متابعه كتاب صدام مر من هنا الجزء الثالث

alus

صقور الدفاع
إنضم
30 نوفمبر 2008
المشاركات
2,466
التفاعل
3,419 1 0


232429.jpg




تسلمتم السلطة فماذا فعلتم؟

تسلّم السلطة في بلد مثل العراق ليس مسألة سهلة. كان مهماً بالنسبة إلينا أن الوصول إلى السلطة لم يتسبب في إراقة دماء. وكان هاجس أعضاء القيادة القطرية في الحزب أن لا تتسبب أي ممارسات في تكرار بعض مشاهد 1963 حين انقسم الشارع وبدأت المواجهات والتصفيات. الحقيقة أننا نفذنا الوعد الذي قطعناه بأن يكون النايف رئيساً للوزراء على رغم مخاوفنا من علاقاته وطموحه اللامحدود وقدرته على التأثير الكامل على الداوود الذي وعدناه بوزارة الدفاع.

لم يكن هناك أي غموض حول الشخصية الأولى. كان الأمر محسوماً بالنسبة إلينا وهو أن أحمد حسن البكر سيكون رئيساً للجمهورية، إضافة إلى رئاسة مجلس قيادة الثورة ومنصبه كأمين سر القيادة القطرية. إنه أرفع حزبي وشخصية سياسية وعسكرية وبالتالي كان من الصعب المجيء بشخص آخر إلى رئاسة الجمهورية. المشكلة كانت في الحكومة إذ كان علينا أن نسند رئاستها إلى النايف من دون أن ننسى قرارنا السابق بإزاحته في أقرب فرصة. وأخذنا في الاعتبار ضرورة إشراك الآخرين في مجلس قيادة الثورة والحكومة.

هكذا كان بين أعضاء مجلس قيادة الثورة البكر وصالح مهدي عماش وعبدالرزاق النايف وحردان التكريتي وسعدون غيدان.

ولم تضم الحكومة كثيراً من البعثيين. الرئاسة كانت للنايف والدفاع لداوود والداخلية لعماش، أما حردان التكريتي ففي رئاسة أركان الجيش. لم أكن عضواً في مجلس قيادة الثورة غداة 17 تموز ولا في الحكومة. والأمر نفسه بالنسبة إلى صدام.

عقدنا اجتماعاً للقيادة القطرية لمراجعة بعض القرارات التي اتخذناها سابقاً وبينها قرار إزاحة النايف والداوود. تحدث البكر، وقال: اضطررنا إلى إشراك النايف لأنه اكتشف خطتنا وتخوفنا أن يتسبب في ذبحنا اذا تجاهلناه. وعدناه برئاسة الوزراء ونفذنا الوعد وهو لم يغدر بنا ساعة التنفيذ. حين قررنا إشراكه قررنا أيضاً إزاحته في أسرع وقت. لكن اليوم أريد أن أقول إن أحداث 1963 بين البعثيين والشيوعيين ما تزال في ذاكرة الناس بسبب ما رافقها من سفك دماء. أخشى إذا أطحنا بالنايف اليوم أن نتهم بالغدر ويتعزز اقتناع الناس أن التصفيات قادمة. ماذا لو استمر في التعاون معنا؟ وما الذي يدعونا إلى إطاحته؟ فلنعطه فرصة. كلنا لدينا أخطاء. أنا أقترح أن نستمر في التعاون وإذا وجدنا منه سلوكاً مختلفاً نقرر في حينه. وافقناه وبدأ النايف يمارس عمله رئيساً للوزراء.

بعد أيام دعانا البكر إلى اجتماع طارئ للقيادة القطرية. قال تذكرون جيداً ما قلته عن النايف في اجتماع سابق. أنا الآن أدعوكم أن تتحركوا وبأسرع وقت للإطاحة به. سألناه عن السبب فأشار إلى تقارير تفيد أن رئيس الوزراء الجديد يتحرك وبسرعة جنونية لإطاحة حكم الحزب. وقال إن النايف اتصل بعسكريين لتجنيدهم ضد الحزب ولم يكن يعرف بانتماء بعضهم إلى الحزب. وأضاف: أسرعوا يا رفاق قبل أن يطيح بنا. هذا كل ما أريد قوله وقبل أن يأتينا إلى هذه الغرفة ويذبحنا جميعاً. سأغادر الآن. اجتمعوا وخططوا للخلاص منه وأنا موافق على ما تقررون.

في اليوم التالي اجتمعنا في منزل صالح مهدي عماش الذي كان وزيراً للداخلية وفي غياب البكر، تخوفنا من أن يطبق النايف على الجميع في مكان واحد. وضعنا الخطة واتفقنا على التنفيذ الذي أوكل إلى اثنين: أنا وصدام. وكانت الخطة تقضي بالتخلص من النايف والداوود أي من رئيس الوزراء ووزير الدفاع.
 
التعديل الأخير:
رد: متابعه كتاب صدام مر من هنا الجزء الثالث

ماذا تقول الخطة؟

كانت لدينا قطعات عسكرية في الأردن. فقررنا أن يذهب وزير الدفاع إبراهيم الداوود لتفقدها على أن نرسل سراً في الوقت نفسه أعضاء من المكتب العسكري في الحزب لاعتقاله وإرغامه على التوجه إلى إسبانيا. وفي هذا الوقت ننفذ الشق الثاني من الخطة المتعلق بالنايف وبالتزامن مع ما يجري في الأردن.

وماذا حصل؟

في 30 تموز ألقي القبض على الداوود وأرسل عنوة إلى إسبانيا. وفي الوقت نفسه تم إنهاء قصة النايف. كان من عادة رئيس الوزراء الجديد أن يأتي إلى القصر لتناول الغداء. وبعد الغداء يتوجه مع البكر إلى مكتب الأخير لتدارس بعض شؤون الدولة. في 30 تموز وبعد الغداء دخلا إلى المكتب وكان معهما صالح مهدي عماش. ووفقاً للخطة دخلت وصدام وفي يد كل واحد منا رشاش وطلبنا من النايف أن يستسلم. في البداية كان شرساً وحاول أن يسحب مسدسه فلم يتمكن. بعدها راح يتوسل ويقول أنا لدي عائلة وأطفال.

كان لا بد من استكمال التنفيذ سريعاً. النايف عسكري ورئيس وزراء ولا بد من إخراجه من القصر من دون لفت نظر حراسه. أبلغناه أن عليه أن يخرج وكأن شيئاً لم يحدث وأننا سنقتله لو أرسل إلى مرافقيه والعسكريين أي إشارة بحدوث شيء ما. صعد النايف إلى سيارة ورافقه صدام الذي كرر له أنه سيقتله إذا أبدى أي مقاومة. خرجت السيارة من باب خلفي للقصر واستسلم النايف لقدره وكانت الطائرة في انتظاره وغادر البلاد.

حسم الصراع فماذا تغير؟

صارت السلطة في يد الحزب. أعضاء القيادة القطرية وأنا منهم صاروا أعضاء في مجلس قيادة الثورة. شكلت حكومة جديدة كنت بين أعضائها. تولى حماد شهاب وزارة الدفاع وصالح مهدي عماش وزارة الداخلية إضافة إلى كونه نائباً لرئيس الجمهورية. أما صدام فلم يدخل الحكومة. كان عضواً في مجلس قيادة الثورة وفي القيادة القطرية. كان ينتظر فرصته وستأتيه بعد وقت غير بعيد.

ما هو أبرز حدث وقع في رأيك بين 1968 موعد تسلّمكم السلطة والعام 1970؟

إنه بلا شك تعيين صدام نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة بعد شهور من تسلمنا السلطة. إنه حدث كبير وخطير لأنه غيّر مجرى الأحداث ودفع العراق إلى ما عاشه. إنه سبب الكارثة.

كيف حصل ذلك؟

بعد 30 تموز (يوليو) أصبحنا أعضاء في مجلس قيادة الثورة بصفتنا أعضاء في القيادة القطرية. وكانت هناك اجتماعات دورية للهيئتين. في الأولى نناقش شؤون الدولة وفي الثانية شؤون الحزب. كان كل عضو يقترح نقاطاً لوضعها على جدول أعمال مجلس قيادة الثورة ونناقش الأمور بهدوء وروية. ذات يوم طرح تساؤل: في حال وجود الرئيس أحمد حسن البكر خارج البلاد فمن يحل محله؟ كان لدينا نائب لرئيس الجمهورية، هو صالح مهدي عماش، لكن لم يكن هناك نائب لرئيس مجلس قيادة الثورة. قلنا نناقش هذه الفقرة لاحقاً. ولم نكن نعير المسألة كبير اهتمام ولم نفكر في أن يكون المنصب مهماً.

كان هناك انطباع عام بأن الشخص المؤهل لتولي هذا المنصب هو صالح مهدي عماش. الأسباب موضوعية: عمق تجربته وكبر سنه ودخوله القيادة القومية قبل الآخرين وتوليه حقيبة الدفاع في 1963.. ثم إنه رجل دولة وثقافته عالية ورتبته العسكرية رفيعة. أرجئت مناقشة هذه الفقرة أكثر من مرة، إذ اعتبرت البنود الأخرى التي تمس شؤون الناس أكثر إلحاحاً.

ذات يوم وفي أحد الاجتماعات استهل البكر الحديث بالقول: "نحن تسلمنا السلطة وهذا البلد مهم وشهد أحداثاً مأساوية والصورة قاتمة بالنسبة إلى الإخوان العرب. أنا أقترح إذا لم يكن لديكم مانع أن نكلف بعض الإخوان بجولات عربية يحملون خلالها رسائل من رئيس الجمهورية للقاء المسؤولين وعقد مؤتمرات صحافية". وجدنا الاقتراح وجيهاً، ووقع الخيار على صالح مهدي عماش لبدء جولة في دول المغرب العربي. واقترح البكر أن يقوم مروان التكريتي، بعد عودة عماش، بجولة في دول الخليج العربي.

سافر عماش، وبعد يومين دعانا البكر إلى اجتماع طارئ لمجلس قيادة الثورة. ومثل هذا الاجتماع لا يُدعى إليه إلاّ في حال وجود خطر أو مؤامرة أو مسألة بهذه الأهمية. وفي بداية الاجتماع تحدث البكر بحسرة وألم، قائلاً إنه توافرت لديه معلومات موثوقة بأن صالح مهدي عماش يتآمر على الحزب والثورة ويخطط للإطاحة بحكم الحزب. وطلب من الحاضرين اتخاذ القرار المناسب.

كان لكلام البكر وقع القنبلة وسرعان ما حصل انقسام واضح بين المجتمعين. وكان هناك فريق يتمسك بالأصول العادية التي تقضي بعدم اتخاذ قرار في غياب المتهم ومن دون الاستماع إليه. واقترحنا أن يعود عماش ونواجهه بالتهمة ونسمع دفاعه وإذا لم نقتنع نتخذ القرار المناسب. الطرف الآخر أصر على ضرورة اتخاذ قرار بالإعدام وكان من أعضائه طه ياسين رمضان وعزة إبراهيم. حاول صدام أن يظهر أنه غير متحمس إلى درجة كبيرة لمثل هذا القرار. توتر الجو واحتدم الجدل وتبودلت الإشارات ووصل الأمر إلى أن معظم الحاضرين وضعوا أيديهم على مسدساتهم استعداداً لكل الاحتمالات. الحقيقة أننا اعتبرنا أن المسلسل يمكن أن يبدأ بعماش ثم ينتقل إلى الآخرين.

بعد نقاش وصياح تحدث البكر. قال: أنا أوافق على تأجيل البت في القرار إلى حين عودة صالح مهدي عماش. الفريق الذي كان يدعو إلى إرجاء القرار بانتظار عودة الرجل اعتبر أن رأيه انتصر. فرحنا لأن العقل انتصر على التهور والقرارات الهوجاء. بعد يومين أو ثلاثة، وكان عماش ما يزال في المغرب العربي، عقد الاجتماع العادي لمجلس قيادة الثورة. بدأنا مناقشة جدول الأعمال إلى أن وصلنا إلى فقرة تتعلق بتعيين نائب لرئيس مجلس قيادة الثورة. قرأ البكر الفقرة وسأل من يحب أن يرشح نفسه. كنا نعتبر أن عماش هو المؤهل، لكن من يجرؤ على طرح اسم رجل متهم بالعمل على الإطاحة بحكم الحزب والثورة. كان مجرد طرح اسم الرجل يعني تعريض النفس لتهمة الضلوع معه في المؤامرة المزعومة. فور انتهاء البكر من سؤاله رفع أحد الأعضاء يده وقال أنا أرشح الرفيق صدام. وهذا العضو كان طه ياسين رمضان. تبعه عزة إبراهيم مؤيداً الترشيح. هكذا عُيِّن صدام نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، إذ اكتفينا نحن بالصمت.

هنا يجب الاعتراف بأننا لم نتوقع أن يكون لهذا المنصب دور خطير. اعتبرناه رمزياً وشكلياً ولكن ما حصل هو العكس. فور صدور قرار تعيين صدام بدأت عملية تقاسم السلطة بين صدام والرئيس. هكذا ولد محور يملك السلطة ويحوّل الآخرين إلى مجرد موظفين. تم اختصار السلطة برجلين. حصلت انتكاسة تمت خلالها العودة إلى الحسابات العشائرية والعائلية وأخرج أعضاء مجلس قيادة الثورة وأعضاء القيادة القطرية للحزب من دائرة القرار. أعتقد بأن الكارثة بدأت من هناك. لو بقي صدام عضواً عادياً في القيادة لما ارتكب ما ارتكب.​
 
رد: متابعه كتاب صدام مر من هنا الجزء الثالث

وبدأ صدام رحلة الإمساك بالقرار؟

نعم. إنه نائب رئيس مجلس قيادة الثورة وعضو القيادة القطرية للحزب والمشرف على الأجهزة الأمنية.

وماذا حصل بعد عودة عماش؟

أكدت عودته صحة شكوكنا. اتصل بي البكر وطلب مني أن أستقبل عماش في المطار. ذهبت واستقبلته وقدت السيارة وأجلسته إلى جانبي في الطريق إلى بيته. قلت له غداً ستحاكم بتهمة التآمر على الحزب والقيادة وعليك أن تجهِّز نفسك. فوجئ مفاجأة غريبة. لم يكن على علم بالتهمة ولا باختيار صدام. حدّق بي وكأنه غير مصدق وسألني إن كنت أمازحه. أكدت له أن الأمر جدي تماماً. فكر للحظات ثم طلب مني أن أبلغه إذا كان حصل في غيابه شيء آخر. فكرت، لكن لم يخطر ببالي موضوع اختيار صدام وكأن ذهني بكامله كان منصباً على موضوع عماش. تذكرت كل القرارات إلاّ قرار تعيين صدام، إذ لم نعتبر يومذاك أن المنصب مهم. أعاد عماش طرح السؤال ففكرت ملياً، وتذكرت وقلت له إن الرفيق صدام عُيِّن نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة. حدّق بي طويلاً وقال: "هذه مؤامرة البكر وصدام على صالح مهدي عماش وليست مؤامرة صالح مهدي عماش عليهما. هذه مؤامرة نسجها البكر وصدام لتمرير التعيين. وبمجرد حصوله انتهى موضوع المؤامرة الأخرى. أؤكد لك أن موضوعي لن يبحث ولن يطرح عليكم". في أول اجتماع حضره عماش بدأ بتقديم تقرير عن رحلته. قاطعناه وقلنا: لماذا الحديث عن الرحلة؟ هناك قضية خطيرة للغاية تتعلق بتآمر. تدخل البكر وقال: أرجوكم هذا الموضوع تم فهمه وتسويته ولا ضرورة أبداً لمناقشته. وهذا ما حصل.

كان صدام يكره عماش كثيراً؟

كان حاقداً عليه. قبل وفاة عماش بنحو عامين تحدث صدام إلى الكادر الحزبي، وقال إن عماش حزبي لكنه جبان، في حين إن مروان التكريتي غير حزبي لكنه شجاع. طبع الحديث في كراس صغير ووصل إلى الشخص المعني. كتب عماش رسالة إلى القيادة القومية لحزب البعث قال فيها: هل ترضى القيادة القومية أن يكون أحد أعضائها موصوفاً بالجبن. فإذا كانت تعتقد بصحة التهمة يجب أن تتخذ قراراً بفصله. وبعث برسالة إلى القيادة القطرية يعترض فيها على الكلام ويطلب التصحيح.

رداً على ذلك، استدعى صدام قيادات سابقة من مجلس قيادة الثورة وقيادة الحزب في 1963 لتقويم عماش، وكنت بين المدعوين. طلب صدام من الحاضرين تقويم عماش الذي قال أيضاً في رسالته: هل يصح أن توجه تهمة الجبن إلى من كان مسؤولاً عن المكتب العسكري في الحزب في 1963 حين تسلَّم البعثيون السلطة ثم خسروها. كان صدام يصر على أن عماش لم يكن مسؤولاً عن المكتب العسكري في 1963. كان بين الحاضرين شخص يدعى محسن الشيخ راضي، وهو كان عضواً في القيادة القطرية في 1963 ومن البارزين وما يزال حياً ويقيم في العراق. تحدث أعضاء في القيادة القطرية التي باتت بزعامة صدام، فشنوا هجوماً عنيفاً على عماش. وحين وجه السؤال إلى محسن الشيخ راضي رد مؤكداً أن عماش كان مسؤول المكتب العسكري في القيادة وأنصف الرجل. طبعاً كانت جرأة منه. ذلك أن قول الحقيقة كان عملية شاقة يمكن أن تدفع صدام إلى ارتكاب أي حماقة يمكن المرء أن يتصورها.

نظر صدام إلى عماش كخطر محتمل وراح يقلل من شأنه وعيّنه سفيراً في فنلندا، وهي دولة ذات دور محدود، إلى أن استدعي إلى الجبهة ومات مسموماً.

كيف قتل عماش؟

يقول المقربون جداً إن تشريح جثته أكد أنه قضى مسموماً. والقصة هي الآتية: استدعي عماش إلى بغداد للمشاركة في ما كان يسمى المعايشة، أي إرسال عدد من السفراء إلى الجبهات خلال الحرب العراقية - الإيرانية. طبعاً لا يحتاج عماش إلى مثل هذه المعايشة، فهو عسكري كبير ومعروف، أمضى سنوات طويلة في الجيش. وعلى رغم ذلك أشركوه في الدورة وأمضى بين شهرين وثلاثة أشهر ثم عاد إلى فنلندا. بعد عودته بدأ يعاني مشكلات صحية وتوفي خلال فترة قصيرة، علماً أنه كان رياضياً ولم يكن يعاني من أي مرض. المقربون يجزمون أنه مات مسموماً.

تولى صدام منصب نائب رئيس مجلس قيادة الثورة. ماذا فعل بعد ذلك؟

اتخذ مقره في مبنى المجلس الوطني المعطل آنذاك. هنا بدأت عملية تقاسم السلطة والموازنة. أدرك صدام أنه يحتاج إلى مظلة البكر فلم يبخل عليه بالنعوت لكنه كان يؤسس سلطته. صدام شاب يعمل ساعات طويلة ويحلم بمستقبله. والرئيس لم يبق لديه ما يحلم به. منذ الساعات الأولى بدأ صدام، وتحت لافتة الولاء للرئيس، خطة إزاحة خصومه وفي الوقت نفسه إحكام قبضته على دوائر الأمن والإعلام والحزب. وهكذا كنت أول من أطيح به. حصل ذلك في تموز (يوليو) 1970 ومن حسن حظي أن القتل لم يكن كرّس بعد أسلوب تخاطب مع الحزبيين.

لماذا وقع الخلاف بينك وبين القيادة؟

أخرجت في شهر تموز 1970، وسأختصر المسألة بالآتي: كنت عضواً في مجلس قيادة الثورة وكذلك في القيادة القطرية للحزب حيث كنت مسؤولاً عن تنظيمات الحزب خارج بغداد وعن مكتب العمال. ثم إنني من مدينة تكريت التي ينحدر منها البكر وصدام. هذا الواقع أتاح لي أن أطلع باكراً على الخروقات والتجاوزات التي بدأت عناصر من عائلة صدام بممارستها ضد المواطنين والمؤسسات. هنا لعب خيرالله طلفاح دوراً بارزاً في هذه الممارسات ومعه عدد كبير من الأقارب. وصلتني تقارير من المنظمات الحزبية حول هذه التجاوزات والتقى مضمون هذه التقارير مع ما نقله أصدقاء. تنفيذاً لنظام الحزب كان عليّ أن أبلغ قائد الحزب وهو رئيس الجمهورية بما يجري. بدأت بإطلاع البكر على التجاوزات وكان يعدني كل مرة باتخاذ الإجراءات اللازمة، لكنه لم يفعل.

أذكر هنا حادثة طريفة جداً. أبلغتني قيادة الحزب في تكريت أن خيرالله طلفاح كان يتوجه في عطلة الأسبوع، وتحديداً يوم الجمعة، إلى تكريت. ومن دون علم القائمقام كان يفتح مكتبه ويداوم فيه، وخلال وجوده هناك كان طلفاح يقوم بمصادرة بساتين وتوزيع أراض. عندما يأتي القائمقام في اليوم التالي يرى أن خطوات عشوائية اتخذها شخص لا صفة له وهي تمس الملكية والقوانين وتثير نزاعات في المجتمع. كان من واجب القائمقام إطلاع قيادة الحزب في المدينة التي اتفق أعضاؤها على التحدث إلى طلفاح إذا جاء الأسبوع المقبل إلى المقر. وهذا ما حصل. التقوه وحاولوا أن يشرحوا له أن هذه المسألة تؤذي الحزب. تحدثوا إليه بودٍّ وأدب. فهم صغار وهو كبير في السن. ورد طلفاح بأن أُمر بوضعهم في السجن. كانت القضية محرجة تماماً. رجل ينتهك القوانين ويسجن مسؤولين حزبيين لأنهم تجرأوا على لفت نظره إلى خطورة ما يقوم به. شعرت بحرج شديد وتوجهت لمقابلة البكر وطرحت الأمر عليه بحدة. وأذكر أنني قلت له إنه إذا كان يمكن التسامح في أمور صغيرة، فهذا الأمر لا يمكن التهاون فيه، لأنه سيعطي الناس انطباعاً أننا انتقلنا من حكم الحزب إلى حكم العائلة. حاول البكر استرضائي وقال: هذه المسألة سأحلها وأنت أخي ورفيقي. لم يتمكن البكر من حل المشكلة إلاّ بعد إلحاح متواصل مني تخلله استخدام عبارات قوية بيني وبينه. أنا في الحزب كنت أعتبر حتى ذلك التاريخ الأقرب إلى البكر، لكن المسألة لا علاقة لها بالعلاقات الشخصية.

توالت الخروقات وتلقينا تقارير من مدن أخرى، استيلاء على بساتين وأراض. وكنت أراجع البكر باستمرار لكنه كان يعد بالمعالجة ولا ينفذ. بدأت العلاقة بيننا بالتدهور تدريجاً إلى أن تفجرت تماماً وكان موضوع الخلاف التعذيب.

تزايدت لدينا المعلومات عن عمليات تعذيب في مراكز الاستخبارات والأجهزة الأمنية. لم نكن في السابق على اطلاع تفصيلي على ما يجري. وقعت حادثة لفتت أنظار الجميع إلى ما يجري. اعتقل طبيب مشهور من دون أسباب واضحة وتعرض لتعذيب مخيف. في اجتماع مجلس قيادة الثورة طرحت الموضوع وقلت إن علينا ألاّ نناقش أي بند آخر قبل هذا البند وحسمه. والواقع أن الافتراق بدأ في ذلك الاجتماع.​
 
رد: متابعه كتاب صدام مر من هنا الجزء الثالث

هل اصطدمت خلاله مع صدام؟

الصِدَام الأساسي كان مع البكر لأنه صاحب القرار والمسؤول الأول. طبعاً موقف البكر وصدام واحد. كان الصدام شديداً جداً وقلت إنني لن أحضر أي اجتماع آخر ما لم تحسم مسألة التعذيب حتى ولو كلفني ذلك الطرد أو السجن أو النفي. حاولوا استرضائي بالقول إن القصة عابرة ولا تستحق مثل هذا الخلاف. تمسكت بموقفي وقلت إنني أعتبر المسألة من الكبائر. وقلت إننا جئنا لخدمة الناس وليس لممارسة الانتقام. وذكرت بما اتفقنا عليه سابقاً لجهة عدم تكرار ممارسات 1963. كان ذلك الاجتماع الأخير. وبعد أيام أصدر البكر مراسيم بإعفائي من عضوية مجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية.

حاولوا إقناعي بقبول منصب سفير في فرنسا ووسطوا عبدالخالق السامرائي فرفضت. أبعدوني إلى مصر لأن لا وجود لتنظيم حزبي فيها. ثم غادرت سريعاً إلى بيروت بعدما تفجرت الأزمة في أيلول (سبتمبر) 1970 بين المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني. أمضيت شهرين في مصر ثم ذهبت إلى بيروت ومكثت فيها إلى ما بعد تأميم النفط في العراق في 1972.

عدت إلى بغداد فجددوا عرض السفارة عليّ ورفضت. بدأت أتعرض لضغوط من داخل الحزب ومن أصدقاء لقبول العرض. كان مرتضى الحديثي وزيراً للخارجية، وهو صديق عزيز، فألح عليّ بالقبول وقال: "لا نريد أن نخسرك". ففهمت الرسالة. في 1973 كنت سفيراً لدى البلدان الإسكندينافية في السويد. وفي 1977 - 1987، وفي إسبانيا ومنها إلى الأمم المتحدة ممثلاً دائماً للعراق إلى 1982 حين قدمت استقالتي عبر برقية قصيرة وتركت منصبي. جرت اتصالات ومساومات معي من داخل بغداد وخارجها لكنني تمسكت بقراري.

لماذا استقلت؟

خلال فترة عملي في السلك الديبلوماسي قدمت أكثر من استقالة. مرة عندما كنت في السويد وأخرى في إسبانيا. عندما قدمت استقالتي خلال وجودي في مدريد استدعاني البكر فذهبت إليه. أعرب البكر بعد أن شرحت وألححت عن موافقته المبدئية، لكنه طلب مني أن أزور صدام وقال إذا اتفقتما على الاستقالة فأنا موافق.

زرت صدام وحكيت له أن مزاجي مخالف لمزاج الديبلوماسية والعمل في السفارات وأنني لا أحب العيش خارج العراق وأعاني مشكلات صحية. وطلبت منه تفهم موقفي وقبول الاستقالة. جرى نقاش طرح صدام خلاله الموضوع بطريقة ملتوية. قال لي: "إذا استقلت يا صلاح فسترجع إلى بغداد. هل ستقفل باب بيتك وتجلس وحيداً. يجب أن تخرج وتتحدث وأنت عضو في القيادة (سابقاً). حين ترى أخطاء تمارس ستتحدث وهذا الكلام سيصلنا في التقارير وحين يصل الكلام ستحدث مشكلات بيننا وبينك". أي إن صدام اعتبر عودتي إلى بغداد مصدر إحراج قد يضطره إلى اتخاذ إجراءات قاسية، شعرت أن الباب مسدود وعدت إلى إسبانيا. في نيويورك أضيف موضوع الحرب العراقية - الإيرانية إلى جملة الأسباب التي تدعوني إلى المغادرة.

هل تغير سلوك صدام بعد تولّيه منصب نائب رئيس مجلس قيادة الثورة؟

تغير وبسرعة مذهلة، ويمكنني القول إنه تغير منذ الأيام الأولى لتولّيه هذا المنصب. لم تعد لسلوكه علاقة بكوننا اشتراكيين ملتزمين بقضايا الشعب والجماهير ويفترض أن يكون سلوكنا بسيطاً وبعيداً عن البرجزة. تغير صدام بصورة جذرية. فجأة صار موكب حراسته طويلاً. استقدم حراساً من قريته ومن عائلته. كانوا في معظمهم من الشبان الأميين يمتاز سلوكهم بقدر من الوحشية ولا فكرة لديهم عن الدولة والقانون والانضباط. لم يقدم أي شخص آخر على سلوك من هذا النوع.

فور تولّيه منصبه الجديد اتخذ صدام من مبنى المجلس الوطني مقراً له وهو المبنى الوحيد الفخم إذا استثنينا قصر الرئاسة. هنا بدأت لعبة الهالة والتميز عن الآخرين. ترافق ذلك مع بدء تقاسم الموازنة مع البكر والشروع في لعبة توزيع الأموال والأسلحة. كنا نعيب عليه هذه الأمور ونعتبرها مظاهر سلبية. ثبت لاحقاً أنه كان أكثر دهاء من الآخرين وأكثر معرفة ربما بنفسية المواطن العراقي العادي. أطلق صدام ومن دون أن يعلن برنامجاً يرمي إلى توسيع دائرة الموالين له. شراء الولاء بالمال أو التوظيف أو الحماية. وشبكة المصالح هذه ستتسع لاحقاً كلما وسّع دائرة إمساكه بالقرار الإعلامي والأمني وفرض نفسه معبراً إلزامياً إلى المواقع في دوائر الدولة والمؤسسة العسكرية والأمنية.

الحقيقة، وعلى رغم اهتمام صدام بإبقاء المظلة التي يشكلها البكر، بدأ الناس يتحدثون عن السيد النائب أكثر مما يتحدثون عن رئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الجمهورية. طبعاً بعد تأميم النفط صارت الموازنة التي يستطيع صدام التصرف بها مذهلة وتصاعد الرهان عليه في الأوساط الحزبية والشعبية، حتى الحزب الشيوعي وقع في الرهان على صدام والإشادة به.

كوزير للإعلام، لمن كنت تعطي الأولوية في أخبار الصحف والإذاعة والتلفزيون؟

علاقتي كانت مع البكر، والأولوية لأخباره وكان صدام يرغب في ذلك أيضاً ليتاح له الوقت الكافي لبناء فريقه. إنه رجل يعرف كيف ينتظر.

استقلت في 1982. إلى متى ظل النظام يسعى إلى إعادتك؟

لم يتوقف يوماً. كانت هناك محاولات. لم يوقف النظام محاولاته. أوفد إليّ في نيويورك حسين كامل. وجاء طارق عزيز حاملاً إليّ رسالة من صدام. مدير الاستخبارات فاضل سلفيج جاءني حاملاً رسالة من صدام وهو ابن خالته أيضاً. أدخل كثيرين في هذا الموضوع. يريدني كما يقولون أن أقبل منصباً أو أن يحدث نوع من التفاهم. موقفي قاطع ونهائي.
 
عودة
أعلى