية محدودة، إلاّ أنها كانت حققت التفوق البشري والمادي في كل الجولات السابقة فمثلاً، حققت تفوقاً في التعداد في حرب 48 بنسبة 2.6 : 1، وفي جولة عام 56 حققت بالاشتراك مع إنجلترا وفرنسا نسبة 8 : 1، وفي جولة 67 حققت نسبة 2.1 : 1 بما يعني أنه في هذه الجولة با لذات حشدت دول الطوق العربي حوالي 0.3 % من قواها البشرية. بينما حشدت إسرائيل 13 % من قواها البشرية. ثم استرسل يشرح ملابسات تقدير الموقف على مستوى القيادة العامة، وكيف كان هناك تردد في القرارات، التي اتخذت كلها بصورة عشوائية، من دون دراسة، وكيف استغل العدو هذه الأخطاء المتكررة، وبنى قراراته عليها. وامتد الشرح إلى مقارنة في أسلوب إجراءات القيادتين المتضادتين، ومقارنته بين المقاتل المصري والمقاتل الإسرائيلي، ووصل في النهاية إلى أن إسرائيل حصلت على نصر لم تستحقه، وأن أسباب الهزيمة ترجع إلى أخطاء مصرية وعربية صميمة، بدءاً من توقيت القرار، ثم أسلوب الحشد، وتناقض الخطة وافتقارها إلى التنسيق ثم القرار الفردي "بالانسحاب" من سيناء، الذي شكّل الطامة الكبرى، والذي أحدث خسائر في قواتنا لم تكن تتكبدها إطلاقاً لو استمرت في أوضاعها القتالية في سيناء.


د. يحى الشاعر
 
مشكوووووووووووووووووووووووووووووووووووووووور
 
عودة
أعلى