المجاهد الداعية عثمان بن فودي
الدكتور محمد بن موسى الشريف
الحديث عن هذه الشخصية حديث ذو شجون، فهو حديث عن داعية، وعن عالم، وعن مجاهد، وليس عن مجاهد فقط؛ بل مجاهد أقام دولة قوية، ومن ناحية أخرى يتطرق الحديث إلى دولة السودان الإسلامية التي تكونت في القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي، في زمن كانت فيه الدولة الإسلامية الأم الدولة العثمانية تجنح إلى الضعف والركود، وسائر الدول الأخرى كانت قد سلكت الطريق الذي سيؤدي بها إلى التفكك والزوال، إذ إن الزمن الذي نشأت فيه هذه الدولة وعوامل تكوينها قد غاير تماماً ما كان سائداً في العالم الإسلامي آنذاك من الضعف والتهاوي.
وعثمان بن فودي من أصول فُلاّنية فلاتية نزح جدّه الحادي عشر موسى جُقّل من غرب أفريقيا في هجرات متتابعة للفُلاّن يريدون "الحجاز"؛ ولأسباب غير معلومة توقف جدّه ومعه جماعته في بلاد الهوسا نيجيريا اليوم، وجدّه من بطن من الفُلاّن يسمون ب"التوروبي"، وبلغة الهوسا "تُورِنْكاوا"، وكان استقرار جدّه في تلك البلاد في القرن الحادي عشر الهجري/ السادس عشر الميلادي.
نشأته
ولد الشيخ عثمان كما كان يلقب سنة 1168 أو 1169هـ/ 1754م، في مملكة "جُوبَرا" إحدى ممالك بلاد الهوسا آنذاك وأقواها، ونشأ بين والديْن صالحين وأخذ عنهما طرفاً من العلوم، ودرس الفقه والعقيدة، والحديث، واللغة على مشايخ الهوسا، والبرنو، والفلاتة ليس بينهم عربي واحد، وهذا من نعمة الله على تلك البلاد في ذلك الزمان أن جعل العلم الشرعي منتشراً بين أهل البلاد أنفسهم، وبرع في العلوم ومهر، وتقدم ونبغ حتى صار مجتهداً في إطار المذهب المالكي السائد آنذاك في كل أفريقيا الشمالية والوسطى والغربية والشرقية، وهو ما يسمونه بالمجتهد النسبي وليس المطلق، وتسامع به الناس، وأقبلوا على دروسه اليومية، ووعظه الأسبوعي، حتى صار له أتباع سُموا بالجماعة، وصار يلقب بالشيخ، وصار عَلَماً عليه حتى أن أبا بكر غومي أقضى قضاة نيجيريا ذكر في سنة 1383هـ/1963م أن الناس في نيجيريا إذا ولد لهم ذكر، وسموه بعثمان يلقبونه بالشيخ تيمناً بالشيخ "عثمان بن فودي".
حال الإسلام في بلاد الهوسا آنذاك
بلاد السودان كانت تطلق على بلاد شاسعة تمتد من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي، فيما كان يعرف بالسودان الشرقي والأوسط والغربي، ودوله اليوم السودان، وتشاد، ونيجيريا، والنيجر، ومالي، والسنغال تقريباً، وجزء من الكاميرون، وقد دخل الإسلام إلى بعض تلك البلاد منذ القرن الأول، لكن الانتشار والتمكين كان في القرن الخامس يوم أن دخل المرابطون من "مراكش" إلى "السودان الغربي" وأنشؤوا مملكة "مالي"، وانتقل الإسلام عن طريق التجار المسلمين من شمال أفريقيا وكانوا من البربر الصنهاجيين وبجهود الطوارق أيضاً، فاستنارت المنطقة بنور الإسلام منذ ألف سنة تقريباً.
وفي زمن الشيخ عثمان كان الناس على ثلاثة أقسام قسم مسلمون، وقسم وثنيون، وقسم خلطوا بين الإسلام والوثنية، فكان لا بد له من معالجة هذا الأمر، فكانت طريقته في دعوته ووعظه على الوجه التالي :
1- تعليم العامة أصول الدين، وإبعادهم عن البدع الكثيرة المنتشرة آنذاك.
2- مجالس الوعظ الأسبوعية التي كان يعقدها.
3- تعليم العامة أمور دينهم من صلاة وزكاة وغيرها، ونهيهم عن المنكرات والمعاصي.
4- وكان الناس يتقاطرون عليه رجالاً ونساءً، وكانت النساء قبله ليس لهن حظ في وعظ ولا درس، فشجع الرجال على إحضار نسائهم حتى يستفدن ويفقهن، وكان حضور النساء مدخلاً لأعدائه؛ ليشنعوا عليه بدعوى أنه يخلط الرجال بالنساء.
وكانت صفاته الشخصية مؤهلة له لأمر عظيم، فقد كان صاحب همة عالية، كثير التجوال في أنحاء بلاد الهوسا لإيصال الدعوة حتى أنه مكث مرة في إحدى النواحي خمس سنوات بعيداً عن وطنه من أجل تعليم الناس وإرشادهم، وهذه تضحيات جليلة لا يقدر عليها إلا عظماء الرجال، وكان لا يكل ولا يمل من كثرة الدروس وطولها، مثابراً على إلقاء المحاضرات مثابرة تدل على استعداده الكبير للبذل والتضحية.
ومن صفاته العظيمة إخلاصه وحسن صلته بالله، فقد أخبر ابنه والخليفة من بعده "محمد بَلُّو" أن أباه كان إذا أراد الخروج للناس اعتزل في ناحية وتكلم بكلام لا يفهمه فسأله، فقال : يا بني، إني إذا أردت الخروج للدرس أو الوعظ سألت الله أن يسددني وأن يفهم الناس عني، وأجدد النية، وأعقد العزم على الإخلاص، وهذا منه يرحمه الله تعالى فهم جليل وعمل صائب.
جهاده
قد وفق الله هذا العالم لجهاد طويل مرير، وكان سبب ذلك أن سلطان جوبرا "باواجن غَوْزُو" دعاه في عيد الأضحى مع مجموعة من العلماء، وأهداهم هدايا كثيرة فرفضها الشيخ عثمان، وطلب من السلطان خمسة أمور :
1- الحرية في الدعوة إلى الإسلام والوعظ.
2- رفع الضرائب الثقيلة عن الشعب.
3- الإفراج عن المعتقلين السياسيين.
4- احترام العلماء.
5- ألا يمنع من رغب من رعاياه في الانضمام إلى الشيخ عثمان.
فاستجاب له السلطان، وجعله مفتياً لبلده.
وبعد ذلك خوّفه بعض علماء السوء من ازدياد عدد جماعة الشيخ عثمان فضيّق عليه وحاول قتله لكن الله تعالى نجّى الشيخ عثمان، ثم ما لبث "باواجن" أن مات وجاء من بعده ابنه "نافتا" الذي استمر على منهج أبيه في التضييق على الشيخ.
ثم جاء بعده ابنه "يونفا" الذي كان من تلامذة الشيخ لكنه انقلب عليه، وأمر في سلطنته بثلاثة أوامر:
1- ألا يعظ إلا الشيوخ.
2- ألا يتعمم الرجال ولا تختمر النساء.
3- أن كل من أسلم ولم يكن الإسلام دين آبائه وأجداده فيرتد إلى ما كان عليه. وكانت هذه الأخيرة قاصمة الظهر التي لا يُصبر عليها، فأعلن الشيخ عثمان لجماعته وجوب الخروج من مملكة "يونفا".
وفعلاً خرجوا إلى ولاية أخرى، وكان عددهم خمسة آلاف، وانضم إليهم مثلهم فصاروا عشرة آلاف وسأل الله تعالى أن يريه دولة الإسلام في البلاد السودانية.
وهنا شرع "يونفا" يضيق على الخارجين إلى الشيخ عثمان بأنواع من التضييق حتى انتهى الأمر إلى إعلان الشيخ عثمان وجوب جهاد "يونفا"، وإيقاف مظالمه، وبايعه جماعته على الجهاد واستعدوا بالسلاح؛ فهجم عليه "يونفا" بجيشه فهزمه الله هزيمة منكرة، واستولت الجماعة على بلاده.
ثم إن سلاطين الهوسا تسامعوا بقوة جماعة الشيخ عثمان فضايقوا من كان منهم في بلادهم، وأعلن بعضهم الحرب على الجماعة، فابتدأت سلسلة طويلة صعبة من المعارك انتهت باستيلاء الشيخ وجماعته على كل بلاد الهوسا وأجزاء من بلاد الكاميرون الآن، وأجزاء من تشاد، وأسسوا دولة ضخمة مساحتها تقريباً مليون و500 ألف ميل، وسكانها قرابة عشرين مليوناً، وبويع الشيخ عثمان خليفة على هذه الدولة التي سميت بمملكة "سوكوتو الإسلامية"، وكانت هذه سابقة في تاريخ الدعوات الإسلامية الحديثة.
وعين الشيخ عثمان ابنه العالم "محمداً بَلُّو" أميراً عاماً على شرق البلاد، وأخاه العالم عبد الله على غربها، وقسم بلاده إلى ثلاثين ولاية، وجعل عليها أمراء من أتباعه.
وفي ذلك الوقت برز خلاف بين عبد الله وأخيه الشيخ عثمان في جملة أمور منها مسألة لبس الأمراء الملابس التي فيها ذهب وحرير، مما غنموه من أعدائهم لكن ليس على وجه الاستدامة بل يلبسونها إظهاراً للفرح ثم ينزعونها، ومنها مسألة استعمال الطبول في أفراح الانتصار، ومنها مسألة تصوير الأمراء بصورة عظيمة إذا خرجوا إلى رعاياهم، وعدد آخر من المسائل، فأجابه الشيخ عثمان أن عمر رضي الله عنه ألبس سراقة سواري كسرى وتاجه وهي من ذهب ليرى الصحابة تحقق المعجزة النبوية، وهؤلاء الأمراء يلبسون تلك الملابس إظهاراً لنعمة الله ثم ينزعونها، وأما المسألة الثانية والثالثة، فقد بين له أن البيئة الهوساوية متعلقة بهذه المظاهر ولا تُساس الرعية إلا بها، والأمر فيه خلاف وفيه سعة، وهكذا بين له ما اشتبه عليه في كل المسائل، لكن عبد الله لم يقتنع وأراد الخروج إلى المدينة النبوية المنورة فمنعه أهل "كانو" وقالوا له : إن أخاك بحاجة لمؤازرتك ومساعدتك فبقي.
ثم إن الشيخ عثمان توفي ولم يعين أحداً بعده وكان ذلك في سنة 1232هـ/1817م عن أربع وستين سنة تقريباً، وولى أهل الحل والعقد ابنه محمداً بَلُّو في مكانه، و"بَلُّو" بلغة الفُلاّني هو المعين والمساعد، وقد رضي بذلك عمه عبد الله بعد تمنع وبايعه، واستقر الأمر لمحمد الذي حكم قرابة إحدى وعشرين سنة واشتهر باسم أمير المؤمنين.
ثم توفي سنة 1253م، ثم جاء بعده ابنه، ومن ثم حفيده، وبقيت الدولة مائة عام من سنة 1803م إلى 1903م حيث أسقطها الإنجليز سنة 1903م في عهد الطاهر أحد أحفاد الشيخ عثمان.
آثار دعوة الشيخ عثمان
1- القضاء على الوثنية في كل السودان تقريباً، والسودان الذي أعنيه هنا هو السودان التاريخي من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي وهذا إنجاز ضخم.
2- أعاد كثيراً من الناس إلى حظيرة الشرع والالتزام بالإسلام قولاً وعملاً واعتقاداً، وقضى على كثير من البدع.
3- أنشأ دولة قوية مترامية الأطراف يهابها أعداء الإسلام، واستمرت شامخة مائة عام، ووضع لها دستوراً محكماً قوياً.
4- أنتجت دعوة الشيخ عثمان نتاجاً ثقافياً ضخماً، فقد ترك مائة وأربعين مؤلفاً تقريباً في الجوانب العقدية والسياسية والاقتصادية والفقهية وغيرها، وتخرج على يديه مائة عالم مجتهد في المذهب المالكي، وهذا منه عمل عظيم على كثرة مشاغله وتشعب اهتماماته.
5- ضبط مسألة الغلو في التكفير، وألف خمسين مؤلفاً تقريباً في الرد على من ذهب إلى التكفير بالمعصية ومن ضمنهم شيخه الأثير "جبريل بن عمر" الذي أحبه كثيراً حتى قال فيه
إن قيل فيّ بحسن الظن ما قيلا ** فأنا موجة من أمواج جبريلا
6- حرر "دارفور" من الوثنية، ولذلك قصة عجيبة، وذلك أنه قبل أن يموت وصى أتباعه أنه إذا ظهر مهدي السودان فلينصره الفُلاّن الفلاتة وكان هذا كرامة له، فبعد موته بمدة طويلة ظهر المهدي في السودان، ونصره الفُلان بالهجرة إليه خاصة بعد ضعف دولتهم واستقروا في وادي النيل ودارفور، وتسمى هجرتهم تلك في السواد ب"الغرّابة"، نسبة لمجيئهم من الغرب، ويقول رئيس السودان الأسبق إسماعيل الأزهري للشيخ عمر محمد فلاتة المجاور في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمدرس بحرمها الشريف لولا أن "الفُلان" سكنوا "دارفور" لتحولت المنطقة إلى الوثنية كما حصل في جنوب السودان.
وقد كان المهدي السوداني يحب هؤلاء الفلاتة حباً جماً، وتزوج منهم، وكان خليفته عبد الله التعايشي منهم رحمهم الله تعالى.
وفي النهاية أقول، إن هذه الثمرات الجليلة كانت لداعية عظيم، نصر الله تعالى به الدين في تلك البلاد، وقضى على كثير من البدع، وحمى الناس من الوثنية، وجمع بين العلم والدعوة والجهاد ورئاسة الدولة على وجه مبدع جليل، وصدق الله تعالى :
{ والَّذٌٌينّ جّاهّدٍوا فٌينّا لّنّهًدٌيّنَّهٍمً سٍبٍلّنّا ّإنَّ اللَّهّ لّمّعّ الًمٍحًسٌنٌينّ } (العنكبوت : 69).
عن موقع التاريخ
الدكتور محمد بن موسى الشريف
الحديث عن هذه الشخصية حديث ذو شجون، فهو حديث عن داعية، وعن عالم، وعن مجاهد، وليس عن مجاهد فقط؛ بل مجاهد أقام دولة قوية، ومن ناحية أخرى يتطرق الحديث إلى دولة السودان الإسلامية التي تكونت في القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي، في زمن كانت فيه الدولة الإسلامية الأم الدولة العثمانية تجنح إلى الضعف والركود، وسائر الدول الأخرى كانت قد سلكت الطريق الذي سيؤدي بها إلى التفكك والزوال، إذ إن الزمن الذي نشأت فيه هذه الدولة وعوامل تكوينها قد غاير تماماً ما كان سائداً في العالم الإسلامي آنذاك من الضعف والتهاوي.
وعثمان بن فودي من أصول فُلاّنية فلاتية نزح جدّه الحادي عشر موسى جُقّل من غرب أفريقيا في هجرات متتابعة للفُلاّن يريدون "الحجاز"؛ ولأسباب غير معلومة توقف جدّه ومعه جماعته في بلاد الهوسا نيجيريا اليوم، وجدّه من بطن من الفُلاّن يسمون ب"التوروبي"، وبلغة الهوسا "تُورِنْكاوا"، وكان استقرار جدّه في تلك البلاد في القرن الحادي عشر الهجري/ السادس عشر الميلادي.
نشأته
ولد الشيخ عثمان كما كان يلقب سنة 1168 أو 1169هـ/ 1754م، في مملكة "جُوبَرا" إحدى ممالك بلاد الهوسا آنذاك وأقواها، ونشأ بين والديْن صالحين وأخذ عنهما طرفاً من العلوم، ودرس الفقه والعقيدة، والحديث، واللغة على مشايخ الهوسا، والبرنو، والفلاتة ليس بينهم عربي واحد، وهذا من نعمة الله على تلك البلاد في ذلك الزمان أن جعل العلم الشرعي منتشراً بين أهل البلاد أنفسهم، وبرع في العلوم ومهر، وتقدم ونبغ حتى صار مجتهداً في إطار المذهب المالكي السائد آنذاك في كل أفريقيا الشمالية والوسطى والغربية والشرقية، وهو ما يسمونه بالمجتهد النسبي وليس المطلق، وتسامع به الناس، وأقبلوا على دروسه اليومية، ووعظه الأسبوعي، حتى صار له أتباع سُموا بالجماعة، وصار يلقب بالشيخ، وصار عَلَماً عليه حتى أن أبا بكر غومي أقضى قضاة نيجيريا ذكر في سنة 1383هـ/1963م أن الناس في نيجيريا إذا ولد لهم ذكر، وسموه بعثمان يلقبونه بالشيخ تيمناً بالشيخ "عثمان بن فودي".
حال الإسلام في بلاد الهوسا آنذاك
بلاد السودان كانت تطلق على بلاد شاسعة تمتد من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي، فيما كان يعرف بالسودان الشرقي والأوسط والغربي، ودوله اليوم السودان، وتشاد، ونيجيريا، والنيجر، ومالي، والسنغال تقريباً، وجزء من الكاميرون، وقد دخل الإسلام إلى بعض تلك البلاد منذ القرن الأول، لكن الانتشار والتمكين كان في القرن الخامس يوم أن دخل المرابطون من "مراكش" إلى "السودان الغربي" وأنشؤوا مملكة "مالي"، وانتقل الإسلام عن طريق التجار المسلمين من شمال أفريقيا وكانوا من البربر الصنهاجيين وبجهود الطوارق أيضاً، فاستنارت المنطقة بنور الإسلام منذ ألف سنة تقريباً.
وفي زمن الشيخ عثمان كان الناس على ثلاثة أقسام قسم مسلمون، وقسم وثنيون، وقسم خلطوا بين الإسلام والوثنية، فكان لا بد له من معالجة هذا الأمر، فكانت طريقته في دعوته ووعظه على الوجه التالي :
1- تعليم العامة أصول الدين، وإبعادهم عن البدع الكثيرة المنتشرة آنذاك.
2- مجالس الوعظ الأسبوعية التي كان يعقدها.
3- تعليم العامة أمور دينهم من صلاة وزكاة وغيرها، ونهيهم عن المنكرات والمعاصي.
4- وكان الناس يتقاطرون عليه رجالاً ونساءً، وكانت النساء قبله ليس لهن حظ في وعظ ولا درس، فشجع الرجال على إحضار نسائهم حتى يستفدن ويفقهن، وكان حضور النساء مدخلاً لأعدائه؛ ليشنعوا عليه بدعوى أنه يخلط الرجال بالنساء.
وكانت صفاته الشخصية مؤهلة له لأمر عظيم، فقد كان صاحب همة عالية، كثير التجوال في أنحاء بلاد الهوسا لإيصال الدعوة حتى أنه مكث مرة في إحدى النواحي خمس سنوات بعيداً عن وطنه من أجل تعليم الناس وإرشادهم، وهذه تضحيات جليلة لا يقدر عليها إلا عظماء الرجال، وكان لا يكل ولا يمل من كثرة الدروس وطولها، مثابراً على إلقاء المحاضرات مثابرة تدل على استعداده الكبير للبذل والتضحية.
ومن صفاته العظيمة إخلاصه وحسن صلته بالله، فقد أخبر ابنه والخليفة من بعده "محمد بَلُّو" أن أباه كان إذا أراد الخروج للناس اعتزل في ناحية وتكلم بكلام لا يفهمه فسأله، فقال : يا بني، إني إذا أردت الخروج للدرس أو الوعظ سألت الله أن يسددني وأن يفهم الناس عني، وأجدد النية، وأعقد العزم على الإخلاص، وهذا منه يرحمه الله تعالى فهم جليل وعمل صائب.
جهاده
قد وفق الله هذا العالم لجهاد طويل مرير، وكان سبب ذلك أن سلطان جوبرا "باواجن غَوْزُو" دعاه في عيد الأضحى مع مجموعة من العلماء، وأهداهم هدايا كثيرة فرفضها الشيخ عثمان، وطلب من السلطان خمسة أمور :
1- الحرية في الدعوة إلى الإسلام والوعظ.
2- رفع الضرائب الثقيلة عن الشعب.
3- الإفراج عن المعتقلين السياسيين.
4- احترام العلماء.
5- ألا يمنع من رغب من رعاياه في الانضمام إلى الشيخ عثمان.
فاستجاب له السلطان، وجعله مفتياً لبلده.
وبعد ذلك خوّفه بعض علماء السوء من ازدياد عدد جماعة الشيخ عثمان فضيّق عليه وحاول قتله لكن الله تعالى نجّى الشيخ عثمان، ثم ما لبث "باواجن" أن مات وجاء من بعده ابنه "نافتا" الذي استمر على منهج أبيه في التضييق على الشيخ.
ثم جاء بعده ابنه "يونفا" الذي كان من تلامذة الشيخ لكنه انقلب عليه، وأمر في سلطنته بثلاثة أوامر:
1- ألا يعظ إلا الشيوخ.
2- ألا يتعمم الرجال ولا تختمر النساء.
3- أن كل من أسلم ولم يكن الإسلام دين آبائه وأجداده فيرتد إلى ما كان عليه. وكانت هذه الأخيرة قاصمة الظهر التي لا يُصبر عليها، فأعلن الشيخ عثمان لجماعته وجوب الخروج من مملكة "يونفا".
وفعلاً خرجوا إلى ولاية أخرى، وكان عددهم خمسة آلاف، وانضم إليهم مثلهم فصاروا عشرة آلاف وسأل الله تعالى أن يريه دولة الإسلام في البلاد السودانية.
وهنا شرع "يونفا" يضيق على الخارجين إلى الشيخ عثمان بأنواع من التضييق حتى انتهى الأمر إلى إعلان الشيخ عثمان وجوب جهاد "يونفا"، وإيقاف مظالمه، وبايعه جماعته على الجهاد واستعدوا بالسلاح؛ فهجم عليه "يونفا" بجيشه فهزمه الله هزيمة منكرة، واستولت الجماعة على بلاده.
ثم إن سلاطين الهوسا تسامعوا بقوة جماعة الشيخ عثمان فضايقوا من كان منهم في بلادهم، وأعلن بعضهم الحرب على الجماعة، فابتدأت سلسلة طويلة صعبة من المعارك انتهت باستيلاء الشيخ وجماعته على كل بلاد الهوسا وأجزاء من بلاد الكاميرون الآن، وأجزاء من تشاد، وأسسوا دولة ضخمة مساحتها تقريباً مليون و500 ألف ميل، وسكانها قرابة عشرين مليوناً، وبويع الشيخ عثمان خليفة على هذه الدولة التي سميت بمملكة "سوكوتو الإسلامية"، وكانت هذه سابقة في تاريخ الدعوات الإسلامية الحديثة.
وعين الشيخ عثمان ابنه العالم "محمداً بَلُّو" أميراً عاماً على شرق البلاد، وأخاه العالم عبد الله على غربها، وقسم بلاده إلى ثلاثين ولاية، وجعل عليها أمراء من أتباعه.
وفي ذلك الوقت برز خلاف بين عبد الله وأخيه الشيخ عثمان في جملة أمور منها مسألة لبس الأمراء الملابس التي فيها ذهب وحرير، مما غنموه من أعدائهم لكن ليس على وجه الاستدامة بل يلبسونها إظهاراً للفرح ثم ينزعونها، ومنها مسألة استعمال الطبول في أفراح الانتصار، ومنها مسألة تصوير الأمراء بصورة عظيمة إذا خرجوا إلى رعاياهم، وعدد آخر من المسائل، فأجابه الشيخ عثمان أن عمر رضي الله عنه ألبس سراقة سواري كسرى وتاجه وهي من ذهب ليرى الصحابة تحقق المعجزة النبوية، وهؤلاء الأمراء يلبسون تلك الملابس إظهاراً لنعمة الله ثم ينزعونها، وأما المسألة الثانية والثالثة، فقد بين له أن البيئة الهوساوية متعلقة بهذه المظاهر ولا تُساس الرعية إلا بها، والأمر فيه خلاف وفيه سعة، وهكذا بين له ما اشتبه عليه في كل المسائل، لكن عبد الله لم يقتنع وأراد الخروج إلى المدينة النبوية المنورة فمنعه أهل "كانو" وقالوا له : إن أخاك بحاجة لمؤازرتك ومساعدتك فبقي.
ثم إن الشيخ عثمان توفي ولم يعين أحداً بعده وكان ذلك في سنة 1232هـ/1817م عن أربع وستين سنة تقريباً، وولى أهل الحل والعقد ابنه محمداً بَلُّو في مكانه، و"بَلُّو" بلغة الفُلاّني هو المعين والمساعد، وقد رضي بذلك عمه عبد الله بعد تمنع وبايعه، واستقر الأمر لمحمد الذي حكم قرابة إحدى وعشرين سنة واشتهر باسم أمير المؤمنين.
ثم توفي سنة 1253م، ثم جاء بعده ابنه، ومن ثم حفيده، وبقيت الدولة مائة عام من سنة 1803م إلى 1903م حيث أسقطها الإنجليز سنة 1903م في عهد الطاهر أحد أحفاد الشيخ عثمان.
آثار دعوة الشيخ عثمان
1- القضاء على الوثنية في كل السودان تقريباً، والسودان الذي أعنيه هنا هو السودان التاريخي من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي وهذا إنجاز ضخم.
2- أعاد كثيراً من الناس إلى حظيرة الشرع والالتزام بالإسلام قولاً وعملاً واعتقاداً، وقضى على كثير من البدع.
3- أنشأ دولة قوية مترامية الأطراف يهابها أعداء الإسلام، واستمرت شامخة مائة عام، ووضع لها دستوراً محكماً قوياً.
4- أنتجت دعوة الشيخ عثمان نتاجاً ثقافياً ضخماً، فقد ترك مائة وأربعين مؤلفاً تقريباً في الجوانب العقدية والسياسية والاقتصادية والفقهية وغيرها، وتخرج على يديه مائة عالم مجتهد في المذهب المالكي، وهذا منه عمل عظيم على كثرة مشاغله وتشعب اهتماماته.
5- ضبط مسألة الغلو في التكفير، وألف خمسين مؤلفاً تقريباً في الرد على من ذهب إلى التكفير بالمعصية ومن ضمنهم شيخه الأثير "جبريل بن عمر" الذي أحبه كثيراً حتى قال فيه
إن قيل فيّ بحسن الظن ما قيلا ** فأنا موجة من أمواج جبريلا
6- حرر "دارفور" من الوثنية، ولذلك قصة عجيبة، وذلك أنه قبل أن يموت وصى أتباعه أنه إذا ظهر مهدي السودان فلينصره الفُلاّن الفلاتة وكان هذا كرامة له، فبعد موته بمدة طويلة ظهر المهدي في السودان، ونصره الفُلان بالهجرة إليه خاصة بعد ضعف دولتهم واستقروا في وادي النيل ودارفور، وتسمى هجرتهم تلك في السواد ب"الغرّابة"، نسبة لمجيئهم من الغرب، ويقول رئيس السودان الأسبق إسماعيل الأزهري للشيخ عمر محمد فلاتة المجاور في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمدرس بحرمها الشريف لولا أن "الفُلان" سكنوا "دارفور" لتحولت المنطقة إلى الوثنية كما حصل في جنوب السودان.
وقد كان المهدي السوداني يحب هؤلاء الفلاتة حباً جماً، وتزوج منهم، وكان خليفته عبد الله التعايشي منهم رحمهم الله تعالى.
وفي النهاية أقول، إن هذه الثمرات الجليلة كانت لداعية عظيم، نصر الله تعالى به الدين في تلك البلاد، وقضى على كثير من البدع، وحمى الناس من الوثنية، وجمع بين العلم والدعوة والجهاد ورئاسة الدولة على وجه مبدع جليل، وصدق الله تعالى :
{ والَّذٌٌينّ جّاهّدٍوا فٌينّا لّنّهًدٌيّنَّهٍمً سٍبٍلّنّا ّإنَّ اللَّهّ لّمّعّ الًمٍحًسٌنٌينّ } (العنكبوت : 69).
عن موقع التاريخ